الخصائص باب في تعارض السماع
والقياس:
إذا تعارضا نطقت بالمسموع على ما جاء عليه ولم تقسه في غيره وذلك نحو
قول الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} فهذا ليس بقياس
لكنه لا بد من قبوله لأنك إنما تنطق بلغتهم وتحتذي في جميع ذلك
أمثلتهم1. ثم إنك من بعد لا تقيس عليه غيره ألا تراك لا تقول في
استقام: استقوم ولا في استباع: استبيع.
فأما قولهم " استنوق الجمل " و "استتيست الشاة " و "استفيل الجمل "
فكأنه أسهل من استحوذ وذلك أن استحوذ قد تقدمه الثلاثي معتلا؛ نحو
قوله2:
يحوذهن وله حوذي ... كما يحوذ الفئة الكمي
-يروى بالذال والزاي3: يحوذهن ويحوزهن- فلما كان استحوذ خارجًا عن
معتل: أعني حاذ يحوذ وجب إعلاله إلحاقًا في الإعلال به. وكذلك باب أقام
وأطال واستعاذ4 واستزاد مما يسكن ما قبل عينه في الأصل ألا ترى أن أصل
أقام أقوم وأصل استعاذ استعوذ فلو أخلينا وهذا اللفظ لاقتضت الصورة
تصحيح العين لسكون ما قبلها غير أنه لما كان منقولًا ومخرجًا من معتل
-هو قام, وعاذ- أجرى أيضًا في الإعلال عليه. وليس كذلك " استنوق الجمل"
و "استتيست الشاة " لأن هذا ليس منه فعل معتل ألا تراك لا تقول: ناق
ولا تاس؛ إنما الناقة والتيس اسمان لجوهر لم يصرف منهما فعل معتل. فكان
خروجهما على الصحة أمثل منه في باب استقام واستعاذ. وكذلك استفيل.
ومع هذا أيضًا فإن استنوق, واستتيس شاذ؛ ألا تراك لو تكلفت أن تأتي
باستفعل من الطود لما قلت: استطود, ولا من الحوت استحوت5، ولا من6
الخوط استخوط ولكان القياس أن تقول: استطاد واستحات واستخاط.
__________
1 كذا في أ، ب، وفي ش: "مثلهم".
2 هو العجاج. يصف ثورا وكلابا. و"حوذيّ" كذا في أ، ج، وفي ش، ب:
"حاذي". "الفئة" كذا في الأصول ما عدا ج ففيها: "المائة". والحوز:
السوق الشديد، والحوذي والحوزي: السائق المجد المستحث على السير. وانظر
ديوان العجاج 7.
3 في ش: "الزاء" وهي لغة في الزاي.
4 في ش: "استعان".
5 في تاريخ بغداد 11/ 405 استحاث الرجل أي كثر أكله، لأن الحوت يأكل
كثيرا.
6 كذا في أ. وفي ش، ب والمطبوعة: "ومن الخوط" والخوط: الغصن الناعم.
(1/119)
والعلة في وجوب إعلاله1 وإعلال استنوق,
واستفيل, واستتيست أنا قد أحطنا علمًا بأن الفعل إنما يشق من الحدث لا
من الجوهر؛ ألا ترى إلى قوله2 "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث
الأسماء " فإذا كان كذلك وجب أن يكون استنوق مشتقًا من المصدر. وكان
قياس مصدره أن يكون معتلا فيقال: استناقة كاستعانة واستشارة. وذلك أنه
وإن لم يكن تحته ثلاثي معتل كقام وباع فيلزم إجراؤه في الإعلال عليه
فإن باب الفعل إذا كانت عينه أحد الحرفين أن يجيء معتلًا إلا ما يستثنى
من ذلك نحو طاول وبايع وحول وعور واجتوروا واعتونوا لتلك العلل
المذكورة هناك. وليس باب أفعل ولا استفعل منه. فلما كان الباب في الفعل
ما ذكرناه من وجوب إعلاله وجب أيضًا3 أن يجيء استنوق ونحوه بالإعلال
لاطراد ذلك في الفعل؛ كما أن الاسم إذا كان على فاعل كالكاهل والغارب
إلا أن عينه حرف علة لم يأت عنهم إلا مهموزًا وإن لم يجر على فعل ألا
تراهم همزوا الحائش4, وهو اسم لا صفة ولا هو جار على فعل فأعلوا عينه
وهي في الأصل واو من الحوش 5.
فإن قلت: فلعله جار على حاش جريان قائم على قام؛ قيل: لم نرهم أجروه
صفة, ولا أعملوه عمل الفعل؛ وإنما الحائش: البستان بمنزلة الصور6,
وبمنزلة الحديقة. فإن قلت: فإن فيه معنى الفعل؛ لأنه يحوش ما فيه من
النخل وغيره وهذا يؤكد كونه في الأصل صفة, وإن كان قد استعمل استعمال
الأسماء؛ كصاحب ووالد،
__________
1 أي إعلال استحوذ.
2 يريد سيبويه في صدر كتابه.
3 سقط في ش.
4 هو جماعة النخل، والبستان.
5 الحوش: الجمع.
6 كذا في أ، ب. والصور: جماعة النخل. وفي ش "السور".
(1/120)
قيل: ما فيه من معنى الفعلية لا يوجب كونه
صفة؛ ألا ترى إلى قولهم: الكاهل1 والغارب1 وهما وإن كان فيهما معنى
الاكتهال والغروب فإنهما اسمان.
ولا يستنكر أن يكون في الأسماء غير الجارية على الأفعال معاني الأفعال.
من ذلك قولهم: مفتاح ومنسج ومسعط ومنديل ودار ونحو ذلك تجد في كل واحد
منها معنى الفعل وإن لم تكن جارية عليه. فمفتاح من الفتح ومنسج من
النسج ومسعط من الإسعاط ومنديل من الندل وهو التناول قال الشاعر2:
على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلا زريق المال ندل الثعالب
وكذلك دار: من دار يدور لكثرة حركة الناس فيها وكذلك كثير من هذه
المشتقات تجد فيها معاني3 الأفعال وإن لم تكن جارية عليها. فكذلك
الحائش جاء مهموزًا وإن لم يكن اسم فاعل لا لشيء غير مجيئه على ما يلزم
اعتلال عينه, نحو قائم وبائع وصائم. فاعرف ذلك. وهو رأي أبي علي رحمه
الله وعنه أخذته لفظًا ومراجعة وبحثًا.
ومثله سواء الحائط: هو اسم بمنزلة الركن والسقف وإن كان فيه معنى
الحوط. ومثله أيضًا العائر للرمد4، هو اسم مصدر5 بمنزلة الفالج6,
والباطل, والباغز7, وليس اسم فاعل ولا جاريًا على معتل وهو كما تراه
معتل.
__________
1 الكاهل أعلى الظهر مما يلي العنق والغارب من البعير ما بين السنام
والعنق. وكأن معنى الاكتمال في الكاهل القوة والاجتماع، والكهل من
الرجال الذي جاوز الثلاثين. ولا مرية في قوته ونضجه، ومعنى الغروب في
الغارب انخفاضه عن السنام كالكواكب حين يقرب وتنخفض.
2 هو -فيما زعم صاحب فرحة الأديب- رجل من الأنصار، قال ذلك في النعمان
بن العجلان الزرقي -وزريق من الخروج- وكان ولاه علي رضي الله عنه
البحرين وفي هذا الشعر آراء أخرى. وانظر سيبويه ص59 ج1، وشواهد العيني
على هامش الخزانة ص48 ج3، واللسان في "ندل"، وفرحة الأديب رقم 40.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "من معاني".
4 كذا في ش، ب. وفي أ: الرمد.
5 ضبط في أبتنوين اسم، وفي ب بالإضافة.
6 هو من الأمراض. ومن مظاهره استرخاء لأحد شقي البدن.
7 الباغز: النشاط أو هو في الإبل خاصة.
(1/121)
فإن قلت: فما تقول في استعان وقد أعل وليس
تحته ثلاثي معتل؛ ألا تراك لا تقول: عان يعون كقام يقوم؟ قيل: هو وإن
لم ينطق بثلاثيه فإنه في حكم المنطوق به وعليه جاء أعان يعين.
وقد شاع الإعلال في هذا الأصل ألا تراهم قالوا: المعونة -فأعلوها
كالمثوبة والمعوضة1- والإعانة والاستعانة. فأما المعاونة فكالمعاودة:
صحت لوقوع الألف قبلها.
فلما اطرد الإعلال في جميع ذلك دل أن ثلاثيه وإن لم يكن مستعملا فإنه
في حكم ذلك. وليس هذا بأبعد من اعتقاد موضع "أن " لنصب الأفعال في تلك
الأجوبة وهي الأمر والنهي وبقية ذلك وإن لم تستعمل قط. فإذا جاز اعتقاد
ذلك وطرد المسائل عليه لدلالة الحال2 على ثبوته في النفس كان إعلال نحو
أعان واستعان ومعين ومستعين والإعانة والاستعانة -لاعتقاد كون الثلاثي
من ذلك في حكم الملفوظ به- أحرى وأولى.
وأيضًا فقد نطقوا من ثلاثيه بالعون وهو مصدر وإذا ثبت أمر المصدر الذي
هو الأصل لم يتخالج شك في الفعل الذي هو الفرع؛ قال لي أبو عليّ
بالشام: إذا صحت الصفة فالفعل في الكف. وإذا كان هذا حكم الصفة كان في
المصدر أجدر؛ لأن المصدر أشد ملابسة للفعل من الصفة؛ ألا ترى أن في
الصفة " ما ليس بمشتق" نحو قولك: مررت بإبل مائة ومررت برجل
__________
1 هو العوض.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "على ما ثبوته"، وقد ضبط فيها "ثبوته" بالجر على
زيادة "ما". ويصح قراءته بالرفع، أي على الذي ثبوته في النفس لا في
اللفظ.
3 زيادة من ج.
(1/122)
أبي عشرة أبوه ومررت بقاع1 عرفج كله ومررت
بصحيفة طين خاتمها ومررت بحية2 ذراع طولها وليس هذا مما يشاب به المصدر
وإنما هو ذلك الحدث الصافي كالضرب والقتل والأكل والشرب.
فإن3 قلت: ألا تعلم أن في الناقة معنى الفعل. وذلك أنها من التنوق في
الشيء وتحسينه قال ذو الرمة:
... ... ... تنوقت ... به حضرميات الأكف الحوائك4
والتقاؤهما أن الناقة عندهم مما يتحسن5 به ويزدان5 بملكه وبالإبل
يتباهون وعليها يحملون ويتحملون, ولذلك قالوا لمذكرها: الجمل, لأنه
فَعَل من الجمال كما أن الناقة فعلة من التنوق. وعلى هذا قالوا: قد كثر
عليه المشاء والفشاء والوشاء إذا تناسل عليه المال. فالوشاء فَعَال من
الوشي كأن المال عندهم زينة وجمال لهم, كما يلبس من الوشي للتحسن به.
وعلى ذلك قالوا: ما بالدار دبيج6 فهو فِعيل من لفظ الديباج ومعناه.
وذلك أن الناس هم الذين يشون الأرض, وبهم تحسن وعلى أيديهم وبعمارتهم
تجمل. وعليه قالوا: إنسان لأنه فعلان من الأنس.
__________
1 انظر في بعض هذه الأمثلة سيبويه ص229 ج1 والعرفج: نبت طيب الريح ينبت
في السهل، واحده عرفجة.
2 كذا في أ، ب، ش وفي ج: "بحبة"
3 هذا وارد على قوله فيما سبق ص119: "ليس لاستنوق فعل معتل"
4 صدره:
كأن عليها سحق لفق تتوقت
وهو في وصف نوق ذكرها قبل في قوله:
أنخنا بها خوصا برى النص بدنها ... وألصق منها باقيات العرانك
والخوص: الغائرات العيون من الإبل، والعرانك: الأسنمة، واللفق: أحد شقي
الملاءة، والسحق: البالي، والحضرميات منسوبات إلى حضرموت يريد ناسجات
حوائك وانظر الديوان 416
5 كذا في أ، ج. وفي ب: "مما يتحسن بملكه ويزدان به". وفي ش: "مما يتحسن
تملكه ويزدان به", وظاهر تصحيف "تملكه" من "بملكه"
6 أي ما بها أحد، ولا يستعمل إلا بالنفي كما ترى, ويرى الأزهري أن أصل
دبيج في هذا الموطن دبيّ، فأبدلت الياء الثانية جيمًا، كما يقال في
مريّ مرج. وعلى هذا لا يتم لابن جني ما يبغي.
(1/123)
فقد ترى إلى توافي هذه الأشياء وتباين
شعاعها وكونها1 عائدة إلى موضع واحد, لأن التنوق والجمال والأنس والوشي
والديباج مما يؤثر ويستحسن -وكنت عرضت هذا الموضع على أبي علي رحمه
الله فرضيه وأحسن تقبله-فكذلك2 يكون استنوق من باب استحوذ من حاذ يحوذ
من حيث كان في الناقة معنى الفعل من التنوق دون أن يكون بعيدًا عنه كما
رمت أنت في أول الفصل. انقضى السؤال.
فالجواب أن استنوق أبعد عن الفعل من استحوذ على ما قدمنا. فأما ما في
الناقة من معنى الفعلية والتنوق فليس بأكثر مما في الحجر من معنى
الاستحجار والصلابة, فكما أن استحجر الطين واستنسر البغاث من لفظ الحجر
والنسر فكذلك استنوق من لفظ الناقة والجميع ناء عن الفعل وما فيه من
معنى الفعلية إنما هو كما في مفتاح ومدق ومنديل ونحو ذلك منه.
ومما ورد شاذًّا عن القياس ومطردًا في الاستعمال قولهم: الحوكة
والخونة. فهذا من الشذوذ عن القياس على ما ترى وهو في الاستعمال منقاد
غير متأب ولا تقول على هذا في جمع قائم: قومة ولا في صائم: صومة ولو
جاء على فعلة ما كان إلا معلا. وقد قالوا على القياس: خانة.
ولا تكاد تجد شيئًا من تصحيح نحو مثل3 هذا في الياء: لم يأت عنهم في
نحو بائع وسائر بيعة ولا سيرة. وإنما شذ من هذا مما عينه واو لا ياء
نحو الحوكة والخونة والخول والدول 4. وعلته عندي قرب الألف من الياء
__________
1 عطف على "توافي".
2 كذا في ش، ب. وفي أما يقرب أن يكون: "فذلك".
3 سقط لفظ "مثل" في ش، ب.
4 هو التبل المتداول.
(1/124)
وبعدها عن الواو فإذا صحت نحو الحوكة كان
أسهل من تصحيح نحو البيعة. وذلك أن الألف لما قربت من الياء أسرع
انقلاب الياء إليها, فكان ذلك أسوغ من انقلاب الواو إليها لبعد الواو
عنها ألا ترى إلى كثرة قلب الياء ألفًا استحسانًا لا وجوبًا, نحو قولهم
في طيئ: طائي, وفي الحيرة: حاريّ, وقولهم في حيحيت, وعيعيت, وهيهيت:
حاحيت, وعاعيت, وهاهيت. وقلما ترى في الواو مثل هذا.
فإذا كان بين الألف والياء هذه الوصل والقرب كان تصحيح نحو بيعة,
وسيرة, أشق عليهم من تصحيح نحو الحوكة والخونة لبعد الواو من الألف,
وبقدر بعدها عنها1 ما يقل انقلابها إليها.
ولأجل هذا الذي ذكرناه عندي ما كثر عنهم نحو اجتوروا, واعتونوا,
واهتوشوا. ولم يأت عنهم من هذا التصحيح شيء في الياء, ألا تراهم لا
يقولون: ابتيعوا ولا استيروا ولا نحو ذلك وإن كان في معنى تبايعوا
وتسايروا. وعلى أنه قد جاء حرف واحد من الياء في هذا فلم يأت إلا معلا
وهو قولهم: استافوا, في معنى تسايفوا ولم يقولوا: استيفوا لما ذكرناه
من جفاء ترك قلب الياء ألفًا في هذا الموضع الذي قد قويت2 فيه داعية
القلب. وقد ذكرنا هذا في "كتابنا في شعر هذيل " بمقتضى الحال فيه 3.
وإن شذ الشيء في الاستعمال وقوي في القياس كان استعمال ما كثر استعماله
أولى وإن لم ينته قياسه إلى ما انتهى إليه استعماله.
__________
1 ما زائدة أو مصدرية.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "قربت".
3 كذا في أ، ب، وسقط هذا اللفظ "فيه" في ش.
