الخصائص

باب في اللفظين على المعنى الواحد يردان عن العالم متضادين:
وذلك عندنا على أوجه: أحدها أن يكون أحدهما مرسلا والآخر معللا. فإذا اتفق ذلك كان المذهب الأخذ بالمعلل, ووجب مع ذلك أن يتأول المرسل. وذلك كقول صاحب الكتاب -في غير موضع- في التاء من "بنت وأخت ": إنها للتأنيث1، وقال أيضًا مع ذلك في باب2 ما ينصرف وما لا ينصرف: إنها ليست للتأنيث. واعتل لهذا القول بأن ما قبلها ساكن وتاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها ساكنًا, إلا أن يكون ألفًا كقناة, وفتاة, وحصاة, والباقي كله مفتوح كرطبة وعنبة وعلامة ونسابة. قال 3: ولو سميت رجلا ببنت وأخت لصرفته 4. وهذا واضح. فإذا ثبت هذا القول الثاني بما ذكرناه, وكانت التاء فيه إنما هي عنده على ما قاله بمنزلة تاء "عفريت " و "ملكوت " وجب أن يحمل قوله فيها: إنها للتأنيث على المجاز وأن يتأول ولا يحمل القولان على التضاد.
ووجه الجمع بين القولين أن هذه التاء وإن لم تكن عنده للتأنيث فإنها لما لم توجد في الكلمة إلا في حال التأنيث استجاز أن يقول فيها: إنها للتأنيث ألا ترى أنك إذا ذكرت قلت " ابن" فزالت التاء كما تزول التاء من قولك: ابنة. فلما ساوقت تاء بنت تاء ابنة وكانت تاء ابنة للتأنيث قال في تاء بنت ما قال في تاء ابنة. وهذا من أقرب ما يتسمح به في هذه الصناعة ألا ترى أنه قال5 في عدة مواضع في نحو "حمراء "
__________
1 كقوله في ص82 ج2: "وأما بنت فإنك تقول: بنوي من قبل أن هذه التاء التي للتأنيث لا تثبت في الإضافة". وانظر أيضًا ص348 ج2.
2 انظر ص13 ج2.
3 أي في الموطن السابق.
4 كذا في أ. وفي ش، ب زيادة "معرفة" وهذه زيادة لا حاجة إليها، وليست في عبارة سيبويه.
5 كقوله في ص10 ج2: "واعلم أن الألفين لا تزادان أبدا إلا للتأنيث".

(1/201)


و "أصدقاء " و "عشراء " 1 وبابها: إن الألفين للتأنيث وإنما صاحبة التأنيث منهما الأخيرة التي قلبت همزة لا الأولى, وإنما الأولى زيادة لحقت قبل الثانية التي هي كألف "سكرى " و "عطشى " فلما التقت الألفان وتحركت الثانية قلبت همزة. ويدل على أن الثانية للتأنيث وأن الأولى ليست له أنك لو2 اعتزمت إزالة العلامة للتأنيث في هذا الضرب من الأسماء غيرت الثانية وحدها ولم تعرض للأولى. وذلك قولهم "حمراوان " و "عشراوات " و "صحراوي ". وهذا واضح.
قال أبو علي رحمه الله: ليس بنت من ابن كصعبة من صعب, إنما تأنيث ابن على لفظه2 ابنة. والأمر على ما ذكر.
فإن قلت: فهل في بنت وأخت علم تأنيث أو لا؟
قيل: بل فيهما علم تأنيث. فإن قيل: وما ذلك العلم قيل: الصيغة "فيهما علامة تأنيثهما "4، وذلك أن أصل هذين الاسمين عندنا فعل: بنو وأخو بدلالة تكسيرهم إياهما على أفعال في قولهم: أبناء وآخاء. قال بشر5 بن المهلب:
وجدتم بنيكم دوننا إذ نسيتم ... وأي بنى الآخاء تنبو مناسبه
فلما عدلا عن فَعل إلى فِعل وفُعل وأبدلت لاماهما تاء فصارتا بنتا وأختا كان هذا العمل وهذه الصيغة علمًا لتأنيثهما ألا تراك إذا فارقت هذا الموضع من التأنيث رفضت هذه الصيغة البتة فقلت في الإضافة إليهما: بنوي وأخوي كما أنك إذا أضفت إلى ما فيه علامة تأنيث أزلتها البتة نحو حمراوي وطلحي وحبلوي. فأما قول يونس: بنتي وأختي فمردود عند سيبويه. وليس هذا الموضع موضوعًا للحكم بينهما وإن كان لقول يونس أصول تجتذبه وتسوغه.
__________
1 يقال ناقة عشراء: مضى لحملها عشرة أشهر.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "إذا".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "لفظ". وقوله: "لفظه" أي لفظ "ابن" فكأن "بنتا" تأنيث "ابن" على معناه لا على لفظه.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "فيها علامة تأنيثها".
5 كذا في ش، ج. وفي أ: "يسر".

(1/202)


وكذلك1 إن قلت: إذا كان سيبويه لا يجمع بين ياءي2 الإضافة وبين صيغة بنت, وأخت, من حيث كانت الصيغة علمًا لتأنيثهما فلم صرفهما3 علمين لمذكر, وقد أثبت فيهما علامة تأنيث بفكها ونقضها مع ما لا يجامع علامة التأنيث: من4 ياءي الإضافة في بنوي وأخوي؟ فإذا أثبت5 في6 الاسمين بها7 علامة للتأنيث فهلا8 منع الاسمين الصرف بها مع التعريف كما تمنع الصرف باجتماع التأنيث إلى التعريف في نحو طلحة وحمزة وبابهما فإن هذا أيضًا مما قد أجبنا عنه في موضع آخر.
وكذلك القول في تاء ثنتان, وتاء ذيت, وكيت, وكلتى: التاء في جميع ذلك بدل من حرف علة, كتاء بنت وأخت, وليست للتأنيث. إنما التاء في ذية, وكية, واثنتان وابنتان, للتأنيث.
فإن قلت: فمن أين لنا في علامات التأنيث ما يكون معنى9 لا لفظًا؟ قيل: إذا قام الدليل لم يلزم النظير. وأيضًا فإن التاء في هذا وإن لم تكن للتأنيث فإنها بدل خص التأنيث والبدل وإن كان كالأصل لأنه بدل منه فإن له أيضًا شبهًا بالزائد من موضع آخر, وهو كونه غير أصل, كما أن الزائد غير أصل؛ ألا ترى إلى ما حكاه10 عن أبي الخطاب من قول بعضهم في راية: راءة بالهمز, كيف شبه ألف
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "إذا".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "ياء".
3 في الأصول: "صرفتهما"، وما أثبته أوفق للسياق. أي فلم صرفهما سيبويه.
4 بيان لما لا يجامع علامة التأنيث.
5 في الأصول: "ثبت" وما أثبته أوفق للسياق، والحديث في هذا كله عن سيبويه.
6 كذا في أوفي ش، ب: "مع".
7 يريد الصيغة في بنت وأخت وقد قامت مقام علامة التأنيث. وقد اعتمدت في إثبات "بها" على أوفي ش، ب: "بهاء" وهو خطأ.
8 أي سيبويه.
9 يريد الصيغة هي علم تأنيث بنت وأخت، والصيغة ليست بلفظ.
10 أي سيبويه. انظر الكتاب 2/ 130.

(1/203)


راية -وإن كانت بدلا من العين- بالألف الزائدة, فهمز اللام بعدها كما يهمزها بعد الزائدة في نحو سقاء وقضاء. وأما قول أبي عمر 1: إن التاء في كلتى زائدة, وإن مثال الكلمة بها "فِعتل " فمردود عند أصحابنا؛ لما قد ذكر في معناه من قولهم: إن التاء لا تزاد حشوًا إلا في "افتعل " وما تصرف منه, "و "2 لغير ذلك، غير أني قد وجدت لهذا القول نحوًا ونظيرًا. وذلك فيما حكاه الأصمعي من قولهم للرجل القواد: الكلتبان وقال مع ذلك: هو من الكَلَب وهو القيادة. فقد ترى التاء على هذا زائدة حشوًا ووزنه فعتلان. ففي هذا شيئان: أحدهما التسديد من قول أبي عمر والآخر إثبات مثال فائت للكتاب. وأمثل ما يصرف إليه ذلك أن يكون الكلب ثلاثيًا والكلتبان رباعيًا؛ كزرم3 وازرأم3 وضفد4، واضفأد4، وكزغَّب5 الفرخ وازلَغب5، ونحو ذلك من الأصلين الثلاثي والرباعي المتداخلين. وهذا غور عرض, فقلنا فيه ولنعد.
ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين على غير هذا الوجه. وهو أن يحكم في شيء بحكم ما ثم يحكم فيه نفسه بضده غير أنه لم يعلل أحد القولين. فينبغي حينئذ أن ينظر إلى الأليق بالمذهب والأجرى على قوانينه فيجعل هو المراد المعتزم منهما ويتأول الآخر إن أمكن.
__________
1 يريد الجرمي صالح بن إسحاق. أخذ عن الأخفش ويونس والأصمعي وأبي عبيدة، ومات سنة 225، انظر اللسان في "كلو".
2 كذا في أ، ب. وفي ش سقطت الواو.
3 يقال: زرم دمعه وازرأم: انقطع.
4 يقال ضفد الرجل واضفأد: كان ثقيل اللحم رخوا أحمق. وفي الأصول: "ضفندد" وهو الوصف من ضفد بزيادة الإلحاق. وما أثبته أوفق بالسياق.
5 زغب الفرخ وازلغب: طلع ريشه.

(1/204)


وذلك كقوله 1: حتى الناصبة للفعل وقد تكرر من قوله أنها حرف من حروف الجر وهذا ناف لكونها ناصبة له, من حيث كانت عوامل الأسماء لا تباشر الأفعال فضلًا عن أن تعمل فيها. وقد استقر من قوله في غير مكان ذكر عدة الحروف الناصبة للفعل وليست فيها حتى. فعلم بذلك وبنصه2 عليه في غير هذا الموضع أن "أن " مضمرة عنده بعد حتى كما تضمر مع اللام الجارة في نحو قوله سبحانه {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} ونحو ذلك. فالمذهب إذًا هو هذا.
ووجه القول في الجمع بين القولين بالتأويل أن الفعل لما انتصب بعد حتى ولم تظهر هناك "أن " وصارت3 حتى عوضًا منها ونائبة عنها نسب4 النصب إلى "حتى " وإن كان في الحقيقة لـ "أن ".
ومثله معنى لا إعرابًا قول الله سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . فظاهر هذا تناف بين الحالتين؛ لأنه أثبت في أحد القولين ما نفاه قبله 5: وهو قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} . ووجه الجمع بينهما أنه لما كان الله أقدره على الرمي ومكنه منه وسدده له وأمره به فأطاعه في فعله نسب الرمي إلى الله وإن كان مكتسبًا للنبي صلى الله عليه وسلم مشاهدًا منه 6.
ومثله معنى قولهم: أذن ولم يؤذن, وصلى ولم يصل؛ ليس أن الثاني ناف للأول لكنه لما لم يعتقد الأول مجزئًا لم يثبته صلاة ولا أذانًا.
__________
1 يريد سيبويه. يقول في ص413 ج1: "اعلم أن حتى تنصب على وجهين".
2 انظر ص407 ج1 من الكتاب.
3 كذا بواو العطف في ج. وسقطت في سائر الأصول.
4 كذا في ش، ب. وفي أ. "نسبت".
5 كذا في ش، ب، وفي أ: "قبيلة".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "منه وله".

(1/205)


وكلام العرب لمن عرفه وتدرب بطريقها فيه جار مجرى السحر لطفًا, وإن جسا1 عنه أكثر من ترى وجفا.
ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين, غير أنه قد نص في أحدهما على الرجوع عن القول الآخر فيعلم بذلك أن رأيه مستقر على ما أثبته ولم ينفه وأن القول الآخر مطرح من رأيه.
فإن تعارض القولان مرسلين غير مبان أحدهما من صاحبه بقاطع يحكم عليه به بحث عن تاريخهما, فعلم أن الثاني هو ما اعتزمه, وأن قوله به انصراف منه عن القول الأول إذ2 لم يوجد في أحدهما ما يماز به عن صاحبه.
فإن استبهم الأمر فلم يعرف التاريخ وجب سبر المذهبين, وإنعام الفحص عن حال القولين , فإن كان أحدهما أقوى من صاحبه وجب إحسان الظن بذلك العالم وأن ينسب إليه أن3 الأقوى منهما هو قوله الثاني الذي به يقول وله يعتقد وأن الأضعف منهما هو الأول منهما الذي تركه إلى الثاني. فإن تساوى القولان في القوة وجب أن يعتقد فيهما أنهما رأيان له؛ فإن الدواعي إلى تساويهما فيهما عند الباحث عنهما هي الدواعي التي دعت القائل بهما إلى أن أعتقد كلا منهما.
هذا بمقتضى العرف وعلى إحسان الظن فأما القطع البات فعند الله علمه. وعليه طريق الشافعي في قوله بالقولين فصاعدًا. وقد كان أبو الحسن ركابًا4 لهذا الثبج5 آخذًا به, غير محتشم منه, وأكثر كلامه في عامة كتبه عليه. "وكنت6 إذا
__________
1 جسا ضد لطف.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "إذا".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "بأن".
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "راكبا".
5 ثبج البحر: وسطه ومعظمه.
6 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "وكنت إذا ألزمت أبا الحسن شيئا في بعض أقواله يقول أبو علي: مذاهب أبي الحسن كثيرة" وأبو الحسن هو الأخفش سعيد بن مسعدة.

(1/206)


ألزمت عند أبي علي -رحمه الله- قولا لأبي الحسن شيئًا لا بد للنظر من إلزامه إياه يقول لي: مذاهب أبي الحسن كثيرة ".
ومن الشائع في الرجوع عنه من المذاهب ما كان أبو العباس تتبع1 به كلام سيبويه وسماه مسائل الغلط. فحدثني أبو علي عن أبي بكر2 أن أبا العباس كان يعتذر منه ويقول 3: هذا شيء كنا رأيناه في أيام الحداثة, فأما الآن فلا. وحدثنا أبو علي قال: كان أبو يوسف4 إذا أفتى بشيء5 أو أمل6 شيئًا فقيل له: قد قلت في موضع كذا غير هذا يقول: هذا يعرفه من يعرفه أي إذا أنعم النظر في القولين وجدا مذهبًا واحدًا.
وكان أبو علي -رحمه الله- يقول في هيهات: أنا أفتي مرة بكونها اسمًا سمي به الفعل كصه ومه وأفتي مرة أخرى بكونها ظرفًا7، على قدر ما يحضرني في الحال. وقال مرة أخرى: إنها وإن كانت ظرفًا فغير ممتنع أن تكون8 مع ذلك اسمًا سمي به الفعل كعندك ودونك. وكان إذا سمع شيئًا من كلام أبي الحسن يخالف قوله يقول: عكر9 الشيخ. وهذا ونحوه من خلاج الخاطر وتعادي المناظر هو الذي دعا أقوامًا إلى أن قالوا بتكافؤ الأدلة10، واحتملوا أثقال الصغار والذلة.
__________
1 كذا في أ، وفي ش، ب: "يتبع".
2 هو ابن السراج، وأبو العباس هو المبرد.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "يقول فيه".
4 يريد صاحب أبي حنيفة يعقوب بن إبراهيم. مات سنة 183 في خلافة هارون الرشيد.
5 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "شيئا".
6 كذا في أوهذا ونحوه، ب. وفي ش: "أملى" وهما لغتان.
7 فإذا قلت: هيهات ما تقول فالمعنى: في البعد ما تقول، كما تقول: الحق أنك عالم أي في الحق وهذا الرأي سبق به المبرد في المقتضب في باب الاسم الذي تلحقه صوتا أعجميًا، يقول فيه: "فأما هيهات فتأويلها: في البعد، وهي ظرف غير متمكن، لإبهامها، ولأنها بمنزلة الأصوات".
8 كذا في ج وفي عبارة اللسان "هيه". وفي سائر الأصول: "يكون".
9 أي أخرج كلامه عن الوضوح والصفا، من قولهم: عكر الشراب: جعل فيه ما يكدره ويجعله عكرا.
10 تكافؤ الأدلة: تساويها. فلا ينصر مذهب على مذهب، ودلائل كل مقالة عند القائلين به مكافئة لدلائل سائر المقالات، وانظر الملل والنحل لابن حزم 4/ 119.

(1/207)


وحدثني أبو علي؛ قال: قلت لأبي عبد الله البصري: أنا أعجب من هذا الخاطر في حضوره تارة ومغيبه أخرى. وهذا يدل على أنه من عند الله. فقال: نعم هو من عند الله إلا أنه لا بد من تقديم النظر ألا ترى أن حامدًا البقال لا يخطر له.
ومن طريف1 حديث هذا الخاطر أنني كنت منذ زمان طويل رأيت رأيًا جمعت فيه بين معنى آية ومعنى قول الشاعر 2:
وكنت أمشي على رجلين معتدلا ... فصرت أمشي على أخرى من الشجر
ولم أثبت حينئذ شرح حال الجمع بينهما ثقة بحضوره متى استحضرته ثم إني الآن -وقد مضى له سنون- أعان3 الخاطر وأستثمده4، وأفانيه5 وأتودده على أن يسمح لي بما كان أرانيه من الجمع بين معنى الآية والبيت وهو معتاص متأب وضنين به غير معط.
وكنت وأنا أنسخ التذكرة لأبي علي إذا مر بي شيء قد كنت رأيت طرفًا منه أو ألممت به فيما قبل أقول له: قد كنت شارفت هذا الموضع وتلوح لي بعضه ولم أنته إلى آخره وأراك أنت قد جئت به واستوفيته وتمكنت فيه فيبتسم -رحمه الله- له ويتطلق6 إليه؛ سرورًا باستماعه، ومعرفة بقدر نعمة الله عنده فيه، وفي أمثاله.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "ظريف".
2 نسبه البغدادي في شرح شواهد الشافية 360 إلى أبي حية، ونسبه في الأمالي 2/ 163 في أربعة أبيات إلى عبد من عبيد بجيلة أسود، وانظر السمط 785. ويريد بـ"أخرى من الشجر" العصا يعتمد عليها حين أدركه الهرم.
3 أي أعارض.
4 أي أتخذه ثمدا -وهو الماء القليل- أرده وأرتوي منه.
5 أي أصانعه وأداريه.
6 كذا في أ، وفي غيرها: "ينطلق".

