أسد الغابة في
معرفة الصحابة، ط الفكر محمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم
هو مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عبد المطلب بن هاشم بن
عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤي بْن غالب
بْن فهر بْن مالك بْن النضر بْن كنانة بْن خزيمة بْن مدركة
بْن إلياس بْن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان أبو القاسم،
سيد ولد آدم صلّى الله عليه وسلم.
فأما ما بعد عدنان من آبائه إلى إِسْمَاعِيل بْن
إِبْرَاهِيم الخليل صلى اللَّه عليهما وسلم، ففيه اختلاف
كثير في العدد والأسماء، لا ينضبط ولا يحصل منه غرض
فتركناه لذلك، ومصر وربيعة هم صريح ولد إسماعيل باتفاق
جميع أهل النسب، وما سوى ذلك فقد اختلفوا فيه اختلافا
كثيرا، وَأُمُّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
زهرة بْن كلاب بن مرة القرشية الزهرية، تجتمع هي وعبد الله
الله في كلاب.
خرج عبد المطلب بابنه عبد الله إلى وهب بن عبد مناف، فزوجه
ابنته آمنة، وقيل كانت آمنة في حجر عمها وهيب بن عبد مناف،
فأتاه عبد المطلب، فخطب إليه ابنته هالة بنت وهيب لنفسه،
وخطب على ابنه عبد الله ابنة أخيه آمنة بنت وهب، فتزوجا في
مجلس واحد فولدت هالة لعبد المطلب حمزة.
أخبرنا عبيد الله بن أحمد بن علي بن جَعْفَرٍ
بِإِسْنَادِهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابن
إسحاق، قال:
وكانت آمنة بنت وهب تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله
صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة [1]
فسميه محمدا.. فلما وضعته أرسلت إلى جده عبد المطلب تقول:
قد ولد لك الليلة ولد فانظر إليه، فلما جاءها أخبرته بالذي
رأت.
وكان أبوه عبد الله قد توفى وأمه حامل به، وقيل: توفى
وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا وقيل:
كان له سبعة أشهر، والأول أثبت، وكانت وفاته بالمدينة عند
أخواله بنى عدي بن النجار، وكان أبوه عبد المطلب بعثه إلى
المدينة يمتار [2] تمرا، فمات، وقيل: بل أرسله إلى الشام
في تجارة فعاد من غزة مريضا فتوفى بالمدينة، وكان عمره
خمسا وعشرين سنة ويقال: كان عمره ثمانيا وعشرين سنة.
وإنما قيل لبني عدي أخواله لأن أم عبد المطلب سلمى بنت
زيد، وقيل بنت عمرو بن زيد، من بنى عدي بن النجار.
وكان عبد المطلب قد أرسل ابنه الزبير بن عبد المطلب إلى
أخيه عبد الله بالمدينة فشهد وفاته، ودفن في دار النابغة.
__________
[1] في سيرة ابن هشام بعده 1- 158: «فإذا وقع إلى الأرض
فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا» .
[2] أي: يجلب.
(1/20)
وكان عبد الله والزبير وأبو طالب إخوة لأب
وأم أمهم فاطمة بنت عمرو بْن عائذ بْن عمران بْن مخزوم.
وورث النبي صلّى الله عليه وسلم من أبيه أم أيمن وخمسة
أجمال وقطيع غنم، وسيفا مأثورا وورقا، وكانت أم أيمن
تحضنه.
قال: أخبرنا ابن إسحاق قال: حدثني المطلب بْن عَبْد اللَّه
بْن قيس عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قيس بْن مخرمة قَالَ:
ولدت أنا ورسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عام الفيل كنا لدتين قيل: وكان مولد رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم الإثنين لعشر ليال خلون من ربيع الأول،
ويقال لليلتين خلتا منه، وقيل لثمان خلون منه عام الفيل،
وذلك لأربعين سنة مضت من ملك كسرى أنوشروان بن قباذ، وكان
ملك أنوشروان سبعا وأربعين سنة وثمانية أشهر.
ولما ولد ختنه جده عبد المطلب في اليوم السابع، وقيل ولد
مختونا مسرورا، وقد استقصينا ذكر آبائه وأسمائهم وأحوالهم
في الكامل في التاريخ فلا نطول بذكره هنا فاننا نقصد ذكر
الجمل لا التفصيل، ولما ولد رسول الله صلى الله عَلَيْهِ
وسلم التمسوا له الرضعاء، فاسترضع له امرأة من بنى سعد بن
بكر ابن هوازن بن منصور، يقال لها: حليمة بنت أبى ذؤيب
واسمه الحارث، فليطلب خبرها من ترجمتها، ومن ترجمة أخته من
الرضاعة: الشيماء، فقد ذكرناهما.
قال ابن إسحاق:
قالت حليمة: «فلم نزل يرينا الله البركة ونتعرفها تعنى
برسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بلغ سنتين، فقدمنا به
على أمه ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة فلما
رأته قلنا لها: دعينا نرجع به هذه السنة الأخرى فانا نخشى
عليه وباء مكة، فسرحته معنا، فأقمنا به شهرين أو ثلاثة
فبينا هو خلف بيوتنا مع أخ له إذ جاء أخوه يشتد [1] ،
فقال: أخى القرشي قد جاء رجلان فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت
أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائما ممتقعا لونه، فاعتنقه
أبوه وقال: أي بنى، ما شأنك؟ فقال:
جاءني رجلان عليهما ثياب بياض فشقا بطني فاستخرجا منه شيئا
ثم رداه فقال أبوه: لقد خشيت أن يكون قد أصيب، فلنرده إلى
أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف، قالت: فاحتملناه فقالت أمه:
ما ردكما به فقد كنتما عليه حريصين؟ فقلنا: إن الله قد أدى
عنا وقضينا الّذي علينا، وإنا نخشى عليه الأحداث، فقالت:
اصدقانى شأنكما، فأخبرناها خبره، فقالت: أخشيتما عليه
الشيطان؟ كلا، والله إني رأيت حين حملت به أنه خرج منى نور
أضاءت له قصور الشام، فدعاه عنكما» .
وأرضعته أيضا ثويبة مولاة أبى لهب أياما قبل حليمة بلبن
ابن لها يقال له مسروح، وأرضعت قبله حمزة عمه، وأرضعت بعده
أبا سلمة بن عبد الأسد، ولما هاجر رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبعث إلى ثوبية بصلة وكسوة
حتى توفيت منصرفه من خيبر سنة سبع، فسأل عن ابنها مسروح
فقيل: توفى قبلها، فقال: هل ترك من قرابة؟ فقيل: لم يبق له
أحد.
__________
[1] اشتد في العدو: أسرع.
[أسد الغابة- كتاب الشعب]
(1/21)
ذكر وفاة أمه وجده
وكفالة عمه ابى طالب له
وبالإسناد عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بن أبي بكر [بن محمد [1]] بن عمرو بن حزم، قال:
قدمت آمنة بنت وهب أم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برسول الله صلّى الله عليه وسلم على
أخواله بنى عدي بن النجار المدينة، ثم رجعت فماتت بالأبواء
[2] ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن ست سنين، وقيل:
ماتت بمكة ودفنت في شعب بى دب، والأول أصح.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده
عبد المطلب قال: فحدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض
أهله قال: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، وكان
لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا لَهُ، وَكَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يأتى حتى يجلس عليه،
فيذهب أعمامه يؤخرونه، فيقول عبد المطلب:
دعوا ابني، ويمسح على ظهره، ويقول: إن لابني هذا لشأنا،
فتوفى عبد المطلب، والنبي ابن ثمان سنين، وكان قد كفّ بصره
قبل موته.
وكان عبد المطلب أول من خضب بالوسمة، ولما حضره الموت جمع
بنيه وأوصاهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاقترع
الزبير وأبو طالب أيهما يكفل رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، فأصابت القرعة أبا طالب فأخذه إليه، وقيل: بل اختاره
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزبير، وكان ألطف عميه
به، وقيل: أوصى عبد المطلب أبا طالب به، وقيل: بل كفله
الزبير حتى مات، ثم كفله أبو طالب بعده، وهذا غلط، لأن
الزبير شهد حلف الفضول بعد موت عبد المطلب، ولرسول الله
صلّى الله عليه وسلم يومئذ نيف وعشرون سنة.
وأجمع العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شخص مع عمه
أبى طالب إلى الشام بعد موت عبد المطلب بأقل من خمس سنين
فهذا يدل على أن أبا طالب كفله، ثم إن أبا طالب سار إلى
الشام وأخذ معه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وكان عمره اثنتي عشرة سنة وقيل: تسع سنين والأول
أكثر، فرآه بحيرا [3] الراهب، ورأى علائم النبوة، وكانوا
يتوقعون ظهور نبي من قريش، فقال لعمه: ما هذا منك؟ قال:
ابني، قال: لا ينبغي أن يكون أبوه حيا، قال: هو ابن أخى.
