الخصائص باب ذكر علل العربية
أكلامية هي أم فقهية؟ 1
اعلم أن علل2 النحويين -وأعني بذلك حذاقهم المتقنين لا ألفافهم3
المستضعفين- أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين. وذلك أنهم
إنما يحيلون على الحس ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس وليس
كذلك حديث علل الفقه. وذلك أنها إنما هي أعلام وأمارات لوقوع الأحكام
ووجوه الحكمة فيها خفية عنا غير بادية الصفحة4 لنا؛ ألا ترى أن ترتيب
مناسك الحج وفرائض الطهور والصلاة والطلاق وغير ذلك إنما يرجع في وجوبه
إلى ورود الأمر بعمله ولا تعرف علة جعل الصلوات في اليوم والليلة خمسًا
دون غيرها من العدد ولا يعلم أيضًا حال الحكمة والمصلحة في عدد الركعات
ولا في اختلاف ما فيها من التسبيح والتلاوات إلى غير ذلك مما يطول ذكره
ولا تحلى النفس بمعرفة السبب الذي كان له ومن أجله وليس كذلك علل
النحويين. وسأذكر طرفًا من ذلك لتصح الحال به.
__________
1 لما كان هم أبي الفتح في هذا الكتاب إبداء حكمة العرب وسداد مقاصدهم
فيما أتوا في لغتهم، كان ذلك بإبداء العلل لسننهم وخططهم في تأليف
لسانهم أخذ نفسه في تقوية العلل التي تنسب إلى أفعالهم وتحمل عليهم؛
وهو ما يقوم به النحويون. وكان من دواعي ذلك أن اشتهر بين الناس ضعف
علل النحاة؛ فهذا ابن فارس يقول:
مرت بنا هيفاء مجدولة ... تركت تنمي لتركي
ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجة نحوي
انظر وفيات ابن خلكان ص36 ج1 في ترجمة ابن فارس.
2 كذا في ش، ب. وفي أ "علل جلل النحو بين". وفي المطبوعة "علل جل النحو
بين".
3 الألفاف: القوم يجتمعون من قبائل شتى ليس أصلهم واحدًا، والواحد لف
أو لفيف، وشأن هؤلاء الأخلاط الضعف وعدم استحكام القوة.
4 كذا في الأصول ما عدا ج ففيها "الصفح". والصفح والصفحة: الجانب.
5 أي لا تظفر، يقال: حليت من فلان بخير: أصبته وأدركته، من ذلك قولهم:
ما حليت من هذا الأمر بطائل، وهو من باب علم.
(1/49)
قال أبو إسحاق1 في رفع الفاعل ونصب
المفعول: إنما فعل ذلك للفرق بينهما ثم سأل نفسه فقال: فإن قيل: فهلا
عكست الحال فكانت فرقًا أيضًا؟ قيل: الذي فعلوه أحزم وذلك أن الفعل لا
يكون له أكثر من فاعل واحد وقد يكون له مفعولات كثيرة فرفع الفاعل
لقلته ونصب المفعول لكثرته وذلك ليقل في كلامهم ما يسثقلون ويكثر في
كلامهم ما يستخفون 2. فجرى ذلك في وجوبه ووضوح أمره مجرى شكر المنعم
وذم المسيء في انطواء الأنفس عليه وزوال اختلافها فيه ومجرى وجوب طاعة
القديم سبحانه لما يعقبه3 من إنعامه وغفرانه. ومن ذلك قولهم: إن ياء
نحو ميزان وميعاد انقلبت عن واو ساكنة لثقل الواو الساكنة بعد الكسرة.
وهذا أمر لا لبس في معرفته ولا شك في قوة الكلفة في النطق به. وكذلك
قلب الياء في موسر وموقن واوًا لسكونها وانضمام ما قبلها. ولا توقف في
ثقل الياء الساكنة بعد الضمة لأن حالها في ذلك حال الواو الساكنة بعد
الكسرة وهذا -كما تراه- أمر يدعو الحس إليه ويحدو4 طلب الاستخفاف عليه.
وإذا كانت الحال المأخوذ بها المصير بالقياس إليها حسية طبيعية5،
فناهيك بها ولا معدل بك عنها. ومن ذلك قولهم في سيد وميت وطويت طيًّا
وشويت شيًّا: إن الواو قلبت ياء لوقوع الياء الساكنة قبلها في سيد وميت
ووقوع الواو الساكنة قبل الياء في شيا وطيا. فهذا
__________
1 هو الزجاج.
2 يبدو لي أن هذا آخر كلام الزجاج.
3 كذا في الأصول. والظاهر أن هذا حديث عن طاعة القديم، فكان الواجب أن
يقال: لما تعقبه إذا جعل من أعقب، أو لما يعقبها إذا جعل من عقب، وكأنه
ذهب بالطاعة مذهب الامتثال فذكر ضميرها.
4 كما في أ، ج. وفي المطبوعة وب: "يحلو" ولا معنى لها.
5 كذا في الأصول. والقياس طبيعة، وقد جاء الشذوذ في السليقية، ولم يعرف
في الطبيعية.
(1/50)
أمر هذه سبيله أيضًا ألا ترى إلى ثقل اللفظ
بسيود وميوت وطويا وشويا وأن سيدا وميتا وطيا وشيا أخف على ألسنتهم من
اجتماع الياء والواو مع سكون الأول منهما. فإن قلت: فقد جاء عنهم نحو
حيوة1 وضيون وعوى الكلب عوية فسنقول في هذا ونظائره في باب بلى هذا،
باسم الله. وأشباه هذا كثيرة جدًا.
فإن قلت: فقد نجد أيضًا في علل الفقه ما يضح2 أمره وتعرف علته نحو رجم
الزاني إذا كان محصنًا وحده إذا كان غير محصن وذلك لتحصين الفروج
وارتفاع الشك في الأولاد والنسل. وزيد في حد المحصن على غيره لتعاظم
جرمه وجريرته على نفسه. وكذلك إفادة القاتل بمن قتله لحقن الدماء وكذلك
إيجاب الله الحج على مستطيعه لما في ذلك من تكليف المشقة ليستحق عليها
المثوبة وليكون أيضًا دربة للناس على الطاعة وليشتهر3 به أيضًا حال
الإسلام ويدل به على ثباتها واستمرار العمل بها فيكون أرسخ له وأدعى
إلى ضم نشر4 الدين وفثء5 كيد المشركين. وكذلك نظائر هذا كثيرة جدًا.
فقد ترى إلى معرفة أسبابه كمعرفة أسباب ما اشتملت عليه علل الإعراب فلم
جعلت علل الفقه أخفض رتبة من علل النحو قيل له: ما كانت هذه حاله من
علل الفقه فأمر لم يستفد من طريق الفقه ولا يخص حديث الفرض والشرع،
__________
1 حيوة من الأعلام، والضبون: السنور الذكر.
2 هكذا في ش، أ. وفي ب، ج والمطبوعة: "يصح".
3 كذا في ش، م. وفي أ: "لتشهر".
4 النشر: في المنتشر، يقال: ضم الله نشرك.
5 كذا في أ. والفثء: الكسر، ويقال: فثأ الله عنك الشر؛ كفه. وفي ب:
"فت" ويقال: فث الماء المار بالبارد: كسره وسكنه، فهو قريب من الأتاء.
(1/51)
بل هو قائم في النفوس قبل ورود الشريعة به
ألا ترى أن الجاهلية الجهلاء كانت تحصن فروج مفارشها وإذا شك الرجل
منهم في بعض ولده لم يلحقه به خلقًا قادت إليه الأنفة والطبيعة ولم
يقتضه نص ولا شريعة. وكذلك قول الله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} قد كان هذا من أظهر شيء معهم
وأكثره في استعمالهم أعني حفظهم للجار ومدافعتهم عن الذمار1 فكأن
الشريعة إنما وردت فيما هذه حاله بما كان معلومًا معمولًا به حتى إنها
لو لم ترد بإيجابه لما أخل ذلك بحاله لاستمرار الكافة على فعاله. فما
هذه صورته من عللهم جار مجرى علل النحويين. ولكن ليت شعري من أين يعلم
وجه المصلحة في جعل الفجر ركعتين والظهر والعصر أربعًا أربعًا والمغرب
ثلاثًا والعشاء الآخرة أربعًا ومن أين يعلم علة ترتيب الأذان على ما هو
عليه وكيف تعرف علة تنزيل مناسك الحج على صورتها ومطرد العمل بها ونحو
هذا كثير جدًّا. ولست تجد شيئًا مما علل به القوم وجوه الإعراب إلا
والنفس تقبله والحس منطو على الاعتراف به ألا ترى أن عوارض ما يوجد في
هذه اللغة شيء سبق وقت الشرع وفزع إلى التحاكم فيه إلى بديهة الطبع
فجميع علل النحو إذًا مواطئة للطباع وعلل الفقه لا ينقاد جميعها هذا
الانقياد. فهذا فرق.
سؤال "قوي"2: فإن قلت: فقد نجد في اللغة أشياء كثيرة غير محصاة ولا
محصلة لا نعرف لها سببًا ولا نجد إلى الإحاطة بعللها مذهبًا. فمن ذلك
إهمال ما أهمل وليس في القياس ما يدعو إلى إهماله وهذا أوسع من أن يحوج
إلى ذكر طرف
__________
1 الذمار -بزنة كتاب- ما لزمك حفظه مما يتعلق بك.
2 زيادة في أ. وقد جاء هذا الوصف في المطبوعة، ش، ب بجانب "فرق" وسقط
فيما في هذا الموضع.
(1/52)
منه ومنه الاقتصار في بعض الأصول على بعض
المثل ولا نعلم قياسا يدعو إلى تركه نحو امتناعهم أن يأتوا في الرباعي
بمثال فَعلُل أو فُعلِل أو فَعَل أو فِعِل أو فُعُل ونحو ذلك. وكذلك
اقتصارهم في الخماسي على الأمثلة الأربعة دون غيرها مما تجوزه القسمة.
ومنه أن عدلوا فُعَلا عن فاعل في أحرف محفوظة. وهي ثعل وزحل وغدر وعمر
وزفر وجشم وقثم وما يقل تعداده. ولم يعدلوا في نحو مالك وحاتم وخالد
وغير ذلك فيقولوا: مُلك ولا حُتم ولا خُلد. ولسنا نعرف سببًا أوجب هذا
العدل في هذه الأسماء التي أريناكها دون غيرها فإن كنت تعرفه فهاته.
فإن قلت: إن العدل ضرب من التصرف وفيه إخراج للأصل عن بابه إلى الفرع
وما كانت هذه حاله أقنع منه البعض ولم يجب أن يشيع في الكل.
قيل: فهبنا سلمنا ذلك لك تسليم نظر فمن لك بالإجابة عن قولنا: فهلا جاء
هذا العدل في حاتم ومالك وخالد وصالح ونحوها؛ دون ثاعل, وزاحل, وغادر,
وعامر, وزافر, وجاشم, وقاثم؟ ألك ههنا نفق فتسلكه, أو مرتفق1 فتتوركه؟
وهل غير أن تخلد إلى حيرة الإجبال2, وتخمد نار الفكر حالًا! على حال!
ولهذا ألف نظير, بل ألوف كثيرة ندع الإطالة بأيسر اليسير منها.
وبعد فقد صح ووضح أن الشريعة إنما جاءت من عند الله تعالى؛ ومعلوم أنه
سبحانه لا يفعل شيئًا إلا ووجه المصلحة والحكمة قائم فيه, وإن خفيت عنا
__________
1 المرتفق: المنكأ، "فتتوركه" تعتمد عليه، والأصل في هذا أن يقال: تورك
عليه؛ وضع وركه عليه.
2 الإجبال: الانقطاع، يقال: أجيل الشاعر؛ صعب عليه القول، لا يتهيأ له
سبيله. وأصل هذا أنه يقال: أجبل الحافر؛ انتهى إلى صلابة وجبل فلا يصيب
ماء. وقد ضبط في المطبوعة: "الأجيال" بفتح الهمزة، ولا معنى لهذا هنا.
(1/53)
أغراضه ومعانيه, وليست كذلك حال هذه اللغة؛
ألا ترى إلى قوة تنازع أهل الشريعة1 فيها, وكثرة الخلاف في مباديها,
ولا تقطع فيها بيقين, ولا من الواضع لها ولا كيف وجه الحكمة في كثير
مما أريناه آنفًا من حالها وما هذه سبيله لا يبلغ شأو ما عرف الآمر به
-سبحانه وجل جلاله- وشهدت النفوس واطردت المقاييس على أنه أحكم
الحاكمين سبحانه. انقضى السؤال.
قيل: لعمري إن هذه أسئلة2 تلزم من نصب نفسه لما نصبنا أنفسنا من هذا
الموقف له. وههنا أيضًا من السؤالات أضعاف هذه الموردة، وأكثر من أضعاف
ذلك، ومن أضعاف أضعافه غير أنه لا ينبغي أن يعطى3 فيها باليد. بل يجب
أن ينعم الفكر فيها ويكاس4 في الإجابة عنها. فأول ذلك أنا لسنا ندعي أن
علل أهل العربية في سمت العلل الكلامية البتة بل ندعي أنها أقرب إليها
من العلل الفقهية وإذا5 حكمنا بديهة العقل وترافعنا إلى الطبيعة والحس
فقد وفينا الصنعة حقها وربأنا6 بها أفرع مشارفها. وقد قال سيبويه 7:
وليس شيء8 مما يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهًا. وهذا أصل يدعو
إلى البحث9 عن
__________
1 كذا في الأصول والمناسب للسياق: أهل العربية. وقد أبقيته لأنه قد
يريد أن مباحث أصول العربية تولاها أهل الشريعة، فقد تكلم الشافعي في
سعة العربية وأنه لا يحيط بها إلا نبي، وكذا غيره من الفقهاء.
2 تبعت في هذا الرسم ش؛ وفي أ، ب: "أسولة" وهو حمع سوال، لغة في سؤال
كما في اللسان.
3 يقال: أعطى بيده إذا انقاد؛ كما في الأساس. وفي اللسان: أعطى البعير
إذا انقاد ولم يستصعب.
4 أي يتحرى الكيس، وهو الخفة والتوقد والفطنة, وقد كاس الرجل، يكيس،
وهو كيس وكيس؛ بتشديد الياء وتخفيفها.
5 كذا في الأصول ما عدا ج ففيها: "إذ".
6 المشارف: الأعالي، وأفرع: أعلى، وربأ الجبل: علاه.
7 انظر الكتاب ص13 ج1، والعبارة فيه: "وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم
يحاولون به وجها".
8 كذا في أ، ج، وفي المطبوعة، ب، ش: "فيما".
9 هكذا في الأصول ما عدا ج ففيها "على". وفيه تضمين "يدعو" معنى يحث.
(1/54)
علل ما استكرهوا عليه نعم ويأخذ بيدك إلى
ما وراء ذلك فتستضيء به وتستمد التنبه1 على الأسباب المطلوبات منه.
ونحن نجيب عما مضى ونورد معه وفي أثنائه ما يستعان به ويفزع فيما يدخل
من الشبه إليه بمشيئة الله وتوفيقه.
أما إهمال ما أهمل مما تحتمله قسمة التركيب في بعض الأصول المتصورة أو
المستعملة2 فأكثره متروك للاسثتقال وبقيته ملحقة به ومقفاة على إثره.
فمن ذلك ما رفض استعماله لتقارب حروفه نحو سص3 وطس وظث وثظ وضش وشض
وهذا حديث واضح لنفور الحس عنه والمشقة4 على النفس لتكلفه. وكذلك نحو
قج وجق وكق وقك وكج وجك. وكذلك حروف الحلق: هي من الائتلاف أبعد لتقارب
مخارجها5 عن معظم الحروف أعني حروف الفم. فإن جمع بين اثنين منها قدم
الأقوى على الأضعف نحو أهل وأحد وأخ وعهد وعهر وكذلك متى تقارب الحرفان
لم يجمع بينهما إلا بتقديم الأقوى منهما نحو أرل6, ووتد, ووطد. يدل على
أن الراء أقوى من اللام أن القطع عليها أقوى من القطع على اللام. وكأن
ضعف اللام إنما أتاها لما تشربه من الغنة عند الوقوف عليها, ولذلك7 لا
تكاد تعتاص8 اللام, وقد ترى إلى كثرة اللثغة في الراء في الكلام, وكذلك
الطاء, والتاء: هما أقوى من الدال؛ وذاك لأن
__________
1 كذا في معظم الأصول. وفي ش، "التنبيه".
2 في ش: "والمستعملة".
3 كذا وردت هذه الكلمات في نسخة ب ساكنة الحرف للثاني. وفي ش بالفتح.
4 في ج: "ومشقة النفس في تكلفه".
5 كأنه ضمن "تقارب" معنى الامتياز والتياعد فعدا بعن.
6 أر -بضمنين- جبل بأرض غطفان. وفي ج: "ورل" وهو حيوان كالضب.
7 كذا في ج. وفي بقية الأصول: "كذلك"، وما أثبته أجود.
8 كذا في أ، ب. وهو الصواب. وفي بقية الأصول: "تعتاض": وهو تحريف.
(1/55)
جرس الصوت بالتاء والطاء عند الوقوف عليهما
أقوى منه وأظهر عند الوقوف على الدال. وأنا أرى1 أنهم إنما2 يقدمون
الأقوى من المتقاربين من قبل أن جمع المتقاربين يثقل على النفس فلما
اعتزموا النطق بهما قدموا أقواهما لأمرين: أحدهما أن رتبة الأقوى أبدا
أسبق وأعلى والآخر أنهم إنما يقدمون الأثقل ويؤخرون الأخف من قبل أن
المتكلم في أول نطقه أقوى نفسًا3 وأظهر نشاطًا فقدم أثقل الحرفين وهو
على أجمل الحالين كما رفعوا المبتدأ لتقدمه فأعربوه بأثقل الحركات وهي
الضمة وكما رفعوا الفاعل لتقدمه ونصبوا المفعول لتأخره فإن هذا أحد ما
يحتج به في المبتدأ والفاعل. فهذا واضح كما تراه.
وأما ما رفض أن يستعمل وليس فيه إلا ما استعمل من أصله فعنه السؤال وبه
الاشتغال. وإن أنصفت نفسك فيما يرد عليك فيه حليت به وأنقت4 له وإن
تحاميت الإنصاف وسلكت سبيل الانحراف فذاك إليك ولكن جنايته عليك.
" جواب5 قوي ": اعلم أن الجواب عن هذا الباب تابع لما قبله, وكالمحمول
على حكمه. وذلك أن الأصول ثلاثة: ثلاثي, ورباعي, وخماسي. فأكثرها
استعمالا, وأعدلها تركيبًا الثلاثي. وذلك لأنه حرف يبتدأ به وحرف يحشى
به وحرف يوقف عليه. وليس اعتدال الثلاثي لقلة حروفه حسب لو كان كذلك
لكان الثنائي أكثر منه؛ لأنه أقل حروفًا, وليس الأمر كذلك؛ ألا ترى أن
جميع ما جاء من ذوات الحرفين جزء لا قدر له فيما جاء من ذوات الثلاثة؛
نحو من, وفي, وعن, وهل, وقد, وبل, وكم, ومن, وإذ, وصه, ومه. ولو شئت
__________
1 هذا الضبط بالبناء للمفعول عن أ، ومعناه: أظن.
2 سقط هذا اللفظ في ش.
3 ضبط في ج: "نفسا"، بفتح الفاء، وما أثبته أجود.
4 أنق الشيء، وبه: أعجب به وسر.
5 سقط هذان اللفظان "جاب صوي" في ش وب، وأثبت في أ.
(1/56)
لأثبت جميع ذلك في هذه الورقة. والثلاثي
عاريًا من الزيادة, وملتبسًا بها, مما يبعد تداركه وتتعب الإحاطة به.
فإذا ثبت ذلك عرفت منه, وبه أن ذوات الثلاثة لم تتمكن في الاستعمال
لقلة عددها حسب ألا ترى إلى قلة الثنائي, وأقل منه ما جاء على حرف واحد
كحرف العطف وفائه وهمزة الاستفهام, ولام الابتداء والجر, والأمر, وكاف
رأيتك, وهاء رأيته. وجميع ذلك دون باب كم وعن وصه. فتمكن الثلاثي إنما
هو لقلة حروفه, لعمري, ولشيء آخر وهو حجز الحشو الذي هو عينه, بين
فائه, ولامه, وذلك لتباينهما, ولتعادي1 حاليهما, ألا ترى أن المبتدأ2
لا يكون إلا متحركًا, وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكنًا, فلما
تنافرت حالاهما وسطوا العين حاجزًا بينهما لئلا يفجئوا الحس بضد ما كان
آخذًا فيه ومنصبًا3 إليه.
فإن قلت: فإن ذلك الحرف الفاصل لما ذكرت بين الأول والآخر -وهو العين-
لا يخلو أن يكون ساكنًا أو متحركًا. فإن كان ساكنًا فقد فصلت4 عن حركة
الفاء إلى سكونه وهذا هو الذي قدمت ذكر الكراهة له وإن كان متحركًا فقد
فصلت عن حركته إلى سكون اللام الموقوف عليها وتلك حال ما قبله في
انتفاض حال الأول بما يليه من بعده.
