الخصائص

باب في الاحتجاج بقول المخالف:
اعلم أن هذا -على "ما في"1 ظاهره- صحيح ومستقيم. وذلك أن ينبغ من2 أصحابه نابغ فينشئ خلافًا ما على أهل مذهبه, فإذا سمع3 خصمه به, وأجلب عليه قال: هذا لا يقول به أحد من الفريقين, فيخرجه مخرج التقبيح له, والتشنيع عليه.
وذلك كإنكار أبي العباس4 جواز تقديم خبر "ليس" عليها, فأحد ما يحتج به عليه أن يقال له: إجازة هذا مذهب سيبويه5 وأبي الحسن وكافة أصحابنا5، والكوفيون5 أيضًا معنا. فإذا كانت إجازة ذلك مذهبًا للكافة من البلدين6 وجب عليك
__________
1 زيادة في أ، وقد خلت منها ش، ب.
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "في أصحابه". وفي ج: "من أصحابنا". و"ينبغ" أي يخرج ويظهر، والضمير في "أصحابه يعود على "نابغ".
3 يقال: سمع بالرجل: أذاع عنه عيبا وندد به ونصحه.
4 أبو العباس هو المبرد.
5 عبارة ابن عقيل عند قول ابن مالك:
ومنع سبق خبر ليس اصطفى
"اختلف النحويون في جواز تقديم خبر ليس عليها، فذهب الكوفيون والمبرد والزجاج وابن السراج وأكثر المتأخرين -ومنهم المصنف- إلى المنع، وذهب أبو علي الفارسي وابن برهان إلى الجواز، فتقول: قائما ليس زيد. واختلف النقل عن سيبويه، فنسب قوم إليه الجواز وقوم المنع. وفي الإنصاف في المسألة 18 ص73: "ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبر ليس عليها. وإليه ذهب أبو العباس المبرد من البصريين؛ وزعم بعضهم أنه مذهب سيبويه. وليس بصحيح. والصحيح أنه ليس له في ذلك نص. وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم خبر ليس عليها" وفي الارتشاف نسخة الدار رقم 1106 نحو في الورقة 167أ: "وأما تقديم خبر ليس عليها فذهب جمهور الكوفيين والمبرد وابن السراج والسيرافي وأبو علي في الحلبيات وابن عبد الوارث والجرجاني والسبيلي وأكثر المتأخرين إلى أنه لا يجوز. وذهب قدماء البصريين والفراء وأبو علي في المشهور وابن برهان والزمخشري والأستاذ أبو علي إلى جواز ذلك، واختاره ابن عصفور، وروي أيضًا عن السيرافي. واختلف النقل في ذلك عن سيبويه، فنسب الجواز والمنع إليه. وقال ابن جني في الخصائص عن المبرد: خالف في ذلك البصريين والكوفيين".
6 يريد البصرة والكوفة.

(1/189)


-يا أبا العباس- أن تنفر عن خلافه, وتستوحش منه, ولا تأنس بأول خاطر يبدو لك فيه.
ولعمري إن هذا ليس بموضع قطع على الخصم إلا أن فيه تشنيعًا عليه وإهابة به إلى تركه وإضافة1 لعذره في استمراره عليه وتهالكه فيه، من غير إحكامه وإنعام الفحص عنه. وإنما لم يكن فيه قطع لأن للإنسان أن يرتجل من المذاهب ما يدعو إليه القياس ما لم يلو2 بنص أو ينتهك حرمة شرع. فقس على ما ترى؛ فإنني إنما أضع من كل شيء مثالا موجزًا.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "إضافة". وما أثبت هو الصواب. والإضافة: التضييق.
2 يقال: ألوى بالكلام: خلاف به عن جهته، وانحرف عن قصده.