(1/208)


وقلت مرة لأبي1 بكر أحمد بن علي الرازي -رحمه الله- وقد أفضنا في ذكر أبي علي ونبل قدره ونباوة2 محله: أحسب أن أبا علي قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث3 ما وقع لجميع أصحابنا, فأصغى أبو بكر إليه ولم يتبشع هذا القول عليه.
وإنما تبسطت في هذا الحديث ليكون باعثًا على إرهاف الفكر واستحضار الخاطر والتطاول إلى ما أوفى نهده, وأوعر سمته وبالله سبحانه الثقة.
باب في الدور4 والوقوف منه على أول رتبة
هذا موضع كان أبو حنيفة -رحمه الله- يراه ويأخذ به. وذلك أن تؤدي الصنعة إلى حكم ما مثله مما يقتضي التغيير؛ فإن أنت غيرت صرت5 أيضًا إلى مراجعة مثل ما منه هربت. فإذا حصلت على هذا وجب أن تقيم على أول رتبة،
__________
1 في هامش ب: "أبو بكر الرازي هو المشهور من أصحابنا بالجصاص" والجصاص هو شيخ الحنفية ببغداد، التصانيف الكثيرة، منها شرح مختصر الكرخي، وكتاب في أصول الفقه. وقد طبع له في القسطنطينية سنة 1335هـ كتاب أحكام القرآن في ثلاثة مجلدات. وكانت وفاته سنة 370هـ. وانظر الشذرات 3/ 71، والنجوم الزاهرة 4/ 138، والفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي.
2 النباوة: الارتفاع والشرف.
3 تنازعه خطر وانتزع، وقد أعمل الثاني.
4 المقصود بهذا المبحث "الدور في الفقه" وهو أن يعتق السيد أمته في مرض الموت ويعقد النكاح عليها فإنها لا ترث للزوم الدور وذلك أنها لو ورثت لكان عتقها تبرعا على وارث في مرض الموت، وهو يتوقف على إجازة الورثة وهي منهم. وإنما تصح إجازتها إذا عتقت. فتوقف عتقها على إجازتها، وتوقف إجازتها على عتقها، والخلوص من الدور بعتقها دون إرثها، وانظر كتابة الباجوري على الرحبية في الفرائض: 62. وهو غير المبحث السابق فيه "دور الاعتلال ص184"؛ فإن ذاك في الدور يقع في العلة لحكم في العربية يقول بها النحوي، فيعود على العلة بالفساد، وهنا يراد أن القياس على النظائر في بعض الأمور يقتضي بحكم، فتكف العرب عنه؛ لأنه يفضي إلى الدور ومن أمثلة الدور أنك لو نسبت إلى العصا تقلب الألف واوا فتقول: عصوي، فإذا قلت هذا فإن الواو تدخل في باب الواو المتحركة المفتوح ما قبلها، وهذا يقضي بقلبها ألفا، ولكن تجنب هذا فرارا من الدور؛ فإنك لو قلبت الواو ألفا لعدت فقلبت الألف واوا؛ لوقوعها قبل ياءي الإضافة، فترجع إلى الواو. وانظر شرح الرضي للشافية 3/ 109.
5 في و"عرت" وهو محرف من "عدت".

(1/209)


ولا تتكلف عناء ولا مشقة. وأنشدنا أبو علي -رحمه الله- غير دفعة1 بيتًا مبني معناه على هذا وهو:
رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولا2
وذلك كأن تبني من قويت مثل رسالة فتقول على التذكير3: قواءة وعلى التأنيث: قواوة, ثم تكسرها على حد قول الشاعر 4:
موالي حلف لا موالي قرابة ... ولكن قطينا يحلبون الأتاويا5
جمع إتاوة؛ فيلزمك أن تقول حينئذ: قواوٍ فتجمع بين واوين مكتنفتي ألف التكسير, ولا حاجز بين الأخيرة منهما وبين الطرف.
ووجه ذلك أن الذي قال "الأتاويا " إنما أراد جمع إتاوة, وكان قياسه أن يقول: أتاوى؛ كقوله في علاوة وهراوة: علاوى وهراوى غير أن هذا الشاعر سلك طريقًا أخرى غير هذه. وذلك أنه لما كسر إتاوة حدث في مثال التكسير همزة بعد ألفه بدلا من ألف فعالة كهمزة رسائل وكنائن فصار التقدير به إلى أتاء، ثم تبدل6 من كسرة الهمزة فتحة؛ لأنها عارضة في الجمع, واللام معتلة
__________
1 كذا في أ. وفي غيرها: "مرة".
2 البيت في عيون الأخبار 3/ 54 منسوب إلى محمود الوراق، وفيه: رأى الهم.
3 كأنه يريد: على اعتبار التاء عارضة على قواو في حكم المنفصلة فتكون الواو في حكم الطرف، فتستحق الإعلال: وأما على التأنيث فإن الكلمة تكون كشقاوة، فلا تكون الواو في الطرف فتصح؛ إذ كانت الكلمة بنيت على التاء.
4 هو النابغة الجعدي: انظر اللسان في "أتو".
5 قبله:
فلا تنتهي أضغان قومي بينهم ... وسوأتهم حتى يصيروا مواليا
وقوله: "يحلبون الأتاويا" أي يعطونها، وذلك أئهم خدم فهم يأخذون الخراج والأجر على خدمتهم. ورواية اللسان في "أتو": "يسألون الأتاويا". وانظر اللسان في "حلب" ويبدو أن من هذه القصيدة ما أورده له ابن قتيبة في الشعر والشعراء: 252 تحقيق الأستاذ أحمد شاكر؛ يذكر قومه:
ولو أن قومي لم تخف صدورهم ... وأحلامهم أصبحت للفنق آسيا
ولكن قومي أصبحوا هثل خيبر ... بها داؤها ولا تضر الأعاديا
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "يبدل".

(1/210)


كباب مطايا, وعطايا, فتصير حينئذ إلى أتاءيَ ثم تبدل من الياء ألفًا فتصير إلى أتاءا ثم تبدل من الهمزة واوًا؛ لظهورها لامًا في الواحد؛ فتقول: أتاوى كعلاوى. وكذا تقول العرب في تكسير إتاوة: أتاوى. غير أن هذا الشاعر لو فعل ذلك لأفسد قافيته فاحتاج إلى قرار الكسرة بحالها لتصح بعدها الياء التي هي روي القافية كما معها من القوافي التي هي "الروابيا " و "الأدانيا" ونحو ذلك فلم يستجز أن يقر الهمزة العارضة في الجمع بحالها إذ كانت العادة في هذه الهمزة أن تعل وتغير إذا كانت اللام معتلة فرأى إبدال همزة أتاء واوًا ليزول لفظ الهمزة التي من عادتها في هذا الموضع أن تعل ولا تصح لما ذكرنا فصار "الأتاويا ".
وكذلك قياس فعالة من القوة إذا كسرت أن تصير بها الصنعة إلى قواء ثم تبدل من الهمزة الواو كما فعل من قال "الأتلويا " فيصير اللفظ إلى قواو. فإن أنت استوحشت من اكتناف الواوين لألف التكسير على هذا الحد وقلت: أهمز كما همزت1 في أوائل لزمك أن تقول: قواء؛ ثم يلزمك ثانيًا أن تبدل من هذه الهمزة الواو على ما مضى من حديث " الأتاويا " فتعاود أيضًا قواو ثم لا تزال بك قوانين الصنعة إلى أن تبدل من الهمزة الواو ثم من الواو الهمزة ثم كذلك ثم كذلك إلى ما لا غاية2. فإن أدت الصنعة إلى هذا ونحوه وجبت الإقامة3 على أول رتبة منه وألا تتجاوز إلى أمر ترد4 بعد إليها, ولا توجد5 سبيلا ولا منصرفًا عنها.
__________
1 كذا في أ. وفي ش, ب: "أهمز".
2 كذا في الأصول. والخبر محذوف أي لا غاية له.
3 أي لا تعدل عنها إلى غيرها، لئلا يلزم الدور، أو قصر للمسافة وإراحة من التعب والعنت والعبث، انظر شرحي الاقتراح.
4 كذا في أ. وفي غيرها: "يرد".
5 هو من أوجدتك المال: أمكنتك منه وأظفرتك به. وما أثبته "توجد" في أوفي ش، ب: "يوجد".

(1/211)


فإن قلت: إن بين المسألتين فرقًا. وذلك أن الذي قال "الأتاويا " إنما دخل تحت هذه الكلفة والتزم ما فيها من المشقة وهي ضرورة واحدة وأنت إذا قلت في تكسير مثال فعالة من القوة: قواو قد التزمت ضرورتين: إحداهما إبدالك1 الهمزة الحادثة في هذا المثال واوًا على ضرورة " الأتاويا" والأخرى كنفك الألف بالواوين مجاورًا آخرهما الطرف فتانك ضرورتان, وإنما هي في "الأتاويا " واحدة. وهذا فرق, يقود إلى اعتذار وترك.
قيل: هذا ساقط وذلك أن نفس السؤال قد كان ضمن ما يلغي هذا الاعتراض؛ ألا ترى أنه كان: كيف2 يكسر مثال فعالة من القوة على قول من قال "الأتاويا "؟ والذي قال ذلك كان قد أبدل من الهمزة العارضة في الجمع واوًا فكذلك فأبدلها أنت أيضًا في مسألتك. فأما كون ما قبل الألف واوًا أو غير ذلك من الحروف فلم يتضمن السؤال ذكرًا له ولا عيجًا3, فلا يغني إذًا ذكره ولا الاعتراض على ما مضى بحديثه أفلا ترى أن هذا الشاعر لو كان يسمح نفسًا بأن يقر هذه الهمزة العارضة في أتاء مكسورة بحالها كما أقرها الآخر في قوله 5:
له ما رأت عين البصير وفوقه ... سماء الإله فوق سبع سمائيا6
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "إبدال".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "كيف كان". وما أثبت أقرب، يريد أن السؤال الذي وقع هو: كيف يكسر إلخ، أي صيغة السؤال هكذا.
3 أي اكتراثا، يقال: ما عاج بالشيء، أي ما عبأ به وما بالى.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "أولا ترى".
5 أي أمية بن أبي الصلت كما في اللسان في "سمو"، والخزانة 1/ 119.
6 من قصيدة في توحيد الله وذكر بعض قصص الأنبياء، وقبله:
وإن يك شيء خالدا ومعمرا ... تأمل تجد من فوقه الله باقيا
وقوله "له" أي لله، يريد أن لله ما تقع الأعين عليه، وقوله "وفوقه" فالضمير يرجع إلى ما رأت عين البصير، وقوله: "فوق سبع سمائيا، حال من الضمير في الخبر "فوقه". وانظر المرجع السابق.

(1/212)


وكان أبو علي ينشدنا1:
. .. فوق ست سمائيا
لقال " الأتائيا" كقوله "سمائيا ". فقد علمت بذلك شدة نفوره عن إقرار الهمزة العارضة في هذا الجمع مكسورة.
وإنما اشتد ذلك عليه ونبا عنه لأمر ليس موجودًا في واحد "سمائيا " الذي هو2 سماء. وذلك أن في إتاوة واوًا ظاهرة, فكما أبدل غيره منها الواو مفتوحة في قوله " الأتاوى" كالعلاوى والهراوى؛ تنبيهًا على كون الواو ظاهرة في واحدة -أعني إتاوة- كوجودها في هراوة وعلاوة كذلك أبدل منها الواو في أتاو وإن كانت مكسورة شحًا على الدلالة على حال الواحد وليس كذلك قوله:
... فوق سبع سمائيا
ألا ترى أن لام واحده ليست واوًا في اللفظ فتراعى في تكسيره؛ كما روعيت في تكسير هراوة وعلاوة. فهذا فرق -كما تراه- واضح. نعم، وقد يلتزم الشاعر لإصلاح البيت ما تتجمع فيه أشياء مستكرهة لا شيئان اثنان: وذلك أكثر من أن يحاط به. فإذا كان كذلك لزم ما رمناه وصح به ما قدمناه.
فهذا طريق ما يجيء عليه؛ فقس ما يرد عليك به.
__________
1 وذلك أن السماء السابعة هي "سماء الإله" ويريد بها العرش. وانظر الكتاب 2/ 59 والمرجع السابق.
2 كذا في ش، ب وسقط "هو" في أ.

(1/213)


باب في الحمل عل أحسن الأقبحين
...
باب في الحمل 1 على أحسن الأقبحين:
اعلم أن هذا موضع من مواضع الضرورة المميلة 2. وذلك أن تحضرك الحال ضرورتين لا بد من ارتكاب إحداهما فينبغي حينئذ أن تتحمل الأمر على أقربهما وأقلهما فحشًا.
وذلك كواو "ورنتل "3 أنت فيها بين ضرورتين: إحداهما أن تدعي كونها أصلا في ذوات الأربعة غير مكررة والواو لا توجد في ذوات الأربعة إلا مع
__________
1 هذه الترجمة في أشباه السيوطي 1/ 199.
2 يقال ميل بين الأمرين: رجع بينهما. فقوله: المميلة -على صيغة المفعول- يريد المميل فيها والمرجح.
3 هو الشر والأمر العظيم.

(1/213)


التكرير؛ نحو الوصوصة, والوحوحة, وضوضيت, وقوقيت. والآخر أن تجعلها زائدة أولا والواو لا تزاد أولا. فإذا كان كذلك كان أن تجعلها أصلا أولى من أن تجعلها زائدة وذلك أن الواو قد تكون أصلا في ذوات الأربعة على وجه من الوجوه أعني في حال التضعيف. فأما أن تزاد أولا فإن هذا أمر لم يوجد على حال. فإذا كان كذلك رفضته ولم تحمل الكلمة عليه.
ومثل ذلك قولك: فيها قائمًا1 رجل. لما كنت بين أن ترفع قائمًا فتقدم الصفة على الموصوف -وهذا لا يكون- وبين أن تنصب الحال من النكرة -وهذا على قلته جائز- حملت المسئلة على الحال فنصبت.
وكذلك ما قام إلا زيدًا أحد, عدلت إلى النصب؛ لأنك إن رفعت لم تجد قبله ما تبدله منه, وإن نصبت دخلت تحت تقديم المستثنى على ما استثني منه. وهذا وإن كان ليس في قوة تأخيره عنه فقد جاء على كل حال. فاعرف ذلك أصلا في العربية تحمل عليه غيره.
باب2 في حمل الشيء على الشيء من غير الوجه الذي أعطى الأول ذلك الحكم:
علم أن هذا باب طريقه الشبه اللفظي؛ وذلك كقولنا في الإضافة3 إلى ما فيه التأنيث بالواو وذلك نحو حمراوي وصفراوي وعشراوي. وإنما قلبت الهمزة فيه ولم تقر بحالها لئلا تقع علامة التأنيث حشوًا. فمضى هذا على هذا لا يختلف.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "قائم".
2 كتب بازاه هذه الترجمة في هامش ب: "يعطون كلمة حكم كلمة وإن لم يوجد فيها سبب الحكم؛ المشابهة بينهما". والحمل الفرع على الأصل لضرب من الشبه غير العلة التي علق عليها الحكم في الأصل. ومقابل هذا الحمل قياس العلة، وذلك أن يشترك الأصل والفرع في علة الحكم. وانظر في الاقتراح المسلك السادس من مسالك العلة، وانظر في أشياء السيوطي 1/ 201 هذه الترجمة.
3 يريد النسب.

(1/214)


ثم إنهم قالوا في الإضافة إلى عِلباء: علباوي, وإلى حِرباء: حرباوي؛ فأبدلوا هذه الهمزة وإن لم تكن للتأنيث, لكنها لما شابهت همزة حمراء وبابها بالزيادة حملوا عليها همزة علباء. ونحن نعلم أن همزة حمراء لم تقلب في حمراوي لكونها زائدة فتشبه بها همزة علباء من حيث كانت زائدة مثلها لكن لما اتفقتا في الزيادة حملت همزة علباء على همزة حمراء. ثم إنهم تجاوزوا هذا إلى أن قالوا في كساء وقضاء: كساوي وقضاوي فأبدلوا الهمزة واوًا حملا لها على همزة علباء من حيث كانت همزة كساء وقضاء مبدلة من حرف ليس للتأنيث فهذه علة غير الأولى ألا تراك لم تبدل همزة علباء واوًا في علباوي لأنها ليست للتأنيث فتحمل عليها همزة كساء وقضاء من حيث كانتا لغير التأنيث.
ثم إنهم قالوا من بعد في قراء: قراوي فشبهوا همزة قراء بهمزة كساء من حيث كانتا أصلا غير زائدة كما أن همزة كساء غير زائدة. وأنت لم تكن أبدلت همزة كساء في كساوي من حيث كانت غير زائدة لكن هذه أشباه لفظية يحمل أحدها على ما قبله تشبثًا به وتصورًا له. وإليه وإلى نحوه أومأ سيبويه بقوله: وليس شيء يضطرون1 إليه إلا وهم يحاولون به وجهًا.
وعلى ذلك قالوا: صحراوات فأبدلوا الهمزة واوًا لئلا يجمعوا بين علمي تأنيث ثم حملوا التثنية عليه من حيث كان هذا الجمع على طريق التثنية ثم قالوا: علباوان حملا بالزيادة على حمراوان ثم قالوا: كساوان تشبيهًا له بعلباوان ثم قالوا: قُرّاوان حملا له على كساوان على ما تقدم.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "مما يضطرون" بزيادة "مما". وفي الكتاب ص13 ج1 ما يوافق المثبت.

(1/215)


وسبب هذه الحمول والإضافات والإلحاقات كثرة هذه اللغة وسعتها وغلبة حاجة أهلها إلى التصرف فيها والتركح1 في أثنائها2 لما يلابسونه ويكثرون استعماله من الكلام المنثور والشعر الموزون والخطب والسجوع ولقوة إحساسهم في كل شيء شيئًا وتخيلهم ما لا يكاد يشعر به من لم يألف مذاهبهم.
وعلى هذا ما منع الصرف من الأسماء للشبه اللفظي نحو أحمر وأصفر وأصرم وأحمد وتألب وتنضب علمين3؛ لما في ذلك من شبه لفظ الفعل فحذفوا التنوين من الاسم لمشابهته ما لا حصة له في التنوين وهو الفعل. والشبه اللفظي كثير. وهذا كاف.
__________
1 أي التصرف فيها والتوسع. يقال: تركح في ساحة الدار، وتركح في المعيشة: تصرف.
2 أي نواحيها ووجوهها. وأثناء الثوب: تضاعيفه ومطاويه، واحدها ثني، يكسر الثاء وسكون النون.
3 هذا راجع لـ"سنألب" و"تنضب". ويراد به التحرز عن أن يكون تألب وتنضب في معناهما الأصل في اللغة، فالنألب: شجرة تتخذ منها القسي، والتنضب: شجر له شوك قصار.

(1/216)


باب في الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني:
اعلم أن هذا الباب من أشرف فصول العربية وأكرمها وأعلاها وأنزهها. وإذا تأملته عرفت منه وبه ما يؤنقك ويذهب1 في الاستحسان له كل مذهب بك. وذلك أن العرب كما تعنى بألفاظها فتصلحها وتهذبها وتراعيها2، وتلاحظ أحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى وبالأسجاع التي تلتزمها وتتكلف استمرارها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأفخم قدرًا في نفوسها.
فأول ذلك عنايتها بألفاظها. فإنها لما كانت عنوان معانيها وطريقًا إلى إظهار أغراضها ومراميها أصلحوها ورتبوها3، وبالغوا في تحبيرها وتحسينها؛ ليكون
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "تذهب".
2 كذا في أ. وفي ب: "تداعبها"، وفي ش: "تداعيها".
3 في د: "زينوها".

