المقتضب (هَذَا بَاب مَا لَا يكون الِاسْتِثْنَاء
فِيهِ إِذا أبدل إِلَّا على الْموضع لِامْتِنَاع اللَّفْظ مِنْهُ)
وَذَلِكَ قَوْلك ماجاءني من أحد إِلَّا زيد على الْبَدَل لِأَن من
زَائِدَة وَإِنَّمَا تزاد فِي النَّفْي وَلَا تقع فِي الْإِيجَاب
زَائِدَة لِأَن الْمَنْفِيّ المنكور يَقع واحده فِي معنى الْجَمِيع
فَتدخل من لإبانة هَذَا الْمَعْنى وَذَلِكَ قَوْلك مَا جَاءَنِي رجل
فَيجوز أَن تَعْنِي رجلا وَاحِدًا وَتَقَع الْمعرفَة فِي هَذَا الْموضع
تَقول مَا جَاءَنِي عبد الله فَإِذا قلت مَا جَاءَنِي من رجل لم يَقع
ذَلِك إِلَّا للْجِنْس كُله وَلَو وضعت فِي مَوضِع هَذَا المنكور
مَعْرُوفا لم يجز لَو قلت مَا جَاءَنِي من عبد الله كَانَ محالا
لِأَنَّهُ مَعْرُوف بِعَيْنِه فَلَا يشيع فِي الْجِنْس
فَإِذا قلت جَاءَنِي لم تقع من هَا هُنَا زَائِدَة لِأَن معنى
الْجَمِيع هَا هُنَا مُمْتَنع لإحاطته بِالنَّاسِ أَجْمَعِينَ كَمَا
كَانَ هُنَاكَ نفيا لجميعهم
فَإِذا قلت مَا جَاءَنِي من رجل إِلَّا زيد كَانَ خلفا أَن تَقول
إِلَّا زيد لِأَنَّك لَو أبدلته من رجل على اللَّفْظ قلت مَا جَاءَنِي
إِلَّا من زيد فَلذَلِك قلت مَا جَاءَنِي من أحد إِلَّا زيد لِأَن من
وَمَا بعْدهَا فِي مَوضِع رفع وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ يَخْلُو
الْفِعْل من فَاعل
وَكَذَلِكَ مَا رَأَيْت من أحد إِلَّا زيدا وَلَيْسَ زيد بِشَيْء
إِلَّا شَيْئا لَا يعبأ بِهِ وَلَو قلت
(4/420)
إِلَّا شَيْء لم يصلح لِأَن التَّقْدِير
لست إِلَّا بِشَيْء وَهَذَا محَال لِأَن الْيَاء إِنَّمَا تزاد فِي غير
الْوَاجِب توكيدا تَقول مَا زيد بقائم وَلَيْسَ زيد بمنطلق
وعَلى هَذَا ينشد هَذَا الشّعْر وَلَيْسَ يجوز غَيره
(أَبني لُبَيْنَى لَسْتُمُ بِيدٍ ... إلاَّ يَداً ليستْ لَهَا عَضُدُ)
وَتقول على هَذَا مَا زيد بِشَيْء إِلَّا شَيْء لَا يعبأ بِهِ فكأنك
قلت مَا زيد إِلَّا شَيْء لَا يعبا بِهِ فَهَذَا وَجه هَذَا الْبَاب
(4/421)
(هَذَا بَاب الِاسْتِثْنَاء بِغَيْر)
اعْلَم أَن كل مَوضِع جَازَ أَن تستثني فِيهِ ب (إِلَّا) جَازَ
الِاسْتِثْنَاء فِيهِ بِغَيْر
وَغير اسْم يَقع على خلاف الَّذِي يُضَاف إِلَيْهِ ويدخله معنى
الِاسْتِثْنَاء لمضارعته إِلَّا
وكل مَوضِع وَقع الِاسْم فِيهِ بعد إِلَّا على ضرب من الْإِعْرَاب
كَانَ ذَلِك حَالا فِي غير إِلَّا أَن يكون نعتا فَيجْرِي على المنعوت
الَّذِي قبلهَا وَذَلِكَ قَوْلك جَاءَنِي الْقَوْم غير زيد لِأَنَّك
كنت تَقول جَاءَنِي الْقَوْم إِلَّا زيدا
