الخصائص باب في حكم المعلول
بعلتين:
وهو على ضربين: أحدهما ما لا نظر فيه والآخر محتاج إلى النظر.
الأول منهما نحو قولك: هذه عشري وهؤلاء مسلمي. فقياس هذا على قولك:
عشروك ومسلموك أن يكون أصله عشروي ومسلموي, فقلبت الواو ياء لأمرين كل
واحد منهما موجب للقلب غير محتاج إلى صاحبه للاستعانة به على قلبه:
أحدهما اجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بالسكون والآخر أن ياء
المتكلم أبدًا تكسر الحرف الذي قبلها إذا كان صحيحًا نحو هذا غلامي
ورأيت صاحبي وقد ثبت1 فيما قبل أن نظير الكسر في الصحيح الياء في هذه
الأسماء؛
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "قبل"، وهو تحريف.
(1/175)
نحو مررت بزيد ومررت بالزيدين ونظرت إلى
العشرين. فقد وجب إذًا ألا يقال: هذه عشروي بالواو كما لا يقال: هذا
غلامي بضم الميم. فهذه علة غير الأولى في وجوب قلب الواو ياء في عشروي
وصالحوي ونحو ذلك وأن يقال عشري بالياء البتة كما يقال هذا غلامي بكسر
الميم البتة.
ويدل على وجوب قلب هذه الواو إلى الياء في هذا الموضع من هذا الوجه
ولهذه العلة لا للطريق الأول -من استكراههم إظهار الواو ساكنة قبل
الياء- أنهم لم يقولوا: رأيت فاي وإنما يقولون: رأيت في. هذا مع أن هذه
الياء لا ينكر أن تأتي بعد الألف نحو رحاي وعصاي لخفة الألف فدل
امتناعهم من إيقاع الألف قبل هذه الياء على أنه ليس طريقه طريق
الاستخفاف والاستثقال, وإنما هو لاعتزامهم ترك الألف والواو قبلها
كتركهم الفتحة والضمة قبل الياء في الصحيح؛ نحو غلامي وداري.
فإن قيل: فأصل هذا إنما هو لاستثقالهم الياء بعد الضمة لو قالوا: هذا
غلامي قيل: لو كان لهذا الموضع البتة لفتحوا ما قبلها لأن الفتحة على
كل حال أخف قبل الياء من الكسرة فقالوا: رأيت غلامي. فإن قيل: لما
تركوا الضمة هنا وهي علم للرفع أتبعوها الفتحة ليكون العمل من موضع
واحد كما أنهم لما استكرهوا الواو بعد الياء نحو يعد حذفوها أيضًا بعد
الهمزة والنون والتاء في نحو أعد ونعد وتعد قيل: يفسد هذا من أوجه.
وذلك أن حروف المضارعة تجري مجرى الحرف الواحد من حيث كانت كلها
متساوية في جعلها الفعل صالحًا لزمانين: الحال والاستقبال فإذا وجب في
أحدها شيء أتبعوه سائرها وليس كذلك علم الإعراب؛ ألا ترى أن موضوع1
الإعراب على مخالفة بعضه بعضًا من حيث كان إنما جيء به دالا على اختلاف
المعاني.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "موضع".
(1/176)
فإن قلت: فحروف المضارعة أيضًا موضوعة على
اختلاف معانيها؛ لأن الهمزة للمتكلم, والنون للمتكلم إذا كان معه غيره
وكذلك بقيتها قيل: أجل إلا أنها كلها مع ذلك مجتمعة على معنى واحد وهو
جعلها الفعل صالحًا للزمانين على ما مضى. فإن قلت: فالإعراب أيضًا كله
مجتمع على جريانه على حرفه قيل: هذا عمل لفظي, والمعاني أشرف من
الألفاظ.