(1/190)


باب القول على إجمال أهل العربية متى يكون حجة
...
باب القول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة:
اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف1 المنصوص. والمقيس على النصوص فأما إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجة عليه. وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنهم لا يجتمعون على الخطأ كما جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله2: "أمتي لا تجتمع على ضلالة" وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة.
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش: "تخالف". وهو تحريف. وفي ب لم ينقط الحرف الأول.
2 روي هذا الحديث بعدة طرق، وفي بعضها: "لا تجتمع أمتي على خطأ" , ويستدل بهذا الأصوليون على حجية الإجماع. وفي أسانيده بعض المقال، غير أنه قيل: إن معناه روى من طرق عدة بلغت مبلغ التواتر المعنوي، فصار كجود حاتم وشجاعة عنترة، وانظر شرح ابن السبكي لمنهاج البيضاوي في مبحث الإجماع.

(1/190)


فكل من فرق له عن علة صحيحة وطريق نهجة1 كان خليل2 نفسه، وأبا عمرو فكره 3.
إلا أننا -مع هذا الذي رأيناه وسوغناه مرتكبة- لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي قد طال بحثها وتقدم نظرها4، وتتالت أواخر على أوائل وأعجازًا على كلاكل والقوم الذين لا نشك في أن الله -سبحانه وتقدست أسماؤه- قد هداهم لهذا العلم الكريم وأراهم وجه الحكمة في الترجيب5 له والتعظيم وجعله ببركاتهم وعلى أيدي طاعاتهم خادمًا للكتاب المنزل وكلام نبيه المرسل وعونًا على فهمهما ومعرفة ما أمر به أو نهي عنه الثقلان منهما إلا بعد أن يناهضه6 إتقانًا ويثابته عرفانًا ولا يخلد إلى سانح خاطره ولا إلى نزوة من نزوات تفكره. فإذا هو حذا على هذا المثال وباشر بإنعام تصفحه أحناء الحال أمضى الرأي فيما يريه الله منه غير معاز7 به، ولا غاض من السلف -رحمهم الله- في شيء منه. فإنه إذا فعل ذلك سدد رأيه. وشيع خاطره وكان بالصواب8 مئنة ومن التوفيق مظنة وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ 9: ما على الناس شيء أضر من قولهم:
__________
1 أي بينة واضحة، وفيما نقله الشاطبي عن ابن جني: "طريق نهج" وهو صحيح؛ فإن الطريق يذكر ويؤنث. انظر حواشي يس على الألفية ص254 ج2.
2 يريد إمام نفسه كالخليل إمام الناس، وكأبي عمرو بن العلاء في ذلك.
3 عقب الشاطبي على هذا القول بقوله: "فهو قول مردود، سبيله في ذلك سبيل النظام وبعض الخوارج والشيعة، بل نقطع بأن الإجماع في كل فن حجة شرعية". انظر المرجع السابق.
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "نظيرها" وهو خطأ.
5 كذا في ب بالجيم. وش، أ: "الترحيب" وهو تحريف.
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "يفاهمه".
7 المعازة: المغالبة. وهو هكذا في أ، ج. وفي ش، ب: "معان". وهو تحريف.
8 كذا في أ، ب. وفي ش: "الصواب".
9 كذا في ش، ب. وفي أسقط كلمة "الجاحظ".

(1/191)


