سير أعلام
النبلاء، ط الحديث الطَّبَقَةُ الخَامِسَةَ عَشَرَةَ:
2269- أَحْمَدُ بنُ طُولُوْنَ 1:
التُّركِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ أَبُو العَبَّاسِ.
وُلِدَ بِسَامَرَّاءَ، وَقِيْلَ: بَلْ تَبَنَّاهُ
الأَمِيْرُ طُولُوْنَ. وَطُولُوْنَ قَدَّمَهُ صَاحِبُ مَا
وَرَاء النَّهْرِ إِلَى المَأْمُوْنِ فِي عِدَّةِ
مَمَالِيْكٍ سَنَةَ مائَتَيْنِ فَعَاشَ طُولُوْنَ إِلَى
سَنَةِ أَرْبَعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
فَأَجَادَ ابْنُهُ أَحْمَدُ حِفْظَ القُرْآنِ وَطَلَبَ
العِلْمَ، وَتَنَقَّلَتْ بِهِ الأَحْوَالُ، وَتَأَمَّرَ
وَوَلِي ثُغُوْرَ الشَّامِ ثُمَّ إِمْرَةَ دِمَشْقَ ثُمَّ
وَلِيَ الدِّيَارَ المِصْرِيَّةَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِيْنَ وَلَهُ إذْ ذَاكَ أَرْبعُوْنَ سَنَةً.
وَكَانَ بَطَلاً شُجَاعاً، مِقْدَاماً، مَهِيْباً،
سَائِساً، جَوَاداً، مُمَدَّحاً، مِنْ دُهَاةِ المُلُوكِ.
قِيْلَ: كَانَتْ مُؤْنَتَهُ فِي اليَوْمِ أَلْفَ دينار،
وكان يرجع إلى عدل، وَبَذْلٍ لَكِنَّهُ جَبَّارٌ سَفَّاكٌ
لِلْدِّمَاءِ.
قَالَ القُضَاعِيُّ: أُحْصِيَ مَنْ قَتَلَهُ صَبْراً أَوْ
مَاتَ فِي سِجْنِهِ فَبَلَغُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
أَلْفاً.
وَأَنْشَأَ بِظَاهِر مِصْرَ جَامِعاً غَرِمَ عَلَيْهِ
مائَةَ أَلْفِ دِيْنَارٍ، وَكَانَ جَيِّدَ الإِسْلاَمِ
مُعَظِّماً للشَّعَائِرِ.
خَلَّفَ مِنَ العَيْنِ عَشْرَةَ آلاَفِ أَلْفِ دِيْنَارٍ
وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِيْنَ أَلْفَ مَمْلُوْكٍ، وَجَمَاعَةَ
بَنِيْن وَسِتَّ مائَةِ بَغْلٍ لِلْثِقَلِ.
وَيُقَالُ: بَلَغَ ارتِفَاعُ خَرَاجِ مِصْرَ فِي
أَيَّامِهِ أَزْيَدَ مِنْ أَرْبَعَةِ آلاَفِ أَلفِ
دِيْنَارٍ وَكَانَ الخَلِيْفَةُ مَشْغُوْلاً عَنِ ابْنِ
طُولُوْنَ بِحُرُوْبِ الزنجِ، وَكَانَ يَزْرِي عَلَى
أُمَرَاءِ التُّرْكِ فِيمَا يَرْتَكِبُوْنَهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ الهَرَوِيُّ: كُنَّا عِنْدَ
الرَّبِيْعِ المُرَادِيِّ فَجَاءهُ رَسُوْلُ ابْنِ
طُولُوْنَ بِأَلفِ دِيْنَارٍ فَقَبِلَهَا.
قِيْلَ: إِنَّ ابْنَ طُولُوْنَ نَزَلَ يَأْكُلُ، فَوَقَفَ
سَائِلٌ فَأَمَرَ لَهُ بِدَجَاجَةٍ، وَحَلْوَاءٍ فَجَاءَ
الغُلاَمُ فَقَالَ: نَاوَلْتُهُ فَمَا هَشَّ لَهَا
فَقَالَ: عَلِيَّ بِهِ. فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يديه لم
يضطرب من الهيبة
__________
1 ترجمته في وفيات الأعيان لابن خلكان "1/ ترجمة 71"،
والوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي "6/ 430"، والعبر "2/
43"، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي "3/ 1-21"، وشذرات
الذهب لابن العماد الحنبلي "2/ 157".
(10/268)
فَقَالَ: أَحْضِرِ الكُتُبَ الَّتِي مَعَكَ
وَاصدُقْنِي، فَأَنْتَ صاحب خبر هاتوا السياط، فأقر فقال
بَعْضُ الأُمَرَاء: هَذَا السِّحْرُ؟ فَقَالَ: لاَ
وَلَكِنْ قِيَاسٌ صَحِيْحٌ.
قَالَ ابْنُ أَبِي العَجَائِزِ، وَغَيْرُهُ: وَقَعَ
حَرِيْقٌ بِدِمَشْقَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ ابْنُ طُولُوْنَ،
وَمَعَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَأَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ
الوَاسِطِيُّ كَاتِبُهُ فَقَالَ أَحْمَدُ لأَبِي زُرْعَةَ:
مَا اسْمُ هَذَا المَكَان قَالَ: خُطُّ كَنِيْسَةِ
مَرْيَمَ فَقَالَ الوَاسِطِيُّ: وَلمَرْيَمَ كَنِيْسَة
قَالَ: بَنَوْهَا بِاسْمِهَا فَقَالَ ابْنُ طُولُوْنَ:
مَالَكَ، وَللاعتِرَاضِ عَلَى الشَّيْخِ ثُمَّ أَمَرَ
بِسَبْعِيْنَ أَلفِ دِيْنَارٍ مِنْ مَالِهِ لأَهْلِ
الحَرِيْقِ فَأُعْطُوا، وَفَضَلَ مِنَ الذَّهَبِ وَأَمَرَ
بِمَالٍ عَظِيْمٍ فَفُرِّقَ فِي فُقَرَاءِ الغُوْطَةِ،
وَالبَلَدِ فَأَقَلُّ مَن أُعْطِيَ دِيْنَارٌ.
عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ المَادَرَائِي قَالَ: كُنْتُ
أَجْتَازُ بِقَبْرِ ابْنِ طُولُوْنَ فَأَرَى شَيْخاً
مُلاَزِماً لَهُ ثُمَّ لَمْ أَرَهُ مُدَّةً ثُمَّ
رَأَيتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ
أَيَادٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَصِلَهُ بِالتِّلاَوَةِ قَالَ:
فَرَأَيتُهُ فِي النَّوْمِ يَقُوْلُ: أُحِبُّ أَنْ لاَ
تَقْرَأَ عِنْدِي فَمَا تَمُرُّ بِي آيَةٌ إلَّا قُرِّعْتُ
بِهَا، وَيُقَالُ لِي: أَمَا سَمِعْتَ هَذِهِ؟
تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بِمِصْرَ فِي شَهْرِ ذِي القَعْدَةِ
سَنَةَ سَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَقَامَ بَعْدَهُ ابْنُهُ خُمَارَوَيْه ثُمَّ جَيْشُ بنُ
خُمَارَوَيْه ثُمَّ أَخُوْهُ هَارُوْنَ.
(10/269)
2270- أَحْمَدُ الخُجُسْتَاني 1:
جَبَّارٌ عَنِيْدٌ ظَالِمٌ مُتَمَرِّدٌ خَرَجَ عن طاعة
صاحب خرسان، يعقوب الصَّفَّارِ وَتَمَلَّكَ نَيْسَابُوْرَ،
وَغَيْرَهَا وَأَظْهَرَ الاَنْتِمَاءَ إِلَى
الطَّاهِرِيَّةِ، وَجَعَلَ رَافِعَ بنَ هَرْثمَةَ
أَتَابِكَهُ وَجَرَتْ لَهُ مَلاَحِمُ، وَظَفِرَ بيَحْيَى
بنِ الذُّهْلِيِّ شَيْخِ نَيْسَابُوْرَ فَقَتَلَهُ وَعَتَا
ثُمَّ ذَبَحَهُ مَمْلُوَكَانِ لَهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
وَسِتِّيْنَ.
تَمَلَّكَ سَبْعَ سِنِيْنَ.
وَمِنْ جَوْرِهِ: أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ عَلَى
نَيْسَابُوْرَ نَصَبَ رُمْحاً وَأَلزَمَهُم أَنْ يَزِنُوا
مِنَ الدَّرَاهِمِ مَا يُغَطِي رَأْسَ الرُّمْحِ
فَأَفْقَرَ الخَلْقَ وَعَذَّبَهُم.
__________
1 ترجمته في العبر "2/ 33-36"، واللباب لابن الأثير "1/
424"، والوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي "7/ 80-81".
(10/269)
2271- داود بن علي 1:
ابن خلف الإِمَامُ، البَحْرُ الحَافِظُ العَلاَّمَةُ،
عَالِمُ الوَقْتِ أَبُو سُلَيْمَانَ البَغْدَادِيُّ،
المَعْرُوْفُ بِالأَصْبَهَانِيِّ، مَوْلَى أَمِيْرِ
المُؤْمِنِيْنَ المهدي رئيس أهل الظاهر.
مَوْلِدُهُ سَنَةَ مائَتَيْنِ.
وَسَمِعَ: سُلَيْمَانَ بنَ حَرْبٍ، وَعَمْرَو بنَ
مَرْزُوْقٍ، وَالقَعْنَبِيَّ، وَمُحَمَّدَ بنَ كَثِيْرٍ
العَبْدِيَّ، وَمُسَدَّدَ بنَ مُسَرْهَدٍ، وَإِسْحَاقَ بنَ
رَاهْوَيْه، وَأَبَا ثَوْرٍ الكَلْبِيَّ،
وَالقَوَارِيْرِيَّ، وَطَبَقَتَهُم.
وَارْتَحَلَ إِلَى إِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه، وَسَمِعَ:
مِنْهُ "المُسْنَدَ" وَ"التَّفْسِيْرَ"، وَنَاظَرَ
عِنْدَهُ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وَتَصَدَّرَ، وَتَخَرَّجَ
بِهِ الأَصْحَابُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ: صَنَّفَ الكُتُبَ، وَكَانَ
إِمَاماً وَرِعاً نَاسِكاً زَاهِداً، وَفِي كُتُبِهِ
حَدِيْثٌ كَثِيْرٌ لَكِنَّ الرِّوَايَة عَنْهُ عَزِيْزَةٌ
جِدّاً.
حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ
دَاوُدَ، وَزَكَرِيَّا السَّاجِيُّ، وَيُوْسُفُ بنُ
يَعْقُوْبَ الدَّاوُودِيُّ، وَعَبَّاسُ بنُ أَحْمَدَ
المُذَكِّرُ، وَغَيْرُهُم.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ: إِنَّمَا عُرِفَ
بِالأَصْبَهَانِيِّ لأَنَّ أُمَّهُ أَصْبَهَانِيَّةٌ،
وَكَانَ أَبُوْهُ حَنَفِيُّ المَذْهَبِ.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو المُسْتَمْلِي: رَأَيْتُ دَاوُدَ بنَ
عَلِيٍّ يَرُدُّ عَلَى إِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه وَمَا
رَأَيْتُ أَحَداً قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ يَرُدُّ
عَلَيْهِ هَيْبَةً لَهُ.
قَالَ عُمَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ بُجَيْرٍ الحَافِظُ:
سَمِعْتُ دَاوُدَ بنَ عَلِيٍّ يَقُوْلُ: دَخَلْتُ عَلَى
إِسْحَاقَ، وَهُوَ يَحْتَجِمُ فَجَلَسْتُ فَرَأَيْتُ كتب
الشافعي فَأَخَذْتُ أَنْظُرُ فَصَاحَ بِي إِسْحَاقُ: أَيْش
تَنْظُرُ فَقُلْتُ: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا
مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَه} [يُوْسُفُ: 79] قَالَ:
فَجَعَلَ يَضْحَكُ أَوْ يَبْتَسِمُ.
سَعِيْدُ بنُ عَمْرٍو البَرْذَعِيُّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ
أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ فَاخْتَلَفَ رَجُلاَنِ مِنْ
أَصْحَابِنَا فِي أَمْرِ دَاوُد الأَصْبهَانِي،
وَالمُزَنِيّ وَالرَّجُلاَنِ: فَضْلَكُ الرَّازِيُّ،
وَابْنُ خِرَاشٍ فَقَالَ ابْنُ خِرَاشٍ: دَاوُدُ كَافِرٌ
وَقَالَ فَضْلَكُ: المُزَنِيُّ جَاهِلٌ فَأَقْبَلَ أَبُو
زُرْعَةَ يُوَبِّخُهُمَا وَقَالَ لَهُمَا: مَا
__________
1 ترجمته في تاريخ بغداد "8/ 369"، ووفيات الأعيان لابن
خلكان "2/ ترجمة 223"، والعبر "2/ 45"، وميزان الاعتدال
"2/ 14-16"، ولسان الميزان "2/ 422"، والنجوم الزاهرة لابن
تغري بردي "3/ 47"، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي "2/
158-159".
(10/270)
وَاحِدٌ مِنْكُمَا لَهُمَا بِصَاحِبٍ.