(1/216)


ذلك أوقع لها في السمع وأذهب بها في الدلالة على القصد ألا ترى أن المثل إذا كان مسجوعا لذ لسامعه فحفظه فإذا هو حفظه كان جديرًا باستعماله ولو لم يكن مسجوعًا لم تأنس النفس به1، ولا أنقت لمستمعه2، وإذا كان كذلك لم تحفظه وإذا لم تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له وجيء به من أجله. وقال لنا أبو علي يومًا: قال لنا أبو بكر 3: إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه. وكذلك الشعر: النفس له أحفظ وإليه أسرع ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعيًا جلفًا أو عبدًا عسيفًا تنبو صورته وتمج جملته4، فيقول ما يقوله من الشعر فلأجل قبوله وما يورده عليه من طلاوته5، وعذوبة مستمعه6 ما يصير قوله حكمًا يرجع إليه ويقتاس7 به ألا ترى إلى قول العبد الأسود 8:
إن كنت عبدًا فنفسي حرة كرمًا ... أو أسود اللون إني أبيض الخلق
وقول نصيب 9:
سودت فلم10 أملك سوادي وتحته ... قميص من القوهي بيض بنائقه11
__________
1 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "له".
2 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "يستمعه". وضبط في ب بفتح الميم في معنى المصدر أي لاستماعه. وفي أبكسر الميم.
3 هو ابن السراج.
4 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "خلقته".
5 الطلاوة -مثلثة الطاء: الحسن والبهجة.
6 في ش: "مسمعه".
7 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "يقاس".
8 هو سحيم عبد بني الحسحاس، وانظر الأغاني ص2 ج20 طبعة بولاق، والديوان.
9 هذا يوافق ما في الأمالي 2/ 88 وذيلها 127, والأغاني طبعة الدار 1/ 354. وقد نسب صاحب الأغاني 20/ 2 طبعة بولاق إلى سحيم، وليس في ديوانه، ونسبه صاحب اللسان في "فوه" إلى نصيب.
10 كذا في أ، ج. وفي ب، ش: "ولم".
11 القوهي: ضرب من الثياب البيض ينتسب إلى قوهستان، وهو إقليم في فارس. وقوهستان معناه في الأصل موضع الجبال. وانظر معجم ياقوت. والبنائق جمع بنيقة، وبنائق القميص: العرا التي تدخل فيها الأزرار، ويريد بالقميص الذي تحت سواده قلبه وخلقه.

(1/217)


وقول الآخر 1:
إني وإن كنت صغيرًا2 سني ... وكان في العين نبوٌ عني
فإن شيطاني أمير الجن ... يذهب بي في الشعر كل فن
حتى يزيل عني التظني
فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها وحموا حواشيها وهذبوها وصقلوا غروبها3 وأرهفوها فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه "بها"4 وتشريف منها. ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتزكيته5، وتقديسه وإنما المبغي6 بذلك منه7 الاحتياط للموعى عليه8 وجواره بما يعطر بشره9 ولا10 يعر جوهره كما قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما يهجنه11 ويغض منه كدرة12 لفظه وسوء العبارة عنه.
فإن قلت: فإنا نجد من ألفاظهم ما قد نمقوه وزخرفوه ووشوه ودبجوه ولسنا نجد مع ذلك تحته معنى شريفًا بل لا نجد قصدًا13 ولا مقاربًا؛ ألا ترى إلى قوله 14:
__________
1 هو مالك بن أمية كما في الوحشيات، ووردت الأشطار الثلاثة الأول في الحيوان 1/ 200 غير معزوة.
2 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "صغير السن". وفي الوحشيات: "حديث السن".
3 هو استعارة من غروب الأسنان؛ أي أطرافها، واحدها غرب بفتح الأول وسكون الثاني.
4 كذا في ش، ب. وسقط هذا في أ.
5 كذا في أ. وفي ب: "توكينه". وفي ش: "تكوينه".
6 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "المعنى".
7 كذا في ش، ب. وفي أ: "ومنه".
8 ثبتت هذه الصلة في أ، ب، ش. وسقطت في ج، وهذا أجود. والموعى -بضم الميم وفتح العين- أو الموعي ما وضع في الوعاء. يقال: أوعيت الشيء ووعيته. وكأنه ضمن الموعى معنى المحافظ فعداه بعلى.
9 كذا في أ. والبشر: ظاهر الجلد. وفي غيرها: "نشره" والنشر -بفتح النون وسكون الشين -الرائحة الطيبة.
10 كذا في أ. وفي ش، ب: "فلا". ويعر: "يعيب".
11 كذا في ش، ب. وفي أ: "تهجنه".
12 تنازعه في العمل يهجيه ويغض.
13 القصد: الوسط. والمقارب: غير الجيد.
14 جاء هذان البيتان في أسرار البلاغة مع ثالث بينهما ص16، وفي الوساطة 8، ونسبا فيها ليزيد بن الطثرية، والبيتان نسبا في معاهد التنصيص إلى كثير عزة، وانظر ص29 من هذا الجزء.

(1/218)


ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
فقد ترى إلى علو هذا اللفظ ومائه, وصقاله وتلامح1 أنحائه, ومعناه مع هذا ما تحسه وتراه: إنما هو: لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين, وتحدثنا على ظهور الإبل. ولهذا نظائر كثيرة شريفة الألفاظ رفيعتها مشروفة المعاني خفيضتها.
قيل: هذا الموضع قد سبق إلى التعلق به من لم ينعم النظر فيه, ولا رأى ما أراه2 القوم منه, وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر, وخفاء غرض الناطق. وذلك أن في قوله " كل حاجة" "ما"3 يفيد منه أهل النسيب والرقة، وذوو4 الأهواء والمقة ما لا يفيده غيرهم, ولا يشاركهم فيه من ليس منهم ألا ترى أن من حوائج "منى" أشياء كثيرة غير ما الظاهر عليه والمعتاد فيه سواها5؛ لأن منها التلاقي، ومنها التشاكي6، ومنها التخلي8، إلى غير ذلك مما هو تال له ومعقود الكون به. وكأنه صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه وعقد غرضه عليه بقوله في آخر البيت:
ومسح بالأركان من هو ماسح
__________
1 أي ظهورها ولمعانها.
2 كذا في أ. وفي ش، ب، "رآه".
3 ثبت هذا اللفظ في أ، وسقط في ش، ب. وفي ج: "أن قوله كل حاجة يفيد". وهي عبارة مستقيمة بخلاف ما في ب، ش.
4 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "ذر".
5 في الأصول: "سواء" ولا يستقيم عليه المعنى، وجملة "والمعتاد فيه سواها" عطف على "غير ما الظاهر عليه" فهو من وصف "أشياء". والضمير في "فيه" يعود إلى "الظاهر".
6 كذا في أ، ج، وفي ب، ش: "التشكي".
7 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "التحلي" وكأن التخلي طلب الحلوة بالحبيب.
8 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "لقوله".

(1/219)


أي إنما كانت حوائجنا التي قضيناها, وآرابنا التي أنضيناها1، من هذا النحو الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به وجار في القربة من الله مجراه أي لم يتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح. وأما البيت الثاني فإن فيه:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وفي هذا ما أذكره لتراه فتعجب ممن عجب منه ووضع من معناه. وذلك أنه لو قال: أخذنا في أحاديثنا ونحو ذلك لكان فيه معنى يكبره أهل النسيب وتعنو له ميعة2 الماضي الصليب. وذلك أنهم قد شاع عنهم واتسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الأليفين والفكاهة بجمع شمل المتواصلين؛ ألا ترى إلى قول الهذلي 3:
وإن حديثًا منك لو تعلمينه ... جنى النخل في ألبان عوذ مطافل4
وقال آخر:
وحديثها كالغيث يسمعه ... راعى سنين تتابعت جدبا
فأصاخ يرجو أن يكون حيًّا ... ويقول من فرح هيا ربا5
وقال الآخر 6:
وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... جنونًا فزدني من حديثك يا سعد
__________
1 أي فرغنا منها، من قولهم، أنضى الثوب: أبلاه. وقد نقل ابن الأثير في المثل السائر "المقالة الثانية" معظم كلام ابن جني على البيتين، ولما بلغ هذا الموضع قال: "وآرابنا التي بلغناها".
2 يريد قوته. وميعة الشباب: نشاطه وأوله. والماضي: نافذ الأمر، الصليب: الشديد ذو الصلابة.
3 هو أبو ذؤيب: وانظر ديوان الهذليين طبعة الدار 1/ 140.
4 رواية ديوان الهذليين واللسان في "طفل": "تبذلينه" بدل "تعلمينه"، والضمير في "تبذلينه" يعود إلى "حديثا" وفي "تعليمنه" للخبر والحكم.
5 انظر ص30 من هذا الجزء.
6 هو العباس بن الأحنف. وانظر الديوان المطبوع في استامبول ص58، ومعاهد التنصيص 1/ 57.

(1/220)


وقال المولد 1:
وحديثها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
الأبيات الثلاثة. فإذا كان قدر الحديث -مرسلا- عندهم هذا, على ما ترى فكيف به إذا قيده بقوله "بأطراف الأحاديث ". وذلك أن قوله2: "أطراف الأحاديث " وحيًا خفيًّا ورمزًا حلوًا ألا ترى أنه يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبون ويتفاوضه3 ذوو الصبابة المتيمون من التعريض والتلويح والإيماء دون التصريح وذلك أحلى وأدمث وأغزل وأنسب من أن يكون مشافهة وكشفًا, ومصارحة وجهرًا وإذا كان كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم وأشد تقدمًا في نفوسهم من لفظهما وإن عذب موقعه وأنق له مستمعه.
نعم، وفي قوله:
وسالت بأعناق المطي الأباطح
من الفصاحة ما لا خفاء به. والأمر في هذا أسير، وأعرف وأشهر.
فكأن العرب إنما تحلى ألفاظها وتدبجها وتشيها وتزخرفها عناية بالمعاني التي وراءها وتوصلا بها إلى إدراك مطالبها وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمًا وإن من البيان لسحرًا" 4. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقد هذا في ألفاظ هؤلاء القوم التي جعلت مصايد وأشراكًا للقلوب وسببًا وسلمًا إلى تحصيل المطلوب عرف بذلك أن الألفاظ خدم للمعاني والمخدوم -لا شك- أشرف من الخادم.
__________
1 هو ابن الرومي والبيت في ديوانه ص1164. وانظر ص30 من هذا الجزء.
2 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "ذكره".
3 كذا في ش، ج. وفي أ، ب: "يتقارضه".
4 رواه أحمد في مسنده، وأبو داود. قال شارح الجامع الصغير: وإسناده صحيح. انظر هذا الكتاب. وقوله "حكما" يضبط كقفل مصدرا، وكعنب جمع حكمة.

(1/221)


والأخبار في التلطف بعذوبة الألفاظ إلى قضاء الحوائج أكثر من أن يؤتى عليها أو يتجشم للحال "نعت لها"1، ألا ترى إلى قول بعضهم وقد سأل آخر حاجة فقال المسئول: إن علي يمينًا ألا أفعل هذا. فقال له السائل: إن كنت -أيدك الله- لم تحلف يمينًا قط على أمر فرأيت غيره خيرًا منه فكفرت عنها له وأمضيته فما أحب أن أحنثك وإن كان ذلك قد كان منك فلا تجعلني أدون الرجلين عندك. فقال له: سحرتني, وقضى حاجته.
وندع هذا ونحوه لوضوحه, ولنأخذ لما كنا عليه فتقول:
مما يدل على اهتمام العرب بمعانيها وتقدمها2 في أنفسها على3 ألفاظها أنهم قالوا في شمللت4, وصعررت5، وبيطرت، وحوقلت6، ودهورت7، وسلقيت8، وجعبيت 9: إنها ملحقة بباب دحرجت. وذلك أنهم وجدوها على سمتها10: عدد حروف وموافقة بالحركة والسكون, فكانت هذه صناعة لفظية, ليس فيها أكثر من إلحاقها ببنائها, واتساع العرب بها في محاوراتها, وطرق كلامها.
والدليل على أن فعللت وفعيلت وفوعلت وفعليت ملحقة بباب دحرجت مجيء مصادرها على مثل مصادر باب دحرجت. وذلك قولهم: الشمللة والبيطرة والحوقلة والدهورة والسلقاة والجعباة. فهذا "ونحوه"11 كالدحرجة والهملجة12،
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "تعب بها".
2 كذا في ش، ب. وسقط في أهذا الحرف.
3 سقط لفظ "على" في أ. فالعبارة فيها: "تقدمها أنفسها ألفاظها". وعليه يكون ألفاظها مقبول التقدم. وهو قد يتعدى بنفسه.
4 شملل: أسرع وشمر.
5 يقال: صعورالشيء: درجه.
6 حوقل: ضعف.
7 يقال: دهور الشيء: جمعه وقذف في مهول.
8 يقال: سلقاه إذا طعنه فألقاء على جنبه.
9 جعباه إذا سرعة.
10 السمت: الطريق والهيئة.
11 هذه الزيادة في أ. وسقطت في ش، ب.
12 الهملجة: حسن سير الدابة في سرعة.

(1/222)


والقوقاة والزوزاة. فلما جاءت مصادرها1 الرباعية والمصادر أصول للأفعال حكم بإلحاقها بها ولذلك استمرت في تصريفها استمرار ذوات الأربعة. فقولك: بيطر يبيطر بيطرة كدحرج يدحرج دحرجة ومبيطر كمدحرج. وكذلك شملل يشملل شمللة وهو مشملل. فظهور2 تضعيفه على هذا الوجه أوضح دليل على إرادة إلحاقه. ثم إنهم قالوا: قاتل يقاتل قتالًا ومقاتلة وأكرم يكرم إكرامًا وقطع يقطع تقطيعًا فجاءوا بأفعل وفاعل وفعل غير ملحقة بدحرج وإن كانت على سمته وبوزنه كما كانت فعلل وفيعل وفوعل وفعول وفعلى على سمته ووزنه ملحقة 3. والدليل على أن فاعل وأفعل وفعل غير ملحقة بدحرج وبابه امتناع مصادرها أن تأتي على مثال الفعللة ألا تراهم لا يقولون: ضارب ضاربة ولا أكرم أكرمة ولا قطع قطعة فلما امتنع فيها هذا -وهو العبرة في صحة الإلحاق- علم أنها ليست ملحقة بباب دحرج.
فإذا قيل: فقد تجيء مصادرها من غير هذا الوجه على مثال مصادر ذوات الأربعة ألا تراهم يقولون: قاتل قيتالا4، وأكرم إكرامًا {وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا} فهذا بوزن الدحراج, والسرهاف, والزلزال, والقلقال؛ قال 5:
سرهفته ما شئت من سرهاف
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "مصادرها".
2 كذا في ش، ب، وفي أ "وظهور".
3 في الأصول "غير ملحقة" وزيادة "غير" مفسدة وقد جريت على ما في المطبوعة، وهو الصواب.
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "قتالا". والأوفق بالسياق ما أثبتناه، ألا تراه يقول: "فهذا بوزن الدحراج" وإنما يظهر هذا في القتال،. والقيتال والقتال كلاهما يقال مصدر قاتل، وإن كان الأغلب الاستعمال الثاني، وهو مخفف من الأول وانظر شرح المفصل 6/ 48.
5 هو العجاج، وهو من أرجوزة يعاتب فيها ابنه رؤية. وبعده:
حتى إذا ما آض ذا أعراف ... كالكودن المشدود بالإكاف
قال الذي جمعت لي صوافي ... من غير ما عصف ولا اصطراف

(1/223)


قيل: الاعتبار بالإلحاق بها ليس إلا من جهة الفعللة, دون الفعلال, وبه كان يعتبر سيبويه. ويدل على صحة ذلك أن مثال الفعللة لا زيادة فيه فهو بفعلل أشبه من مثال الفعلال والاعتبار1 بأصول أشبه منه وأوكد منه بالفروع. فإن قلت: ففي الفعللة الهاء زائدة قيل: الهاء في غالب أمرها وأكثر أحوالها غير معتدة من حيث كانت في تقدير المنفصلة.
فإن قيل: فقد صح إذًا أن فاعل وأفعل وفعّل -وإن كانت بوزن دحرج- غير ملحقة به, فلم لم تلحق به؟ قيل: العلة في ذلك أن كل واحد من هذه المثل جاء بمعنى. فأفعل للنقل وجعل الفاعل مفعولا؛ نحو دخل وأدخلته, وخرج, وأخرجته. ويكون أيضًا للبلوغ نحو أحصد الزرع, وأركب المهر, وأقطف الزرع, ولغير ذلك من المعاني. وأما فاعل فلكونه من اثنين فصاعدًا نحو ضارب زيد عمرًا وشاتم جعفر بشرًا 2. وأما فعّل فللتكثير نحو غلّق الأبواب وقطّع الحبال وكسّر الجرار.
فلما كانت هذه الزوائد في هذه المثل إنما جيء بها للمعاني خشوا إن هم جعلوها ملحقة بذوات الأربعة أن يقدر أن غرضهم فيها إنما هو إلحاق اللفظ باللفظ؛ نحو شملل, وجهور, وبيطر, فتنكبوا إلحاقها بها؛ صونًا للمعنى وذبًّا عنه أن يستهلك ويسقط حكمه, فأخلوا بالإلحاق لما كان صناعة لفظية، ووقروا3 المعنى
__________
= "سرهفته": أحسنت غذاءه، يريد جهده في تربيته. و"أعراف" جمع عرف -بضم فسكون- وهو الشعر من العنق. و"الكودن" من الخيل ما لم ينتج من العراب، وقوله: "صوافي" جمع صاف أي خالص لي، "والعصف": الكسب، و"الاصطراف"، التصرف في كسب المال، يقول: أحسنت تربيته حتى إذا شب وترعرع وصار كالبرذون طمع في مالي وزعم أنه خالص له. وذلك مع أنه لم يتعب في كسب هذا المال وجمعه. وانظر الجزء الثاني من مجموع أشعار العرب طبعة أوروبا ص40.
1 كذا في أ. وفي ش، ب زيادة بعد "الاعتبار" هي: "والمراعاة".
2 كذا في أ. وفي، ب: "بكرا".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "وفروا".

(1/224)


ورجبوه؛ لشرفه عندهم وتقدمه في أنفسهم. فرأوا الإخلال باللفظ في جنب الإخلال بالمعنى يسيرًا سهلا وحجمًا محتقرًا. وهذا الشمس إنارة مع أدنى تأمل.
ومن ذلك أيضًا أنهم لا يلحقون الكلمة من أولها إلا أن يكون مع الحرف الأول غيره ألا ترى أن "مَفعلًا " لما كانت زيادته في أوله لم يكن ملحقًا بها1، نحو: مَضرب ومَقتل. وكذلك "مِفعل " نحو: مِقطع ومِنسج وإن كان مَفعل بوزن جعفر ومِفعل بوزن هِجرع 2. يدل على أنهما ليسا ملحقين بهما ما نشاهده من ادغامهما3 نحو مسد ومرد ومتل4 ومشل 5. ولو كانا ملحقين لكانا حري أن يخرجا على أصولهما كما خرج شملل وصعرر على أصله. فأما محبب فعلم خرج شاذًا كتهلل ومكوزة ونحو ذلك مما احتمل لعلميته.
وسبب امتناع مَفعل ومِفعل أن يكونا ملحقين -وإن كانا على وزن جعفر, وهجرع- أن الحرف الزائد في أولهما6، وهو لمعنى؛ وذلك أن مَفعلا يأتي للمصادر نحو ذهب مذهبًا ودخل مدخلا وخرج مخرجًا. ومِفعلا يأتي للآلات7، والمستعملات؛ نحو مِطرق ومِروح8 ومِخصف9 ومئزر. فلما كانت الميمان ذواتي معنى خشوا إن هم ألحقوا بهما أن يتوهم أن الغرض فيهما إنما هو الإلحاق حسب فيستهلك المعنى المقصود بهما فتحاموا الإلحاق بهما ليكون ذلك موفرًا على المعنى لهما.
ويدلك على تمكن المعنى في أنفسهم وتقدمه للفظ عندهم تقديمهم لحرف المعنى في أول الكلمة, وذلك لقوة العناية به فقدموا دليله ليكون ذلك أمارة لتمكنه عندهم.
__________
1 أي بهذه الزيادة، أي بسببها.
2 من معانيه الأحمق، والمجنون.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "إدغامها".
4 التل: الصرع، ويقال رمح متل؛ أي يتل به ويصرع. ورجل مثل: قوى.
5 الشل: الطرد، والمشل المطرد، وهو رمح قصير.
6 كذا في أ، وفي ش، ب سقطت الواو.
7 تثبتت الواو في أ، وسقطت في ش، ب.
8 هي المروحة يتروح بها.
9 هو المخرز.