قال: إني لأحسبه الّذي بشر به عيسى فان زمانه قد قرب
فاحتفظ به، فرده إلى مكة.
ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد مع عمومته حرب
الفجار [4] ، يوم نخلة، وهو من أعظم أيام الفجار. والفجار
حرب كانت بين قريش ومعها كنانة، وبين قيس وقد ذكرناه في
الكامل، وهو من أعظم أيام العرب، وكان يناولهم النبل ويحفظ
متاعهم، وكان عمره يومئذ نحو عشرين سنة أو ما يقاربها.
__________
[1] عن سيرة ابن هشام: 1- 168.
[2] الأبواء: قرية، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة
ثلاثة وعشرون ميلا.
[3] في الروض الأنف 1- 118: «وقع في سير الزهري أن بحيرا
كان حبرا من يهود تيماء، وفي المسعودي أنه كان من عبد
القيس، واسمه سرجس» .
[4] في الروض الأنف 1- 120: «والفجار بالكسر بمعنى
المفاجرة، كالقتال والمقاتلة، وذلك أنه كان قتالا في الشهر
الحرام ففجروا فيه جميعا، فسمى الفجار وكانت العرب فجارات
أربع، ذكرها المسعودي» .
(1/22)
وقيل: إنه شهد يوم شمطة أيضا وهو من أعظم
أيام الفجار وكانت الهزيمة فيه على قريش وكنانة، قال
الزهري: لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا اليوم،
ولو شهده لم تنهزم قريش، وهذا ليس بشيء فإن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد انهزم أصحابه عنه يوم أحد، وكثر القتل
فيهم.
ذكر تزوج رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خديجة وذكر أولاده
قال: وأخبرنا يونس عن ابن إسحاق قال: وكانت خديجة بنت
خويلد امرأة ذات شرف ومال، تستأجر له الرجال، أو تضاربهم
بشيء تجعله لهم منه، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم
أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام
مع غلام لها يقال له: ميسرة، فقبله منها رَسُول اللَّه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج في مالها إلى
الشام، فرآه راهب اسمه نسطور، فأخبر ميسرة أنه نبي هذه
الأمة، ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم واشترى ما
أراد، ثم أقبل قافلا، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعته
فأضعف أو قريبا، وحدثها ميسرة عن قول الراهب، فأرسلت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد رغبت فيك، لقرابتك
مني، وشرفك وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك، وعرضت عليه
نفسها، فخطبها وتزوجها على اثنتي عشرة أوقية ونش [1]
والأوقية أربعون درهما. وقد ذكرنا ذلك في ترجمة خديجة رضى
الله عنها.
وولد له من الولد بناته كلهن، وأولاده الذكور كلهم من
خديجة إلا إبراهيم، فأما البنات فزينب ورقية وأم كلثوم
وفاطمة، رضى الله عنهن، وأما الذكور فالقاسم، وبه كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يكنى، والطاهر والطيب وقيل:
القاسم والطاهر، وعبد الله وهو الطيب لأنه ولد في الإسلام،
وقيل:
القاسم وعبد الله وهو الطاهر والطيب، فمات القاسم بمكة وهو
أول من مات من ولده، ثم عبد الله قاله الزبير بن بكار. وقد
ذكرت في خديجة وفي بناته- رضى الله عنهن- أكثر من هذا.
ولما تزوج خديجة كان عمره خمسا وعشرين سنة، وكانت هي ابنة
أربعين سنة، وقيل غير ذلك.
ذكر بناء الكعبة ووضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحجر
الأسود
قال ابن إسحاق: كانت الكعبة رضما [2] فوق القامة، فأرادت
قريش أن يهدموها ويرفعوها ويسقفوها، وكانوا يهابون هدمها،
فاتفق أن نفرا من قريش سرقوا كنز الكعبة، وكان [3] يكون في
جوف الكعبة، وكان البحر قد ألقى سفينة إلى جدة لرجل من
الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها، فاجتمعت قريش
على هدمها، وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة، ورسول صلّى
الله عليه وسلم إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة، فلما أجمعوا
على هدمها قام أبو وهب بْن عَمْرو بْن عائذ بْن عمران
__________
[1] هو: نصف الأوقية.
[2] الرضم: أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير ملاط.
[3] عبارة ابن إسحاق في السيرة 1- 193: «وإنما كان يكون في
بئر في جوف الكعبة» ، أي: كان يوجد.
(1/23)
ابن مخزوم، وهو جد سعيد [1] بن المسيب بن
حزن بن أبى وهب، فتناول حجرا من الكعبة فوثب من يده فرجع
إلى موضعه، فقال يا معشر قريش، لا تدخلن في بنيانها من
كسبكم إلا طيبا، ولا تدخلوا فيها مهر بغى [2] ، ولا ربا
[3] ولا مظلمة.
وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال هذا.
فهدموها واقتسمت قريش عمارة البيت، فكان الباب لبني عبد
مناف وبنى زهرة، وكان ما بين الركن الأسود واليماني لبني
مخزوم وتيم وقبائل من قريش، وكان ظهرها لسهم وجمح، وكان شق
الحجر لبني عبد الدار وبنى أسد، وبنى عدي بن كعب فبنوا حتى
بلغ البناء موضع الركن [4] ، فكانت كل قبيلة تريد أن ترفعه
حتى تجاذبوا وتخالفوا وأعدوا للقتال، فبقوا أربع ليال أو
خمس ليال، فقال أبو أمية المخزومي: يا معشر قريش، اجعلوا
بينكم أول من يدخل من باب المسجد، فلما توافقوا على ذلك
ورضوا به، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فقالوا: هذا الأمين قد رضينا به، فلما انتهى
إليهم أخبروه الخبر، فقال: هلموا ثوبا، فأتوه به، فوضع
رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فيه بيده، ثم قال:
لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوا جميعا، فرفعوه
حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، ثم بنى عليه. وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يسمى في الجاهلية: الأمين، قبل أن
يوحى إليه.
وقيل: كان سبب بنائها أن السيل ملأ الوادي، ودخل الكعبة
فتصدعت، فبنتها قريش.
وقيل: إن الّذي أشار بأول من يدخل أبو حذيفة بن المغيرة،
وكانت هذه فضيلة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى سائر قريش، ومما قدمه الله له قبل المبعث
من الكرامة.
ذكر المبعث
قَالُوا: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم، وله أربعون سنة، وذلك في ملك أبرويز بن هرمز بن كسرى
أنوشروان ملك الفرس.
وقال ابن المسيب: بعثه الله، عز وجل، وله ثلاث وأربعون
سنة، فأقام بمكة عشرا، وبالمدينة عشرا.
وقال ابن إسحاق: بعثه الله وله أربعون سنة، فأقام بمكة
ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشرا.
وقيل: إنه كتم أمره ثلاث سنين، فكان يدعو مستخفيا إلى أن
أنزل الله تعالى «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
26: 214 [5] » فأظهر الدعوة.
__________
[1] كان من أعلام التابعين، قال عنه على بن المديني: «لا
أعلم في التابعين أوسع علما منه، وهو عندي أجل التابعين،
توفى سنة 93، أو 94، ينظر العبر للذهبى: 1- 110.
[2] البغي: الزانية.
[3] عبارة السيرة 1- 194: «ولا بيع ربا» قال السهيليّ في
الروض 1- 131: «يدل على أن الربا كان محرما عليهم من في
الجاهلية، كما كان الظلم والبغاء وهو الزنا، محرم عليهم،
يعلمون ذلك ببقية من بقايا شرع إبراهيم عليه السلام» .
[4] يعنى بالركن الحجر الأسود، سمى بذلك لأنه مبنى في
الركن.
[5] الشعراء: 214.
[أسد الغابة- كتاب الشعب]
(1/24)
قال أبو عمر: بعثه الله، عز وجل، نبيا يوم
الإثنين لثمان من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام
الفيل.
أخبرنا أبو جعفر عبيد الله بن أحمد بإسناده عن يونس عن ابن
إسحاق، حدثني عبد الملك بن عبد الله [1] ابن أبى سفيان بن
جارية الثقفي- وكان واعية- عن بعض أهل العلم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته [2] وابتدأه
بالنّبوّة فكان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع
منه، فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، وعن يمينه
وشماله، فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة، وهي تقول:
السلام عليك يا رسول الله.