وأيضًا فتركهم إظهار الألف قبل هذه الياء مع ما يعتقد من خفة الألف حتى
إنه لم يسمع منهم نحو فاى ولا أباى ولا أخاى وإنما المسموع عنهم رأيت
أبي وأخي وحكى سيبويه كَسَرت فِيَ أدل دليل على أنهم لم يراعوا حديث
الاستخفاف والاستثقال حسب وأنه أمر غيرهما. وهو اعتزامهم ألا تجيء هذه
الياء إلا بعد كسرة أو ياء أو ألف لا تكون علمًا للنصب: نحو هذه عصاي
وهذا مصلاي. وعلى أن بعضهم راعى هذا الموضع أيضًا فقلب هذه الألف ياء
فقال: عصي ورحي, ويا بشرَيَّ "هذا غلام "1 وقال أبو داود 2:
فأبلوني بليتكم لعلي ... أصالحكم وأستدرج نويا
__________
1 زيادة في أ. وهي قراءة أبي الطفيل والحسن والجحدري. انظر البحر 5/
290.
2 هذا هو الصواب، ونسبه في المغني في مباحث أقسام العطف 2/ 97 إلى
الهذلي. وقبله:
ألم تر أنني جاورت كعبا ... وكان جوار بعض الناس غيا
وكان أبو داود جاور هلال بن كعب من تميم، فلعب غلام له مع غلمان الحي
في غدير، فغطسوه في الماء، ومات، فعزم أبو دواد على مفارقتهم وذم
جوارهم، وأحسن منهم أنهم يحاولون إرضاءه، فقال هذين البيتين. وقد أعطاه
هلال فوق الرضا، حتى ضرب به المثل في الوفاء فقيل: جار كجار أبي داود.
وقوله: "فأبلوني" يقال: أبلاه إذا صنع به صنعًا جميلا، واليلية اسم
منه. و"نويا" يريد نواي والنوي: النية، وهو الوجه الذي يقصد،
و"أستدرج": أرجع أدراجي من حيث كنت. يقول: أحسنوا إليَّ فإن أحسنتم
فلعلي أصالحكم وأرجع حيث كنت جارا لكم. وقد أحسنوا إليه، وظل على
جوارهم. وانظر شرح شواهد المغني البغدادي في الشاهد 669.
(1/177)
وروينا أيضًا عن قطرب 1:
يطوف بي عكب في معد ... ويطعن بالصملة في قفيا2
فإن لم تثأراني من عكب ... فلا أرويتما أبدا صديا3
وهو كثير. ومن قال هذا لم يقل في هذان غلاماي: "غلامَي"4 بقلب الألف
ياء لئلا يذهب علم الرفع.
ومن المعلول بعلتين قولهم: سيّ, ُ وريُّ. وأصله سوي وروي, فانقلبت
الواو ياء -إن شئت- لأنها ساكنة غير مدغمة وبعد كسرة -وإن شئت- لأنها
ساكنة قبل الياء. فهاتان علتان إحداهما كعلة قلب ميزان والأخرى كعلة
طيا وليا مصدري طويت ولويت وكل واحدة منهما مؤثرة.
فهذا ونحوه أحد ضربي الحكم المعلول بعلتين الذي لا نظر فيه.
والآخر منهما ما فيه النظر وهو باب ما لا ينصرف. وذلك أن علة امتناعه
من الصرف إنما هي لاجتماع شبهين فيه من أشباه الفعل. فأما السبب الواحد
فيقل عن أن يتم5 علة بنفسه حتى ينضم إليه الشبه الآخر من الفعل.
__________
1 نسبه في اللسان في "عكب" للنخل اليشكري؛ وكان يتهم بالمتجردة امرأة
النعمان بن المنذر، ووقف النعمان على ذلك فدفعه إلى عكب، وهذا قيده
وعذبه. وانظر شرح الحماسة للتبريزي 2/ 48 طبعة بولاق، والإصلاح 444.
2 عكب صاحب سجن النعمان بن المنذر. والصملة: العصا؛ كما في التاج في
صمل. وفي الجمهرة أنها حربة.
3 "تثأراني" في ش، ب. وفي أ "تثأرابي"، وكلاهما وارد مسموع، يقال: ثأرت
القتيل، وثأرت به وفي ج: "تثأرالي". "وصدي" يريد صداي. والصدى -في زعم
الجاهلية- طائر يصبح إذا لم يثأر بالمقتول.