ما ترك الأول للآخر شيئًا. وقال أبو عثمان المازني 1: "وإذا قال العالم قولا متقدمًا فللمتعلم الاقتداء به "والانتصار له"2 "والاحتجاج"3 لخلافه4 إن5 وجد إلى ذلك سبيلا" وقال الطائي الكبير:
يقول من تطرق أسماعه ... كم ترك الأول للآخر 6
فمما جاز خلاف الإجماع الواقع فيه منذ بدئ هذا العلم وإلى آخر هذا الوقت ما رأيته7 أنا في قولهم: هذا حجر ضب خرب. فهذا يتناوله آخر عن أول، وتال
__________
1 كذا في أوسقط هذا اللفظ في ش، ب. وانظر قول أبي عثمان في تصريفه في "باب ما ليس من المعتل ولم يجئ على مثاله إلا من الصحيح، ص610 نسخة التيمورية.
2 في المازني: "والاحتجاج لقوله".
3 في المازني: "والاختيار".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "بخلافه"، وفي ج: "على خلافه". وهذا موطن الاستشهاد من كلام المازني.
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "إذا".
6 هو من قصيدة له في مدح أبي سعيد، أولها:
قل للأمير الأريحي الذي ... كفاه للبادي وللحاضر
وقبله:
لا زلت من شكري في حلة ... لابسها ذو سلب فاخر
فالحديث في البيت الشاهد عن حلة الثناء في البيت قبله. وانظر الديوان 143.
7 أورد السيرافي في هذا الرأي وعزاه لبعض النحويين، فهل يعني ابن جني؟ وكانت وفاة السيرافي سنة 368، ووفاة ابن جني سنة 392، والسيرافي في درجة أبي علي أستاذ ابن جني. وعلى كل حال فقد تعاصر ابن جني والسيرافي دهرا، فلا ضير أن يكون رأي ابن جني عرف في حياة السيرافي، واستحق منه العناية بذكره، وبهذا يتم لابن جني دعواه انفراده بهذا الرأي وأنه لم يسبق به. وهاك عبارة السيرافي: "ورأيت بعض النحويين قال في "هذا حجر ضب خرب" قولا شرحته وقويته بما يحتمله. زعم النحوي أن المعنى: هذا جحر ضب خرب الجحر. والذي يقوي هذا أنا إذا قلنا: خرب الجحر صار من باب حسن الوجه، وفي خرب ضمير الجحر مرفوع؛ لأن التقدير كان خرب جحر ... " ويقول ابن هشام في المغني، في القاعدة الثانية من الكتاب الثامن: "أنكر السيرافي وابن جني الخفض على الجوار، وتأولا قولهم: "خرب" على أنه صفة "ضب" ... ". وقد علمت أن نسبة هذا الرأي السيرافي من قبل أنه قواه وأيده، وليس بابن بجدته، وإذا صح أن الرأي لابن جني في الأصل كان تقديم السيرافي على ابن جني في عبارة المغني لتقدم وفاته. وانظر السيرافي في شرح الكتاب، في "هذا باب مجرى النعت على المنعوت، والشريك على الشريك، والبدل على المبدل منه، وما أشبه ذلك".

(1/192)


عن ماض على أنه غلط من العرب لا يختلفون فيه ولا يتوقفون عنه وأنه من الشاذ الذي لا يحمل عليه ولا يجوز رد غيره إليه.
وأما أنا فعندي أن في القرآن مثل هذا الموضع نيفًا على ألف موضع. وذلك أنه على حذف المضاف لا غير. فإذا حملته على هذا الذي هو حشو الكلام من القرآن والشعر ساغ وسلس وشاع وقبل.
وتلخيص هذا أن أصله: هذا جحر ضب خربٍ جحره فيجري "خرب " وصفًا على "ضب " وإن كان في الحقيقة للجحر. كما تقول مررت برجل قائم أبوه فتجري "قائمًا وصفًا على " رجل "وإن كان القيام للأب لا للرجل لما ضمن من ذكره 1. والأمر في هذا أظهر من أن يؤتى بمثال له أو شاهد2 عليه. فلما كان أصله كذلك حذف الجحر المضاف إلى الهاء وأقيمت الهاء مقامه فارتفعت لأن المضاف المحذوف كان مرفوعًا فلما ارتفعت استتر الضمير المرفوع في نفس " خرب" فجرى وصفًا على ضب -وإن كان الخراب للجحر لا للضب- على تقدير حذف المضاف على ما أرينا. وقلت آية تخلو من حذف المضاف نعم وربما كان في الآية الواحدة من ذلك عدة مواضع.
وعلى نحو من هذا حمل أبو علي رحمه الله:
كبير أناس في بجاد مزمل3
__________
1 أي ضميره. يريد أن المسوغ لمجيء قائم وصفا للرجل وهو ليس بوصف له في الحقيقة، بل الموصوف حقيقة الأب، هو تضمن الأب ذكر الرجل.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "وشاهد".
3 من معلقة امرئ القيس، وصدره:
كأن ثبيرا في عرانين وبله
وثبير -بوزن كريم- جبل. والبجاد: كساء مخطط.