ثُمَّ قَالَ: تَرَى دَاوُدَ هَذَا، لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى
مَا يِقْتَصِرُ عَلَيْهِ أَهْلُ العِلْمِ لَظَنَنْتُ
أَنَّهُ يُكْمِدُ أَهْلَ البِدَعِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ
البَيَانِ، وَالآلَةِ، وَلَكِنَّهُ تَعَدَّى لَقَدْ قَدِمَ
عَلَيْنَا مِنْ نَيْسَابُوْرَ فَكَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدِ
بنِ رَافِعٍ، وَمُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى وَعَمْرِو بنِ
زُرَارَةَ، وَحُسَيْنِ بنِ مَنْصُوْرٍ وَمَشْيَخَةِ
نَيْسَابُورَ بِمَا أَحْدَثَ هُنَاكَ فَكَتَمْتُ ذَلِكَ
لِمَا خِفْتُ مِنْ عَوَاقِبِهِ، وَلَمْ أُبْدِ لَهُ
شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ فَقَدِمَ بَغْدَادَ وَكَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ صَالِحِ بنِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ حُسْنٌ
فَكَلَّمَ صَالِحاً أَنْ يَتَلَطَّفَ لَهُ فِي
الاسْتِئذَانِ عَلَى أَبِيْهِ، فَأَتَى صَالِحٌ أَبَاهُ
فَقَالَ: رَجُلٌ سَأَلَنِي أَنْ يَأْتِيْكَ فَقَالَ: مَا
اسْمُهُ قَالَ: دَاوُدُ قَالَ: مِنْ أَيْنَ هُوَ قَالَ:
مِنْ أَصْبَهَانَ فَكَانَ صَالِحٌ يَرُوْغُ عَنْ
تَعْرِيْفِهِ فَمَا زَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ يَفْحَصُ
حَتَّى فَطِنَ بِهِ فَقَالَ: هَذَا قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ
مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى فِي أَمْرِهِ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ
القُرَآنَ مُحْدَثٌ فَلاَ يَقْرَبَنِّي. فَقَالَ: يَا
أَبَهْ إِنَّهُ يَنْتَفِي مِنْ هَذَا وَيُنْكِرَهُ
فَقَالَ: مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى اصدق منها لا تأذن له.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ المَحَامِلِيُّ: رَأَيْتُ
دَاوُدَ بنَ عَلِيٍّ يُصَلِّي، فَمَا رَأَيْتُ مُسْلِماً
يُشْبِهُهُ فِي حُسْنِ تَوَاضُعِهِ.
وَقَدْ كَانَ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ
يَخْتَلِفُ إِلَى دَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ مُدَّةً ثُمَّ
تَخَلَّفَ عَنْهُ، وَعَقَدَ لِنَفْسِهِ مَجْلِساً
فَأَنْشَأَ دَاوُدُ يَتَمَثَّل:
فَلَوْ أَنِّي بُلِيْتُ بِهَاشِمِيٍّ ... خئولته بَنُوَة
عَبْدِ المَدَانْ
صَبَرْتُ عَلَى أَذَاهُ لِي وَلَكِنْ ... تَعَالَيْ
فَانْظُرِيْ بِمَنِ ابْتَلاَنِي
قَالَ أَحْمَدُ بنُ كَامِلٍ القَاضِي: أَخْبَرَنِي أَبُو
عَبْدِ اللهِ الوَرَّاقُ: أَنَّهُ كَانَ يُورق عَلَى
دَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ وَأَنَّهُ سَمِعَهُ يُسْأَلُ عَنِ
القُرَآنِ، فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي فِي اللَّوْحِ
المَحْفُوْظِ: فَغَيْرُ مَخْلُوْقٍ وَأَمَّا الَّذِي هُوَ
بَيْنَ النَّاسِ: فَمَخْلُوْقٌ.
قُلْتُ: هَذِهِ التَّفرِقَةُ وَالتَّفْصِيلُ مَا قَالَهَا
أَحَدٌ قَبْلَهُ فِيمَا عَلِمْتُ، وَمَا زَالَ
المُسْلِمُوْنَ عَلَى أَنَّ القُرَآنَ العَظِيْمَ كَلاَمُ
اللهِ، وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيْلُهُ حَتَّى أَظْهَرَ
المَأْمُوْنَ القَوْلَ: بِأَنَّهُ مَخْلُوْقٌ وَظَهَرَتْ
مَقَالَةُ المعتزلة فثبت الإمام أحمد ابن حَنْبَلٍ
وَأَئِمَةُ السُّنَّةِ عَلَى القَوْلِ: بِأَنَّهُ غَيْرُ
مَخْلُوْقٍ إِلَى أَنْ ظَهَرَتْ مَقَالَةُ حُسَيْنِ بنِ
عَلِيٍّ الكَرَابِيْسِي، وَهِيَ: أَنَّ القُرْآنَ كَلاَمُ
اللهِ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَأَنَّ أَلْفَاظَنَا بِهِ
مَخْلُوْقَةٌ فَأَنْكَرَ الإِمَامُ أَحْمَدُ ذَلِكَ،
وَعَدَّهُ بِدْعَةً وَقَالَ: مَنْ قال: لفظي القرآن
مَخْلُوْقٌ يُرِيْدُ بِهِ القُرْآنَ فَهُوَ جَهْمِيٌّ
وَقَالَ أيضًا: مَنْ قَالَ: لَفْظي بِالقُرْآنِ غَيْرُ
مَخْلُوْقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ فَزَجَرَ عَنِ الخَوْضِ فِي
ذَلِكَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
(10/271)
وَأَمَّا دَاوُدُ فَقَالَ القُرْآنُ
مُحْدَثٌ. فَقَامَ عَلَى دَاوُدَ خَلْقٌ مِن أَئِمَّةِ
الحَدِيْثِ، وَأَنْكَرُوا قَولَهُ وَبَدَّعُوْهُ وَجَاءَ
مِنْ بَعْدِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فَقَالُوا:
كَلاَمُ اللهِ مَعْنَىً قَائِمٌ بِالنَّفْسِ، وَهَذِهِ
الكُتُبُ المُنْزَلَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَدَقَّقُوا
وَعَمَّقُوا فَنَسْأَلُ اللهَ الهُدَى، وَاتِّبَاعَ
الحَقِّ فَالقُرْآنُ العَظِيْمُ حُرُوْفُهُ، وَمَعَانِيهُ
وَأَلفَاظُهُ كَلاَمُ رَبِّ العَالِمِيْنَ غَيْرُ
مَخْلُوْقٍ وَتَلَفُّظُنَا،بِهِ وَأَصْوَاتُنَا بِهِ مِنْ
أَعْمَالنَا المَخْلُوْقَةِ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زَيِّنُوا القُرْآنَ
بِأَصْوَاتِكُم" 1 وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ المَلْفُوْظُ لاَ
يَسْتَقِلُّ إلَّا بِتَلَفُّظِنَا، وَالمَكْتُوْبُ لاَ
يَنْفَكُّ عَنْ كِتَابةٍ، وَالمَتْلُو لاَ يُسْمَعُ: إلَّا
بِتِلاَوَةِ تَالٍ صَعُبُ فَهْمُ المَسْأَلَةِ، وَعَسُرَ
إِفْرَازُ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ المَلْفُوْظُ مِنَ
اللَّفْظِ الَّذِي يُعْنَى بِهِ التَّلَفُّظُ فَالذِّهِنُ
يَعْلَمُ الفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ هَذَا،
وَالخَوْضُ فِي هَذَا خَطِرٌ نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ
فِي الدِّيْنِ، وَفِي المَسْأَلَةِ بُحُوْثٌ طَوِيْلَةٌ
الكَفُّ عَنْهَا أَوْلَى، وَلاَ سِيَّمَا فِي هذه الأزمنة
المزمنة.
قَالَ أَبُو العَبَّاسِ ثَعْلَبٌ: كَانَ دَاوُدُ بنُ
عَلِيٍّ عَقْلُهُ أَكْبَرُ مِنْ عِلْمِهِ.
وَقَالَ قَاسِمُ بنُ أَصْبَغَ الحَافِظُ: ذَاكَرْتُ ابْنَ
جَرِيْرٍ الطَّبرِيَّ، وَابْنَ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ ابْنِ
قُتَيْبَةَ فِي الفِقْهِ فَقَالاَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ
فَإِذَا أَرَدْتَ الفِقْهَ فَكُتُبُ أَصْحَابِ الفِقْهِ
كَالشَّافِعِيِّ، وَدَاوُدَ وَنُظَرَائِهِمَا ثُمَّ قَالا:
وَلاَ كُتُبُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي الفِقْهِ أَمَا تَرَى
كِتَابَهُ فِي "الأَمْوَالِ" مَعَ أَنَّهُ أَحْسَنُ
كُتُبِهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: كَانَ دَاوُدُ عِرَاقِيّاً كَتَبَ
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ وَرَقَةٍ وَمِنْ أَصْحَابِهِ:
أَبُو الحَسَنِ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ رُوَيْم،
وَأَبُو بَكْرٍ بنُ النَّجَّارِ وَأَبُو الطَّيِّبِ
مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ الدِّيْبَاجِي، وَأَحْمَدُ بنُ
مَخْلَدٍ الإِيَادِي وَأَبُو سَعِيْدٍ الحَسَنُ بنُ
عُبَيْدِ اللهِ صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، وَأَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ الدَّجَاجِي وَأَبُو نَصْرٍ
السِّجِسْتَانِيُّ ثُمَّ سَرَدَ أَسْمَاءَ عِدَّةٍ مِنْ
تَلاَمِذَتِهِ.
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بنُ عَبْدِ المُنْعِمِ: عَنْ أَبِي
اليُمْنِ الكِنْدِيِّ أَخْبَرَنَا علي ابن عَبْدِ
السَّلاَمِ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الفَقِيْهُ فِي
طَبَقَاتِ الفُقَهَاءِ لَهُ قَالَ: ذِكْرُ فُقَهَاءِ
بَغْدَادَ وَمِنْهُم: أَبُو سُلَيْمَانَ دَاودُ بنُ
عَلِيِّ بنِ خلف الأصبهاني، ولد في سنة اثنتين ومئتين ومات
سنة سبعين ومئتين أَخَذَ العِلْمَ عَنْ: إِسْحَاقَ بنِ
رَاهْوَيْه، وَأَبِي ثَوْرٍ وَكَانَ زَاهِداً مُتَقَلِّلاً
وَقِيْلَ: إِنَّهُ كَانَ في مجلسه
__________
1 صحيح: ورد من حديث البراء بن عازب، أخرجه الطيالسي "2/
3"، وابن أبي شيبة "2/ 521" و"10/ 462"، وأحمد "4/ 283،
285، 304"، وأبو داود "1468"، والنسائي "2/ 179-180" وابن
ماجه "1342"، والحاكم "1/ 572-575"، وأبو نعيم في "الحلية"
"5/ 27"، والبيهقي في "السنن" "2/ 53"، من طريق عن طلحة بن
مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب، به.
(10/272)
أَرْبَعُ مائَةِ صَاحِبِ طَيْلَسَانَ
أَخْضَرَ، وَكَانَ مِنَ المتعصبين للشافعي وَصَنَّفَ
كِتَابَيْنِ فِي فَضَائِلِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ
وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِئَاسَةُ العِلْمِ بِبَغْدَادَ
وَأَصْلُهُ مِنْ أَصْفَهَانَ، وَمَوْلِدُهُ بِالكُوْفَةِ
وَمنْشَؤُهُ بِبَغْدَادَ وَقَبْرُهُ بِهَا فِي
الشُّونِيْزِيَّة.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَلاَّلُ: أَخْبَرَنَا الحُسَيْنُ
بنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَأَلْتُ المَرُّوْذِيَّ عَنْ
قِصَّةِ دَاوُدَ الأَصْبَهَانِيِّ، وَمَا أَنْكَرَ
عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ فَقَالَ: كَانَ دَاوُدُ
خَرَجَ إِلَى خرسان إِلَى ابْنِ رَاهْوَيْه فَتَكَلَّمَ
بِكَلاَمٍ شَهِدَ عَلَيْهِ أَبُو نَصْرٍ بنُ عَبْدِ
المَجِيْدِ، وَآخَرُ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ:
القُرْآنُ مُحْدَثٌ.
فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ: مَنْ دَاوُدُ بنُ عَلِيٍّ
لاَ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ قُلْتُ: هَذَا مِنْ غِلْمَانِ
أَبِي ثَوْرٍ قَالَ: جَاءنِي كِتَابُ مُحَمَّدِ بنِ
يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ دَاوُدَ
الأَصْبَهَانِيَّ قَالَ بِبَلَدِنَا: إِنَّ القُرْآنَ
مُحْدَثٌ قَالَ المَرُّوْذِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ
إِبْرَاهِيْمَ النَّيْسَابُورِيُّ، أَنَّ إِسْحَاقَ بنَ
رَاهْوَيْه لَمَّا سَمِعَ: كَلاَمَ دَاوُدَ فِي بَيْتِهِ
وَثَبَ عَلَى دَاوُدَ، وَضَرَبَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ.
الخَلاَّلُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ صَدَقَةَ
سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ الحُسَيْنِ بنِ صَبِيْحٍ سَمِعْتُ
دَاوُدَ الأَصْبَهَانِيَّ يَقُوْلُ: القُرْآنُ مُحْدَثٌ
وَلَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ.