(1/125)
من ذلك اللغة التميمية في "ما " هي أقوى
قياسًا وإن كانت الحجازية أسير استعمالا. وإنما كانت التميمية أقوى
قياسًا من حيث كانت عندهم كـ " هل " في دخولها على الكلام مباشرة كل
واحد من صدري الجملتين: الفعل والمبتدأ كما أن " هل" كذلك. إلا أنك إذا
استعملت أنت شيئًا من ذلك فالوجه أن تحمله على ما كثر استعماله وهو
اللغة الحجازية؛ ألا ترى أن القرآن بها نزل. وأيضًا1 فمتى رابك في
الحجازية ريب من تقديم خبر, أو نقض النفي فزعت إذ ذاك إلى التميمية
فكأنك من الحجازية على حرد2، وإن كثرت في النظم والنثر.
ويدلك على أن الفصيح من العرب قد يتكلم باللغة غيرها أقوى في القياس
عنده منها ما حدثنا به أبو علي رحمه الله قال: عن أبي بكر3 عن أبي
العباس3 أن عمارة3 كان يقرأ {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}
بالنصب قال أبو العباس: فقلت له: ما أردت؟ فقال: أردت {سَابِقُ
النَّهَارِ} قال: فقلت له: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن. فقوله:
أوزن أي أقوى وأمكن في النفس. أفلا تراه كيف جنح إلى لغة وغيرها أقوى
في نفسه منها. ولهذا موضع نذكره فيه.
واعلم أنك إذا أداك القياس إلى شيء ما ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء
آخر على قياس غيره فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه. فإن سمعت من آخر
مثل ما أجزته فأنت فيه مخير: تستعمل أيهما شئت. فإن صح عندك أن العرب
__________
1 هذا دليل آخر على أن التميمية في "ما" أقوى قياسا من الحجازية.
2 الحرد: المنع أو الغضب. يريد: كأنه غاضب على الحجاز غير مطمئن إليها
يخرج منها ما تهيأت له الفرصة، أو أنه على المنع لها والتحرج منها. وقد
يكون الأصل: "على حرف".
3 أبو بكر هو ابن السراج. وأبو العباس: المبرد. وعمارة هو ابن عقيل بن
بلال بن جرير. وانظر غرائز الآلوسي 114.
(1/126)
لم تنطق بقياسك أنت كنت على ما أجمعوا عليه
البتة وأعددت ما كان قياسك أداك إليه لشاعر مولد, أو لساجع, أو لضرورة؛
لأنه على قياس كلامهم. بذلك وصى أبو الحسن.
وإذا فشا الشيء في الاستعمال وقوي في القياس فذلك ما لا غاية وراءه نحو
منقاد اللغة من النصب بحروف النصب والجر بحروف الجر والجزم بحروف الجزم
وغير ذلك مما هو فاش في الاستعمال, قوي في القياس.
وأما ضعف الشيء في القياس, وقلته في الاستعمال فمرذول1 مطرح؛ غير أنه
قد يجيء منه الشيء إلا أنه قليل. وذلك نحو ما أنشده2 أبو زيد من قول
الشاعر3:
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس4
قالوا أراد: "اضربن عنك " فحذف نون التوكيد وهذا من الشذوذ في
الاستعمال على ما تراه ومن الضعف في القياس على ما أذكره لك. وذلك أن
الغرض في التوكيد إنما هو التحقيق والتسديد5، وهذا مما يليق به الإطناب
والإسهاب وينتفي عنه الإيجاز والاختصار. ففي حذف هذه النون نقض الغرض.
فجرى وجوب استقباح هذا في القياس مجرى امتناعهم من ادّغام الملحق؛ نحو
مهدد وقردد،
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "فردود".
2 كذا في ج. وفي أ، ب، ش: "أنشدناه". ولم يدرك أبو الفتح أبا زيد. فإن
صح هذا فإن المراد: أنشدناه في كتابه، كأنما يخاطبنا فيه، ولا يريد:
أنشدنا شفاها.
3 قال ابن بري: "البيت لطرفة؛ ويقال: إنه مصنوع عليه" وانظر اللسان في
"قنس". وفي نوادر أبي زيد 13: "قال أبو حاتم: أنشدني الأخفش بيتا
مصنوعا لطرفة:
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس
وقال: أراد النون الخفيفة.
4 قونس الفرس: ما بين أذنيه، وقيل مقدم رأسه وقوله "بالسيف" في اللسان
بدله "بالسوط انظر اللسان في قنس.
5 كذا في أ، وفي ش: "التشديد" وفي ب احتمال هذا وذاك؛ فإن النقط غير
ظاهر.
(1/127)
وجلبب وشملل وسبهلل1 وقفعدد2، في تسليمه
وترك التعرض لما اجتمع فيه من توالي المثلين متحركين ليبلغ المثال
الغرض المطلوب في حركاته وسكونه ولو ادّغمت لنقضت الغرض الذي اعتزمت.
ومثل امتناعهم من نقض الغرض امتناع أبي الحسن من توكيد الضمير المحذوف
المنصوب في نحو الذي ضربت زيد؛ ألا ترى أنه منع أن تقول: الذي ضربت
نفسه زيد على أن " نفسه" توكيد للهاء المحذوفة من الصلة.
ومما ضعف في القياس والاستعمال جميعًا بيت الكتاب:
له زجل كأنه صوت حاد ... إذا طلب الوسيقة أو زمير3
فقوله: "كأنه " -بحذف الواو وتبقية الضمة- ضعيف في القياس، قليل في
الاستعمال. ووجه ضعف قياسه أنه ليس على حد الوصل ولا على حد الوقف.
وذلك أن الوصل يجب أن تتمكن فيه واوه كما تمكنت في قوله في أول البيت
"لهو زجل " والوقف يجب أن تحذف الواو والضمة فيه جميعًا وتسكن الهاء
فيقال: "كأنه "
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "سهلل" وكأنه محرف عما أثبته أو أصله: ثبلل.
والسبهلل: الفارغ، يقال: جاء سبهللا أي لا شيء معه، وثهلل يقال: هو
الضلال بن ثهلل: أي لا يعرف.
2 القفعدد: القصير.
3 بيت الكتاب قائله الشماخ بن ضرار، يصف حمارا وحشيا. والوسيقة: أنثاه.
والزمير، الغناء في القصبة. وهي الزمارة، بفتح الزاي وتشديد الميم. شبه
تطريبه إذا طلب أنثاه بصوت الحادي أو الغناء, والبيت في الكتاب ص11 ج1،
وديوان الشماخ 36. وفي فرحة الأديب إنكار هذه النسبة.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "كأنه خلس بحذف الواو". وهذه الكلمة "خلس" وضعت
أفوق "كأنه" في البيت وضبطت "خلس" بفتح الأول وسكون الثاني وهو الصواب
في وضعها؛ يراد أن هذه الكلمة فيها خلس لا مد. ونقل في الخزانة 2/ 402
نص ابن جني من قوله: "مما ضعف في القياس والاستعمال جميعا" إلى قوله:
"وروينا أيضا عن غيره: إن لنا لكنة" لكن ببعض حذف.
(1/128)
فضم الهاء بغير واو منزلة بين منزلتي الوصل
والوقف. وهذا موضع ضيق ومقام زلخ1 لا يتقيك بإيناس, ولا ترسو فيه قدم
قياس. وقال أبو إسحاق في نحو هذا: إنه أجرى الوصل مجرى الوقف وليس
الأمر كذلك لما أريتك من أنه لا على حد الوصل ولا على حد الوقف. لكن ما
أجري من نحو هذا في الوصل على حد الوقف قول الآخر 2:
فظلت لدى البيت العتيق أخيله ... ومطواي مشتاقان له أرقان
على أن أبا الحسن حكى أن سكون الهاء في هذا النحو لغة لأزد السراة.
ومثل هذا البيت ما رويناه عن قطرب من قول الشاعر:
وأشرب الماء ما بي نحوه عطش ... إلا لأن عيونه سيل واديها
ورويناه أيضًا عن غيره:
إن لنا لكنة ... مبقة مفنة3
متيحة معنة ... سمعنة نظرنة4
كالذئب وسط القنة ... إلا تره تظنه5
__________
1 كذا في أ. وفي ب: "زلح" وفي ش: "زلج" وزلخ -بسكون اللام وكسرها- مزلة
تزل فيها الأقدام.
2 ينسب ليعلى الأحول الأزدى. ومطواى: صاحباي. وضمير أخيله، وله عائد
إلى البرق في بيت قبله وهو:
أوقت لبرق دونه شدران ... يمان وأهوى البرق كل يمان
وانظر الخزانة 2/ 401.
3 الكنة امرأة الابن أو الأخ "مبقة" كثيرة الكلام "مفنة" نادرة على
فنون الكلام.
4 متيحة: تعرض في كل شيء. والرجل متيح، وكذلك معنة. و"سمعنة نظرنة":
إذا تسمعت شيئًا أو تنظرت فلم تر شيئًا تظنت وعملت بظنها. وانظر اللسان
في "سمع".
5 ذكر في اللسان في سمع روايتين في البيت: "كالذئب وسط العنة"،
و"كالريح حول القنة" وما هنا تلفيق من الروايتين، و"العنة" في الرواية
الأولى: الحظيرة تحبس فيها الغنم والإبل، و"القنة" في الرواية الثانية
الأكمة أو الجبل المستطيل.
(1/129)
فقوله "تره " مما أجري في الوصل مجراه في
الوقف أراد: إلا تر, ثم بين الحركة في الوقف بالهاء, فقال: "تره " ثم
وصل ما كان وقف عليه.
فأما قوله 1:
أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما2
ويروي:
. . . ... . . . . . . منون قالوا ... سراة الجن قلت عموا ظلاما
فمن رواه هكذا فإنه أجرى الوصل مجرى الوقف.
فإن قلت: فإنه في الوقف إنما يكون " منون " ساكن النون وأنت في البيت
قد حركته فهذا إذًا ليس على نية الوقف ولا على نية الوصل فالجواب أنه
لما أجراه في الوصل على حده في الوقف فأثبت الواو والنون التقيا ساكنين
فاضطر حينئذ إلى أن حرك النون لإقامة الوزن. فهذه الحركة إذًا إنما هي
حركة مستحدثة لم تكن في الوقف وإنما اضطر إليها الوصل.
__________
1 هو عند أبي زيد في نوادره 124 شمير بن الحارث الضبي، وفي العيني 4-
498 "ينسب إلى شمر بن الحارث الضبي، وينسب إلى تأبط شرًّا" وهناك أبيات
على روي الحاء تنسب إلى جذع بن سنان الغساني، وانظر الخزانة ج3 ص2 وما
بعدها:
2 قبله كما في النوادر:
ونار قد حضأت بعيد وهن ... بدار لا أريد بها مقاما
سوى تحليل راحلة وعين ... أكالئها مخافة أن تناما
وبعده:
فقلت إلى الطعام فقال مئهم ... زعيم نحسد الأنس الطعاما
قال في الخزانة: "ذكر في أبياته أن الجن طرقته وقد أوقد نارا لطعامه،
فدعاهم إلى الأكل منه، فلم يجيبوه وزعموا أنهم يحسدون الأنس في الأكل،
وأنهم فضلوا عليهم بأكل الطعام".
3 كذا في أ، ب. وسقط هذا اللفظ في ش.
(1/130)
وأما من رواه "منسون أنتم " فأمره مشكل.
وذلك أنه شبه من بأي فقال: "منون أنتم " على قوله: أيون أنتم1، وكما
حمل ههنا أحدهما على الآخر كذلك جمع بينهما في أن جرد من الاستفهام كل
منهما ألا ترى إلى حكاية يونس2 عنهم: ضرب من منا, كقولك: ضرب رجل رجلا.
فنظير هذا في التجريد له من معنى الاستفهام ما أنشدناه من قول الآخر3:
وأسماء ما أسماء ليلة أدلجت ... إلي وأصحابي بأي وأينما4
فجعل "أي " اسمًا للجهة, فلما اجتمع فيها التعريف والتأنيث منعها
الصرف.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "فكما".
2 انظر الكتاب ص402 ج1.
3 نسبة في اللسان في "أين" إلى حميد بن ثور الهلالي، ولحميد هذا قصيدة
طويلة على روي البيت ليس فيها هذا البيت، مطلعها:
سل الربع أني يممت أم سالم ... وهل عادة الربع أن يتكلما
وذكر الشنقيطي في "الوسيط في أدباء شنقيط" أنه وقف على هذه القصيدة،
أرسلها إليه أحمد تيمور باشا طيب الله ثراه. وقال: "وقد سقط من نسخته
بيتان من أولها بقيا في حفظي. وما أدري هل سقط منها غيرهما أم لا:
ألا هيما مما لقيت وهيما ... وويحا لمن لم ألق منهن ويحما
أأسماء ما أسماء ليلة أدلجت ... إلي وأصحابي بأي وأينما
هيما كلمة تحسر".
وفي اللسان: "هيي" نسبة الأولى من هذين البيتين إلى حميد الأرقط،
والظاهر على هذا أن يكون هو أيضا صاحب البيت الثاني، وعلى هذا لا يكون
لحميد بن ثور شيء منهما، وأن الشنقيطي واهم في حفظه، كذلك لا يعول على
ما في اللسان في أين؛ فإن نسخة الديوان طبعة الدار خالية منه.
4 "أدلجت" كذا في اللسان وفي بعض نسخ الخصائص في "خلع الأدلة" وهي
الرواية الجيدة. وفي الأصول هنا: "أدلجوا". وقوله: "وأصحابي بأي
وأينما" أي بمكان مجهول يسأل عنه بأي المكان هو، وأين يقع. وقوله:
"ليلة أدلجت" فالإدلاج: السير في آخر الليل على خلاف في ذلك بين علماء
اللغة. يريد أن طيفها سرى إليه وهو في سفره مع أصحابه. وانظر الوسيط
128.
(1/131)
وأما قوله: "وأينما " ففيه نظر. وذلك أنه
جرده أيضًا من الاستفهام كما جرد أي فإذا هو فعل ذلك احتمل هنا من بعد
أمرين: أحدهما أن يكون جعل "أين " علمًا أيضًا للبقعة فمنعها الصرف
للتعريف والتأنيث كأي فتكون الفتحة في آخر " أين " على هذا فتحة الجر1
وإعرابًا مثلها في مررت بأحمد. فتكون " ما " على هذا زائدة و" أين "
وحدها هي الاسم كما كانت " أي " وحدها هي الاسم. والآخر أن يكون ركب "
أين " مع " ما " فلما فعل ذلك فتح الأول منهما كفتحة الياء من حيهل لما
ضم حي إلى هل فالفتحة في النون على هذا حادثة للتركيب وليست بالتي كانت
في أين وهي استفهام لأن حركة التركيب خلفتها ونابت عنها. وإذا كانت
فتحة التركيب تؤثر في حركة الإعراب فتزيلها إليها نحو قولك: هذه خمسة
معرب2، ثم تقول في التركيب: هذه خمسة عشر فتخلف فتحة التركيب ضمة
الإعراب على قوة حركة الإعراب كان إبدال حركة البناء من حركة البناء
أحرى بالجواز وأقرب في القياس. وإن شئت قلت: إن فتحة النون في قوله: "
بأي وأينما ", هي الفتحة التي كانت في أين وهي استفهام من قبل تجريدها
أقرها بحالها بعد التركيب على ما كانت عليه ولم يحدث خالفًا لها من
فتحة التركيب, واستدللت على ذلك بقولهم: قمت إذ قمت فالذال كما ترى
ساكنة ثم لما ضم إليها " ما " وركبها معها أقرها على سكونها فقال:
إذ ما أتيت على الرسول فقل له3
__________
1 كذا بواو العطف في أ، وفي عبارة اللسان، وسقط في ش، ب.
2 في عبارة اللسان: "فتعرب".
3 عجزه:
حقا عليك إذا اطمأن المجلس
وقبله:
يأيها الرجل الذي تهوى به ... وجناء محمرة المناسم عرمس
(1/132)
فكما لا يشك في أن هذا السكون في " إذ ما "
هو السكون في ذال إذ, فكذلك ينبغي أن تكون فتحة النون من " أينما " هي
فتحة النون من " أين " وهي استفهام.
والعلة في جواز بقاء الحال بعد التركيب على ما كانت عليه قبله عندي هي
أن ما يحدثه التركيب من الحركة ليس بأقوى مما يحدثه العامل فيها ونحن
نرى العامل غير مؤثر في المبني نحو " من أين أقبلت " و " إلى أين تذهب"
فإذا كان حرف الجر على قوته لا يؤثر في حركة البناء فحدث التركيب -على
تقصيره عن حدث الجار- أحرى بألا يؤثر في حركة البناء. فاعرف ذلك فرقًا,
وقس عليه تصب إن شاء الله. وفي ألف " ما " من " أينما " -على هذا
القول- تقدير حركة إعراب:
فتحة في موضع الجر, لأنه لا ينصرف.