فالجواب أن عين الثلاثي إذا كانت متحركة, والفاء قبلها كذلك فتوالت
الحركتان, حدث هناك لتواليهما ضرب من الملال لهما, فاستروح حينئذ إلى
السكون, فصار ما في الثنائي من سرعة الانتفاض "معيفًا مأبيًّا"5 في
الثلاثي خفيفًا مرضيًا, وأيضًا
__________
1 يقال: تعادى ما بين الرجلين: اختلف.
2 يريد الحرف الأول المبدوء به.
3 في ش: "منتصبا". وفي ج: "منصبا نحوه".
4 أي خرجت، يقال: فصل عن البلد، ومن البلد: خرج منه.
5 حالان من قوله: "ما في الثنائي" فأما خبر صار فهو قوله: "خفيفا
مرضيا" ولو كانت العبارة: فصار ما كان في الثنائي ... إلخ لكانت أدنى
إلى الإفهام وأنأى عن اللبس.
(1/57)
فإن المتحرك حشوا ليس كالمتحرك أولًا أولا
ترى إلى صحة جواز تخفيف الهمزة حشوًا وامتناع جواز تخفيفها أولًا وإذا
اختلفت أحوال الحروف حسن التأليف وأما إن كانت عين الثلاثي ساكنة
فحديثها غير هذا. وذلك أن العين إذا كانت ساكنة فليس سكونها كسكون
اللام. وسأوضح لك حقيقة ذلك لتعجب من لطف غموضه. وذلك أن الحرف الساكن
ليست حاله إذا أدرجته1 إلى ما بعده كحاله لو وقفت عليه. وذلك لأن من
الحروف حروفًا2 إذا وقفت عليها لحقها صويت ما من بعدها فإذا أدرجتها
إلى ما بعدها ضعف ذلك الصويت وتضاءل للحس نحو قولك: اِح3 اِص اِث اِف
اِخ4 اِك. فإذا قلت: يحرد ويصبر ويسلم5 ويثرد ويفتح ويخرج خفى ذلك
الصويت وقل وخف ما كان له من الجرس عند الوقوف عليه. وقد تقدم6 سيبويه
في هذا المعنى بما هو معلوم واضح. وسبب ذلك عندي أنك إذا وقفت عليه ولم
تتطاول إلى النطق بحرف آخر من بعده تلبثت عليه ولم تسرع الانتقال عنه
فقدرت بتلك اللبثة7 على إتباع ذلك الصوت إياه. فأما إذا تأهبت للنطق
بما بعده وتهيأت له ونشمت8 فيه فقد
__________
1 أي وصلته، وإدراج الحرف وصله؛ من الإدراج وهو الطي واللف، فكأنك إذا
وصلت الحرف فقد طويته ولم تنشره وتبرزه. والدرج في ذلك كالإدراج.
2 يريد حروف الهمس، ويقول ابن جني في "أغلاط العرب" من هذا الكتاب في
الحديث عن الحاء: "فضلا عن أن يعلم أنها من الحروف المهموسة، وأن الصوت
يلحقها في حال سكونها والوقف عليها ما لا يلحقها في حال حركتها أو
إدراجها في حال سكونها في نحو بحر وحر".
3 كذا جعلتها مهملة وفي بعض الأصول: "اج" بالمعجمة. وفي بعضها الحرف
غير واضح وهو لا يوافق التمثيل الآتي، والجيم حرف مجهور شديد لا يلحقه
صويت.
4 كذا في ب، ش، وفي أ: "اح".
5 يلاحظ في التمثيل أنه أتى بيسلم ولم يذكر "اس"، ولم يمثل لما فيه
الكاف.
6 أي سبق. وفي المطبوعة: "قول سيبويه".
7 هي التوقف.
8 نشم في الشيء: ابتدأ فمه.
(1/58)
حال ذلك بينك وبين الوقفة التي يتمكن فيها
من إشباع ذلك الصويت فيستهلك إدراجك إياه طرفًا من الصوت الذي كان
الوقف يقره عليه ويسوغك إمدادك إياه به.
ونحو من هذا ما يحكى أن رجلًا من العرب بايع1 أن يشرب علبة لبن ولا
يتنحنح فلما شرب بعضه كده الأمر فقال: كبش أملح. فقيل له: ما هذا
تنحنحت. فقال: من تنحنح فلا أفلح. فنطق بالحاءات كلها سواكن غير متحركة
ليكون ما يتبعها من ذلك الصويت عونًا له على ما كده وتكاءده 2. فإذا
ثبت بذلك أن الحرف الساكن حاله في إدراجه مخالفة لحاله في الوقوف عليه
ضارع ذلك الساكن المحشو به المتحرك لما ذكرناه من إدراجه لأن أصل
الإدراج للمتحرك إذ كانت الحركة سببًا له وعونًا عليه ألا ترى أن حركته
تنتقصه ما يتبعه من ذلك الصويت نحو قولك صبر وسلم. فحركة الحرف تسلبه
الصوت الذي يسعفه الوقف به كما أن تأهبك للنطق بما بعده يستهلك بعضه.
فأقوى أحوال ذلك الصويت عندك3 أن تقف عليه فتقول: اص. فإن أنت أدرجته
انتقصته بعضه فقلت: اصبر فإن أنت حركته اخترمت الصوت البتة وذلك قولك
صبر. فحركة ذلك الحرف تسلبه ذلك الصوت البتة والوقوف عليه يمكنه فيه
وإدراج الساكن يبقي عليه بعضه. فعلمت بذلك مفارقة حال الساكن المحشو به
لحال أول الحرف وآخره فصار الساكن المتوسط لما ذكرنا كأنه لا ساكن ولا
متحرك وتلك حال تخالف حالي ما قبله وما بعده،
__________
1 أي عاهد وعاقد، والقصة في أذكياء ابن الجوزي في باب المنقول عن العرب
وعلماء العربية، وفي سر الصناعة في حرف العين.
2 يقال: تكاءده الأمر: شق عليه.
3 في ش: "عند أن تقف".
(1/59)
وهو الغرض الذي أريد منه وجيء به من أجله
لأنه1 لا يبلغ حركة ما قبله فيجفو تتابع المتحركين ولا سكون ما بعده
فيفجأ2 بسكونه المتحرك الذي قبله فينقض عليه جهته وسمته. فتلك إذًا
ثلاث أحوال متعادية لثلاثة أحرف متتالية؛ فكما يحسن تألف الحروف
المتفاوتة كذلك يحسن تتابع الأحوال المتغايرة على اعتدال وقرب لا على
إيغال في البعد. لذلك3 كان مثال فعل أعدل الأبنية حتى كثر وشاع وانتشر.
وذلك أن فتحة الفاء وسكون العين وإسكان اللام4 أحوال مع اختلافها
متقاربة ألا ترى إلى مضارعة الفتحة للسكون في أشياء. منها أن كل واحد
منهما يهرب إليه مما هو أثقل منه نحو قولك في جمع فُعلة وفِعلة:
فُعُلات بضم العين نحو غرفات وفعلات بكسرها نحو كسرات ثم يسثقل توالي
الضمتين والكسرتين فيهرب عنهما تارة إلى الفتح فتقول: غرَفات وكسَرات,
وأخرى إلى السكون5 فتقول: غُرفات وكِسرات. أفلا تراهم كيف سووا بين
الفتحة والسكون في العدول6 عن الضمة والكسرة إليهما. ومنها أنهم يقولون
في تكسير ما كان من فعل ساكن العين وهي واو على فعال بقلب الواو ياء
نحو: حوض, وحياض, وثوب, وثياب. فإذا كانت واو واحده متحركة صحت في هذا
المثال
__________
1 في الأصول: "إلا أنه"، وهو لا يتفق مع السياق.
2 كذا في الأصول الخطية، وفي المطبوعة: "فيجقأ"، وهو تحريف.
3 كذا في ج. وفي بقية الأصول: "كذلك".
4 يريد إسكان اللام في حال الوقف. والعبارة في ج: "لأن فتحة الفاء
وسكون العين في الدرج واللام في الوقف أحوال مع اختلافها متقاربة".
5 المعروف أن السكون في غرفات وكسرات هو الأصل، والضم والكسر جاءا من
إتباع العين حركة الفاء، فليس السكون معدولا إليه حتى يكون كالفتح في
هذا الباب، ولكن أبا الفتح قد يكون له وجه مقبول في هذه النظرة؛ فإن
الضم والكسر هما الكثير في هذا الباب حتى عاد كأنهما الأصل. وانظر في
هذا المبحث الكتاب ج2 ص181.
6 في ش: العدل.
(1/60)
من التكسير نحو: طويل وطوال. فإذا كانت
العين من الواحد مفتوحة اعتلت1 في هذا المثال كاعتلال الساكن نحو: جواد
وجياد. فجرت واو جواد مجرى واو ثوب. فقد ترى إلى مضارعة الساكن
للمفتوح. وإذا كان الساكن من حيث أرينا كالمفتوح كان بالمسكن أشبه2.
فلذلك كان مثال فعل أخف وأكثر من غيره لأنه إذا كان مع تقارب أحواله
مختلفها كان أمثل من التقارب بغير خلاف أو الاتفاق البتة والاشتباه.
ومما يدلك على أن الساكن إذا أدرج ليست له حال الموقوف عليه أنك قد
تجمع في الوقف بين الساكنين نحو: بكر وعمرو فلو كانت حال سكون كاف بكر
كحال سكون رائه لما جاز أن تجمع بينهما من حيث كان الوقف للسكون على
الكاف كحاله لو لم يكن بعده شيء. فكان يلزمك حينئذ أن تبتدئ بالراء
ساكنة والابتداء بالساكن ليس في هذه اللغة العربية. لا بل دل ذلك على
أن كاف بكر لم تتمكن في السكون تمكن ما يوقف عليه ولا يتطاول3 إلى ما
وراءه. ويزيد في بيان ذلك أنك تقول في الوقف النفس فتجد السين أتم
صوتًا من الفاء فإن قلبت فقلت: النسف وجدت الفاء أتم صوتًا وليس هنا
أمر يصرف هذا إليه ولا يجوز4 حمله عليه إلا زيادة الصوت عند الوقوف على
الحرف البتة. وهذا برهان ملحق بالهندسي في الوضوح والبيان.
__________
1 لا يريد أبو الفتح أن هذا الاعتلال مذهبه القياس والاطراد، إذ كان لا
يجري إلا على شذوذ؛ فجياد من الشاذ الذي يوقف عنده، وإنما هم ابن جني
تعليل هذا الشاذ وذكر ما أتاه في العربية. ويرى بعض النحويين أن جيادا
جمع جيد ليخرج من الشذوذ.
2 أي إن الساكن المدرج تجاذبه الشبه بالمفتوح وبالمسكن الموقوف عليه،
ولكنه أقرب بالضرورة إلى الأخير من الأول.
3 هذا عطف على قوله: "يوقف عليه" فإن الموقوف عليه ينحبس ولا يتطلع إلى
ما بعده.
4 "لا" هنا زائدة: ما تزاد في قولك: ما جاء زيد ولا عمرو.
(1/61)
فقد وضح إذًا بما أوردناه وجه خفة الثلاثي
من الكلام وإذا كان كذلك فذوات الأربعة مستثقلة غير متمكنة تمكن
الثلاثي لأنه إذا كان الثلاثي أخف وأمكن من الثنائي -على قلة حروفه-
فلا محالة أنه أخف وأمكن من الرباعي لكثرة حروفه. ثم لا شك فيما بعد في
ثقل الخماسي وقوة الكلفة به. فإذا كان كذلك ثقل عليهم مع تناهيه وطوله
أن يستعملوا في الأصل الواحد جميع ما ينقسم إليه به1 جهات تركيبه. ذلك
أن الثلاثي يتركب منه ستة أصول؛ نحو: جعل2 جلع عجل علج لجع لعج.
والرباعي يتركب منه أربعة وعشرون أصلًا وذلك أنك تضرب الأربعة في
التراكيب التي خرجت3 عن الثلاثي وهي ستة فيكون ذلك أربعة وعشرين
تركيبًا المستعمل منها قليل وهي 4: عقرب, وبرقع, وعرقب, وعبقر, وإن جاء
منه غير هذه الأحرف فعسى أن يكون ذلك, والباقي كله مهمل. وإذا كان
الرباعي مع قربه من الثلاثي إنما استعمل منه الأقل النزر فما ظنك
بالخماسي على طوله وتقاصر الفعل الذي هو مئنة5 من التصريف والتنقل عنه.
فلذلك قل الخماسي أصلًا. نعم ثم لا تجد أصلًا مما ركب منه قد تصرف فيه
بتغيير نظمه ونضده كما تصرف6 في باب عقرب "وبِرقِع"7، وبُرقُع ألا ترى
أنك لا تجد شيئًا من نحو سفرجل قالوا فيه سرفجل ولا نحو ذلك مع أن
تقليبه يبلغ به مائة وعشرين أصلًا, ثم لم يستعمل من جميع ذلك
__________
1 في ش: "عليه".
2 ضبطت هذه الكلمات بالتحريك على ما تضبط المواد اللغوية. وضبطت في
الأصول بفتح الفاء وسكون العين على حد المصادر.
3 أي نشأت منه وتحققت فيه.
4 ذكر هذا على أنه مثال، كما لا يخفى.
5 أي مكان للتصريف وخليق به. وفي حديث ابن مسعود:"إن طول الصلاة وقصر
الخطبة مئنة من فقه الرجل": وكل شيء دل على شيء فهو مئنة له.
6 العبارة في المزهر ج1 ص145 بعد "باب عقرب": "بعبقر وعرقب وبرقع".
ويرقع -بكسر الأول والثالث: السماء السابعة.
7 زيادة من أ.
(1/62)
إلا سفرجل وحده. فأما قول بعضهم زبردج1
فقلب لحق الكلمة ضرورة في بعض الشعر ولا يقاس. فدل ذلك على استكراههم
ذوات الخمسة لإفراط طولها, فأوجبت الحال الإقلال منها وقبض اللسان عن
النطق بها إلا فيما قل ونزر؛ ولما كانت ذوات الأربعة تليها وتتجاوز
أعدل الأصول - وهو الثلاثي - إليها, مسها بقرباها منها قلة التصرف فيها
غير أنها في ذلك أحسن حالًا من ذوات الخمسة لأنها أدنى إلى الثلاثة
منها. فكان التصرف فيها دون تصرف الثلاثي, وفوق تصرف الخماسي. ثم إنهم
لما أمسوا الرباعي طرفًا صالحًا من إهمال أصوله, وإعدام حال التمكن في
تصرفه تخطوا بذلك إلى إهمال بعض الثلاثي, لا من أجل إجفاء2 تركبه
بتقاربه نحو سص وصس ولكن من قبل أنهم حذوه على الرباعي كما حذوا
الرباعي على الخماسي ألا ترى أن لجع لم يترك استعماله لثقله من حيث
كانت اللام أخت الراء والنون وقد قالوا نجع فيه ورجع عنه, واللام أخت
الحرفين وقد أهملت في باب اللجع فدل على أن ذلك ليس للاستثقال, وثبت
أنه لما ذكرناه من إخلالهم ببعض أصول الثلاثي لئلا يخلو هذا الأصل من
ضرب من الإجماد3 له مع شياعه واطراده في الأصلين اللذين فوقه, كما أنهم
لم يخلو ذوات الخمسة من بعض التصرف فيها وذلك ما استعملوه من تحقيرها,
وتكسيرها, وترخيمها نحو قولك في تحقير سفرجل: سفيرج, وفي تكسيره:
__________
1 أي في زبرجد، وفي شعر محدث لأحد أدباء شنقيط:
عليها سموط من محال ملوب ... من التبر أو من لؤلؤ وزبردح
وانظر الوسيط في تاريخ أدباء شنقيط 97.
2 كذا في أ. وفي ش وب، والمطبوعة: "خفاء" وما هنا أجود.
3 أي جعله جامدا غير منصرف. وفي القاموس: "وجمد حق رجب وأجمدته" فأخذه
ابن جني واستعمله هذا الاستعمال.
(1/63)
سفارج وفي ترخيمه -علما1- يا سفرج أقبل،
وكما2 أنهم لما أعربوا المضارع لشبهه باسم الفاعل تخطوا ذاك أيضًا إلى
أن شبهوا الماضي بالمضارع فبنوه على الحركة لتكون له مزية على ما لا
نسبة بينه وبين المضارع أعني مثال أمر المواجه 3. فاسم الفاعل في هذه
القضية كالخماسي والمضارع كالرباعي والماضي كالثلاثي. وكذلك أيضًا
الحرف في استحقاقه البناء كالخماسي في استكرارهم إياه, والمضمر في
إلحاقهم إياه ببنائه كالرباعي في إقلالهم تصرفه والمنادي المفرد
المعرفة في إلحاقه في البناء بالمضمر كالثلاثي في منع بعضه التصرف
وإهماله البتة, ولهذا التنزيل نظائر كثيرة. فأما4 قوله:
مال إلى أرطاة حقف فالطجع
فإنه ليس بأصل إنما أبدلت الضاد من اضطجع لامًا فاعرفه.
فقد عرفت إذًا أن ما أهمل من الثلاثي لغير قبح التأليف5 نحو ضث6, وثض,
وثذ وذث إنما هو لأن محله من الرباعي محل الرباعي من الخماسي فأتاه ذلك
القدر من الجمود من حيث ذكرنا كما أتى الخماسي ما فيه من التصرف في
التكسير, والتحقير, والترخيم من حيث كان محله من الرباعي محل الرباعي
من الثلاثي. وهذا عادة للعرب مألوفة وسنة مسلوكة: إذا أعطوا شيئًا من
شيء حكمًا ما قابلوا ذلك بأن يعطوا المأخوذ منه حكمًا من أحكام صاحبه
عمارة لبينهما وتتميمًا للشبه الجامع لهما. وعليه باب ما لا ينصرف ألا
تراهم لما شبهوا الاسم بالفعل فلم يصرفوه؛ كذلك شبهوا الفعل بالاسم
فأعربوه.
__________
1 هذه الكلمة ساقطة في أ.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "فكما".
3 ضبطت هذه الكلمة في نسخة أبكسر الجيم؛ وهو تحريف. لأن المراد: أمر
المخاطب الذي يواجه الخطاب.
4 هذا متصل بإهمال "لجمع" المفهوم مما سبق، فقد يتوهم أن "الطجع" في
البيت هي "لجع" مع الطاء المبدلة من تاء الافتعال، فدفع هذا بما ذكر،
وسيرد هذا الرجز بعده.
5 في ش، د، هـ: "التألف".
6 هكذا وردت هذه الكلمات في نسخة ش بالتشديد وفي نسخة أبالإسكان.
(1/64)
وإذ قد ثبت ما أردناه: من أن الثلاثي في
الإهمال محمول على حكم الرباعي فيه لقربه من الخماسي بقي علينا أن نورد
العلة التي لها استعمل بعض الأصول من الثلاثي والرباعي والخماسي دون
بعض وقد كانت الحال في الجميع متساوية. والجواب عنه ما أذكره.
اعلم أن واضع اللغة لما أراد صوغها وترتيب أحوالها هجم بفكره على
جميعها ورأى بعين تصوره وجوه جملها1 وتفاصيلها وعلم أنه لا بد من رفض
ما شنع تألفه منها نحو هع وقج وكق فنفاه عن نفسه ولم يمرره بشيء من
لفظه وعلم أيضًا أن ما طال وأمل بكثرة حروفه لا يمكن فيه من التصرف ما
أمكن في أعدل الأصول وأخفها وهو الثلاثي. وذلك أن التصرف في الأصل وإن
دعا إليه قياس -وهو الاتساع به في الأسماء والأفعال والحروف- فإن هناك
من وجه آخر ناهيًا عنه وموحشًا منه وهو أن في نقل الأصل إلى أصل آخر
نحو صبر، وبصر، وصرب2، وربص2، صورة الإعلال نحو قولهم " ما أطيبه
وأيطبه" "واضمحل وامضحل" "وقسي وأينق " وقوله:
مروان مروان أخو اليوم اليمى3
وهذا كله إعلال لهذه الكلم وما جرى مجراها. فلما كان انتقالهم من أصل
إلى أصل, نحو صبر، وبصر، مشابهًا للإعلال, من حيث ذكرنا, كان من هذا
الوجه كالعاذر لهم في الامتناع من استيفاء جميع ما تحتمله قسمة التركيب
في الأصول. فلما كان الأمر كذلك واقتضت الصورة رفض البعض، واستعمال
__________
1 ضبط في أ: جملها -بفتح فسكون- وهو مصدر جمل الشيء: جمعه.
2 كذا في أ؛ وفي سائر الأصول "ضرب وربط"، والعبارة في المزهر 1/ 146
كما في أ.