وَأَخْبَرَنَا سَعِيْدُ بنُ أَبِي مُسْلِمٍ: سَمِعْتُ
مُحَمَّدَ بنَ عَبْدَةَ يَقُوْلُ: دَخَلْتُ إِلَى دَاوُدَ
فَغَضِبَ عَلَيَّ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، فَدَخَلْتُ
عَلَيْهِ فَلَمْ يُكَلِّمْنِي فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا
أَبَا عَبْدِ اللهِ إِنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةً
قَالَ: وَمَا هي قال: قَالَ: الخُنْثَى إِذَا مَاتَ مَنْ
يُغَسِّلُهُ قَالَ داود: يغسله الخدم فقال محمد ابن
عَبْدَةَ: الخَدَمُ رِجَالٌ، وَلَكِنْ يُيَمَّمُ،
فَتَبَسَّمَ أَحْمَدُ وَقَالَ: أَصَابَ أَصَابَ مَا
أَجْوَدَ مَا أَجَابَهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ النَّدِيْمُ: لِدَاوُدَ
مِنَ الكُتُبِ: كِتَابُ "الإِيْضَاحِ" كِتَابُ
"الإِفْصَاحِ" كِتَابُ "الأُصُوْلِ" كِتَابُ "الدَّعَاوى"
كِتَابٌ كَبِيْرٌ فِي الفِقْهِ كِتَابُ "الذَّبِّ عَنِ
السُّنَّةِ وَالأَخْبَارِ" أَرْبَعُ مُجَلَّدَاتٍ كِتَابُ
"الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الإِفْكِ"، "صِفَة أَخْلاَقِ
النَّبِيِّ" كِتَابُ "الإِجْمَاعِ" كِتَابُ "إبْطَالِ
القِيَاسِ" كِتَابُ "خَبَرِ الوَاحِدِ وَبَعْضُهُ مُوْجِبٌ
لِلْعِلْمِ" كِتَاب "الإِيضَاحِ" خَمْسَةَ عَشَرَ
مُجَلَّداً كِتَابُ "المُتْعَةِ" كِتَابُ "إِبْطَالِ
التَّقْلِيْدِ" كِتَابُ "المَعْرِفَةِ" كِتَابُ
"العُمُوْمِ وَالخُصُوْصِ"، وَسَرَدَ أَشْيَاءً
كَثِيْرَةً.
قُلْتُ: لِلعُلَمَاءِ قَوْلاَن فِي الاعتِدَاد بِخِلاَفِ
دَاوُدَ، وَأَتْبَاعِهِ: فَمَنْ اعتَدَّ بِخِلاَفِهِم
قَالَ: مَا اعْتِدَادُنَا بِخِلاَفِهِم لأَنَّ
مُفْرَدَاتِهِم حُجَّةٌ بَلْ لِتُحكَى فِي الجُمْلَةِ،
وَبَعْضُهَا سَائِغٌ وَبَعْضُهَا قَوِيٌّ وَبَعْضُهَا
سَاقِطٌ ثُمَّ مَا تَفَرَّدُوا بِهِ هُوَ شَيْءٌ من قبيل
مخالفة الإجماع الظني، وتندر
(10/273)
مخالفتهما لإِجْمَاعٍ قَطْعِي، وَمَنْ
أَهْدَرَهُم وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِم لَمْ يَعُدَّهُم فِي
مَسَائِلِهِم المُفْرِدَةِ خَارِجِيْنَ بِهَا مِنَ
الدِّيْنِ، وَلاَ كَفَّرَهُم بِهَا بَلْ يَقُوْلُ:
هَؤُلاَءِ فِي حَيِّزِ العَوَامِّ أَوْ هُم كَالشِّيْعَةِ
فِي الفُرُوْعِ، وَلاَ نَلْتَفِتُ إِلَى أَقْوَالِهِم،
وَلاَ نَنْصِبُ مَعَهُم الخِلاَفَ، وَلاَ يُعْتَنَى
بِتَحْصِيْلِ كُتُبِهِم، وَلاَ نَدُلُّ مُسْتَفْتِياً مِنَ
العَامَّةِ عَلَيْهِم وَإِذَا تظاهروا بِمَسْأَلَةٍ
مَعْلُوْمَةِ البُطْلاَنِ كَمَسْحِ الرِّجِلَيْنِ
أَدَّبْنَاهُم وَعَزَّرْنَاهُم، وَأَلزَمْنَاهُم
بِالغَسْلِ جَزْماً.
قَالَ الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإسفراييبي: قَالَ
الجُمْهُوْرُ: إِنَّهُم يَعْنِي نُفَاةَ القِيَاسِ لاَ
يَبْلُغُونَ رُتْبَةَ الاجتِهَادِ، وَلاَ يَجُوْزُ
تَقْلِيْدُهُم القَضَاءَ.
وَنَقَلَ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُوْرٍ البَغْدَادِيُّ
عَنْ أَبِي عَلِيٍّ بنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَطَائِفَةٍ
مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ اعتِبَارَ بِخِلاَفِ
دَاوُدَ، وَسَائِرِ نُفَاةِ القِيَاسِ فِي الفُرُوْعِ
دُوْنَ الأُصُوْلِ.
وَقَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ أَبُو المَعَالِي: الَّذِي
ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ التَّحْقِيْقِ: أَنَّ مُنْكِرِي
القِيَاس لاَ يُعَدُّوْنَ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ، وَلاَ
مِنْ حَمَلَةِ الشَّرِيْعَةِ لأَنَّهُم مُعَانِدُوْنَ
مُبَاهِتُوْنَ فِيمَا ثَبَتَ اسْتفَاضَةً، وَتَوَاتُراً
لأَنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيْعَةِ صَادِرٌ عَنِ الاجتِهَادِ،
وَلاَ تَفِي النُّصُوْصُ بعُشْرِ مِعْشَارِهَا،
وَهَؤُلاَءِ مُلتَحِقُوْنَ بِالعَوَامِّ.
قُلْتُ: هَذَا القَوْلُ مِنْ أَبِي المعَالِي أَدَّاهُ
إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهُم فَأَدَّاهُم اجتِهَادُهُم
إِلَى نَفِي القَوْلِ بِالقِيَاسِ فَكَيْفَ يُرَدُّ
الاجتِهَادُ بِمِثْلِهِ، وَنَدْرِي بِالضَّرُوْرَةِ أَنَّ
دَاوُدَ كَانَ يُقْرِئُ مَذْهَبَهُ وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ،
وَيُفْتِي بِهِ فِي مِثْلِ بَغْدَادَ، وَكَثْرَةِ
الأَئِمَّةِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا فَلَم نَرَهُم قَامُوا
عَلَيْهِ، وَلاَ أَنْكَرُوا فَتَاويه وَلاَ تَدْرِيسَهُ،
وَلاَ سَعَوا فِي مَنْعِهِ مِنْ بَثِّهِ وَبَالحَضْرَةِ
مِثْلُ إِسْمَاعِيْلَ القَاضِي شَيْخِ المَالِكِيَّةِ،
وَعُثْمَانَ بنِ بَشَّارٍ الأَنْمَاطِيِّ شَيْخِ
الشَّافِعِيَّة، وَالمَرُّوْذِيِّ شَيْخِ الحَنْبَلِيَّةِ
وَابْنَي الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَبِي العَبَّاسِ أَحْمَدَ
بنِ مُحَمَّدٍ البِرْتِيِّ شَيْخِ الحَنَفِيَّةِ،
وَأَحْمَدَ بنِ أَبِي عِمْرَانَ القَاضِي، وَمِثْلُ عالم
بَغْدَادَ إِبْرَاهِيْمَ الحَرْبِيِّ بَلْ سَكَتُوا لَهُ
حَتَّى لَقَدْ قَالَ قَاسِمُ بنُ أَصْبَغَ: ذَاكَرْتُ
الطَّبرِيَّ يَعْنِي ابْنَ جَرِيْرٍ وَابْنَ سُرَيْجٍ
فَقُلْتُ لَهُمَا: كِتَابُ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي الفِقَهِ
أَيْنَ هُوَ عِنْدَكُمَا قَالاَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلاَ
كِتَابُ أَبِي عُبَيْدٍ فَإِذَا أَرَدْتَ الفِقْهَ
فَكُتُبُ الشَّافِعِيِّ، وَدَاوُدَ وَنُظَرَائِهِمَا.
ثمَّ كَانَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ
المُغَلِّسِ وَعِدَّةٌ مِنْ تَلاَمِذَةِ دَاوُدَ، وَعَلَى
أَكْتَافِهِم مِثْلُ: ابْنِ سُرَيْجٍ شَيْخِ
الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبِي بَكْرٍ الخَلاَّلِ شَيْخِ
الحَنْبَلِيَّةِ، وَأَبِي الحَسَنِ الكَرْخِيِّ شَيْخِ
الحَنَفِيَّةِ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ
بِمِصْرَ بَلْ كَانُوا يَتَجَالَسُوْنَ، وَيَتَنَاظَرُوْنَ
وَيَبْرُزُ كُلٌّ مِنْهُم بحججه،
(10/274)
وَلاَ يَسْعَوْنَ بِالدَّاودِيَّةِ إِلَى
السُّلْطَانِ بَلْ أَبلغُ مِنْ ذَلِكَ يَنْصِبُوْنَ
مَعَهُم الخِلاَفَ فِي تَصَانِيفِهِم قَدِيْماً،
وَحَدِيْثاً وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَهُم أَشْيَاءُ أَحْسَنُوا
فِيْهَا وَلَهُم مَسَائِلُ مُسْتَهْجَنَةٌ يُشْغَبُ
عَلَيْهِم بِهَا وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيْرُ الإِمَامُ أَبُو
عَمْرٍو بنُ الصَّلاَحِ حَيْثُ يَقُوْلُ: الَّذِي
اختَارَهُ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُوْرٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ
الصَّحِيْحُ مِنَ المَذْهَبِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ خِلاَفُ
دَاوُدَ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّلاحِ: وَهَذَا الَّذِي
اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الأَمْرُ آخِراً كَمَا هُوَ
الأَغْلَبُ الأَعْرَفُ مِنْ صَفْوِ الأَئِمَّةِ
المُتَأَخِّرِينَ الَّذِيْنَ أَوْرَدُوا مَذْهَبَ دَاوُدَ
فِي مُصَنَّفَاتِهِمُ المَشْهُوْرَةِ كَالشَّيْخِ أَبِي
حَامِدٍ الإِسْفَرَايِيْنِيِّ، وَالمَاوَرْدِيِّ
وَالقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فلَوْلاَ اعتِدَادُهُم بِهِ
لَمَا ذَكَرُوا مَذْهَبَهُ فِي مُصَنَّفَاتِهِمُ
المَشْهُوْرَةِ.
قَالَ: وَأَرَى أَنْ يُعْتَبَرَ قَوْلُهُ إلَّا فِيمَا
خَالَفَ فِيْهِ القيَاسَ الجَلِيَّ، وَمَا أَجْمَعَ
عَلَيْهِ القِيَاسِيُّونَ مِنْ أَنْواعِهِ، أَوْ بَنَاهُ
عَلَى أُصُولِهِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيْلُ القَاطعُ عَلَى
بُطلاَنِهَا فَاتِّفَاقُ مَنْ سِوَاهُ إِجمَاعٌ مُنْعَقِدٌ
كقوله في التغوط في الماء الرَّاكِدِ، وَتِلْكَ
المَسَائِلِ الشَّنِيعَةِ وَقُولِهُ: لاَ رِبَا إلَّا فِي
السِّتَّةِ المَنْصُوْصِ عَلَيْهَا1 فَخِلاَفُهُ فِي
هَذَا، أَوْ نَحْوِهِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ لأَنَّهُ
مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يُقْطَعُ بِبُطْلاَنِهِ.
قُلْتُ: لاَ رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مسَأَلَةٍ انْفَرَدَ
بِهَا، وَقُطِعَ بِبُطْلاَنِ قَوْلِهِ فِيْهَا فَإِنَّهَا
هَدْرٌ، وَإِنَّمَا نَحْكِيهَا للتَّعَجُّبِ وَكُلَّ
مسَأَلَةٍ لَهُ عَضَدَهَا نَصٌّ وَسَبَقَهُ إِلَيْهَا
صَاحِبٌ أَوْ تَابِعٌ فَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الخِلاَفِ
فَلاَ تُهْدَرُ.
وَفِي الجُمْلَةِ فَدَاوُدُ بنُ عَلِيٍّ بَصِيرٌ
بِالفِقْهِ عَالِمٌ بِالقُرْآنِ حَافظٌ للأَثَرِ رَأْسٌ
فِي مَعْرِفَةِ الخِلاَفِ مِنْ أَوْعِيَةِ العِلْمِ له
ذكاء خارق، وفيه دِيْنٌ مَتِينٌ، وَكَذَلِكَ فِي فُقَهَاءِ
الظَّاهِرِيَّةِ جَمَاعَةٌ لَهُم عِلْمٌ بَاهِرٌ، وَذكَاءٌ
قَوِيٌّ فَالكَمَالُ عَزِيزٌ، وَاللهُ المُوَفِّقُ.
وَنَحْنُ: فَنَحْكِي قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي المُتعَةِ
وَفِي الصَّرْفِ، وَفِي إِنكَارِ العَوْلِ وَقولَ
طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي تَرْكِ الغُسْلِ مِنَ
الإِيْلاجِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ وَلاَ نُجَوِّزُ لأَحَدٍ
تَقْلِيْدَهُم فِي ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ كَامِلٍ: مَاتَ داود في شهر رمضان سنة سبعين
ومئتين.
__________
1 ورد عن عبادة بن الصامت قَالَ: إِنِّيْ سَمِعْتُ
رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينهى
عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير
بالشعير، والتمر بالتمر، والملح وبالملح إلا سواء بسواء
عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. أخرجه مسلم
"1587"واللفظ له، وأبو داود "3349"، والترمذي "1240"،
والنسائي "7/ 274"، وابن ماجه "2254".