وإن1 شئت كان تقديره " منون " كالقول الأول ثم قال: " أنتم "، أي أنتم
المقصودون بهذا الاستثبات؛ كقوله 2:
أنت فانظر لأي حال تصير3
__________
= وبعده:
يا خير من ركب المطي ومن مشى ... فوق التراب إذا تعد الأنفس
إنا وقينا بالذي عاهدتنا ... والخيل تقدع بالكماة وتضرس
وهذا الشعر من قصيدة للعباس بن مرداس السلمي قالها في غزوة حنين. وانظر
سيرة ابن هشام على هامش الروض 2/ 298، والكامل 3/ 158، والكتاب 1/ 432.
1 راجع الكلام على "منون أنتم".
3 أي عدي بن زيد. وانظر الأغاني 2/ 152 طبعة الدار، والكتاب 1/ 70،
والمغني في "الفاء المفردة" وأمالي ابن الشجري 1/ 89.
3 صدره:
أرواح مودع أم بكور
أي أتروح مودعا أم تبكر، أي لا بد لك من الرحيل في البكور أو الرواح
-يريد ترك الدنيا والمصير إلى الموت- فانظر لأمر آخرتك. وقوله: "مودع"
هو بكسر الدال على حد عيشة راضية أي مودع صاحبه, =
(1/133)
إذا أراد: أنت1 الهالك.
وما يرد في هذه اللغة مما يضعف في القياس, ويقل في الاستعمال كثير
جدًّا, وإن تقصيت بعضه طال, ولكن أضع لك منه ومن غيره من أغراض كلامهم
ما تستدل به وتستغني ببعضه من كله بإذن الله وطَوله.
__________
= وإنما الرواح يودع فيه، وهو كقوله تعالى: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}
أي يبصر فيه، فالإسناد فيه على جهة التجوز، ويرى السيرافي بأنه من قبيل
النسب، أي رواح ذو توديع، قال: "فبنى له من المصدر الذي يقع فيه اسم
فاعل، وإن لم يكن جاريا على القمل؛ كما قالوا: رامح وناشب، على معنى ذو
رمح وذو نشاب" وقد ضبط في الأغاني "مودع" بفتح الدال، وقد علمت أن
الرواية الكسر، وقد أورد أبو علي الفارسي الفتح على أنه وجه جائز في
العربية. وانظر أهالي ابن الشجري.
1 أي أن أنت مبتدأ محذوف الخبر. ويجوز عكس هذا على التقدير: الهالك
أنت، ومن الأوجه الجائزة فيه أن يكون "أنت" مبتدأ خبره "رواح" على
المبالغة أو على حذف مضاف أي أنت رواح أو صاحب رواح. وقد بسط السيرافي
في الكلام على البيت وأبدى فيه ستة أوجه.
(1/134)
باب في الاستحسان1:
وجماعه أن علته ضعيفة غير مستحكمة إلا أن فيه ضربًا من الاتساع
والتصرف. من ذلك تركك الأخف إلى الأثقل من غير ضرورة نحو قولهم: الفتوى
والبقوى والتقوى والشروى ونحو ذلك ألا ترى أنهم قلبوا الياء هنا
__________
1 الاستحسان من مصطلح أصول الفقه. وهو أحد الأدلة عند الحنفية. وفي
تحديده اختلاف كثير. ويقول السعد في حاشيته على شرح العضد لمختصر ابن
الحاجب 2/ 289: "اعلم أن الذي استقر عليه رأي المتأخرين هو أن
الاستحسان عبارة عن دليل يقابل للقياس الجلي الذي تسبق إليه الأفهام"
ومن أمثلته السلم، فإن المتبادر إلى الفهم ألا يجوز، لما فيه من انعدام
المعقود عليه، لكنه جوز للحاجة إليه، وهذا المعنى للاستحسان ينقاد مع
ما أراده ابن جني هنا، فمثل الفتوى كان المتبادر ألا يجري فيها إعلال.
فيقال: الفتيا، ولكن عارض هذا الأمر الجلي القاضي بالتصحيح أمر يدعو
إلى الإعلال، وهو الفرق بين الاسم والصفة، وعمل العرب بهذا المعارض،
ولما كان الاعتماد في الاستحسان على ما يقابل الجلي من القياس كان جماع
أمره أن علته ضعيفة غير مستحكمة، كما ذكر المؤلف.
وقد عرض السيوطي في الاقتراح للاستحسان، ونقل فيه بحث ابن جني في هذا
الكتاب، ونقل عن ابن الأنباري الخلاف في الأخذ به في العربية.
(1/134)
واوًا من1 غير استحكام2 علة أكثر من أنهم
أرادوا الفرق بين الاسم والصفة. وهذه ليست علة معتدة ألا تعلم كيف
يشارك الاسم الصفة في أشياء كثيرة لا يوجبون على أنفسهم الفرق بينهما
فيها. من ذلك قولهم في تكسير حسن: حِسان فهذا كجبل وجبال وقالوا: فرس
وَرد3 وخيل وُرد4 فهذا كسَقف وسُقف 4. وقالوا: رجل غفور وقوم غُفُر
وفخور وفخر فهذا كعمود وعمد. وقالوا: جمل بازل وإبل بوازل وشغل شاغل
وأشغال شواغل فهذا كغارب وغوارب وكاهل وكواهل. ولسنا ندفع أن يكونوا قد
فصلوا بين الاسم والصفة في أشياء غير هذه إلا أن جميع ذلك إنما هو
استحسان لا عن ضرورة علة وليس بجار مجرى رفع الفاعل ونصب المفعول ألا
ترى أنه لو كان الفرق بينهما واجبًا لجاء في جميع الباب؛ كما أن رفع
الفاعل ونصب المفعول منقاد في جميع الباب.
فإن قلت: فقد قال الجعدي:
حتى لحقنا بهم تعدي فوارسنا ... كأننا رعن قف يرفع الآلا5
__________
1 كذا في ش، ب، وفي أ: "عن".
2 انظر ص88 من هذا الجزء في إعلال الأمثلة المذكورة.
3 أي ذو لون أحمر يضرب إلى صفرة، وكان ما فيه هذا اللون فهو ورد.
4 ضبط في أ، ب، ج "ورد وسقف" بسكون العين كقفل، والوارد في ورد السكون.
وأما سقف فالوارد فيه الضم كعنق، ويظهر أن أبا الفتح وهم في هذا فظن
سقفا كققل أو أنه رأى فيه التخفيف كما يقال في كتب: كتب, وفي رسل: رسل
بتسكين العين فيهما.
5 بعده:
فلم نوقف مشلين الرماح ولم ... نوجد عواوير يوم الروع عزالا
والبيت في الأمالي 2/ 228، وفي المختار من شعر بشار 262 وفيه بعد أن
أورده: "وقال العلماء: هذا من المقلوب، وإنما أراد الشاعر: كأننا رعن
قف يرفعه الآل، والرعن: أول كل شيء والقف: ما غلظ من الأرض ولم يبلغ أن
يكون جبلا" والآل: السراب، وهو ما يراه الإنسان في الصحراء نصف النهار
كأنه ماء. وترى ابن جني يذهب فيه مذهبا غير القلب الذي ذهب إليه غيره،
وقد تبعه البكري في اللآلي.
(1/135)
فرفع المفعول ونصب الفاعل, قيل لو لم
يحتمل1 هذا البيت إلا ما ذكرته لقد كان على سمت من القياس ومطرب2 متورد
بين الناس؛ ألا ترى أنه على كل حال قد فرق فيه بين الفاعل والمفعول,
وإن اختلفت جهتا الفرق. كيف ووجهه في أن يكون الفاعل فيه مرفوعًا,
والمفعول منصوبًا قائم صحيح مقول به. وذلك أن رعن هذا القف لما رفعه
الآل فرئي فيه, ظهر به الآل إلى مرآة العين ظهورًا لولا هذا الرعن لم
يبن للعين فيه3 بيانه إذا كان فيه؛ ألا تعلم أن الآل إذا برق للبصر
رافعًا شخصًا كان أبدى للناظر إليه منه لو لم يلاق شخصًا يزهاه فيزداد
بالصورة التي حملها سفورًا وفي مسرح الطرف تجليًا وظهورًا.
فإن قلت: فقد قال الأعشى:
إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا4
فجعل الآل هو الفاعل والشخص هو المفعول قيل ليس في هذا أكثر من أن هذا
جائز وليس فيه دليل على أن غيره غير جائز؛ ألا ترى أنك إذا قلت ما
جاءني غير زيد فإنما في هذا دليل على أن الذي هو غيره لم يأتك فأما زيد
نفسه فلم تعرض للإخبار5 بإثبات مجيء له أو نفيه عنه فقد يجوز6 أن يكون
قد جاء وأن يكون أيضًا لم يجئ.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "يحصل".
2 المطرب، وكذا المطربة: الطريق.
3 كذا في أ، ب، ش وسقط هذا اللفظ في عبارة اللسان.
4 صدره:
إذ نظرت نظرة ليست بكاذبة
وقبله:
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... حقا كما صدق الذئبي إذ سجعا
وهو في الحديث عن عنز اليمامة، والذئبي: سطيح الكاهن، ورأس الكلب: جبل
باليمامة. وانظر الديوان 74.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "في الإخبار"، وكأنه ضمن تعرض معنى تدخل فعداه
بفي. وفي عبارة اللسان: "فلم يعرض للإخبار".
6 كأنه جرى في هذا على اصطلاح المناطقة. فأما في العربية فإن قولك: ما
جاءني غير زيد استثناء مفرغ، كقولك: ما جاءني إلا زيد، وهذا يفيد البتة
مجيء زيد.
(1/136)
فإن قلت: فهل تجد لبيت الجعدي على تفسيرك
الذي حكيته ورأيته نظيرًا؟ قيل: لا ينكر وجود ذلك مع الاستقراء واعمل
فيما بعد على أن لا نظير له, ألا تعلم أن القياس إذا أجاز شيئًا وسمع
ذلك الشيء عينه فقد ثبت1 قدمه, وأخذ من الصحة والقوة مأخذه, ثم لا يقدح
فيه ألا يوجد له نظير لأن إيجاد النظير وإن كان مأنوسًا به فليس في
واجب النظر إيجاده؛ ألا ترى أن قولهم: في شنوءة شنَئي لما قبله القياس
لم يقدح فيه عدم نظيره نعم ولم يرض له أبو الحسن بهذا القدر من القوة
حتى جعله أصلا يرد إليه ويحمل غيره عليه. وسنورد فيما بعد بابًا لما
يسوغه القياس وإن لم يرد به السماع بإذن الله وحوله.
ومن ذلك -أعني الاستحسان- أيضًا قول الشاعر:
أريت إن جئت به أملودا ... مرجلا ويلبس البرودا3
أقائلن أحضروا الشهودا
فألحق نون التوكيد اسم الفاعل تشبيهًا له بالفعل المضارع. فهذا إذًا
استحسان لا عن قوة علة ولا عن استمرار عادة؛ ألا تراك لا تقول:
أقائمنَّ يا زيدون ولا أمنطلقنَّ يا رجال إنما تقوله بحيث سمعته وتعتذر
له, وتنسبه إلى أنه استحسان منهم على ضعف منه واحتمال بالشبهة له.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "ثبتت"، وكلاهما جائز؛ فإن القدم مؤنث مجازي.
2 انظر ص117 من هذا الجزء.
3 "جئت" بضم التاء كما نص عليه صاحب الخزانة، وإن ضبط في أبفتحها. وكان
من قصة هذا الرجز أن رجلا من العرب أتى أمة له، فلما حبلت جحدها وزعم
أنه لم يقربها، فقالت هذا الرجز تريد: أخبرني إن ولدت ولدا هذه صفته
أتقول لي ولمن يشايعني: أحضروا الشهود على أن هذا الولد منك. إنك لن
تقول ذلك وإنما ترضى بالولد، فاصبر فعسى أن أجيء، بما يقر عينك، وفي
بعض الروايات "جاءت" بدل "جئت"، و"أحضري" بدل "أحضروا". وانظر الخزانة
574 ج4، وشرح الكامل للمرصفي 1/ 97.
(1/137)
ومن الاستحسان قولهم: صبية وقِنية وعِذيُ
وبِليُ سفر, وناقة عليان, ودبة1 مهيار. فهذا كله استحسان2 لا عن
استحكام علة. وذلك أنهم لم يعتدوا الساكن حائلا بين الكسرة والواو
لضعفه وكله من الواو. وذلك أن " قنية" من قنوت ولم يثبت أصحابنا قنيت
وإن كان البغداديون قد حكوها و" صبية" من صبوت و" علية" من علوت و "
عذي " من قولهم أرضون عذوات و" بلي " سفر من قولهم في معناه: بِلوٌ
أيضًا ومنه البلوى, وإن لم يكن فيها دليل3، إلا أن الواو مطردة في هذا
الأصل قال 4:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو5
وهو راجع إلى معنى بلو سفر وقالوا: فلان مبلو بمحنة وغير ذلك والأمر
فيه واضح وناقة " عليان" من علوت أيضًا كما قيل لها: ناقة سناد, أي
أعلاها متساند إلى أسفلها ومنه سندنا إلى الجبل أي علونا وقال الأصمعي:
قيل لأعرابي: ما الناقة القرواح فقال: التي كأنها تمشي على أرماح. ودبة
" مهيار" من قولهم هار يهور وتهور الليل على أن أبا الحسن قد حكى فيه
هار يهير وجعل الياء فيه لغة وعلى قياس قول6 الخليل في طاح يطيح وتاه
يتيه لا يكون في يهير دليل، لأنه قد يمكن أن يكون: فَعِل يَفعِل
مثلهما. وكله لا يقاس؛ ألا تراك لا تقول في جرو: جِرى ولا في عِدوة
الوادي: عِدية ولا نحو ذلك. ولا يجوز في قياس قول من
__________
1 الدبة: الكثيب من الرمل.
2 انظر في هذه الكلمات ص97 وما بعدها من هذا الجزء.
3 وذلك أن البلوى يحتمل أن تكون الواو فيها بدلا من الياء كالفتوى
والتقوى.
4 هو زهير وانظر الديوان 109.
5 صدره:
جزى الله الإحسان ما فعلا بكم
6 انظر كتاب سيبويه ص361 ج2.
(1/138)
قال عليان, ومهيار, أن تقول في قرواح1,
ودرواس2: قرياح ودرياس3، وذلك لئلا يلتبس مثال فعوال بفعيال فيصير
قرياح ودرياس كسرياح وكرياس. وإنما يجوز هذا فيما كانت واوه أصلية لا
زائدة وذلك أن الأصلي يحفظ نفسه بظهوره في تصرف أصله ألا تراك إذا قلت:
علية ثم قلت: علوت وعلو وعلوة4 وعلاوة ويعلو5 ونحو ذلك, دلك وجود الواو
في تصرف هذا الأصل على أنها هي الأصلية وأن الياء في علية بدل منها وأن
الكسرة هي التي عذرت بعض العذر في قلبها وليس كذلك الزائد ألا تراه لا
يستمر في تصرف الأصل استمرار الأصلي فإذا عرض له عارض من بدل أو حذف لم
يبق هناك في أكثر الأمر ما يدل عليه وما يشهد به؛ ألا تراك لو حقرت
قرياحًا بعد أن أبدلت واوه ياء على حذف زوائده لقلت 6: قريح فلم تجد
للواو أثرًا يدلك على أن ياء قرياح بدل من الواو7، كما دلك علوت وعلو
ورجل معلو بالحجة ونحو ذلك على أن ياء " علية" بدل من الواو.
فإن قلت: فقد قالوا في قرواح: قرياح أيضًا سمعًا جميعًا فإن هذا ليس
على إبدال الياء من الواو لا بل كل واحد منها مثال برأسه مقصود قصده.
__________
1 القرواح من النوق: الطويلة القوائم، والقرواح أيضا المزرعة ليس بها
نبات ولا شجر، ويقال فيها أيضا قرياح.
2 الدرواس: الغليظ العنق من الناس والكلاب.
3 هو الكلب العقور.
4 يقال: أخذ مالي علوة أي عنوة وقهرا كما في اللسان. وقد يكون "علوه"
بهاء الضمير.
5 كذا في أ، وفي ش، ب: "يعلوه".
6 كذا في أ، وفي ش، ب: "قلت".
7 كذا في ش، ب. وفي أ: "واو".