3 "فاليمي" قلب اليوم، وسيشرح أبو الفتح هذا الرجز ما فيه في أواخر هذا
الجزء في "باب في الأصلين يتقاربان في التركيب بالتقديم والتأخير".
وانظر الكتاب: ج1 ص379.
(1/65)
البعض, وكانت الأصول ومواد الكلم1 معرضة
لهم وعارضة أنفسها على تخيرهم, جرت لذلك "عندهم"2 مجرى مال ملقى بين
يدي صاحبه, وقد أجمع إنفاق3 بعضه دون بعضه, فميز رديئه وزائفه فنفاه
البتة كما نفوا عنهم تركيب ما قبح تأليفه, ثم ضرب بيده إلى ما أطف4 له
من عرض جيدة فتناوله للحاجة إليه, وترك البعض لأنه لم يرد استيعاب جميع
ما بين يديه منه لما قدمنا ذكره وهو يرى أنه لو أخذ ما ترك مكان أخذ5
ما أخذ لأغنى عن صاحبه ولأدى في الحاجة إليه تأديته ألا ترى أنهم لو
استعملوا لجع6 مكان نجع لقام مقامه, وأغنى مغناه. ثم لا أدفع أيضًا أن
تكون في بعض ذلك أغراض لهم عدلوا إليه لها, ومن أجلها فإن كثيرًا من
هذه اللغة وجدته مضاهيًا بأجراس حروفه أصوات الأفعال التي عبر بها
عنها7؛ ألا تراهم قالوا قضم في اليابس وخضم في الرطب؛ ذلك لقوة القاف
وضعف الخاء فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى, والصوت الأضعف للقعل
الأضعف. وكذلك قالوا: صر الجندب, فكرروا الراء لما هناك من استطالة
صوته, وقالوا: صرصر البازي فقطعوه لما هناك من تقطيع صوته وسموا الغراب
غاق حكاية لصوته والبط بطًا حكاية لأصواتها،
__________
1 أي ظاهرة لهم ميسرة، يقال: أعرض لك الظبي: أمكنك من عرضه وجانبه
تصيده، وفي المطبوعة وأ ضبط معرضة بتشديد الراء على صيغة المفعول، وما
أئيته أجود.
2 زيادة في ش، د، هـ.
3 كذا في ش، ب. وفي المطبوعة، أ: "اتفاق" وهو لا يناسب السياق.
4 أطف: دنا وقرب.
5 العبارة في المزهر 1/ 146: "مكان ما أخذ".
6 كذا في ش، د، هـ. وفي أ، ب: "اللجع" بسكون الجيم، وفي ج: "اللجع"
بفتح الجيم.
7 كذا في ج: والضمير في "بها" لأجراس الحروف أو للكثير من اللغة
باعتبار وقوعه على كلمات والضمير في عنها للأفعال، وفي أ، ب، ش: "بها
عنه"، والعبارة مقلوب؛ والوجه: "به عنها"، والضمير المذكر للكثير من
اللغة، وضمير المؤنث للأفعال.
(1/66)
وقالوا: "قط الشيء " إذا قطعه عرضًا "وقده
" إذا قطعه طولًا؛ وذلك لأن منقطع الطاء أقصر مدة من منقطع الدال.
وكذلك قالوا: "مد الحبل " "ومت إليه بقرابة " فجعلوا الدال -لأنها
مهجورة- لما فيه علاج وجعلوا التاء -لأنها مهموسة- لما لا علاج فيه
وقالوا: الخذأ -بالهمزة- في ضعف النفس والخذا -غير مهموز- في استرخاء
الأذن "يقال"1: أذن خذواء وآذان خذو ومعلوم أن الواو لا تبلغ قوة
الهمزة. فجعلوا الواو -لضعفها- للعيب في الأذن والهمزة -لقوتها- للعيب
في النفس من حيث كان عيب النفس أفحش من عيب الأذن. وسنستقصي هذا الموضع
-فإنه عظيم شريف- في باب نفرده به.
نعم وقد يمكن أن تكون أسباب التسمية تخفى علينا لبعدها في الزمان عنا؛
ألا ترى إلى قول سيبويه: "أو لعل2 الأول وصل إليه علم لم يصل إلى
الآخر"؛ يعني أن يكون الأول الحاضر شاهد الحال فعرف السبب الذي له ومن
أجله3 ما وقعت عليه التسمية والآخر -لبعده عن الحال- لم يعرف السبب
للتسمية؛ ألا ترى إلى قولهم للإنسان إذا رفع صوته: قد رفع عقيرته فلو
ذهبت تشتق هذا بأن تجمع بين معنى الصوت وبين معنى "ع ق ر " لبعد عنك
وتعسفت. وأصله أن رجلًا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها الأخرى ثم صرخ
بأرفع صوته فقال الناس: رفع عقيرته. وهذا مما ألزمه أبو بكر4 أبا
إسحاق4
__________
1 زيادة في ج.
2 كذا في ش، ب وفي أ: "لأن".
3 ما هنا زائدة، ويجوز أن تكون مصدرية.
4 أبو بكر هو ابن سراج، وأبو إسحق هو الزجاج، وكلاهما تلميذ المبرد،
وكان الزجاج مسرفا في الاشتقاق وابن السراج مقتصدا فيه.
(1/67)
فقبله منه ولم يردده. والكلام هنا أطول من
هذا لكن هذا مقاده1, فأعلق يدك بما ذكرناه: من أن سبب إهمال ما أهمل
إنما هو لضرب من ضروب الاستخفاف؛ لكن كيف؟ ومن أين؟ فقد تراه على ما
أوضحناه. فهذا الجواب عن إهمالهم ما أهملوه من محتمل القسمة لوجوه
التراكيب فاعرفه ولا تستطله؛ فإن هذا الكتاب ليس مبنيًا على حديث وجوه
الإعراب وإنما هو مقام القول على أوائل أصول هذا الكلام وكيف بديء
وإلام نحي. وهو كتاب يتساهم ذوو النظر: من المتكلمين والفقهاء
والمتفلسفين والنحاة والكتاب والمتأدّبين التأمل له والبحث عن مستودعه
فقد وجب أن يخاطب كل إنسان منهم بما يعتاده ويأنس به ليكون له سهم منه
وحصة فيه! وأما ما أورده السائل في أول هذا السؤال الذي نحن منه على
سمت الجواب من علة امتناعهم من تحميل2 الأصل الذي استعلموا بعض مثله
ورفضهم3 بعضًا نحو امتناعهم أن يأتوا في الرباعي بمثال فَعلُل وفَعلِل
وفُعلَل -في غير قول4 أبي الحسن- فجوابه نحو من الذي قدمناه: من
تحاميهم فيه الاستثقال وذلك أنهم كما حموا أنفسهم من استيعاب جميع ما
تحتمله قسمة تراكيب الأصول من حيث قدمنا وأرينا كذلك أيضًا توقفوا عن
استيفاء جميع تراكيب الأصول من حيث كان انتقالك في الأصل الواحد
رباعيًا كان أو خماسيًا من مثال إلى مثال في النقص والاختلال كانتقالك
في المادة الواحدة من تركيب إلى تركيب أعني به حال التقديم والتأخير
لكن
__________
1 أي وجه قوده والسير به، يريد أن هذا مذهبه وسبيله. وهو هكذا في أ، ب.
وفي ش: "مفاده".
2 كذا في الأصول، وأظهر من هذا في المقام: "تكميل"، وكأنه يريد تحميله
كل الوجوه المحتملة فيه باستعمالها.
3 كذا في الأصول، وأصرح من هذا لو قال: "رفضوا".
4 يثبت أبو الحسن الأخفش من أبنية الرباعي فعللا كجخدب، ولا يرى ذلك
جمهرة النحاة.
(1/68)
الثلاثي جاء1 فيه لخفته جميع ما تحتمله
القسمة وهي الاثنا عشر مثالًا إلا مثالًا واحدًا فإنه رفض أيضًا لما
نحن عليه من حديث الاستثقال وهو فِعُل وذلك لخروجهم فيه من كسر إلى ضم.
وكذلك ما امتنعوا من بنائه في الرباعي -وهو فِعلُل- هو لاستكراههم
الخروج من كسر إلى ضم وإن كان بينهما حاجز لأنه ساكن فضعف لسكونه عن
الاعتداد به حاجزًا على أن بعضهم حكى زئبر2، وضئبل2، وخرفع2، وحكيت عن
بعض البصريين "إصبع " وهذه ألفاظ شاذة لا تعقد بابًا ولا يتخذ مثلها
قياسًا. وحكى بعض الكوفيين ما رأيته مذست وهذا أسهل -وإن كان لا حاجز
بين الكسر والضم- من حيث كانت الضمة غير لازمة لأن الوقف يستهلكها
ولأنها أيضًا من الشذوذ بحيث لا يعقد عليها باب 3. فإن قلت: فما بالهم
كثر عنهم باب فُعُل نحو عنق وطنب وقل عنهم باب فِعِل نحو إبل وإطل مع
أن الضمة أثقل من الكسرة فالجواب عنه من موضعين: أحدهما أن سيبويه قال:
"واعلم4 أنه قد يقل الشيء في كلامهم وغيره
__________
1 هكذا في أ. وفي ش، وب: "جار"، وقد يكون الأصل: "جاز".
2 الزئبر: هو ما يعلو الثوب الجديد، ويقال له: شوك الثوب، والضئيل:
الداهية، والخرفع: القطن. والألفاظ الثلاثة اللغة الشائعة فيها أن تكون
على فعال "بكسر الأول والثالث" كزبرج، وورد في الخرفع أن جاءت على خرفع
"بضم الأول والثالث" كبرئن.
3 ثبت لفظ "باب" في ش وج. وسقط في أ، ب.
4 اعتمدت في هذا على ما في ج. وفي أ: "واعلم أنه قد ... ويقل الشيء
إلخ"، وفي ش، ب: "واعلم أنه ... ويقل الشيء إلخ". والسبب في هذا
الاختلاف أن عبارة الكتاب طويلة ولو ساقها كلها لأورد ما ليس من قصده،
ففي ج أورد ما يعنيه من عبارة سيبويه بالمعنى، وفي النسخ الأخرى أورد
صدر عبارة سيبويه "واعلم أنه قد" أو "واعلم أنه" وترك بياضا لما ليس من
همه ثم أورد ما يعنيه. على أنه أورده أيضا بمعناه. وعبارة الكتاب التي
تنفق مع مراده هي: "وقد يقل ما هو أخف مما يستعملون كراهية ذلك أيضًا",
وهو يريد بقوله كراهية ذلك كراهية أن يكثر في كلامهم ما يستثقلون، وقد
سبقت في كلامه. وانظر الكتاب ج2 ص404.
(1/69)
أثقل منه كل ذلك لئلا يكثر في كلامهم ما
يستثقلون " فهذا قول والآخر أن الضمة وإن كانت أثقل من الكسرة فإنها
أقوى منها وقد يحتمل للقوة ما لا يحتمل للضعف ألا ترى إلى احتمال
الهمزة مع ثقلها للحركات وعجز الألف عن احتمالهن وإن كانت خفيفة لضعفها
وقوة الهمزة. وإنما ضعفت الكسرة عن الضمة لقرب الياء من الألف وبعد
الواو عنها.
ومن حديث الاستثقال والاستخفاف أنك لا تجد في الثنائي -على قلة حروفه-
ما أوله مضموم إلا القليل وإنما عامته على الفتح نحو هل وبل وقد وأن
وعن وكم ومن وفي المعتل أو ولو وكي وأي أو على الكسر نحو إن, ومن وإذ.
وفي المعتل إي وفي وهي. ولا يعرف الضم في هذا النحو إلا قليلًا؛ قالوا:
هو وأما هم فمحذوفة من همو كما أن مذ محذوفة من منذ. وأما هو من نحو
قولك: رأيتهو وكلمتهو فليس شيئًا؛ لأن هذه ضمة مشبعة في الوصل؛ ألا
تراها يستهلكها الوقف وواو هو في الضمير المنفصل ثابتة في الوقف
والوصل. فأما قوله:
فبيناه يشري رحله قال قائل ... لمن جمل رِخو الملاط نجيب1
فللضرورة والتشبيه للضمير المنفصل بالضمير المتصل في عصاه وقناه. فإن
قلت: فقد قال2:
أعني على برق أريك وميضهو
فوقف بالواو وليست اللفظة قافية وقد قدمت أن هذه المدة مستهلكة في حال
الوقف قيل: هذه اللفظة وإن لم تكن قافية فيكون البيت بها مقفى, أو
مصرعًا,
__________
1 انظر البيت في الخزانة ص396 ج2 طبعة بولاق.
2 هو امرؤ القيس في المعلقة.
(1/70)
فإن العرب قد تقف على العروض نحوًا من
وقوفها على الضرب, أعني مخالفة ذلك لوقف1 الكلام المنثور غير الموزون؛
ألا ترى إلى قوله أيضًا:
فأضحى يسح الماء حول كتيفتن
فوقف بالتنوين خلافًا على الوقف2 في غير الشعر. فإن قلت: فأقصى3 حال
قوله "كتيفتن " -إذ ليست قافية- أن تجري مجرى القافية في الوقف عليها
وأنت ترى الرواة أكثرهم على إطلاق هذه القصيدة ونحوها بحرف اللين
للوصل, نحو قوله: ومنزلي, وحوملي, وشمألي, ومحملي, فقوله " كتيفتن "
ليس على وقف الكلام ولا وقف القافية قيل: الأمر على ما ذكرت من خلافه
له؛ غير أن هذا أيضًا أمر يخص المنظوم دون المنثور؛ لاستمرار ذلك عنهم؛
ألا ترى إلى قوله4:
أني اهتديت لتسليم على دِمنن ... بالغمز غيرهن الأعصر الأولو5
وقوله 6:
كأن حدوج المالكية غُدوتن ... خلايا سفين بالنواصف من دَدي
وقوله:
فمضى وقدمها وكان عادتن ... منه إذا هي عردت إقدامها7
__________
1 كذا في ش وب، وفي أ: "لوقوف".
2 كذا في ش وب، وفي أ: "الوقوف".
3 كذا في أ، ج. وفي ش وب: "فأقضى".
4 هو القطامي في قصيدته التي مطلعها:
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل
والبيت الشاهد بلى هذا البيت، وهو يخاطب فيه نفسه، فجائز أن يكون بكسر
التاء في "اهتديت" وبالضم والفتح، وضبط في أبفتح التاء، وفي ش بكسرها،
والغمر: اسم موضع.
5 كتب العروض والضرب في هذه الأبيات على مقتضى الرسم العروضي، فرسم
التنوين نونًا، ورسم الوصل، وهذا على ما في أ، وفي ش وب: جرى الرسم
فيها على المألوف.
6 هو طرفة في معلقته.
7 هذا البيت قائله لبيد في معلقته. وهو ساقط في أ.
(1/71)
وقوله 1:
فوالله لا أنسى قتيلًا رزئتهو ... بجانب قوسي ما مشيت على الأرضي2
وفيها:
ولم أدر من ألقى عليه رداء هو ... على3 أنه قد سل عن ماجد محضي
وأمثاله كثير. كل ذلك الوقوف على عروضه مخالف للوقوف على ضربه ومخالف
أيضًا لوقوف الكلام غير الشعر. ولم يذكر أحد من أصحابنا هذا الموضع في
علم القوافي. وقد كان يجب أن يذكر ولا يهمل.
"رجع" وكذلك جميع ما جاء من الكلم على حرف واحد: عامته على الفتح إلا
الأقل وذلك نحو همزة الاستفهام وواو العطف وفائه ولام الابتداء وكاف
التشبيه وغير ذلك. وقليل منه مكسور كباء الإضافة4 ولامها4 ولام الأمر
ولو عرى ذلك من المعنى الذي اضطره إلى الكسر لما كان مفتوحًا ولا نجد
في الحروف المنفردة ذوات المعاني ما جاء مضمومًا هربًا من ثقل الضمة.
فأما نحو قولك5: اقتل ادخل استقصي عليه فأمره6 غير معتد إذ كانت هذه
الهمزة إنما يتبلغ بها في حال الابتداء ثم يسقطها الإدراج الذي عليه
مدار الكلام ومتصرفه 7.
__________
1 هو أبو خراش الهذلي. والقتيل أخوه عروة، وانظر في القصة معجم البلدان
في "قوسي".
2 ضبط في الأصول "قوسي" بضم القاف، والذي في المعاجم فتحها وهو اسم
موضع بالسراة.
3 في أوياقوت: "سوى" ومعنى هذا أن في البيت روايتين.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "لامه". ولام الإضافة هي لام الجر وكذا باء
الإضافة، وحروف الجر يقال لها حروف الإضافة؛ لأنها تضيف معاني الأفعال
إلى الأسماء وانظر الكتاب 209/ 1.
5 سقط في ش، ب.
6 في ش، ب: "فأمر".
7 في ش: "منصرفة".
(1/72)
فإن قلت: ومن أين يعلم أن العرب قد راعت
هذا الأمر واستشفته1 وعنيت بأحواله وتتبعته حتى تحامت هذه المواضع
التحامي الذي نسبته إليها وزعمته مرادًا لها وما أنكرت أن يكون القوم
أجفى طباعًا وأيبس طينًا من أن يصلوا من النظر إلى هذا القدر اللطيف
الدقيق الذي لا يصح لذي الرقة والدقة منا أن يتصوره إلا بعد أن توضح له
أنحاؤه بل أن تشرح له أعضاؤه؟
قيل له: هيهات! ما أبعدك عن تصور أحوالهم, وبعد أغراضهم ولطف أسرارهم,
حتى كأنك لم ترهم وقد ضايقوا أنفسهم, وخففوا عن ألسنتهم, بأن اختلسوا
الحركات اختلاسًا وأخفوها فلم يمكنوها في أماكن كثيرة ولم يشبعوها؛ ألا
ترى إلى قراءة أبي عمرو " مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ "
مختلسًا لا محققًا3؛ وكذلك قوله عز وجل: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ
عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} مخفي لا مستوفي, وكذلك قوله عز وجل:
{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} مختلسًا غير ممكن كسر الهمزة, حتى دعا
ذلك من لطف عليه تحصيل اللفظ إلى أن ادعى أن أبا عمرو كان يسكن الهمزة
والذي رواه صاحب3 الكتاب اختلاس هذه الحركة لاحذفها البتة, وهو أضبط
لهذا الأمر من غيره من القراء الذين رووه ساكنًا. ولم يؤت القوم في ذلك
__________
1 استشف الشيء: نظر ما وراءه. واستشف الكتاب تأمله.
2 كذا في أبقافين، وفي ش كما في المطبوعة: "مخففا"، بفاءين، وما في ب
أقرب إلى ما في ش.
3 يريد سيبويه. وانظر كتابه ص297 ج2، وهذا الذي رواه صاحب الكتاب رواه
القراء أيضًا، ورووا مع هذا الإسكان. وممن روى الإسكان أبو محمد
اليزيدي، وهو من هو في القراءة والبصر بالعربية. ومثل أبي محمد ما كان
ليرمى بإساءة السمع، وقد روى أدق من هذا وأصنع عن أبي عمرو؛ فقد ذكر أن
أبا عمرو كان يشم الهاء من يهدي والخاء من يخصمون شيئًا من الفتح، وهذا
من اللطف بمكان. وانظر النشر 216/ 2.
(1/73)
من ضعف أمانة، لكن أتوا1 من ضعف دراية.
وأبلغ من هذا في المعنى ما رواه2 من قول الراجز:
متى أنام لا يؤرقني الكري ... ليلًا ولا أسمع أجراس المطي
بإشمام القاف من يؤرقني ومعلوم أن هذا الإشمام إنما هو للعين لا للأذن
وليست هناك حركة البتة ولو كانت فيه حركة لكسرت الوزن ألا ترى أن الوزن
من الرجز ولو اعتدت القاف متحركة لصار من الكامل 3. فإذا قنعوا من
الحركة بأن يومئوا إليها بالآلة التي من عاداتها أن تستعمل في النطق
بها من غير أن يخرجوا إلى حس السمع شيئًا من الحركة مشبعة ولا مختلسة
أعني إعمالهم الشفتين للإشمام في المرفوع بغير صوت يسمع هناك لم يبق
وراء ذلك شيء يستدل به على عنايتهم بهذا الأمر ألا ترى4 إلى مصارفتهم5
أنفسهم في الحركة على قلتها ولطفها, حتى يخرجوها تارة مختلسة غير مشبعة
وأخرى مشمة للعين لا للأذن. ومما أسكنوا فيه الحرف إسكانًا صريحًا ما
أنشده6 من قوله 7:
__________
1 يريد أن الإسكان لا وجه له في العربية، ولو كان القراء على دراية
بذلك لترددوا في رواية الإسكان. وقد أفاض العلماء في بيان أن العرب قد
تعمد للإسكان تخفيفا، وأن تسكين المرفوع في نحو يشعركم لغة لتميم وأسد،
فلا وجه للإنكار من جهة الدراية. وابن جني في الطعن على القراء في هذا
الموطن تابع للمبرد قبله، وهذه نزعة جانبهما فيها الإنصاف، وانظر
المرجع السابق.