وَتقول هَذَا دِرْهَم غير قِيرَاط كَقَوْلِك هَذَا دِرْهَم إِلَّا
قيراطا
وَتقول هَذَا دِرْهَم غير جيد لِأَن غيرا نعت أَلا ترى أَنه لَا
يَسْتَقِيم هَذَا دِرْهَم إِلَّا جيد
(4/422)
فَأَما الْموضع الَّذِي يرْتَفع فِيهِ
فَتَقول مَا جَاءَنِي أحد غير زيد على الْوَصْف وعَلى الْبَدَل فالبدل
كَقَوْلِك مَا جَاءَنِي أحد إِلَّا زيد
وَتقول لقِيت الْقَوْم غير زيد على النَّعْت إِذا كَانَ الْقَوْم على
غير مَعْهُود وعَلى الْبَدَل
وَالْوَجْه إِذا لم يكن مَا قبل غير نكرَة مَحْضَة أَلا يكون نعتا
فَأَما قَول الله عز وَجل {غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين}
فَإِن غيرا تكون على ضروب تكون نعتا للَّذين لِأَنَّهَا مُضَافَة إِلَى
معرفَة
وَتَكون حَالا فتنصب لِأَن غيرا وَأَخَوَاتهَا يكن نكرات وَهن مضافات
لَا معارف هَذَا الْوَجْه فِيهِنَّ جمع وَهُوَ فِي غير خَاصَّة وَاجِب
لما تقدم ذكره
وَيكون بَدَلا فَكَأَنَّهُ قَالَ صِرَاط غير المغضوب عَلَيْهِم وَيكون
نصبا على اسْتثِْنَاء لَيْسَ من الأول وَهُوَ جَاءَنِي الصالحون إِلَّا
الطالحين
(4/423)
(هَذَا بَاب تَكْرِير الِاسْتِثْنَاء
بِغَيْر عطف)
تَقول مَا جَاءَنِي أحد إِلَّا عمرا وَإِن شِئْت قلت إِلَّا زيدا
إِلَّا عَمْرو فَالْمَعْنى فيهمَا جَمِيعًا وَاحِد وَإِن اخْتلف
الْإِعْرَاب لِأَنَّك إِذا شغلت الْفِعْل بِأَحَدِهِمَا انتصب الآخر
بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلم يصلح الْبَدَل لِأَن الْمَرْفُوع مِنْهُمَا
مُوجب
وَتقول مَا جَاءَنِي إِلَّا زيدا إِلَّا عمرا أحد لِأَن التَّقْدِير
مَا جَاءَنِي إِلَّا زيدا أحد إِلَّا عَمْرو فَلَمَّا قدمت عمرا صَار
كَقَوْلِك مَا جَاءَنِي إِلَّا عمرا أحد لِأَنَّك لَو أَخَّرته كَانَ
الْوَجْه مَا جَاءَنِي أحد إِلَّا عَمْرو وَتقول مَا جَاءَنِي إِلَّا
زيدا غير عَمْرو أحد لِأَن غير عَمْرو بِمَنْزِلَة قَوْلك إِلَّا عمرا
وَمن ذَلِك قَوْله
(فماليَ إلاَّ اللهَ لَا شيءَ غيرُه ... وَمَالِي إلاَّ اللهَ غيرَك
ناصرُ)
كَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا إياك
(4/424)
وَهَذَا الْبَيْت ينشد على غير وَجه وَهُوَ
قَول الشَّاعِر
(مَا بِالْمَدِينَةِ دارٌ غيرُ وَاحِدَة ... دارُ الخليفةِ إلاَّ دارَ
مَرْوانا)
تجْعَل غير نعتا يخبر أَنَّهَا غير وَاحِدَة بل هِيَ أدؤر وَدَار
الْخَلِيفَة تَبْيِين وتكرير وَإِلَّا دَار مَرْوَان بدل وَإِن شِئْت
جعلت دَار مَرْوَان مَنْصُوبَة بِالِاسْتِثْنَاءِ على قَوْلك مَا