(1/139)
فقرواح كقرواش1 وجلواخ2، وقرياح ككرياس3
وسرياح4؛ ألا ترى أن أحدًا لا يقول: كرواس ولا سرواح ولا يقول أحد
أيضًا في شرواط4 وهلواع 5: شرياط ولا هلياع. وهذا أحد ما يدلك على ضعف
القلب فيما هذه صورته؛ لأن القلب للكسرة مع الحاجز لو كان قويًّا في
القياس لجاء في الزائد مجيئه في الأصلي كأشياء كثيرة من ذلك.
ومثل امتناعهم من قلب الواو في نحو هذا ياء من حيث كانت زائدة فلا عصمة
لها ولا تلزم لزوم الأصلي فيعرف بذلك أصلها أن ترى الواو الزائدة
مضمومة ضمًّا لازمًا ثم لا ترى العرب أبدلتها همزة كما أبدلت الواو
الأصلية نحو أجوه وأُقتت. وذلك نحو الترهوك7، والتدهور والتسهوك 8: لا
يقلب أحد هذه الواو -وإن انضمت ضمًّا لازمًا- همزة من قبل أنها زائدة
فلو قلبت فقيل: الترهؤك لم يؤمن أن يظن أنها همزة أصلية غير مبدلة من
واو.
فإن قلت: ما تنكر أن يكون تركهم قلب هذه الواو همزة مخافة أن تقع
الهمزة بعد الهاء وهما حلقيان وشديدا التجاور, قيل: يفسد هذا أن هذين
الحرفين قد تجاورا والهاء مقدمة على الهمزة نحو قولهم: هأهأت في الدعاء
9.
__________
1 هو الطفيل، والعظيم الرأس.
2 هو الوادي الواسع الممتلئ.
3 الكرياس: الكنيف يكون مشرفا على سطح القناة إلى الأرض.
4 يقال: فرس سرياح سريع، والسرياح أيضا الجراد.
5 هو الطويل.
6 هي السريعة من النوق.
7 يقال مر يترهوك أي يموج في مشيه من استرخاء مفاصله.
8 يقال تسهوك: مشى رويدا.
9 يقال: هأهأ بالإبل: دعاها للعلف.
(1/140)
فإن قلت: هذا إنما جاء في التكرير,
والتكرير قد يجوز فيه ما لولاه لم يجز؛ ألا ترى أن الواو لا توجد
منفردة في ذوات الأربعة إلا في ذلك الحرف وحده وهو "وَرَنْتَل "1 ثم
إنها قد جاءت مع التكرير مجيئًا متعالمًا نحو وَحْوَحَ2 ووَزْوَزَ3
ووكواك4 ووُزاوِزة3 وقوقيت وضوضيت وزوزيت5 وموماة ودَوْداة6 وشَوْشاة7
قيل: قد جاء امتناعهم من همز نظير هذه الواوات بحيث لا هاء. ألا تراهم
قالوا: زحْولته8 فتزحول تَزَحْولا وليس أحد يقول تزحؤلا. وقد جمعوا
بينهما متقدمة الحاء على الهمزة: نحو قولهم في الدعاء: حُؤْ حُؤْ 9.
فإن قيل: فهذا أيضًا إنما جاء في الأصوات المكررة كما جاء في الأول
أيضًا في الأصوات المكررة نحو هُؤْ هُؤْ وقد ثبت أن التكرير محتمل فيه
ما لا يكون في غيره.
قيل: هذه مطاولة نحن فتحنا لك بابها وشرعنا منهجها, ثم إنها مع ذلك لا
تصحبك ولا تستمر بك؛ ألا تراهم قد قالوا في " عنونت الكتاب ": إنه يجوز
__________
1 هي الداهية، والأمر العظيم.
2 الوحوحة: النفخ من شدة البرد.
3 الوزوزة الوثب، والوزاوزة: الرجل الطائش الخفيف.
4 هو الجبان.
5 زوزى الرجل: نصب ظهره وقارب الخطر.
6 هي أثر الأرجوحة.
7 هي الناقة السريعة.
8 في الأصول: "رحولته فترحول ترحولا" بالراء المهملة ولم أقف على هذا
في اللغة، فأصلحته إلى ما ترى. يقال: زحوله عن مكانه، فتزحول: أزاله
عنه فزال.
9 كذا في الأصول. والذي في اللسان: "حئ حئ: دعاء الحمار إلى الماء ...
والحأحأة -وزن الجعجعة- بالكبش: أن تقول له: حأحأ زجرًا".
(1/141)
أن يكون فعولت من عنّ يعنّ ومطاوعه
تَعَنْوَن ومصدره التَّعَنْوُن وهذه الواو لا يجوز همزها لما قدمنا
ذكره, وأيضًا فقد قالوا في عَلْونته: يجوز أن يكون فَعْولت من العلانية
وحاله في ذلك حال عنونته على ما مضى. وقد قالوا أيضًا: سرولته تسرولا
ولم يهمزوا هذه الواو لما ذكرنا. فإن قيل: فلو همزوا فقالوا: التسرؤل
لما خافوا لبسًا لقولهم مع زوال الضمة عنها: تسرول وسرولته ومسرول كما
أنهم لما قالوا: وقت وأوقات وموقت ووقّته أعلمهم ذلك أن همزة "أقتت "
إنما هي بدل من واو. فقد ترى الأصل والزائد1 جميعًا متساويين متساوقين
في دلالة الحال بما يصحب كل واحد منهما من تصريفه وتحريفه وفي هذا نقض
لما رُمْت به الفصل بين الزائد والأصل.
قيل كيف تصرَّفت الحال فالأصل أحفظ لنفسه, وأدلُّ عليها من الزائد؛ ألا
ترى أنك لو حقرت تسرولا -وقد همزته- تحقير الترخيم لقلت " سريل" فحذفت
الزائد2 ولم يبق معك دليل عليه ولو حقرت نحو "أقتت " -وقد نقلتها إلى
التسمية فصارت "أقتة " - تحقير الترخيم لقلت: وقيتة وظهرت الواو التي
هي فاء.
فإن قلت: فقد تجيز ههنا أيضًا "أقيتة " قيل الهمز ههنا جائز لا واجب
وحذف الزوائد من "تسرؤل " في تحقير الترخيم واجب لا جائز. فإن قلت:
وكذلك همز الواو في "تسرؤل " إنما يكون جائزًا أيضًا لا واجبًا قيل:
همز الواو حشوًا أثبت قدمًا من همزها مبتدأة أعني في بقائها وإن زالت
الضمة عنها؛ ألا ترى إلى قوله3 في تحقير قائم: قويئم وثبات الهمزة وإن
زالت الألف الموجبة
__________
1 كذا في ش، ب، وفي أ: "الزوائد".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "الزوائد" ويريد بالزائد الجنس.
3 يريد سيبويه في الكتاب 2/ 127.
(1/142)
لها, فجرت لذلك مجرى الهمزة الأصلية في نحو
سائل وثائر1 من سأل وثأر، -كذا2 قال- فلذلك اجتنبوا أن يهمزوا واو
"تسرول " لئلا تثبت قدم الهمزة فيرى أنها ليست بدلا وليس كذلك همزة "
أقتت", ألا تراها متى زالت الضمة عنها عادت واوًا نحو موقت ومويقت.
فإن قلت: فهلا أجازوا همز واو " تسرول " وأمنوا اللبس وإن قالوا في
تحقير ترخيمه " سريل " من حيث كان وسط الكلمة ليس بموضع لزيادة الهمزة
إنما هو موضع زيادة الواو نحو جدول وخِروع2 وعجوز وعمود. فإذا رأوا
الهمزة موجودة في " تسرؤل" محذوفة من " سريل" علموا -بما فيها مكن
الضمة- أنها بدل من واو زائدة فكان ذلك يكون أمنًا من اللبس؟
قيل: قد زادوا الهمزة وسطًا في أحرف صالحة. وهي شمأل3 وشأمل3، وجرائض4،
وحطائط بطائط5، ونِئدلان6، وتأبل7، وخأتم, وعألم, وتأبلت القدر,
والرئبال 8، فلما جاء ذلك كرهوا أن يقربوا باب لبس.
فإن قلت: فإن همزة تأبل, وخأتم, والعألم إنما هي بدل من الألف قيل: هي
وإن كانت بدلا فإنها بدل من الزائد والبدل من الزائد زائد وليس البدل
من الأصل بأصل.
__________
1 في كتاب سيبويه ص128 ج2: "وشاء من شأوت".
2 هو الشجر الذي يتخذ من حبه الزيت المسهل المعروف، وكل نبات بان من
شجر أو عشب خروع.
3 هذه لغات في الشمال. وهي من الرياح ما تهب من ناحية القطب الشمالي.
4 يقال: جمل جرائض: إذا كان أكولا.
5 حطائط: الصغير من الناس وغيرهم. وبطائط: اتباع.
6 التئدلان: الكابوس.
7 التأبل: لغة في التابل. والجمع التوابل. وهي الأبزار تضاف إلى
الطعام؛ كالفلفل والكمون.
8 الرئبال: الأسد.
(1/143)
فقد ترى أن حال البدل من الزائد أذهب به1
في حكم ما هو بدل منه من الأصل في ذلك. فاعرف هذا.
ومن الاستحسان قولهم: رجل غديان وعشيان وقياسه: غدوان وعشوان لأنهما من
غدوت وعشوت أنشدنا أبو عليّ:
بات ابن أسماء يعشوه ويصبحه ... من هجمة كأشاء النخل درار2
ومثله أيضًا دامت3 السماء تديم ديمًا, وهو من الواو, لاجتماع العرب
طرًّا على " الدوام " و "هو أدوم من كذا ".
ومن ذلك ما يخرج تنبيهًا على أصل بابه نحو استحوذ وأَغْيَلَتِ المرأة،
و:
صددتَ فأطوَلْتَ الصدود 4 ...
__________
1 الضمير في "به" يعود على البدل.
2 قائله قرط بن التوأم اليشكري ولم أقف لهذا الشاعر على ترجمة. وفي
العمدة ذكر التوأم اليشكري مع امرئ القيس في إجازة أبيات. والبيت في
إصلاح المنطق طبعة المعارف 222 وفي شواهد ابن السيرافي عليه "الورقة
138 ب". وفيهما: "كان" بدل "بات"، ويقول ابن السيرافي: "ويروي "كان ابن
شماء" يذكر تله لبني مطر، وإغارته عليهم. وميار: اسم فرس. يقول: افتدوا
مني بهذا الفرس. وكان ابن أسماء يعشو هذا الفرس: أي يعشيه: يسقيه اللبن
بالعشي، ويصبحه: يسقيه في الصباح اللبن ... وإذا سقي الفرس اللبن وربي
عليه كان أنفع له، وأسرع في عدوه، ويقول الصاغاني في التكملة "صبح" بعد
أن أورد عن الصحاح البيت كما ورد في الإصلاح، "وإنما هو" "كان ابن
شماء" واسمه شرسفة بن خليف فارس ميار. قتله قرط بن التوأم اليشكري،
والبيت لقرط"، والهجمة: القطعة من الإبل، ما بين الثلاثين والمائة.
والأشاء: صغار النخل. ويروى "كفسيل النخل". "ودرار" نعت هجمة: كثيرة
الدر: وهو اللبن.
3 أي كان مطرها ديمة، وهو مطر خفيف لا برق فيه ولا رعد، تدوم به
السماء.
4 هذا بعض البيت:
صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم
وقد نسب هذا البيت في الكتاب 1/ 12 إلى عمر بن أبي ربيعة ونسبه الأعلم
إلى المزار الفقعسي، وهو ما في شرح المغني للبغدادي في مبحث "ما" وفي
كناية الأسير على المغني في هذا المبحث، وما في الخزانة 4/ 289. وهذا
البيت أحد أبيات أربعة، وقبله:
صرمت ولم يصرم وأنت صروم ... وكيف تصابي من يقال حليم
(1/144)
وقالوا1: هذا شراب مبولة2، وهو مطيبة
للنفس، وقالوا:
فإنه3 أهل لأن يؤكرما
ونظائره كثيرة غير أن ذلك يخرج ليعلم به أن أصل استقام استقوم وأصل
مقامة مقومة وأصل يحسن يؤحسن. ولا يقاس هذا ولا ما قبله لأنه لم تستحكم
علته وإنما خرج تنبيهًا وتصرفًا واتساعًا.
__________
= وبعده:
وليس الغواني للجفاء ولا الذي ... له عن تقاضي دينهن هموم
ولكنما يستنجز الوعد تابع ... هواهن حلاف لهن أثيم
قال أبو محمد الأعرابي: "يقول: صرمت، ولم تصرم صرم بنات، ولكن صرم
دلال؛ يخاطب نفسه ويلومها على طول الصدود. أي لا يدوم وصال الغواني إلا
لمن يلازمهن ويخضع لهن، فسر ذلك بالبيتين بعدهما". انظر الخزانة في
الموطن السابق. ومنه يعلم أن التاء في "صددت" وقوله: "فأطولت" مفتوحة؛
لقوله قبل: "صرمت ولم تصرم".
1 سقط في ش, ب، د، هـ.
2 في اللسان: "كثرة الشراب مبولة" وقد أنكر الشيخ سيد المرصفي لهذا على
ابن جني ما أورده، وقال: "هذا ما يقول ابن جني. وكلام العرب: كثرة
الشراب مبولة"، وفي ابن يعيش على المفصل "مبحث الواو والياء عينين":
"وحكى أبو زيد: هذا شيء مطيبة للنفس، وهذا شراب مبولة".
3 هذا شطر بيت من الرجز. قال البغدادي في شرح شواهد الشافية 58: "وقد
بالغت في مراجعة المواد والمظان فلم أجد قائله ولا تتمته".
(1/145)
باب في تخصيص العلل1:
اعلم أن محصول مذهب أصحابنا ومتصرف2 أقوالهم مبني على جواز تخصيص
العلل. وذلك أنها وإن تقدمت علل الفقه فإنها أو أكثرها إنما تجري مجرى
__________
1 هذا البحث مستعار في العربية من أصول الفقه، ومحل تخصيص العلة أن
يتخلف الحكم مع وجود العلة. ومن أمثلة هذا في الفقه أن يعلل الربا
بالطعم، فيورد على هذا العرايا، وهي بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب،
ففيها الطعم، والتعاوض فيها مع جهل التماثل ليس بحرام في مقدار معين
مبين في الفروع. فقد وجدت العلة وتخلف الحكم. ويختلف الفقهاء في هذا:
فمنهم من يراه قدحا في العلة، ويسميه نقضا, ومنهم من لا يراه نقضا،
ويعود به على العلة بالتخصيص. وقد ذكر السيوطي في الاقتراح هذا البحث
في باب "القوادح في العلة".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "تصرف".
(1/145)
التخفيف والفرق, ولو تكلف متكلف نقضها لكان
ذلك ممكنًا -وإن كان على غير قياس- ومستثقلا؛ ألا تراك لو تكلفت تصحيح
فاء ميزان وميعاد لقدرت على ذلك1، فقلت: مِوزان ومِوعاد. وكذلك لو آثرت
تصحيح فاء موسر, ومُوقن, لقدرت على ذلك فقلت: ميسر, وميقن. وكذلك لو
نصبت الفاعل ورفعت المفعول أو ألغيت العوامل: من الجوار والنواصب
والجوازم لكنت مقتدرًا على النطق بذلك2، وإن نفى القياس تلك الحال.
وليست كذلك علل المتكلمين لأنها لا قدرة على غيرها ألا ترى أن اجتماع
السواد والبياض في محل واحد ممتنع لا مستكره وكون الجسم متحركًا ساكنًا
في حال واحدة فاسد. لا طريق إلى ظهوره ولا إلى تصوره. وكذلك ما كان من
هذا القبيل. فقد ثبت بذلك تأخر علل النحويين عن علل المتكلمين وإن
تقدمت علل المتفقهين.
ثم اعلم من بعد هذا أن علل النحويين على ضربين:
أحدهما ما لا بد منه فهو لاحق بعلل المتكلمين وهو قلب الألف واوًا
لانضمام ما قبلها وياء لانكسار ما قبلها نحو ضورب وقراطيس وقد تقدم
ذكره. ومن ذلك امتناع الابتداء بالساكن وقد تقدم ما فيه.
ثم يبقى النظر فيما بعد فنقول: إن هذه العلل التي يجوز تخصيصها كصحة
الواو إذا اجتمعت مع الياء وسبقت الأولى منهما بالسكون؛ نحو حيوة وعوى
الكلب عوية, ونحو صحة الواو, والياء في نحو غزوا ورميا, والنزوان,
والغليان, وصحة الواو في نحو اجتوروا, واعتونوا, واهتوشوا3،
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "ذاك".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "بذاك".
3 يقال تهوش القوم، وتهاوشوا: اختلطوا. ولم أنف في اللسان والقاموس على
"اهتوش".