4 زيادة اقتضاها السياق وظهرت لي من اختلاف الأصول. ففي أ "غلاماي"،
وفي ش، ب: "غلامي"، وقد بدا لي أن العبارتين "غلاماي" و"لامي" في
النسخة الأصلية، وحذف النساخ إحدهما لما لم يفهموا المراد.
5 ضبط هكذا في ب. وفي أ: "بتم"، بفتح الباء من الثلاثي, وكلاهما صحيح.
(1/178)
فإن قيل: فإذا كان في الاسم شبه واحد من
أشباه الفعل أله فيه تأثير أم لا؟ فإن كان له فيه تأثير فماذا التأثير؟
وهل صرف زيد1 إلا كصرف كلب وكعب؟ وإن لم يكن للسبب الواحد إذا حل الاسم
تأثير فيه فما باله إذا انضم إليه سبب آخر أثرا فيه فمعناه الصرف؟ وهلا
إذا كان السبب الواحد لا تأثير له فيه لم يؤثر فيه الآخر كما لم يؤثر
فيه الأول؟ وما الفرق بين الأول والآخر؟ فكما لم يؤثر الأول هلا لم
يؤثر الآخر؟
فالجواب أن السبب الواحد وإن لم يقو حكمه إلى2 أن يمنع الصرف فإنه لا
بد في حال انفراده من تأثير فيما حله وذلك التأثير الذي نوميء إليه
وندعي حصوله هو تصويره3 الاسم الذي حله على صورة ما إذا انضم إليه سبب
آخر اعتونا معًا على منع الصرف ألا ترى أن الأول لو لم تجعله4 على هذه
الصفة التي قدمنا ذكرها لكان مجيء الثاني مضمومًا إليه لايؤثر أيضًا
كما لم يؤثر الأول ثم كذلك إلى أن تفنى أسباب منع الصرف فتجتمع كلها
فيه وهو مع ذلك منصرف. لا بل دل تأثير الثاني على أن الأول قد كان شكل
الاسم على صورة إذا انضم إليه سبب آخر انضم إليها مثلها وكان من مجموع
الصورتين ما يوجب ترك الصرف.
فإن قلت: ما تقول في اسم أعجمي علم في بابه مذكر متجاوز للثلاثة نحو
يوسف وإبراهيم ونحن نعلم أنه الآن غير مصروف لاجتماع التعريف والعجمة
عليه فلو سميت به من بعد مؤثنًا ألست قد جمعت فيه بعد ما كان عليه -من
التعريف والعجمة- التأنيث فليت شعري أبالأسباب الثلاثة منعته الصرف أم
باثنتين منها؟
__________
1 أي وفيه العلمية. وبها يتحقق أحد الشبهين. وقوله كلب وكعب أي غير
علمين.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "في".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "بصورة".
4 كذا في أ. وفي ش: "يجعله".
(1/179)
فإن كان بالثلاثة كلها فما الذي زاد فيه
التأنيث الطاريء عليه فإن كان لم يزد فيه شيئًا فقد رأيت أحد أشباه
الفعل غير مؤثر وليس هذا من قولك. وإن كان أثر فيه التأنيث الطارئ عليه
شيئًا فعرفنا ما ذلك المعنى.
فالجواب هو أنه جعله على صورة ما إذا حذف منه سبب من أسباب الفعل بقي
بعد ذلك غير مصروف أيضًا ألا تراك لو حذفت من يوسف اسم امرأةٍ التأنيث
فأعدته إلى التذكير لأقررته أيضًا على ما كان عليه من ترك الصرف وليس
كذلك امرأة سميتها بجعفر ومالك ألا تراك لو نزعت عن الاسم تأنيثه
لصرفته لأنك لم تبق فيه بعد إلا شبهًا واحدًا من أشباه الفعل. فقد صار
إذًا المعنى الثالث مؤثرًا أثرًا ما كما كان السبب الواحد مؤثرًا أثرًا
ما على ما قدمنا ذكره فاعرف ذلك.
وأيضًا فإن "يوسف " اسم امرأة أثقل منه اسم رجل كما أن "عقرب " اسم
امرأة أثقل من "هند " ألا تراك تجيز صرفها ولا تجيز صرف "عقرب " علمًا.