(1/225)


وعلى ذلك تقدمت حروف المضارعة في أول الفعل إذ كن دلائل على الفاعلين: من هم وما هم وكم عدتهم نحو أفعل ونفعل وتفعل ويفعل وحكموا بضد " هذا لِلّفظ"1؛ ألا ترى إلى2 ما قاله أبو عثمان3 في الإلحاق: إن أقيَسه أن يكون بتكرير اللام فقال: باب شمللت وصعررت أقيس من باب حوقلت وبيطرت وجهورت.
أفلا ترى إلى حروف المعاني: كيف بابها التقدم وإلى حروف الإلحاق والصناعة: كيف بابها التأخر. فلو لم يعرف سبق المعنى عندهم وعلوه في تصورهم إلا بتقديم دليله وتأخر دليل نقيضه لكان مغنيًا من غيره كافيًا.
وعلى هذا حشوا بحروف المعاني فحصنوها بكونها حشوًا وأمنوا عليها ما لا يؤمن على الأطراف المعرضة للحذف والإجحاف. وذلك كألف التكسير وياء التصغير نحو دارهم ودريهم وقماطر وقميطر. فجرت في ذلك -لكونها حشوًا- مجرى عين الفعل المحصنة في غالب الأمر المرفوعة عن حال الطرفين من الحذف ألا ترى إلى كثرة باب عدة وزنة وناس4، والله في أظهر5 قولي سيبويه، وما حكاه أبو زيد من قولهم لاب6 لك وويلِمّهِ7،
__________
1 هذا عن أوإن كان فيها، "هذا اللفظ"، وهو خطأ في الرسم. وفي ش، ب: "هذه الصناعة اللفظية"، وهي غير مستقيمة، وكأن الأصل: "هذا للصناعة اللفظية". وفي ج: "ذلك لصناعة اللفظ"، وهي عبارة صحيحة.
2 ثبت لفظ "إلى" في ش، ب: وسقط في أ.
3 يريد المازني. وقد جاء في تصريفه في الباب الأول "باب الأسماء والأفعال: كم يكون عددهما في الأصل وما يزاد فيهما": "وهذا الإلحاق بالواو والياء والألف لا يقدم عليه إلا أن يسمع. فإذا سمع قيل: ألحق ذا بكذا بالواو والياء؛ وليس بمطرد. فأما المطرد الذى لا ينكسر فأن يكون موضع اللام من الثلاثة مكررا للإلحاق؛ مثل مهدد وقردد وعندد وسردد، والأفعال: جلبب، يجلبب، جلببة".
4 فأصل ناس أناس. وانظر سيبويه 1/ 9 203/ 125.
5 هذا القول في الكتاب 1/ 309 يقول فيه: "وكأن الاسم -والله أعلم- إله، فلما أدخل فيه الألف واللام حذفوا الألف وصارت الألف واللام خلقا منها".
6 أي في لا أب لك.
7 أصله: ويل أمه. يقال ذلك لمن يستجاد.

(1/226)


ويا با1 المغيرة وكثرة باب يد ودم وأخ وأب وغَد وهَن وحِر واست وباب ثُبة وقُلة وعِزَة وقلة باب2 مُذ وسَه: إنما هما هذان الحرفان بلا خلاف. وأما ثُبة3 ولِثة فعلى الخلاف. فهذا يدلك على ضنهم بحروف المعاني وشحهم عليها: حتى قدموها عناية بها أو وسطوها تحصينًا لها.
فإن قلت: فقد نجد حرف المعنى آخرًا كما نجده أولا ووسطًا. وذلك تاء التأنيث وألف التثنية وواو الجمع على حده والألف والتاء في المؤنث4، وألفا التأنيث في حمراء وبابها وسكرى وبابها وياء الإضافة كهني5، فما ذلك؟
قيل: ليس شيء مما تأخرت فيه علامة معناه إلا لعاذر مقنع. وذلك أن تاء التأنيث إنما جاءت في طلحة6 وبابها آخرًا من قبل أنهم أرادوا أن يعرفونا تأنيث ما هو وما مذكره فجاءوا بصورة المذكر كاملة مصححة ثم ألحقوها تاء التأنيث ليعلموا حال صورة التذكير وأنه قد استحال بما لحقه إلى التأنيث فجمعوا بين الأمرين ودلوا على الغرضين. ولو جاءوا بعلم التأنيث حشوًا لانكسر المثال ولم يعلم تأنيث أي شيء هو.
__________
1 ورد هكذا في وقوله:
يا بالمغيرة رب أمر معضل ... فزجته بالنكر مني والدها
يريد: يا أبا المغيرة، وانظر الخزانة 4/ 335.
2 يريد بباب: مذ، وسه ما حذف منه الحشو؛ فإن أصل مذ منذ، وسه سته.
3 الثبة يراد بها وسط الحوض، وقد قيل إنها من ثاب الماء إذا اجتمع، فالمحذوف منها العين. وقيل إن المحذوف منها اللام، وهي واو أو ياء على الخلاف. وانظر اللسان في "ثبو". واللثة ما حول الأسنان. ويقول بعض اللغويين: أصلها التي حذفت لامها الياء، ويقول ابن جني: إنها محذوفة العين -وهي الواو- من لثت العمامة أي أدرتها على رأسي، واللثة محيطة بالأسنان دائرة بها.
4 أي في جمع المؤنث.
5 أي في النسبة إلى الهن.
6 الطلحة هنا: الواحدة من شجر الطلح، ولا يراد به العلم.

(1/227)


فإن قلت: فإن ألف التكسير وياء التحقير قد تكسران مثال الواحد والمكبر وتخترمان صورتيهما لأنهما حشو لا آخر. وذلك قولك دفاتر ودفيتر وكذلك كليب وحجير ونحو ذلك قيل: أما التحقير فإنه أحفظ للصورة من التكسير ألا تراك تقول في تحقير حبلى: حبيلى وفي صحراء: صحيراء فتقر ألف التأنيث بحالها فإذا كسرت قلت: حبالى وصحارى وأصل حبالى حبال كدعاو وتكسير دعوى فتغير علم التأنيث. وإنما كان الأمر كذلك من حيث كان تحقير الاسم لا يخرجه عن رتبته الأولى -أعني الإفراد- فأقر "بعض لفظه"1 لذلك وأما التكسير فيبعده عن الواحد الذي هو الأصل فيحتمل التغيير لا سيما مع اختلاف معاني الجمع فوجب اختلاف اللفظ. وأما ألف2 التأنيث المقصورة والممدودة فمحمولتان على تاء التأنيث وكذلك علم التثنية والجمع على حده لاحق بالهاء أيضًا. وكذلك ياء النسب. وإذا كان الزائد غير ذي المعنى قد قوي سببه حتى لحق بالأصول عندهم فما ظنك بالزائد ذي المعنى وذلك قولهم في اشتقاق الفعل من قلنسوة تارة: تقلنس وأخرى: تقلسى فأقروا النون وإن كانت زائدة وأقروا أيضًا الواو حتى قلبوها ياء في تقلسيت. وكذلك قالوا: قَرنُوة3 فلما اشتقوا الفعل منها قالوا قرنيت السقاء فأثبتوا الواو كما أثبتوا بقية حروف الأصل: من القاف والراء والنون ثم قلبوها ياء في قرنيت. هذا مع أن الواو في قرنوة زائدة للتكثير والصيغة لا للإلحاق ولا للمعنى وكذلك الواو في قلنسوة للزيادة غير الإلحاق وغير المعنى. وقالوا في نحوه: تعفرت الرجل إذا
__________
1 كذا في أوفي ش، ب: "لفظ بعضه".
2 كذا في أ، ب، ش. وعليه فقوله: "الممدود" عطف على "ألف التأنيث المقصورة" حتى يصح تثنيته الخبر. وفي ج: "وألفا التأنيث محمولتان". وهي واضحة.
3 هي عشب بنبت في الرسل يدبغ به الأساقي.

(1/228)


صار عفريتًا فهذا تفعلت؛ وعليه جاء تمسكن وتمدرع1، وتمنطق وتمندل2، ومخرق3، وكان يسمى محمدًا ثم تمسلم أي صار يسمى مسلمًا و "مرحبك الله ومسهلك "4 فتحملوا ما فيه تبقية الزائد مع الأصل في حال الاشتقاق كل ذلك توفية5 للمعنى وحراسة له ودلالة عليه. ألا تراهم إذ قالوا: تدرع وتسكن وإن كانت أقوى اللغتين عند أصحابنا فقد عرضوا أنفسهم لئلا يعرف غرضهم: أمن الدرع والسكون أم من المدرعة والمسكنة وكذلك بقية الباب.
ففي هذا شيئان: أحدهما حرمة الزائد في الكلمة عندهم حتى أقروه إقرار الأصول. والآخر ما يوجبه ويقضى به: من ضعف تحقير الترخيم وتكسيره عندهم لما يقضى به ويفضي بك إليه: من حذف الزوائد على معرفتك بحرمتها عندهم.
فإن قلت: فإذا كان الزائد إذا وقع أولا للإلحاق فكيف ألحقوا بالهمزة في ألَندد6 وألَنجج7 والياء في يلَندد6 ويلَنجج7 والدليل على الإلحاق ظهور التضعيف؟ قيل: قد قلنا قبل: إنهم لا يلحقون الزائد من أول الكلمة إلا أن يكون معه زائد آخر فلذلك جاز الإلحاق بالهمزة والياء في ألندد ويلندد لما انضم إلى الهمزة والياء والنون.
__________
1 أي لبس المدرعة -كمكنسة- وهي ضرب من الثياب، ولا يكون من الصوف.
2 أي مسح بالمنديل.
3 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "تمخرق" ويقول ابن جني في سر الصناعة في آخر حرف الميم: "وقالوا: يخرق الرجل، وضعفها ابن كيسان". وفي المنصف للمصنف في الباب الثاني: "فأما قول العامة تمخرق فينبغي أن يكون لا أصل له. أو إن كان قد جاء عن العرب فهو بمنزلة تمسكن في الشذوذ: والجيد تخرق لأنهم يقولون: تخرق فلان بالمعروف، ولم نسمعهم يقولون مخرق، فإنما هو من الخرق وهو الكريم من الرجال إلا أن بعض أصحابنا حكى مخرق وليس بالقوي".
4 أي حبك الله بهذه التحية: مرحبا ومهلا.
5 كذا في أوفي اللسان في "درع"، وفي ش، ب: "وتوقية".
6 الألندد واليلندد: الشديد الخصومة الجدل.
7 الألنجج واليلنجج: عود من الطيب يتبخر به.

(1/229)


وكذلك ما جاء عنهم1 من إنقحل2 -في قول صاحب3 الكتاب- ينبغي أن تكون الهمزة في أوله للإلحاق -بما اقترن بها من النون- بباب جِردَحل. ومثله ما رويناه عنهم من قولهم: رجل إنزَهوٌ، وامرأة إنزَهوة، ورجال إنزهوون، ونساء إنزهوات إذا كان4 ذا زهو فهذا إذًا إنفعل. ولم يحك سيبويه من هذا الوزن إلا إنقحلا وحده وأنشد الأصمعي5 -رحمه الله:
لما رأتني خَلَقًا إنقَحلا
ويجوز عندي في إنزهوٍ غير هذا, وهو أن تكون همزته بدلا من عين, فيكون أصله عِنزَهو: فِنعلو من العزهاة وهو الذي لا يقرب النساء. والتقاؤهما أن فيه انقباضًا وإعراضًا وذلك طرف من أطراف الزهو؛ قال 6:
إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا ... فكن حجرًا من يابس الصخر جلمدا
وإذا حملته على هذا لحق بباب أوسع من إنقحل وهو باب7 قِندأو8، وسِندأو9، وحِنطأو10، وكِنتأو 11.
فإن قيل: ولم لما كان مع الحرف الزائد إذا وقع أولًا زائد ثان غيره صارا جميعًا للإلحاق وإذا انفرد الأول لم يكن له قيل: لما كنا عليه من غلبة المعاني للألفاظ على ما تقدم.
__________
1 كذا في أ. وسقط هذا اللفظ في ش، ب.
2 يقال رجل إنقحل إذا كان يابسا من الهرم.
3 انظر سيبويه 2/ 317.
4 هذا راجع للوصف الأول وهو إنزهو. وعبارة اللسان بعد سياقة ما سبق هنا: "وذلك إذا كانوا ذوي زهو". وفي ج: "إذا كن ذا زهو" والصواب: "ذوات" وهو راجع للأخير.
5 انظر كتاب خلق الإنسان في مجموعة الكنز اللغوي ص161.
6 هو الأحوص بن محمد الأنصاري. وانظر الأغاني 13/ 159. وانظر في ترجمته الخزانة 1/ 233.
7 وهو باب فعلو، والأول باب إنفعل. وانظر في هذا الباب الكتاب 2/ 351.
8 الفندأو: الجريء المقدم.
9 والسندأو: القصير أو الخفيف.
10 والحنطأو: العظيم البطن أو القصير.
11 والكستأو: الجمل الشديد.

(1/230)


وذلك أن أصل الزيادة في أول الكلمة إنما هو للفعل. وتلك حروف المضارعة في أفعلُ ونفعلُ وتفعلُ ويفعلُ وكل واحد من أدلة المضارعة إنما هو حرف واحد فلما انضم إليه حرف آخر فارق بذلك طريقه في باب الدلالة على المعنى فلم ينكر أن يصار به حينئذ إلى صنعة اللفظ وهي الإلحاق.
ويدلك على تمكن الزيادة إذا وقعت أولًا في الدلالة على المعنى تركهم صرف أحمد وأرمل، وأزمل1، وتنضب ونرجس معرفة لأن هذه الزوائد في أوائل الأسماء وقعت موقع ما هو أقعد منها في ذلك الموضع وهي حروف المضارعة. فضارع أحمد أركب وتنضب تقتل ونرجس نضرب فحمل زوائد الأسماء في هذا على أحكام زوائد الأفعال دلالة على أن الزيادة في أوئل الكلم إنما بابها الفعل 2.
فإن قلت: فقد نجدها3 للمعنى ومعها زائد آخر غيرها وذلك نحو ينطلق, وأنطلق وأحرنجم ويخرنطم ويقعنسس. قيل: المزيد للمضارعة هو حرفها وحده فأما النون فمصوغة في حشو الكلمة في الماضي نحو احرنجم ولم تجتمع مع حرف المضارعة في وقت واحد, كما التقت الهمزة والياء مع النون في ألنجج ويلندد في وقت واحد.
فإن قلت: فقد تقول: رجل ألد ثم تلحق النون فيما بعد فتقول: ألندد, فقد رأيت الهمزة والنون غير مصطحبتين. قيل: هاتان حالان متعاديتان؛ وذلك أن ألد ليس من صيغة ألندد في شيء، إنما ألد مذكر لفداء؛ كما أن أصم تذكير صماء. وأما ألندد فهمزته مرتجلة مع النون في حال واحدة, ولا يمكنك أن تدعي أن احرنجم لما صرت إلى مضارعه فككت يده عما كان فيها من الزوائد ثم ارتجلت
__________
1 هو في الأصل الصوت المختلط.
2 كذا في أ. وفي غيرها: "للفعل".
3 كذا في ب وفي أ: "تجدها" وفي ش: غير منقوطة الأول.

(1/231)


له زوائد غيرها؛ ألا ترى أن المضارع مبناه على أن ينتظم جميع حروف الماضي من أصل أو زائد كبيطر ويبيطر وحوقل ويحوقل وجهور ويجهور وسلقى ويسلقي وقطع ويقطع، و"تكسر ويتكسر"1 وضارب ويضارب.
فأما أكرم يكرم فلولا ما كره من التقاء الهمزتين في أؤكرم لو جيء به على أصله للزم أن يؤتى بزيادته فيه كما جيء بالزيادة في نحو يتدحرج وينطلق. وأما همزة انطلق فإنما حذفت في ينطلق للاستغناء عنها بل قد كانت في حال ثباتها في حكم الساقط أصلًا فهذا واضح.
ولأجل ما قلناه: من أن الحرف المفرد في أول الكلمة لا يكون للإلحاق ما حمل أصحابنا تهلل2 على أن ظهور تضعيفه إنما جاز لأنه عَلَم والأعلام تغير كثيرًا. ومثله عندهم3 محبب لما ذكرناه.
وسألت يومًا أبا علي -رحمه الله- عن تجفاف 4: أتاؤه للإلحاق بباب قرطاس؟ فقال: نعم واحتج في ذلك بما انضاف إليها من زيادة الألف معها. فعلى هذا يجوز أن يكون ما جاء عنهم من باب أُملود5 وأُظفور ملحقًا بباب عُسلوج6 ودُملوج7، وأن يكون إطريح8 وإسليح9 ملحقًا بباب شِنظيز10 وخنزير. ويبعد هذا عندي لأنه يلزم منه أن
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "كسر ويكسر". ويلاحظ أن الراو بين الفعلين في هذا وما بعده ساقطة في أ.
2 بالتاء والثاء قرية بالريف. وفي معجم البكري، والقاموس أن ثهلل -بالمثلثة- موضع قريب من سيف كاظمة، وكاظمة ماء في الطريق بين البصرة ومكة: وما أثبت أولا هو ما في معجم البلدان لياقوت.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "عنده". وما أثبت هو الصواب.
4 هو ما يوضع على الخيل من الحديد وغيره في الحرب؛ ليقيها الجراح.
5 يقال: غصن أملود: ناعم لين.
6 العسلوج: ما اخضر ولان من القضبان.
7 الدملوج من الحلي ما يلبسه العضد.
8 كأن الأصل: باب الريح: على نسق ما قبله، وبذلك يتوجه إفراد الخبر، وفي ج: "ملحقين"، ويقال سنام إطريح إذا طال ثم مال في أحد شقيه.
9 الإسليح شجرة ترهاها الإبل فيغزر لبنها.
10 الشنظيز: السيء الخلق، والسخيف العقل.