(1/146)
إنما اضطر القائل بتخصيص العلة فيها وفي
أشباهها؛ لأنه لم يحتط في وصف العلة ولو قدم الاحتياط فيها لأمن
الاعتذار بتخصيصها. وذلك أنه إذا عقد هذا الموضع قال في علة قلب الواو
والياء ألفًا: إن الواو والياء متى تحركتا وانفتح ما قبلهما قلبتا
ألفين1، نحو قام وباع, وغزا, ورمى, وباب, وعاب, وعصا, ورحى, فإذا أدخل2
عليه فقيل له: قد صحتا في نحو غزوا, ورميا, وغزوان, وصميان3, وصحت
الواو خاصة في نحو اعتونوا, واهتوشوا أخذ يتطلب ويتعذر فيقول: إنما
صحتا في نحو رميا, وغزوا مخافة أن تقلبا ألفين فتحذف إحداهما فيصير
اللفظ بهما: غزا ورمى فتلتبس التثنية بالواحد. وكذلك لو قلبوهما ألفين
في نحو نفيان ونزوان لحذفت إحداهما فصار اللفظ بهما نفان ونزان فالتبس
فعلان مما لامه حرف علة بفعال مما لامه نون. وكذلك يقولون 4: صحت الواو
في نحو اعتونوا واهتوشوا لأنهما في معنى ما لا بد من صحته أعني تعاونوا
وتهاوشوا. وكذلك يقولون: صحتا في نحو عور وصيد لأنهما في معنى اعور
واصيد وكذلك يقولون في نحو بيت5 الكتاب:
وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "ألقا".
2 أي أورد عليه دخل، وهو الفساد والعيب. وهذا التعبير كقول المتأخرين،
اعترض عليه.
3 الصميان من الرجال: الشديد. وفي ش زيادة: "ورميان" وتأخير" غزوان".
4 كذا في أ. وسقط لفظ "يقولون" في ش، ب.
5 لم أقف على هذا البيت في الكتاب. وهو ينسب إلى الفرزدق، ولكن لم أقف
له على صلة في ديوانه. وقد نسبه إليه مفردا المبرد في الكامل 1/ 127
طبعة المرصفي، وابن رشيق في العمدة في "باب الوحشي المتكلف, والركيك
المستضعف" وأبو الفرج في الأغاني ج19 ص15 طبعة بولاق ببعض مخالفة في
الشطر الأول. وهو من شواهد البلاغة، يذكر شاهدا التعقيد اللفظي، وقد
أورده صاحب معاهد التنصيص، ولم يذكر صلته مع إطنابه في ترجمة الفرزدق.
(1/147)
إنما جاز ما فيه من الفصل " بين ما لا
يحسن"1 فصله لضرورة الشعر. وكذلك ما جاء من قصر الممدود ومد المقصور
وتذكير المؤنث وتأنيث المذكر ومن وضع الكلام في غير موضعه يحتجون في
ذلك وغيره بضرورة الشعر ويجنحون2 إليها مرسلة غير متحجرة وكذلك ما عدا
هذا: يسوون بينه ولا يحتاطون فيه فيحرسوا أوائل التعليل له. وهذا هو
الذي نتق3 عليهم هذا الموضع حتى اضطرهم إلى القول بتخصيص العلل وأصارهم
إلى حيز التعذر والتمحل. وسأضع في ذلك رسمًا يقتاس فينتفع به بإذن الله
ومشيئته.
وذلك أن نقول في علة قلب الواو والياء ألفًا: إنهما متى تحركتا حركة
لازمة وانفتح ما قبلهما وعرى الموضع من اللبس أو أن يكون في معنى ما لا
بد من صحة الواو والياء فيه, أو أن يخرج على الصحة منبهة على أصل بابه,
فإنهما يقلبان ألفًا. ألا ترى أنك إذا احتطت في وصف العلة بما ذكرناه
سقط عنك الاعتراض عليك بصحة الواو والياء في حوبة وجيل إذ كانت الحركة
فيهما عارضة غير لازمة، إنما هي منقولة إليهما من الهمزة المحذوفة
للتخفيف في حوأبة4 وجيأل5.
وكذلك يسقط عنك الإلزام لك بصحة الواو والياء في نحو قوله تعالى: {لَوِ
اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} وفي قولك في تفسير قوله عز وجل: {وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا
__________
1 كذا في أ، وفي ش، ب: "مما لا يحسن".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "يحنجون" وهو تصحيف.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "فتسق" وننسق الشيء: حركه، وجذبه. وفتقه: فتحه
وأبدى عنه وقد كان مستورا.
4 يقال. دلو حوأبة: ضخمة. وهو تركيب "ح أب" فوزنه فوعلة.
5 الجيأل: الضبع.
(1/148)
وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ} : معناه:
أي امشوا. فتصح الياء والواو متحركتين مفتوحًا ما قبلهما من حيث كانت
الحركة فيهما لالتقاء الساكنين فلم يعتد لذلك.
وكذلك يسقط عنك الاعتراض بصحة الواو والياء في عور وصيد, بأنهما في
معنى ما لا بد فيه من صحة الواو والياء وهما اعور واصيد. وكذلك صحت في
نحو اعتونوا وازدوجوا لما كان1 في معنى ما لا بد فيه من صحتها وهو
تعاونوا وتزاوجوا. وكذلك صحتا في كروان وصميان مخافة أن يصيرا من مثال
فعلان واللام معتلة إلى فعال واللام صحيحة وكذلك صحتا في رجل سميته
بكروان, وصميان ثم رخمته ترخيم قولك يا حار فقلت: يا كرو ويا صمى لأنك2
لو قلبتهما فيه فقلت: يا كرا ويا صما لالتبس فعلان بفعل ولأن الألف
والنون فيهما مقدرتان أيضًا فصحتا كما صحتا وهما موجودتان. وكذلك صحت
أيضًا الواو والياء في قوله عز اسمه: {وَعَصَوُا الرَّسُولَ} وقوله
تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وقوله تعالى:
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} من حيث كانت الحركة عارضة
لالتقاء الساكنين غير لازمة. وكذلك صحتا في القود والحوكة والغيب
تنبيهًا على أصل باب ودار وعاب.
أفلا ترى إلى احتياطك في العلة كيف أسقط عنك هذه الالتزامات كلها ولو
لم تقدم الأخذ بالحزم لاضطررت إلى تخصيص العلة وأن تقول: هذا من أمره
... ، وهذا من حاله ... ، والعذر في كذا وكذا ... ، وفي كذا وكذا ... ،
__________
1 أي نحو اعتونوا وازدوجوا.
2 كان من الخير له أن يحذف هذا الوجه من التعليل ويقتصر على ما بعده؛
فإن ما ذكر يقضي بألا يقال: باكرا، وياصما، عند الترخيم على لغة
الاستقلال؛ لئلا يلتبس فعلان بفعل وهذا لم يمنع في النحو. وانظر
الأشموني في مبحث "الترخيم".
(1/149)
وأنت إذا قدمت ذلك الاحتياط لم يتوجه عليك
سؤال؛ لأنه متى قال لك: فقد صحت الياء والواو في جيل وحوبة, قلت: هذا
سؤال يسقطه ما تقدم, إذ كانت الحركة عارضة لا لازمة ولو لم تحتط بما
قدمت لأجاءتك الحال إلى تمحل الاعتذار.
وهذا عينه موجود في العلل الكلامية ألا ترى أنك تقول في إفساد اجتماع
الحركة والسكون على المحل الواحد: لو اجتمعا لوجب أن يكون المحل الواحد
ساكنًا متحركًا في حال واحدة ولولا قولك: في حال واحدة لفسدت العلة ألا
ترى أن المحل الواحد قد يكون ساكنًا متحركًا في حالين اثنين.
فقد علمت بهذا وغيره مما هو جار مجراه قوة الحاجة إلى الاحتياط في
تخصيص العلة.
فإن قلت: فأنت إذا حصل عليك هذا الموضع لم1 تلجأ في قلب الواو والياء
إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما ألفين إلا إلى الهرب من اجتماع الأشباه
وهي حرف العلة والحركتان اللتان اكتنفتاه وقد علم مضارعة الحركات
لحروف, اللين وهذا أمر موجود في قام, وخاف, وهاب كوجوده في حوِل,
وعوِر, وصيِد, وعيِن؛ ألا ترى أن أصل خاف وهاب: خوِف وهَيِب فهما في
الأصل كحول وصيد, وقد تجشمت في حول وصيد من الصحة ما تحاميته في خوف
وهيب. فأما احتياطك بزعمك في العلة بقولك: إذا عري الموضع من اللبس،
وقولك: إذا2
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "ولم".
2 كذا في الأصول، ولو جرى على نسق ما قبله في ذكر شروط القلب لقال: إذا
لم يكن في معنى ما لا بد من صحته، ولم تكن الحركة لازمة. وكأنه يريد:
وقولك: إذا كان في معنى ما لا بد من صحته فلا قلب، وقولك وكانت الحركة
غير لازمة فلا قلب. فحذف الجواب وهو مراد.
(1/150)
كان في معنى ما لا بد من صحته وقولك: وكانت
الحركة غير لازمة فلم نرك أوردته إلا لتستثنى به ما يورده الخصم عليك:
مما صح من الياء والواو وهو متحرك وقبله فتحة. وكأنك إنما جئت إلى هذه
الشواذ التي تضطرك إلى القول بتخصيص العلل فحشوت بها حديث علتك لا غير,
وإلا فالذي أوجب القلب في خاف وهاب من استثقال حرفي اللين متحركين
مفتوحًا ما قبلهما موجود البتة في حول وصيد وإذا كان الأمر كذلك دل على
انتقاض العلة وفسادها.
قيل: لعمري إن صورة حول وصيد لفظًا هي صورة خوف وهيب إلا أن هناك من
بعد هذا فرقًا وإن صغر في نفسك وقل في تصورك وحسك فإنه معنى عند العرب
مكين في أنفسها متقدم في إيجابه التأثير الظاهر عندها. وهو ما أوردناه
وشرطناه: من كون الحركة غير لازمة وكون الكلمة في معنى ما لا بد من صحة
حرف لينه ومن تخوفهم التباسه بغيره فإن العرب -فيما أخذناه عنها
وعرفناه من تصرف مذاهبها- عنايتها بمعانيها أقوى من عنايتها بألفاظها.
وسنفرد لهذا بابًا نتقصاه فيه بمعونة الله. أولا تعلم عاجلا إلى أن
تصير إلى ذلك الباب آجلا أن سبب إصلاحها ألفاظها وطردها إياها على
المثل والأحذية1 التي قننتها لها وقصرتها عليها إنما هو لتحصين2 المعنى
وتشريفه والإبانة عنه وتصويره, ألا ترى أن استمرار رفع الفاعل ونصب
المفعول إنما هو للفرق بين الفاعل والمفعول وهذا الفرق أمر معنوي أصلح
اللفظ له وقيد مقادة الأوفق من أجله.
فقد علم بهذا أن زينة الألفاظ وحليتها لم يقصد بها إلا تحصين المعاني
وحياطتها. فالمعنى إذًا هو المكرم المخدوم, واللفظ هو المبتذل الخادم.
__________
1 جمع الحذاء ككتاب. وهو في الأصل مصدر حذا الشيء: قدره. وأريد به ما
يقدر عليه الشيء كالقالب، فيراد به هنا المثل والموازين التي قدرت
عليها الألفاظ.
2 كذا في الأصول. والأسوغ: "تحصين".
(1/151)
وبعد فإذا جرت العادة في1 معلولها، واستتبت
على منهجها وأمها قوي حكمها واحتمى جانبها, ولم يسع أحدًا أن يعرض لها
إلا بإخراجه2 شيئًا إن قدر على إخراجه منها. فأما أن يفصلها ويقول:
بعضها هكذا, وبعضها هكذا فمردود عليه, ومرذول عند أهل النظر فيما جاء
به. وذلك أن مجموع ما يورده المعتل بها هو حدها ووصفها فإذا انقادت
وأثرت وجرت في معلولاتها فاستمرت لم يبق على بادئها, وناصب نفسه
للمراماة عنها, بقية فيطالب بها, ولا قصمة3 سواك4 فيفك يد ذمته عنها.
فإن قلت: فقد قال الهذلي:.... .... ...."5.
فقد كنت قلت في هذه اللفظة6 في كتابي في ديوان هذيل: إنه إنما أعلت7
هذه العين هناك ولم تصح كما صحت عين اجتوروا واعتونوا من حيث كان ترك
قلب الياء ألفًا أثقل عليهم من ترك قلب الواو ألفًا لبعد ما بين الألف
والواو وقربها من الياء وكلما تدانى الحرفان أسرع انقلاب أحدهما إلى
صاحبه وانجذابه نحوه وإذا تباعدا كانا بالصحة والظهور قمنًا 8. وهذا
-لعمري- جواب جرى هناك
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "على".
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "بإخراجه منها شيئًا".
3 قصمة السواك: الكسرة منه.
4 كذا في أ، وفي ب: "سؤال" وفي ش: "سوال".
5 بياض بالأصل، وفي نسخة المتحف البريطاني "فإن قلت: فقد قال الهذلي:
استافوا في معنى استيفوا". وفي بيت الهذلي الذي سقط فما بين أيدينا من
الأصول فيه "استاف" في معنى "تسايفوا" ولم أعثر على البيت بعد طول
البحث وسبب ذلك أن شعر الهذليين لم يصلنا كله. وفي ج: "فإن قيل: فقد
قلت في كتابك من ديوان هذيل إنه إنما أعلت عين "استاف" ولم تصح ... "
ويبدو لي أن ابن جني لم يورد البيت بتمامه وإنما أورد موضع الشاهد وهو
"استافوا" كما في نسخة المتحف البريطاني، وأن بعض النساخ ظن أنه أورد
البيت فبيض له.
6 يريد استاف.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "اعتلت".
8 أي حربين، وأفرد لأنه في الأصل مصدر.
(1/152)
على مألوف العرف في تخصيص العلة. فأما هذا
الموضع فمظنة من استمرار المحجة واحتماء العلة. وذلك أن يقال: إن استاف
هنا لا يراد به تسايفوا أي تضاربوا بالسيوف فتلزم صحته كصحة عين
تسايفوا كما لزمت صحة اجتوروا لما كان في معنى ما لا بد من صحة عينه
وهو تجاوروا بل تكون استافوا هنا: تناولوا سيوفهم وجردوها. ثم يعلم
أنهم تضاربوا مما دل عليه قولهم: استافوا فكأنه من باب الاكتفاء بالسبب
عن المسبب كقوله:
ذر الآكلين الماء ظلمًا فما أرى ... ينالون خيرًا بعد أكلهم الماء1
يريد قومًا كانوا يبيعون الماء فيشترون بثمنه ما يأكلونه فاكتفى بذكر
الماء الذي هو سبب المأكول2 من ذكر المأكول.
فأما تفسير أهل اللغة أن استاف القوم في معنى تسايفوا فتفسير على
المعنى كعادتهم في أمثال ذلك ألا تراهم قالوا في قول الله عز وجل:
{مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} : إنه بمعنى مدفوق, فهذا -لعمري- معناه غير أن
طريق الصنعة فيه أنه ذو دفق كما حكاه الأصمعي عنهم من قولهم: ناقة ضارب
إذا ضربت3 وتفسيره أنها ذات ضرب أي ضربت. وكذلك قوله تعالى {لَا
عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي لا ذا عصمة وذو العصمة يكون
مفعولا كما يكون فاعلا فمن هنا قيل: إن معناه: لا معصوم. وكذلك قوله:
لقد عيل الأيتام طعنة ناشره ... أناشر لا زالت يمينك آشره4
__________
1 في اللسان "أكل": "من الآكلين" بدل "ذر الآكلين".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "من المأكول". وفي عبارة اللسان في أكل: "عن ذكر
المأكول".
3 أي ضربها الفحل، وذلك أن ينزو عليها.
4 قال ابن السيرافي في شرح شواهد إصلاح المنطق 1/ 33: "ناشرة هذا من
بين تغلب، وكان في بني شيبان مقامه، فكان همام بن مرة بن ذهل بن شيبان
رباه. ووقعت حرب البسوس بين بكر وتغلب وناشرة هذا مع همام بن مرة. =
(1/153)
أي ذات أشر, والأشر: الحز والقطع, وذو
الشيء قد يكون مفعولا كما يكون فاعلا وعلى ذلك عامة باب طاهر وطالق
وحائض وطامث ألا ترى أن معناه: ذات طهر وذات طلاق وذات حيض وذات طمث.