فهذا إذًا معنى حصل ليوسف عند تسمية المؤنث به وهو معنى زائد بالشبه
الثالث.
فأما قول من قال: إن الاسم الذي اجتمع فيه سببان من أسباب منع الصرف
فمنعه إذا انضم إلى ذلك ثالث امتنع من الإعراب أصلًا ففاسد عندنا من
أوجه: أحدها أن سبب البناء في الاسم ليس طريقه طريق حديث الصرف وترك
الصرف إنما سببه مشابهة الاسم للحرف لا غير. وأما تمثيله ذلك بمنع
إعراب حذام وقطام وبقوله فيه: إنه لما كان معدولًا عن حاذمة وقاطمة وقد
كانتا معرفتين لا ينصرفان1، وليس بعد منع الصرف إلا ترك الإعراب البتة
فلاحق في الفساد بما قبله لأنه منه وعليه حذاه. وذلك أن علة منع هذه
__________
1 كذا في الأصول. والوجه أن يقال: تنصرفان، وكأنه ذكر نظرا لتأولهما
باللفظين.
(1/180)
الإعراب إنما هو شيء أتاها من باب دراك،
ونزال، ثم شبهت1 حذام وقطام ورقاش بالمثال2 والتعريف، والتأنيث بباب
دراك ونزال على " ما بيناه"3 هناك. فأما أنه لأنه ليس بعد منع الصرف
إلا رفع الإعراب أصلا فلا.
ومما يفسد قول من قال: إن الاسم إذا منعه السببان الصرف فإن اجتماع
الثلاثة فيه ترفع4 عنه الإعراب أنا نجد في كلامهم من الأسماء ما يجتمع
فيه خمسة أسباب من موانع الصرف وهو مع ذلك معرب غير مبني. وذلك كامرأة
سميتها " بأذربيجان " فهذا اسم قد اجتمعت فيه خمسة5 موانع: وهو التعريف
والتأنيث، والعجمة، والتركيب6، والألف والنون وكذلك إن عنيت "بأذربيجان
" البلدة والمدينة لأن البلد فيه الأسباب الخمسة وهو مع ذلك معرب7 كما
ترى. فإذا كانت الأسباب الخمسة لا ترفع الإعراب فالثلاثة أحجى بألا
ترفعه وهذا بيان. ولتحامي الإطالة ما أحذف أطرافًا من القول على أن
فيما يخرج إلى الظاهر كافيًا بإذن الله.
__________
1 كذا. والأسوغ حذف هذا الحرف. وكأن "ثم" فيه للترتيب الذكري، يراد فيه
التعليل للجملة السابقة.
2 يراد بالمثال الوزن. والياء فيه للسببية. والغرض ذكر وجه الشبه بين
باب حذام وباب دراك.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "ما قد بيناه".
4 كذا في جميع الأصول والتأنيث لاكتساب المضاف "اجتماع" التثبت من
المضاف إليه.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "خمس".
6 من أذر للنار، وبيحان أي حافظ وخازن، ومعنى ذلك بيت النار أو خازن
النار، وقد كانت بيوت النار المعدة لعبادة الفرس كثيرة في هذه الناحية.
انظر معجم البلدان.
7 يجيب ابن قاسم العبادي عن هذا بأن توالي العلل المانعة من الصرف مجوز
للياء لا موجب. فأخذ به في حذام. ولم يؤخذ به في أذربيجان؛ للتنبيه على
هذا، وانظر حاشية الصبان في مبحث "ما لا ينصرف".
(1/181)
باب في إدراج 1 العلة واختصارها:
هذا موضع يستمر "النحويون عليه 2" فيفتق عليهم ما يتعبون3 بتداركه
والتعذر منه. وذلك كسائل سأل عن قولهم: آسيت الرجل فأنا أواسيه وآخيته
فأنا أواخيه فقال: وما أصله فقلت: أؤاسيه وأؤاخيه -وكذلك نقول- فيقول
لك: فما4 علته في التغيير فنقول: اجتمعت الهمزتان فقلبت الثانية واوًا
لانضمام ما قبلها. وفي ذلك شيئان: أحدهما أنك لم تستوف ذكر الأصل
والآخر أنك لم تتقص شرح العلة.