(1/193)


ولم يحمله على الغلط قال: لأنه أراد: مزمل فيه ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول.
فإذا أمكن ما قلنا ولم يكن أكثر من حذف المضاف الذي قد شاع واطرد, كان حمله عليه أولى من حمله على الغلط الذي لا يحمل غيره عليه ولا يقاس به.
ومثله قول لبيد:
أو مذهب جدد على ألواحه ... الناطق المبروز والمختوم1
أي المبروز به, ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول. وعليه قول الآخر:
إلى1 غير موثوق من الأرض تذهب
أي موثوق به ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول.
__________
1 قبله:
طلل لخولة بالرسيس قديم ... فبعاقل فالأنعمين رسوم
فكأن معروف الديار بقادم ... فبراق غول فالرجام وشوم
فقوله: "مذهب" عطف على "وشوم". والمذهب. اللوح المطلي بالذهب فيه الكتابة. وجعل له ألواحا كأنه جعل كل جانب منه لوحا. و"جدد" جمع جدة، وهي الطريقة، والخط، كأنه يريد أسطار الكتابة. ويريد بالناطق الخط الواضح، ووصفه بـ"المبروز" أي المظهر المنشور، و"المختوم" أي غير الواضح والغامض. شبه المعروف من الديار -وهو ما بقي من آثارها ودل عليها- بالوشوم وباللوح الذي فيه كتابة، بعضها واضح وبعضها خفي. وانظر الديوان طبع أوروبا 92، وشرح الأعلم لشواهد الكتاب في حواشيه 2/ 274، وشرح السيرافي الكتاب 5/ 387 نسخة التيمورية، واللسان "برز".
2 ورد هذا الشطر مع اختلاف في ثلاثة أبيات لبشر بن أبي خازم، وهاكها:
حلفت برب الداميات نحورها ... وما ضم أجياد المصلي ومذهب
لئن شبت الحرب العوان التي أرى ... وقد طال إبعاد بها وترهب
لتحتملن بالليل منكم ظعينة ... إلى غير موثوق من العز تهرب
وانظر معجم البلدان "أجياد".

(1/194)


باب في الزيادة في صفة العلة لضرب من الاحتياط:
قد يفعل أصحابنا ذلك إذا كانت الزيادة مثبتة لحال المزيد عليه. وذلك كقولك في همز "أوائل ": أصله "أواول " فلما اكتنفت الألف واوان وقربت الثانية منهما من الطرف ولم يؤثر إخراج ذلك على الأصل تنبيهًا على غيره من المغيرات في معناه1، ولا هناك ياء قبل الطرف منوية مقدرة وكانت الكلمة جمعًا ثقل ذلك فأبدلت الواو همزة فصار أوائل.
فجميع ما أوردته محتاج إليه إلا ما استظهرت به من قولك: وكانت الكلمة جمعًا فإنك لو لم تذكره لم يخلل ذلك بالعلة ألا ترى أنك لو بنيت من قلت وبعت واحدًا على فواعل كعوارض2 أو أفاعل "من أول أو يوم أو ويح "3 كأباتر4 لهمزت كما تهمز في الجمع.
فذكرك "الجمع" في أثناء الحديث إنما زدت الحال به أنسًا من حيث كان الجمع في غير هذا مما يدعو إلى قلب الواو ياء في نحو حقي5 ودلي فذكرته هنا تأكيدًا لا وجوبًا. وذكراك أنهم لم يؤثروا في هذا إخراج الحرف على أصله دلالة على أصل ما غير من غيره في نحوه لئلا يدخل عليك أن يقال لك: قد قال الراجز:
تسمع من شدانها عواولا6
__________
1 كذا في ج. وفي سواها: "لا لأن".
2 عوارض: جبل ببلاد طيئ, وعليه قبر حاتم. انظر اللسان في "عرض".
3 كذا في ش، ب، ج. وسقط هذا في أ. وقد كان في النسخ الثلاثة: "ريح" وأصلحتها: "ويح".
4 الأباتر: الذي يقطع رحمه: وقيل: الأباتر: الذي لا نسل له.
5 جمع حقو -بفتح الأول وسكون الثاني- وهو الخصر.
6 الشذان جمع شاذ. والعواول جمع عؤال -بكسر العين وتشديد الواو-مصدر عول أي صاح كما يقال كذب كذابا، وكأنه يصف دلوا يتناثر منها الماء أو منجنيقا يتناثر منها الحجارة. وهذا الضبط من اللسان "عول". وفي ب، ش: "شذاتها"، بفتح الشين وهو بالمعنى السابق. وفي أ، ج: "شذاتها".