فهذه ألفاظ1 ليست جارية على الفعل, لأنها لو جرت عليه للزم إلحاقها تاء
التأنيث كما لحقت نفس الفعل. وعلى هذا قول الله تعالى {فِي عِيشَةٍ
رَاضِيَةٍ} أي ذات رضا فمن هنا صارت بمعنى مرضية. ولو جاءت مذكرة لكانت
كضارب وبازل, كباب حائض وطاهر, إذ الجميع غير جار على الفعل لكن قوله
تعالى {رَاضِيَةٍ} كقوله: "لا زالت يمينك آشرة ".
وينبغي أن يعلم أن هذه التاء في "راضية " و "آشرة " ليست التاء التي
يخرج بها اسم الفاعل على التأنيث لتأنيث الفعل2 من لفظه لأنها لو كانت
تلك لفسد القول ألا ترى أنه لا يقال: ضربت الناقة ولا رضيت العيشة.
وإذا لم تكن إياها وجب3 أن تكون التي للمبالغة كفروقة, وصرورة, وداهية,
وراوية, مما لحقته التاء للمبالغة والغاية. وحسن ذلك أيضًا شيء آخر.
وهو جريانها صفة
__________
= فلما كان يوم واردات -وهو أحد الأيام التي كانت بين بكر وتغلب فيها
حرب- قاتل همام بن مرة قتالا شديدًا، وأبلى وأثخن في بني تغلب ثم عطش
فجاء إلى رحله يستسقي وناشرة في رحله. فلما رأى ناشرة غفلته طعنه بحربة
فقتله وهرب إلى بني تغلب فقالت نائحة همام تبكيه: لقد عيل الأيتام طعنة
ناشرة. ويقال إن أم همام قالت ذلك، وانظر أيضًا اللسان "أشر".
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "الألفاظ".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "ذلك الفعل".
3 الحق أن التاء اللاحقة للوصف إذا كان موضوفه مؤنثا للتأنيث، ولو كان
على جهة النسب، وإرادة النسب إنما تجيز التعرية من التأنيث ولا تحتم
ذلك, ويقول الشهاب في حواشي البيضاوي 8/ 228. "والحق -كما يفهم من شراح
الكتاب- أن ما قصد به النسبة لا يلزم تأنيثه؛ وإن جاء فيه على خلاف
الأصل الغالب أحيانا".
(1/154)
على مؤنث, وهي بلفظ الجاري على الفعل, فزاد
ذلك فيما ذكرنا, ألا ترى إلى همز حائض وإن لم يجر على الفعل إنما سببه
أنه شابه في اللفظ ما اطرد همزه من الجاري على الفعل؛ نحو قائم وصائم
وأشباه ذلك. ويدلك على أن عين حائض همزة, وليست ياء خالصة -كما لعله
يظنه كذلك ظان- قولهم: امرأة زائر من زيارة النساء وهذا واضح ألا ترى
أنه لو كانت العين صحيحة لوجب ظهورها واوًا وأن يقال: زاور. وعليه
قالوا: الحائش1، والعائر للرمد, وإن لم يجريا على الفعل لما جاءا مجيء
ما يجب همزه وإعلاله في غالب الأمر.
نعم وإذا كانوا قد أنثوا المصدر لما جرى وصفًا على المؤنث نحو امرأة
عدلة, وفرس طوعة القياد, وقول أمية 2:
والحية الحتفة الرقشاء أخرجها ... من جحرها آمنات الله والكلم3
وإذا جاز دخول التاء على المصادر وليست على صورة اسم الفاعل ولا هي
الفاعل في الحقيقة, وإنما استهوى لذلك جريها وصفًا على المؤنث كان باب
"عيشة راضية " و"يد آشرة " أحرى بجواز ذلك فيه وجريه عليه.
__________
1 انظر ص120 من هذا الجزء.
2 في ج: "ذي الرمة" وهو خطأ. وهو أمية بن أبي الصلت.
3 "جحرها" في هامش أ "وبيتها" ومعنى ذلك أن هناك رواية: "بيتها" بدل
"جحرها"، وفي اللسان في "حتف" ضبط "أمنات" جمع أمنة محركا وهي الأمن.
وفيه في "عدل" ضبط كما ضبط هنا ويريد بأمنات الله التي تخرج الحية من
جحرها القسم الذي يذكره الحاوي ويعزم عليها به لتخرجن والحتف في الأصل
الهلاك، وهو مصدر لفعل مهمل ثم يطلق على ما يكون منه الهلاك، فيقال:
هذا السبع حتف لمن يلقاه، وهذه العقرب حتف كذلك بالتذكير نظرا لأصله،
ولما كثر استعماله وصفا ساغ لأمية أن يلحق به التاء التي تلحق الوصف.
وانظر الديوان لأمية المطبوع في بيروت، والحيوان 4/ 187 بتحقيق الأستاذ
عبد السلام هارون.
(1/155)
فإن قلت: فقد قالوا في يوجل: ياجل وفي
ييأس: ياءس وفي طيئي طائي, وقالوا: حاحيت, وعاعيت, وهاهيت, فقلبوا
الياء والواو هنا ألفين وهما ساكنتان وفي هذا نقض لقولك؛ ألا تراك إنما
جعلت علة قلب الواو والياء ألفين تلك الأسباب التي أحدها كونهما
متحركتين, وأنت تجدهما ساكنتين, ومع ذلك فقد تراهما منقلبتين.
قيل: ليس1 هذا نقضًا ولا يراه أهل النظر قدحًا. وذلك أن الحكم الواحد
قد يكون معلولا بعلتين ثنتين, وفي وقت واحد تارة وفي وقتين اثنين.
وسنذكر ذلك في باب المعلول بعلتين.
فإن قلت: فما شرطك واحتياطك في باب قلب الواو ياء إذا اجتمعت مع الياء
في نحو سيد, وهين, وجيد, وشويت شيًّا, ولويت يده ليًّا, وقد تراهم
قالوا: حيوة, وضيون, وقالوا عوى الكلب عوية, وقالوا في تحقير أسود
وجدول: جديول, وأسيود, وأجازوا قياس ذلك فيما كان مثله: مما واوه عين
متحركة أو زائدة قبل الطرف؟
فالذي نقول في هذا ونحوه: أن الياء والواو متى اجتمعتا وسبقت الأولى
بالسكون منهما ولم تكن الكلمة2 علمًا، ولا مرادًا بصحة واوها التنبيه
على أصول أمثالها ولا كانت تحقيرًا محمولا على تكسير فإن الواو منه
تقلب ياء. فإذا فعلت هذا واحتطت للعلة به أسقطت تلك الإلزامات عنك ألا
ترى أن " حيوة " علم والأعلام تأتي مخالفة للأجناس في كثير من الأحكام
وأن " ضيون" إنما صح لأنه
__________
1 خير من هذا أن يحيل ما أورده السائل على الشذوذ، فلا يرد على
التعليل.
2 التعليل القياس في هذا القلب، وحسب العلة أن تكون وافية به. والقلب
في العلم وما قصد به التنبيه على الأصل شذوذ فلا يجب أن يراعى في
العلة.
(1/156)
خرج على الصحة تنبيهًا على أن أصل سيّد
وميّت: سيّود وميّوت. وكذلك "عوية " خرجت سالمة؛ ليعلم بذلك أن أصل لية
لوية وأن أصل طية طوية وليعلم أن هذا الضرب من التركيب وإن قل في
الاستعمال فإنه مراد على كل حال.
وكذلك أجازوا تصحيح نحو أسيود وجديول إرادة للتنبيه على أن التحقير
والتكسير في هذا النحو من المُثُل من قبين واحد.
فإن قلت: فقد قالوا في العلم أسيد, فأعلوا كما أعلوا في الجنس؛ نحو
قوله 1:
أسيد ذو خريطة نهارا ... من المتلقطي قرد القمام2
فعن ذلك3 أجوبة. منها أن القلب الذي في أسيد قد كان سبق إليه وهو جنس
كقولك: غليم أسيد, ثم نقل إلى العلمية بعد أن أسرع فيه القلب فبقي
بحاله،
__________
1 أي الفرزدق. وانظر اللسان "سود" والنقائض طبعة أوروبا 1006، والكتاب
1/ 95.
2 من قصيدته التي مطلعها:
ألستم عائجين بنا لعنا ... نرى العرصات أو أثر الخيام
وقبله:
سيبلغهن وحي القول مني ... ويدخل رأسه تحت القرام
فقوله: "أسيد" فاعل "سيبلغهن أي يبلغ اللائي يتحدث عنهن وله هوى فيهن.
"وحي القول" ما يحمله من رسالة أو كلام. والقوام: الستر الذي يحجبهن.
وقوله "أسيد" يريد "غلام أسود". الخريطة تصغير الخريطة: وهي كالمخلاة
يضع فيها ما يلتقط، والقمام، الكناسة، والقرد: ما تليد من الكناسة. يصف
أن الغلام الأسود الرسول إلى من يحب لا يؤبه له، فهو قمئ يقم الكناسة،
وبذلك يصل إلى هوى الشاعر دون أن يثير انتباه أحد. وانظر في اللسان
"سود" رأيا آخر في تفسير البيت يخالف ما أسلفت، وهو غير مرضي.
3 أنت ترى أن ابن جني بنى الاعتراض بأسيد على أنه في البيت علم، وقد
أبان عن هذا بما لا يحتمل الشك في عبارته في ج إذ يقول "فإن قلت: فقد
قالوا في العلم أسيد، كما قال: أسيد...."، وقد علمت أن "أسيد" في بيت
الفرزدق ليس من العلم في شيء، كيف وقد ولد وصفه بقوله: "ذو خريطة" وهذا
نكرة لا يوصف به العلم، كما لا يخفى، وبهذا تعلم أن لا وجه لإيراد
السؤال، ولا الجواب، بله الأجوبة.
(1/157)
لا أن القلب إنما وجب فيه بعد العلمية وقد
كان قبلها -وهو جنس نكرة- صحيحًا. ويؤنس بهذا أيضًا أن الإعلال في هذا
النحو هو الاختيار في الأجناس. فلما سبق القلب الذي هو أقوى وأقيس
القولين سمي به معلا فبقي بعد النقل على صورته. ومثل ذلك ما نقوله في "
عيينة" أنه إنما سمي به مصغرًا فبقي بعد بحاله قبل, ولو كان إنما حقر
بعد أن سمي به لوجب ترك إلحاق علامة التأنيث به كما أنك لو سميت رجلًا
هندًا ثم حقرت قلت: هنيد: ولو سميته بها محقرة قبل التسمية لوجب أن تقر
التاء بحالها فتقول: هذا هنيدة مقبلًا. هذا مذهب الكتاب1، وإن كان يونس
يقول بضده. ومنها أنا لسنا نقول: إن كل علم فلا بد من صحة واوه إذا
اجتمعت مع الياء ساكنة أولاهما فيلزمنا ما رمت إلزامنا وإنما قلنا: إذا
اجتمعت الياء والواو وسبقت الأولى منهما بالسكون ولم يكن الاسم علمًا
ولا على تلك الأوصاف التي ذكرنا فإن الواو تقلب ياء وتدغم الياء في
الياء. فهذه علة من علل قلب الواو ياء. فأما ألا تعتل الواو إذا اجتمعت
مع الياء ساكنة أولاهما إلا من هذا الوجه فلم نقل به. وكيف يمكن أن
نقول به وقد قدمنا أن الحكم الواحد قد يكون معلولا بعلتين وأكثر من ذلك
وتضمنا أن نفرد لهذا الفصل بابًا!
فإن قلت: ألسنا إذا رافعناك في صحة " حيوة " إنما نفزع إلى أن نقول:
إنما صحت لكونهما علمًا والأعلام تأتي كثيرًا أحكامها تخالف2 أحكام
الأجناس وأنت تروم في اعتلالك هذا الثاني أن تسوي بين أحكامهما وتطرد
على سمت واحد كلا منهما.
__________
1 انظر كتاب سيبويه ص137 ج7.
2 كذا في ب، ش. وفي أ: "مخالف" ولا تستقيم هذه الصيغة مع الإخبار عن
"أحكامها" فقد كان يجب أن يقال: "مخالفة".
(1/158)
قيل: الجواب الأول قد استمر ولم تعرض1 له،
ولا سوغتك الحال الطعن فيه وإنما هذا الاعتراض على الجواب الثاني.
والخطب فيه أيسر. وذلك أن لنا مذهبًا سنوضحه في باب يلي هذا وهو حديث
الفرق بين علة الجواز وعلة الوجوب.
ومن ذلك أن يقال لك: ما علة قلب واو سوط, وثوب, إذا كسرت فقلت: ثياب,
وسياط؟.
وهذا حكم لا بد في تعليله من جمع خمسة أغراض فإن نقصت واحدًا فسد
الجواب, وتوجه عليه الإلزام 2.
والخمسة: أن ثيابًا وسياطًا وحياضًا وبابه جمع والجمع أثقل من الواحد
وأن عين واحده ضعيفة بالسكون وقد يراعى في الجمع حكم الوحد وأن قبل
عينه كسرة وهي مجلبة في كثير من الأمر لقلب الواو ياء وأن بعدها ألفًا
والألف شبيهة بالياء وأن لام سوط وثوب صحيحة.
فتلك خمسة أوصاف لا غنى3 بك عن واحد منها. ألا ترى إلى صحة خوان,
وبوان4, وصوان, لما كان مفردًا لا جمعًا. فهذا باب. ثم5 ألا ترى إلى
صحة واو زوجة وعودة, وهي جمع واحد ساكن العين, وهو زوج وعود6، ولامه
أيضًا صحيحه وقبلها في الجمع كسرة. ولكن بقي من مجموع العلة أنه لا ألف
بعد عينه كألف حياض ورياض. وهذا باب أيضًا
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب، "يعرض".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "الكسر بالإلزام".
3 في أ: "غناء" وهو خطأ.
4 البوان: عمود للخباء.
5 انظر في هذا الأسلوب الصفحة 37 من هذا الجزء رقم 2 في التعليقة.
6 هو المسن من الإبل.
(1/159)
ثم ألا ترى إلى صحة طوال وقوام وهما جمعان
وقبل عينهما كسرة وبعدهما ألف ولاماهما صحيحتان. لكن بقي من مجموع
العلة أن عينه في الواحد متحركة وهي في طويل وقويم. وهذا أيضًا باب.
ثم ألا ترى إلى صحة طواء ورواء جمع طيان وريان فيه الجمعية وأن عين
واحده ساكنة بل معتلة وقبل عينه كسرة وبعدها ألف. لكن بقي عليك أن لامه
معتلة فكرهوا إعلال عينه لئلا يجمعوا بين إعلالين.
وهذا الموضع مما يسترسل1 فيه المعتل لاعتلاله فلعله أن يذكر من الأوصاف
الخمسة التي ذكرناها وصفين " أو أكثره "2 ثلاثة ويغفل الباقي فيدخل
عليه الدخل3 منه فيرى أن ذلك نقض للعلة ويفزع إلى ما يفزع إليه من لا
عصمة له ولا مسكة عنده. ولعمري إنه كسر لعلته هو لاعتلالها في نفسها.
فأما مع إحكام علة الحكم فإن هذا ونحوه ساقط عنه.
ومن ذلك ما يعتقده4 في علة الادّغام. وهو أن يقال: إن الحرفين المثلين
إذا كانا لازمين متحركين حركة لازمة, ولم يكن هناك إلحاق ولا كانت
الكلمة مخالفة لمثال فعِل وفعُل أو كانت فعَل فعلا5 ولا خرجت منبهة6
على بقية بابها, فإن الأول منها يسكن ويدغم في الثاني. وذلك نحو شد
وشلت يده وحبذا
__________
1 أي لا يحتاط، ويلقى في الكلام فيه على عواهنه، من قولهم: استرسل
إليه، انبسط إليه واستأنس.
2 كذا في الأصول. وقد يكون الأصل: "أو إن أكثر".
3 الدخل -بتسكين الخاء ويحرك- العيب، ويراد به القدح والنقص.
4 كذا في أ، ش، ب: "يعقده".
5 هو حال من "فعل"، وهو يحترز به عن فعل اسما؛ نحو سبب.
6 هذا الضبط عن أ، وفي ب: "منبهة"، بفتح الأول والثالث وسكون الثاني.
(1/160)
زيد, وما كان عاريًا مما استثنيناه؛ ألا
ترى أن شد وإن كان فعَل فإنه فِعل, وليس كطلل, وشرر, وجدد1، فيظهر.
وكذلك شلت يده: فَعِلَت. وحبذا زيد أصله حبب ككرم, وقضو الرجل. ومثله
شر الرجل من الشر: هو2 فعل لقولهم: شررت يا رجل وعليه جاء رجل شرير
كرديء. وعلى ذلك قالوا أجد في الأمر وأسر الحديث واستعد لخلوة مما
شرطناه 3.