وأخبرنا غَيْرُ وَاحِدٍ بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أخبرنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث،
عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قالت: «أول ما بدئ
به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة
في النوم كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب
إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد-
الليالي ذوات العدد، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء،
فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني
فغطني [3] حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ فقلت:
ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ منى
الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ فأخذني
فغطني الثالثة، ثم أرسلنى فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ من عَلَقٍ. اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 96: 1- 3 [4] فرجع بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة، وذكر
الحديث في ذهابها إلى ورقة بن نوفل.
وروى عن جابر باسناد صحيح: أن أول ما نزل من القرآن «يا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 74: 1» .
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَر بِإِسْنَادِهِ عَنْ يونس، عَنِ
ابن إسحاق قال: فابتدئ رسول الله صلّى الله عليه وسلم
بالتنزيل يوم الجمعة في رمضان بقول الله، عز وجل، «شَهْرُ
رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ 2: 185» إلى
آخر الآية [5] . وقال تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلى
عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ
8: 41 [6] وذلك ملتقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
والمشركين يوم بدر صبيحة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان.
وقال يونس عن بشر بن أبى حفص الكندي الدمشقيّ قال: حدثني
مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «لا
يغادرنك صيام يوم الإثنين فانى ولدت يوم الاثنين، وأوحى
إلى يوم الاثنين، وهاجرت يوم الاثنين» . ثم إن جبريل عليه
السلام علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم الوضوء، والصلاة
ركعتين، فأتى خديجة فأخبرها، فتوضأت وصلت ركعتين معه،
وقيل: كانت الصلاة الضحى والعصر.
__________
[1] في شرح السيرة 1- 234، عبيد الله.
[2] في شرح السيرة: «أراده الله بكرامته» .
[3] الغط: العصر الشديد.
[4] العلق: 1، 2، 3.
[5] البقرة: 185.
[6] الأنفال: 41.
(1/25)
ثم دعا الناس إلى الإسلام، وقد ذكرنا أول
من أسلم في أبى بكر، وعلى، وزيد بن حارثة، واستجاب له نفر
من الناس سرا حتى كثروا فظهر أمرهم، والوجوه من كفار قريش
غير منكرين لما يقول، وكان إذا مر بهم يقولون: «إن محمدا
يكلم من السماء» فلم يزالوا كذلك، حتى أظهر عيب آلهتهم،
وأخبرهم أن آباءهم ماتوا على الكفر والضلال، وأنهم في
النار، فعادوه وأبغضوه، وآذوه، وكان أصحابه إذا صلوا
انطلقوا إلى الأودية وصلوا سرا، ولما أظهرت قريش عداوته
حدب عليه أبو طالب عمه ونصره ومنعه، ثم أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لما خاف كفار قريش، اختفى هو ومن معه في
دار الأرقم بن أبى الأرقم المخزومي إلى أن أسلم عمر
فخرجوا، ووثبت قريش على من فيها من المستضعفين فعذبوهم،
وذكرنا ذلك في أسمائهم مثل: بلال، وعمار، وصهيب وغيرهم، ثم
إن المسلمين هاجروا إلى الحبشة هجرتين عَلَى ما نذكره، إن
شاء اللَّه تَعَالى، وأرادت قريش قُتِلَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن يترك أبو طالب
بينهم وبينه، فلم يفعل فكتبوا صحيفة. على أن يقاطعوا بنى
هاشم وبنى المطلب ومن أسلم معهم ولا يناكحوهم ولا يبايعوهم
ولا يكلموهم ولا يجلسوا إليهم عَلَى ما نذكره، إن شاء
اللَّه تَعَالى.
ذكر وفاة خديجة وابى طالب
وذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعوده
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زالت قريش كاعة [1]
عنى حتى مات عمى أبو طالب» . وفي السنة العاشرة أول ذي
القعدة وقيل: النصف من شوال توفى أبو طالب وكان عمره بضعا
وثمانين سنة، ثم توفيت بعده خديجة بثلاثة أيام، وقيل بشهر،
وقيل: كان بينهما شهر وخمسة أيام، وقيل: خمسون يوما ودفنها
رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحجون [2] ، ولم تكن
الصلاة على الجنائز يومئذ، وقيل: إنها ماتت قبل أبى طالب
وكان عمرها خمسا وستين سنة، وكان مقامها مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعد ما تزوجها أربعا وعشرين سنة وستة أشهر،
وكان موتها قبل الهجرة بثلاث سنين وثلاثة أشهر ونصف، وقيل:
قبل الهجرة بسنة، والله أعلم.
قال عروة: ما ماتت خديجة إلا بعد الإسراء، وبعد أن صلت
الفريضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم، ولما اشتد
بأبي طالب مرضه دعا بنى عبد المطلب فقال: إنكم لن تزالوا
بخير ما سمعتم قول محمد واتبعتم أمره فاتبعوه وصدقوه
ترشدوا.
أخبرنا عبيد الله بن أحمد بإسناده عن يونس بن بكير عن ابن
إسحاق قال: ثم إن خديجة وأبا طالب ماتا في عام واحد
فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب، وكانت
خديجة وزير صدق على الإسلام، وكان يسكن إليها [3] ، ولم
يتزوج عليها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حتى ماتت.
ولما توفيا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
لثلاث بقين من شوال سنة عشر من المبعث، ومعه مولاه زيد بن
حارثة، يدعوهم إلى الإسلام فآذته ثقيف وسمع منهم ما يكره،
وأغروا به سفهاءهم، وذكرنا القصة في «عداس» وغيره، ولما
عاد من الطائف أرسل إلى المطعم بن عدي يطلب منه أن يجيره،
__________
[1] كع: جبن.
[2] جبل بمعلاة مكة.
[3] في شرح السيرة 1- 416: «وزير صدق على الإسلام، يشكو
إليها» [أسد الغابة- كتاب الشعب]
(1/26)
فأجاره فدخل المسجد معه، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يشكرها له، وكان دخوله من الطائف لثلاث
وعشرين ليلة خلت من ذي القعدة.
ذكر الإسراء
أسري بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقد اختلفوا في
المكان الّذي أسرى به منه فقيل: المسجد. وقيل: كان في
بيته. وقيل: كان في بيت أم هانئ ومن قال هذين قال: المدينة
كلها مسجد.
واختلفوا في الوقت الذي أسرى به فيه، فروى عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده أنه أسرى به ليلة سبع من ربيع الأول قبل
الهجرة بسنة، وقال ابن عباس وأنس: أسرى به قبل الهجرة
بسنة. وقال السدي:
قبل الهجرة بستة أشهر. وقال الواقدي: أسرى به لسبع عشرة من
رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، وقيل: أسرى به في رجب.
أخبرنا أَبُو الْفَرَجِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي العز الواسطي، والحسين بن صالح بن فنا خسرو
التكريتي وغيرهما، قالوا بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا هدبة بن خالد، حدثنا
همام بن يحيى، حدثنا قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،
عَنْ مَالِكِ بن صعصعة أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثهم عن ليلة أسرى به قال:
«بينما أنا في الحطيم- وربما قال في الحجر- مضطجعا إذ
أتانى آت فقدّ قال، وسمعته يقول: فشقّ ما بين هذه إلى هذه
فقلت للجارود- وهو إلى جنبي- ما يعنى؟ قال من ثغرة نحره
إلى شعرته فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة
إيمانا، فغسل قلبي، ثم حشى ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون
البغل وفوق الحمار أبيض، فقال له الجارود: هو البراق يا
أبا حمزة؟ قال: نعم، يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه،
فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح قيل: مَنْ
هَذَا؟ قَالَ:
جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: محمد. قيل: أوقد
أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا، فنعم المجيء جاء» . وذكر
الحديث في صعوده إلى السماء السابعة وإلى سدرة المنتهى
قال: «فمررت على موسى فقال لي: بم أمرت؟ قلت أمرت بخمسين
صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك قد جربت بنى
إسرائيل قبلك، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت
فوضع عنى عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت فوضع عنى
عشرا، فرجعت إلى موسى فأخبرته، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك.
فلم أزل بين ربى وموسى حتى جعلها خمسا، فقال موسى: إن أمتك
لا تطيق ذلك فسله التخفيف، قال: قلت قد سألت ربى حتى
استحييت، فلما جاوزت نادى مناد: قد أمضيت فريضتي، وخففت عن
عبادي» . قال أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري قالوا: قرض
على رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين ركعتين ثم
أتمت صلاة المقيم أربعا، وبقيت صلاة المسافر على حالها،
وذلك قبل قدوم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم إلى المدينة مهاجرا بشهر.