أما إخلالك بذكر حقيقية الأصل فلأن أصله "أؤاسوك " لأنه أفاعلك من
الأسوة فقلبت الواو ياء لوقوعها طرفًا بعد الكسرة وكذلك أؤاخيك أصله
"أؤاخوك " لأنه من الأخوة5 فانقلبت اللام لما ذكرنا كما تنقلب في نحو
أعطِى واستقصِى.
وأما تقصي علة تغيير الهمزة بقلبها واوًا فالقول فيه أنه اجتمع في كلمة
واحدة همزتان غير عينين " الأولى منهما مضمومة والثانية مفتوحة "6 و "
هي"7 حشو غير طرف فاستثقل ذلك فقلبت الثانية على حركة ما قبلها -وهي
الضمة-
__________
1 إدراج العلة: طيها وترك بسطها والإسراع في إيرادها بحذف بعض مقوماتها
والإدراج في اللغة: الطي؛ تقول: أدرجت الكتاب إذا طويته وفيه معنى
السرعة، ومن ذلك مدرجة الطريق: التي يسرع الناس فيها وانظر اللسان
"درج" وأدب الكتاب للصولي 136.
2 كذا في ش، ب وفي أ: "النحويون فيه عليه".
3 كذا في أ، ب وفي ش: "يتبعون"
4 كذا في ش، ب وفي أ: "ما".
5 كذا في ش، ب وفي أزيادة: "والإخوة" بكسر الهمزة وتشديد الخاء.
6 سقط ما بين القوسين في أ.
7 كذا أثبت هذه الكلمة، وبها يستقيم الكلم، وفي أ: "وكلتاهما متأخر غير
طرف" وفي غيرها من الأصول: "وكلتاهما حشو غير طرف".
(1/182)
واوًا. ولا بد من ذكر جميع ذلك وإلا أخللت
ألا ترى أنك قد تجمع في الكلمة الواحدة بين همزتين فتكونان عينين فلا
تغير ذلك وذلك نحو سآل ورآس, وكبنائك من سألت نحو تبع، فتقول 1: "سؤل "
فتصحان لأنهما عينان ألا ترى أن لو بنيت من قرأت مثل " جرشع" 2 لقلت
"قرء " وأصله قرؤؤ فقلبت الثانية ياء وإن كانت قبلها همزة مضمومة
وكانتا في كلمة واحدة لما كانت الثانية منهما طرفًا لا حشوًا. وكذلك
أيضًا ذكرك كونهما في كلمة واحدة ألا ترى أن من العرب من يحقق الهمزتين
إذا كانتا من كلمتين نحو قول الله تعالى3 {السُّفَهَاءُ أَلا} فإذا
كانتا في كلمة واحدة فكلهم يقلب نحو جاء وشاء ونحو خطايا وزوايا4، في
قول الكافة غير الخليل.
فأما ما يحكى عن بعضهم من تحقيقهما في الكلمة الواحدة نحو أئمة وخطائئ
"مثل خطا عع "5، وجائئ فشاذ لا يجوز أن يعقد عليه باب. ولو اقتصرت في
تعليل التغيير في " أؤاسيك" ونحوه على أن تقول: اجتمعت الهمزتان في
كلمة واحدة فقلبت الثانية واوًا لوجب عليك أن تقلب الهمزة الثانية في
نحو سأآل ورأآس واوًا, وأن تقلب همزة أأدم وأأمن واوًا وأن تقلب الهمزة
الثانية في خطائئ واوًا. ونحو ذلك كثير لا يحصى وإنما أذكر من كل نبذًا
لئلا يطول الكتاب جدًّا.
__________
1 كذا في ب وفي أ: "فيقال". وفي ش: "فيقول".
2 هو العظيم من الإبل والخيل.
3 من الآية 13 من سورة البقرة.
4 كذا في معظم الأصول: "ورزايا" جمع رزيئة وفي أ، "روايا" وجمع رويئة،
والأكثر فيها ترك الهمز: روية.