فلو عارضك معارض بقولهم: اصبب الماء, وامدد الحبل, لقلت: ليست الحركتان
لازمتين, لأن الثانية لالتقاء الساكنين. وكذلك إن ألزمك ظهور نحو جلبب
وشملل: وقعدد، ورمدد4، قلت: هذا كله ملحق، فلذلك ظهر. وكذلك إن أدخل
على قولك هما يضربانني, ويكرمانني, ويدخلاننا قلت: سبب ظهوره أن
الحرفين ليسا لازمين ألا ترى أن الثاني من الحرفين ليس ملازمًا لقولك:
هما يضربان زيدًا ويكرمانك ونحو ذلك. وكذلك إن ألزمك ظهور نحو جُدَد5،
وقِدَد6، وسُرُر, قلت: هذا مخالف لمثال فَعُل وفَعِل.
فإن ألزمك نحو قول قعنب 7:
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا8
__________
1 هي الأرض الغليظة، أو الأرض الصلبة.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "وهو".
3 أي لعدم الإدغام، كالإلحاق ومخالفة الكلمة لمثال الفعل.
4 يقال: وماد ومدد: إذا كان دقيقا غير متماسك.
5 واحده الجدة، وهي الخطة في ظهر الحمار تخالف لونه.
6 واحده فدة، وهي الفرقة من الناس.
7 هو ابن أم صاحب الغطفاني، من شعراء الدولة الأموية، وانظر اللآلي
362.
8 من قصيدة في مختارات ابن الشجري 8 طبع مصر 1306هـ. وقبله:
هل للعواذل من ناه فيزجرها ... إن العواذل منها الجور واللسن
اللائمات الفتى في أمره سفها ... وهن بعد ضعيفات القوى وهن
وانظر اللسان "ضنن" والكتاب 1/ 11.
(1/161)
وقول العجاج:
تشكو الوجى من أظلل وأظلل1
وقول الآخر:
وإن رأيت الحجج الرواددا ... قواصرًا بالعمر أو مواددا2
قلت: هذا ظهر على أصله منبهة على بقية بابه فتعلم به أن أصل الأصم
أصمم, وأصل صب صبِب, وأصل الدواب والشواب الدوابب والشوابب على ما
نقوله في نحو استصوب وبابه: إنما خرج على أصله إيذانًا بأصول ما كان
مثله.
فإن قيل: فكيف اختصت هذه الألفاظ ونحوها بإخراجها على أصولها3 دون
غيرها قيل: رجع الكلام بنا وبك إلى ما كنا فرغنا منه معك في باب
استعمال بعض الأصول وإهمال بعضها فارجع إليه4 تره إن شاء الله.
وهذا الذي قدمناه آنفًا هو الذي عناه أبو بكر5 رحمه الله بقوله: قد
تكون علة الشيء الواحد أشياء كثيرة فمتى عدم بعضها لم تكن علة. قال:
ويكون أيضًا عكس هذا وهو أن تكون علة واحدة لأشياء كثيرة. أما الأول
فإنه ما نحن بصدده من اجتماع أشياء تكون كلها علة وأما الثاني فمعظمه
الجنوح إلى
__________
1 بعده:
من طول إملال وظهر أملل
وقبله:
وكم حسرنا من علاة عنسل ... حرف كقوس الشوحط المعطل
وأظلل مفكوك أظل، والأظل ما تحت منسم البعير. وانظر اللسان في "ظلل"،
والديوان 47.
2 انظر نوادر أبي زيد 164. وكأن ابن جني يشتق "الروادد" من "ردد" أي من
مضعف الثلاثي. ويشتقها الصاغاني في التكملة "رود" من "رود" ويجعل واحد
الروادد الرودد، ويفسره بالعاطف، وينشد الرجز. وأياما كان الأمر
فالاستشهاد بـ"موادد" لا ريب فيه.
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "أصلها".
4 انظر ص66 من هذا الجزء.
5 هو ابن السراج. والظاهر أن هذا في كتابه "الأصول".
(1/162)
المستخف, والعدول عن المستثقل. وهو أصل
الأصول في هذا الحديث وقد مضى صدر منه. وسترى بإذن الله بقيته.
واعلم أن هذه المواضع التي ضممتها وعقدت العلة على مجموعها قد أرادها
أصحابنا وعنوها, وإن لم يكونوا جاءوا بها مقدمة محروسة فإنهم لها
أرادوا وإياها نووا؛ ألا ترى أنهم إذا استرسلوا في وصف العلة وتحديدها
قالوا: إن علة شد ومد ونحو ذلك في الادّغام إنما هي اجتماع حرفين
متحركين من جنس واحد. فإذا قيل لهم: فقد قالوا: قعدد وجلبب واسحنكك
قالوا: هذا ملحق فلذلك ظهر. وإذا ألزموا نحو اردد الباب واصبب الماء
قالوا: الحركة الثانية عارضة لالتقاء الساكنين وليست بلازمة. وإذا أدخل
عليهم نحو جدد وقدد وخلل1 قالوا: هذا مخالف لبناء الفعل. وإذا عورضوا
بنحو طلل ومدد فقيل لهم: هذا على وزن الفعل قالوا: هو كذلك إلا أن
الفتحة خفيفة والاسم أخف من الفعل فظهر التضعيف في الاسم لخفته ولم
يظهر في الفعل -نحو قص ونص- لثقله. وإذا قيل لهم: قالوا هما يضربانني
وهم يحاجوننا قالوا: المثل الثاني ليس بلازم. وإذا أوجب2 عليهم نحو
قوله "وإن ضننوا " ولححت عينه وضبب البلد وألل السقاء قالوا: خرج هذا
شاذًّا ليدل على أن أصل قرت عينه قررت وأن أصل حل الحبل ونحوه حلل.
فهذا الذي يرجعون إليه فيما بعد متفرقًا قدمناه نحن مجتمعًا.
__________
1 كذا في ش. وفي أ: "حلل". والخلل جمع الخلة. وهو من النبات والمرعى ما
كان فيه خلاوة.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "وجب".
(1/163)
وكذلك كتب محمد1 بن الحسن رحمه الله إنما
ينتزع2 أصحابنا3 منها العلل4، لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه,
فيجمع بعضها إلى بعض بالملاطفة والرفق. ولا تجد له علة في شيء من كلامه
مستوفاة محررة. وهذا معروف من هذا الحديث عند الجماعة غير منكور.
الآن قد أريتك بما مثلته لك من الاحتياط في وضع العلة كيف حاله,
والطريق إلى استعمال مثله فيما عدا ما أوردته وأن تستشف5 ذلك الموضع
فتنظر إلى آخر ما يلزمك إياه الخصم فتدخل الاستظهار بذكره في أضعاف ما
تنصبه من علته لتسقط عنك فيما بعد الأسولة6 والإلزامات التي يروم
مراسلك الاعتراض بها عليك والإفساد لما قررته من عقد علتك. ولا سبيل
إلى ذكر جميع ذلك لطوله ومخافة الإملال ببعضه. وإنما تراد المثل ليكفي
قليلها من كثير غيرها, ولا قوة إلا بالله.
__________
1 هو صاحب أبي حنيفة، وصاحب الكتب النادرة في الفقه، منها الجامع
الكبير، والجامع الصغير. وهو ابن خالة الفراء، ويروي عن الشافعي -رضي
الله عنه- أنه قال: ما رأيت سمينا ذكيا إلا محمد بن الحسن. مات بالري
سنة 198 في اليوم الذي مات فيه الكسائي. وقيل إن الرشيد قال: دفعت
الفقه والعربية بالري. انظر ابن خلكان.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "ينزع".
3 يريد الحنفية، وكان ابن جني حنفيا، وكان ينصر الحنفية على الشافعية.
وانظر من أمثلة هذا كلامه في الترتيب في الوضوء في حرف الواو من سر
الصناعة؛ وكلامه في إفادة الهاء للتبعيض، في الكتاب السابق.
4 يريد علل الفقه، وقد ساق في الاقتراح هذا النص عن ابن جني، وزاد
شارحه ابن علان بعد "العلل" كلمة "النحوية" وهي زيادة لا وجه لها ولا
يعني هذا ابن جني. إنما يعني أنه جمع عناصر العلة فيما ذكر من كلام
أصحابه النحويين وقد كانت منثورة فيه، كما كان أصحاب محمد بن الحسن
مجمعون العلل الفقهية من كلامه. فله في النحو أسوة بأصحابه في الفقه.
5 استشف الشيء: نظر ما وراءه.
6 كذا في الأصول الثلاثة. وهي لغة صحيحة. وانظر ص94 من هذا الجزء.
(1/164)
باب ذكر الفرق بيت
العلة الموجبة، وبين العلة المجوزة
...
باب ذكر الفرق بين العلة الموجبة، وبين العلة المجوزة:
اعلم أن أكثر العلل عندنا مبناها على الإيجاب بها كنصب الفضلة أو ما
شابه1 في اللفظ الفضلة, ورفع المبتدأ؛ والخبر, والفاعل, وجر المضاف
إليه, وغير ذلك. فعلل هذه الداعية إليها موجبة لها, غير مقتصر بها على
تجويزها2؛ وعلى هذا مقاد كلام العرب.
وضرب آخر يسمى علة, وإنما هو في الحقيقة سبب يجوز ولا يوجب 4.
من ذلك الأسباب الستة الداعية إلى الإمالة هي علة الجواز لا علة الوجوب
ألا ترى أنه ليس في الدنيا أمر يوجب الإمالة لا بد منها وأن كل ممال
لعلة من تلك الأسباب5 الستة لك أن تترك إمالته مع وجودها فيه. فهذه
إذًا علة الجواز لا علة الوجوب.
ومن ذلك أن يقال لك: ما علة قلب واو " أقتت " همزة؟ فتقول: علة ذلك أن
الواو انضمت ضمًّا لازمًا. وأنت مع هذا تجيز ظهورها واوًا غير
__________
1 وذلك كخير كان ومفعولي ظن.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "تجوزها".
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "مفاد" بالفاء، وكذا ورد في العبارة المنقولة في
الاقتراح، وقال ابن علان في شرحه: "بضم الميم أي إفادة".
4 قال في الاقتراح عقب هذا الكلام: "فظهر بهذا الفرق بين العلة والسبب،
وأن ما كان موجبا يسمى علة، وما كان مجوزا يسمى سببا" قال ابن علان في
شرح الافتراح: "ما كان موجبا للحكم يسمى علة؛ لأن ذلك شأنها: أنه يجب
مطولها عند وجودها إن لم يوجد مانع. وما كان مجوزا يسمى سببا؛ لأن
المسبب قد يتخلف عن السبب لفقد سبب عند تعدد الأسباب أو لوجود مانع"
وفي هامشه: "لأن السبب قد يعارضه ما يمنع الوجوب؛ كوجود الراحلة: من
أسباب جواز الحج لا وجوبه".
5 هي انقلاب الألف عن الياء، وصيرورتها إلى الياء، وكونها بدلا عن
مكسور من واو أو ياء، ووجود يا. قبلها أو بعدها، ووجود كسرة قبلها أو
بعدها، والتناسب. وانظر الأشموني مبحث الإمالة، وشرح ابن يعيش 9/ 55.
(1/165)
مبدلة, فتقول: وقتت. فهذه علة الجواز إذًا
لا علة الوجوب. وهذا وإن كان في ظاهر ما تراه1 فإنه معنى صحيح وذلك أن
الجواز معنى تعقله النفس؛ كما أن الوجوب كذلك فكما أن هنا علة للوجوب
فكذلك هنا علة للجواز. هذا أمر لا ينكر، ومعنى مفهوم لا يتدافع.
ومن علل الجواز أن تقع النكرة بعد المعرفة التي يتم2 الكلام بها وتلك
النكرة هي المعرفة في المعنى فتكون حينئذ مخيرًا في جعلك تلك النكرة
-إن شئت- حالا -وإن شئت- بدلا؛ فتقول على هذا: مررت بزيد رجل صالح على
البدل وإن شئت قلت: مررت بزيد رجلا صالحًا على الحال. أفلا ترى كيف كان
وقوع النكرة عقيب المعرفة على هذا الوصف علة لجواز كل واحد من الأمرين
لا علة لوجوبه.
وكذلك كل ما جاز لك فيه من المسائل الجوابان, والثلاثة, وأكثر من ذلك
على هذا الحد فوقوعه عليه علة لجواز ما جاز منه لا علة لوجوبه. فلا
تستنكر هذا الموضع.
فإن قلت: فهل تجيز أن يحل السواد محلًا ما فيكون ذلك علة لجواز اسوداده
لا لوجوبه؟ قيل: هذا في هذا ونحوه لا يجوز بل لا بد من اسوداده3 البتة،
وكذلك البياض والحركة والسكون ونحو ذلك متى حل شيء منها في محل لم يكن
له بد من وجود حكمه فيه ووجوبه البتة له لأن هناك أمرًا لا بد من ظهور
أثره. وإذا تأملت ما قدمناه رأيته عائدًا إلى هذا الموضع غير مخالف له
ولا بعيد عنه وذلك أن وقوع النكرة4 تلية المعرفة -على ما شرحناه من تلك
الصفة- سبب لجواز
__________
1 كذا في الأصول. ويبدوا أن هنا سقطا، والأصل: "وإن كان ظاهر ما تراه
شنيعا". ويدل عليه قوله في الصفحة التالية: "فقد زالت عنك إذًا شناعة
هذا الظاهر".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "تم".
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "اسوداد به".
4 أي تابعة لها، من تلاه: تبعه. ويقال: وقع كذا تليه كذا أي عقبه.
(1/166)
الحكمين اللذين جازا فيه فصار مجموع
الأمرين في وجوب جوازهما كالمعنى المفرد الذي استبد به ما أريتناه: من
تمسكك1 بكل واحد من السواد والبياض والحركة والسكون.
فقد زالت عنك إذًا شناعة هذا الظاهر وآلت بك الحال إلى صحة معنى ما
قدمته: من كون الشيء علة للجواز لا للوجوب. فاعرف ذلك وقسه فإنه2 باب
واسع.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "تمثيلك".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "وإنه".
(1/167)
باب في تعارض العلل:
الكلام في هذا المعنى من موضعين: أحدهما الحكم الواحد تتجاذب1كونه2
العلتان أو أكثر منهما. والآخر الحكمان في الشيء الواحد المختلفان دعت
إليهما علتان مختلفتان.
الأول منهما كرفع المبتدأ فإننا نحن نعتل لرفعه بالابتداء على ما قد
بيناه وأوضحناه من شرحه وتلخيص معناه. والكوفيون يرفعونه إما بالجزء
الثاني الذي هو مرافعه3عندهم: وإما بما يعود عليه من ذكره على حسب
مواقعه 4. وكذلك رفع الخبر ورفع الفاعل, ورفع ما أقيم مقامه ورفع خبر
إن وأخواتها. وكذلك نصب ما انتصب وجر ما انجر وجزم ما انجزم مما يتجاذب
الخلاف في علله. فكل واحد من هذه الأشياء له حكم واحد تتنازعه العلل
على ما هو مشروح من حاله في أماكنه.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "تجاذب".
2 أي وجوده وحصوله.
3 يريد بذلك أن الخبر والمبتدأ يترافعان، فالمبتدأ برفع الخبر؛ والخبر
يرفع المبتدأ.
4 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "مرافعه".
(1/167)
وإنما غرضنا أن نرى هنا جملة1، لا أن نشرحه
ولا أن نتكلم على تقوية ما قوي منه وإضعاف ما ضعف منه.
الثاني منهما الحكمان في الشيء الواحد المختلفان دعت إليهما علتان
مختلفتان؛ وذلك كإعمال أهل الحجاز ما النافية للحال, وترك بني تميم
إعمالها وإجرائهم إياها مجرى "هل " ونحوها مما لا يعمل فكأن أهل الحجاز
لما رأوها داخلة على المبتدأ والخبر دخول ليس عليهما ونافية للحال
نفيها إياها أجروها في الرفع والنصب مجراها إذا اجتمع فيها الشبهان بها
2. وكأن بني تميم لما رأوها حرفًا داخلا بمعناه على الجملة المستقلة
بنفسها ومباشرة لكل واحد من جزأيها كقولك: ما زيد أخوك, وما قام زيد,
أجروها مجرى " هل " ألا تراها داخلة على الجملة لمعنى النفي دخول "
هل"؛ عليها للاستفهام ولذلك كانت عند سيبويه3 لغة التميميين أقوى
قياسًا من لغة الحجازيين.