(1/232)


يكون باب إعصار وإسنام1 ملحقًا بباب حِدبار2 وهِلقام3 وباب إفعال لا يكون ملحقًا ألا ترى أنه في الأصل للمصدر نحو إكرام وإحسان وإجمال وإنعام وهذا مصدر فعل غير ملحق فيجب أن يكون المصدر في ذلك على سمت فعله غير مخالف له. وكأن هذا ونحوه إنما لا يجوز أن يكون ملحقًا من قبل أن ما زيد على الزيادة الأولى في أوله إنما هو حرف لين وحرف5 اللين لا يكون للإلحاق إنما جيء به لمعنى وهو امتداد الصوت به وهذا حديث غير حديث الإلحاق ألا ترى أنك إنما تقابل بالملحق الأصل وباب المد إنما هو الزيادة أبدًا فالأمران على ما ترى في البعد غايتان.
فإن قلت على هذا: فما6 تقول في باب إزمَول7، وإدرَون8، أملحق هو أم غير ملحق وفيه -كما ترى- مع الهمزة الزائدة؟ الواو زائدة قيل: لا بل هو ملحق بباب جردحل وحنزقر 9. وذلك أن الواو التي فيه ليست مدًا لأنها مفتوح ما قبلها فشابهت الأصول بذلك فألحقت بها.
فإن قلت: فقد قال10 في طومار: إنه ملحق بقسطاس والواو كما ترى بعد الضمة أفلا تراه كيف ألحق بها مضمومًا ما قبلها. قيل: الأمر كذلك؛ وذلك
__________
1 الإسنام: ضرب من الشجر.
2 الحدبار: الناقة الضامرة.
3 الهلقام: الضخم الطويل.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "الزائدة".
5 كذا في أ: "حرف" بالإفراد، ويتذكر الفعل والضمائر بعد، وهو الموافق لعبارة اللسان في "سلح". وفي ش، ب: "حروف" مع تأنيث ما بعدها من الفعل والضمائر.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "ما".
7 هو المصوت من الوعول.
8 الإدرون: معلف الدابة، والأصل.
9 هو القصير الدميم من الناس.
10 أي أبو علي؛ فإنه هو الذي سلف الحديث عنه, وإن كانت عبارة ابن سيده في اللسان "طمر" تقضي أن قائل هذا سيبويه، ولم أقف في كتابه على هذا الحكم. والطومار: الصحيفة.

(1/233)


أن موضع المد إنما هو قبيل الطرف مجاورًا له كألف عماد وياء سعيد وواو عمود. فأما واو طومار وياء ديماس1 فيمن قال دياميس فليستا للمد لأنهما لم تجاورا الطرف. وعلى ذلك قال في طومار: إنه ملحق لما تقدمت الواو فيه، فلم تجاور طرفه.
فلو بنيت على هذا من "سألت " مثل طومار وديماس لقلت: سوءال وسيئال. فإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الحرفين قبلها ولم تحتشم ذلك2، فقلت: سوال وسيال ولم تجرهما3 مجرى واو مقروءة وياء خطيئة في إبدالك الهمزة بعدهما إلى لفظهما وادغامك إياهما فيها في نحو مقروة وخطية. فلذلك لم يقل في تخفيف سوءال وسيئال: سُوّال ولا سِيّال. فاعرفه.
فإن قيل: ولم لم يتمكن حال المد إلا أن يجاور الطرف قيل: إنما جيء بالمد في هذه المواضع لنعمته4 وللين الصوت به. وذلك أن آخر الكلمة موضع الوقف, ومكان الاستراحة والأون5؛ فقدموا أمام الحرف الموقوف عليه ما يؤذن بسكونه, وما يخفض من غلواء6 الناطق واستمراره على سنن جريه7، وتتابع نطقه. ولذلك كثرت
__________
1 أي لا فيمن قال: دماميس في الجمع؛ لظهور أن الياء عند هؤلاء بدل من التضعيف، وانظر سيبويه 2/ 127. هذا، والديماس: الحمام.
2 الأصل: "من ذلك"، فإن الاحتشام يتعدى بمن، فحذف الحرف وأوصل الفعل. وانظر اللسان "حشم".
3 وذلك لأن واو مقروءة وياء خطيئة مدتان لا تقبلان الحركة، فلا سبيل إلى نفل حركة الهمزة إليهما؛ لأن ذلك ينقض الغرض منهما، فكان تخفيف الهمزة في مثل ذلك يغلب الهمزة حرفا من جنس المدة والادّغام. فأما واو سوءال وياء سيئال على الإلحاق فهما شبيهان بالحروف الأصلية يقبلان نقل الحركة إليهما فحذف الهمزة.
4 النعمة -بفتح النون- في الأصل الترفه، ويراد به هنا رقة الصوت.
5 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "السكون". والأون: الدعة والسكون.
6 كذا في ج: وفي غيرها: "علو" وكأنها محرفة عن "غلو" وهو كالغلواء. والغلواء: النشاط والسرعة.
7 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "غربه".

(1/234)


حروف المد قبل حرف الرويّ -كالتأسيس والردف- ليكون ذلك مؤذنًا بالوقوف ومؤديًا إلى الراحة والسكون. وكلما جاور حرف المد الروي كان آنس به وأشد إنعامًا لمستمعه. نعم وقد نجد1 حرف اللين في القافية عوضًا عن حرف متحرك أوزنة حرف متحرك حذف من آخر البيت في أتم أبيات ذلك البحر؛ كثالث الطويل وثاني البسيط والكامل. فلذلك كان موضع حرف اللين إنما هو لما جاور الطرف. فأما ألف فاعل وفاعال وفاعول ونحو ذلك فإنها وإن كانت راسخة في اللين وعريقة في المد فليس ذلك لاعتزامهم المد بها بل المد فيها -أين وقعت- شيء يرجع إليها في ذوقها وحسن النطق بها ألا تراها دخولها2 في " فاعل" لتجعل الفعل من اثنين فصاعدًا نحو ضارب وشاتم فهذا معنى غير معنى المد وحديث غير حديثه. وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي في شرح تصريف أبي عثمان وغيره من كتبي وما خرج من كلامي.
فإن قلت: فإذا كان الأمر كذا فهلا زيدت المدات في أواخر الكلم للمد, فإن ذلك أنأى لهن وأشد تماديًا بهن؟ قيل: يفسد ذاك من حيث كان مؤديًا إلى نقض الغرض وذلك أنهن لو تطرفن لتسلط الحذف عليهن فكان يكون ما أرادوه من زيادة الصوت بهن داعيًا إلى استهلاكه بحذفهن ألا ترى أن ما جاء في آخره الياء والواو قد حفظن3 عليه، وارتبطن له بما زيد عليهن من التاء من بعدهن وذلك كعفرية، وحدرية4، وعفارية وقراسية5، وعلانية، ورفاهية،
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "تجد".
2 بالنصب بدل من الضمير المنصوب في تراها.
3 حفظن أي الواو والياء وجمع باعتبار أفرادهما، وقوله: "عليه" أي على ما جاء في آخره الواو والياء.
4 الحذرية: الأرض الخشنة.
5 هو الضخم الشديد من الإبل.

(1/235)


وبُلهنية وسُحفنية1، وكذلك عرقوة، وترقوة وقلنسوة وقمحدوة 2. فأما رباع3 وثمان وشناح4 فإنما احتمل ذلك فيه للفرق بين المذكر والمؤنث في رباعية وثمانية وشناحية. وأيضًا فلو زادوا الواو طرفًا لوجب قلبها ياء ألا تراها لما حذفت التاء عنها في الجمع قلبوها ياء قال:
أهل الرباط البيض والقلنسي5
وقال المجنون:
وبيض القلنسي من رجال أطاول
وقال:
حتى تقُضّي6 عرقي الدُلي
وأيضًا فلو زيدت هذه الحروف طرفًا للمد بها لانتقض الغرض من موضع آخر. وذلك أن الوقف على حرف اللين ينقصه ويستهلك بعض مده ولذلك احتاجوا لهن إلى الهاء في الوقف ليبين بها حرف المد. وذلك قولك: وازيداه7، وواغلامهموه، وواغلام غلامهيه. وهذا شيء اعترض فقلنا فيه ولنعد.
__________
1 هو المحلوق الرأس.
2 هي الهنة الناشزة فوق القفا.
3 هو الذي يلقي الرباعية من الأسنان.
4 هو الجسيم الطويل من الإبل.
5 صدره:
لا مهل حتى تلحقي بعنس
وعنس قبيلة من اليمن. والراجز يخاطب ناقته. يقول: لا أرفق بك في السير حتى تلحقي بهؤلاء القوم. والرجز في سيبويه 2/ 60. ويقول صاحب تاج العروس في "فلس": إنه رأي هذا الرجز في هامش الجمهرة على هذا الوجه:
لا ري حتى تلحقي بعبس ... أولي الملاء البيض والقلنسي
6 كذا في ش، ب. وهو يوافق ما في اللسان في "عرق". وقد اعتمدت في الضبط عليه. والقض: الكسر، أي حتى تكسري. وفي أ: "نقضي". والشطر في سيبويه 2/ 56، وفيه: "تفضي" بالفاء، والفض: الكسر كالقض، ويقول الأعلم في شرحه: "أي لا تزالي ساقية للإبل حتى تكسري عراقي الدلاء".
7 ثبت في أ، ب. وسقط في غيرها، فقيها: "قولك: واغلامهموه".

(1/236)


فإن قيل زيادة على ما مضى: إذا كان موضع زيادة الفعل أوله؛ بما قدمته, وبدلالة اجتماع ثلاث زوائد فيه, نحو استفعل؛ وباب زيادة الاسم آخرًا بدلالة اجتماع ثلاث زوائد فيه؛ نحو عِنظيان1 وخِنذيان2، وخُنزوان3، وعُنفوان، فما بالهم جعلوا الميم -وهي من زوائد الأسماء- مخصوصًا بها أول المثال نحو مفعل ومفعول ومِفعال ومُفعِل وذلك الباب على طوله؟
قيل: لما جاءت لمعنى ضارعت بذلك حروف المضارعة فقدمت وجعل ذلك عوضًا من غلبة زيادة الفعل على أول الجزء كما جعل قلب الياء واوًا في التقوى والبقوى عوضًا من كثرة دخول الواو على الياء. وعلى الجملة فالاسم أحمل للزيادة في آخره من الفعل وذلك لقوة الاسم وخفته فاحتمل سحب الزيادة من آخره. والفعل -لضعفه وثقله- لا يتحامل بما يتحامل به الاسم من ذلك لقوته. ويدلك على ثقل الزيادة في آخر الكلمة أنك لا تجد في ذوات الخمسة ما زيد4 فيه5 من آخره إلا الألف لخفتها وذلك قبعثرى6 وضبغطرى7 وإنما ذلك لطول ذوات الخمسة فلا ينتهي8 إلى آخرها إلا وقد ملت لطولها. فلم يجمعوا على آخرها تماديه وتحميله الزيادة عليه. فإنما زيادتها في حشوها؛ نحو عضرفوط9، وقرطبوس10، ويستعور11، وصهصليق12، وجعفليق13، وعندليب، وحنبريت 14. وذلك أنهم لما أرادوا ألا يخلوا ذوات الخمسة
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "غنظيان"، وهما البذيء الفحاش.
2 هو الكثير الشر.
3 هو الكبر.
4 كذا في ج. وفي أ، ب، ش: "زيدت".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "عليه".
6 هو الجمل الضخم.
7 هو الأحمق.
8 كذا في أ. وفي ش، ب: "تنتهي".
9 هو دويبة بيضاء ناعمة تشبه بها أصابع الجواري.
10 القرطبوس -بفتح القاف- الداهية، وبكسرها الناقة العظيمة الشديدة.
11 هو شجر تصنع منه المساويك، وقيل هو موضع.
12 هي العجوز الصخابة.
13 هي العظيمة من النساء.
14 يقال ماء حنبريت: خالص.

(1/237)


من الزيادة كما لم يخلوا منها الأصلين اللذين قبلها حشوا بالزيادة تقديمًا لها كراهية أن ينتهي إلى آخر الكلمة على طولها ثم يتجشموا حينئذ زيادة هناك فيثقل أمرها ويتشنع1 عليهم تحملها.
فقد رأيت -بما أوردناه- غلبة المعنى للفظ وكون اللفظ خادمًا له مشيدًا2 به وأنه3 إنما جيء به له ومن أجله. وأما غير هذه الطريق: من الحمل على المعنى وترك اللفظ كتذكير المؤنث, وتأنيث المذكر, وإضمار الفاعل لدلالة المعنى عليه وإضمار المصدر لدلالة الفعل عليه وحذف الحروف والأجزاء التوام والجمل وغير ذلك حملا عليه وتصورًا له وغير ذلك مما يطول ذكره ويمل أيسره فأمر مستقر, ومذهب مستنكر.
باب في أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها، وحملناه عليها:
اعلم أن هذا موضع في تثبيته وتمكينه منفعة ظاهرة وللنفس به مسكة وعصمة؛ لأن فيه تصحيح ما ندعيه على العرب: من أنها أرادت كذا لكذا وفعلت كذا لكذا. وهو أحزم لها وأجمل بها وأدل على الحكمة المنسوبة إليها، من4 أن تكون تكلفت ما تكلفته: من استمرارها على وتيرة واحدة وتقريها منهجًا واحدًا، تراعيه
__________
1 كذا في ش: ب وفي أ: "يتبشع" ولم أقف على التبشع في دواوين اللغة، واستعمل المؤلف التبشع متعديا في ص201 من هذا السفر. و"يتشنع": يقبح، يقال: تشنع القوم: قبح أمرهم باختلافهم واضطرابهم.
2 يقال: أشاد بالشيء: رفع صوته به ونوه به. وضبط "مشيدا" في أبفتح الميم. والوجه ما أثبت.
3 كذا في ش، ب. وسقط في ألفظ: "أنه".
4 الذي يبدو أن "من" هذه ليست داخلة على المفضل عليه، فليست متعلقة بأدل، وإنما هي التعليل متعلقة بقوله: "المنسوبة".

(1/238)


وتلاحظه وتتحمل لذلك مشاقه وكلفه وتعتذر من تقصير إن جرى وقتًا منها في شيء منه.
وليس يجوز أن يكون ذلك كله في كل لغة لهم، و1عند كل قوم منهم حتى2 لا يختلف ولا ينتقض ولا يتهاجر على كثرتهم وسعة بلادهم وطول عهد زمان هذه اللغة لهم وتصرفها على ألسنتهم اتفاقًا3 وقع حتى لم يختلف فيه اثنان, ولا تنازعه فريقان إلا وهم له مريدون وبسياقه4 على أوضاعهم فيه معنيون؛ ألا ترى إلى اطراد رفع الفاعل ونصب المفعول والجر بحروف الجر والنصب بحروفه والجزم بحروفه وغير ذلك من حديث التثنية والجمع والإضافة والنسب والتحقير وما يطول شرحه فهل يحسن بذي لب أن يعتقد أن هذا كله اتفاق وقع, وتوارد اتجه.
فإن قلت "فما تنكر "5 أن يكون ذلك شيئًا طبعوا عليه وأجيئوا إليه من غير اعتقاد منهم لعلله6، ولا لقصد من القصود التي تنسبها إليهم في قوانينه وأغراضه بل لأن آخرًا منهم حذا على ما نهج الأول فقال به وقام الأول للثاني في كونه إمامًا له فيه مقام من هدى الأول إليه وبعثه عليه ملكًا كان أو خاطرًا؟
قيل: لن يخلو ذلك أن يكون خبرًا روسلوا به أو تيقظًا نبهوا على وجه الحكمة فيه. فإن كان وحيًا أو ما يجري مجراه فهو أنبه له وأذهب في شرف الحال
__________
1 بنت هذا الحرف في أ، ب. وسقط في س.
2 ثبت هذا الحرف في أ، وسقط في ش، ب.
3 هو خبر "يكون" في قوله: "وليس يجوز أن يكون ... ".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "لسياقه".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "ما تنكر".
6 كذا في أ، وفي ش، ب: "للعلة".

(1/239)


به؛ لأن الله سبحانه إنما هداهم لذلك ووقفهم عليه لأن في طباعهم قبولًا له وانطواء على صحة الوضع فيه لأنهم مع ما قدمناه من ذكر كونهم عليه في أول الكتاب من لطف الحس وصفائه ونصاعة جوهر الفكر ونقائه لم يؤتوا هذه اللغة الشريفة المنقادة الكريمة إلا ونفوسهم قابلة لها محسة لقوة الصنعة فيها معترفة بقدر1 النعمة عليهم بما وهب لهم منها ألا ترى إلى قول أبي مهدية 2:
يقولون لي شنبِذ ولست مشنبِذا ... طوال الليالي ما أقام ثبير3
ولا قائلا زوذا ليعجل صاحبي ... وبستان في صدري على كبير4
ولا تاركًا لحني لأحسن لحنهم ... ولو دار صرف الدهر حيث يدور
وحدثني المتنبي شاعرنا -وما عرفته إلا صادقًا- قال: كنت عند منصرفي من مصر في جماعة من العرب وأحدهم يتحدث. فذكر في كلامه فلاة واسعة فقال: يحير فيها الطرف قال: وآخر5 منهم يلقنه سرًا من الجماعة بينه وبينه فيقول له: يحار يحار. أفلا ترى إلى هداية بعضهم لبعض وتنبيهه إياه على الصواب.
وقال عمار6 الكلبي -وقد عيب عليه بيت من شعره فامتعض لذلك:
ماذا لقينا من المستعربين ومن ... قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا7
__________
1 كذا في أ، ج. وفي غيرها: "بقدم".
2 في المعرب للجواليقي ص9 نسبته لأبي المهدي، وكذا هو في مجالس ابن حنزابة ونصه: "كان أبو مهدي هذا -وهو من باهلة- يضرب حنكبه يمينا وشمالا ... " وكذا هو "أبو مهدي" في ذبل الأمالي 39. وفي السمط 21 أن الصواب: "أبو مهدية" كما في فهرست ابن النديم 49 والمرزباني 185. وهو صاحب قصة في اللسان "خسا" باسم أبي مهدية.
3 شنبذ أي قل: شون بوذ، وهي عبارة فارسية معناها كيف؟ يعنون الاستفهام؛ انظر التقريب لأصول التقريب الشيخ طاهر الجزائري ص79. وقوله ... "ما أقام ثبير" في ابن حنزابة: "أو يزول ثبير".
4 يقال: زود بالفارسية أي عجل. وبستان -بكسر الباء كما في المرجع السابق- أي خذ. وقوله: "ليعجل" في ابن حنزابة: "لأعجل".
5 ثبتت الواو في أ، وسقطت في ش, ب.
6 هذا الشعر في معجم الأدباء في ترجمة ابن جني 12/ 103، وفيه: "عمرو" بدل "عمار" وفي شرح الواحدي لديوان المتنبي 533 بأوسع مما أورده ابن جني هنا.
7 "نحوهم" كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "شعرهم".