2 أي صاحب الكتاب. انظر كتابه ص450 ج1؛ والكري بكسر الراء وهو الكريّ
بشد الياء خففها للضرورة وكذلك المطيّ. والكريّ: مؤخر الدابة للركوب.
وضبط في المطبوعة: "الكرى" بفتح الراء وهو خطأ.
3 أي وتوافق الروي في الشطرين آية أنه من الرجز، فإن هذا غير مألوف في
الكامل.
4 سقطت هذه العبارة: "ألا ترى" في ش وب وهو مثبتة في أ.
5 يقال: صارف نفسه: صرفها. يريد انصرافهم عن استيفاء الحركة.
6 أي سيبويه وانظر الكتاب ص297 ج2.
7 أي الأقيشر الأسدي -وهو المغيرة بن عبد الله- وكان قد سكر فبدت عورته
فضحكت منه امرأته فقال ثلاثة أبيات: هذا البيت، وقبله:
تقول يا شيخ أما تستحي ... من شر بك الخمر على المكبر
فقلت لو باكرت مشمولة ... صفرا كلون الفرس الأشقر
وانظر العيني 416/ 4، والخزانة 279/ 2.
(1/74)
رحت وفي رجليك ما فيهما ... وقد بدا هنك من
المئزر
بسكون النون البتة من "هنك ". وأنشدنا أبو علي رحمه الله لجرير:
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى فلا تعرفكم العرب1
بسكون فاء تعرفكم أنشدنا هذا بالموصل سنة إحدى وأربعين2 وقد سئل عن قول
الشاعر:
فلما تبين غب أمري وأمره ... وولت بأعجاز الأمور صدور3
وقال الراعي:
تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسبا ... وابنا نزار فأنتم بيضة البلد
وعلى هذا حملوا بيت لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وبيت الكتاب:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثمًا من الله ولا واغل4
__________
1 "فلا" كذا في ش وب. وفي أ: "ولا" وانظر المخصص 188 ج15، وفي ياقوت في
"نهر تيرى": "ولم". وانظر في بني العم الأغاني 3/ 257 طبعة الدار،
والسمط 527.
2 أي بعد الثلاثمائة.
3 هذا البيت لنهشل بن حري، "بفتح الحاء وتشديد الراء مكسورة فياء
مشددة". ورواه صاحب اللسان في "غيب": "فلما رأى أن غب" إلخ. وغب في هذه
الرواية فعل. وفي اللسان في "نأش"، "أنشد يعقوب لنهشل بن حري":
ومولى عصاني واستبد بأمره ... كما لم يطع فيما أشار قصير
فلما رأى ما غب أمري وأمره ... وباءت بأعجاز الأمور صدور
تمنى نئيشًا أن يكون أطاعني ... ويحدث من بعد الأمور أمور
قوله: "تمنى نئيشًا" أي تمنى في الأخير وبعد الفوت أن لو أطاعني وقد
حدثت أمور لا يستدرك بها ما فات, أي أطاعني في وقت لا تنفعه فيه
الطاعة, والبيت من شواهد الكشاف. وانظر حماسة البحتري 274.
4 قائله امرؤ القيس وقد أورده في الكتاب ص297 ج2.
(1/75)
وعليه ما أنشده1 من قوله:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم2
واعتراض أبي العباس في هذا الموضع3 إنما هو رد للرواية وتحكم على
السماع بالشهوة مجردة4 من النصفة ونفسه ظلم لا من جعله خصمه. وهذا
واضح.
ومنه إسكانهم نحو رسل, وعجز, وعضد, وظرف, وكرم, وعلم, وكتف, وكبد وعصر.
واستمرار ذلك في المضموم والمكسور, دون المفتوح, أدل دليل -بفصلهم بين
الفتحة وأختيها- على ذوقهم الحركات واستثقالهم بعضها5 واستخفافهم الآخر
5. فهل هذا ونحو إلا لإنعامهم النظر في هذا القدر اليسير, المحتقر من
الأصوات فكيف بما فوقه من الحروف التوام, بل الكلمة من جملة الكلام.
وأخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد القرميسيني6 عن أبي بكر محمد بن
هارون الروياني عن أبي حاتم سهل7 بن محمد السجستاني في كتابه الكبير في
القراءات قال:
__________
1 أنشده، أي صاحب الكتاب وانظر كتابه ص297 ج2، وقد اعتمدت في إثبات هذه
الصيغة على ج. وفي بقية الأصول: "أنشدوه".
2 عجزه:
بالدو أمثال السفين العوم
وانظر المرجع السابق. ونسب هذا الرجز السيرافي في "باب ما يحتمل الشعر"
إلى أبي نخيلة.
3 كذا في الأصول الخطية، وفي المطبوعة: "الموضوع".
4 كذا في الأصول الخطية، وفي المطبوعة: "مجردا".
5 كذا في ش وب. وفي أ: "بعضا ... آخر".
6 نسبة إلى قرميسين: بلد بالعجم. وقد ضبطها صاحب القاموس بكسر القاف،
وصاحب معجم البلدان بفتحها. وإبراهيم هذا قد يكون الذي في طبقات الفراء
لابن الجزري. ففيها: "إبراهيم بن أحمد بن الحسن بن مهران أبو إسحاق
القرماسيني" انظر الطبقات ص7 ج1. ويقول ابن جني في مقدمة كتابه المحتسب
عن كتاب أبي حاتم السجستاني في القراءات: "أخبرنا به أبو إسحاق إبراهيم
بن أحمد القرميسيني عن أبي بكر محمد بن هارون الروياني عن أبي حاتم"
ومن هذا يبين أن هذين الرجلين كانا من القراء.
7 هو إمام البصرة في النحو والقراءة واللغة والعروض، قال ابن الجزري:
"وأحسبه أول من صنف في القراءات". كانت وفاته سنة 255 وانظر طبقات ابن
الجزري، رقم 1403.
(1/76)
قرأ علي أعرابي بالحرم: " طيبي لهم وحسن
مآب " فقلت: طوبى فقال: طيبي, فأعدت فقلت: طوبى فقال: طيبي فلما طال
علي قلت: طوطو قال: "طي طي"1. أفلا ترى إلى هذا الأعرابي وأنت تعتقده
جافيًا كزّا لا دمثًا ولا طيعًا؛ كيف نبا طبعه عن ثقل الواو إلى الياء
فلم يؤثر فيه التلقين, ولا ثنى طبعه عن التماس الخفة هز ولا تمرين, وما
ظنك به إذا خلي مع سومه2 وتساند إلى سليقيته3 ونجره.
وسألت يومًا أبا عبد الله محمد بن العساف العقيلي الجوثي التميمي
-تميم4 جوثة- فقلت له: كيف تقول: ضربت أخوك؟ فقال: أقول: ضربت أخاك.
فأدرته5 على الرفع فأبى, وقال: لا أقول: أخوك أبدًا. قلت: فكيف تقول
ضربني أخوك فرفع. فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبدًا, فقال: أيش
هذا! اختلفت جهتا الكلام. فهل هذا إلا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام
وإعطائهم إياه في كل موضع حقه, وحصته من الإعراب, عن ميزة6 وعلى بصيرة,
وأنه ليس استرسالًا ولا ترجيمًا. ولو كان كما توهمه هذا
__________
1 كتب هكذا بفصل الكلمتين فإنه لا يريد تكوين كلمة من هذين المقطعين،
وفي هامش أ: "طيطي".
2 أي ترك يفعل كيف يشاء وأصل ذلك في الماشية وهي ترسل المرعى ترعى حيث
شاءت؛ فيقال: خلاها وسومها.
3 كذا في أ. وفي ش وب: "سليقته". وكلاهما صحيح. يقال فلان يقرأ
بالسليقية إذا كان يقرأ بطبعه لا عن تعلم. والتجر: الأصل والطبيعة.
4 جوثة بضم الجيم وسكون الواو: اسم حي أو موضع نسبت إليه تميم. وتميم
تقرأ بالنصب أي أعني، وسمع جرها على حذف المضاف وإبقاء جر المضاف إليه
أي صاحب تميم، وللكوفيين في الجر توجيه آخر، وانظر الصبان في أول
النسب.
5 يقال: أدرت فلانا على الأمر إذا حاولت إلزامه إياه.
6 هذا الضبط عن أ. وفي اللسان: ماز الشيء ميزًا وميزة -بكسر الميم-
وميّزه: فصل بعضه من بعض.
(1/77)
السائل لكثر اختلافه وانتشرت جهاته ولم
تنقد مقاييسه. وهذا موضع نفرد له بابًا بإذن الله تعالى فيما بعد.
وإنما أزيد في إيضاح هذه الفصول من هذا الكتاب لأنه موضع الغرض: فيه
تقرير الأصول وإحكام معاقدها والتنبيه على شرف هذه اللغة وسداد مصادرها
ومواردها وبه وبأمثاله تخرج أضغانها وتبعج أحضانها ولا سيما هذا السمت
الذي نحن عليه ومرزون1 إليه؛ فاعرفه, فإن أحدًا لم يتكلف الكلام على
علة إهمال ما أهمل واستعمال ما استعمل. وجماع أمر القول فيه والاستعانة
على إصابة غروره2 ومطاويه لزومك محجة القول بالاستثقال والاستخفاف ولكن
كيف وعلام ومن أين فإنه باب يحتاج منك إلى تأن, وفضل بيان وتأت. وقد
دققت لك بابه بل خرقت بك حجابه. ولا تستطل كلامي في هذا الفصل أو ترين
أن المقنع فيه كان دون هذا القدر فإنك إذا راجعته وأنعمت تأمله علمت
أنه منبهة للحس مشجعة للنفس.
وأما السؤال عن علة عدل عامر وجاشم وثاعل وتلك الأسماء المحفوظة, إلى
فُعل: عمر وجشم وثعل وزحل وغدر دون أن يكون هذا العدل في مالك وحاتم
وخالد نحو ذلك فقد تقدم الجواب عنه فيما فرط: أنهم لم يخصوا ما هذه
سبيله بالحكم دون غيره إلا لاعتراضهم طرفًا مما أطف لهم من جملة لغتهم
كما عن وعلى ما اتجه لا لأمر خص هذا دون غيره مما هذه سبيله؛ وعلى هذه
الطريقة ينبغي أن يكون العمل فيما يرد عليك من السؤال عما هذه حاله؛
ولكن لا ينبغي أن تخلد إليها إلا بعد السبر والتأمل, والإنعام والتصفح؛
فإن
__________
1 مرزون: مستندون، من أرزيت إلى الله: استندت.
2 جمع غر، وهو موضع تكسر الثوب أو الجلد، وهو هنا يرادف "مطاويه" وقد
ثبت في رسم هذه الكلمة أ، وفي ش وب: "غرره". وفي المطبوعة: "غيره".
(1/78)
وجدت غدرًا مقطوعًا به صرت إليه واعتمدته
وإن تعذر ذلك, جنحت إلى طريق الاستخفاف والاستثقال فإنك لا تعدم هناك
مذهبًا تسلكه ومأمًّا تتورّده. فقد أريتك في ذلك أشياء: أحدها
استثقالهم الحركة التي هي أقل من الحرف حتى أفضوا في ذلك إلى أن
أضعفوها واختلسوها ثم تجاوزوا ذلك إلى أن انتهكوا حرمتها فحذفوها ثم
ميلوا1 بين الحركات فأنحو على الضمة والكسرة لثقلهما، وأجموا2 الفتحة
في غالب الأمر لخفتها فهل هذا إلا لقوة نظرهم ولطف استشفافهم وتصفحهم.
أنشدنا مرة أبو عبد الله الشجري شعرًا لنفسه, فيه بنو عوف, فقال له بعض
الحاضرين: أتقول: بنو عوف أم بني عوف شكًا من السائل في بني وبنو فلم
يفهم الشجري ما أراده وكان في ثنايا السائل فضل فرق3، فأشبع الصويت
الذي يتبع الفاء في الوقف فقال الشجري مستنكرًا لذلك: لا أقوى في
الكلام على هذا النفخ.
وسألت غلامًا من آل المهيا فصيحًا عن لفظة من كلامه لا يحضرني الآن
ذكرها فقلت: أكذا أم كذا فقال: " كذا بالنصب لأنه أخف " فجنح إلى الخفة
وعجبت من هذا مع ذكره النصب بهذا اللفظ. وأظنه استعمل هذه اللفظة لأنها
مذكورة عندهم في الإنشاد الذي يقال له النصب مما يتغنى به الركبان.
وسنذكر فيما بعد بابًا نفصل فيه بين ما يجوز السؤال عنه مما4 لا يجوز
ذلك فيه بإذن الله.
__________
1 يقال: ميل بين الأمرين: تردد فيهما أيهما يأخذ.
2 كذا في أ، ب. وفي ش والمطبوعة: "أحموا"، وإجمام الفتحة: تركها؛ يقال:
أجم البئر، تركها يجتمع ماؤها، فلا يستقي منها. وأحمى لغة في حمى،
يقال: أحمى عرضه: جماه.
3 القرق -بالتحريك- تباعد ما بين الشينين؛ كالفلج.
4 كذا في الأصول، والأسلوب المعروف في هذا أن يقال: وما لا يجوز.
(1/79)
ومما يدلك على لطف القوم ورقتهم مع تبذلهم
وبذاذة ظواهرهم؛ مدحهم بالسباطة والرشاقة، وذمهم بضدها من الغلظة
والغباوة1، ألا ترى إلى قولها2:
فتى قد قد السيف لا متآزف ... ولا رهل لباته وبآدله
وقول جميل في خبر3 له:
وقد رابني من جعفر أن جعفرًا ... يبث هوى ليلى ويشكو هوى جمل
فلو كنت عذري الصبابة لم تكن ... بطينًا وأنساك الهوى كثرة الأكل
وقول عمر:
قليلًا على ظهر المطية ظله ... سوى ما نفى عنه الرداء المحبر4
وإلى الأبيات المحفوظة في ذلك وهي قوله 5:
ولقد سريت على الظلام بمغشم ... جلد من الفتيان غير مثقل
وأظن هذا الموضع لو جمع لجاء مجلدًا عظيمًا.
__________
1 في ش: "القساوة".
2 يريد زينب أخت يزيد بن الطثرية -بفتح الطاء والمثلثة- من كلمة هلا
ترثيه بها، ويقال: البيت للعجير السلولي، يرثي رجلا من بني عمه, وهو في
الحماسة في شعر العجير ببعض تغيير، والمتآزف من الرجال: القصير، أو
الضعيف الجبان، وضبط في أ، ب، متآزف على متفعل. وهو خطأ. وانظر في
المرئية الأمالي 99/ 2.
3 وهو أنه أضاف رجلا وقدم له طعامًا شهيًّا، فجعل الرجل يحدث جميلا عن
بنت عم له يحبها ويأكل حتى أتى على الطعام، فقال هذا الشعر، وقد أورد
القالي في الذيل 207 البيتين ببعض تغيير من غير عزو. وانظر السمط 96
وأورد في الكامل 91-6: "وأنشدت لأعرابي":
وقد رابني من زهدم أن زهدما ... يشد على خبزي ويبكي على جمل
فلو كنت عذري العلاقة لم تكن ... سمينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
4 من قصيدته التي مطلعها:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائج فمهجو
وقوله: "قليلا" كذا في ج، والأغاني 1/ 82 طبعة الدار، وفي سائر الأصول:
"قليل"، هو وصف لـ"رجلا" في البيت قبله، وهو:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيحضر
5 يريد أبا كبير الهذلي، والبيت من قصيدة له في الحماسة.
(1/80)
وحدثني أبو الحسن علي بن عمرو عقيب منصرفه
من مصر هاربًا متعسفًا قال: أذم1 لنا غلام -أحسبه قال من طيء- من بادية
الشام, وكان نجيبًا متيقظًا, يكنى أبا الحسين ويخاطب بالأمير فبعدنا عن
الماء في بعض الوقت فأضر ذلك بنا قال: فقال لنا ذلك الغلام: على رسلكم
فإني أشم رائحة الماء. فأوقفنا2 بحيث كنا وأجرى فرسه فتشرف3 ههنا
مستشفًا4 ثم عدل عن ذلك الموضع إلى آخر مستروحًا للماء ففعل ذلك دفعات
ثم غاب عنا شيئًا وعاد إلينا فقال: النجاة والغنيمة سيروا على اسم الله
تعالى فسرنا معه قدرًا من الأرض صالحًا فأشرف بنا على بئر فاستقينا
وأروينا. ويكفي من ذلك ما حكاه5 من قول بعضهم لصاحبه: ألا تا فيقول
الآخر مجيبًا له: بلى فا وقول الآخر:
قلنا لها قفي لنا قالت قاف
ثم تجاوزوا ذلك إلى أن قالوا: " رب إشارة أبلغ من عبارة " نعم وقد
يحذفون بعض الكلم استخفافًا حذفًا يخل بالبقية ويعرض لها الشبه6؛ ألا
ترى إلى قول علقمة:
كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بسبا الكتان ملثوم7
__________
1 أي أخذ له الذمة والأمان. وهو هكذا في أ. وفي بقية الأصول: "إذ مر"،
ولا معنى له في هذا الموضع.
2 في ش: "فوقفنا".
3 فتشرف: فتطلع.
4 مستشفا: متأملا.
5 أي سيبويه، وانظر ما تقدم في ص31.
6 كذا في ب. وفي أ: "الشبهة".
7 المفدم: الذي على فمه خرقة، وملثوم متلفف بها من تلثم بعمامته إذا
شدها على فمه. و"ملثوم" كذا في اللسان وهو رواية في البيت. والرواية
الأخرى: "مرثوم". والمرثوم: الذي قد رثم أنفه وكسر، والبيت من قصيدة
مفضلية.
(1/81)
أراد: بسبائب 1. وقول لبيد:
درس المنا بمتالع فأبان
أراد المنازل. وقول الآخر 2:
حين ألقت بقباء بركها ... واستحر القتل في عبد الأشل3
يريد عبد الأشهل من الأنصار, وقول أبي داود:
يذرين جندل حائر لجنوبها ... فكأنما تذكى سنابكها الحبا
أي تصيب بالحصى في جريها جنوبها وأراد الحباحب4 وقال الأخطل:
أمست مناها بأرض ما يبلغها ... بصاحب الهم إلا الجسرة الأجد5
قالوا: يريد منازلها ويجوز أن يكون مناها قصدها 6.
__________
1 واحدها سبيبة، وهي الشقة البيضاء من الثوب. ويقول ابن سيده في المخصص
ج15 ص167 بعد أن أورد عجز بيت علقمة: "قيل: إنه أراد السبائب فحذف، وهو
من شاذ الحذف. وقيل إن السبا هي السبائب، وليس على الحذف".
2 هو ابن الزبعرى، كما في اللسان مادة "برك"، وانظر ترجمته في الأغاني
ج14 ص11.
3 من قصيدة قالها في غزوة أحد, وهو يومئذ مشرك يفتخر فيها بهزيمة
المسلمين وانتصار قريش. وقبله:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج عن وقع الأسل
وقوله: "حين ألقت" يروى "حين حكت" والضمير فيهما للحرب، والبرك: وسط
الصدر أي حين أناخت الحرب فيهم. وانظر السمط 387 وسيرة ابن هشام في
غزوة أحد.
4 وهو يريد فار الحباحب، وهي نار ضعيفة، والحباحب دويبة تطير كالشرارة
أضيف إليه النار، وقيل فيه غير ذلك.
5 من قصيدته التي مطلعها:
حلت ضبيرة أمواه العداد وقد ... كانت تحل وأدنى دارها ثكد
وقبل البيت:
يا ليت أخت بين دب يريع بها ... صرف النوى فينام العائر السهد
وانظر الديوان 169.
6 وأنت الفعل لأن المنى اكتسب التأنيث من المضاف إليه، على حد قولهم:
قطعت بعض أصابعه، أو أن في "أمست" ضمير من يتحدث عنها، وجملة "مناها
بأرض ... " هي الخبر. وانظر اللسان في "منا".