5 زيادة في ش، ب وإن كان فيهما "خطا عج" وهو تحريف.
(1/183)
باب في دور 1 الاعتلال:
هذا موضع طريف 2. ذهب محمد بن يزيد في وجوب إسكان اللام في نحو ضربْن
وضربْت إلى أنه لحركة ما بعده من الضمير: يعني مع الحركتين قبل. وذهب
أيضًا في حركة الضمير من نحو هذا أنها إنما وجبت لسكون ما قبله. فتارة
اعتل لهذا بهذا ثم دار تارة أخرى فاعتل لهذا بهذا. وفي ظاهر ذلك اعتراف
بأن كل واحد منهما ليست له حال مستحقة تخصه في نفسه وإنما استقر على ما
استقر عليه لأمر راجع إلى صاحبه.
ومثله ما أجازه سيبويه في جر " الوجه" من قولك: هذا الحسن الوجه. وذلك
أنه أجاز فيه الجر من وجهين: أحدهما طريق الإضافة الظاهرة والآخر
تشبيهه بالضارب الرجل. "وقد أحطنا علمًا بأن الجر إنما جاز في الضارب
الرجل "3 ونحوه مما كان الثاني منهما منصوبًا لتشبيههم إياه بالحسن
الوجه أفلا ترى كيف صار كل واحد من الموضعين علة لصاحبه في الحكم
الواحد الجاري عليهما جميعًا. وهذا من طريف أمر هذه اللغة وشدة تداخلها
وتزاحم الألفاظ والأغراض على جهاتها. والعذر أن الجر لما فشا واتسع في
نحو الضارب الرجل والشاتم الغلام والقاتل البطل صار -لتمكنه فيه وشياعه
في استعماله- كأنه أصل في بابه وإن كان إنما سرى إليه لتشبيهه بالحسن
الوجه. فلما كان كذلك قوي في بابه حتى صار لقوته
__________
1 يريد بدور الأعتلال أن يطل الشيء بعلة معللة بذلك الشيء. والدرر بين
شيئين توقف كل منهما على الآخر. وهذا من مصطلحات المتكلمين، ولهم فيه
تقسيم وبحوث. وليس الدرر في هذا المقام هو الدوران كما ذهب إليه شارحا
الاقتراح: ابن الطيب ابن علان؛ فإن الدوران هو حدوث الحكم بحدوث العلة،
وانعدامه بعدمها كما في حرمة النبيذ تدور مع الإسكار وجودا وعدمًا،
والدوران من مسالك العلة، والدور أدنى إلى أن يكون من قوادحها.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "ظريف".
3 ثبت ما بين القوسين في ش، ب. وسقط من أ.
(1/184)
قياسًا وسماعًا كأنه أصل للحر في "هذا
الحسن الوجه " وسنأتي على بقية هذا الموضع في باب نفرده له1 بإذن الله.
لكن ما أجازه أبو العباس وذهب إليه في باب ضربن وضربت من تسكين اللام
لحركة الضمير, وتحريك الضمير لسكون اللام شنيع الظاهر, والعذر فيه أضعف
منه في مسئلة الكتاب ألا ترى أن الشيء لا يكون علة نفسه وإذا لم يكن
كذلك كان من أن يكون علة علته أبعد وليس كذلك قول سيبويه وذلك أن
الفروع إذا تمكنت " قويت قوة تسوغ"3 حمل الأصول عليها. وذلك لإرادتهم
تثبيت الفرع والشهادة له بقوة الحكم.
__________
1 كذا في أ. وسقط هذا اللفظ في ش، ب.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "أوضح" وما أثبت هو الصواب.
3 كذا في أ. وفي بقية الأصول: "وقويت قوة تسرع".
(1/185)
باب في ارد على من
اعتقد فساد علل النحويين لضعفه هو نفسه عن أحكام العلة
...
باب في الرد على من اعتقد فساد علل النحويين لضعفه هو في نفسه عن إحكام
العلة:
اعلم أن هذا الموضع هو الذي يتعسف بأكثر من ترى. وذلك أنه لا يعرف
أغراض القوم فيرى لذلك أن ما أوردوه من العلة ضعيف واه ساقط غير متعال.