(10/275)
فأما ابنه:
2272- محمد بن داود 1:
ابن عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ: العَلاَّمَةُ، البَارِعُ، ذُو
الفنُوْنِ، أَبُو بَكْرٍ: فَكَانَ أَحَدَ مَنْ يُضْرَبُ
المَثَلُ بِذَكَائِهِ، وَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ:
الزّهرَةِ فِي الآدَابِ، وَالشِّعْرِ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي
الفَرَائِضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
حَدَّثَ عَنْ: أَبِيْهِ وَعَبَّاسٍ الدُّوْرِيِّ، وَأَبِي
قِلاَبَةَ الرَّقَاشِيِّ، وَأَحْمَدَ بنِ أَبِي
خَيْثَمَةَ، وَمُحَمَّدِ بنِ عِيْسَى المَدَائِنِيِّ،
وَطَبَقَتِهِم.
وَلَهُ بَصَرٌ تَامٌّ بِالحَدِيْثِ، وَبِأَقوَالِ
الصَّحَابَةِ، وَكَانَ يَجْتَهِدُ، وَلاَ يُقَلِّدُ
أَحَداً.
حَدَّثَ عَنْهُ: نِفْطَوَيْه، وَالقَاضِي أَبُو عُمَرَ
مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ، وَجَمَاعَةٌ.
وَمَاتَ قَبْلَ الكُهُوْلَةِ، وَقَلَّ مَا رَوَى.
تَصَدَّرَ لِلْفُتْيَا بَعْدَ، وَالِدِهِ وَكَانَ
يُنَاظِرُ أَبَا العَبَّاسِ بنَ سُرَيْجٍ، وَلاَ يَكَادُ
يَنْقَطِعُ معه.
قال القاضي أبو الحسن الداودي: لَمَّا جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ
بنُ دَاوُدَ، لِلْفَتوَى بَعْدَ وَالِدِهِ اسْتَصْغَرُوهُ
فَدَسُّوا عَلَيْهِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ حَدِّ السُّكْرِ،
وَمتَى يُعَدُّ الإِنْسَانُ سَكرَانَ فَقَالَ: إِذَا
عَزَبَتْ عَنْهُ الهُمُوْمُ، وَبَاحَ بِسِرِّهِ المكتوم.
فَاسْتُحْسِنَ ذَلِكَ مِنْهُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ: كَانَ ابْنُ دَاوُدَ
مِنْ أَجْملِ النَّاسِ، وَأَكْرَمِهِم خُلُقاً،
وَأَبْلَغِهِم لِسَاناً وَأَنْظَفِهِم هَيْئَةً مَعَ
الدِّيْنِ، وَالوَرَعِ وَكُلِّ خُلَّةٍ مَحْمُودَةٍ
مُحَبَّباً إِلَى النَّاسِ حَفِظَ القُرْآنَ، وَلَهُ سَبعُ
سِنِيْنَ وَذَاكَرَ الرِّجَالَ بِالآدَابِ، وَالشِّعْرِ
وَلَهُ عَشْرُ سِنِيْنَ وَكَانَ يشاهد في مجلسه أربع مئه
صَاحِبِ مِحْبَرَةٍ، وَلَهُ مِنَ التَّآلِيفِ: كِتَابُ
الإِنذَارِ، وَالإِعذَارِ، وَكِتَابُ التَّقصِّي فِي
الفِقْهِ، وَكِتَابُ الإِيْجَازِ، وَلَمْ يَتِمَّ
وَكِتَابُ الانْتِصَارِ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ جَرِيْرٍ
الطَّبَرِيِّ، وَكِتَابُ الوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ
الأُصُولِ، وَكِتَابُ اختِلاَفِ مَصَاحِفِ الصَّحَابَةِ،
وَكِتَابُ الفَرَائِضِ وَكِتَابُ "المَنَاسِكِ" عَاشَ
ثَلاَثاً وَأَرْبَعِيْنَ سَنَةً قَالَ: وَمَاتَ في عاشر
رمضان سنة سبع وتسعين ومائتين.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ التَّنُوخِيُّ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ البَخْتَرِيِّ الدَّاوُودِيُّ
حَدَّثَنِي أَبُو الحسن بن المغلس الداودي، قَالَ: كَانَ
مُحَمَّدُ بنُ دَاوُدَ وَابْنُ سُرَيْجٍ إذا حضرا مجلس أبي
__________
1 ترجمته في تاريخ بغداد "5/ 256"، ووفيات الأعيان "4/
ترجمة 604"، والوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي "3/ 85"،
والعبر "2/ 108"، والمنتظم لابن الجوزي "6/ 93"، وشذرات
الذهب لابن العماد الحنبلي "2/ 226".
(10/276)
عُمَرَ القَاضِي لَمْ يَجْرِ بَيْنَ
اثْنَيْنِ فِيْمَا يَتَفَاوَضَانِهِ أَحْسَنُ، وَمَنْ مَا
يَجْرِي بَيْنَهُمَا فَسَأَلَ أَبَا بَكْرٍ عَنِ العَوْدِ
المُوجِبِ لِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَقَالَ: إِعَادَةُ
القَوْلِ ثَانِياً، وَهُوَ مَذْهَبُهُ وَمَذْهَبُ أَبِيْهِ
فَطَالَبَهُ بِالدَّلِيْلِ فَشَرَعَ فِيْهِ فَقَالَ ابْنُ
سريج: يا أبا بكر هذا قول مَنْ مِنَ المُسْلِمِيْنَ
تَقَدَّمَكُم فِيْهِ فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ:
أَتَظُنُّ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدْتَ قَوْلَهُم إِجْمَاعاً
فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ عِنْدِي إِجمَاعٌ أَحْسَنُ
أَحْوَالِهِم أَنْ أَعُدُّهُم خِلاَفاً، وَهَيْهَاتَ أَنْ
يَكُونُوا كَذَلِكَ فَغَضِبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَقَالَ:
أَنْتَ بِكِتَابِ "الزّهْرَةِ" أَمْهَرُ مِنْكَ بِهَذِهِ
الطَّرِيقَةِ قَالَ: وَبِكِتَابِ "الزّهرَةِ"
تُعَيِّرُنِي، وَاللهِ مَا تُحْسِنُ تَسْتَتِمُّ
قِرَاءتَهُ قِرَاءةَ مَنْ يَفْهَمُ، وَإِنَّهُ لِمَنْ
أَحَدِ المنَاقِبِ لِي إِذْ أَقُولُ فِيْهِ:
أُكَرِّرُ فِي رَوْضِ المَحَاسِنِ مُقْلَتِي ...
وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا
وَيَنْطِقُ سِرِّي عَنْ مُتَرْجَمِ خَاطِرِي ... فلَوْلا
اخْتِلاسِي رَدَّهُ لَتَكَلَّمَا
رَأَيْتُ الهَوَى دَعْوَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِم ...
فَمَا إِنْ أَرَى حُبّاً صَحِيْحاً مُسَلَّما
فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: فَأَنَا الَّذِي أَقُولُ:
وَمُشَاهَدٍ بِالغُنْجِ مِنْ لَحَظَاتِهِ ... قَدْ بِتُّ
أَمْنَعُهُ لَذِيْذَ سُبَاتِهِ
ضِنّاً بِحُسْنِ حَدِيْثِهِ وَعِتَابِهِ ... وَأُكَرِّرُ
اللَّحَظَاتِ فِي وَجَنَاتِهِ
حَتَّى إِذَا مَا الصُّبْحُ لاحَ عَمُوْدُهُ ... وَلَّى
بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَيَّدَ اللهُ القَاضِي قَدْ
أَخْبَرَ بِحَالَةٍ ثُمَّ ادَّعَى البَرَاءةَ مِمَّا
تُوْجِبُهُ فَعَلَيْهِ البَيِّنَةُ فَقَالَ ابْنُ
سُرَيْجٍ: مِنْ مَذْهَبِي أَنَّ المُقِرَّ إِذَا أَقَرَّ
إِقرَاراً نَاطَهُ بِصِفَةٍ كَانَ إِقرَارُهُ موكولًا إلى
صفته تلك.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ القَاضِي: كُنْتُ أُسَايِرُ
مُحَمَّدَ بنَ دَاوُدَ، فَإِذَا بِجَارِيَةٍ تُغَنِّي
بِشَيْءٍ مِنْ شِعْرِهِ وَهُوَ:
أَشْكُو غَلِيْلَ فُؤَادٍ أَنْتَ مُتْلِفُهُ ... شَكْوَى
عَلِيْلٍ إِلَى إِلْفٍ يُعَلِّلُهُ
سُقْمِي تَزِيْدُ مَعَ الأَيَّامِ كَثْرَتُهُ ... وَأَنْتَ
فِي عُظْمِ مَا أَلْقَى تُقَلِّلُهُ
اللهُ حَرَّمَ قَتْلِي فِي الهَوَى سَفَهاً ... وَأَنْتَ
يَا قَاتِلِي ظُلْماً تُحَلِّلُهُ
وَقِيْلَ: كَانَ ابْنُ دَاوُدَ خَصْماً لابْنِ سُرَيْجٍ
فِي المُنَاظَرَةِ كَانَا يَتَرَادَّانِ فِي الكُتُبِ
فَلَمَّا بَلَغَ ابْنَ سُرَيْجٍ مَوْتَ مُحَمَّدِ بنِ
دَاوُدَ حَزِنَ لَهُ وَنَحَّى مَخَادَّهُ وَجَلَسَ
لِلتَّعْزِيَةِ وَقَالَ: مَا آسَى إلَّا عَلَى تُرَابٍ
يَأْكُلُ لِسَانَ مُحَمَّدِ بنِ دَاوُدَ.
(10/277)
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ
سُكَّرَةَ القَاضِي: كَانَ مُحَمَّدُ بنُ جَامعٍ
الصَّيْدَلاَنِيُّ مَحْبُوبَ مُحَمَّدِ بنِ دَاوُدَ
وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى ابْنِ دَاوُدَ، وَمَا عُرِفَ
مَعْشُوقٌ يُنْفِقُ عَلَى عَاشِقِهِ سِوَاهُ وَمِنْ
شِعْرِهِ:
حَمَلْتُ جِبَالَ الحُبِّ فِيْكَ وَإِنَّنِي ... لأعجز عن
جمل القَمِيْصِ وَأَضْعُفُ
وَمَا الحُبُّ مِنْ حُسْنٍ وَلاَ مِنْ سَمَاحَةٍ ...
وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ بِهِ الرُّوْحُ تَكْلَفُ
قَالَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ عَرَفَةَ نِفْطَوَيْه: دَخَلْتُ
عَلَى مُحَمَّدِ بنِ دَاوُدَ فِي مَرَضِهِ فَقُلْتُ:
كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَ: حُبُّ مَنْ تَعْلَمُ أَوْرَثَنِي
مَا ترى. فَقُلْتُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الاسْتِمْتَاعِ بِهِ
مَعَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ قَالَ: الاسْتِمْتَاعُ عَلَى
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: النَّظَرُ وَهُوَ أَوْرَثَنِي مَا
تَرَى وَالثَّانِي: اللَّذَّةُ المَحْظُورَةُ، وَمَنَعَنِي
مِنْهَا مَا حَدَّثَنِي بِهِ أَبِي، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ
بنُ سَعِيْدٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي
يَحْيَى عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ
قَالَ: "مَنْ عَشِقَ وَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ غَفَرَ
الله لَهُ وَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ"1. ثُمَّ أَنْشَدَ
لِنَفْسِهِ:
انْظُرْ إِلَى السِّحْرِ يَجْرِي فِي لَوَاحِظِهِ ...
وَانْظُرْ إِلَى دَعَجٍ فِي طَرْفِهِ السَّاجِي2
وَانْظُرْ إِلَى شَعَرَاتٍ فَوْقَ عَارِضِهِ ...
كَأَنَّهُنَّ نِمَالٌ دَبَّ فِي عَاجِ
قَالَ نِفْطَوَيْه: وَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ أَوْ فِي
اليَوْمِ الثَّانِي.
رَوَاهَا جَمَاعَةٌ عَنْ نِفْطَوَيْه.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ: كُنْتُ عِنْدَ
يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ فَذَكَرْتُ لَهُ حَدِيْثاً
سَمِعْتُهُ مِنْ سُوَيْدِ بنِ سَعِيْدٍ فَذَكَرَ
الحَدِيْثَ المَذْكُوْرَ فَقَالَ: وَاللهِ لَوْ كَانَ
عِنْدِي فَرَسٌ وَرُمْحٌ لَغَزَوْتُ سُويداً فِي هذا
الحديث.
__________
1 موضوع: أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" "5/ 156، 262"،
"6/ 50-51"، "13/ 184" من طرق عن سويد بن سعيد الحدثاني،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى
القَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَرْفُوْعاً.
قلت: إسناده ضعيف فيه علتان: الأولى: ضعف أبي يحيى القتات،
واسمه زاذان، وقيل غير ذلك قال الحافظ في "التقريب": لين
الحديث. الثانية: ضعف سويد بن سعيد، قال الحافظ في
"التقريب": "صدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس
من حديثه، وأفحش فيه ابن معين القول". قال ابن القيم في
كتابه "زاد المعاد" "4/ 275"، ولا تغتر بالحديث الموضوع
... فإن هذا الحديث لا يصح عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يجوز أن يكون من كلامه،
فإن الشهادة درجة عالية عند الله مقرونة بدرجة الصديقية
ولها أعمال وأحوال هي شروط في حصولها ... راجع كلامه
لزامًا فإنه مفيد جدًّا.