(1/240)


إن قلت قافية بكرًا يكون بها ... بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا
قالوا لحنت وهذا ليس منتصبًا ... وذاك خفض وهذا ليس يرتفع
وحرضوا بين عبد الله من حمق ... وبين زيد فطال الضرب والوجع
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم ... وبين قوم على إعرابهم طبعوا
ما كل قولي مشروحًا لكم فخذوا ... ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
لأن أرضي أرض لا تشب بها ... نار المجوس ولا تبنى بها البيع
والخبر المشهور في هذا للنابغة وقد عيب عليه قوله في الدالية المجرورة:
وبذاك خبرنا الغراب الأسود
فلما لم يفهمه أتى بمغنية فغنته:
من آل مية رائح أو مغتد ... عجلان ذا زاد وغير مزود
ومدت الوصل وأشبعته ثم قالت:
وبذاك خبرنا الغراب الأسود
ومطلت واو الوصل فلما أحسه عرفه واعتذر منه وغيره -فيما يقال- إلى قوله:
وبذاك تنعاب الغراب الأسود
وقال دخلت يثرب وفي شعري صنعة ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب. كذا الرواية. وأما أبو الحسن فكان يرى ويعتقد أن العرب لا تستنكر الإقواء.
ويقول: قلت قصيدة إلا وفيها الإقواء. ويعتل لذلك بأن يقول: إن كل بيت منها شعر قائم برأسه. وهذا الاعتلال منه يضعف ويقبح التضمين في الشعر. وأنشدنا أبو عبد الله الشجري يومًا لنفسه شعرًا مرفوعًا وهو قوله:
نظرت بسنجار كنظرة ذي هوى ... رأى وطنًا فانهل بالماء غالبه

(1/241)


لأونس من أبناء سعد ظعائنا ... يزن الذي من نحوهن مناسبه1
يقول فيها يصف البعير:
فقامت إليه خدلة الساق أعلقت ... به منه مسموما دوينة حاجبه2
فقلت: يا أبا عبد الله: أتقول " دوينة حاجبه " مع قولك "مناسبه " و "أشانبه "! فلم يفهم ما أردت فقال: فكيف3 أصنع؟ أليس ههنا تضع الجرير4 على القِرمة5، على الجِرفة6؟ وأمأ إلى أنفه فقلت: صدقت غير أنك قلت "أشانبه " و "غالبه " فلم يفهم وأعاد اعتذاره الأول. فلما طال هذا قلت له: أيحسن أن يقول الشاعر 7:
آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاوٍ يُمَل منه الثواء
ومطلت الصوت ومكنته ثم يقول مع ذلك:
ملك المنذر بن ماء السمائي8
__________
1 "لأونس" أي لأبصر، يقال: آنس الشيء: أبصره.
2 "خدلة الساق": ممتلئتها، وكأنه يريد بالمسموم الخطام تشده في أنفه، يقال: سمه: شده. و"دوينة" تصغير دون، والمعروف في تصغيره دوين، وانظر الكتاب 2/ 138، وقد استرعى هذا نظر ابن سيده وقال: "فلا أدري ما الذي صغره هذا الشاعر؟ " وانظر اللسان "دون". وكأنه حمل "دون" على "وراء وقدام" في تصغيرهما بالتاء نظرا إلى الذهاب بهما مذهب الجهة.
3 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "كيف".
4 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "الحرير" وهو تحريف. والجرير: سير من جلد مضفور، يلوى عليه وتر، ويعلم على أنف البعير لبلله. وانظر المنصف 712 نسخة التيمورية.
5 القرمة -بفتح القاف وكسرها- من سمات الإبل تكون فوق الأنف.
6 الجرفة -بفتح الجيم وكسرها- من سمات الإبل أيضًا تكون دون الأنف.
7 هو الحارث بن حلزة اليشكري. والبيت مطلع معلقته.
8 هو من المعلقة السابقة. وصدره:
فملكنا بذلك الناس حتى

(1/242)


فأحس حينئذ وقال: أهذا! أين هذا من ذاك! إن هذا طويل وذاك قصير. فاستروح إلى قصر الحركة في "حاجبه " وأنها أقل من الحرف في "أسماء " و"السماء ".
وسألته يومًا فقلت له: كيف تجمع "دكانًا "؟ فقال: دكاكين قلت: فسرحانًا؟ قال: سراحين قلت: فقرطانًا1؟ قال: قراطين قلت: فعثمان قال: عثمانون. فقلت له: هلا قلت أيضًا عثامين قال: أيش عثامين! أرأيت إنسانًا يتكلم بما ليس من لغته والله لا أقولها أبدًا 2.
والمروي عنهم في شغفهم3 بلغتهم وتعظيمهم لها واعتقادهم أجمل الجميل فيها أكثر من أن يورد أو جزء من أجزاء كثيرة منه.
فإن قلت: فإن العجم أيضًا بلغتهم مشغوفون ولها مؤثرون ولأن يدخلها شيء من العربي كارهون ألا ترى أنهم إذا أورد الشاعر منهم شعرًا فيه ألفاظ من العربي عيب به4، وطعن لأجل ذلك عليه. فقد تساوت حال اللغتين في ذلك. فأية فضيلة للعربية على العجمية؟
قيل: لو أحست العجم بلطف صناعة العرب في هذه اللغة وما فيها من الغموض والرقة والدقة لاعتذرت من اعترافها بلغتها فضلا عن التقديم لها والتنويه منها.
فإن قيل: لا, بل لو عرفت العرب مذاهب العجم في حسن لغتها, وسداد تصرفها وعذوبة طرائقها لم تبء5 بلغتها ولا رفعت من رءوسها باستحسانها وتقديمها.
__________
1 هو ما يكون تحت السرج. وفي ج: "فقرطاسا؟ قال: قراطيس".
2 انظر هذه القصة مع أخريات عن هذا الأعرابي في معجم الأدباء في ترجمة ابن جني 12/ 108.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "شعفهم" والشغف والشعف واحد.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "عليه".
5 من بأى يبأى -كسعى يسعى- بأوا، وبأبا: فخر. وفي و: "ثعبأ".

(1/243)


قيل: قد اعتبرنا ما تقوله فوجدنا الأمر فيه بضده. وذلك أنا نسأل علماء العربية مما أصله عجمي وقد تدرب بلغته قبل استعرابه عن حال اللغتين فلا يجمع بينهما بل لا يكاد يقبل السؤال عن ذلك لبعده في نفسه وتقدم لطف العربية في رأيه وحسه. سألت غير مرة أبا علي -رضي الله عنه- عن ذلك فكان جوابه عنه نحوًا مما حكيته.
فإن قلت: ما تنكر أن يكون ذلك لأنه كان عالمًا بالعربية ولم يكن عالمًا باللغة العجمية ولعله لو كان عالمًا بها لأجاب بغير ما أجاب به. قيل: نحن قد قطعنا بيقين وأنت إنما عارضت بشك ولعل هذا ليس قطعًا كقطعنا, ولا يقينًا كيقيننا. وأيضًا فإن العجم العلماء بلغة العرب وإن لم يكونوا علماء بلغة العجم فإن قواهم في العربية تؤيد معرفتهم بالعجمية وتؤنسهم بها وتزيد في تنبيههم على أحوالها لاشتراك العلوم اللغوية واشتباكها وتراميها إلى الغاية الجامعة لمعانيها. ولم نر أحدًا من أشياخنا فيها1 -كأبي حاتم2، وبندار3، وأبي علي, وفلان وفلان- يسوون بينهما ولا يقربون بين حاليهما. وكأن هذا موضع ليس للخلاف فيه مجال لوضوحه عند الكافة. وإنما أوردنا منه هذا القدر احتياطًا به واستظهارًا على مورد له عسى أن يورده.
فإن قلت: زعمت أن العرب تجتمع على لغتها فلا تختلف فيها وقد نراها ظاهرة الخلاف ألا ترى إلى الخلاف في "ما " الحجازية، والتميمية وإلى الحكاية في الاستفهام
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب ذكر هذه العبارة بعد "أحدا".
2 هو سهل بن محمد السجستاني البصري، أستاذ المبرد. مات سنة 255هـ وانظر البغية.
3 هو ابن عبد الحميد الكرخي. وانظر البغية، وفهرست ابن النديم 123.

(1/244)


عن الأعلام1 في الحجازية وترك ذلك في التميمية إلى غير ذلك قيل: هذا القدر من2 الخلاف لقلته ونزارته محتقر غير محتفل به ولا معيج3 عليه وإنما هو في شيء من الفروع يسير. فأما الأصول وما عليه العامة والجمهور فلا خلاف فيه ولا مذهب للطاعن به. وأيضًا فإن أهل كل واحدة من اللغتين عدد كثير وخلق "من الله "4 عظيم وكل واحد منهم محافظ على لغته لا يخالف شيئًا منها ولا يوجد عنده تعاد فيها. فهل ذلك إلا لأنهم يحتاطون ويقتاسون ولا يفرطون ولا يخلطون. ومع هذا فليس شيء مما يختلفون فيه -على قلته وخفته- إلا له من القياس وجه يؤخذ به. ولو كانت هذه اللغة حشوًا5 مكيلا، وحثوًا6 مهيلا لكثر خلافها وتعادت أوصافها: فجاء عنهم جر الفاعل ورفع المضاف إليه والمفعول به والجزم بحروف النصب والنصب بحروف الجزم بل جاء عنهم الكلام سدى غير محصل وغفلا من الإعراب ولاستغنى بإرساله وإهماله عن إقامة إعرابه والكلف الظاهرة بالمحاماة على طرد أحكامه.
هذا كله وما أكني عنه من مثله -تحاميًا للإطالة به- إن كانت هذه اللغة شيئًا خوطبوا به7، وأخذوا باستعماله. وإن كانت شيئًا اصطلحوا عليه، وترافدوا8
__________
1 فإذا قال قائل: رأيت عليا فأهل الحجاز يقولون: من عليا؟ بالحكاية، وبنو تميم يقولون: من علي؟ ولا يحكون. وانظر الكتاب 1/ 403، وشرح الرضي على الكافية 2/ 63.
2 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "والخلاف".
3 كذا في الأصول: أي خلق ناشئ من فعل الله وإيجاده، وقد يكون الأصل: "من خلق الله".
5 الحشو: الرذال والرديء، ووصفه بالمكيل أنه ليس مما يدق ويتنافر فيه فبوزن كالذهب.
6 أراد به ما يجنى ويثار كالتراب والرمل. وهو هكذا في أ، ب، ش. وفي ج: "حثيا" وهو بمعنى حثوا، فالمادة واوية ويائية. و"مهيلا" أي ينهال وينصب عند سقوطه بلا مقدار ولا ضبط.
7 يريد بذلك أنها توفيقية.
8 كذا في أ، ب، وفي ش: "ترادفوا" وفي ج: "توافروا".

(1/245)


بخواطرهم ومواد حكمهم على عمله وترتيبه وقسمة أنحائه وتقديمهم أصوله وإتباعهم إياها فروعه -وكذا ينبغي أن يعتقد ذلك منهم لما نذكره آنفًا- فهو مفخر لهم ومعلم من معالم السداد دل على فضيلتهم.
والذي يدل على أنهم قد أحسوا ما أحسسنا، وأرادوا "وقصدوا"1 ما نسبنا إليهم إرادته وقصده شيئان: أحدهما حاضر معنا والآخر غائب عنا إلا أنه مع أدنى تأمل في حكم الحاضر معنا.
فالغائب ما كانت الجماعة من علمائنا تشاهده من احوال العرب "ووجوهها"2، وتضطر إلى معرفته من أغراضها وقصودها: من استخفافها شيئًا أو استثقاله وتقبله أو إنكاره والأنس به أو الاستيحاش منه والرضا به أو التعجب من قائله وغير ذلك من الأحوال الشاهدة بالقصود بل الحالفة على ما في النفوس ألا ترى إلى قوله 3:
تقول وصكت وجهها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس 4
فلو قال حاكيًا عنها: أبعلي هذا بالرحى المتقاعس -من غير أن يذكر صك الوجه- لأعلمنا بذلك أنها كانت متعجبة منكرة لكنه لما حكى الحال فقال: "وصكت وجهها " علم بذلك قوة إنكارها وتعاظم الصورة لها. هذا مع أنك سامع لحكاية الحال غير مشاهد لها ولو شاهدتها لكنت بها أعرف ولعظم الحال في نفس تلك
__________
1 زيادة في ش، ب، د، وخلت منها أ.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "في وجوهها".
3 هو نعيم بن الحارث بن يزيد السعدي. انظر اللسان في "ودع"، وشرح المرصفي للكامل 1/ 142.
4 من أبيات أوردها في الكامل "الموضع السابق". كان الشاعر قد عقد له النكاح على امرأة لم يدخل بها بعد، فمرت به في نسوة وهو يطحن بالرحى لضيف نزلوا به، فقالت: أبعلي هذا! تعجبا واحتقارا له، فقال الأبيات. والمتقاعس: الذي يخرج صدره ويدخل ظهره، وذلك شكل من يطحن بالرحى.

(1/246)


المرأة أبين, وقد قيل "ليس المخبر كالمعاين "1 ولو لم ينقل إلينا هذا الشاعر حال هذه المرأة بقوله: وصكت وجهها لم نعرف به حقيقة تعاظم الأمر لها. وليست كل حكاية تروى لنا ولا كل خبر ينقل إلينا يشفع به شرح الأحوال التابعة له, المقترنة -كانت- به. نعم ولو نقلت إلينا لم نفد بسماعها ما كنا نفيده لو حضرناها. وكذلك قول الآخر:
قلنا لها قفي لنا قالت قاف2
لو نقل إلينا هذا الشاعر شيئًا آخر من جملة الحال فقال مع قوله "قالت قاف ": "وأمسكت بزمام بعيرها" أو " وعاجته علينا" لكان أبين لما كانوا عليه وأدل على أنها أرادت: وقفت أو توقفت دون أن يظن أنها أرادت: قفي لنا! أي يقول لي: قفي لنا! متعجبة منه. وهو إذا شاهدها وقد وقفت علم3 أن قولها "قاف" إجابة له لا رد لقوله وتعجب منه في قوله "قفي لنا ".
وبعد فالحمالون والحماميون والساسة4، والوقادون ومن يليهم ويعتد منهم يستوضحون من مشاهدة الأحوال ما لا يحصله أبو عمرو من شعر الفرزدق إذا أخبر به عنه ولم يحضره ينشده. أولا تعلم أن الإنسان إذا عناه أمر فأراد أن يخاطب به صاحبه وينعم تصويره له في نفسه استعطفه ليقبل عليه فيقول له:
__________
1 كذا في الأصول ما عدا و، ففيها: "ليس الخبر كالمعاينة" ويضبط ما هنا "المخبر" على صيغة اسم المفعول، فإن أريد به الذي يلقى إليه الخبر ضبط, "المعاين" بكسر الياء على صيغة اسم الفاعل، وإن أريد "بالمخبر" النبأ يخبر به ضبط المعاين" بفتح الياء على صيغة اسم المفعول.
2 كذا في أ. وفي ش، ب:
قلت لها قفي قالت قاف
وانظر في الرجز ص31 من هذا الجزء.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "علمت".
4 يريد ساسة الذراب القائمين عليها، والخادمين لها.

(1/247)


يا فلان أين أنت أرني وجهك أقبل علي أحدثك أما أنت حاضر يا هناه. فإذا أقبل عليه وأصغى إليه اندفع يحدثه أو يأمره أو ينهاه أو نحو ذلك. فلو كان استماع الأذن مغنيًا عن مقابلة العين مجزئًا عنه لما تكلف القائل ولا كلف1 صاحبه الإقبال عليه والإصغاء إليه. وعلى ذلك قال:
العين تبدي الذي في نفس صاحبها ... من العداوة أو ود إذا كانا2
وقال الهذلي 3:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم4
أفلا ترى إلى اعتباره بمشاهدة الوجوه وجعلها دليلا على ما في النفوس.
وعلى ذلك قالوا: "رب إشارة أبلغ من عبارة " وحكاية5 الكتاب من هذا الحديث, وهي قوله: "ألا تا " و"بلى فا ". وقال لي بعض مشايخنا رحمه الله: أنا لا أحسن أن أكلم إنسانًا في الظلمة.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "تكلف".
2 كذا في أ: "ود" -بالجر- وفي ش، ب، ج: "ودا". والبيت في بيان الجاحظ بتحقيق الأستاذ هارون 1/ 79. وقبله.
والعين تنطق والأفواه صامتة ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
3 هو أبو خراش خويلد بن مرة، أدرك الإسلام شيخا كبيرا، ووفد على عمر وقد أسلم، ومات في خلافته كما في الإصابة رقم 2341، وانظر الأغاني 21/ 54 طبعة ليدن، والخزانة 1/ 211. وانظر شعر الهذليين 144 من القسم الثاني طبعة دار الكتب المصرية.
4 "رفوني": سكنوني، وقالوا: لا بأس عليك. وقوله: "هم هم" أي هم الذين أخاف، وانظر اللسان في "رفأ" و"رفو". هو مطلع قصيدة في المرجع السابق. كان الشاعر وقع في قوم من أعدائه فأظهروا له الملاينة حتى يتمكنوا منه. ولكنه عرف منهم الشر على الرغم مما أبدوه مقر منهم، وانظر أيضًا معاني ابن قتيبة 902.
5 انظر ص31 من هذا الجزء.

(1/248)


ولهذا الموضع نفسه ما توقف1 أبو بكر عن كثير مما أسرع إليه أبو إسحاق من ارتكاب طريق الاشتقاق واحتج أبو بكر عليه بأنه لا يؤمن أن تكون هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها ولم ندر ما حديثها ومثل له بقولهم " رفع عقيرته " إذا رفع صوته. قال له أبو بكر: فلو ذهبنا نشتق لقولهم "ع ق ر " من معنى الصوت لبعد الأمر جدًا وإنما هو أن رجلًا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى ثم نادى وصرخ بأعلى صوته فقال الناس: رفع عقيرته أي رجله المعقورة. قال أبو بكر: فقال أبو إسحاق: لست أدفع هذا. ولذلك قال سيبويه في نحو من هذا: أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر يعني ما نحن عليه من مشاهدة الأحوال والأوائل.
فليت شعري إذا شاهد أبو عمرو وابن أبي إسحاق ويونس, وعيسى بن عمر والخليل وسيبويه وأبو الحسن وأبو زيد وخلف الأحمر والأصمعي, ومن في الطبقة والوقت من علماء البلدين وجوه العرب فيما تتعاطاه2 من كلامها وتقصد له من أغراضها ألا تستفيد3 بتلك المشاهدة وذلك الحضور ما لا تؤديه الحكايات ولا تضبطه الروايات فتضطر إلى قصود العرب وغوامض ما في أنفسها حتى لو حلف منهم حالف على غرض دلته عليه إشارة لا عبارة لكان عند نفسه وعند جميع من يحضر حاله صادقًا فيه غير متهم الرأي والنحيزة والعقل.
فهذا حديث ما غاب عنا فلم ينقل إلينا وكأنه حاضر معنا، مناج4 لنا.
__________
1 انظر ص67 من هذا الجزء.
2 كذا أثبتناه. وفي أ، ب، ج: "يتعاطاه". وفي ش: "نتعاطاه".
3 كذا في ش، ب. أي ألا تستفيد تلك الطبقة أو جماعة علماء البلدين وفي أ: "ألا يستفيد" أي من في الطبقة والوقت.
4 كذا في أوفي غيرها: "مباح".

(1/249)


وأما ما روي لنا فكثير. منه ما حكى الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلا من اليمن يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها. فقلت له: أتقول جاءته كتابي! قال: نعم أليس بصحيفة. أفتراك تريد من أبي عمرو وطبقته وقد نظروا وتدربوا وقاسوا وتصرفوا أن يسمعوا أعرابيًّا جافيًا غفلا يعلل هذا الموضع بهذه العلة ويحتج لتأنيث المذكر بما ذكره فلا " يهتاجواهم "1 لمثله, ولا يسلكوا فيه طريقته فيقولوا: فعلوا كذا لكذا وصنعوا كذا لكذا وقد شرع لهم العربي ذلك ووقفهم على سمته وأمه.
وحدثنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس أنه قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} فقلت له ما تريد؟ قال: أردت: سابقٌ النهار. فقلت له: فهلا قلته فقال: لو قلته لكان أوزن 2. ففي هذه الحكاية لنا ثلاثة أغراض مستنبطة منها: أحدها تصحيح قولنا: إن أصل كذا كذا والآخر قولنا: إنها فعلت3 كذا لكذا ألا تراه إنما طلب الخفة يدل عليه قوله: لكان أوزن: أي أثقل في النفس وأقوى من قولهم: هذا درهم وازن: أي ثقيل له وزن. والثالث أنها قد تنطق بالشيء غيره في أنفسها4 أقوى منه لإيثارها التخفيف.
وقال سيبويه5 حدثنا من نثق به أن بعض العرب قيل له أما بمكان كذا وكذا وجذ6؟ فقال: بلى وِجاذًا أي أعرف7 بها وِجاذًا، وقال أيضًا: وسمعنا8 بعضهم
__________
1 في ج: "يهتاجهم" ولم يعرف في "اهتاج" التعدي.
2 سلفت هذه القصة في ص126 من هذا الجزء.
3 أي العرب.
4 كذا في أ، ج. وفي غيرها: "نفسها".
5 انظر الكتاب 1/ 129.
6 هو موضع يمسك الماء؛ كما فسر سيبويه.
7 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "فاعرف". وهذا الأخير هو الموافق لنسخة الكتاب المطبوعة.
8 في الكتاب أن هذا مثل من أمثالهم، وقد أورده على هذا الوجه، وأسلف قبيل هذا أن هذه حجج سمعت من العرب وممن يوثق به يزعم أنه سمعها عن العرب، وترى من هذا أن ابن جني اعتمد في نقل ما في الكتاب على المعنى.