(1/82)
ودع هذا كله, ألم تسمع إلى ما جاءوا به من
الأسماء المستفهم بها, والأسماء المشروط بها كيف أغنى الحرف الواحد عن
الكلام الكثير المتناهي في الأبعاد والطول فمن ذلك قولك: كم مالك ألا
ترى أنه قد أغناك ذلك عن قولك: أعشرة مالك أم عشرون أم ثلاثون أم مائة
أم ألف فلو ذهبت تستوعب الأعداد لم تبلغ ذلك أبدًا لأنه غير متناه فلما
قلت: " كم " أغنتك هذه اللفظة الواحدة عن تلك الإطالة غير المحاط
بآخرها ولا المستدركة. وكذلك أين بيتك؛ قد أغنتك "أين " عن ذكر الأماكن
كلها. وكذلك من عندك قد أغناك هذا عن ذكر الناس كلهم. وكذلك متى تقوم
قد غنيت بذلك عن ذكر الأزمنة على بعدها. وعلى هذا بقية الأسماء من نحو:
كيف وأي وأيان وأنى. وكذلك الشرط في قولك: من يقم أقم معه فقد كفاك ذلك
من ذكر جميع الناس ولولا هو لاحتجت أن تقول: إن يقم زيد أو عمرو أو
جعفر أو قاسم ونحو ذلك, ثم تقف حسيرًا مبهورًا ولما1 تجد إلى غرضك
سبيلًا. وكذلك بقية أسماء العموم في غير الإيجاب: نحو أحد وديار وكتيع
وأرم وبقية الباب. فإذا قلت: هل عندك أحد أغناك ذلك عن أن تقول: هل
عندك زيد أو عمرو أو جعفر, أو سعيد أو صالح فتطيل ثم تقصر إقصار
المعترف الكليل وهذا وغيره أظهر أمرًا وأبدى صفحة وعنوانًا. فجميع ما
مضى وما نحن بسبيله مما أحضرناه, أو نبهنا عليه فتركناه شاهد بإيثار
القوم قوة إيجازهم وحذف فضول كلامهم. هذا مع أنهم في بعض الأحوال قد
يمكنون ويحتاطون وينحطون في الشق2 الذي
__________
1 كذا في أ. وفي ش وب: "لم".
2 في ج: "الشيء". وقوله: "ينحطون في الشق الذي يؤمون" أي يجتهدون فيه
ويبذلون فيه وسعهم؛ من قولهم: انحطت الناقة في سيرها: أسرعت، وانحط في
هوى فلان: سارع إلى إرضائه.
(1/83)
يؤمون, وذلك في التوكيد نحو جاء القوم
أجمعون, أكتعون, أبصعون, أبتعون1؛ وقد قال جرير:
تزود مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادا2
فزاد الزاد في آخر البيت توكيدًا لا غير.
وقيل لأبي عمرو: أكانت العرب تطيل؟ فقال: نعم لتبلغ 3. قيل: أفكانت
توجز؟ قال: نعم ليحفظ4 عنها.
واعلم أن العرب -مع ما ذكرنا- إلى الإيجاز أميل, وعن الإكثار أبعد. ألا
ترى أنها في حال إطالتها وتكريرها مؤذنة باستكراه تلك الحال وملالها,
ودالة على أنها إنما تجشمتها لما عناها هناك وأهمها؛ فجعلوا تحمل ما في
ذلك على العلم بقوة الكلفة فيه دليلا على إحكام الأمر فيما هم عليه.
ووجه ما ذكرناه من ملالتها الإطالة -مع مجيئها بها للضرورة الداعية
إليها- أنهم لما أكدوا فقالوا: أجمعون, أكتعون, أبصعون, أبتعون, لم
يعيدوا أجمعون البتة فيكرروها فيقولوا: أجمعون, أجمعون, أجمعون,
أجمعون, فعدلوا عن إعادة جميع الحروف إلى البعض تحاميًا -مع الإطالة-
لتكرير الحروف كلها.
فإن قيل: فلم اقتصروا على إعادة العين وحدها, دون سائر حروف الكلمة
قيل: لأنها أقوى في السجعة من الحرفين اللذين قبلها وذلك أنها لام فهي
قافية لأنها آخر حروف الأصل فجيء بها؛ لأنها مقطع الأصول والعمل في
المبالغة والتكرير إنما هو على المقطع لا على المبدأ, ولا المحشى 4.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب، ج سقط هذا اللفظ.
2 من قصيدة له في مدح عمر بن عبد العزيز. وانظر الخزانة 4/ 110
والديوان 1/ 53.
3 كذا في ج. وفي أ: "لتبليغ"، وكتب فوقه "لتؤكد" ويبدو أن هذا تفسير
لتبلغ أو إشارة لنسخة أخرى. وفي ش، ب: "لتؤكد".
4 في ش: "ليخفف".
5 "المحشى": مكان الحشو. ويراد به وسط الكلمة.
(1/84)
ألا ترى أن العناية في الشعر إنما هي
بالقوافي لأنها المقاطع وفي السجع كمثل ذلك. نعم, وآخر السجعة والقافية
أشرف عندهم من أولها والعناية بها أمس والحشد عليها أوفى وأهم. وكذلك
كلما تطرف الحرف في القافية ازدادوا عناية به ومحافظة على حكمه.
ألا تعلم كيف استجاوزا الجمع بين الياء والواو ردفين نحو: سعيد, وعمود.
وكيف استكرهوا اجتماعهما وصلين نحو قوله: "الغراب1 الأسودو" مع قوله أو
"مغتدى" 1 وقوله في "غدى "1 وبقية قوافيها وعلة جواز اختلاف الردف وقبح
اختلاف الوصل هو حديث التقدم والتأخر لا غير. وقد أحكمنا هذا الموضع في
كتابنا المعرب -وهو تفسير قوافي أبي الحسن- بما أغنى عن إعادته هنا.
فلذلك جاءوا لما كرهوا إعادة جميع حروف أجمعين بقافيتها؛ وهي العين
لأنها أشهر حروفها إذ كانت مقطعًا لها. فأما الواو والنون فزائدتان لا
يعتدان2 لحذفهما في أجمع وجمع وأيضًا فلأن الواو قد تترك فيه إلى
الياء، نحو أجمعون وأجمعين. وأيضا لثبات النون وحذفها أخرى، في غير هذا
الموضع، فلذلك لم يعتدا مقطعا.
__________
1 من قصيدة النابغة التي أولها:
أمن آل مية رائح أو مغند ... عجلان ذا زاد وغير مزود
ويقوله فيها:
زعم البوارح أن رحلتنا غدا ... وبذاك خبرنا الغراب الأسود
لا مرحبا بغد ولا أهلا به ... إن كان تفريق الأحبة في غد
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "لا يعتد بحذفهما" وهذا غير ظاهر المعنى، وما
أثبته هو الصحيح، ويقرأ يعتدان بالبناء للمفعول، أي لا يحسبان؛ يقال:
عده واعتده في معنى واحد. ويقرأ أيضًا بالبناء للفاعل؛ يقال: عده
فاعتد. وفي ج: "ولم يعتدوا بالواو والنون لزيادتهما وسقوطهما في أجمع
وجمع" وهي ظاهرة.
(1/85)
فإن قلت: إن هذه النون إنما تحذف مع
الإضافة وهذه الأسماء التوابع نحو "أجمعين وبابه " مما لم تسمع إضافته
فالنون فيها ثابتة على كل حال فهلا اقتصر عليها, وقفيت الكلم كلها بها.
قيل: إنها1 وإن لم يضف هذا الضرب من الأسماء فإن إضافة هذا القبيل من
الكلم في غير هذا الموضع مطردة منقادة نحو: مسلموك وضاربو زيد وشاتمو
جعفر, فلما كان الأكثر فيما جمع بالواو والنون إنما هو جواز إضافته حمل
الأقل في ذلك عليه وألحق في الحكم به.
فأما قولهم: أخذ المال بأجمعه فليس أجمع هذا هو أجمع من قولهم: جاء
الجيش أجمع وأكلت الرغيف أجمع من قبل أن أجمع هذا الذي يؤكد به لا
يتنكر2 هو ولا ما يتبعه أبدًا نحو أكتع, وجميع هذا الباب, وإذا لم يجز
تنكيره كان من الإضافة أبعد إذ لا سبيل إلى إضافة اسم إلا بعد تنكيره
وتصوره كذلك. ولهذا لم يأت عنهم شيء من إضافة أسماء الإشارة ولا
الأسماء المضمرة إذ ليس فيها ما ينكر. ويؤكد ذلك عندك أنهم قد قالوا في
هذا المعنى: جاء القوم بأجمعهم بضم الميم فكما أن هذه غير تلك لا محالة
فكذلك المفتوحة الميم هي غير تلك. وهذا واضح.
وينبغي أن تكون "أجمع " هذه المضمومة العين3 جمعًا مكسرًا لا واحدًا
مفردًا من حيث كان هذا المثال مما يخص التكسير دون الإفراد وإذا كان
كذلك فيجب أن يعرف خبر واحده ما هو. فأقرب ذلك إليه أن يكون جمع "جمع"
من قول
__________
1 الضمير للقصة؛ على حد قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى
الْأَبْصَارُ} .
2 كذا في الأصول الخطية. وفي المطبوعة: "ينكر".
3 وهي الميم في هذه الكلمة.
(1/86)
الله سبحانه {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . ويجوز عندي أيضًا أن يكون جمع أجمع على حذف
الزيادة وعليه حمل أبو عبيدة قول الله تعالى {وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ} أنه جمع أشد, على حذف الزيادة. قال: وربما استكرهوا على حذف
هذه الزيادة في الواحد, وأنشد بيت عنترة 1:
عهدي به شد النهار ...
أي أشد النهار, ويعني أعلاه وأمتعه وذهب سيبويه في أشد هذه إلى أنها
جمع شدة كنعمة وأنعم. وذهب أبو عثمان2 فيما رويناه عن أحمد2 بن يحيى
عنه إلى أنه جمع لا واحد له.
ثم لنعد فنقول: إنهم إذا كانوا في حال إكثارهم وتوكيدهم مستوحشين منه
مصانعين3 عنه علم أنهم إلى الإيجاز أميل, وبه أعنى وفيه أرغب؛ ألا ترى
إلى ما في القرآن وفصيح الكلام: من كثرة الحذوف كحذف المضاف وحذف
الموصوف والاكتفاء بالقليل من الكثير كالواحد من الجماعة وكالتلويح من
التصريح. فهذا ونحوه -مما يطول إيراده وشرحه- مما يزيل الشك عنك في
رغبتهم فيما خف وأوجز عما طال وأملّ, وأنهم متى اضطروا إلى الإطالة
لداعي حاجة أبانوا عن ثقلها عليهم, واعتدوا بما كلفوه من ذلك أنفسهم
وجعلوه كالمنبهة على فرط عنايتهم وتمكن الموضع عندهم, وأنه ليس كغيره
مما ليست له حرمته ولا النفس معنية به.
__________
1 في المعلقة، وتتمته:
... ... ... كأنما ... خضب البنان ورأسه بالعظلم
2 أبو عثمان المازني، كانت وفاته سنة 249هـ وأحمد بن يحيى ثعلب وكانت
وفاته 291، ويقضي هذا النص أن ثعلبًا أخذ عن المازني. وجاء في سر
الصناعة في حرف الباء: "أخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى، قال:
قال أبو عثمان يعني المازني ... ", وأحمد بن يحيى الذي يروي عنه محمد
بن الحسن هو ثعلب بلا ريب.
3 المصانعة: المداراة. وقد ضمن "مصانعين" معنى النفور والبعد فعداه
بعن.
(1/87)
نعم, ولو لم يكن في الإطالة في بعض الأحوال
إلا الخروج إليها عما قد ألف ومل من الإيجاز لكان مقنعًا.
ألا ترى إلى كثرة غلبة الياء على الواو في عام الحال ثم مع هذا فقد
ملوا ذلك إلى أن قلبوا الياء واوًا قلبًا ساذجًا أو كالساذج لا لشيء
أكثر من الانتقال من حال إلى حال فإن المحبوب إذا كثر مُلّ, وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم 1: "يا أبا هريرة زر غبًّا تزدد حبًّا" ,
والطريق في هذا بحمد الله واضحة مهيع. وذلك الموضع الذي قلبت فيه الياء
واوًا على ما ذكرنا لام فَعْلى إذا كانت اسمًا من نحو: الفتوى والرعوى2
والثنوى2 والبقوى2 والتقوى والشروى2 والعوى "لهذا النجم ". وعلى ذلك أو
قريب منه قالوا: عوى الكلب عوة. وقالوا: الفتُوّة وهي من الياء وكذلك
النَّدُوّة3. وقالوا: هذا أمر ممضُوّ عليه وهي المضواء4, وإنما هي من
مضيت لا غير.
وقد جاء عنهم: رجل مهوب وبُرّ مكول5 ورجل مسور به6. فقياس هذا كله على
قول الخليل أن يكون مما قلبت فيه الياء واوًا؛ لأنه يعتقد أن المحذوف
من هذا ونحوه إنما هو واو مفعول لا عينه وأنسه بذلك قولهم: قد هوب,
وسور به وكول.
واعلم أنا -مع ما شرحنا وعنينا به فأوضحناه من ترجيح علل النحو على علل
الفقه, وإلحاقها بعلل الكلام- لا ندعي أنها تبلغ قدر علل المتكلمين ولا
عليها
__________
1 رواه الطبراني وغيره. وله أسانيد حسان، انظر شرح الجامع الصغير،
وقوله: "غبًّا" أي وقتا بعد وقت، وانتصابه على الظرف، وانتصاب "حبًّا"
على التمييز والتفسير، وانظر البلوي 151/ 2.
2 الرعوى: بمعنى المراعاة والحفظ. والثنوي: اسم من الاستثناء، والبقوى:
اسم بمعنى الإبقاء، والشروى: المثل. وقد جعل المؤلف الإبدال في هذا
الباب ساذجا أو كالساذج وإن كان للفرق بين الاسم والصفة لما كان غير
مبني على الاستثقال والاستخفاف الذي هو الأصل في حديث الإعلال.
3 من الندى، وهو ما يسقط بالليل من البلل.
4 المضواء "بضم الميم": التقدم.
5 هذه لغة بني أسد. ومكول مفعول من الكيل.
6 رجل مسور به. وكذا طريق مسور فيه، وهما من السير.
(1/88)
براهين المهندسين غير أنا نقول: إن علل
النحويين على ضربين: أحدهما واجب لا بد منه؛ لأن النفس لا تطيق في
معناه غيره. والآخر ما يمكن تحمله إلا أنه على تجشم واستكراه له.
الأول -وهو ما لا بد للطبع منه: قلب الألف واوًا للضمة قبلها, وياء
للكسرة قبلها. أما الواو فنحو قولك في سائر: سويئر وفي ضارب: ضويرب.
وأما الياء فنحو قولك في نحو تحقير قرطاس وتكسيره: قريطيس وقراطيس.
فهذا ونحوه مما لا بد منه؛ من قبل أنه ليس في القوة ولا احتمال الطبيعة
وقوع الألف المدة1 الساكنة بعد الكسرة ولا الضمة. فقلب الألف على هذا
الحد علته الكسرة والضمة قبلها. فهذه علة برهانية ولا لبس فيها ولا
توقف للنفس عنها. وليس كذلك قلب واو عصفور ونحوه ياء إذا انكسر ما
قبلها نحو: عصيفير وعصافير؛ ألا ترى أنه قد يمكنك تحمل المشقة في تصحيح
هذه الواو بعد الكسرة؛ وذلك بأن تقول عصيفور وعصافور. وكذلك نحو: موسر
وموقن وميزان وميعاد لو أكرهت نفسك على تصحيح أصلها لأطاعتك عليه
وأمكنتك منه وذلك قولك: موزان وموعاد وميسر وميقن. وكذلك ريح وقيل قد
كنت قادرًا أن تقول: قول وروح لكن مجيء الألف بعد الضمة أو الكسرة أو
السكون محال ومثله لا يكون. ومن المستحيل جمعك2 بين الألفين المدتين
نحو ما صار إليه قلب لام
__________
1 هذا القيد للاحتراز عن الألف اليابسة، وهي الهمزة، وقد يعبر عن الألف
المدة بالألف اللينة.
2 بعد أن ساق سيبويه مذهب يونس وناس من النحويين في توكيد المسند إلى
الاثنين أو نون النسوة بنون التوكيد الخفيفة فيقال عندهم: اضربان زيدا
واضربنان زيدا قال: "ويقولون في الوقف اضربا واضربنا فيمدون، وهو قياس
قولهم؛ لأنهما تصير ألفا فإذا اجتمعت ألفان مد الحرف، وترى سيبويه
يتصور اجتماع ألفين: وفي السيرافي أن الزجاج كان ينكر هذا. وسيشير
المؤلف إلى هذا في ص94، وانظر الكتاب 157/ 2.
(1/89)
كساء ونحوه قبل إبدال الألف همزة وهو خطا
كساا, أو قضاا, فهذا تتوهمه تقديرًا ولا تلفظ به البتة. قال أبو إسحاق
يومًا لخصم نازعه في جواز اجتماع الألفين المدتين -ومد الرجل الألف في
نحو هذا, وأطال- فقال له أبو إسحاق: لو مددتها إلى العصر ما كانت إلا
ألفًا واحدة.
وعلة امتناع ذلك عندي أنه قد ثبت أن الألف لا يكون ما قبلها إلا
مفتوحًا فلو التقت ألفان مدتان لانتقضت القضية في ذلك؛ ألا ترى أن
الألف الأولى قبل الثانية ساكنة وإذا كان ما قبل الثانية ساكنًا كان
ذلك نقضًا في الشرط لا محالة. فأما قول أبي العباس في إنشاد سيبويه 1:
دار لسعدى إذه من هواكا
إنه خرج من باب الخطأ إلى باب الإحالة؛ لأن الحرف الواحد لا يكون
ساكنًا متحركًا في حال2، فخطأ عندنا. وذلك أن الذي قال: " إذه من هواك
" هو الذي يقول في الوصل: هي قامت, فيسكن الياء، وهي لغة3 معروفة, فإذا
حذفها في الوصل اضطرارًا واحتاج إلى الوقف ردها حينئذ فقال: هي, فصار
الحرف المبدوء به غير الموقوف عليه فلم يجب من هذا أن يكون ساكنًا
متحركًا في حال وإنما كان قوله: " إذه" على لغة من أسكن الياء لا لغة
من حركها من قبل أن الحذف ضرب من الإعلال. والإعلال إلى السواكن لضعفها
أسبق منه إلى المتحركات لقوتها. وعلى هذا قبح قوله:
__________
1 انظر الكتاب 1/ 9.
2 يريد أن بقاء الضمير المنفصل على حرف واحد يعرضه للسكون عند الوقف
عليه والتحريك عند البدء به، وهو عرضة للبدء مع الوقف دائمًا؛ فمن هنا
جاءت الاستحالة التي زعمها المبرد. ويرد ابن جني على المبرد بأن الوقف
يقضي برد المحذوف؛ فيكون الوقف عليه وتسكينه، فأما الحرف الباقي فلا
يعرض له السكون.
3 هي لغة بعض بني أسد وقيس يقولون: هي فعلت؛ بإسكان الباء.
(1/90)
لم يك الحق سوى أن هاجه ... رسم دار قد
تعفى بالسرر1
لأنه موضع يتحرك فيه الحرف في نحو قولك: لم يكن الحق.
وعلة جواز هذا البيت ونحوه مما حذف فيه ما يقوى بالحركة, هي أن هذه
الحركة إنما هي لالتقاء2 الساكنين وأحداث التقائهما ملغاة غير معتدة
فكأن النون ساكنة وإن كانت لو أقرت لحركت, فإن لم تقل بهذا لزمك أن
تمتنع من إجماع العرب الحجازيين على قولهم: اردد الباب واصبب الماء
واسلل السيف. وأن تحتج3 في دفع ذلك بأن تقول: لا أجمع بين مثلين
متحركين. وهذا واضح.
ومن طريف حديث اجتماع السواكن شيء وإن كان في لغة العجم, فإن طريق الحس
موضع تتلاقى عليه طباع البشر, ويتحاكم إليه الأسود والأحمر, وذلك
قولهم: "آرد " للدقيق4 و "ماست " للبن4؛ فيجمعون بين ثلاثة سواكن. إلا
أنني لم أر ذلك إلا فيما كان ساكنه الأول5 ألفًا, وذلك أن الألف لما
قاربت بضعفها وخفائها الحركة صارت " ماستْ" كأنها مَسْت.
__________
1 هذا البيت لشاعر جاهلي، اسمه حسيل -بضم الحاء وفتح السين- بن عرفطة
وضمير "هاجه" عائد إلى العاشق في بيت قبله. و"وتعفى" أي الرسم، وفي
أكتب فوقه "تعفت" أي الدار، وهي رواية. والسرر -بفتحتين- اسم واد يدفع
من اليمامة إلى حضرموت. وانظر الخزانة ص72 ج4 ونوادر أبي زيد الأنصاري
ص77. وفيها "على" بدل "سوى". وبعد هذا البيت في ج:
غير الجدة من عرفانه ... خرق الريح وطوقان المطر
2 كذا في أ، ج، وفي ش: "لانتفاء".
3 في الأصول: "تجنح" وما أثبته أنسب لقوله: "بأن تقول".
4 سقطت هاتان العبارتان: "للدقيق" و"اللبن" في أ، وأثبتتا في ش، ب.
5 أورد الجاربردي في شرحه للشافية 151 مما اجتمع فيه ثلاث سواكن في
كلام العجم "كوشت وبيست", والساكن الأول فيهما ليس ألفا. وكرشت -بكاف
فارسية- اللحم، وبيست يقابل في العربية اسم العدد عشرين.
(1/91)
فإن قلت: فأجز على هذا الجمع بين الألفين
المدتين واعتقد أن الأولى منهما كالفتحة قبل الثانية.