2 الدَّعَج: شدة سواد العين في شدة بياضها. والساجي:
الساكن.
(10/278)
قلت: هو مما نقموا على سويد.
قال "ابن حزم": تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ فِي عَاشِرِ
رَمَضَانَ، سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بنُ عَبْدِ المُنْعِمِ عَنِ
الكِنْدِيِّ، وَقَرَأْتُ عَلَى أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بنِ
المُوَفَّقِ الشَّافِعِيِّ: أَخْبَرَكُم مُحَمَّدُ بنُ
عَلِيِّ بنِ النَّشبِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا زَيْدُ بنُ
الحَسَنِ الكِنْدِيُّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بنُ هِبَةِ
اللهِ الكَاتِبُ، سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ
يَقُوْلُ: ثُمَّ انْتَهَى الفِقْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي
جَمِيعِ البِلاَدِ الَّتِي انْتَهَى إِلَيْهَا الإِسْلاَمُ
إِلَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيْفَةَ،
وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَدَاوُدَ، وَانْتَشَرَ عَنْهُمُ
الفِقْهُ فِي الآفَاقِ وَقَامَ بِنُصْرَةِ مَذَاهِبِهِم
أَئِمَّةٌ يَنْتَسِبُوْنَ إِلَيْهِم، وَيَنْصُرُوْنَ
أَقْوَالَهُم.
وَبِهِ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللهُ: وَأَمَّا
دَاوُدُ: فَقَامَ بِنَقْلِ فِقْهِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ، مِنْهُم: ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ،
وَكَانَ فَقِيْهاً أَدِيْباً شَاعِراً ظَرِيْفاً، وَكَانَ
يُنَاظِرُ إِمَامَ أَصْحَابِنَا أَبَا العَبَّاسِ بنَ
سُرَيْجٍ، وَخَلَفَ أَبَاهُ فِي حَلْقَتِهِ، وَسَمِعْتُ
شَيْخَنَا القَاضِي أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ
يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَبَا العَبَّاسِ الخُضَرِيَّ قَالَ:
كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ
دَاوُدَ فَجَاءتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: مَا تَقُوْلُ فِي
رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ لاَ هُوَ يُمْسِكُهَا، وَلاَ هُوَ
يُطَلِّقُهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ
أَهْلُ العِلْمِ فَقَالَ قَائِلُوْنَ: تُؤْمَرُ
بِالصَّبْرِ، وَالاحْتِسَابِ، وَتَبْعَثُ عَلَى الطَّلَبِ
وَالاكْتِسَابِ، وَقَالَ قَائِلُوْنَ: يُؤْمَرُ
بِالإِنْفَاقِ وَإِلاَّ حُمِلَ عَلَى الطَّلاَقِ فَلَمْ
تَفْهَمِ المرْأَةُ قَوْلَهُ فَأَعَادَتْ سؤالها عليه
فقال: يا قد هذه أَجَبْتُكِ وَلَسْتُ بِسُلْطَانٍ
فَأَمْضِي، وَلاَ قَاضٍ فَأَقْضِي، وَلاَ زَوْجٍ فَأُرْضِي
فَانْصَرِفِي.
قَالَ لَنَا أَبُو العَبَّاسِ بنُ الظَّاهِرِيُّ عَنِ
ابْنِ النَّجَّارِ، قَالَ: وهب بن جامع ابن وَهْبٍ
العَطَّارُ الصَّيْدَلاَنِيُّ صَاحِبُ مُحَمَّدِ بنِ
دَاوُدَ كَانَ قَدْ أَحَبَّهُ، وَشُغِفَ بِهِ حَتَّى مَاتَ
مِنْ حُبِّهِ وَمِنْ أَجْلِهِ صَنَّفَ كِتَابَ:
"الزَّهرَةِ".
حَدَّثَ عَنْ ابْنِ دَاوُدَ: مُحَمَّدُ بنُ مُوْسَى
البَرْبَرِيُّ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ قَاسِمٌ.
أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بنُ سَلاَمَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بنِ
مُحَمَّدٍ التَّيْمِيِّ أنبأنا عبد الغفار بن محد
النَّيْسَابُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الكَرِيْمِ بنُ
مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ الشِّيرَازِيُّ الحَافِظُ، سَنَةَ
سَبْعٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَأَرْبَعِ مئة بِالدَّامَغَانِ،
حَدَّثَنَا الجَدُّ مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ الظَّاهِرِيُّ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ صَالِحٍ
المَنْصُوْرِيُّ القَاضِي، أَخْبَرَنَا القَاسِمُ بنُ
وَهْبٍ الدَّاوُودِيُّ، حَدَّثَنِي وَهْبُ بنُ جَامِعٍ
العَطَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ
دَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيْدٍ
البَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ
(10/279)
حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
أَبِي حَرْبٍ بنِ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِي
الرَّضِيْعِ: "يُنضح بول الغلام ويُغسل بول الجارية" 1.
وَقَالَ عَبْدُ الكَرِيْمِ بنُ مُحَمَّدٍ الحَافِظُ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ الحُسَيْنِ
الفَارِسِيُّ، الوَاعِظُ إِملاَءً بِالرَّيِّ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ العَلَوِيُّ، حَدَّثَنِي
جَدِّي سَمِعْتُ وَهْبَ بنَ جَامِعٍ العَطَّارَ صَدِيْقَ
ابْنِ دَاوُدَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى المُتَّقِي للهِ:
فَسَأَلَنِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ دَاوُدَ: هَلْ رَأَيْتَ
مِنْهُ مَا تَكْرَهُ قُلْتُ: لاَ يَا أَمِيْرَ
المُؤْمِنِيْنَ إلَّا أَنِّي بِتُّ عِنْدَهُ لَيْلَةً
فَكَانَ يَكْشِفُ عَنْ وَجْهِي ثُمَّ يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ
إِنَّكَ تَعْلَمُ إِنِّي لأُحِبُّهُ، وَإِنِّي
لأُرَاقِبُكَ فِيْهِ.
قَالَ: فَمَا بَلَغَ مِنْ رِعَايَتِكَ مِنْ حَقِّهِ
قُلْتُ: دَخَلْتُ الحَمَّامَ فَلَمَّا خَرَجْتُ نَظَرْتُ
فِي المِرَآةِ فَاسْتَحْسَنْتُ صُورَتِي فَوْقَ مَا
أَعْهَدُ فغَطَّيْتُ وَجْهِي، وَآلَيْتُ أَنْ لاَ يَنْظُرَ
إِلَى وَجْهِي أَحَدٌ قَبْلَهُ، وَبَادَرْتُ إِلَيْهِ
فَكَشَفَ وَجْهِي فَفَرِحَ، وَسُرَّ وَقَالَ: سُبْحَانَ
خَالِقِهِ، وَمُصَوِّرِهِ وَتَلا: {هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} [آل عمران:
6] .
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "1/ 97، 137"، وأبو داود "378"،
والترمذي "610"، وابن ماجة "525"، والطحاوي في "شرح معاني
الآثار" "1/ 92"، والدارقطني "1/ 129"، والحاكم "1/
165-166" والبيهقي في "السنن" "2/ 415"، من طريق معاذ بن
هشام، عن أبيه، عن قتادة، به.
(10/280)
2273- أبو إبراهيم الزُّهْري 1:
الإِمَامُ الرَّبَّانِيُّ الثِّقَةُ أَبُو إِبْرَاهِيْمَ
أَحْمَدُ بنُ سعد بن الإِمَامِ، إِبْرَاهِيْمَ بنِ سَعْدِ
بنِ إِبْرَاهِيْمَ ابْنِ صَاحِبِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ
عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ العَوْفِيُّ البَغْدَادِيُّ أَخُو
عُبَيْدِ اللهِ بنِ سَعْدٍ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ سَعْدٍ.
وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِيْنَ وَمائَةٍ.
وَلَمْ يَلْحَقْ أَخْذَ العِلْمِ عَنْ أَبِيْهِ، وَلاَ
عَنْ عَمِّهِ يَعْقُوْبَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ.
سَمِعَ مِنْ: عَفَّانَ وَعَلِيِّ بنِ الجَعْدِ وَيَحْيَى
بنِ بُكَيْرٍ وَيَحْيَى بنِ سُلَيْمَانَ الجُعْفِيِّ
وَعَلِيِّ بنِ بَحْرٍ القَطَّانِ، وَمُحَمَّدِ بنِ
سَلاَّمٍ الجُمَحِيِّ وَعِدَّةٍ.
رَوَى عَنْهُ: ابْنُ صَاعِدٍ وَأَبُو عَبْدِ اللهِ
المَحَامِلِيُّ وَأَبُو عَوَانَةَ فِي "صَحِيْحِهِ" فِي
موَاضِعَ فَقَالَ فِي بَعْضِهَا: وَكَانَ مِنَ الأَبْدَالِ
وَآخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُ: إِسْمَاعِيْلُ الصَّفَّارُ.
قَالَ الخَطِيْبُ: كَانَ مَذْكُوْراً بِالعِلْمِ
وَالفَضْلِ مَوْصُوَفاً بِالصَّلاَحِ، وَالزُّهْدِ مِنْ
أَهْلِ بَيْتٍ كُلُّهُمْ عُلَمَاءُ، وَمُحَدِّثُونَ.
قَالَ عُبَيْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: مَضَى عَمِّي أَبُو
إِبْرَاهِيْمَ إِلَى أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ فَلَمَّا رَآهُ
وَثَبَ وَقَامَ إِلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ فَلَمَّا أَنْ مَضَى
قَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ: يَا أَبَهْ شَابٌّ
تَعْمَلُ بِهِ هذا، وتقول إليه قال: لا تُعَارِضْنِي فِي
مِثْلِ هَذَا إلَّا أَقُومُ إِلَى ابْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ.
قَالَ ابْنُ صَاعِدٍ: كَانَ ثِقَةً.
وَقَالَ ابْنُ المُنَادِي: تُوُفِّيَ فِي المُحَرَّمِ
سَنَةَ ثَلاَثٍ وَسَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ. رَحِمَهُ
اللهُ.
قُلْتُ وَإِنَّمَا احتَرَمَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ
لِشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ وَلِتَقْوَاهُ وَفَضْلِهِ فَمَنْ
جَمَعَ العَمَلَ وَالعِلْمَ فناهيك به!
__________
1 ترجمته في تاريخ بغداد "4/ 181"، والمنتظم "5/ 88".
(10/280)
2274- أبو يونس الجُمَحِي 1:
مُفْتِي المَدِيْنَةِ الإِمَامُ، أَبُو يُوْنُسَ مُحَمَّدُ
بنُ أَحْمَدَ بنِ يَزِيْدَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ يَزِيْدَ
القُرَشِيُّ الجُمَحِيُّ المَدَنِيُّ الفَقِيْهُ
المَالِكِيُّ.
تَفَقَّهَ بِأَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَحَدَّثَ عَنْ إِسْحَاقَ بنِ مُحَمَّدٍ الفَرْوِيِّ،
وَإِسْمَاعِيْلَ بنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَإِبْرَاهِيْمَ بنِ
المُنْذِرِ، وَأَبِي مُصْعَبٍ وَبِشْرِ بنِ عُبَيْسٍ
العَطَّارِ، وَعِدَّةٍ.
رَوَى عَنْهُ: زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ، وَيَحْيَى بنُ
الحَسَنِ العَلَوِيُّ النَّسَّابَةُ، وَأَبُو بِشْرٍ
الدُّوْلاَبِيُّ وَأَبُو عَوَانَةَ الإِسْفَرَايِيْنِيُّ،
وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَمُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ
الدَّيْبُلِيُّ، وَآخَرُوْنَ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَدُوْقٌ كان مفتي المدينة.
تُوُفِّيَ فِي حُدُوْدِ السَّبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَقِيْلَ: إِنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَى عَنْهُ عَنِ
الحُمَيْدِيِّ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ بَلْ شَيْخُ أَبِي
دَاوُدَ هُوَ: مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ أَنَسٍ
القُرَشِيُّ النَّيْسَابُوْرِيُّ لَقِيَ أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ المُقْرِئَ، وَأَقْرَانَهُ بِمَكَّةَ.
__________
1 ترجمته في الجرح والتعديل "7/ ترجمة 1040"، وتهذيب
التهذيب "9/ 24"، وخلاصة الخزرجي "2/ ترجمة 1038".
(10/281)
2275- ومحمد بن
أحمد بن حسين 1: "ت"
ابن مدوية، القُرَشِيُّ، التِّرْمِذِيُّ يُكْنَى: أَبَا
عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
حَدَّثَ عَنْ القَاسِمِ بنِ الحَكَمِ العُرَنِيِّ،
وَعُبَيْدِ اللهِ بن موسى، وأسود ابن شَاذَانَ.
رَوَى عَنْهُ: التِّرْمِذِيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ المُنْذِرِ
شَكَّرٌ، وَأَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي دَاوُدَ، وَآخَرُوْنَ.
وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
ذَكَرْتُهُ لِلتَّمْيِيْزِ وَإِلاَّ فَهُوَ أكبر من
الجمحي.
__________
1 ترجمته في ثقات ابن حبان "9/ 148"، والكاشف "3/ ترجمة
4776"، وتهذيب التهذيب "9/ 21" وتقريب التهذيب "2/ 142"،
وخلاصة الخزرجي "2/ ترجمة 6034".