(1/250)


يدعو على غنم رجل فقال: اللهم ضبعًا وذئبًا فقلنا 1 له: ما أردت؟ فقال: أردت: اللهم اجمع فيها ضبعًا وذئبًا كلهم يفسر ما ينوي.
فهذا تصريح منهم بما ندعيه عليهم وننسبه إليهم.
وسألت الشجري2 يومًا فقلت: يا أبا عبد الله كيف تقول ضربت أخاك؟ فقال: كذاك. فقلت: أفتقول: ضربت أخوك فقال: لا أقول: أخوك أبدًا. قلت: فكيف تقول ضربني أخوك فقال: كذاك. فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبدًا؟ فقال أيش ذا! اختلفت جهتا الكلام. فهل هذا في معناه إلا كقولنا نحن: صار المفعول فاعلا وإن لم يكن بهذا اللفظ البتة, فإنه هو لا محالة.
ومن ذلك ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قومًا من العرب أتوه فقال لهم: "من أنتم" , فقالوا: نحن بنو غيان3، فقال: "بل أنتم بنو رشدان" 4. فهل هذا إلا كقول أهل الصناعة: إن الألف والنون زائدتان وإن كان -عليه السلام- لم يتفوه بذلك غير أن اشتقاقه إياه من الغي بمنزلة قولنا نحن: إن الألف
__________
1 في الكتاب: "وإذا سألتهم ما يعنون قالوا: اللهم اجمع أو اجعل فيها ضبعا وذئبا". وترى من هذا أن ابن جني لم يكن أمامه الكتاب إذ ينقل هذا، وإنما ينقل على حفظه، أو أن الكتاب منه عدة نسخ مختلفة.
2 سبق له في ص77 نسبة هذه القصة إلى أبي عبد الله محمد بن العساف العقيلي. فهل هما واحد؟ أم تكررت القصة معهما؟
3 هؤلاء حي من جهينة، منهم بسبس بن عمرو، وكعب بن حمار ممن شهدوا بدرا. وفي الإصابة في ترجمة بسبسة بن عمرو -وهو بسبس- إذ ساق نسبه ترى في آبائه رشدان، وهو غيان هذا. وقد غير الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- سوى هذا مما فيه لفظ الغي إلى ما فيه الرشد. ففي سنن أبي داود: "وسمى بني مغوية بني رشدة", وانظر القاموس وشرحه والإصابة، وسنن أبي داود في "باب في تغيير الأسماء" من كتاب الأدب.
4 هكذا بفتح الراء وهو المناسب لغيان، قال في اللسان "وضبطه قوم بكسر الراء"، وقد جاء هذا الضبط في أ.

(1/251)


والنون فيه زائدتان. وهذا واضح. وكذلك قولهم 1: إنما سميت هانئًا لتهنأ قد عرفنا منه أنهم كأنهم قد قالوا: إن الألف في هانيء زائدة وكذلك قولهم: فجاء2 يدرم من تحتها -أي يقارب خطاه, لثقل الخريطة بما فيها, فسمى دارمًا- قد أفادنا اعتقادهم زيادة الألف في دارم عندهم.
باب في الحمل على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره
اعلم أن المذهب هو هذا الذي ذكرناه والعمل عليه والوصية به. فإذا شاهدت ظاهرًا يكون مثله أصلا أمضيت الحكم على ما شاهدته من حاله, وإن أمكن أن تكون الحال في باطنه بخلافه؛ ألا ترى أن سيبويه حمل3 سيدًا على أنه مما عينه ياء فقال في تحقيره: سييد4، كديك ودييك وفيل وفييل. وذلك أن عين الفعل5 لا ينكر أن تكون ياء وقد وجدت في سيد ياء فهي في6 ظاهر أمرها إلى أن يرد ما يستنزل عن بادي حالها.
__________
1 هذا من أمثالهم. وقوله: "لتهنأ" أي لتعطي. راجع اللسان في "هنأ".
2 هو بحر بن مالك بن حنظلة أبو حي من تميم. كان أبوه قد أتاه قوم في تحمل بعض الديات، فقال له: يا بحر ائتني بخريطة -يريد ما استحفظ فيه المال- فجاء يحملها وهو يدوم تحتها أي يقارب خطاه من ثقلها -وأصل ذلك في الأرنب والقنفذ، يقال: درمت الأرنب- فغلب عليه اسم دارم من حينئذ. وانظر اللسان والقاموس في "درم".
3 انظر الكتاب 2/ 136. والسيد: الأسد، والذئب "وذكر الجوهري في الصحاح، والمجد في القاموس "سيدا" في تركيب "س ود"، ويقول في التاج: "وهو قول أكثر أئمة الصرف" وكأنهم راعوا الحمل على الأكثر، وهو وجه صحيح.
4 ضبط في أبضم السين وكسرها، والوجهان جائزان لمكان الياء، تقول في شيخ: شُييخ وشِييخ بضم الشين وكسرها.
5 أي موازن الفعل، بكسر الأول وسكون الثاني.
6 في عبارة اللسان في "سيد": "علي".

(1/252)


فإن قلت: فإنا لا نعرف في الكلام تركيب "س ي د " فهلا لما لم يجد1 ذلك، حمل الكلمة على ما في الكلام مثله وهو ما عينه من هذا اللفظ واو, وهو السواد، والسودد2, ونحو ذلك؟
قيل: هذا يدلك على قوة الظاهر عندهم وأنه إذا كان مما تحتمله القسمة, وتنتظمه القضية, حكم به وصار أصلًا على بابه. وليس يلزم إذا قاد الظاهر إلى إثبات حكم تقبله الأصول ولا تستنكره ألا3 يحكم به حتى يوجد له نظير. وذلك أن النظير -لعمري- مما يؤنس به فأما ألا تثبت الأحكام إلا به فلا ألا ترى أنه4 قد أثبت في الكلام فعُلت تفعَل وهو كدت5 تكاد وإن لم يوجدنا6 غيره وأثبت بإنقحل7 باب "إنفعل " وإن لم يحك هو غيره وأثبت بسخاخين8 "فُعاعِيلا" وإن لم يأت بغيره.
فإن قلت: فإن "سيدًا " مما يمكن أن يكون من باب ريح وديمة فهلا توقف9 عن الحكم بكون عينه ياء لأنه لا يأمن أن تكون واوًا قيل: هذا الذي تقوله إنما تدعي فيه ألا10 يؤمن أن يكون من الواو وأما الظاهر فهو ما تراه. ولسنا ندع حاضرًا له وجه من القياس لغائب مجوز ليس عليه دليل.
فإن قيل: كثرة عين الفعل واوًا تقود11 إلى الحكم بذاك قيل: إنما يحكم بذاك مع عدم الظاهر فأما والظاهر معك فلا معدل عنه بك. لكن -لعمري-
__________
1 أي سيبويه، وكذلك قوله "حمل" يريده أيضًا.
2 في اللسان: "السود".
3 المصدر المؤول فاعل "يلزم".
4 أي سيبويه، وكذا فيما بعده.
5 الكتاب 2/ 227.
6 كذا في أ، ب، وفي ش، ج: "يوجد"، وفاعل "يوجد" هو سيبويه.
7 الكتاب 2/ 317.
8 الكتاب 2/ 320. ويقال: ماء شخاخين: حازه.
9 أي سيبويه أيضًا.
10 كذا في ش، ب. وفي أ: "أنه لا".
11 كذا في عبارة اللسان، وفي أ، ب، ش: "يقود". والوجه ما أثبت.

(1/253)


إن لم يكن معك ظاهرًا احتجت إلى التعديل والحكم بالأليق, والحمل على الأكثر. وذلك إذا كانت العين ألفًا مجهولة فحينئذ ما تحتاج إلى تعديل الأمر فتحمل على الأكثر. فلذلك قال1 في ألف "آءة": إنها بدل من واو. وكذلك ينبغي أن تكون ألف "الراء " لضرب من النبت وكذلك ألف " الصاب " لضرب من الشجر. فأما ألا2 يجيء من ذلك اللفظ نظير فتعلل بغير نافع ولا مجد؛ ألا ترى أنك تجد من الأصول ما لم يتجاوز3 به موضع واحد كثيرًا. من ذلك في الثلاثي حوشب4، وكوكب، ودودري5، وأبنبم6. فهذه ونحوها لا تفارق موضعًا واحدًا ومع ذلك فالزوائد فيها لا تفارقها.
وعلى نحو مما جئنا به في "سيد " حمل سيبويه عيَّنًا7، فأثبت به8 "فيعلا " مما عينه ياء وقد كان يمكن أن يكون "فوعلا " و "فعولا " من لفظ العين ومعناها ولو حكم بأحد هذين المثالين لحمل على مألوف غير منكور "ألا ترى أن فوعلا وفعولا"9
__________
1 كأنه يريد ما ورد في الكتاب 2/ 376، فقد ذكر الآية في كلمات لا يصاغ منها فعل لثقله. وذكر أن الفعل الذي كان يصاغ هو أؤت، كفلت، وهذا يقضي بأن ألف آءة في الأصل واوه والآءة واحدة الآ, وهو ثمر شجر بعينه.
2 كذا في أ. وفي غيرها "ما لا".
3 أي لا توجد تلك الأصول في كلمة أخرى، فدودرّى لا يوجد أصولها وهي "ددر" في سوى هذا الكلمة؛ إذ لم يصغ العرب منها سواها. وقد سلك المؤلف في عداد هذا الضرب "حوشبا"؛ وكأنه لم يبلغ علمه "الحشيب" للثوب الغليظ، ولا "احتشب" القوم: تجمعوا ولا "أحشبه": أغضبه.
4 من معانيه العظيم البطن، وقد سمي به.
5 هو الذي يذهب ويجيء في غير حاجة. وألفه للتأنيث. فهو غير مصروف، وانظر الأشموني في مبحث ألف التأنيث.
6 هو اسم موضع، وقد ذكره سيبويه في أبنية المزيد من الأسماء 2/ 317، وانظر اللسان ومعجم ياقوت.
7 يقال: سقاء عين وعين -بفتح الياء المشددة وكسرها- إذا رق فلم يمسك الماء. الكتاب 1/ 372.
8 كذا في أ. وفي ب: "فيه" وسقط هذا في ش.
9 ما بين القوسين في ش، ب. وفي أبعد "منكور": "لأنه لا مانع ... إلخ".

(1/254)


لا مانع لكل واحد منهما أن يكون في المعتل كما يكون في الصحيح، وأما "فيعل " -بفتح العين- مما عينه معتلة فعزيز ثم لم يمنعه عزه ذلك أن حكم به على "عين " وعدل عن أن يحمله على أحد المثالين اللذين كل واحد منهما لا مانع له من كونه في المعتل العين كونه في الصحيحها 1. وهذا أيضًا مما يبصرك بقوة الأخذ بالظاهر عندهم وأنه مكين القدم راسيها في أنفسهم.
وكذلك يوجب القياس فيما جاء من الممدود2 لا يعرف له تصرف ولا مانع من الحكم بجعل همزته أصلًا فينبغي حينئذ أن يعتقد فيها أنها أصلية. وكذلك همزة "قساء "3 فالقياس يقتضي اعتقاد كونها أصلًا اللهم إلا أن يكون "قساء " هو " قسى"4 في قوله 5:
بجو من قسى ذفر الخزامى ... تداعى الجربياء به الحنينا6
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "الصحيح".
2 كذا في أ. وفي غيرها: "الممدودة" يريد الأسماء الممدودة.
3 هو اسم جبل. وتراه مضموما. وفي المقصور والممدود لابن ولاد 91: "وقال الفراء: قساء يضم أوله ويكسر. فإذا صممت لم تصرفه، وإذا كسرته صرفته".
4 هو موضع بالعالية كما في ياقوت. وقيل: هو حبل رمل من رمال الدهناء, كما في اللسان.
5 هو ابن أحمر كما في اللسان في "قسأ" و"قسا"، وياقوت.
6 "بجو" يروى "بهجل". والهجلي: المطمئن من الأرض؛ والجربياء من الرياح: النكباء التي تجري بين الشمال والدبور، والخزامى نبت طيب الريح، وذفر الخزامي: ذكى رائحة هذا النبت. وقوله "تداعى". في اللسان في أكثر من موضع: "تهادى" وقوله "الحنينا" كذا في أ، وفي ش, ب: "حنينا". وفي ج: "الحبينا" وكتب في هامشه: "الحبين: شجر الدفلى"، وكأن المراد أن الجربياء تدعو الحنين، والحنين يدعوها، يصف طيب هذا الموضع ورقة هوائه. وانظر الكامل 6/ 190، والبيان 3/ 164.

(1/255)


فإن كان كذلك وجب أن يحكم بكون همزة "قساء " أنها بدل من حرف العلة الذي1 أبدلت منه ألف "قسى ". وأن يكون ياء2 أولى من أن يكون واوًا لما ذكرناه في كتابنا في شرح المقصور والممدود ليعقوب بن السكيت.
فإن قلت: فلعل "قسى " هذا مبدل من "قساء " والهمزة فيه هي الأصل. قيل: هذا حمل على الشذوذ لأن إبدال الهمز شاذ والأول أقوى لأن إبدال حرف العلة همزة إذا وقع طرفًا بعد ألف زائدة هو الباب.
وذكر محمد بن الحسن3 " أروى" في باب "أرو "4 فقلت لأبي علي: من أين له أن اللام واو وما يؤمنه أن تكون ياء فتكون من باب التقوى والرعوى؟ فجنح إلى ما نحن عليه: من الأخذ بالظاهر وهو القول.
فاعرف بما ذكرته قوة اعتقاد العرب في الحمل على الظاهر ما لم يمنع منه مانع. وأما حيوة والحيوان فيمنع من حمله على الظاهر أنا لا نعرف في الكلام ما عينه
__________
1 كذا في ج. وفي بقية الأصول: "التي" وهو غير مناسب؛ إذ هو وصف لـ"حرف"، وكأنه روعي اكتسابه التأنيث من المضاف إليه، أو أن الحرف يذكر ويؤنث، فروعي تأنيثه في وصفه، وروعي تذكيره في ضميره في "منه". وهو تكلف، فالوجه ما أثبت.
2 والوجه إذا أن يكتب بالياء كما أثبتناه وكما في اللسان "قسا"، وفي هامشه في التعليق على بيت ابن أحمر: "أورده ابن سيده في الباني بهذا اللفظ"، وقد جعله ياقوت في معجم البلدان منقولا من الفعل "قسا" من القسوة، فيكتب بالألف. وفي المقصور والممدود لابن ولاد 88: "قسا مقصور بكتب بالألف"، وأنشد بيت ابن أحمر، ثم قال: "ويروى "قسا" بالكسر، وحكاه الفراء".
3 هو ابن دريد صاحب الجمهرة. وقد ذكر المؤلف في "باب سقطات العلماء" من هذا الكتاب أن أستاذه أبا علي هم بقراءة الجمهرة على مؤلفها محمد بن الحسن. ويقول: "وكان أبو علي يقول: لما هممت بقراءة رسالة في هذا الكتاب على محمد بن الحسن قال لي: يا أبا علي لا تقرأ هذا الموضوع علي، فأنت أعلم به مني" وانظر اللسان "روى". وتذكر الأروى في المعاجم في "روى".
4 في أ، ج: "ءرو"، وما أثبتناه هو الموافق لما يقضي به الرسم. وفي ش، ب: "عرو". وهو تحريف منشؤه الرسم "ءرو" فظن أن الهمزة عين فوصلت بالراء.

(1/256)


ياء ولامه واو فلا بد أن تكون الواو بدلا من ياء لضرب من الاتساع مع استثقال التضعيف في الياء, ولمعنى العلمية في حيوة. وإذا كانوا قد كرهوا تضعيف الياء مع الفصل حتى دعاهم ذلك إلى التغيير في حاحيت وهاهيت وعاعيت كان إبدال اللام في الحيوان -ليختلف الحرفان- أولى وأحجى.
فإن قلت: فهلا حملت الحيوان على ظاهره وإن لم يكن له نظير كما حملت سيدًا على ظاهره وإن لم تعرف تركيب "س ي د " قيل: ما عينه ياء كثر وما عينه ياء ولامه واو مفقود أصلًا من الكلام. فلهذا أثبتنا سيدًا1 ونفينا " ظاهر أمر"2 الحيوان.
وكذلك القول في نون عنتر وعنبر: ينبغي أن تكون أصلا وإن كان قد جاء عنهم نحو عنبس وعنسل لأن أذنيك أخرجهما الاشتقاق. وأما عنتر وعنبر, وخَنشَلت وحِنزَقر3، وحِنبَتر3، ونحو ذلك فلا اشتقاق يحكم له بكون شيء منه زائدًا فلا بد من القضية بكونه كله أصلا. فاعرف ذلك واكتف به بإذن الله تعالى.
باب في مراتب الأشياء وتنزيلها تقديرًا وحكمًا لا زمانًا ووقتًا:
هذا الموضع كثير الإيهام4 لأكثر من يسمعه لا5 حقيقة تحته. وذلك كقولنا: الأصل في قام قوم وفي باع بيع وفي طال طول وفي خاف ونام وهاب: خوف ونوم وهيب وفي شد شدد وفي استقام استقوم وفي يستعين يستعون،
__________
1 كذا والمناسب: "س ي د".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "ظاهرا من".
3 "خنشلت" في أ، ويقال: خنشل الرجل: أسن وضعف، والحنزقر: القصير. والحنبر: الشدة.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "الإيهام" وما أثبته هو الصواب. ومن كلامه بعد: "فهذا يوهم ... ".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "مالا".

(1/257)


وفي يستعد يستعدد. فهذا يوهم أن هذه الألفاظ وما كان نحوها -مما يدعي أن له أصلًا يخالف ظاهر لفظه- قد كان مرة يقال حتى إنهم كانوا يقولون في موضع قام زيد: قوَم زيد وكذلك نوِم جعفر وطَوُلَ محمد وشدَد أخوك يده واستعدد الأمير لعدوه وليس الأمر كذلك بل بضده. وذلك أنه لم يكن قط مع اللفظ به إلا على ما تراه وتسمعه.
وإنما معنى قولنا: إنه كان أصله كذا: أنه لو جاء مجيء الصحيح1 ولم يعلل لوجب أن يكون مجيئه "على ما ذكرنا "2. فأما أن يكون استعمل وقتًا من الزمان كذلك ثم انصرف عنه فيما بعد إلى هذا اللفظ فخطأ لا يعتقده أحد من أهل النظر.
ويدل على أن ذلك عند العرب معتقد "كما أنه عندنا مراد معتقد"3 إخراجها بعض ذلك مع الضرورة، على الحد الذي نتصوره نحن فيه. وذلك قوله:
صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم4
هذا يدلك على أن أصل أقام أقوم وهو الذي نوميء نحن إليه ونتخيله فرب حرف يخرج هكذا منبهة على أصل بابه ولعله إنما أخرج على أصله فتُجشم ذلك فيه لما يعقب من الدلالة على أولية أحوال أمثاله.
وكذلك قوله 5:
أني أجود لأقوام وإن ضننوا
__________
1 يريد بالصحيح ما لم يحدث فيه تغيير، وبمقابله ما حدث فيه تغيير، أو ما يدعى أن له أصلا يخالف ظاهر لفظه كما في عبارته. فشد ليس من الصحيح في هذا الموطن.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "كذلك".
3 هذه الزيادة في أ، ج. وقد سقطت في ش، ب.
4 انظر الكلام على هذا البيت في ص149 من هذا الجزء.
5 انظر ص17 من هذا الجزء.