وهذا كقولهم: يقول النحويون إن الفاعل رفع والمفعول به نصب وقد ترى
الأمر بضد ذلك ألا ترانا نقول: ضرب زيد فنرفعه وإن كان مفعولا به,
ونقول: إن زيدًا قام فننصبه وإن كان فاعلًا ونقول: عجبت من قيام زيد
فنجره وإن كان فاعلًا ونقول أيضًا: قد قال الله عز وجل {وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ} فرفع "حيث " وإن كان بعد حرف الخفض. ومثله عندهم في الشناعة
قوله -عز وجل: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وما يجري
هذا المجرى.
ومثل هذا يتعب مع هذه الطائفة لا سيما إذا كان السائل "عنه"1 من يلزم
الصبر عليه. ولو بدأ الأمر بإحكام الأصل لسقط عنه هذا الهوس وذا اللغو
ألا ترى أنه لو عرف أن الفاعل عند أهل العربية ليس كل من كان فاعلًا في
المعنى وأن الفاعل عندهم إنما هو كل اسم ذكرته بعد الفعل وأسندت ونسبت
ذلك الفعل إلى ذلك الاسم وأن الفعل الواجب وغير الواجب في ذلك سواء
لسقط صداع2 هذا المضعوف السؤال.
وكذلك القول على المفعول أنه إنما ينصب3 إذا أسند الفعل إلى الفاعل
فجاء هو فضلة وكذلك لو4 عرف أن الضمة في نحو حيث وقبل وبعد ليست
إعرابًا وإنما هي بناء.
وإنما ذكرت هذا الظاهر الواضح ليقع الاحتياط في المشكل الغامض. وكذلك
ما يحكى عن الجاحظ من أنه قال: قال النحويون: إن أفعل الذي5 مؤنثه
فُعلى لا يجتمع فيه الألف واللام ومن وإنما هو بمن أو بالألف واللام؛
نحو قولك: الأفضل وأفضل منك, والأحسن وأحسن من جعفر, ثم قال: وقد قال
الأعشى:
فلست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر6
ورحم الله أبا عثمان أما إنه لو علم أن "من " في هذا البيت ليست التي
تصحب أفعل للمبالغة نحو أحسن منك وأكرم منك، لضرب عن هذا القول إلى
غيره مما يعلو فيه قوله ويعنو لسداده وصحته خصمه. وذلك أن "من " في بيت
الأعشى إنما هي كالتي في قولنا: أنت من الناس حر وهذا الفرس من الخيل
كريم. فكأنه قال: لست من بينهم بالكثير الحصى ولست فيهم بالأكثر حصى.
فاعرف ذلك.
__________
1 زيادة في أ، ج.
2 كذا في أ. ويوافقه ما في ج: "لسقط صداعه". وفي ش، ب: "سؤال".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "انتصب".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "أو" وما أثبت هو الصواب.
5 يريد أفعل التفضيل، احترازًا عن أفعل الذي مؤنثه فعلاء. فهو صفة
مشبهة.
6 هذا البيت هو السابع والعشرون من قصيدته التي مطلعها:
شافك من قتله أطلالها ... بالشط فالوتر إلى حاجر
وانظر الصبح المنير 104-108، والخزانة 3/ 489.
(1/185)
باب في الاعتلال لهم
بأفعالهم:
ظاهر هذا الحديث طريف1، ومحصوله صحيح وذلك إذا كان الأول المردود إليه
الثاني جاريًا على "صحة علة "2.
من ذلك أن يقول قائل: إذا كان الفعل قد حذف في الموضع الذي لو ظهر فيه
لما أفسد معنى كان ترك إظهاره في الموضع الذي لو ظهر فيه لأحال المعنى
وأفسده أولى وأحجى ألا ترى أنهم يقولون: الذي في الدار زيد وأصله الذي
استقر أو ثبت في الدار زيد ولو أظهروا هذا الفعل هنا لما أحال معنى ولا
أزال غرضًا فكيف بهم في ترك إظهاره في النداء ألا ترى أنه لو تجشم
إظهاره فقيل: أدعو زيدًا وأنادي زيدًا لاستحال أمر النداء فصار إلى لفظ
الخبر المحتمل للصدق والكذب والنداء مما3 لا يصح فيه تصديق ولا تكذيب.