(10/282)
2276- المُنْتَظَر 1:
الشَّرِيْفُ، أَبُو القَاسِمِ، مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ
العَسْكَرِيُّ بن عَلِيٍّ الهَادِي بنِ مُحَمَّدٍ
الجَوَادِ بنِ عَلِيٍّ الرِّضَى بنِ مُوْسَى الكَاظِمِ بنِ
جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بن مُحَمَّدٍ البَاقِرِ بنِ زَيْنِ
العَابِدِيْنَ بنِ عَلِيِّ بن الحسين الشهيد بن الإِمَامِ،
عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ العَلَوِيُّ الحُسَيْنِيُّ.
خَاتِمَةُ الاثْنَي عَشَرَ سَيِّداً، الَّذِيْنَ تَدَّعِي
الإِمَامِيَّةُ عِصْمَتَهُم -وَلاَ عِصْمَةَ إلَّا
لِنَبِيٍّ- وَمُحَمَّدٌ هَذَا هُوَ الَّذِي يَزْعُمُوْنَ
أَنَّهُ الخَلَفُ الحُجَّةُ، وَأَنَّهُ صَاحِبُ
الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ صَاحِبُ السِّرْدَابِ بِسَامَرَّاءَ
وَأَنَّهُ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، حَتَّى يَخْرُجَ فَيَمْلأَ
الأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً،
وَجُوراً فَوَدِدْنَا ذَلِكَ وَاللهِ، وَهُم فِي
انْتِظَارِهِ مِنْ أَرْبَعِ مئة وَسَبْعِيْنَ سَنَةً
وَمَنْ أَحَالَكَ عَلَى غَائِبٍ لَمْ يُنْصِفْكَ فَكَيْفَ
بِمَنْ أَحَالَ عَلَى مُسْتَحِيلٍ، وَالإِنْصَافُ عَزِيْزٌ
فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الجَهْلِ وَالهَوَى.
فَمَوْلاَنَا الإِمَامُ عَلِيٌّ مِنَ الخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ- نُحِبُّهُ أَشَدَّ الحُبِّ، وَلاَ نَدَّعِي
عِصْمَتَهُ وَلاَ عِصْمَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.
وَابْنَاهُ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ: فَسِبْطَا رَسُوْلِ
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَيِّدَا
شَبَابِ أَهْلِ الجنة، لو استخلفا لكانا اهلًا لذلك.
__________
1 ترجمته في وفيات الأعيان لابن خلكان "4/ ترجمة 562"،
والعبر "2/ 31"، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي "2/
150".
(10/282)
وزَيْنُ العَابِدِيْنَ: كَبِيْرُ القَدْرِ،
مِنْ سَادَةِ العُلَمَاءِ العَامِلِينَ، يَصْلُحُ
لِلإِمَامَةِ، وَلَهُ نُظَرَاءُ وَغَيْرُهُ أَكْثَرُ
فَتْوَىً مِنْهُ وَأَكْثَرُ رِوَايَةً.
وَكَذَلِكَ ابْنُهُ أَبُو جَعْفَرٍ البَاقِرُ: سَيِّدٌ،
إِمَامٌ، فَقِيْهٌ يَصْلُحُ لِلْخِلاَفَةِ.
وَكَذَا وَلدُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: كَبِيْرُ الشَّأْنِ،
مِنْ أَئِمَّةِ العِلْمِ، كَانَ أَوْلَى بِالأَمْرِ مِنْ
أَبِي جَعْفَرٍ المَنْصُوْرِ.
وَكَانَ وَلَدُهُ مُوْسَى: كَبِيْرَ القَدْرِ جَيِّدَ
العِلْمِ أَوْلَى بِالخِلاَفَةِ مِنْ هَارُوْنَ، وَلَهُ
نُظَرَاءُ فِي الشَّرَفِ وَالفَضْلِ.
وَابْنُهُ عَلِيُّ بنُ مُوْسَى الرِّضَا: كَبِيْرُ
الشَّأْنِ لَهُ عِلْمٌ وَبَيَانٌ وَوَقْعٌ فِي النُّفُوْسِ
صَيَّرَهُ المَأْمُوْنُ، وَلِيَّ عَهْدِهِ لجلالته فتوفي
سنة ثلاث ومئتين.
وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ الجَوَادُ: مِنْ سَادَةِ قَوْمِهِ
لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ آبَائِهِ فِي العِلْمِ،
وَالفِقْهِ، وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ المُلَقَّبُ بِالهَادِي:
شَرِيْفٌ جَلِيْلٌ.
وَكَذَلِكَ ابْنُهُ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ العَسْكَرِيُّ
رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى.
فَأَمَّا مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ هَذَا: فَنَقَلَ أَبُو
مُحَمَّدٍ بنُ حَزْمٍ: أَنَّ الحَسَنَ مَاتَ عَنْ غَيْرِ
عَقِبٍ قَالَ: وَثَبَتَ جُمْهُورُ الرَّافِضَةِ عَلَى
أَنَّ لِلْحَسَنِ ابْناً أَخْفَاهُ. وَقِيْلَ: بَلْ وُلِدَ
لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، مِنْ أَمَةٍ اسْمُهَا: نَرْجِسٌ
أَوْ سَوْسَنٌ وَالأَظْهَرُ عِنْدَهُم أَنَّهَا صَقِيْلٌ،
وَادَّعَتِ الحَمْلَ بَعْدَ سَيِّدِهَا فَأُوْقِفَ
مِيرَاثُهُ لِذَلِكَ سَبْعَ سِنِيْنَ، وَنَازَعَهَا فِي
ذَلِكَ أَخُوْهُ جَعْفَرُ بنُ عَلِيٍّ فَتَعَصَّبَ لَهَا
جَمَاعَةٌ، وَلَهُ آخَرُوْنَ ثُمَّ انْفَشَّ ذَلِكَ
الحَمْلُ، وَبَطَلَ فَأَخَذَ مِيرَاثَ الحَسَنِ أَخُوْهُ
جَعْفَرٌ وَأَخٌ لَهُ، وَكَانَ مَوْتُ الحَسَنِ سنة ستين
ومئتين إِلَى أَنْ قَالَ: وَزَادَتْ فِتْنَةُ الرَّافِضَةِ
بِصَقِيْلٍ، وَبِدَعْوَاهَا إِلَى أَنْ حَبَسَهَا
المُعْتَضِدُ بَعْدَ نَيِّفٍ وَعِشْرِيْنَ سَنَةً مِنْ
مَوْتِ سَيِّدِهَا، وَجُعِلَتْ فِي قَصْرِهِ إِلَى أَنْ
مَاتَتْ فِي دَوْلَةِ المُقْتَدِرِ.
قُلْتُ: وَيَزْعُمُوْنَ أَنَّ مُحَمَّداً دَخَلَ
سِرْدَاباً فِي بَيْتِ أَبِيْهِ، وَأُمُّهُ تَنْظُرُ
إِلَيْهِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى السَّاعَةِ مِنْهُ وَكَانَ
ابْنَ تِسْعِ سِنِيْنَ وَقِيْلَ دُوْنَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَقِيْلَ: بَلْ دَخَلَ وَلَهُ
سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي سنة خمس وسبعين ومئتين
وَقِيْلَ: بَلْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّيْنَ، وَأَنَّهُ
حي.
نَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ زوَالِ العَقْلِ فَلَو فَرَضْنَا
وُقُوعَ ذَلِكَ فِي سَالِفِ الدَّهْرِ فَمَنِ الَّذِي
رَآهُ وَمَنِ الَّذِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي إِخْبَارِهِ
بِحَيَاتِهِ، وَمَنِ الَّذِي نَصَّ لَنَا عَلَى
عِصْمَتِهِ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ؟
هَذَا هَوَسٌ بَيِّنٌ، إِنْ سَلَّطْنَاهُ عَلَى العُقُولِ
ضَلَّتْ، وَتَحَيَّرَتْ بَلْ جَوَّزَتْ كُلَّ بَاطِلٍ
أَعَاذَنَا اللهُ وَإيَّاكُم مِنَ الاحْتِجَاجِ
بِالمُحَالِ، وَالكَذِبِ أَوْ رَدِّ الحَقِّ الصَّحِيْحِ
كَمَا هُوَ دَيْدَنُ الإِمَامِيَّةِ.
وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الحَسَنَ العَسْكرِيَّ لَمْ
يُعْقِبْ: مُحَمَّدُ بنُ جَرِيْرٍ الطَّبرِيُّ وَيَحْيَى
بنُ صَاعِدٍ، وَنَاهِيْكَ بِهِمَا مَعْرِفَةً، وثقة.
(10/283)
2277- يوسف بن بَحْر 1:
الإِمَامُ الرَّحَّالُ أَبُو القَاسِمِ التَّمِيْمِيُّ
البَغْدَادِيُّ، ثُمَّ الطَّرَابُلُسِيُّ قَاضِي حِمْصَ
ثُمَّ نَزَلَ جَبْلَةَ.
سَمِعَ: عَلِيَّ بنَ عَاصِمٍ، وَيَزِيْدَ بنَ هَارُوْنَ
وَأَبَا النَّضْرِ، وَحَجَّاجَ بنَ مُحَمَّدٍ،
وَالأَسْوَدَ بنَ عَامِرٍ، وَمَرْوَانَ بنَ مُحَمَّدٍ.
وَعَنْهُ: ابْنُ صَاعِدٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ المُسَيَّبِ
الأَرْغِيَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ سُلَيْمَانَ أَخُو
خَيْثَمَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَآخَرُوْنَ.
وَرَوَى الكَثِيْرَ.
وَجَاءَ عَنْ خَيْثمَةَ: أَنَّهُ ارْتَحَلَ إِلَيْهِ
بُعَيْدَ سَنَةِ سَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ إِلَى جَبْلَةَ.
فَأَسَرَهُ الفِرِنْجُ.
قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَيْسَ هُوَ بِالقَوِيِّ رَفَعَ
أحاديث أتى عن الثقات بمناكير.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الحَاكِمُ: لَيْسَ بِالمَتِيْنِ
عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيْفٌ وَقَالَ مَرَّةً:
لَيْسَ بِالقَوِيِّ.
__________
1 ترجمته في الجرح والتعديل "9/ ترجمة 915"، وتاريخ بغداد
"14/ 305"، وميزان الاعتدال "4/ 462"، ولسان الميزان "6/
318".
(10/284)
2278- الخَصَّاف 1:
العَلاَّمَةُ، شَيْخُ الحَنَفِيَّةِ، أَبُو بَكْرٍ
أَحْمَدُ بنُ عَمْرِو بنِ مُهَيْرٍ الشَّيْبَانِيُّ،
الفَقِيْهُ، الحَنَفِيُّ، المُحَدِّثُ.
حَدَّثَ عَنْ: وَهْبِ بنِ جَرِيْرٍ، وَأَبِي عَامِرٍ
العَقَدِيِّ، وَالوَاقِدِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَعَمْرِو
بنِ عَاصِمٍ، وَعَارِمٍ، وَمُسْلِمِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ،
وَالقَعْنَبِيِّ، وَخَلْقٍ كَثِيْرٍ.
ذَكَرَهُ ابْنُ النَّجَّارِ فِي "تَارِيْخِهِ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ النَّدِيْمُ: كَانَ
فَاضِلاً، صَالِحاً فَارِضاً، حَاسِباً، عَالِماً
بِالرَّأْيِ، مُقَدَّماً عِنْدَ المُهْتَدِي بِاللهِ،
حَتَّى قَالَ النَّاسُ: هُوَ ذَا يُحْيي دَوْلَةَ أَحْمَدَ
بنِ أَبِي دُوَادَ وَيُقَدِّمُ الجَهْمِيَّةَ.
صَنَّفَ للمُهْتَدِي كِتَابَ: "الخَرَاجِ" فَلَمَّا قُتِلَ
المُهْتَدِي، نُهِبَتْ دار
الخصاف، وذهبت بعض كتبه.
صَنَّفَ كِتَابَ "الحِيَلِ" وَكِتَابَ "الشُّرُوطِ
الكَبِيْرِ" ثُمَّ اخْتَصَرَهُ، وَ"الرَّضَاع"، وَ"أَدَب
القَاضِي"، وَ"العَصِيْر وَأَحْكَامهِ"، وَ"أَحْكَام
الوُقُوْفِ"، وَ"ذَرْع الكَعْبَةِ وَالمَسْجَدِ
وَالقَبْرِ".
وَيُذْكَرُ عَنْهُ زُهْدٌ وَوَرَعٌ وَأَنَّهُ كَانَ
يَأْكُلُ مِنْ صَنْعَتِهِ رَحِمَهُ اللهُ، وَقَلَّ مَا
رَوَى وَكَانَ قَدْ قَارَبَ الثَّمَانِيْنَ.
مات ببغداد سنة أحدى وستين ومائتين.
__________
1 ترجمته في الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي "7/ 266".
(10/285)
2279- ابن المُدَبِّر 1:
الوَزِيْرُ الكَبِيْرُ أَبُو إِسْحَاقَ، إِبْرَاهِيْمُ بنُ
مُحَمَّدِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ المُدَبِّرِ
الضَّبِّيُّ.
أَحَدُ البُلَغَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، وَزَرَ لِلمُعْتَمِدِ،
وَهُوَ أَخُو أَحْمَدَ بنِ المُدَبِّرِ، وَمُحَمَّدٍ.
حَكَى عَنْهُ: عَلِيٌّ الأَخْفشُ وَجَعْفَرُ بنُ
قُدَامَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ الصُّوْلِيُّ، وَغَيْرُهُم.
وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ كُتَّابِ التَّرَسُّلِ
يُقَارِبُهُ في فنه، وتوسعه ولم يزل عالي المَكَانَةِ
إِلَى أَنْ نُدِبَ إِلَى الوِزَارَةِ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ
وَسِتِّيْنَ وَمائَتَيْنِ فَاسْتُعفِيَ لِكَثْرَةِ
المُطَالَبَةِ بِالمَالِ.
وَكَانَ وَافِرَ الحِشْمَةِ كَثِيْرَ البَذْلِ، وَفِيْهِ
يقول أبو هفان:
يابن المُدَبِّرِ أَنْتَ عَلَّمْتَ الوَرَى ... بَذْلَ
النَّوَالِ وَهُمْ بِهِ بُخَلاَءُ
لَوْ كَانَ مِثْلَكَ فِي البَرِيَّةِ وَاحِدٌ ... فِي
الجُوْدِ لَمْ يَكُ فِيهِمُ فَقُرَاءُ
وَلَهُ أَخْبَارٌ طَوِيْلَةٌ فِي "تَارِيْخِ" ابْنِ
النَّجَّارِ.
مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَمَاتَ أَخُوْهُ أَحْمَدُ بنُ المُدَبِّرِ، أَبُو
الحَسَنِ الكَاتِبُ السَّامَرِّيُّ سنة سَبْعِيْنَ
قَبْلَهُ. وَكَانَ وَلِيَ مسَاحَةَ الشَّامِ
لِلمُتَوَكِّلِ، وَكَانَ بَلِيْغاً مُتَرَسِّلاً صَاحِبَ
فُنُوْنٍ يَصْلُحُ لِلقْضَاءِ وَلِلبُحْتُرِيِّ فِيْهِ
مَدَائِحُ.
ثُمَّ وَلِيَ خَرَاجَ مِصْرَ مَعَ دِمَشْقَ. ثُمَّ قَبَضَ
عَلَيْهِ أَحْمَدُ بنُ طُولُوْنَ، وَسَجَنَهُ وَعَذَّبَهُ
ثُمَّ طَلَبَهُ، وَقَالَ: كَيْفَ حَالُكَ فَقَالَ:
أَخَذَكَ اللهُ مِنْ مَأْمَنِكَ يَا عَدُوَّ اللهِ
فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَقِيْلَ: بَلْ هَلَكَ فِي السِّجْنِ.
وَلإِبْرَاهِيْمَ أَخْبَارٌ مَعَ عُرَيْبٍ المُغَنِّيَةِ،
فِي تَعَشُّقِهِ لَهَا وَأَنَّهَا بَعْدَ أَنْ عَجَزَتْ
زَارَتْهُ يَوْماً فِي جَوَارِيهَا فَوَصَلَهَا بِنَحْوٍ
مِنْ ألفي دينار ذلك اليوم.
__________
1 ترجمته في الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني "22/ 151"،
ومعجم الأدباء لياقوت الحموي "1/ 226"، وفوات الوفيات
لمحمد بن شاكر الكتبي "1/ 45"، والوافي بالوفيات لصلاح
الدين الصفدي "6/ 107".
(10/285)
2280- السُّكَّري 1:
العَلاَّمَةُ، البَارِعُ، شَيْخُ الأَدبِ، أَبُو سَعِيْدٍ
الحَسَنُ بنُ الحُسَيْنِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بنِ العلاء بن أبي صفرة بن الأَمِيْرِ
المُهَلَّبِ بنِ أَبِي صُفْرَةَ الأَزْدِيُّ،
المُهَلَّبِيُّ، السُّكَّرِيُّ النَّحْوِيُّ صَاحِبُ
التَّصَانِيْفِ.
سَمِعَ مِنْ: يَحْيَى بنِ مَعِيْن وَجَمَاعَةٍ.
وَأَخَذَ العَرَبِيَّةَ عَنْ أَبِي حاتم السجستاني،
والرياشي، وعمر بن شبة.
رَوَى عَنْهُ: مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ الحَكِيْمِيُّ،
وَمُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ التَّارِيْخِيُّ، وَأَبُو
سَهْلٍ بنُ زِيَادٍ، وَصَنَّفَ التَّصَانِيْفَ.
قَالَ الخَطِيْبُ: كَانَ ثِقَةً دَيِّناً صَادِقاً
يُقْرِئُ القُرْآنَ، وَانْتَشَرَ عَنْهُ شَيْءٌ كَثِيْرٌ
مِنْ كُتُبِ الأَدَبِ.
لَهُ كِتَابُ "الوُحُوشِ" وَكِتَابُ "النَّبَاتِ".
وَكَانَ عَجَباً فِي مَعْرِفَةِ أَشْعَارِ العَرَبِ،
أَلَّفَ لِجَمَاعَةٍ مِنْهُم دَوَاوينَ، فَجَمَعَ شِعْرَ
أَبِي نُوَاسٍ وَشَرَحَهُ فِي ثَلاَثِ مُجَلَّدَاتٍ،
وَدَوَّنَ شِعْرَ امرِئِ القَيْسِ، وَشِعْرَ
النَّابِغَتَيْنِ وَ"دِيْوَانَ قَيْسِ بنِ الخَطِيمِ"،
وَ"دِيْوَانَ تَمِيْمٍ" وَ"دِيوَانَ هُذَيْلٍ"،
وَ"دِيوَانَ الأَعشَى"، وَ"دِيوَانَ زُهَيْرٍ" وَ"دِيوَانَ
الأَخْطَلِ" وَ"دِيوَانَ هُدْبَةَ بنِ خَشْرَمٍ"،
وَأَشْيَاء سِوَى ذَلِكَ.
مَوْلِدُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمائَتَيْنِ
وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِيْنَ ومائتين.
__________
1 ترجمته في تاريخ بغداد "7/ 296"، والمنتظم لابن الجوزي
"5/ 97"، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي "8/ 94"، وبغية
الوعاة للسيوطي "1/ 502".
(10/286)
2281- سليمان
بن وهب 1:
ابن سعيد بن عمرو بن حصين: الوَزِيْرُ الكَبِيْرُ، أَبُو
أَيُّوْبَ الحَارِثِيُّ الكَاتِبُ.
مَوْلِدُهُ بسواد واسط.
وَتَأَدَّبَ فِي صِغَرِهِ، وَكَتَبَ لِلْمَأْمُوْنِ،
وَهُوَ حَدَثٌ. وَتَنَقَّلَتْ بِهِ الأَيَّامُ، إِلَى أَنْ
وَزَرَ لِلمُهْتَدِي سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ، ثُمَّ
وَزَرَ بَعْدُ فِي سَنَةِ "263" لِلْمُعْتَمِدِ فَعُزِلَ
بَعْدَ سَنَة.
وَهُوَ أَخُو الحَسَنِ بنِ وَهْبٍ وَكَانَ جَدُّهُمَا
سَعِيْدٌ نَصْرَانِيّاً يَكْتُبُ فِي دَوَاوِينِ الخَرَاجِ
ثُمَّ اسْتَخْدَمَ الفَضْلُ بنُ سَهْلٍ، وَهْباً وَنَوَّهَ
بِذِكْرِهِ، وَوَلاَّهُ نَظَرَ فَارِسٍ فَوُلِدَ
سُلَيْمَانُ فِي سَنَةِ تِسْعِيْنَ وَمائَةٍ وأخوه أسن
منه. وسمع: سليمان حديثًا كبيرًا، وَكَتَبَ المَنْسُوْبَ.
قَالَ حُسَيْنُ بنُ عَلِيٍّ الكَاتِبُ: سَمِعْتُ
سُلَيْمَانَ بنَ وَهْبٍ يَقُوْلُ: اطَّلَعَ أَبُو تَمَّامٍ
وَأَنَا أَكْتُبُ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا أَيُّوْبَ
كَلاَمُكَ ذَوَّبَ شِعرِي.
قَالَ جَرِيْرُ بنُ أحمد بن أبي داود: كلنا فِي مَجْلِسِ
المُهْتَدِي بِاللهِ فَدَفَعَ إِلَى سُلَيْمَانَ بنِ
وَهْبٍ كِتَاباً وَقَالَ: أَجِبْ عَنْهُ فَلَمَّا قَامَ
قَالَ المُهْتَدِي: مَا فِي صِنَاعَتِهِ لَهُ نَظِيرٌ
غَيْرَ أَنَّهُ يُفْسِدُ نَفْسَهُ بِشَرَهٍ فِيْهِ عَلَى
المَالِ.
وفِي "تَارِيخِ الوُزَرَاءِ" لأَبِي عَبْدِ اللهِ
الجَهْشِيَارِيِّ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ حَسَنَ
الخُلُقِ كَرِيْمَ الطَّبْعِ لَيِّنَ العِشْرَةِ.
وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ بنُ الفُرَاتِ: كَانَ
سُلَيْمَانُ بنُ وَهْبٍ أَكْتَبَ خَلْقِ اللهِ يَداً
وَلِسَاناً.
قُلْتُ: إلَّا أَنَّهُ قَلِيْلُ الخَيْرِ ذَكَرَ مُحَمَّدُ
بنُ الضَّحَّاكِ بنِ الخَصِيبِ أَنَّهُ رَآهُ يَقْرَأُ فِي
مُصْحَفٍ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَة} [الشورى:
20] . فَقَالَ: اللَّهُمَّ! ائتِنِي حَرْثِي فِي
الدُّنْيَا وَلاَ تَجْعَلْ لِي فِي الآخِرَةِ مِنْ
نَصِيْبٍ. فَأُجِيْبَ دُعَاؤُهُ.
وَقَالَ مُحْرِزٌ الكَاتِبُ: كَانَ لِسُيلمَانَ غُلاَمٌ
يُحِبُّهُ فَاسْتُهْتِرَ بِهِ فَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ
امْرَأَتُهُ فَأَبْعَدَهُ.
قَالَ الصُّوْلِيُّ: نَكَبَهُ المُوَفَّقُ وَصَادَرَهُ
فَلَمْ يُوْجَدْ مَعَهُ مَا ظَنَّ فِيْهِ وَجَرَتْ لَهُ
بَعْدُ نَكَبَاتٌ فَمَاتَ مَحْبُوساً فِي صَفَرٍ سَنَةَ
اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ فِي وِزَارَةِ
صَاعِدِ بنِ مَخْلَدٍ.
وَهُوَ وَالِدُ الوَزِيْرِ عُبَيْدِ اللهِ وَجَدُّ
الوَزِيْرِ القَاسِمِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ وَأَبُو جَدِّ
الوَزِيْرِ الحسين.
__________
1 ترجمته في الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني "23/ 3-18"،
والمنتظم لابن الجوزي "5/ 86"، ووفيات الأعيان لابن خلكان
"2/ ترجمة 277"، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي "3/ 37".
(10/287)
2282- الخبيث
1:
هُوَ طَاغيَةُ الزِّنْجِ، عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ العَبْدِيُّ، مِنْ عَبْدِ القَيْسِ.
افْتَرَى وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ زَيْدِ بنِ عَلِيٍّ
العَلَوِيِّ، وَكَانَ مُنَجِّماً طرقِيّاً ذَكِيّاً
حَرُورِيّاً مَاكِراً دَاهِيَةً مُنْحَلاًّ عَلَى رَأْي
فَجَرَةِ الخَوَارِجِ يَتَسَتَّرُ بِالانْتِمَاءِ
إِلَيْهِم، وَإِلاَّ فَالرَّجُلُ دَهْرِيٌّ فَيْلَسُوفٌ
زِنْدِيْقٌ.
ظَهَرَ بِالبَصْرَةِ، وَاسْتغوَى عَبِيْدَ النَّاسِ،
وَأَوبَاشَهُم فَتَجَمَّعَ لَهُ كُلُّ لِصٍّ، وَمُرِيْبٍ
وَكَثُرُوا فَشَدَّ بِهِم أَهْلِ البَصْرَةِ، وَتَمَّ لَهُ
ذَلِكَ وَاسْتبَاحُوا البَلَدَ، واسترقوا الذرية، ومكوا
فنتدب لِحَرْبِهِم عَسْكَرُ المُعْتَمِدِ فَالْتَقَى
الفَرِيقَانِ، وَانْتَصَرَ الخَبِيْثُ، واستفحل بلاءه،
وَطَوَى البِلاَدَ وَأَبَادَ العِبَادَ وَكَادَ أَنْ
يَمْلِكَ بَغْدَادَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الجَيْشِ
عِدَّةُ مَصَافَّاتٍ، وَأَنْشَأَ مَدِينَةً سَمَّاهَا:
المُخْتَارَةَ فِي غَايَةِ الحَصَانَةِ، وزاد جيشه على مئة
أَلْفٍ، وَلَوْلاَ زَنْدَقَتُهُ وَمُرُوْقُهُ لاَسْتَوْلَى
عَلَى المَمَالِكِ.
وَقَدْ سُقْتُ مِنْ فِتْنَتِهِ فِي دَوْلَةِ المُعْتَمِدِ،
وَكَانَتْ أَيَّامُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَ نِفْطَوَيْه: كَانَ أَوَّلاً بِوَاسِطَ، وَرُبَّمَا
كَتَبَ العُوَذَ فَأَخَذَهُ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي عَوْنٍ
فَحَبَسَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ فَمَا لَبِثَ أَنْ خَرَجَ،
وَاسْتَغْوَى الزِّنْجَ يَعْنِي: عَبِيْدَ النَّاسِ
وَالَّذِيْنَ يَكْسَحُوْنَ وَيَزْبِلُوْنَ فَصَارَ مِنْ
أَمْرِهِ مَا صَارَ، وَخَافَتْهُ الخُلَفَاءُ ثُمَّ
أَظْفَرَهُمُ اللهُ بِهِ بَعْدَ حُرُوبٍ تُشَيِّبُ
النَّوَاصِي.