(1/27)
الهجرة إلى المدينة
لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما
نذكره، إن شاء الله تعالى، أمر أصحابه فهاجروا إلى
المدينة، وبقي هو وأبو بكر وعلى فخرج هو وأبو بكر مستخفيين
من قريش فقصدا غارا بحبل ثور، فأقاما به ثلاثة، وقيل أكثر
من ذلك ثم سارا إلى المدينة ومعهما عامر بن فهيرة مولى أبى
أبي بكر، ودليلهم عبد الله بن أريقط، وكان مقامه بمكة عشر
سنين، وقيل ثلاث عشرة سنة، وقيل خمس عشرة سنة، والأكثر
ثلاث عشرة سنة. وكان قدوم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة في قول ابن إسحاق يوم
الإثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، وقال الكلبي: خرج
من الغار أول ربيع الأول، وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت
منه يوم الجمعة، والله تعالى أعلم.
ذكر الحوادث بعد الهجرة
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ أَبِي الرَّجَاءِ
الأَصْبَهَانِيُّ، أخبرنا الأديب أبو الطيب طلحة بن أبى
منصور الحسين ابن أبى ذر الصالحانى، أخبرنا جدي أبو ذر
محمد بن إبراهيم سبط الصالحانى، أخبرنا أبو الشيخ الحافظ،
حدثنا ابن أبى حاتم، حدثنا الفضل بن شاذان، حدثنا محمد بن
عمرو زنيج، حدثنا أبو زهير، حدثنا الحجاج بن أبى عثمان
الصواف عن أبى الزبير عن جابر قال: غزا رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى وعشرين غزوة
بنفسه، شهدت منها تسع عشرة غزوة وغبت عن اثنتين.
أخبرنا عبيد الله بن أحمد بن علي بإسناده، عن يونس عن ابن
إسحاق قال: فجميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بنفسه ست وعشرون غزوة.
وأول غزوة غزاها «ودّان [1] » وهي الأبواء قال ابن إسحاق:
وكان آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عليه وسلم حتى قبضه الله تعالى تبوك، وبالإسناد عن
ابن إسحاق قال: وكانت سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وبعوثه فيما بين أن قدم المدينة إلى أن قبضه الله خمسة
وثلاثين من بعث وسرية.
وفي السنة الأولى من الهجرة بعد شهر من مقدمه المدينة،
جعلت الصلاة أربع ركعات، وكانت ركعتين.
وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة لما ارتحل
من قباء إلى المدينة، صلاها في طريقه في بنى سالم وهي أول
جمعة صليت، وخطبهم وهي أول خطبة في الإسلام.
وفيها بنى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مسجده ومساكنه ومسجده قباء.
وفيها أرى عبد الله بن زيد الأذان [2] ، فعلمه بلالا
المؤذن.
وفيها آخى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بين المهاجرين والأنصار، بعد ثمانية أشهر.
وفي السنة الثانية كانت غزوة بدر العظمى في شهر رمضان.
__________
[1] هي أول غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سنة اثنتين من الهجرة، ولم
يلق فيها حربا.
[2] ينظر خبر الأذان في سيرة ابن هشام: 1- 508. والطبقات
الكبرى، الجزء الأول: 2- 7.
(1/28)
وفيها، في شعبان، فرض صوم رمضان، وَأَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بزكاة
الفطر.
وفيها، في شعبان، أيضا صرفت القبلة عن البيت المقدس إلى
الكعبة، وقيل في رجب.
وفيها فرضت زكاة الفطر قبل العيد بيومين.
وفيها ضحى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وخرج بالناس إلى المصلى، وذبح
بيده شاتين، وقيل شاة، وفي السنة الثالثة كانت غزوة أحد في
شوال، وفيها، وقيل سنة أربع، حرمت الخمر في ربيع الأول وفي
سنة أربع صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في
غزوة ذات الرقاع، وقيل: إن فيها قصرت الصلاة. وفيها رجم
رسول الله صلّى الله عليه وسلم اليهودي واليهودية والقصة
معروفة [1] .
وفيها نزلت آية التيمم [2] .
وفي سنة خمس نزلت آية الحجاب [3] في ذي القعدة.
وفيها زلزلت الْمَدِينَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ»
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن الله عز وجل يستعتبكم
فأعتبوه» [4] وفيها كانت غزوة الخندق.
وفي سنة ست قال أهل الإفك ما قالوا في غزوة بنى المصطلق
[5] .
وفيها قال عبد الله بن أبى بن سلول رأس المنافقين: «لَئِنْ
رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الْأَذَلَّ [6] .» 63: 8 وفيها كسفت الشمس، فصلى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة
الكسوف وهي أول ما صليت.
وفيها في ذي القعدة اعتمر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرة الحديبيّة، وبايع بيعة الرضوان
تحت الشجرة.
وفيها قحط الناس فاستسقى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُمْ المطر ودام، فقال له رجل:
يا رسول الله، انقطعت الطرق وتهدمت المنازل فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم «اللَّهمّ حوالينا ولا علينا» فانقشع
السحاب عن المدينة.
وفيها سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرواحل،
فسبق قعود لرجل من العرب القصواء ناقة رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولم تكن تسبق قبلها، فاشتد ذلك على المسلمين،
فقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «حق
على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه» . وفيها
أيضا سابق بين الخيل، فسبق فرس لأبى بكر فأخذ السبق وهذان
أول مسابقة كانت في الإسلام وفي سنة سبع اعتمر رسول الله
عمرة القضاء، قضاء عن عمرة الحديبيّة، حيث صده المشركون،
فاضطبع [7] فيها رسول الله والمسلمون ورملوا، وهو أول
اضطباع ورمل كان في الإسلام.
__________
[1] ينظر الخبر في سيرة ابن هشام: 1- 565، والروض الأنف:
2- 42.
[2] المائدة: 6.
[3] الأحزاب: 3.
[4] استعتبه: طلب أن يرضى عنه، وأعتبه: رضى عنه، كما يقال:
استرضيته فأرضانى.
[5] ينظر إمتاع الأسماع: 215، والروض الأنف: 2- 220.
[6] المنافقون: 8.
[7] اضطباع المحرم: هو إدخال الرداء من تحت الابط الأيمن،
ورد طرفه على يساره، وإظهار منكبه الأيمن، وتغطية الأيسر.
(1/29)
وفيها كانت غزوة خيبر.
وفيها سم صلّى الله عليه وسلم، سمته امرأة اسمها زينب
امرأة سلام [1] بن مشكم، أهدت له شاة مسمومة فأكل منها.
وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسل إلى الملوك:
كسرى وقيصر والنجاشي وملك غسان وهوذة بن على، واتخذ رسول
الله صلّى الله عليه وسلم الخاتم وختم به الكتب التي سيرها
إلى الملوك.
وفيها حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحوم الحمر
الأهلية، ومتعة النساء يوم خيبر.
وفي سنة ثمان عمل مِنْبَرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخطب عليه، وكان يخطب إلى جزع فحن
الجذع حتى سمع الناس صوته، فنزل اليه فوضع يده عليه فسكن،
وهو أول منبر عمل في الإسلام.
وفيها أقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من هذيل
برجل من بنى ليث، وهو أول قود كان في الإسلام.
وفيها فتح رَسُول اللَّهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم مكة،
وحصر الطائف، ونصب عليه المنجنيق وهو أول منجنيق نصب في
الإسلام.
وفي سنة تسع آلى رسول الله من نسائه، وأقسم أن لا يدخل
عليهنّ شهرا، والقصة مشهورة.
وفيها هدم رسول الله مسجد الضرار بالمدينة، وكان المنافقون
بنوه، وكان هدمه بعد عود رسول الله صلى الله عليه وسلم من
تبوك.
وفيها قدمت الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل
النواحي وكانت تسمى سنة الوفود.
وفيها لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عويمر
العجلاني، وبين امرأته في مسجده بعد العصر في شعبان، وكان
عويمر قدم من تبوك فوجدها حبلى.
وفيها في شوال مات عبد الله بن أبى بن سلول المنافق، فصلى
عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم ولم يصل
بعدها على منافق، لأن الله أنزل «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ
مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً 9: 84 [2] » .
وفيها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج،
فحج بالناس، وأمر على بن أبى طالب أن يقرأ سورة براءة على
المشركين وينبذ إليهم عهدهم، وأن لا يحج بعد العام مشرك،
ولا يطوف بالبيت عريان، وهي آخر حجة حجها المشركون. وفي
سنة عشر نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ
مَرَّاتٍ 24: 58 [3] وكانوا لا يفعلونه قبل ذلك.
وفيها حج رَسُول اللَّهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم حجة
الوداع، وقيل: إنه اعتمر معها، ولم يحج رسول الله بعد
الهجرة غيرها.
__________
[1] سلام: بالتخفيف كسحاب، وبالتشديد، ينظر تاج العروس،
ومشكم كمنبر، كان خمارا في الجاهلية، وذكره ابن إسحاق في
السيرة: 1- 514، 547، 570.
[2] التوبة: 84.