ومن ذلك "ليتما "؛ ألا ترى أن بعضهم يركبهما4 جميعًا فيسلب بذلك "ليت "
عملها وبعضهم يلغي5 "ما " عنها, فيقر عملها عليها: فمن ضم "ما " إلى
"ليت " وكفها بها عن عملها ألحقها بأخواتها: من "كأن " و "لعل " و "لكن
" وقال أيضًا: لا تكون "ليت " في وجوب العمل بها أقوى من الفعل "و "6
قد نراه إذا كف بـ"ما " زال عنه عمله وذلك كقولهم: قلما يقوم زيد فـ"ما
"
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "جملة".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "منها".
3 إذ يقول في الكتاب 1/ 28 في الحديث عن "ما": "وأما بنو تميم فيجرونها
مجرى أما وهل، وهو القياس، لأها ليست بفعل، وليس ما كليس، ولا يكون
فيها إضمار.
4 أي يركب "ليت" و"ما".
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "يلقى".
6 زيادة في أ.
(1/168)
دخلت على "قل " كافة لها عن عملها, ومثله
كَثُر ما, وطالما, فكما دخلت "ما " على الفعل نفسه فكفته عن عمله
وهيأته لغير ما كان قبلها متقاضيًا له كذلك تكون ما كافة ل" ليت" عن
عملها ومصيرة لها إلى جواز وقوع الجملتين جميعًا بعدها ومن ألغى "ما "
عنها وأقر عملها جعلها كحرف الجر في إلغاء "ما " معه نحو قول الله
تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} و
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} ونحو ذلك, وفصل بينها1 وبين "كأن " , و "لعل "
بأنها أشبه بالفعل منهما2؛ ألا تراها مفردة وهما مركبتان؛ لأن الكاف
زائدة واللام زائدة.
هذا طريق اختلاف العلل لاختلاف الأحكام في الشيء الواحد, فأما أيها
أقوى, وبأيها يجب أن يؤخذ؟ فشيء آخر ليس هذا موضعه, ولا وضع هذا
الكتاب3 له. ومن ذلك اختلاف أهل الحجاز وبني تميم في هلم.
فأهل الحجاز يجرونها مجرى صه, ومه, ورويد, ونحو ذلك مما سمي به الفعل,
وألزم طريقًا واحدًا. وبنو تميم يلحقونها علم التثينة والتأنيث والجمع,
ويراعون أصل ما كانت عليه لم. وعلى هذا مساق جميع ما اختلفت العرب فيه.
فالخلاف إذًا بين العلماء أعم منه بين العرب. وذلك أن العلماء اختلفوا
في الاعتلال لما اتفقت العرب عليه كما اختلفوا4 أيضًا فيما اختفلت
العرب فيه وكل ذهب مذهبًا وإن كان بعضه قويًا وبعضه ضعيفًا.
__________
1 كذا في أ، ب، وفي ش: "بينهما" وما أثبته هو الصواب، يريد: بين ليت
...
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "منها" والصواب ما أثبته، يريد: من كأن ولعل.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "الباب".
4 كذا في أ. وفي ش, ب: "اتفقوا" وما أثبتناه هو الصواب.
(1/169)
باب في أن العلة إذا لم تتعد1 لم تصح:
من ذلك قولهم من اعتل لبناء نحو: كم, ومن, وما, وإذ, ونحو ذلك بأن هذه
الأسماء لما كانت على حرفين شابهت بذلك ما جاء من الحروف على حرفين؛
نحو: هل, وبل, وقد. قال: فلما شابهت الحرف من هذا الموضع وجب بناؤها,
كما أن الحروف مبنية. وهذه علة غير متعدية, وذلك أنه كان يجب على هذا
أن يبنى ما كان من الأسماء أيضًا على حرفين نحو يد, وأخ, وأب, ودم,
وفم, وحِر, وهَن, ونحو ذلك.
فإن قيل: هذه الأسماء لها أصل في الثلاثة, وإنما حذف منها حرف, فهو
لذلك معتد, فالجواب أن هذه زيادة2 في وصف العلة, لم تأت بها في أول
اعتلالك. وهبنا سامحناك بذلك, قد كان يجب على هذا أن يبني باب يد, وأخ,
وأب, ونحو ذلك؛ لأنه لما حذف فنقص شابه الحرف, وإن كان أصله الثلاثة,
ألا ترى أن المنادى المفرد المعرفة قد كان أصله أن يعرب, فلما دخله شبه
الحرف لوقوعه موقع المضمر بني, ولم يمنع من بنائه جريه معربًا قبل حال
البناء. وهذا شبه
__________
1 يعبر عن العلة إذا لم تتعد بالقاصرة. وقد عقد لها بحثا في الاقتراح،
ونقل عن ابن الأنباري خلافا في الأخذ بها.
2 يراد بالزيادة في وصف العلة التي تخرج نحو يد أن يكون الاسم على
حرفين أصالة أي في أصل وضعه، فلا يدخل في هذا نحو أخ فإنه ليس على
حرفين في وضعه. وهذه الزيادة مرادة لمن اعتل بهذه العلة لبناء كم ومن،
وهو تعليل صحيح، ولا يرد علي ما أورده المؤلف من بناء المفرد المعرفة
لوقوعه موقع المضمر مع إعرابه قبل حال البناء، فإن العلة في حال النداء
موجودة صحيحة، وأخ, ونحو لا يوجد فيه الشبه بهل كاملا، لأنه لم يوضع
على حرفين بل على ثلاثة. ويرى بعض النحويين أن وضع الاسم على حرفين لا
يقتضي البناء إلا إذا كان الثاني حرف لين كالضمير "نا" ويعتل لبناء كم
ومن ونحوهما بغير الشبه الوضعي. وعلى هذا الرأي المؤلف، كما يؤخذ من
كلامه في هذا الكتاب في "باب في هذه اللغة؛ أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق
تابع منها بفارط؟ ", وانظر الأشموني على الألفية في مبحث المعرب
والمبني.
(1/170)
معنوي1 كما ترى مؤثر داع إلى البناء والشبه
اللفظي أقوى من الشبه المعنوي فقد كان يجب على هذا أن يبني ما جاء من
الأسماء على حرفين وله أصل في الثلاثة وألا يمنع من بنائه كونه في
الأصل ثلاثيًا كما لم يمنع من بناء زيد في النداء كونه في الأصل معربًا
بل إذا كانت صورة إعراب زيد قبل ندائه معلومة مشاهدة, ثم لم يمنع ذاك
من بنائه كان أن يبنى باب يد ودم وهن لنقصه ولأنه لم يأت تامًا على
أصله إلا في أماكن شاذة أجدر. وعلى أن منها ما لم يأت على أصله البتة
وهو معرب. وهو حر، وسه، وفم. فأما قوله:
يا حبذا عينا سليمى والفما2
وقول الآخر 3:
هما نفثا في فِيَّ من فمويهما4
فإنه على كل حال لم يأت على أصله وإن كان قد زيد5 فيه ما ليس منه.
__________
1 يريد بالشبه المعنوي ما لا يرجع إلى اللفظ، وإن كان به ما اصطلح عليه
المتأخرون، وهو أن يتضمن الاسم معنى من معاني الحروف.
2 عجزه:
والجيد والنحو وثدى قد نما
وانظر اللسان في "فوه"، والجمهرة 3/ 484.
3 هو الفرزدق. وانظر الخزانة 2/ 269، 3/ 346, والكتاب 2/ 83 والديوان
طبعة أوروبا 111.
4 عجزه:
على الناتج العاوي أشد رجام
وقبله:
وإن ابن إبليس وإبليس ألبنا ... لهم بعذاب الناس كل غلام
وهما من قصيدة يتوب فيها من الهجاء وقذف المحصنات. وقوله: "هما نفثا"
يريد إبليس وابنه يريد أنهما ألقيا على لسانه ما لا يحل من القول. ثم
استأنف فقال: على النابح، يريد من يهجو الفرزدق، ورجام، فهو مصدر راجم
بالحجارة، رمى بها، يريد الإجابة بأسوأ الجواب.
5 يريد أن "الفما" في بيت الرجز، وفي بيت الفرزدق نقص العين واللام؛ إذ
أصله فوه، بدليل جمعه على أفواه وزيد فيه الميم والألف، وهما ليسا في
أصل تركيبه، ويذكر النحويون في بيت الفرزدق أن فيه جمعا بين البدل -هو
الميم- والمبدل عنه، وهو الواو. وقد أورد ابن جني في سر الصناعة "حرف
النون" الرجز وبيت الفرزدق وأورد في "الفما" بضعة أوجه، ثم قال: ويجوز
أن يكون "الفما" في موضع رفع، إلا أنه اسم مقصور بمنزلة عصا، وعليه بيت
الفرزدق:
هما نفثا في في من فمويهما
(1/171)
فإن قلت: فقد ظهرت اللام في تكسير ذلك نحو
أفواه وأستاه وأحراخ قيل: قد ظهر أيضًا الإعراب في زيد نفسه لا في جمعه
ولم يمنع ذلك من بنائه. وكذلك القول في تحقيره وتصريفه نحو فويه,
وأسته1, وحرح 2.
ومن ذلك قول أبي إسحاق في التنوين اللاحق في مثال الجمع الأكبر نحو
جوار وغواش: إنه عوض من ضمة الياء وهذه علة غير جارية3، ألا ترى أنها
لو كانت متعدية لوجب أن تعوض من ضمة ياء يرمي، فتقول: هذا يرم، ويقض،
ويستفض.
فإن قيل: الأفعال لا يدخلها التنوين، ففي هذا جوابان: أحدهما أن يقال
له: علتك ألزمتك إياه فلا تلم إلا نفسك والآخر أن يقال له: إن الأفعال
إنما يمتنع منها التنوين اللاحق للصرف فأما التنوين غير ذاك فلا مانع
له ألا ترى إلى تنوينهم الأفعال في القوافي لما لم يكن ذلك الذي هو علم
للصرف كقول العجاج:
من طلل كالأتحمي أنهجَن4
وقول جرير:
وقولي إن أصبت لقد أصابن5
ومع هذا فهل التنوين إلا نون وقد ألحقوا الفعل النونين: الخفيفة
والثقيلة. وههنا إفساد لقول أبي إسحاق آخر وهو أن يقال له: إن هذه
الأسماء قد عاقبت
__________
1 الأسته: عظيم الاست.
2 هو المولع بالحر.
3 يريد أنها قاصرة غير متعدية، فكأنها واقفة غير جارية.
4 صدره:
ما هاج أشجانا وشجوا قد شجن
وشجن أصله شجا فألحقه تنوين الترنم. وانظر الديوان 7. وقوله: "أنهجن"
كذا رسم بالنون وفقا لما في أ. وفي ش، ب: "أنها".
5 صدره:
أقل اللوم هاذل والعتا بن
وهو مطلع قصيدة له طويلة يهجو فيها الراعي النميري. وانظر الديوان 2/
30 والخزانة 1/ 34، وقوله: "أصابن" كذا رسم بالنون وفقًا لما في أ، وفي
ش، ب: "أصابا".
(1/172)
ياءاتها ضماتها؛ ألا تراها لا تجتمع معها
فلما عاقبتها جرت لذلك مجراها فكما أنك لا تعوض من الشيء وهو موجود,
فكذلك أيضًا يجب ألا تعوض منه وهناك ما يعاقبه ويجري مجراه. غير أن
الغرض في هذا الكتاب إنما هو الإلزام الأول؛ لأن به ما1 يصح تصور
العلة, وأنها غير متعدية.
ومن ذلك قول الفراء في نحو لغة, وثُبة, ورئة, ومئة: إن كان من ذلك
المحذوف منه الواو فإنه يأتي مضموم الأول نحو لغة وبرة, وثبة, وكرة,
وقلة؛ وما كان من الياء فإنه يأتي مكسور الأول؛ نحو مئة, ورئة. وهذا
يفسده قولهم: سنة فيمن قال: سنوات2 وهي من الواو كما ترى وليست مضمومة
الأول. وكذلك قولهم: عِضة محذوفها الواو لقولهم فيها: عضوات, قال:
هذا طريق يأزم المآزما ... وعضوات تقطع اللهازما3
وقالوا أيضًا: ضَعَة, وهي من الواو مفتوحة الأول, ألا تراه قال 4:
متخذًا من ضَعَوات تَوْلَجا
فهذا وجه فساد العلل إذا كانت واقفة5 غير متعدية. وهو كثير, فطالب فيه
بواجبه, وتأمل ما يرد عليك من أمثاله.
__________
1 ما هنا زائدة أو مصدرية.
2 أي لا فيمن قال في الجمع سنهات. وانظر الكامل 6/ 202.
3 يروى تمشق بدل "تقطع" وتمشق: تضرب. والمآزم جمع المأزم، وهو المضيق
بين جبلين، يريد أن المضايق بالنسبة إلى ضيقه لا تذكر. وانظر الكامل
بشرح الموصفي 6/ 206 وهذا البيت رواه الأصمعي عن أبي مهدية. وانظر
اللسان في "أزم"، وسيبويه ص81 ج2.
4 أي جرير يهجو البعيث. وقبله:
كأنه ذيخ إذا تنفجا
والذيخ -بزنة ديك: الذكر من الضباع وتنفج: وثب وعدا. وفي اللسان "ولج":
"ما معجا" والمعج: سرعة المر والتولج: كناس الظبي والوحش. والضعة: شجر
بالبادية مثل التمام. وانظر اللسان في "ضعو" و"ولج" و"تلج"، والديوان
1/ 34.
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "واقعة". وما أثبت هو الصواب. يريد بالموافقة
غير الجارية، وهي القاصرة.
(1/173)
باب في العلة وعلة
العلة:
ذكر أبو بكر1 في أول أصوله هذا ومثل منه برفع الفاعل. قال: فإذا سئلنا
عن علة رفعه قلنا: ارتفع بفعله فإذا قيل: ولم صار الفاعل مرفوعًا فهذا
سؤال عن علة العلة.
وهذا موضع ينبغي أن تعلم2 منه أن هذا الذي سماه علة العلة إنما هو تجوز
في اللفظ فأما في الحقيقة فإنه شرح وتفسير وتتميم للعلة ألا ترى أنه
إذا قيل له: فلم ارتفع الفاعل قال: لإسناد الفعل إليه ولو شاء لابتدأ
هذا فقال في جواب رفع زيد من قولنا قام زيد: إنما ارتفع لإسناد الفعل
إليه فكان مغنيًا عن قوله: إنما ارتفع بفعله حتى تسأله فيما بعد عن
العلة التي ارتفع لها الفاعل. وهذا هو الذي أراده المجيب بقوله: ارتفع
بفعله أي بإسناد الفعل إليه.
نعم ولو شاء لماطله فقال له: ولم صار المسند إليه الفعل مرفوعًا؟ فكان
جوابه أن يقول: إن صاحب الحديث أقوى الأسماء والضمة أقوى الحركات فجعل
الأقوى للأقوى. وكان يجب على ما رتبه أبو بكر أن تكون هنا علة وعلة
العلة وعلة علة العلة. وأيضًا فقد كان له أن يتجاوز هذا الموضع إلى ما
وراءه فيقول: وهلا عكسوا الأمر فأعطوا الاسم الأقوى الحركة الضعيفة
لئلا يجمعوا بين ثقيلين. فإن تكلف متكلف جوابًا عن هذا تصاعدت عدة3
العلل وأدى ذاك إلى هجنة القول وضعفة4 القائل به وكذلك لو قال لك قائل
في قولك: قام القوم إلا زيدًا: لم نصبت زيدًا لقلت: لأنه مستثنى وله من
بعد أن يقول:
__________
1 هو ابن السراج.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "يعلم".
3 كذا في أ. وفي ش، ب "علة".
4 الضعفة: قلة الفطنة وضعف الرأي.
(1/174)
ولم نصبت المستثنى فيكون من جوابه لأنه
فضلة ولو شئت أجبت مبتدئًا بهذا فقلت: إنما نصبت زيدًا في قولك: قام
القوم إلا زيدًا لأنه فضلة. والباب واحد والمسائل كثيرة. فتأمل وقس.
فقد ثبت بذلك أن هذا موضع تسمح " فيه أبو بكر "1 أو لم2 ينعم تأمله.
ومن بعد فالعلة الحقيقية عند أهل النظر لا تكون معلولة ألا ترى أن
السواد الذي هو علة لتسويد ما يحله إنما صار كذلك لنفسه لا لأن جاعلًا
جعله على هذه القضية. وفي هذا بيان.
فقد ثبت إذًا أن قوله: علة العلة إنما غرضه فيه أنه تتميم وشرح لهذه
العلة المقدمة عليه. وإنما ذكرناه في جملة هذه الأبواب لأن أبا بكر
-رحمه الله- ذكره فأحببنا أن نذكر ما عندنا فيه. وبالله التوفيق.
__________
1كذا في ش، ب. وفي أ: "أبو بكربه" مكان "فيه أبو بكر".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "و".
(1/175)
|