(1/195)


وذكرت أيضًا قولك: ولم يكن هناك ياء قبل الطرف مقدرة لئلا يلزمك قوله:
وكحل العينين بالعواور1
ألا ترى أن أصله عواوير من حيث كان جمع عوار. والاستظهار في هذين الموضعين أعني حديث عواول وعواور أسهل احتمالًا من دخولك تحت الإفساد عليك بهما واعتذارك من بعد بما قدمته في صدر العلة. فإذا كان لا بد من إيراده فيما بعد إذا لم تحتط بذكره "فيما قبل"2 كان الرأي تقديم ذكره والاستراحة من التعقب عليك به. فهذا ضرب.
ولو استظهرت بذكر ما لا يؤثر في الحكم لكان ذلك منك خطلًا ولغوًا من القول ألا ترى أنك لو سئلت عن رفع طلحة من قولك: جاءني طلحة فقلت: ارتفع لإسناد الفعل إليه3، ولأنه مؤنث، أو لأنه علم لم يكن ذكرك التأنيث والعلمية إلا كقولك: ولأنه مفتوح الطاء أو لأنه ساكن عين الفعل ونحو ذلك مما لا يؤثر في الحال. فاعرف بذلك موضع ما يمكن الاحتياط به للحكم مما يعوى من ذلك، فلا يكون له فيه4 حجم5. وإنما المراعي من ذلك كله كونه مسندًا إليه الفعل.
__________
1 من رجز لجندل بن المثنى الطهوي وهو:
غرك أن تقاربت أبا عرى ... وأن رأيت الدهر ذا الدرائر
حتى عظامي وأراء ثاغري ... وكحل.........................
والعوار: الرمد. يريد أن الدهر أصابه بضعف البصر من المشيب والهرم وانظر شرح شواهد الشافية للبغدادي 374.
2 زيادة في أ. وسقطت في ش، ب.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "أو".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "في ذلك".
5 أي قدر، يريد التهوين من أمره. وحجم الشيء ما يبدو منه ناتئا، فيلمس.

(1/196)