[3] النور: 58.
[أسد الغابة- كتاب الشعب]
(1/30)
ذكر صفته وشيء من
أخلاقه صلى الله عليه وسلم
أخبرنا الحسين بن توحن بن أبوية بن النعمان الباورى، وأحمد
بن عثمان بن أبي علي، قالا: أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد
الواحد بن محمد النيلي الأصفهاني، أخبرنا أبو القاسم أحمد
بن منصور الخليلي البلخي، أخبرنا أبو القاسم عَليّ بن أحمد
بن مُحَمَّد الخزاعي، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب
الشاشي، حدثنا محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، حَدَّثَنَا
سفيان بن وكيع، حَدَّثَنَا جميع بن عمر بن عبد الرحمن
العجليّ، حدثني رجل من وفد أبي هالة زوج خديجة، يكنى: أبا
عبد الله، عن ابن أبي هالة، عن الْحَسَن بن على رضى الله
عنهما قَالَ:
سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصافا، عن حلية رسول الله
صلى الله عَلَيْهِ وسلم وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا
أتعلق بِهِ، فقال:
كَانَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم فخما [1] مفخما،
يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع
وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إن انفرقت
عقيصته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هُوَ
وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ فِي غير
قرن، بينهما عرق يدره الغضب أقنى العرنين، لَهُ نور يعلوه،
يحسبه من لَمْ يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع
الفم، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية فِي
صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصدر،
بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول
ما بين السرة واللبة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن
مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالى الصدر، رحب
الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، أو سائن
الأطراف، خمصان، الأخمصين مسيح القدمين ينبو عنهما الماء
إذا زال زال قلعا يخطو تكفيا، ويمشي هونا ذريع المشية، إذا
مشى كأنما ينحط من صبب، وَإِذَا التفت التفت جميعا، خافض
الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره
الملاحظة يسوق أصحابه، يبدر من لقي بالسلام.
قال: وحدثنا محمد بن عيسى، أحمد بن عبدة الضبيّ، وعلى بن
حجر، وأبو جعفر محمد بن الحسين وهو ابن أبى حليمة، المعنى
واحد، قالوا حدثنا عيسى بن يونس، عن عمر بن عبد الله مولى
غفرة، حدثنا إبراهيم بن محمد من ولد على بن أبى طالب قال:
كان على رضى الله عنه إذا وصف رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: لم يكن بالطويل الممغط ولا بالقصير المتردد، كان
ربعة من القوم، لم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط، كان جعدا
رجلا، ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم كان في وجهه تدوير
أبيض مشرب، أدعج العينين أهدب الأشفار، جليل المشاش
والكتد، أجرد ذو مسربة، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع
كأنما ينحط من صبب، إذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم
النبوة، وهو خاتم النبيين، أجرأ الناس صدرا وأصدق الناس
لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه،
ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده
مثله صلّى الله عليه وسلم.
__________
[1] سيشرح المؤلف هذه الكلمات الغريبة بعد ذلك.
(1/31)
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مَحْمُودِ بْنِ
سَعْدٍ الأَصْفَهَانِيُّ، أخبرنا أبو الطيب طلحة بن أبى
منصور الحسين بن أبى الصالحانى، أخبرنا جدي أبو ذر محمد بن
إبراهيم سبط الصالحانى الواعظ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابن جعفر أبو
الشيخ، حدثنا محمد بن العباس بن أيوب، حدثنا عبيد بن
إسماعيل الهبارى من كتابه (ح) قال أبو الشيخ: وحدثنا إسحاق
بن جميل حدثنا سفيان بن وكيع قالا: حدثنا جميع بن عمر
العجليّ، حَدَّثَنِي رجل من بني تميم من ولد أبى هالة زوج
خديجة عن ابن أبي هالة عن الْحَسَن بن على قال: سألت خالي
عن دخول [1] النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: كان دخوله
لنفسه مأذون له في ذلك، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله
ثلاثة أجزاء: جزءا للَّه، عز وجل، وجزءا لأهله وجزءا
لنفسه، ثم يجعل جزءه بينه وبين الناس، فيرد ذلك على العامة
بالخاصة، ولا يدخر عنهم شيئا.
فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل على قدر
فضائلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين،
ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة
عن مسألتهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: «ليبلغ
الشاهد الغائب، وأبلغونى حاجة من لا يقدر على إبلاغي حاجته
فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبت
الله قدميه يوم القيامة» لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من
أحد غيره، يدخلون روادا ولا يتفرقون إلا عن ذواق [2]
ويخرجون أدلة [3] .
قال: فسألته عن مخرجه: كيف كان يصنع فيه؟ فقال:
كَانَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يخزن لسانه إلا
فيما يعنيه أو يعنيهم، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل
قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن
يطوى عن أحد منهم بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل عما
في الناس، يحسّن الحسن ويقوّيه، ويقبّح القبيح ويوهيه.
معتدل الأمر غير مختلف، لا يميل مخافة أن يغفلوا ويميلوا،
لا يقصر عن الحق ولا يتجاوزه، الذين يلونه من الناس
خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة
أحسنهم مواساة ومؤازرة.
فسألته عن مجلسه فقال:
كَانَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم لا يجلس ولا يقوم
إلا على ذكر الله عز وجل، ولا يوطن الأماكن وينهى عن
إيطانها [4] وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهى به المجلس،
ويأمر بذلك، ويعطى كل جلسائه نصيبه، لا يحسب أحد من جلسائه
أن أحدا أكرم عليه منه من جالسه أو قاومه لحاجة سايره حتى
يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم ينصرف إلا بها، أو
بميسور من القول، قد وسع الناس خلقه فصار لهم أبا، وصاروا
عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة
وصدق، لا ترفع فيه
__________
[1] أي عن دخوله منزله.
[2] أي لا ينصرفون عنه إلا بعد أن يتذوقوا العلم والأدب.
[3] هو جمع دليل، أي: بما قد علموه فيدلون عليه الناس،
يعنى يخرجون من عنده فقهاء.
[4] أي لا يتخذ لنفسه مجلسا يعرف به.
(1/32)
الأصوات ولا تئوبن فيه الحرم [1] ، ولا
تنثى [2] فلتاته، معتدلين يتواصون فيه بالتقوى، متواضعين
يوقرون فيه الكبير ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة
ويحفظون الغريب.
قلت: كيف كانت سيرته في جلسائه؟ قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق،
لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب [3] في الأسواق،
ولا فاحش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا
يؤيس منه ولا يحبب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء،
والإكثار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم
أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو
ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رءوسهم الطير،
وإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم
أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما
يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على
الجفوة في منطقه ومسألته حتى كان أصحابه يستجلبونهم فيقول:
إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثناء إلا
من مكافئ [4] ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه
بنهي أو قيام.
قال: فسألته كيف كان سكوته؟ فقال:
كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربع، على
الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكير فأما تقديره ففي تسوية
النظر والاستماع من الناس، وأما تفكيره ففيما يبقى ويفنى،
وجمع له الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه، وجمع
له الحذر في أربعة: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح
ليتناهى عنه، واجتهاده الرأى فيما أصلح أمته، والقيام فيما
هو خير لهم، وفيما جمع لهم خير الدنيا والآخرة.
تفسير غريبه
كان فخما مفخما: أي كان جميلا مهيبا، مع تمام كل ما في
الوجه، من غير ضخامة ولا نقصان.
والمشذب: المفرط في الطول ولا عرض له، وأصله النخلة إذا
جردت عن سعفها كانت أفحش في الطول، يعنى أن طوله يناسب
عرضه.
وقوله عظيم الهامة: أي تام الرأس فِي تدويره.
والرجل: بين القطط والسبط.
والعقيصة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي الشعر المجموع في القفا
من الرأس، يريد: إن تفرق شعره بعد ما جمعه وعقصه فرق-
بتخفيف الراء- وترك كل شيء في منبته، وقال ابن قتيبة: كان
هذا أول الإسلام ثم فرق شعره بعد.
والأزهر: هو الأنور الأبيض المشرق، وجاء في الحديث الآخر:
أبيض مشربا حمرة، ولا تناقض يعنى ما ظهر منه للشمس مشرب
حمرة، وما لم يظهر فهو أزهر.
__________
[1] أي: لا يذكرن بقبيح، كان يصان مجلسه عن رفث القول.
[2] الفلتات جمع فلتة، وهي الزلة أراد أنه لم يكن لمجلسه
فلتات فتذاع.
[3] أي: صياح.
[4] المعنى: لا يقبل الثناء عليه إلا من رجل يعرف حقيقة
إسلامه، أو: لا يقبل الثناء إلا من مقارب في مدحه غير
مجاوز الحد.