قيل: هذا فاسد؛ وذلك أن الألف قبل السين في "ماست " إذا أنت استوفيتها
أدتك إلى شيء آخر غيرها مخالف لها, وتلك حال الحركة قبل الحرف: أن يكون
بينهما فرق ما1، ولو تجشمت نحو ذلك في جمعك في اللفظ بين ألفين مدتين,
نحو كساا, وحمراا, لكان مضافًا إلى اجتماع ساكنين أنك خرجت من الألف
إلى ألف مثلها وعلى سمتها, والحركة لا بد لها أن تكون مخالفة للحرف
بعدها, هذا مع انتقاض القضية في سكون ما قبل الألف الثانية.
ورأيت مع هذا أبا علي -رحمه الله- كغير المستوحش من الابتداء بالساكن
في كلام العجم. ولعمري إنه لم يصرح بإجازته لكنه لم يتشدد فيه تشدده في
إفساد إجازة ابتداء العرب بالساكن. قال: وذلك أن العرب قد امتنعت من
الابتداء بما يقارب حال الساكن, وإن كان في الحقيقة متحركًا يعني همزة
بين بين. قال: فإذا كان بعض المتحرك لمضارعته الساكن لا يمكن الابتداء
به فما الظن بالساكن نفسه! قال: وإنما خفي حال هذا في اللغة العجمية
لما فيها من الزمزمة2، يريد أنها لما كثر ذلك فيها ضعفت حركاتها وخفيت.
وأما أنا فأسمعهم3 كثيرًا إذا أرادوا المفتاح قالوا: "كليد " فإن لم
تبلغ الكاف أن تكون
__________
1 ثبت هذا اللفظ في أ، ج، وسقط في ش، ب.
2 الزمزمة: كلام المجوس عند أكلهم، يتراطنون وهم صموت لا يستعملون
اللسان ولا الشقة إنما هو صوت يديرونه في خياشيمهم وحلوقهم فيفهم بعضهم
عن بعض, وفي الحديث أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى أحد عماله في أمر
المجوس أن ينهاهم عن الزمزمة.
3 أي الفرس ومن يتكلم بلسانهم.
(1/92)
ساكنة, فإن حركتها جد مضعفة, حتى إنها
ليخفى حالها عليّ, فلا أدري أفتحة هي أم كسرة, وقد تأملت ذلك طويلا فلم
أحل1 منه بطائل.
وحدثني أبو علي رحمه الله قال: دخلت "هيتا "2 وأنا أريد الانحدار منها
إلى بغداد فسمعت أهلها ينطقون بفتحة غريبة لم أسمعها قبل؛ فعجبت منها
وأقمنا هناك أيامًا, إلى أن صلح الطريق للمسير, فإذا أنني قد تكلمت مع
القوم بها, وأظنه قال لي: إنني لما بعدت عنهم أنسيتها.
ومما نحن بسبيله مذهب3 يونس في إلحاقه النون الخفيفة للتوكيد في
التثنية, وجماعة النساء, وجمعه بين ساكنين في الوصل, نحو قوله: اضربان
زيدًا, واضربنان عمرًا, وليس ذلك -وإن كان في الإدراج- بالممتنع في
الحس, وإن كان غيره أسوغ فيه منه4، من قبل أن الألف إذا أشبع مدها صار
ذلك كالحركة فيها ألا ترى إلى اطراد نحو: شابة, ودابة, وادهامت,
والضالين.
فإن قلت: فإن الحرف لما كان مدغمًا خفى, فنبا اللسان عنه وعن الآخر
بعده نبوة واحدة, فجريا لذلك مجرى الحرف الواحد وليست كذلك نون اضربان
زيدًا, وأكرمنان جعفرًا, قيل: فالنون الساكنة أيضًا حرف خفي فجرت لذلك
نحوًا من الحرف المدغم وقد قرأ نافع: "مَحْيَايْ وَمَمَاتِي" بسكون
الياء من "مَحْيَايَ" وذلك لما نحن عليه من حديث الخفاء والياء
المتحركة إذا وقعت بعد الألف احتيج لها إلى فضل اعتماد وإبانة وذلك قول
الله تعالى {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} ولذلك يحض المبتدئون
والمتلقنون على إبانة هذه الياء لوقوعها بعد الألف، فإذا
__________
1 لم أحل منه بطائل: لم أظفر ولم أستفد منه كبير فائدة.
2 هي بلدة على الفرات من نواحي بغداد، ذات نخل كثير وخيرات واسعة.
3 انظر الكتاب 157 ج2.
4 كذا في أ، ب، وفي ش: "منه فيه".
(1/93)
كانت من الخفاء على ما ذكرنا وهي متحركة
ازدادت خفاء بالسكون نحو محياي فأشبهت حينئذ الحرف المدغم. ونحو من ذلك
ما يحكى عنهم من قولهم: "التقت حلقتا البطان " بإثبات الألف ساكنة في
اللفظ قبل اللام, وكأن ذلك إنما جاز ههنا لمضارعة اللام1 النون؛ ألا
ترى أن في مقطع اللام غنة كالنون وهي أيضًا تقرب من الياء حتى يجعلها
بعضهم في اللفظ ياء, فحملت اللام في هذا على النون كما حملت أيضًا
عليها في لعلي, ألا تراهم كيف كرهوا النون من لعلني مع اللام, كما
كرهوا النون في إنني وعلى ذلك قالوا: هذا بِلْوُسَفَر وبِلْىُ سفرٍ2,
فأبدلوا الواو ياء لضعف حجز اللام كما أبدلوها "في قِنْية " ياء لضعف
حجز النون, وكأن "قنية " -وهي عندنا من "قنوت " - و "بِلْيًا " أشبه من
عِذى3 وصبيان, لأنه لا غنة في الذال والباء 4. ومثل "بِلى " قولهم:
فلان من عِلْيَه الناس, وناقة عِلْيَان 5. فأما إبدال يونس هذه النون
في الوقف ألفًا وجمعه بين ألفين في اضرباا, واضربناا, فهو الضعيف
المستكره الذي أباه أبو إسحاق وقال فيه ما قال6.
ومن الأمر الطبيعي الذي لا بد منه ولا وَعْىَ7 عنه, أن يلتقي الحرفان
الصحيحان فيسكن الأول منهما في الإدراج فلا يكون حينئذ بد من الإدغام،
__________
1 أي فأشبه اجتماع الساكنين في "حلقتا البطان" اجتماعهما في اضربان على
رأي يونس.
2 هكذا بتقديم الواوي على اليائي في أ، ج. وفي ش، ب بتقديم اليائي.
وبلو سفر، وبلى سفر: بلاء السفر والتجارب وحنكته مداورة الشئون.
3 العذى: الزرع لا يسقى إلا من ماء المطر لبعده عن الياء والعيون، وقد
جعل ابن جني الياء فيه مبدلة من الواو، وهذا رأي في اللغة، ويرى بعضهم
كصاحب القاموس أن الياء أصلية فيه.
4 هكذا بالياء الموحدة كما في أ، ب. وفي ش والمطبوعة "بالياء" وهو
تصحيف، والمراد الذال في عذى والباء في صبيان.
5 يقال: ناقة عليان أي مشرفة، وصوت عليان: جهير.
6 انظر ص90 من هذا الكتاب.
7 يقال: لا وعى لي عن هذا الأمر؛ أي لا بد لي منه.
(1/94)
متصلين كانا أو منفصلين. فالمتصلان نحو
قولك: شد وصب وحل فالادّغام واجب لا محالة ولا يوجدك اللفظ به بدًّا
منه. والمنفصلان نحو قولك: خذ ذاك ودع عامرا. فإن قلت: فقد أقدر أن
أقول: شدد وحلل فلا أدغم, قيل: متى تجشمت ذلك وقفت على الحرف الأول
وقفة ما وكلامنا إنما هو على الوصل. فأما قراءة عاصم: "وقيل من راق "
ببيان النون من "من " فمعيب في الإعراب, معيف في الأسماع وذلك أن النون
الساكنة لا توقف في وجوب ادّغامها في الراء نحو: من رأيت ومن رآك فإن
كان ارتكب ذلك ووقف على النون صحيحة غير مدّغمة, لينبه به على انفصال
المبتدأ من خبره فغير مرضي أيضًا ألا ترى إلى قول عدي 2:
من رأيت المنون عرين أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير3
بإدغام نون "من " في راء رأيت. ويكفي من هذا إجماع الجماعة على ادّغام
{مَنْ رَاقٍ} وغيره مما تلك سبيله. وعاصم في هذا مناقض لمن قرأ: "فإذا
هيتلقف " 4, بإدغام تاء تلقف. وهذا عندي يدل على شدة اتصال المبتدأ
بخبره فإذا صارا معًا ههنا كالجزء الواحد فجرى " هيت " في اللفظ مجرى
خدب وهجف ولولا أن الأمر كذلك للزمك أن تقدر الابتداء بالساكن, أعني
تاء المضارعة من " تتلقف ". فاعرف ذلك. وأما المعتلان فإن كانا مدين
منفصلين فالبيان لا غير, نحو: في يده وذو وفرة،
__________
1 كذا في ش. وفي أ، ب: "الاستماع"، وقد كان خيرا لابن جني أن ينزه
لسانه عن الوقوع في القراءة الصحيحة المتواترة عن الرسول -عليه الصلاة
والسلام- وغاب عنه أن عاصمًا -وتبعه حفص- يسكت على "من" سكتة لطيفة ثم
يبتدئ "راق" وعلى ذلك فلا سبيل إلى الإدغام، وهذه السكتة قصد بها دفع
اللبس وألا يتوهم أن "من راق" هي مرّاق فعال من مرق, وانظر النشر 1/
419 طبعة دمشق، والآلوسي والقرطبي في تفسير سورة القيامة.
2 يريد عدي بن زيد، وانظر القصيدة في الأغاني ص128 ج2 طبعة الدار.
3 عرين: أي تركن وأهملن؛ تقول: عربت الشيء خليته وأهملته. وفي اللسان
في "منن": "عزين" في مكان "عرين"، وفي رواية الأغاني مكانهما: خلدن.
4 هو البزي كما في البحر المحيط ص363 ج4. ويريد قوله تعالى:
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ
تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} آية 117 سورة الأعراف.
(1/95)
وإن كانا متصلين ادّغما نحو: مرضية ومدعوة
فإن كان الأول غير لازم فك في المتصل أيضًا نحو قوله:
بان الخليط ولو طووعت ما بانا1
وقول العجاج:
وفاحم دووى حتى اعلنكسا2
ألا ترى أن الأصل داويت وطاوعت فالحرف الأول إذًا ليس لازمًا. فإن كانا
بعد الفتحة ادغما لا غير متصلين ومنفصلين وذلك نحو: قو وجو وحي وعي
ومصطفو واقد وغلامي ياسر؛ وهذا ظاهر.
فهذا ونحوه طريق ما لا بد منه؛ "وما لا يجري مجرى التحيز إليه والتخير
له"3.
وما منه بد هو الأكثر وعليه اعتماد القول وفيه يطول السؤال والخوض وقد
تقدم صدر منه ونحن نغترق4 في آتي الأبواب جميعه ولا قوة إلا بالله فأما
إن استوفينا في الباب الواحد كل ما يتصل به -على تزاحم هذا الشأن
وتقاود بعضه مع بعض- اضطرت الحال إلى إعادة كثير منه وتكريره في
الأبواب المضاهية لبابه وسترى ذلك مشروحًا بحسب ما يعين الله عليه
وينهض به.
__________
1 هذا مطلع قصيدة لجرير. وبقية البيت:
وقطعوا من حبال الوصل أقرانا
2 الذي في ديوان العجاج 31: "يفاحم". وهو متعلق بقوله قبل:
أزمان غراء تروق العنسا
3 زيادة في ش، ج.
4 أي نستوعب. والاغتراق والاستغراق معناهما واحد.
(1/96)
باب القول على
الاطراد والشذوذ:
أصل مواضع "ط ر د " في كلامهم التتابع والاستمرار. من ذلك طردت الطريدة
إذ اتبعتها واستمرت بين يديك ومنه مطاردة الفرسان بعضهم بعضًا ألا ترى
أن هناك كرًّا وفرًّا فكل يطرد صاحبه. ومنه المطرد: رمح قصير يطرد به
الوحش واطرد الجدول إذا تتابع ماؤه بالريح. أنشدني بعض أصحابنا
لأعرابي:
مالك لا تذكر أو تزور ... بيضاء بين حاجبيها نور
تمشي كما يطرد الغدير
ومنه بيت الأنصاري 1:
أتعرف رسمًا كاطراد المذاهب
أي كتتابع المذاهب وهي جمع مذهب وعليه قول الآخر 2:
سيكفيك الإله ومسنمات ... كجندل لبن تطرد الصلالا
أي تتابع إلى الأرضين الممطورة لتشرب منها, فهي تسرع وتستمر إليها.
وعليه بقية الباب.
وأما مواضع "ش ذ ذ" في كلامهم فهو التفرق التفرد؛ من ذلك قوله:
يتركن شذان3 الحصى جوافلا
__________
1 الأنصاري: هو قيس بن الخطيم. والمذاهب. جلود مذهبة بخطوط يرى بعضها
في أثر بعض. وبقية البيت:
لعمرة وحشا غير موقف راكب
وانظر اللسان في ذهب وطرد، والديوان 10، وجمهرة أشعار العرب في
المذهبات.
2 هو الراعي يصف الإبل واتباعها مواضع المطر. فالمسمات، الإبل ولين:
يريد لبنى، وهو واد حوله هضب كثير شبه به الإبل. وقوله تطرد الصلال أي
تتابع إليها فحذف الجار وأوصل الفعل والصلال جمع صلة وهي مواقع المطر
فيها نبات فالأبل ترعاها، انظر اللسان في طرد وصلل، والمخصص 209/ 10.
3 شذان "بفتح الشين", وهو وصف على فعلان على أنسب بقوله "جوافلا" أن
يقرأ: شذان بضم الشين جمعًا.
(1/97)
أي ما تطاير وتهافت منه. وشذ الشيء يشِذ
ويشُذ شذوذًا وشذًّا وأشذذته أنا, وشذذته أيضًا أشذه "بالضم لا غير"
وأباها الأصمعي وقال: لا أعرف إلا شاذًّا أي متفرقًا. وجمع شاذّ شذّاذ
قال:
كبعض من مر من الشذاذ
هذا أصل هذين الأصلين في اللغة. ثم قيل ذلك في الكلام والأصوات على
سمته وطريقه في غيرهما فجعل أهل علم العرب ما استمر من الكلام في
الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مطردًا وجعلوا ما فارق ما عليه بقية
بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذًا حملًا لهذين الموضعين على أحكام
غيرهما.
ثم اعلم من بعد هذا أن الكلام في الاطراد والشذوذ على أربعة أضرب: مطرد
في القياس والاستعمال جميعًا وهذا هو الغاية المطلوبة والمثابة المنوبة
وذلك نحو: قام زيد وضربت عمرًا ومررت بسعيد.
ومطرد في القياس شاذ في الاستعمال. وذلك نحو الماضي من: يدر ويدع.
وكذلك قولهم "مكان مبقل " هذا هو القياس, والأكثر في السماع باقل,
والأول مسموع أيضًا؛ قال أبو داود لابنه داود:"يا بني ما أعاشك بعدي؟ "
فقال دواد:
أعاشني بعدك واد مبقل ... آكل من حوذانه2 وأنسل
وقد حكى أيضًا أبو زيد في كتاب "حيلة ومحالة"3: مكان مبقل. ومما يقوى
في القياس يضعف في الاستعمال مفعول4 عسى اسمًا صريحًا نحو قولك: عسى
زيد
__________
1 يريد أنه أنكر "شذ" متعديا ولا يعرفها إلا فعلا لازما في معنى تفرق
لا في معنى فرق.
2 الحوذان. اسم ثبت. وأنسل. يروى بفتح الهمزة؛ ومعناه أسمن حتى يسقط
الشعر. ويروى بضمها؛ ومعناه تنسل إبلي وغنمي. وانظر اللسان في "نسل
وبقل".
3 انظر معجم الأدباء 1/ 216 طبع مطبعة الحلبي.
4 في ش: "استعمال مفعول", وكذا العبارة في المزهر. وهو يريد بمفعول عسى
خبرها.
(1/98)
قائمًا أو قيامًا1 هذا هو القياس غير أن
السماع ورد بحظره والاقتصار على ترك استعمال الاسم ههنا وذلك قولهم:
عسى زيد أن يقوم و {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} . وقد
جاء عنهم شيء من الأول أنشدنا أبو علي:
أكثرت في العذل ملحًا دائما ... لا تعذلا إني عسيت صائما2
ومنه المثل السائر: " عسى الغوير أبؤسًا ".
والثالث المطرد في الاستعمال الشاذ في القياس نحو قولهم: أخوص3 الرمث,
واستصوبت الأمر. أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال:
يقال استصوبت الشيء ولا يقال: استصبت الشيء. ومنه استحوذ وأغيلت4
المرأة واستنوق الجمل واستتيست الشاة وقول زهير:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا5
ومنه استفيل6 الجمل؛ قال أبو النجم:
يدير عيني مصعب مستقيل7
والرابع الشاذ في القياس والاستعمال جميعًا. وهو كتتميم مفعول فيما
عينه واو نحو: ثوب مصوون, ومسك مدووف 8. وحكى البغداديون: فرس مقوود،
__________
1 كذا، ولا يعرف هذا، فإن المعنى لا يخبر به من الذات إلا يتأول.
2 رسم "تعذلا" بألف في مكان نون التوكيد الخفيفة وفقا لما في أ، وفي
بقية الأصول بالنون.
3 الرمث: شجر ترعاه الإبل، وإخواصه أن يبدو فيه ودق ناعم كأنه خوصة.
4 يقال: أغيلت المرأة ولدها إذا أرضعته وهي حامل.
5 عجز هذا البيت:
وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
واستخوال المال أن يسأل ناقة عارية للبنها وأوبارها أو فرسًا للغزو
عليها، وإخواله: إعطاؤه. ويروى يستخبلوا ... يخبلوا. وانظر اللسان
"خبل".
6 استفيل الجمل: صار كالفيل.
7 هذا في وصف فحل إبل. والمصعب: الذي لم يذلل. وهذا من أرجوزته الطويلة
التي أولها:
الحمد لله الوهوب المجزل
وانظرها بتمامها في الطرائف الأدبية.
8 أي مخلوط أو مبلول، ومن شواهد ذلك قوله: والمسك في عنبره مدووف.
وانظر اللسان "داف".
(1/99)
ورجل معوود من مرضه. وكل ذلك شاذ في القياس
والاستعمال. فلا يسوغ القياس عليه ولا رد غيره إليه. "ولا يحسن أيضًا
استعماله فيما استعملته فيه إلا على وجه الحكاية "1.
واعلم أن الشيء إذا اطرد في الاستعمال وشذ عن القياس فلا بد من اتباع
السمع الوارد به فيه نفسه لكنه لا يتخذ أصلًا يقاس عليه غيره. ألا ترى
أنك إذا سمعت: استحوذ واستصوب أديتهما بحالهما ولم تتجاوز ما ورد به
السمع فيهما إلى غيرهما. ألا تراك لا تقول في استقام: استقوم ولا في
استساغ: استسوغ ولا في استباع: استبيع ولا في أعاد: أعود لو لم تسمع
شيئًا من ذلك قياسًا على قولهم: أخوص الرمث. فإن كان الشيء شاذًا في
السماع مطردًا في القياس تحاميت ما تحامت العرب من ذلك وجريت في نظيره
على الواجب في أمثاله. من ذلك امتناعك من: وذر وودع لأنهم لم يقولوهما
ولا غرو "عليك"2 أن تستعمل نظيرهما نحو: وزن ووعد لو لم تسمعهما. فأما
قول أبي الأسود:
ليت شعري عن خليلي ما الذي ... غاله في الحب حتى ودعه
فشاذ. وكذلك قراءة بعضهم {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . فأما
قولهم: ودع الشيء يدع -إذا سكن- فاتدع، فمسموع متبه، وعيه أنشد بيت
الفرزدق:
وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف3
فمعنى "لم يدع " -بكسر الدال- أي لم يتدع ولم يثبت والجملة بعد "زمان "
في موضع جر لكونها صفة له والعائد منها إليه محذوف للعلم بموضعه
وتقديره: لم يدع فيه
__________
1 ما بين القوسين زيادة من ج.
2 زيادة من أ.
3 انظر الخزانة ص349 ج2، والرواية التي أوردها ابن جني هنا رواها أبو
عبيدة، ورواها ابن الأنباري في شرح المفضليات في قصيدة سويد بن أبي
كاهل اليشكري. انظر الشرح 396.