فإن قيل: هلا كان ذكرك أنت أيضًا هنا الفعل لا وجه له ألا ترى أنه إنما ارتفع بإسناد غيره إليه فاعلًا كان أو مبتدأ. والعلة في رفع الفاعل هي العلة في رفع المبتدأ وإن اختلفا من جهة التقديم والتأخير؟
قلنا: لا1 لسنا نقول هكذا مجردًا وإنما نقول في رفع المبتدأ: إنه إنما وجب ذلك له من حيث كان مسندًا إليه عاريًا من العوامل اللفظية قبله فيه وليس كذلك الفاعل لأنه وإن كان مسندًا إليه فإن قبله عاملًا لفظيًا قد عمل فيه وهو الفعل وليس كذلك قولنا: زيد قام لأن هذا لم يرتفع لإسناد الفعل2 إليه حسب دون أن انضم إلى ذلك تعريه من العوامل اللفظية من قبله. فلهذا قلنا: ارتفع الفاعل بإسناد الفعل إليه ولم نحتج3 فيما بعد إلى شيء نذكره كما احتجنا إلى ذلك في باب المبتدأ ألا تراك تقول: إن زيدًا قام فتنصبه -وإن كان الفعل مسندًا إليه- لما لم يعر من العامل اللفظي الناصبه.
فقد وضح بذلك فرق ما بين حالي المبتدأ والفاعل في وصف تعليل ارتفاعهما وأنهما وإن اشتركا في كون كل واحد منهما مسندًا إليه فإن هناك فرقًا من حيث أرينا.
ومن ذلك قولك في جواب من سألك عن علة انتصاب زيد من قولك: ضربت زيدًا: إنه إنما انتصب لأنه فضلة ومفعول به فالجواب قد استقل بقولك: لأنه فضلة وقولك من بعد: "ومفعول به " تأنيس وتأييد لا ضرورة بك إليه ألا ترى أنك تقول في نصب "نفس " من قولك: طبت به نفسًا: إنما انتصب لأنه فضلة وإن كانت النفس هنا فاعلة في المعنى. فقد علمت بذلك أن قولك: ومفعول به
__________
1 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب.
2 هذا في ظاهر الأمر، وإلا فالفعل مسند إلى ضميره، والمسند إلى "زيد" جملة الفعل والفاعل.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "يحتج".

(1/197)


زيادة على العلة تطوعت بها. غير أنه في ذكرك كونه مفعولًا معنى ما وإن كان صغيرًا. وذلك أنه قد ثبت وشاع في الكلام أن الفاعل رفع والمفعول به نصب وكأنك أنست بذلك شيئًا. وأيضًا فإن فيه ضربًا من الشرح. وذلك أن كون الشيء فضلة لا يدل على أنه لا بد من أن يكون مفعولًا1 به ألا ترى أن الفضلات كثيرة كالمفعول به والظرف والمفعول له والمفعول معه والمصدر والحال والتمييز والاستثناء. فلما قلت: "ومفعول به"2 ميزت أي الفضلات هو. فاعرف ذلك وقسه.
__________
1 كذا في أ. وسقط لفظ "به" في ش، ب.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "المفعول".

(1/198)


باب في عدم النظير:
أما إذا دل الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير. وذلك مذهب الكتاب1 فإنه حكى فيما جاء على فِعِلٍ "إبلا " وحدها ولم يمنع الحكم بها عنده أن لم يكن لها نظير لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به لا للحاجة إليه.
فأما إن لم يقم دليل فإنك محتاج إلى إيجاد النظير ألا ترى إلى عِزويت2، لما لم يقم الدليل على أن واوه وتاءه أصلان احتجت إلى التعلل3 بالنظير فمنعت من أن يكون "فِعويلا" لما لم تجد له نظيرًا وحملته على "فِعليت" لوجود النظير وهو عفريت ونفريت.
وكذلك قال أبو عثمان في الرد على من4 ادعى أن "السين" و"سوف" ترفعان الأفعال المضارعة: لم نر عاملًا في الفعل تدخل عليه اللام وقد قال سبحانه {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} . فجعل عدم النظير ردًّا على من أنكر قوله.
__________
1 يرد كتاب سيبويه. وانظر ص315 ج2 إذ يقول: "ويكون فعلا في الاسم نحو إبل. وهو قليل لا نعلم في الأسماء والصفات غيره".
2 ذكره سيبويه في الكتاب 2/ 348 وفسره ثعلب بالقصير، وقال ابن دريد: اسم موضع. وانظر معجم البلدان.
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "التعليل".
4 في ابن علان "وهذا القائل لم أر من سماه". وانظر الأشباه 266.