ومن الاعتلال بأفعالهم أن تقول: إذا كان اسم الفاعل -على قوة تحمله
للضمير- متى جرى على غير من هو له -صفة أو صلة أو حالا أو خبرًا- لم
يحتمل الضمير كما يحتمله4 الفعل، فما ظنك بالصفة المشبهة باسم الفاعل،
نحو
__________
1 كذا في أ، ب. وسقط هذا الحرف في ش.
2 كذا في أ، ب. وفي ش، ج: "علة صحيحة".
3 كذا في أ. وسقط هذا اللفظ في ش، ب.
4 مقتضى هذا الكلام أن الضمير مع الفعل إذا جرى على غير من هو له يجوز
استتاره، وهو ما في الإنصاف "المسألة الثامنة". وفي الهمع 1/ 96:
"والفعل كالمشتق فيما ذكر أيضا؛ نحو زيد عمرو بضربه هو، وزيد هند
يضربها، ويضربها هو، على الخلاف، وقد نقل ذلك الصبان في حاشيته على
الأشموني عند قول ابن مالك في "الابتداء":
وأبرزنه مطلقا حيث تلا ... ما ليس معناه له محصلا
(1/187)
قولك: زيد هند شديد عليها هو, إذا أجريت1 "
شديدًا " خبرًا عن "هند " وكذلك قولك: أخواك زيد حسن في عينه هما,
والزيدون هند ظريف في نفسها هم, وما ظنك أيضًا بالشفة المشبهة "بالصفة
المشبهة "2 باسم الفاعل نحو قولك: أخوك جاريتك أكرم عليها من عمرو هو
وغلاماك أبوك أحسن عنده من جعفر هما والحجر الحية أشد عليها من العصا
هو.
ومن قال: مررت برجل أبي عشرة أبوه قال: أخواك جاريتهما أبو عشرة عندها
هما فأظهرت الضمير. وكان ذلك أحسن من رفعه الظاهر لأن هذا الضمير وإن
كان منفصلا ومشبهًا للظاهر بانفصاله فإنه على كل حال ضمير. وإنما وحدت
فقلت: أبو عشرة عندها هما ولم تثنه فتقول: أبوا عشرة من قبل أنه قد رفع
ضميرًا منفصلا مشابهًا للظاهر فجرى مجرى قولك: مررت برجل أبي عشرة
أبواه. فلما رفع الظاهر وما يجري مجرى الظاهر شبهه بالفعل فوحد البتة.
ومن قال: مررت برجل قائمين أخواه فأجراه مجرى قاما أخواه فإنه يقول:
مررت برجل أبوي عشرة أبواه. والتثنية في "أبوي عشرة " من وجه تقوى ومن
آخر تضعف. أما وجه القوة فلأنها بعيدة عن اسم الفاعل الجاري مجرى الفعل
فالتثنية فيه -لأنه اسم- حسنة وأما وجه الضعف فلأنه على كل حال قد أعمل
في الظاهر ولم يعمل إلا لشبهه بالفعل وإذا كان كذلك وجب له أن يقوى شبه
الفعل ليقوم العذر بذلك في إعماله عمله ألا ترى أنهم لما شبهوا الفعل
باسم الفاعل فأعربوه كنفوا هذا المعنى بينهما وأيدوه بأن شبهوا اسم
الفاعل بالفعل فأعملوه. وهذا في معناه واضح سديد كما تراه.
وأمثال هذا في الاحتجاج لهم بأفعالهم كثيرة وإنما أضع من كل شيء رسمًا
ما ليحتذى. فأما الإطالة والاستيعاب فلا.
__________
1 يحترز بهذا عن أن تجعل "شديد" خبرا عن "هو" مقدما.
2 زيادة اقتضاها السياق خلت منها الأصول أ، ب، ش. وفي ج ما يفيدها وهو:
"فما ظنك أيضا بالصفة المشبهة بهذه الصفة".
(1/188)
|