(1/258)


فأنت تعلم بهذا أن أصل شلت يده شلِلَت: أي لو جاء مجيء الصحيح لوجب فيه إظهار تضعيفه. وقد قال الفرزدق:
ولو رضيت يداي بها وضنت ... لكان علي في القدر الخيار1
"فأصل ضنت إذًا ضنِنَت بدلالة قوله: ضِننوا ".
وكذلك قوله 2:
تراه وقد فات الرماة كأنه ... أمام الكلاب مُصغِي الخد أصلم3
تعلم منه أن أصل قولك: هذا معطي زيد. معطيُ زيد.
__________
1 يقول ذلك في امرأته نوار وكان طلقها ثم تبعتها نفسه وندم على طلاقها، وأفرد الضمير في ضنت وهو يعود على اليدين لما كانتا متلازمتين. يقول: لو بقيت نوار مدى لظللت الكا أمرها فكان علي أن أختار في المقدر لها عن الإمساك أو التسريح، ولكنها أفلتت من يدي، فليس لي عليها خيار. وقد أورد أبو العباس في الكامل قصة الفرزدق، وذكر أبياتا فيها هذا البيت برواية أخرى وهي:
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان علي للقدر الخيار
وكذا أورده بهذه الرواية المرزوقي في الأزمنة والأمكنة وقال: المعنى: لو ملكت أمري لكان علي أن أختار للقدر، ولم يكن علي القدر أن يختار لي. وانظر الكامل 2/ 84 ومعجم الأدباء في ترجمة المازني 7/ 126 طبعة الحلبي.
2 هو أبو خراش. وهو من قصيدة مطلعها البيت:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع
وانظر ص58، من هذا الجزء.
3 الضمير في "تراه" يرجع إلى تيس الربل -وهو الظبي- المذكور في قوله قبل:
فوالله ما ربداء أو علج عانة ... أنب وما إن تيس ربل مصمم
وأصلم: مقطوع الأذنين. يقول: إن هذا الظبي في عدوه الشديد يميل خده ويصغيه، ويخفض أذنيه فكأنه أصلم: قطعت أذناه. وقد قرأ ابن جني "مصغى الخد" برفع "مصغى" خبرا لـ"كأنه". والذي في تعليقات ديوان الهذليين 4/ 143 أنه بالنصب على الحالية. وعلى ذلك لا يأتي ما يريد ابن جني الاستشهاد به.

(1/259)


ومن أدل الدليل على أن هذه الأشياء التي ندعي1 أنها أصول مرفوضة لا يعتقد2 أنها قد كانت مرة مستعملة ثم صارت من بعد مهملة ما تعرضه الصنعة فيها من تقدير ما لا يطوع النطق به لتعذره. وذلك كقولنا في شرح حال الممدود غير المهموز الأصل نحو سماء وقضاء. ألا ترى أن الأصل سماوٌ وقضايٌ, فلما وقعت الواو والياء طرفًا بعد ألف زائدة قلبتا ألفين فصار التقدير بهما إلى سماا وقضاا فلما التقت الألفان تحركت الثانية "منهما"3 فانقلبت همزة, فصار ذلك إلى سماء وقضاء. أفلا تعلم أن أحد ما قدرته -وهو التقاء الألفين- لا قدرة لأحد على النطق به.
" وكذلك"4 ما نتصوره وننبه عليه أبدًا من تقدير "مفعول" مما عينه أحد حرفي العلة وذلك نحو مبيع ومكيل ومقول ومصوغ ألا تعلم أن الأصل مبيوع, ومكيول ومقوول ومصووغ فنقلت الضمة من العين إلى الفاء فسكنت, وواو5 مفعول بعدها ساكنة فحذفت إحداهما -على الخلاف فيهما- لالتقاء الساكنين. فهذا جمع لهما تقديرًا وحكمًا. فأما أن يمكن النطق بهما على حال فلا.
واعلم مع هذا أن بعض ما ندعي أصليته من هذا الفن قد ينطق به على ما ندعيه من حاله -وهو أقوى الأدلة على صحة ما نعتقده من تصور الأحوال الأول- وذلك اللغتان تختلف فيهما القبيلتان كالحجازية والتميمية ألا ترى أنا نقول في الأمر من المضاعف في التميمية - نحو شُدّ وضَنّ وفِرّ واستَعِدّ واصطبّ6
__________
1 كذا بالنون في أ، ب. وفي ش: "تدعى" بالتاء.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "نعتقد".
3 زيادة في ش، ب خلت منها أ.
4 كذا في أ، ج: وفي ش، ب: "فكذلك".
5 كذا في أ. وفي ش، ب سقطت الواو.
6 يقال: اصطب من القربة ماء: صبه منها ليشربه.

(1/260)


يا رجل, واطمئنّ يا غلام: إن الأصل اشدُد, واضنَن, وافرِر, واستعدِد, واصطبِب واطمأنِن ومع هذا فهكذا1 لغة أهل الحجاز وهي اللغة الفصحى القدمى. ويؤكد ذلك قول الله سبحانه: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أصله2 استطاعوا فحذفت التاء لكثرة الاستعمال ولقرب التاء من الطاء وهذا الأصل مستعمل ألا ترى أن عقيبه قوله تعالى {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} . وفيه لغة أخرى؛ وهي: استعت بحذف الطاء كحذف التاء ولغة ثالثة: أسطعت بقطع الهمزة مفتوحة ولغة رابعة: أستعت مقطوعة الهمزة مفتوحة أيضًا. فتلك خمس لغات: استطعت واسطعت واستعت وأسطعت وأستعت. وروينا بيت الجران3:
وفيك إذا لاقيتنا عجرفية ... مرارًا فما نستيع من يتعجرف4
بضم حرف المضارعة وبالتاء.
ومن ذلك اسم المفعول من الثلاثي المعتل العين نحو مبيع ومخيط ورجل مدين من الدين. فهذا كله مغير. وأصله مبيوع ومديون ومخيوط, فغير على ما مضى. ومع ذلك فبنو تميم -على ما حكاه أبو عثمان5 عن الأصمعي- يتمون مفعولا من الياء فيقولون: مخيوط ومكيول؛ قال6:
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "فكذا".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "وأصله".
3 هو جران العود النميري، وهذا لقبه. واسمه عامر بن الحارث بن كلفة.
4 هذا من قول من يتغزل فيها له. تقول: إنك تلقانا بالجفاء، وهذا شديد علينا يصف مكانته عندها، والعجرفية: الجفوة في الكلام. والبيت من قصيدة له طويلة. وانظر الديوان 17.
5 عبارة المازني في تصريفه 260 نسخة التيمورية: "وبنو تميم -فيما زعم علماؤنا- يتمون مفعولا من الياء، فيقولون: مبيوع ومسيور به، وفي ص263 بعد أن أورد من الشواهد "مطيوبة" و"مغيوم" يقول: "أخبرني أبو زيد أن تميما تقول ذلك، ورواه الخليل وسيبويه، ترى أن أبا عثمان لم يرو هذه اللغة عن الأصمعي. بلى روى الشاهد الآتي عن الأصمعي، وهو الذي فيه "مطبوبة" على ما يأتي في الكلام على الشواهد الآتية.
6 هو العباس بن مرداس السلمي يخاطب كليب بن عييمة السلمي في قصة جرت بينهما. وانظر شرح شواهد الشافية للبغدادي 387.

(1/261)


قد كان قومك يزعمونك سيدًا ... وإخال أنك سيد معيون1
وأنشد أبو عمرو بن العلاء 2:
وكأنها تفاحة مطيوبة
وقال علقمة بن عبدة:
يوم رذاذٍ عليه الدجن مغيوم3
ويروى: يومٌ رذاذٌ.
وربما تخطوا الياء في هذه إلى الواو وأخرجوا مفعولا منها على أصله وإن كان "أثقل منه من"4 الياء. وذلك قول بعضهم: ثوب مصوون وفرس مقوود ورجل معوود من مرضه. وأنشدوا فيه:
والمسك في5 عنبره مدووف
ولهذا نظائر كثيرة؛ إلا أن هذا سمتها وطريقها 6.
فقد ثبت بذلك أن هذه الأصول المومأ إليها على أضرب:
منها ما لا يمكن النطق به أصلا؛ نحو ما اجتمع فيه ساكنان؛ كسماء, ومبيع, ومصوغ, ونحو ذلك.
__________
1 معيون: مصاب بالعين. ويروى: مغبون من قولهم: غبن على قلبه أي غطي عليه؛ فيكون الأصل: مغبون عليه؛ وجرى فيه الحذف والإيصال. وانظر المصدر السابق.
2 في تصريف المازني مع شرحه المنصف 1/ 263 نسخة تيمور: قال أبو عثمان: وسمعت الأصمعي يقول: سمعت أبا عمرو بن العلاء، يقول: سمعت في شعر العرب:
وكأنها تفاحة مطيوبة
3 صدره:
حتى تذكر بيضات وهيجه
وهو في وصف الظليم. وهو من قصيدة طويلة مفضلية.
4 كذا في أ. وفي ب: "يقل منه في" وفي ش: "يقل في" وفي ج: "أنقل من".
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "من". وانظر ص99 من هذا الجزء في التعليقة 8.
6 كذا في أ. وفي ش: "طريقتها".

(1/262)


ومنها ما يمكن النطق به غير أن فيه من الاستثقال ما دعا إلى رفضه واطراحه إلا أن يشذ الشيء القليل منه فيخرج على أصله منبهة ودليلًا على أولية حاله كقولهم: لححت عينه وألِل السقاء إذا تغيرت ريحه وكقوله 1:
لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطَّلب
ومن ذلك امتناعهم من تصحيح الياء في نحو موسر وموقن والواو في نحو ميزان وميعاد وامتناعهم من إخراج افتعل وما تصرف منه إذا كانت فاؤه صادًا أو ضادًا أو طاء أو ظاء أو دالًا أو ذالًا أو زايًا على أصله وامتناعهم من تصحيح الياء والواو إذا وقعتا طرفين بعد ألف زائدة وامتناعهم من جمع الهمزتين في كلمة واحدة ملتقيتين غير عينين 2. فكل هذا وغيره مما يكثر تعداده يمتنع منه استكراهًا للكلفة فيه وإن كان النطق به ممكنًا غير متعذر.
وحدثنا أبو علي رحمه الله فيما حكاه -أظنه-3 عن خلف الأحمر: قال: يقال التقطت النوى، واشتقطته4، واضتقطته 5. فصحح تاء افتعل وفاؤه ضاد ونظائره -مما يمكن النطق به إلا أنه رفض استثقالًا له- كثيرة. قال أبو الفتح: ينبغي
__________
1 هو ابن قيس الرقيات. وانظر المفصل في مبحث "الواو والياء لا مين" في أواخر الكتاب، والكتاب 2/ 59، والمحتسب في سورة البقرة، والديوان 68. ورواية الديوان: "في الغواني قما" بسكون الياء، ولا شاهد فيه. وفي شرح السكري: "روى الخليل: "في الغواني هل" جعل مثل الضوارب، أخرج ذوات الياء مخرج التمام فأعربه".
2 يقصد بذلك الاحتراز عن نحو ساَّل وراَّس.
3 جزم بأنه عن خلف في مواطن أخرى من هذا الكتاب. وانظر "باب فيما يراجع من الأصول مما لا يراجع" فيما يأتي.
4 كذا في أوج. وفي ش، ب: "استقطته". وهو تحريف.
5 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "اصطفته". وهو تحريف.

(1/263)


أن تكون الضاد في اضتقطت بدلا من شين اشتقطت فلذلك ظهرت كما تصح التاء مع الشين. ونظيره قوله 1:
مال إلى أرطاة حقف فالطجع2
اللام بدل من الضاد، فلذلك أقرت الطاء بدلا من التاء، وجعل ذلك دليلا على البدل.
ومنها ما يمكن النطق به إلا أنه لم يستعمل لا لثقله لكن لغير ذلك: من التعويض منه أو لأن الصنعة أدت إلى رفضه. وذلك نحو "أن " مع الفعل إذا كان جوابًا للأمر والنهي وتلك الأماكن السبعة نحو اذهب فيذهب معك {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} وذلك أنهم عوضوا من "أن " الناصبة حرف العطف "وكذلك"3 قولهم: لا يسعني شيء ويعجز عنك وقوله 4:
............................ إنما ... نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا5
__________
1 ينسب هذا الرجز إلى منظور بن حبة الأسدي. انظر شواهد الشافية للبغدادي 216.
2 قبله:
يا رب أباز من المفر صدع ... تقبض الذئب إليه واجتمع
لما رأى أن لا دعه ولا شبع
والأباز يريد به الظبي، والأباز: الوثاب، والصدع: الخفيف اللحم، والعفر من الظباء: التي تعطو ألوانها حمرة. وقوله: "لما رأى" أي الذئب. وقوله "تقبض" أي جمع قوائمه ليثب على الظبي، يريد أنه لما رأى أنه لا يدرك الظبي فيشبع من لحمه، وأنه قد تعب في طلبه عمد إلى أرطاة فاضطجع عندها. والرجز في شواهد الإصلاح، وفي شرح ابن السيرافي لشواهده في الورقة 90 ب. وانظر ص64 من هذا الجزء.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "فكذلك".
4 هو امرؤ القيس بن حجر.
5 صدره:
فقلت له لا تبك عينك ...
وانظر الديوان.

(1/264)


صارت أو "والواو"1 فيه عوضًا من "أن " وكذلك الواو التي تحذف "معها رب"2 في أكثر الأمر نحو قوله 3:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق4
غير أن الجر لرب لا للواو, كما أن النصب في الفعل إنما هو لأن المضمرة, لا للفاء ولا للواو ولا " لأو".
ومن ذلك ما حذف من الأفعال وأنيب عنه غيره مصدرًا كان أو غيره؛ نحو ضربًا زيدًا وشتمًا عمرًا. وكذلك دونك زيدًا وعندك جعفرًا, ونحو ذلك: من الأسماء المسمى بها الفعل. فالعمل الآن إنما هو لهذه الظواهر المقامات مقام الفعل الناصب.
ومن ذلك ما أقيم من الأحوال المشاهدة مقام الأفعال الناصبة نحو قولك إذا رأيت قادمًا: خير مقدم أي قدمت خير مقدم. فنابت5 الحال المشاهدة مناب الفعل الناصب. وكذلك قولك للرجل يهوي بالسيف ليضرب به: عمرًا وللرامي للهدف إذا أرسل النزع فسمعت صوتًا القرطاس والله: أي اضرب عمرًا, وأصاب القرطاس.
فهذا ونحوه لم يرفض ناصبه لثقله بل لأن ما ناب عنه جار عندهم مجراه ومؤد تأديته. وقد ذكرنا في كتابنا الموسوم "بالتعاقب " من هذا النحو ما فيه كاف بإذن الله تعالى.
__________
1 كذا في ش، وب. وفي أ "صارت الواو فيه عوضا" وفي ج: "صارت هذه الحروف".
2 كذا في ج. وفي أ، ب، ش: "مع رب" ولا يستقيم الكلام مع هذا.
3 هو رؤبة بن العجاج.
4 هو مطلع أرجوزة. وبعده:
مشتبه الأعلام لماع الخفق
وانظر الخزانة 1/ 38.
5 كذلك في ج. وفي أ، ب، ش: "ونابت".

(1/265)


باب في فرق 1 بين البدل 2 والعوض 3:
جماع ما في هذا أن البدل أشبه بالمبدل منه من العوض بالمعوض منه " وإنما يقع البدل في موضع المبدل منه والعوض لا يلزم فيه ذلك ألا تراك تقول في الألف من قام: إنها بدل من الواو التي هي عين الفعل ولا تقول فيها: إنها عوض منها وكذلك يقال في واو جُوَن وياء مِيَر: إنها بدل للتخفيف من همزة جؤن3 ومئر ولا تقول: إنها عوض منها. وكذلك تقول في لام غاز وداع: إنها بدل من الواو ولا تقول: إنها عوض منها. وتقول في العوض: إن التاء في عدة, وزنة عوض من فاء الفعل ولا تقول: إنها بدل من منها. فإن قلت: ذاك فما أقله! وهو تجوز في العبارة. وسنذكر لم ذلك. وتقول في ميم " اللهم": إنها عوض من " يا" في أوله ولا تقول: بدل. وتقول في تاء زنادقة: إنها عوض4 من ياء زناديق ولا تقول: بدل. وتقول في ياء "أينق ": إنها عوض من عين "أنوق " فيمن جعلها أيفل ومن جعلها عينًا مقدمة مغيرة إلى الياء جعلها بدلا من الواو.
فالبدل أعم تصرفًا من العوض. فكل عوض بدل وليس كل بدل عوضًا. وينبغي أن تعلم أن العوض من لفظ " عَوضُ " -وهو الدهر- ومعناه؛ قال الأعشى 5:
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا نتفرق6
والتقؤهما أن الدهر إنما هو مرور الليل والنهار وتصرم أجزائهما فكلما مضى جزء منه خلفه جزء آخر يكون عوضًا منه. فالوقت الكائن الثاني غير الوقت الماضي الأول. فلهذا كان العوض أشد مخالفة للمعوض منه من البدل.
وقد ذكرت في موضع من كلامي مفرد اشتقاق أسماء الدهر والزمان وتقصيته هناك. وأتيت أيضًا في كتابي الموسوم ب "التعاقب " على كثير من هذا الباب ونهجت الطريق إلى ما أذكره بما نبهت به عليه.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "الفرق".
2 كذا في أ. وفي ب، ش: "البدل والمبدل منه والعوض المعوض منه".
3 "جؤن" جمع جؤنة بالضم. وهي سلة مستديرة مغشاة أدما. تكون مع العطارين. و"سئر" جمع سرة. بالكسر وهي الذحل والعداوة.
4 قال ابن جني في كتاب التعاقب "فإن قلت: فلعل الهاء في "زنادقة" و"جحاجحة" لتأنيث الجمع، كهاء ملائكة وصياقلة، فلا تكون عوضا، قلنا: لم تأت الهاء لتأنيث الجمع في مثال مفاعيل؛ إنما جاءت في مثال مفاعلة، نحو ملائكة" من أشباه السيوطي 1/ 136.
5 كذا في ش، ب. وسقط "الأعشى" في أ.
6 قبله:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
وهو من قصيدته التي مطلعها:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
انظر ديوان الأعشى طبع أوروبا 145 والخزانة 3/ 209 و"ليان" بالتنوين، و"ثدي" روي بالجر على البدلية، والنصب على تقدير "أعني"، أو غيره. وانظر الخزانة في الموطن السابق.

(1/266)