جَاءَنِي أحد إِلَّا زيدا
وَإِن شِئْت قلت مَا لمدينة دَار غير وَاحِدَة إِلَّا دَار مَرْوَان
فتنصب غيرا لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء وَإِن شِئْت رفعت غيرا ونصبت دَار
مَرْوَان أَيهمَا شِئْت جعلته بَدَلا ونصبت الآخر
(4/425)
(هَذَا بَاب الْجمع بَين إِلَّا وَغير
وَالْحمل على الْمَعْنى إِن شِئْت)
تَقول مَا جَاءَنِي غير زيد وَإِلَّا عَمْرو لِأَن التَّقْدِير مَا
يُفَسر فِي وَضعه إِن شَاءَ الله
وَأما عدا وخلا فهما فعلان ينْتَصب مَا بعدهمَا وَذَلِكَ قَوْلك
جَاءَنِي الْقَوْم عدا زيدا لِأَنَّهُ لما قَالَ جَاءَ الْقَوْم وَقع
عِنْد السَّامع أَن بَعضهم زيدا فَقَالَ عدا زيدا أَي جَاوز بَعضهم
زيدا
فَهَذِهِ تَقْدِيره إِلَّا أَن عدا فِيهَا معنى الِاسْتِثْنَاء
وَكَذَلِكَ خلا
فَمَعْنَى عدا جَاوز من قَوْلك لَا يعدونك هَذَا أَي لَا يجاوزنك
وخلا من قَوْلهم خلا يَخْلُو
وَقد تكون خلا حرف خفض فَتَقول جَاءَنِي الْقَوْم خلا زيد مثل سوى زيد
فَإِن قلت فَكيف يكون حرف خفض وفعلا على لفظ وَاحِد فَإِن ذَلِك كثير
مِنْهُ حاشا وَقد مضى تَفْسِيرهَا
وَمثل ذَلِك على تكون حرف خفض على حد قَوْلك على زيد دِرْهَم وَتَكون
فعلا نَحْو قَوْلك علا زيد الدَّابَّة وعَلى زيد ثوب وَعلا زيدا ثوب
وَالْمعْنَى قريب
(4/426)
فَإِذا قلت مَا عدا وَمَا خلا لم يكن
إِلَّا النصب وَذَاكَ لِأَن مَا اسْم فَلَا توصل إِلَّا بِالْفِعْلِ
نَحْو بَلغنِي مَا صنعت أَي صنيعك إِذا أردْت بهَا الْمصدر فَصلتهَا
الْفِعْل لَا غير وَكَأَنَّهُ قَالَ مجاوزتهم زيدا إِلَّا أَن فِي عدا
وخلا معنى الِاسْتِثْنَاء
(4/427)
(هَذَا بَاب الِاسْتِثْنَاء بليس وَلَا
يكون)
اعْلَم أَنَّهُمَا لَا يكونَانِ اسْتثِْنَاء إِلَّا وَفِيهِمَا ضمير
كَمَا وصفت لَك فِي عدا وخلا وَذَلِكَ قَوْلك جَاءَنِي الْقَوْم لَا
يكون زيدا وَجَاءَنِي الْقَوْم لَيْسَ زيدا كَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ
بَعضهم وَلَا يكون بَعضهم
وَكَذَلِكَ أَتَانِي النِّسَاء لَا يكون فُلَانَة يُرِيد لَا يكون
بَعضهنَّ إِلَّا أَن هَذَا فِي معنى الِاسْتِثْنَاء وَإِن جعلته وَصفا
فجيد وَكَانَ الجرمى يختاره وَهُوَ قَوْلك أَتَانِي الْقَوْم لَيْسُوا
إخْوَتك وأتتني امْرَأَة لَا تكون فُلَانَة
(4/428)
(هَذَا بَاب مَا حذف من الْمُسْتَثْنى
تَخْفِيفًا واجتزئ بِعلم الْمُخَاطب وَذَلِكَ قَوْلك عِنْدِي دِرْهَم
لَيْسَ غير أردْت لَيْسَ غير ذَلِك فحذفت وضممت كَمَا ضممت قبل وَبعد
لِأَنَّهُ غَايَة
(4/429)
|