(1/33)
وقوله: أزج الحواجب في غير قرن، يعنى أن
حاجبيه طويلة سابغة غير مقترنة. أي ملتصقة في وسط أعلى
الأنف، بل هو أبلج: والبلج بياض بين الحاجبين، وإنما جمع
الحواجب لأن كل اثنين فما فوقهما جمع، قال الله تعالى:
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ 21: 78 [1] يعنى: داود
وسليمان، وأمثاله كثير.
وقوله: بينهما عرق يدره الغضب أي إذا غضب النبي امتلأ
العرق دما فيرتفع.
وقوله: أقنى العرنين، فالعرنين: الأنف والقنا: طول في
الأنف مع دقة الأرنبة، والأشم:
الدقيق الأنف المرتفعة يعنى أن القنا الّذي فيه ليس بمفرط.
سهل الحدين، يريد: ليس فيهما نتوء وارتفاع، وقال بعضهم:
يريد أسيل الخدين.
والضليع الفم: أي الواسع وكانت العرب تستحسنه. والأسنان
المفلجة: أي المتفرقة.
والمسربة: الشعر ما بين اللبة إلى السرة. والجيد: العنق.
والدمية: الصورة.
وقوله: معتدل الخلق أي: كل شيء من بدنه يناسب ما يليه في
الحسن والتمام.
والبادن: التام اللحم، والمتماسك: الممتلئ لحما غير مسترخ.
وقوله: سواء البطن والصدر: أي ليس بطنه مرتفعا ولكنه مساو
لصدره.
والكراديس، رءوس العظام مثل الركبتين والمرفقين وغيرهما.
والمتجرد: أي ما تستره الثياب من البدن فيتجرد عنها في بعض
الأحيان يصفها بشدة البياض وقوله: رحب الراحة: يكنون به عن
السخاء والكرم. والشثن: الغليظ. وقوله: خمصان الأخمصين
فالأخمص وسط القدم من أسفل، يعنى أن أخمصه مرتفع من الأرض
تشبيها بالخمصان، وهو ضامر البطن.
وقوله مسيح القدمين: أي ظهر قدميه ممسوح أملس لا يقف عليه
الماء.
وقوله: زال قلعا إن روى بفتح القاف كان مصدرا بمعنى
الفاعل، أي: يزول قالعا لرجله من الأرض، وقال بعض أهل
اللغة بضم القاف، وحكى أبو عبيد الهروي [2] أنه رأى بخط
الأزهري بفتح القاف وكسر اللام غير أن المعنى فيه ما
ذكرناه، وأنه عليه السلام كان لا يخط الأرض برجليه.
وقوله: تكفيا، أي: يميد في مشيته.
والذريع: السريع المشي، وقد كان يتثبت في مشيته ويتابع
الخطو ويسبق غيره، وورد في حديث آخر: كان يمشى على هينة
وأصحابه يسرعون فلا يدركونه. والصبب: الحدور وقوله: يسوق
أصحابه: أي يقدمهم بين يديه.
وقوله: يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، قيل: إنه كان يتشدق
في كلامه، بأن يفتح فاه كله ويتقعّر في الكلام [3] .
__________
[1] الأنبياء: 78.
[2] ينظر النهاية لابن الأثير: قلع.
[3] في النهاية: الأشداق: جوانب الفم، وإنما يكون ذلك لرحب
شدقيه، والعرب تمتدح بذلك.
(1/34)
وأشاح: أي أعرض، وترد بمعنى جد وانكمش.
وقوله: فيرد ذلك على العامة بالخاصة: يعنى أن الخاصة تصل
إليه فتستفيد منه، ثم يردون ذلك إلى العامة، ولهذا كان
يقول: ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى.
يحذر الناس: أكثر الرواة على فتح الياء والذال والتخفيف،
يعنى يحترس منهم، وإن روى بضم الياء وتشديد الذال وكسرها
فله معنى، أي: إنه يحذر بعض الناس من بعض.
وقوله: لا يوطن الأماكن: يعنى لا يتخذ لنفسه مجلسا لا يجلس
إلا فيه، وقد فسره ما بعده.
قاومه: أي قام معه.
وقوله: لا تؤبن فيه الحرم، أي: لا يذكرن بسوء، وقوله: ولا
تنثى فلتاته أي: لا تذكر، والفلتات هو ما يبدر من الرجل،
والهاء عائدة إلى المجلس.
وقوله لا يتفرقون إلا عن ذواق: الأصل فيه الطعام إلا أن
المفسرين حملوه على العلم والخير لان الذوق قد يستعار. قال
الله تعالى فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
16: 112 [1] أي لا يقومون من عنده إلا وقد استفادوا علما
وخيرا.
والممغط: الذاهب طولا، يقال: تمغط في نشابته [2] : مدها
مدا شديدا، فعلى هذا هو فعّل، وقيل: هو انفعل فأدغم، يقال:
مغطه فانمغط وامتغط أي امتد.
والمطهم: البادن الكثير اللحم. والمكلثم المدور الوجه،
وقيل: المكلثم من الوجه القصير الحنك الداني الجبهة
المستدير الوجه، والجمع بين هذا وبين قوله: في وجهه تدوير
وقوله سهل الخدين أنه لم يكن بالأسيل جدا، ولا المدور مع
إفراط التدوير، بل كان بينهما، وهو أحسن ما يكون.
ذكر جمل من أخلاقه ومعجزاته
صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعبد الناس، قام في
الصلاة حتى تفطرت قدماه [3] ، وكان أزهد الناس لا يجد في
أكثر الأوقات ما يأكل، وكان فراشه محشوا ليفا، وربما كان
كساء من شعر.
وكان أحلم الناس يحب العفو والستر ويأمر بهما، وكان أجود
الناس قالت عائشة: «كَانَ عند النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستة دنانير فأخرج أربعة وبقي ديناران،
فامتنع منه النوم، فسألته فأخبرها، فقالت: إذا أصبحت فضعها
في مواضعها، فقال: ومن لي بالصبح» وما سئل شيئا قط فقال:
لا. وكان أشجع الناس قال على: «كنا إذا احمر البأس اتقينا
برسول الله صلّى الله عليه وسلم فكان أقربنا إلى العدو» .
وكان متواضعا في شرفه وعلو محله كانت الوليدة من ولائد
المدينة تأخذ بيده في حاجتها، فلا يفارقها حتى تكون هي
التي تنصرف، وما دعاه أحد إلا قال: لبيك.
__________
[1] النحل: 112.
[2] أي: النبل.
[3] تشققت.
(1/35)
وكان طويل الصمت، ضحكه التبسم، وكان يخوض
مع أصحابه إذا تحدثوا، فيذكرون الدنيا فيذكرها معهم،
ويذكرون الآخرة فيذكرها معهم.
ولم يكن فاحشا ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح
قالت عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما أو قطيعة رحم فإن
كان إثما كان أبعد الناس منه، وما ضرب امرأة قط، ولا ضرب
خادما، ولا ضرب شيئا قط إلا أن يجاهد.
وقال أنس: خدمت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم عشر سنين
فما سبني قط ولا ضربني ولا انتهرني ولا عبس في وجهي، ولا
أمرنى بأمر فتوانيت فيه فعاتبني، فإن عتب أحد من أهله قال:
دعوه فلو قدر لكان. وكان أشد الناس لطفا وقالت عائشة رضى
الله عنها: «كان يرقع الثوب ويقمّ البيت، ويخصف النعل،
ويطحن عن خادمه إذا أعيا.
هذا القدر كاف، وتركنا أسانيدها اختصارا.
وأما معجزاته صلّى الله عليه وسلم فهي أكثر من أن تحصى
فمنها: إخباره عن عير قريش ليلة أسرى به أنها تقدم وقت كذا
فكان كما قال.
ومنها ما أخبر به من قتل كفار قريش ببدر، وموضع كل واحد
منهم فكان كذلك.
ولما اتخذ المنبر حن الجذع الّذي كان يخطب عنده حتى التزمه
فسكن.
ومنها أن الماء نبع من بين أصابعه غير مرة.
وبورك في الطعام القليل حتى كان يأكل منه الكثير من الناس،
فعل ذلك كثيرا.
وأمر شجرة بالمجيء إليه فجاءت، وأمرها بالعود فعادت، وسبح
الحصى بيده.
ومنها ما أخبر به من الغيوب، فوقع بعده كما قال: مثل
إخباره عن انتشار دعوته وفتح الشام ومصر وبلاد الفرس وعدد
الخلفاء، وأن بعدهم يكون ملك وإخباره أن بعده أبا بكر
وعمر.
وقوله عن عثمان: يدخل الجنة على بلوى تصيبه، وقوله: «إن
الله مقمصك قَمِيصًا فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ
فَلا تَخْلَعْهُ لهم» يعنى الخلافة وقوله: «لعلك تضرب على
هذه فتختضب» يعنى جانب رأسه ولحيته، فكان كذلك.