(1/100)
أو لأجله من المال إلا مسحت أو مجلف فيرتفع
"مسحت " بفعله و "مجلف " عطف عليه وهذا أمر ظاهر ليس فيه من الاعتذار
والاعتلال ما في الرواية الأخرى 1. ويحكى عن معاوية2 أنه قال: خير
المجالس ما سافر فيه البصر واتدع فيه البدن. ومن ذلك استعمالك " أن"
بعد كاد نحو: كاد زيد أن يقوم هو قليل شاذ في الاستعمال وإن لم يكن
قبيحًا ولا مأبيًا في القياس. ومن ذلك قول العرب: أقائم أخواك أم
قاعدان هذا كلامها. قال أبو عثمان: والقياس يوجب أن تقول: أقائم أخواك
أم قاعدهما؟ 3 إلا أن العرب لا تقوله إلا قاعدان فتصل4 الضمير والقياس
يوجب فصله ليعادل الجملة الأولى
__________
1 هي "يدع مسحتا" بفتح دال يدع، ونصب مسحتا، وخرجت على أن المراد: أو
هو مجلف.
2 في نوادر القالي 215 عزو هذا إلى الأحنف بن قيس، وقد قيل له: أي
المجالس أطيب؟
3 لأنه معطوف على الوصف المستغني بمرفوعه عن الخبر، وإنما يكون مرفوعه
اسما ظاهرًا، أو ضميرًا منفصلا وابن هشام يرى أنه ليس له فاعل ظاهر ولا
ضمير منفصل بل استغنى بالمستتر على خلاف القياس، وكأنه يغتفر في
الثواني ما لا يغتفر في غيرها، ويرى غيره أن "أم" هنا منقطعة،
والتقدير: أم هما قاعدان راجع الصبان على الأشموني في مبحث الابتداء.
4 يريد الضمير المستتر في قاعدان، فإنه نوع من المتصل.
5 كذا في أ، وفي ش، ب: "الأخرى".
(1/101)
باب في تقاود1 السماع وتقارع الانتزاع:
هذا الموضع كأنه أصل الخلاف الشاجر بين النحويين. وسنفرد له بابًا. غير
أنا نقدم2 ها هنا ما كان لائقًا به ومقدمة للقول من بعده. وذلك على
أضرب: فمنها أن يكثر الشيء فيسئل عن علته كرفع الفاعل ونصب المفعول,
فيذهب قوم إلى شيء ويذهب آخرون إلى غيره. فقد وجب إذًا تأمل القولين
__________
1 تفاود السماع: اطراده في شيء، وعدم اختلافه فيه، كرفع الفاعل: اتفق
السماع فيه وتقارع الانتزاع تخالفه وتعايره، من قولهم: تقارع القوم:
تضاربوا بالسيوف والانتزاع الاستنباط.
2 كذا في ب، ج، وفي أ: "أننا".
(1/101)
واعتماد أقواهما, ورفض صاحبه 1. فإن تساويا
في القوة لم ينكر اعتقادهما جميعًا, فقد يكون الحكم الواحد معلولا
بعلتين. وستفرد لذلك بابًا. وعلى هذا معظم قوانين العربية. وأمره واضح,
فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه 2.
ومنها أن يسمح الشيء, فيستدل به من وجه على تصحيح شيء أو إفساد3 غيره،
ويستدل به من وجه آخر على شيء غير الأول. وذلك كقولك: ضربتك وأكرمته
ونحو ذلك مما يتصل فيه الضمير المنصوب بالضمير قبله المرفوع. فهذا موضع
يمكن أن يستدل اتصال الفعل بفاعله.
ووجه الدلالة منه على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن الكاف في نحو ضربتك من
الضمير المتصل كما أن الكاف في نحو ضربك زيد كذلك ونحن نرى الكاف في
ضربتك لم تباشر نفس الفعل كما باشرته في نحو ضربك زيد وإنما باشرت
الفاعل الذي هو التاء فلولا أن الفاعل قد مزج بالفعل وصيغ معه حتى صار
جزأ من جملته لما كانت الكاف من الضمير المتصل ولاعتدت لذلك منفصلة لا
متصلة. لكنهم أجروا التاء التي هي ضمير الفاعل في نحو ضربتك -وإن لم
تكن من نفس حروف الفعل- مجرى نون التوكيد التي يبنى الفعل عليها ويضم
إليها في نحو لأضربنك. فكما أن الكاف في نحو هذا معتدة من الضمير
المتصل وإن لم تل نفس الفعل كذلك الكاف في نحو ضربتك ضمير متصل وإن لم
تل نفس الفعل.
فهذا وجه الاستدلال بهذه المسألة ونحوها على شدة اتصال الفعل بفاعله
وتصحيح القول بذلك.
__________
1 يريد بصاحبه الرأي الأضعف جعله صاحب الأقوى؛ لأنه يقرن معه: إذ كان
ضده ومقابله, وفي ج: "رفض الآخر".
2 كذا في أ، وسقط في ش، ب.
3 كذا في أ، ج. وفي ش، ب، والمطبوعة: "فساد".
(1/102)
وأما وجه إفساده شيئًا آخر فمن قبل أن فيه
ردًّا على من قال: إن المفعول إنما نصبه الفاعل1 وحده لا الفعل1 وحده
ولا الفعل1 والفاعل جميعًا.
وطريق الاستدلال بذلك أنا قد علمنا أنهم إنما يعنون بقولهم: الضمير
المتصل: أنه متصل بالعامل2 فيه لا محالة ألا تراهم يقولون: إن الهاء في
نحو مررت به ونزلت عليه ضمير متصل أي متصل بما عمل فيه وهو الجار وليس
لك أن تقول: إنه متصل بالفعل لأن الباء3 كأنها جزء من الفعل من حيث
كانت معاقبة لأحد أجزائه المصوغة فيه وهي همزة أفعل وذلك نحو أنزلته
ونزلت به وأدخلته ودخلت به وأخرجته وخرجت به لأمرين 4:
أحدهما أنك إن اعتددت الباء لما ذكرت كأنها بعض الفعل فإن هنا دليلًا
آخر يدل على أنها كبعض الاسم ألا ترى أنك تحكم عليها وعلى ما جرته
بأنهما جميعًا في موضع نصب بالفعل حتى إنك لتجيز5 العطف عليهما جميعًا
بالنصب نحو قولك: مررت بك وزيدًا ونزلت عليه وجعفرًا فإذا كان هنا
أمران أحدهما6 على حكم والآخر على ضده وتعارضا هذا التعارض ترافعا7
أحكامهما وثبت أن الكاف في نحو
__________
1 الذي قال: إن المفعول نصبه الفاعل وحده هو هشام بن معاوية من أعيان
أصحاب الكسائي، وكانت وفاته سنة 209هـ: وانظر البغية 409. وذهب جمهور
الكوفيين إلى أن العامل فيه الفعل والفاعل جميعًا، ويرى البصريون أن
العامل فيه الفعل أو ما حمل عليه، وانظر الإنصاف. وشرح الرضي على
الكافية 1/ 21، والهمع 1/ 165.
2 في أ: "بالفاعل".
3 متعلق بقوله، "متصل" وهو المنفي.
4 متعلق بقوله: "ليس لك ... " فهو متعلق بالنفي.
5 هذا رأي ابن جني، ومحققو النحاة لا يجيزون ذلك؛ فإن من شرط العطف على
المحل عندهم ظهور الإعراب المحل في الفصيح، نحو: ليس زيد بقائم ولا
قاعدا. وانظر المغني في أقسام العطف في الباب الرابع.
6 أي أحدهما يدل على حكم، فالخبر محذوف وهو يدل. ويبدو أن "يدل" سقطت
من النساخ.
7 أي رفع كل منهما حكم الآخر وأزاله. وهذا كما يقول الجدليون: إذا
تعارض الشيئان تساقطا وفي ج: "وإذا تعارض الدليلان تمانعا"، وانظر فما
يجيء الباب المعقود لترافع الأحكام.
(1/103)
مررت بك متصلة بنفس الباء, لأنها هي
العاملة فيها. وكذلك الهاء في نحو إنه أخوك وكأنه صاحبك, وكأنه جعفر:
هي1 ضمير متصل, أي متصل بالعامل فيه وهذا واضح.
والآخر إطباق النحويين على أن يقولوا في نحو هذا: إن الضمير قد خرج عن
الفعل وانفصل من الفعل وهذا تصريح منهم بأنه متصل أي متصل بالباء
العاملة فيه فلو كانت التاء في ضربتك هي العاملة في الكاف لفسد ذلك من
قبل أن أصل عمل النصب إنما هو للفعل وغيره من النواصب مشبه في ذلك
بالفعل والضمير بالإجماع أبعد شيء عن الفعل من حيث كان الفعل موغلا في
التنكير والاسم المضمر متناه في التعريف. بل إذا لم يعمل الضمير في
الظرف ولا في الحال -وهما مما تعمل فيه المعاني2- كان الضمير من نصب
المفعول به أبعد وفي التقصير عن الوصول إليه أفعد. وأيضًا فإنك تقول:
زيد ضرب عمرًا والفاعل مضمر في نفسك لا موجود في لفظك، فإذا لم يعمل
المضمر ملفوظًا به كان ألا يعمل غير ملفوظ به أحرى وأجدر.
وأما الاستدلال بنحو ضربتك على شيء غير الموضعين المتقدمين فأن يقول
قائل: إن الكاف في نحو ضربتك منصوبة بالفعل والفاعل جميعًا ويقول: إنه
متصل بهما كاتصاله بالعامل فيه في نحو إنك قائم ونظيره. وهذا أيضًا وإن
كان قد ذهب إليه هشام3 فإنه عندنا فاسد من أوجه 4:
__________
1 سقط هذا اللفظ في ش.
2 يراد بالمعنى ما فيه معنى الفعل، وهو ما يستنبط منه معنى الفعل ولا
يكون من صيغته؛ كحرف التنبيه واسم الإشارة. انظر شرح الرضى للكافية 2/
201، والكتاب 1/ 247.
3 ما نسبه إلى هشام نسبه غيره إلى الكوفيين، وينسبه بعضهم إلى الفراء
منهم، فأما هشام فهو صاحب القول بأن العامل هو للفاعل وحده، وانظر ما
كتبته آنفا.
4 انظر في إفساد هذا القول الإنصاف 40.
(1/104)
أحدها أنه قد صح ووضح أن الفعل والفاعل قد
تنزلا باثني عشر دليلًا منزلة الجزء الواحد فالعمل إذًا إنما هو للفعل
وحده واتصل به الفاعل فصار جزأ منه كما صارت النون في نحو لتضربن زيدًا
كالجزء منه حتى خلط بها وبني معها. ومنها أن الفعل والفاعل إنما هو
معنى والمعاني لا تعمل في المفعول به إنما تعمل في الظروف.
ومن ذلك أن تستدل بقول ضيغم1 الأسدي:
إذا هو لم يخفني في ابن عمي ... وإن لم ألقه الرجل الظلوم
على جواز ارتفاع الاسم بعد إذا الزمانية بالابتداء ألا ترى أن "هو " من
قوله "إذا هو لم يخفني " ضمير2 الشأن والحديث وأنه مرفوع لا محالة. فلا
يخلو رفعه من أن يكون بالابتداء كما قلنا أو بفعل مضمر. فيفسد أن يكون
مرفوعًا بفعل مضمر لأن ذلك المضمر لا دليل عليه ولا تفسير له وما كانت
هذه سبيله3 لم يجز إضماره.
فإن قلت: فلم لا يكون قوله "لم يخفني في ابن عمي الرجل الظلوم "
تفسيرًا للفعل الرافع لـ "هو " كقولك: إذا زيد لم يلقني غلامه فعلت كذا
فترفع زيدًا بفعل مضمر يكون ما بعده تفسيرًا له.
قيل: هذا فاسد من موضعين: أحدهما أنا لم نر هذا الضمير4 على شريطة
التفسير عاملا فيه فعل محتاج إلى تفسير. فإذا أدى هذا القول إلى ما لا
نظير له،
__________
1 في مستدرك التاج "ضغم": "وضيغم الأسدي شاعر، قاله ابن جني".
2 بنى ابن جني هذا الكلام على أن الضمير ضمير الشأن والحديث، كما ترى
ولا يلزم المصير إلى ما رأى فقد يجوز أن يكون الضمير "هو" راجعا إلى
محدث عنه في الكلام السابق، وأبدل منه "الرجل الظلوم", و"هو" فاعل لفعل
يغمره "لم يخفني" أي أمن.
3 في ش "حاله".
4 يريد ضمير الشأن والحديث.
(1/105)
وجب رفضه واطراح الذهاب إليه. والآخر أن
قولك "لم يخفني الرجل الظلوم " إنما هو تفسير لـ "هو " من حيث كان ضمير
الشأن والقصة لا بد له أن تفسره الجملة نحو قول الله عز وجل: {قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقولنا {اللَّهُ أَحَدٌ} تفسير لـ"هو ". وكذلك
قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} فقولك: {لَا
تَعْمَى الْأَبْصَارُ} تفسير لـ "ها " من قولك: فإنها من حيث كانت ضمير
القصة. فكذلك قوله: "لم يخفني الرجل الظلوم " إنما هذه الجملة تفسير لـ
"هو ". فإذا ثبت أن هذه الجملة إنما هي تفسير لنفس الاسم المضمر بقي
ذلك الفعل المضمر لا دليل عليه وإذا لم يقم عليه دليل بطل إضماره لما
في ذلك من تكليف علم الغيب. وليس كذلك " إذا زيد قام أكرمتك" ونحوه من
قبل أن زيدًا تام1 غير محتاج إلى تفسير. فإذا لم يكن محتاجًا إليه صارت
الجملة بعده تفسيرًا للفعل الرافع له لا له نفسه.
فإذا ثبت بما أوردناه ما أردناه علمت وتحققت أن "هو " من قوله "إذا هو
لم يخفني الرجل الظلوم " مرفوع بالابتداء لا بفعل مضمر.
وفي هذا البيت تقوية لمذهب أبي الحسن في إجازته الرفع2 بعد إذا
الزمانية بالابتداء في نحو قوله تعالى {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} .
ومعنا3 ما يشهد لقوله هذا: شيء غير هذا غير أنه ليس ذلك غرضنا هنا إنما
الغرض إعلامنا أن في البيت دلالة على صحة مذهب أبي الحسن هذا. فهذا وجه
صحيح يمكن أن يستنبط من بيت ضيغم الذي أنشدناه.
__________
1 كذا في ش، ب وهو الصواب. وفي أوالمطبوعة: قام. وهو تحريف. وفي ج: "من
قبل أن زيدا غير محتاج إلى تفسير".
2 كذا في ج، وفي سائر الأصول: "رفع زيد".
3 كذا في أ، ب. وفي ش والمطبوعة: "معنى".
(1/106)
وفيه دليل آخر على جواز خلو1 الجملة
الجارية خبرًا عن المبتدأ من ضمير يعود إليه منها ألا ترى أن قوله "لم
يخفني الرجل الظلوم " ليس فيه عائد على هو وكيف يكون الأمر إلا هكذا
ألا تعلم أن هذا المضمر على شريطة التفسير لا يوصف2 ولا يؤكد ولا يعطف
عليه ولا يبدل منه ولا يعود عائد ذكر عليه وذلك لضعفه من حيث كان
مفتقرًا إلى تفسيره. وعلى هذا ونحوه عامة ما يرد عليك من هذا الضرب؛
ألا ترى أن قول الله عز وجل {اللَّهُ أَحَدٌ} لا ضمير فيه يعود على "هو
" من قبله.
واعلم أن اللفظ قد يرد شيء منه فيجوز جوازًا صحيحًا أن يستدل به على
أمر ما وأن يستدل به على ضده البتة. وذلك نحو مررت بزيد ورغبت في عمرو
وعجبت من محمد وغير ذلك من الأفعال الواصلة بحروف الجر.
فأحد ما يدل عليه هذا الضرب من القول أن الجار معتد من جملة الفعل
الواصل به ألا ترى أن الباء في نحو مررت بزيد معاقبة الهمزة النقل في
نحو أمررت زيدًا وكذلك قولك أخرجته وخرجت به وأنزلته ونزلت به. فكما أن
همزة أفعل مصوغة3 فيه كائنة من جملته فكذلك ما عاقبها من حروف الجر
ينبغي أن يعتد أيضًا من جملة الفعل لمعاقبته ما هو من جملته. فهذا وجه.
والآخر أن يدل ذلك على أن حرف الجر جار مجرى بعض ما جره ألا ترى أنك
تحكم لموضع الجار والمجرور بالنصب فيعطف4 عليه فينصب4 لذلك فنقول: مررت
بزيد وعمرًا وكذلك أيضًا لا يفصل بين الجار والمجرور لكونهما في كثير
__________
1 وذلك أن الخبر عين المبتدأ في المعنى؛ إذ كان تفسيرا له، فاستغني عن
العائد.
2 انظر في هذا المغني في الباب الرابع "المواضع التي يعود الضمير فيها
على متأخر لفظا ورتبة".
3 كذا في أ، وفي ش، ب، "موضوعة".
4 هذا في أ. وفي ش، ب، "فتعطف ... فتنصب".
(1/107)
من المواضع بمنزلة الجزء1 الواحد. أفلا
تراك كيف تقدر اللفظ الواحد2 تقديرين مختلفين وكل واحد منهما مقبول في
القياس متلقى بالبشر والإيناس.
ومن ذلك قول الآخر 3:
زمان علي غراب غداف ... فطيره الشيب عني فطارا
فهذا موضع يمكن أن يذهب ذاهب فيه إلى سقوط حكم ما تعلق به الظرف4 من
الفعل ويمكن أيضًا أن يستدل به على ثباته وبقاء حكمه. وذلك أن الظرف
الذي هو " علي" متعلق بمحذوف وتقديره غداة5 ثبت علي أو استقر علي غراب
ثم حذف الفعل وأقيم الظرف مقامه. وقوله فطيره -كما ترى- معطوف. فأما من
أثبت به حكم الفعل المحذوف فله أن يقول: إن طيره معطوف على ثبت6 أو
استقر وجواز العطف عليه أدل دليل على اعتداده وبقاء حكمه وأن العقد
عليه والمعاملة في هذا ونحوه إنما هي معه ألا ترى أن العطف نظير
التثنية ومحال أن يثنى الشيء فيصير مع صاحبه شيئين إلا وحالهما في
الثبات والاعتداد واحدة.
فهذا وجه جواز الاستدلال به على بقاء حكم ما تعلق به الظرف وأنه ليس
أصلا متروكًا ولا شرعًا منسوخًا.
__________
1 كذا في أ، ب، ش وفي ج: "الحرف".
2 سقط في ش هذا اللفظ.
3 هو أبو حية النميري. وقبل البيت:
زمان الصبا ليت أيامنا ... رجعن لنا الصالحات القصارا
وبعده:
فلا يبعد الله ذاك الغراب ... وإن هو لم يبق إلا ادّكارا
وقوله: "على غراب غداف" أراد به الشباب والشعر الأسود، وانظر الحيوان
بتحقيق الأستاذ هارون 3/ 429 وأمالي المرتضى 2/ 100.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "الظروف".
5 المناسب لما هنا: زمان. وكأن هناك رواية أخرى: "غداة علي ... " "فذهب
ذكر المؤلف إليها".
6 هذا من ابن جني على أن "عليّ غراب" جملة فعلية فاعلها "غراب" وليس
يجب هذا؛ فـ"غراب" مبتدأ لا فاعل، وخبره "عليّ" وليس في الكلام ما يختص
بالفعل أو يغلب فيه حتى يقدر الفعل كما يريد. وعلى هذا فقوله "فطيره"
عطف على الجملة الاسمية لا على متعلق الظرف.
(1/108)
وأما جواز اعتقاد سقوط حكم ما تعلق به
الظرف من هذا البيت فلأنه قد عطف قوله " فطيره" على قوله " علي " وإذا
جاز عطف الفعل على الظرف قوي حكم الظرف في قيامه مقام الفعل المتعلق هو
به وإسقاطه حكمه وتوليه من العمل ما كان الفعل يتولاه وتناوله به ما
كان متناولا له.
فهذان وجهان من الاستدلال بالشيء الواحد على الحكمين الضدين, وإن كان
وجه الدلالة به على قوة حكم الظرف وضعف حكم الفعل في هذا وما يجري
مجراه هو الصواب عندنا وعليه اعتمادنا وعقدنا. وليس هذا موضع الانتصار
لما نعتقده فيه وإنما الغرض منه أن نرى1 وجه ابتداء تفرع القول وكيف
يأخذ بصاحبه ومن أين يقتاد الناظر فيه إلى أنحائه ومصارفه.
ونظير هذا البيت في حديث الظرف والفعل من طريق العطف قول الله عز اسمه
{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ}
أفلا تراه كيف عطف الظرف2 الذي هو {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} على
قوله: {تُبْلَى} وهو فعل فالآية نظيرة البيت في العطف وإن اختلفا في
تقدم الظرف تارة وتأخره أخرى.