وَقُتِلَ ولله الحمد في سنة سبعين ومئتين فِي صَفَرٍ،
وَلَهُ ثَمَانٌ وَأَرْبَعُوْنَ سَنَةً.
وَلَوْ أَفْرَدْتُ أَخْبَارَهُ وَوقَائِعَهُ لَبَلَغْتُ
مُجَلَّداً وَكَانَ مُفْرِطَ الشجاعة جَرِيّاً دَاهِيَةً
قَدِ اسْتَوْعَبَ ابْنُ النَّجَّارِ سِيْرَتَهُ.
رُئِيَ أَبُوْهُ أَنَّهُ بَالَ فِي مَسجدِ رَسُوْلِ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَوْلَةً أَحْرَقَتْ
نِصْفَ الدُّنْيَا.
وكَانَتْ أُمُّ الخَبِيْثِ تَقُوْلُ: لَمْ يَدَعِ ابْنِي
أَحَداً عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالرَّيِّ حَتَّى خَالَطَهُم
ثُمَّ خَرَجَ إِلَى خُرَاسَانَ فَغَابَ عَنِّي سَنَتَيْنِ،
وَجَاءَ ثُمَّ غَابَ عَنِّي غَيْبَتَهُ الَّتِي خَرَجَ
فِيْهَا فَوَرَدَ عَلَيَّ كِتَابُهُ مِنَ البَصْرَةِ
وَبَعَثَ إِليَّ بِمَالٍ فَلَمْ أَقْبَلْهُ لِمَا صَحَّ
عِنْدِي مِنْ سَفْكِهِ لِلدِّمَاءِ، وَخَرَابِهِ
لِلْمُدُنِ.
قُلْتُ: وَكَانَ أَبُوْهُ دَاهِيَةً شَيطَاناً كَوَلَدِهِ
فَقَالَ عَلِيٌّ: مَرِضْتُ وَأَنَا غُلاَمٌ فَجَلَسَ أَبِي
يَعُودُنِي وَقَالَ لأُمِّي: مَا خَبَرُهُ قَالَتْ:
يَمُوتُ قَالَ: فَإِذَا مَاتَ مَنْ يَخْرِبُ البَصْرَةَ
قَالَ: فَبَقِيَ ذَاكَ في قلبي.
__________
1 ترجمته في شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي "2/ 155".
(10/288)
وَقِيْلَ: مَاتَ أَبُوْهُ بِسَامَرَّاءَ،
سَنَةَ إِحْدَى وَثَلاَثِيْنَ وَمائَتَيْنِ فَقَالَ
عَلِيٌّ الشِّعْرَ وَمَدَحَ بِهِ، وَصَارَ كَاتِباً
وَدَخَلَ فِي ادِّعَاءِ الإِمَامَةِ، وَعِلْمِ
المُغَيَّبَاتِ، وَخَافَ فَنَزَحَ مِنْ سَامَرَّاءَ إِلَى
الرَّيِّ لِمِيرَاثٍ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِيْنَ.
قُلْتُ: بَعْدَ مَصْرَعِ المُتَوَكِّلِ، وَابْنِهِ
وَأُولَئِكَ الخُلَفَاءِ المُسْتَضْعَفِيْنَ
المَقْتُولِيْنَ نَقَضَ أَمْرُ الخِلاَفَةِ جِدّاً،
وَطَمِعَ كُلُّ شَيطَانٍ فِي التَّوثُّبِ، وَخَرَجَ
الصَّفَّارُ بِخُرَاسَانَ وَاتَّسَعَتْ مَمَالِكُهُ
وَخَرَجَ هَذَا الخَبِيْثُ بِالبَصْرَةِ وَفَعَلَ مَا
فَعَلَ وَهَاجَتِ الرُّوْمُ، وَعَظُمَ الخَطْبُ.
ثمَّ بَعْدَ سَنَواتٍ ثَارَتِ القرامطة، والأعراب وظهر
بالمغرب عبيد اللهِ المُلَقَّبُ بِالمَهْدِيِّ،
وَتَمَلَّكَ ثُمَّ دَامت الدَّوْلَةُ فِي ذُرِّيَّةِ
البَاطِنِيَّةِ إِلَى دَوْلَةِ نُوْرِ الدِّيْنِ رَحِمَهُ
اللهُ.
فَادَّعَى بَعْدَ الخَمْسِيْنَ هَذَا الخَبِيْثُ بِهَجَرَ
أَنَّهُ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الفَضْلِ بن حسين زيد
عَبْد اللهِ بنِ عَبَّاسِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ،
وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ فَمَالَ إِلَيْهِ رَئِيْسُ هَجَرَ،
وَنَابَذَهُ قَوْمٌ فَاقْتَتَلُوا فَتَحَوَّلَ إِلَى
الأَحسَاءِ، وَاعْتَصَمَ بِبَنِي الشَّمَّاسِ، وَإِنَّمَا
قَصَدَ البَحْرَيْنِ لِغَبَاوَةِ أَهْلِهَا، وَرَوَاجِ
المَخَارِيْقِ عَلَيْهِم فَحَلَّ مِنْهُم مَحَلَّ نَبِيٍّ،
وَصَدَّقُوهُ بِمرَّةٍ ثُمَّ تَنَكَّرُوا لَهُ لدبرِهِ
فَشَخَصَ إِلَى البَادِيَةِ يَسْتَغْوِي الأَعَارِيْبَ
بِنُفُوْذِ حِيَلِهِ، وَشَعْوَذَتِهِ، وَاعتَقَدُوا فِيْهِ
أَنَّهُ يَعْلَمُ مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَجَعَلَ يُغِيْرُ
عَلَى النَّوَاحِي ثُمَّ تَمَّتْ لَهُ، وَقعَةٌ كَبِيْرَةٌ
هُزِمَ فِيْهَا وَقُتِلَ كُبَرَاءُ أَتْبَاعِهِ،
وَكَرِهَتْهُ العَرَبُ فَقَصَدَ البَصْرَةَ فَنَزَلَ فِي
بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَالتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فِي
سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِيْنَ، وَطَمِعَ فِي مَيْلِ
البَصْرِيِّينَ إِلَيْهِ فَأَمَرَ أَرْبَعَةً فَدَخَلُوا
الجَامعَ يَدْعُونَهُم إِلَى طَاعَتِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ
أَحَدٌ بَلْ وَثَبَ الجُنْدُ إِلَيْهِم فَهَرَبَ، وَأُخِذَ
أَتْبَاعُهُ وَابْنُهُ الكَبِيْرُ وَأُمُّهُ، وَبِنْتُهُ
فَحُبِسُوا.
وَذَهَبَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَقَامَ سَنَةً يَسْتَغوِي
النَّاسَ وَيُضِلُّهُم فَاسْتمَالَ عِدَّةً مِنَ الحَاكَةِ
بِمخَارِيقِهِ، وَالجَهَلَةُ أَسْبَقُ شَيْءٍ إِلَى
أَربَابِ الأَحْوَالِ الشَّيطَانِيَّةِ، وَمَاتَ
مُتَوَلِّي البَصْرَةِ وَهَاجَتِ الأَعرَابُ بِهَا،
وَفَتَحُوا السُّجُونَ فَتَخَلَّصَ قَوْمُهُ فَبَادَرَ
إِلَى البَصْرَةِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَحَوْلَهُ
جَمَاعَةٌ وَاسْتجَابَ لَهُ عَبِيْدٌ زُنُوجٌ لِلنَّاسِ
فَأَفْسَدَهُم، وَجَسَّرَهُم وَعَمَدَ إِلَى جَرِيْدَةٍ
فَكَتَبَ عَلَى خِرْقَةٍ عَلَيْهَا {إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة} [التَّوبَة:
111] وَكَتَبَ اسْمَهُ وَخَرَجَ بِهِم فِي السَّحَرِ
لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ فِي أَلْفِ
نَفْسٍ فَخَطَبَهُم، وَقَالَ: أَنْتُم الأُمَرَاءُ
وَسَتَمْلِكُونَ، وَوَعَدَهُم وَمَنَّاهُم ثُمَّ طَلَبَ
أُسْتَاذِيْهِم وَقَالَ أَرَدْتُ ضَرْبَ أَعنَاقِكُم
لأَذِيَّتِكُم لِهَؤُلاَءِ الغِلْمَانِ قَالُوا: هَؤُلاَءِ
أَبَقُوا وَلاَ يُبقُوْنَ عَلَيْكَ، وَلاَ عَلَيْنَا
فَأَمَرَ غِلْمَانَهُم فَبَطَحُوهُم، وَضَرَبُوا كُلَّ
وَاحِدٍ خَمْسَ مائَةٍ، وَحَلَّفَهُم بِالطَّلاَق أَنْ لاَ
يُعْلِمُوا أَحَداً بِمَوْضِعِهِ.
(10/289)
وَقِيْلَ: كَانَ ثَمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ
أَلْفِ عَبْدٍ يَعْمَلُوْنَ فِي أَمْوَالِ مَوَالِيْهِم،
فَأَنْذَرُوا سَادَاتِهِم بِمَا جَرَى فَقَيَّدُوهُم
فَأَقْبَلَ حِزْبُهُ فَكَسَرُوا قُيْودَهُم، وَضَمُّوهُم
إِلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الفِطْرِ رَكَزَ عَلَمَهُ،
وَصَلَّى بِهِمُ العِيْدَ، وَخَطَبَهُم، وَأَعْلَمَهُم
أَنَّ اللهَ يُرِيْدُ أَنْ يُمَكِّنَ لَهُم
وَيُمَلِّكَهُم، وَحَلَفَ لَهُم عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ نَزَلَ
فَصَلَّى بِهِم.
ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَنْهَبُ، وَيُغِيْرُ وَيَكْثُرُ
جَمْعُهُ مِنْ كُلِّ مَائِقٍ1، وَقَاطِعِ طَرِيْقٍ حَتَّى
اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، وَعَظُمَتْ فِتْنَتُهُ وَغَنِمَ
الخُيُولَ، وَالسِّلاَحَ وَالأَمْتعَةَ، وَالأَمْوَالَ،
وَالموَاشِي وَصَارَ مِنَ المُلُوكِ، وَصَارَ كُلَّمَا
حَارَبَهُ عسكر، وأنهزموا فر إليه غلمان فَحَشَدَ لَهُ
أَهْلُ البَصْرَةِ فِي ذِي القَعْدَةِ مِنَ العَامِ،
وَالْتَقَوا فَهَزَمَهُم، وَقَتَلَ مِنْهُم مَقْتَلَةً،
وَوَقَعَ رُعْبُهُ فِي النُّفُوْسِ فَوَجَّهَ الخَلِيْفَةُ
جَيْشاً فَمَا نَفَعُوا.
ثمَّ أَوْقَعَ بِأَهْلِ الأُبُلَّةِ2 فِي سَنَةِ سِتٍّ
وَأَحْرَقَهَا فَسَلَّمَ أَهْلُ عَبَّادَانِ3 بِأَيدِيهِم،
وَسَالَمُوهُ فَأَخَذَ عَبِيْدَهُم وَسِلاَحَهُم.
ثمَّ أَخَذَ الأَهْوَازَ فَخَافَهُ أَهْلُ البَصْرَةِ،
وَانْجَفَلُوا فَأَخَذَهَا بِالسَّيْفِ فِي شَوَّالٍ
سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِيْنَ، وَقتَ صَلاَةِ الجُمُعَةِ
وَهَرَبَ جُنْدُهَا فَأَحْرَقَ الجَامعَ بِمَنْ حَوَى،
وَلَمْ تَزَلِ الحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُوَفَّقِ
سِجَالاً.
وَاسْتَبَاحَ وَاسِطَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّيْنَ،
وَحَصَلَ لِلْخَبِيْثِ جَوَاهِرُ، وَأَمْوَالٌ
فَاسْتَأْثَرَ بِهَا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ
المُتَقَشِّفُوْنَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَذَكَرُوا لَهُ
سِيْرَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: لَيْسَ فِيْهِمَا
قُدْوَةٌ.
وَادَّعَى أَنَّهُ هُوَ عَبْدُ اللهِ المَذْكُوْرِ فِي:
{قُلْ أُوحِي} [الجِنُّ: 1] وَزَعَم أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَمْتَازُ
عَلَيْهِ إلَّا بِالنُّبُوَّةِ.
وَزَعَمَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي المَهْدِ صِيْحَ بِهِ: يَا
عَلِيُّ فَقَالَ: يَا لَبَّيْكَ.
وَكَانَ يَجْمَعُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى يَسْأَلُهُم
عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيْلِ مِنْ ذكره، وهم
يسخرون منه ويقرءون لَهُ فُصُولاً فَيَدَّعِي أَنَّهَا
فِيْهِ، وَزَادَ مِنَ الإِفْكِ فَنَفَرَتْ مِنْهُ قُلُوْبُ
خَلْقٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ ومقتوه.
__________
1 المائق: الحاقد.
2 الابلة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية
الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة، وهي أقدم من البصرة
قاله ياقوت الحموي في "معجم البلدان".
3 عبادان: موضع تحت البصرة قرب البحر المالح قاله ياقوت في
"معجم البلدان".
(10/290)
|