وقوله عن ابنه الحسن: «يصلح الله به بين فئتين عظيمتين» .
وقوله عن عمار: «تقتلك الفئة الباغية» . وإشارته بالوصف
إلى المختار والحجاج، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
وما ظهر بمولده من المعجزات منها: الفيل وهو الأمر المجمع
عليه وارتجاس [1] إيوان كسرى، وإخبار أهل الكتاب بنبوته
قبل ظهوره، إلى غير ذلك مما لا نطول به، ففي هذا كفاية.
__________
[1] أي: اهتزازه.
(1/36)
ذكر لباسه وسلاحه ودوابه صلّى الله عليه
وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى كل شيء له، فكان
لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عمامة تسمى: السّحاب.
وكان يلبس تحت العمامة القلانس اللاطئة [1] .
وكان له رداء اسمه: الفتح.
وكان له سيوف منها: سيف ورثه من أبيه، ومنها ذو الفقار،
والمخذم، والرسوب، والقضيب.
وكان له دروع: ذات الفضول، وذات الوشاح، والبتراء، وذات
الحواشي، والحرنق [2] .
وكان له منطقة [3] من أدم مبشور، فيها ثلاث حلق من فضة.
واسم رمحه: المثوى، واسم حربته: العنزة، وهي حربة صغيرة
شبه العكاز، وكانت تحمل معه في العيد، تجعل بين يديه يصلى
إليها، وله حربة كبيرة اسمها: البيضاء.
وكان له محجن [4] قدر ذراع، وكان له مخصرة [5] تسمى:
العرجون.
وكان اسم قوسه: الكتوم، واسم كنانته: الكافور واسم نبله:
الموتصلة، واسم ترسه: الزّلوق، ومغفرة: ذو السبوغ.
وكان له أفراس: المرتجز، كان أبيض، وهو الّذي اشتراه من
الأعرابي وشهد به خزيمة بْن ثابت وقيل: هو غير هذا والله
أعلم، وذو العقال، والسّكب، وهو أدهم، والشّحّاء، والبحر،
وهو كميت، واللّحيف، أهداه له ربيعة بن ملاعب الأسنة،
واللّزاز، أهداه له المقوقس، والظرب، أهداه له فروة
الجذامي، وقيل: إن فروة أهدى له بغلة، وكان له فرس اسمه:
سبحة راهن عليه رسول الله عليه السلام فجاء سابقا، فهش
لذلك.
وكانت له بغلة اسمها دلدل، أخذها على بعد النبي صلّى الله
عليه وسلم فكان يركبها، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم محمد بن
الحنفية، فكبرت وعميت، فدخلت مبطحة، فرماها رجل بسهم
فقتلها، وبغلة يقال لها:
الإيلية، وكانت محذوفة طويلة فكانت تعجبه فقال له على: نحن
نصنع لك مثلها، فإن أباها حمار وأمها فرس فنهاه أن ينزى
الحمير على الخيل. وكان له حمار أخضر اسمه: عفير، وقيل:
يعفور.
وكان له ناقة تسمى: العضباء، وأخرى تسمى: القصواء، وقيل
هما صفتان لناقة واحدة، وقيل، كان له غيرها.
وله شاة تسمى: غوثة، وقيل غيثة، وعنز تسمى: اليمن.
وله قدحان، اسم أحدهما: الريان، والآخر: المضبب.
__________
[1] اللاطئة: اللاصقة.
[2] ينظر الطبقات الكبرى، الجزء الأول: 2- 172.
[3] المنطقة: ما شد به الوسط.
[4] المحجن: عصا معقفة الرأس كالصولجان.
[5] المخصرة: ما يختصره الإنسان بيده فيمسكه من عصا، أو
عكازة أو مقرعة، أو قضيب، وقد يتكئ عليه.
(1/37)
وله تور [1] من حجارة يقال له: المخضب،
يتوضأ منه، وله مخضب من شبّه [2] وله ركوة تسمى:
الصادر، وله فسطاط يسمى: الزكي، وله مرآة تسمى: المدلة،
ومقراض يسمى: الجامع، وقضيب من الشوحط [3] يسمى: الممشوق،
ونعل يسميها: الصفراء، وكل هذه الأسماء إما صفات، أو
يسميها تفاؤلا بها.
وأما معانيها فالقضيب من أسماء السيف، فعيل بمعنى فاعل:
يعنى يقطع الضريبة، وذو الفقار:
سمى به لحفر كانت في متنه حسنة، والبتراء: سميت به لقصرها،
وذات الفضول لطولها.
والمرتجز لحسن صهيله، والعقال: داء يأخذ الدواب في أرجلها،
وتشدد القاف وتخفف.
والكسب قيل: هو الفرس الّذي اشتراه صلّى الله عليه وسلم من
الفزاري بعشر أواق، وأول مشاهده عليه يوم أحد، وقيل إن
الّذي اشتراه من الفزاري المرتجز، ومعنى الكسب الواسع
الجرى وكذلك البحر، وكان لأبى طلحة الأنصاري.
والشحاء، إن صح، فهو الواسع الخطو، واللحيف: فعيل بمعنى
فاعل، يلحف الأرض بذنبه لطوله، واللزّاز: من اللز، كأنه
سمى به لتلززه ودموجه [4] .
والظروب: سمى به تشبيها بالظرب من الأرض، وهو الرابية سمى
به لكبره وسمنه، وقيل لصلابة حافره.
والمثوى من الثوى: الإقامة، أي أن المطعون به يقيم بمكانه
يعنى به الموت.
والكتوم سميت به لانخفاض صوتها إذا رمى عنها.
والكافور: كمّ العنب وغلاف الطلع سميت الكنانة بها لأنها
غلاف النبل.
والموتصل: هذه لغة قريش يثبتون الواو فيها وغيرهم يحذفها
ويقول: المتصل، يعنى أن النبل يصل إلى المرمى.
والزلوق: يزلق عنه السلاح.
والدلدل: سميت به لسرعة مشيها.
وعفير تصغير أعفر كسويد تصغير أسود، والقياس: أعيفر [5] .
والعضباء: المشقوقة الأذن، وقيل: المثقوبة قيل: إن العضباء
هي الناقة التي اشتراها صلّى الله عليه وسلم من أبى بكر
الصديق- رضى الله عنه- وهاجر عليها، وقيل: بل غيرها.
__________
[1] إناء.
[2] أي: نحاس.
[3] هو الشجر الّذي تصنع منه القسي.
[4] الدموج: الاستحكام.
[5] في النهاية: هو تصغير ترخيم لأعفر، من العفرة، وهي
الغيرة، كما قالوا في تصغير أسود: سويد، وتصغيره غير مرخم:
أعيفر كاسيود.
(1/38)
والقصواء: المقطوعة الأذن، وقيل: لم يكن
بهما ذلك، وإنما سميتا به، وسميت الزكاة بالصادر، لأنها
يصدر عنها بالري، سميت باسم من هي من سببه.
ذكر أعمامه وعماته صلّى الله عليه وسلم
كان للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم من الأعمام عشرة، ومن
العمات خمس فالأعمام: الزبير، وأبو طالب واسمه عبد مناف،
وعبد الكعبة درج [1] صغيرا، وأم حكيم البيضاء، وهي توأمة
عَبْد اللَّهِ أَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوجها كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد
شمس، فولدت له أروى أم عثمان [2] ، وعامر بن كريز، وعاتكة
بنت عبد المطلب، تزوجها أبو أمية بن المغيرة المخزومي،
فولدت له زهيرا وعبد الله ابني أبى أميمة، وهما أخوا أم
سلمة زوج النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لأبيها،
وبرة بنت عبد المطلب، تزوجها عبد الأسد بْن هلال بْن عَبْد
اللَّهِ المخزومي، فولدت له أبا سلمة بن عبد الأسد، ثم خلف
عليها أبو رهم بن عبد العزى أخو حويطب ابن عبد العزى بْن
أَبِي قيس بْن عبد ود، من بني عامر بن لؤيّ، فولدت له: أبا
سبرة، وأميمة بنت عبد المطلب تزوجها عمير بن وهب بن عبد بن
قصىّ، فولدت له طليب بن عمير، وأم هؤلاء جميعا فاطمة بنت
عمرو بْن عائذ بْن عمران بْن مخزوم، وهم أشقاء عبد الله بن
عبد المطلب.
وحمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله صلّى الله عليه
وسلم، والمقوّم، وحجل واسمه المغيرة [3] وصفية تزوجها
الحارث بن حرب بن أمية، ثم خلف عليها العوام بن خويلد
فولدت له الزبير، والسائب وعبد الكعبة درج.. وأمهم هالة
بنت أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة، وهي ابنة عم آمنة بنت وهب
بن عبد مناف، أم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
والعباس بن عبد المطلب، وأمه نتيلة بنت جناب بْن كليب بْن
مالك امرأة من النمر بن قاسط، وضرار ابن عبد المطلب مات
حدثا قبل الإسلام، وأمه نتيلة أيضا.
والحارث بن عبد المطلب، وكان أكبر ولده، وبه كان يكنى،
وأمه صفية بنت جندب بن حجير ابن زباب [4] بْن حبيب بْن
سواءة بْن عَامِر بْن صعصعة، وقثم بن عبد المطلب، هلك
صغيرا، وأمه صفية أيضا.
وعبد العزى بن عبد المطلب، وهو أبو لهب، وكان جوادا، كناه
أبوه بذلك لحسنه، وأمه لبني بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر
بن حبشيّة بن سلول الخزاعية.
والغيداق بن عبد المطلب، واسمه نوفل، وأمه: ممنعة بنت عمرو
بن مالك بن مؤمل بن سويد بن سعد [5] بن مشنوء بن عبد بن
حبتر، امرأة من خزاعة، وقيل: إن قثم كان أخا الغيداق لأمه،
ولم يكن أخا الحارث لأمه.
__________
[1] درج: مات.
[2] ينظر جمهرة أنساب العرب: 68.
[3] ينظر الطبقات الكبرى، الجزء الأول: 1- 56.
[4] ينظر المشتبه للذهبى: 1- 302.
[5] في الطبقات، الجزء الأول: 1- 57: أسعد.
(1/39)
لم يسلم من أعمامه إلا حمزة والعباس،
وأسلمت عمته صفية إجماعا، واختلفوا في أروى وعاتكة على ما
ذكرناه في اسميهما.
وحجل بالحاء المفتوحة والجيم.
ذكر زوجاته وسراريه صلى الله
عليه وسلم
أول امرأة تزوجها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خديجة، ولم يتزوج عليها حتى ماتت.
ثم تزوج بيدها سودة بنت زمعة قال الزهري: تزوجها قبل
عائشة، وهو بمكة، وبنى بها بمكة أيضا، وقال غيره: تزوج
عائشة قبلها، وإنما ابتنى بسودة قبل عائشة لصغر عائشة.
وتزوج عائشة بنت أبى بكر بمكة وبنى بها بالمدينة سنة
اثنتين.
وتزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب في شعبان سنة ثلاث.
وتزوج زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين سنة ثلاث،
فأقامت عنده شهرين أو ثلاثة ولم يمت من أزواجه قبله غيرها،
وغير خديجة.
وتزوج أم سلمة بنت أبى أمية في شعبان سنة أربع.
وتزوج زينب بنت جحش الأسدية سنة خمس، وقيل غير ذلك.
وتزوج أم حبيبة بنت أبى سفيان سنة ست، وبنى بها سنة سبع.
وتزوج جويرة بنت الحارث سنة ست، وقيل سنة خمس.
وتزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية سنة سبع.
وتزوج صفية بنت حييّ سنة سبع.
وقد ذكرنا كل واحدة منهن، في ترجمتها مستقصى، فهؤلاء
اللواتي لم يختلف فيهن، ومات عن تسع منهن، وهن اللواتي
خيرهن الله سبحانه، فاخترن الله ورسوله.
وأما اللواتي تزوجهن ولم يدخل بهن، أو خطبهن ولم يتم له
العقد، أو استعاذت منه ففارقها، فقد اختلف فيهن وفي أسباب
فراقهن اختلافا كثيرا، ولا يحصل من ذكرهن فائدة، فمنهن
العالية بنت ظبيان، وأسماء بنت النعمان بن الجون [1] ،
وقيل: اسمها أميمة، والمستعيذة، قيل: هي أميمة، وقيل،:
فاطمة بنت الضحاك، وقيل: مليكة.
ومنهن الغفارية رأى بها وضحا [2] ففارقها.
ومنهن أم شريك وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأسماء بنت الصلت السلمية، وليلى بنت الخطيم الأنصارية.
وقد ذكرن في أسمائهن.
وأما سراريه فمنهن مارية القبطية، وهي أم ابنه إبراهيم،
ومنهن ريحانة بنت عمرو القرظية [3] .
__________
[1] ينظر الاستيعاب: 785، والروض الأنف: 2- 368.
[2] الوضح: البرص.
[3] في الاستيعاب 1847: ريحانة بنت شمعون.
(1/40)
ذكر وفاته ومبلغ
عمره صلى الله عليه وسلم
أخبرنا الحسن بن توحن بن النعمان الباورى اليمنى، وأحمد بن
عثمان قالا: أخبرنا محمد بن عبد الواحد الأصفهاني، أخبرنا
أبو القاسم أحمد بن منصور الخليلي البلخي، أخبرنا أبو
القاسم عَليّ بن أحمد الخزاعي، أخبرنا أبو سعيد الشاشي
أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى، أخبرنا أبو عمار وقتيبة
وغيرهما، قالوا:
حدثنا سفيان بن عيينة الهلالي عن الزهري عن أنس قال:
«آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشفت
الستارة يوم الاثنين، فنظرت إلى وجهه كأنه ورقة مصحف
والناس خلف أبى بكر، فأشار إلى الناس أن اثبتوا مكانكم،
وأبو بكر يؤمهم، وألقى السّجف وتوفى آخر ذلك اليوم.
قال أبو عمر [1] : ثم بدأ برسول الله صلّى الله عليه وسلم
مرضه الّذي مات منه يوم الأربعاء، لليلتين بقيتا من صفر
سنة إحدى عشرة في بيت ميمونة، ثم انتقل حين اشتد مرضه إلى
بيت عائشة، رضى الله عنها، وقبض يوم الاثنين ضحى في الوقت
الّذي دخل فيه المدينة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول [2]
ودفن يوم الثلاثاء حين زاغت الشمس، وقيل: بل دفن ليلة
الأربعاء.
قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى سمعنا صوت المساحي، من جوف الليل ليلة الأربعاء، وصلّى
عليه عليّ والعباس وأهل بيته، ثم خرجوا، ثم دخل المهاجرون
فصلوا عليه صلّى الله عليه وسلم، ثم الأنصار، ثم النساء،
ثم العبيد يصلون عليه أرسالا [3] لم يؤمهم أحد.
وغسّله [4] عليّ، والفضل بن العباس، والعباس، وصالح مولاه
وهو شقران، وأوس بن خوليّ الأنصاري وفي رواية أسامة بن
زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وكان عليّ يلي غسله والعباس
والفضل وقثم، وأسامة وصالح يصبون عليه.
قال عليّ: «فما كنا نريد أن نرفع منه عضوا لنغسله إلا رفع
لنا» ولم ينزعوا عنه ثيابه، وكفن في ثلاثة أثواب بيض
سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، ونزل في قبره على،
والعباس، والفضل، وقثم، وشقران، وأسامة، وأوس بن خولى.
وكان قثم آخر الناس عهدًا برسول اللَّه صلّى الله عليه
وسلم ذكر ذلك عن عليّ وابن عباس، وكان المغيرة يدعى أنه
ألقى خاتمه فِي قَبْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم فنزل ليأخذه فكان آخرهم عهدا برسول الله صلى
الله عليه وسلم ولم يصح ذلك،
__________
[1] الاستيعاب: 46.
[2] بعده في الاستيعاب 47: سنة إحدى عشرة من الهجرة.
[3] أرسالا: أفواجا وفرقا متقطعة، يتبع بعضهم بعضا،
الواحد: رسل بفتح الراء والسين، وفي الاستيعاب: أفذاذا
[4] ينظر الطبقات الكبرى، الجزء الثاني: 2 60.
(1/41)
ولم يحضر دفنه فضلا عن أن يكون آخرهم عهدا
به، وسئل على عن قول المغيرة فقال: كذب، آخرنا عهدا به
قثم، وحفروا له لحدا، وألقى شقران تحت رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطيفة كان يجلس عليها.
وقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما
قبض الله نبيا إلا دفن حيث يقبض فرفع فراشه، وحفروا تحته،
وبنى أبو طلحة في قبره تسع لبنات، وجعل قبره مسطحا، ورشوا
عليه الماء.
قال أنس: لما دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أضاء منها كل شيء ولما قبض
أظلم منها كل شيء. وكان عمره ثلاثا وستين سنة، وقيل خمسا
وستين، وقيل: ستين سنة، والأول أصح.
فهذا القدر كاف، ولو رمنا شرح أحواله على الاستقصاء لكان
عدة مجلدات، وفي هذا كفاية للمذاكرة والتبرك فلا نطول فيه،
والسلام.
(1/42)
|