وهذا أمر فيه انتشار وامتداد وإنما أفرض منه ومما يجري مجراه ما يستدل
به ويجعل عيارًا على غيره. والأمر أوسع شقة وأظهر كلفة ومشقة؛ ولكن إن
طبنت3 له ورفقت به, أولاك جانبه وأمطاك كاهله وغاربه وإن خبطته4
وتورطته5 كدك مهله6, وأوعرت بك سبله فرفقًا وتأملًا.
__________
1 كذا في ش وفي غيرها: "ترى".
2 إن المعطوف جملة: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} ، لا
الظرف. فترى كلام ابن جني هنا غير دقيق.
3 أي فطنت.
4 يريد: عالجته بغير رفق وتهدّ إلى وجهه. يقال: خبط الشيء: وطئه
شديدًا.
5 أي سرت فيه على غير بصيرة. وأصل ذلك أن يقال: تورط في الأمر: أرتبك
فيه فلم يسهل له المخرج منه. فاستعمله في سبب هذا وهو أخذه بغير وفق
والوارد أن يقال: تورط في الأمر؛ كما رأيت، وكأنه ضمنه معنى ساءه،
مثلا.
6 يريد أنه يبطئ عليك تعرفه، فيسوءك ذلك.
(1/109)
باب في مقاييس
العربية:
وهي ضربان: أحدهما معنوي والآخر لفظي. وهذان الضربان وإن عمّا وفشوا في
هذه اللغة فإن أقواهما وأوسعهما هو القياس المعنوي ألا ترى1 أن الأسباب
المانعة من الصرف تسعة: واحد منها2 لفظي وهو شبه الفعل لفظًا, نحو أحمد
ويرمع3 وتنضب3 وإثمد وأبلم3 وبقم3 وإستبرق والثمانية الباقية كلها
معنوية كالتعريف والوصف والعدل والتأنيث وغير ذلك. فهذا دليل.
ومثله اعتبارك باب الفاعل والمفعول به بأن تقول: رفعت هذا لأنه فاعل
ونصبت هذا لأنه مفعول. فهذا اعتبار معنوي لا لفظي. ولأجله ما كانت4
العوامل اللفظية راجعة في الحقيقة إلى أنها معنوية؛ ألا تراك إذا قلت:
ضرب سعيد جعفرًا فإن " ضرب" لم تعمل في الحقيقة شيئًا وهل تحصل من قولك
ضرب إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء على صورة فعل فهذا هو الصوت
والصوت مما لا يجوز أن يكون منسوبًا إليه الفعل.
وإنما قال النحويون: عامل لفظي وعامل معنوي ليروك أن بعض العمل يأتي
مسببًا عن لفظ يصحبه كمررت بزيد وليت عمرًا قائم وبعضه يأتي عاريًا من
مصاحبة لفظ يتعلق به كرفع المبتدأ بالابتداء، ورفع الفعل لوقوعه موقع
الاسم؛ هذا ظاهر الأمر، وعليه صفحة القول. فأما6 في الحقيقة
__________
1 كذا في ش، ب، وفي أ: "ألا ترى إلى أن ... ".
2 المعروف في كتب المتأخرين أن المعنوي منها العلمية والوصفية والبقية
أسباب لفظية، ومنها العدل والتأنيث.
3 اليرمع: حجارة رخوة، والتنضب: شجرة حجازي، والأبلم، خوص المقل، وهو
شجر الدوم، والبقم: شجر له ورق يتخذ منه صيغ.
4 ما هنا زائدة.
5 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "هذا الصوت".
6 كذا في أ، ج، وفي ش، ب: "فأما ما في الحقيقة".
(1/110)
ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب
والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره. وإنما قالوا: لفظي
ومعنوي لما ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامة اللفظ للفظ أو باشتمال المعنى
على اللفظ. وهذا واضح.
واعلم أن القياس اللفظي إذا تأملته لم تجده عاريًا من اشتمال المعنى
عليه؛ ألا ترى أنك إذا سئلت عن "إن " من قوله 1:
ورج الفتى للخير ما إن رأيته ... على السن خيرًا لا يزال يزيد
فإنك قائل: دخلت على " ما" -وإن كانت "ما " ههنا مصدرية- لشبهها لفظًا
بما النافية التي تؤكد بإن من قوله2:
ما إن يكاد يخليهم لوجهتهم ... تخالج الأمر إن الأمر مشترك
وشبه اللفظ بينهما يصير "ما " المصدرية إلى أنها كأنها " ما " التي
معناها النفي أفلا ترى أنك لو لم تجذب إحداهما إلى أنها كأنها بمعنى
الأخرى لم يجز لك إلحاق "إن" بها.
__________
1 أي المعلوط بن بدل -بزنة سبب- القريعي؛ كما ذكره السيرافي في شرح
الكتاب، نقل ذلك البغدادي في شرح شواهد المغني في مبحث "إن" وفي اللسان
في "أنن": "المعلوط بن بذل" وبذل محرف من بدل. وفي الحماسة أبيات على
هذا الروي لرجل من قريع منها:
متى ماير الناس الغني وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد
وفي الخزانة 1/ 536 أن ابن جني في إعراب الحماسة عينه فقال: هو المعلوط
بن بدل القريعي، وانظر السمط 434 وشرح شواهد المغني البغدادي والكتاب
2/ 306.
2 أي زهير من قصيدة مطلعها:
بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا ... وزودرك اشتياقا أية سلكوا
وانظر الديوان. وتخالج الأمر: اختلافهم في الرأي: يقول هذا: نصنع كذا،
وذاك نصنع كذا، وقوله: إن الأمر مشترك، أي لا يجتمعون على رأي واحد:
هذا له رأي، وهذا له رأي، وهذا الاختلاف يبطئ بسيرهم وارتحالهم.
(1/111)
فالمعنى إذًا أشيع وأسير حكمًا من اللفظ؛
لأنك في اللفظي متصور لحال المعنوي ولست في المعنوي بمحتاج إلى تصور
حكم اللفظي. فاعرف ذلك.
واعلم أن العرب تؤثر من التجانس والتشابه وحمل الفرع على الأصل ما إذا
تأملته عرفت منه قوة عنايتها بهذا الشأن وأنه منها على أقوى بال ألا
ترى أنهم لما أعربوا بالحروف في التثنية والجمع الذي على حده فأعطوا
الرفع في التثنية الألف والرفع في الجمع الواو والجر فيهما الياء وبقي
النصب لا حرف له فيماز به, جذبوه إلى الجر فحملوه عليه دون الرفع لتلك
الأسباب1 المعروفة هناك فلا حاجة بنا هنا إلى الإطالة بذكرها ففعلوا
ذلك ضرورة ثم لما صاروا إلى جمع التأنيث حملوا النصب أيضًا على الجر
فقالوا ضربت الهندات " كما قالوا مررت بالهندات "2 ولا ضرورة هنا لأنهم
قد كانوا قادرين على أن يفتحوا التاء فيقولوا: رأيت الهندات فلم يفعلوا
ذلك مع إمكانه وزوال الضرورة التي عارضت في المذكر عنه, فدل دخولهم تحت
هذا -مع أن الحال لا تضطر إليه- على إيثارهم واستحبابهم حمل الفرع على
الأصل وإن عرى من ضرورة الأصل. وهذا جلي كما ترى. ومن ذلك حملهم حروف
المضارعة بعضها على حكم بعض في نحو حذفهم الهمزة في نكرم وتكرم ويكرم
لحذفهم إياها في أكرم لما كان يكون هناك من الاستثقال لاجتماع الهمزتين
في نحو أؤكرم وإن عريت بقية حروف المضارعة -لو لم تحذف- من اجتماع
همزتين وحذفهم أيضًا الفاء من نحو وعد, وورد, في يعد ويرد لما كان يلزم
-لو لم تحذف- من وقوع الواوين ياء وكسرة،
__________
1 قال الأشموني في مبحث إعراب المثنى في باب المعرب والمبني. "وحمل
النصب على الجر فيهما -يريد التثنية وجمع المذكر السالم- لمناسبة النصب
للجر دون الرفع؛ لأن كلا منهما فضلة، ومن حيث المخرج؛ لأن الفتح من
أقصى الحلق، والكسر من وسط الفم، والضم من الشفتين".
2 سقط ما بين القوسين في ش، ب وثبت في أ.
(1/112)
ثم حملوا على ذلك ما لو لم يحذفوه لم يقع
بين ياء وكسرة نحو أعد وتعد ونعد؛ لا للاستثقال، بل لتتساوى أحوال حروف
المضارعة في حذف الفاء معها.
فإذا جاز أن يحمل حروف المضارعة بعضها على بعض -ومراتبها متساوية وليس
بعضها أصلًا لبعض- كان حمل المؤنث على المذكر1 لأن المذكر أسبق رتبة من
المؤنث أولى وأجدر.
ومن ذلك مراعاتهم في الجمع حال الواحد؛ لأنه أسبق من الجمع؛ ألا تراهم
لما أعلت الواو في الواحد أعلوها أيضًا في الجمع في نحو قيمة وقيم
وديمة وديم, ولما صحت في الواحد صححوها في الجمع, فقالوا: زوج وزوجة,
وثور وثورة.
فأما ثيرة ففي إعلال واوه ثلاثة أقوال:
أما صاحب الكتاب2 فحمله على الشذوذ وأما العباس3 فذكر أنهم أعلوه
ليفصلوا بذلك بين الثور من الحيوان وبين الثور وهو القطعة من الأقط؛
لأنهم لا يقولون فيه إلا ثِوَرة بالتصحيح لا غير. وأما أبو بكر3 فذهب
في إعلال ثيَرة إلى أن ذلك لأنها منقوصة من ثيارة, فتركوا الإعلال في
العين أمارة لما نووه من الألف كما جعلوا تصحيح نحو اجتوروا واعتونوا,
دليلا على أنه في معنى ما لا بد من صحته وهو تجاوروا وتعاونوا. وقد
قالوا أيضًا: ثيرة؛ قال 4:
__________
1 يريد حمل جمع المؤنث في النصب على جمع المذكر على ما سبق.
2 انظر الكتاب 2/ 369. ولفظه: "وقد قالوا: ثورة, وثيرة. قلبوها حيث
كانت بعد كسرة، واستثقلوا ذلك، كما استثقلوا أن تثبت في ديم. وهذا ليس
بمطرد، يعني ثيرة".
3 يريد المبرد، وأبو بكر هو ابن السراج.
4 أي الأعشى ميمون. وانظر ديوانه بشرح ثعلب طبعة أوروبا ص84.
(1/113)
صدر النهار يراعي ثيرةً رتعا1
وهذا لا نكير2 له3 في وجوبه لسكونه عينه.
نعم وقد دعاهم إيثارهم لتشبيه الأشياء بعضها ببعض أن حملوا الأصل على
الفرع؛ ألا تراهم يعلون المصدر لإعلال فعله ويصححونه لصحته. وذلك نحو
قولك: قمت قيامًا وقاومت قوامًا. فإذا حملوا الأصل الذي هو المصدر على
الفرع الذي هو الفعل فهل بقي في4 وضوح الدلالة على إيثارهم تشبيه
الأشياء المتقاربة بعضها ببعض شبهة!
وعلى ذلك أيضًا عوضوا في المصدر ما حذفوه في الفعل فقالوا: أكرم يكرم,
فلما حذفوا الهمزة في المضارع أثبتوها في المصدر فقالوا: الإكرام فدل
هذا5
__________
1 صدره:
فظل يأكل منهم وهي رائعة
وهو من قصيدة طويلة. وهذا في وصف مهاة -بقرة وحشية- أكل السبع ولدها
شبه بها ناقته، وقبله:
كأنها بعد ما أفضى النجاد بها ... بالشيطين مهأة تبتغي ذرعا
أهوى لها ضابئ في الأرض مفتحص ... للحم قدما خفي الشخص قد خشعا
فظل يخدعها عن نفس واحدها ... في أرض في بفعل مثله خدعا
حانت ليفجها بابن وتطعمه ... لحما فقد أطعمت لحما وقد فجعا
وبعد البيت:
حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت ... جاءت لترضع شق النفس لو رضعا
عجلى إلى المعهد الأدنى ففاجأها ... أقطاع مسك وسافت من دم دفعا
وقوله: فظل يأكل منها أي من ابنها الذي افترسه لا منها نفسها؛ إذ كيف
يكون هذا مع قوله: "وهي رائعة" وقد غر هذا ابن دريد في الجمهرة، فجعله
في وصف بقرة مسبوعة. وانظر اللآلي 312.
2 في الأصول: "نظير" والأنسب ما أثبته. ولما في الأصول وجه بعيد. وهو
أنه بلغ الغاية في داعي وجوب الإعلال فلا نظير له في هذا، وهو كلام خرج
مخرج المبالغة.
3 سقط "له" في أ.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "من".
5 سقط لفظ "هذا" في ش، ب وثبت في أ.
(1/114)
على أن هذه المثل كلها جارية مجرى المثال
الواحد؛ ألا تراهم لما حذفوا ياء فرازين1، عوضوا منها الهاء في نفس
المثال فقالوا فرازنة. وكذلك لما حذفوا فاء عدة2، عوضوا منها نفسها
التاء. وكذلك أينق في أحد3 قولي سيبويه فيها: لما حذفوا عينها عوضوا
منها الياء في نفس المثال.
فدل هذا وغيره مما يطول تعداده على أن المثال والمصدر واسم الفاعل كل
واحد منها يجري عندهم وفي محصول اعتدادهم مجرى الصورة الواحدة حتى إنه4
إذا لزم في بعضها شيء لعلة ما أوجبوه في الآخر وإن عرى في الظاهر من
تلك العلة فأما في الحقيقة فكأنها فيه نفسه ألا ترى أنه إذا صح أن جميع
هذه الأشياء على اختلاف أحوالها تجري عندهم مجرى المثال الواحد فإذا
وجب في شيء منها حكم فإنه لذلك5 كأنه أمر لا يخصه من بقية الباب بل هو6
جار في الجميع مجرى واحدًا لما قدمنا ذكره من الحال آنفًا.
واعلم أن من قوة القياس عندهم اعتقاد النحويين أن ما قيس على كلام
العرب فهو عندهم من كلام العرب نحو قولك في قوله: كيف تبني من ضرب مثل
جعفر: ضربب هذا من كلام العرب, ولو بنيت مثله ضيرب, أو ضورب, أو ضروب,
أو نحو ذلك, لم يعتقد من كلام العرب؛ لأنه قياس على الأقل استعمالا
والأضعف قياسًا. وسنفرد لهذا الفصل7 بابًا فإن فيه نظرًا صالحًا 8.
__________
1 الواحد فرزان. وهو في الشطرنج بمنزلة الوزير للسلطان. وهو معرب فرزين
في الفارسية. والوارد في اللسان والقاموس جمعه على فرازين.
2 كذا في أ، ب. وسقط في ش.
3 في الكتاب 1/ 317: "كما قالوا: أينق لما حذفوا العين جعلوا الياء
عوضًا" والرأي الآخر ذكره في الكتاب 2/ 129 إذ يقول: "ومثل ذلك أينق:
إنما هو أنوق في الأصل، فأبدلوا الياء مكان الواو، وقلبوا".
4 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
5 كذا في ش، ب. وفي المطبوعة: "كذلك".
6 كذا في أ، ب، وسقط في هذا اللفظ في ش.
7 سقط في ش، ب.
8 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
(1/115)
باب في جواز القياس على ما يقل ورفضه فيما
هو أكثر منه:
هذا باب ظاهره -إلى أن تعرف صورته- ظاهر التناقض؛ إلا أنه مع تأمله
صحيح. وذلك أن يقل الشيء وهو قياس ويكون غيره أكثر منه إلا أنه ليس
بقياس.
الأول قولهم في النسب إلى شنوءة: شنئي؛ فلك -من بعد- أن تقول في
الإضافة إلى قتوبة 1: قتبي1 وإلى ركوبة: ركبي وإلى حلوبة: حلبي قياسًا
على شنئي. وذلك أنهم أجروا فعولة مجرى فعيلة؛ لمشابهتها إياها من عدة
أوجه: أحدها أن كل واحدة2 من فعولة وفعيلة ثلاثي3 ثم إن ثالث كل واحدة
منهما حرف لين يجري مجرى صاحبه ألا ترى إلى اجتماع الواو والياء ردفين
وامتناع ذلك في الألف وإلى جواز حركة كل واحدة2 من الياء والواو مع
امتناع ذلك في الألف إلى غير ذلك. ومنها أن في كل واحدة من فعولة
وفعيلة تاء التأنيث. ومنها اصطحاب فعول وفعيل على الموضع الواحد نحو
أثيم وأثوم ورحيم ورحوم ومشي4 ومشو4 ونهي عن الشيء ونهو.
فلما استمرت حال فعيلة وفعولة هذا الاستمرار جرت واو شنوءة مجرى ياء
حنيفة فكما قالوا: حنفي قياسا قالوا: شنئي أيضا قياسا.
__________
1 كذا في أ، ش، ب. وفي ج: شوفة: تنفي".
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "واحد".
3 أي دون اعتداد المدة.
4 المشي والمشو: الجواء المسهل.
(1/116)
قال أبو الحسن: فإن قلت: إنما جاء هذا في
حرف واحد -يعني شنوءة- قال 1: فإنه جميع ما جاء. وما ألطف هذا من القول
من أبي الحسن! وتفسيره أن الذي جاء في فعولة هو هذا الحرف والقياس
قابله ولم يأت فيه شيء ينقضه. فإذا قاس الإنسان على جميع ما جاء, وكان
أيضًا صحيحًا في القياس مقبولا, فلا غرو ولا ملام.
وأما ما هو أكثر من باب شنئي, ولا يجوز القياس عليه لأنه لم يكن هو على
قياس, فقولهم في ثقيف: ثقفي, وفي قريش: قرشي, وفي سليم: سلمي. فهذا وإن
كان أكثر من شنئي فإنه عند سيبويه ضعيف في القياس. فلا يجيز على هذا في
سعيد سعدي, ولا في كريم كرمي.
فقد برد2 في اليد من هذا الموضع قانون يحمل عليه ويرد غيره إليه. وإنما
أذكر من هذا ونحوه رسومًا لتقتدى3, وأفرض منه آثارًا لتقتفى ولو
التزمت4 الاستكثار منه لطال الكتاب به, وأمل قارئه.
واعلم أن من قال في حلوبة: حلبي قياسًا على قولك في حنيفة: حنفي فإنه
لا يجيز في النسب إلى حرورة5 حرري5 ولا في صرورة6 صرري6 ولا في قوولة7
قولي.
__________
1 أي أبو الحسن، وإنما ذكر "قال" لينص على أن هذا كلام أبي الحسن،
ويريد به الأخفش سعيد بن مسعدة. وقد حذف هذا اللفظ في عبارة ابن جني
التي ساقها صاحب الاقتراح، وهذا أجود.
2 كذا في أ، ب. وفي ش والمطبوعة: "يرد" وهو تصحيف.
3 تراه استعمل هذا الفعل متعديا بنفسه، والمعروف تعديه بالحرف؛ يقال:
اقتدى به. وكأنه ضمنه معنى "تتبع".
4 كذا في أ، ب. وفي ش والمطبوعة: "ألزمت".
5 كذا بالحاء المهملة في ش، وفي أ، ب. "جزورة: جزري" وهذا تحريف هنا.
والحرورة: الحرية.
6 كذ في أ. وفي ش، ب: "ضرورة: ضروي" بالضاد المعجمة. والصرورة: الذي لا
يأتي النساء.
7 كذا في أ، ش. وفي ب: "قئولة" والمناسب ما أثبت.
(1/117)
وذلك أن فعولة في هذا محمولة الحكم على
فعيلة, وأنت لا تقول في الإضافة إلى فعيلة إذا كانت مضعفة أو معتلة
العين إلا بالتصحيح؛ نحو قولهم في شديد: شديدي, وفي طويلة: طويلي؛
استثقالا لقولك: شددي وطولي. فإذا كانت فعولة محمولة على فعيلة, وفعيلة
لا تقول فيها مع التضعيف واعتلال العين إلا بالإتمام فما كان محمولا
عليها أولى بأن يصح ولا يعل. ومن قال في شنوءة: شنئي فأعل1 فإنه لا
يقول في نحو جرادة وسعادة إلا بالإتمام: جرادي وسعادي. وذلك لبعد الألف
عن الياء " و"2 لما فيها من الخفة. ولو جاز أن يقول3 في نحو جرادة:
جردي, لم يجز ذلك في نحو حمامة وعجاجة: حممي ولا عججي استكراهًا
للتضعيف إلا أن يأنس4 بإظهار تضعيف فعل, ولا في نحو سيابة5 وحوالة:
سيبي ولا حولي استكراهًا لحركة المعتل في هذا الموضع. وعلة ذلك ثابتة
في التصريف فغنينا عن ذكرها الآن.
__________
1 كذا في أ، ب. وسقط هذا في ش، وهو يعني الإعلال بحذف المدة وتغير حركة
ما قبلها.
2 زيادة في ج. والعبارة فيها: "ولخفتها".
3 في د، هـ: "تقول".
4 في د، هـ: "تأنس".
5 هي البلحة.
(1/118)
|