(1/198)


وأما1 إن لم يقم الدليل ولم يوجد النظير فإنك تحكم مع عدم النظير. وذلك كقولك في الهمزة والنون من أندلس 2: إنهما زائدتان, وإن وزن الكلمة بهما "أنفعُل " وإن كان مثالا لا نظير له. وذلك أن النون لا محالة زائدة؛ لأنه ليس في ذوات الخمسة شيء على " فعلَلُل" فتكون النون فيه أصلا لوقوعها موقع العين, وإذا ثبت أن النون زائدة فقد برد في يدك ثلاثة أحرف أصول وهي الدال واللام والسين, وفي3 أول الكلمة همزة, ومتى وقع ذلك حكمت بكون الهمزة زائدة, ولا تكون النون أصلا والهمزة زائدة؛ لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزوائد من أوائلها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها؛ نحو مدحرج وبابه. فقد وجب إذًا أن الهمزة والنون زائدتان وأن الكلمة بهما على أنفعل وإن كان هذا مثالا لا نظير له.
فإن4 ضام الدليل النظير فلا مذهب بك عن ذلك؛ وهذا كنون عنتر 5. فالدليل يقضي بكونها أصلا, لأنها مقابلة لعين جعفر, والمثال أيضًا معك وهو " فعلَل" وكذلك القول على بابه. فاعرف ذلك وقس.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "فأما".
2 ضبطها شارح القاموس بضم الهمزة، وفي معجم البلدان بفتحها. ويقول ابن الطيب في شرح الاقتراح 79 نسخة التيمورية في الكلام على الأندلس: "ومن ضبطه بضم الهمزة أو الدال أو بضمهما فقد حرفه، وإن حكى شيخ شيوخنا الشهاب الخفاجي في شرح الشفا أن ضم الدال لغة، وأما ضم الهمزة فلا قائل به".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "ففي".
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "وإن".
5 من معانيه الشجاع والذباب.

(1/199)


باب في إسقاط الدليل:
وذلك كقول أبي عثمان: لا تكون الصفة غير مفيدة فلذلك قلت: مررت برجل أفعل 1. فصرف أفعل هذه لما لم تكن الصفة مفيدة. وإسقاط هذا أن يقال له: قد جاءت الصفة غير مفيدة. وذلك كقولك في جواب من قال رأيت زيدًا: آلمنيّ2 يا فتى فالمنيّ صفة, وغير مفيدة.
ومن ذلك قول البغداديين 3: إن الاسم يرتفع بما يعود عليه من ذكره؛ نحو زيد مررت به, وأخوك أكرمته. فارتفاعه عندهم إنما هو لأن عائدًا عاد عليه, فارتفع بذلك العائد. وإسقاط هذا الدليل أن يقال لهم: فنحن نقول: زيد هل ضربته, وأخوك متى كلمته ومعلوم أن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله فكما اعتبر أبو عثمان أن كل صفة فينبغي أن تكون مفيدة فأوجد4 أن من الصفات ما لا يفيد وكان ذلك كسرًا لقوله؛ كذلك قول هؤلاء: إن كل عائد على اسم عار من العوامل يرفعه يفسده وجود عائد على اسم عار من العوامل وهو غير رافع له, فهذا5 طريق هذا.
__________
1 أي تكنى به عن صفة زنتها أفعل كأحمق. يرى سيبويه منع صرف هذا، ويخالف أبو عثمان المازني. وانظر الكتاب ص6 ج2، وشرح الكافية للرضي ص135 ج2، والهمع 1/ 73.
2 تريد السؤال عن نسبه، والمني منسوب إلى من. وكأنك قلت آلقرشي؟ أو البكري؟ والأكثر في هذا قراءته بهمزة الاستفهام كما أثبته. وانظر الكتاب 1/ 404، وشرح الرضي للكافية 2/ 64، والهمع 2/ 153.
3 سبق له نسبة هذا إلى الكوفيين في ص19.
4 من قولهم: أوجدته مطلوبه: أظفرته به، أي حصل له هذا الأمر، وهو يرد عليه.
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "فهذه".

(1/200)