محض الصواب في
فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الباب الثالث
والعشرون: إقدامه على أشياء من أوامر الرسول عليه السلام
...
الباب الثالث والعشرون: في ذكر إقدامه على أشياء من أوامر
الرسول صلى الله عليه وسلم يؤخذ بذلك لصحة مقصده
في الصحيح عن سلمة1 قال: "خفّت أزواد الناس وأملقوا2،
فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم فأذن لهم،
فلقيهم عمر فأخبروه فقال: "ما بقاؤكم بعد إبلكم؟"، فدخل
عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله بما
بقاؤهم بعد إبلهم؟"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم" ، فدعا وبرّك عليه ثم
دعاهم وبأوعيتهم فاحتثى الناس حتى فرغوا، ثم قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول
الله" 3.
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: "وجد عمر حُلة إستبرق4 تباع
في السوق، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"يا رسول الله ابتع هذه الحلة تجمل بها للعيد وللوفود،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هذه لباس من لا
خلاق له، أو إنما يلبس هذه من لا خلاق له" ، فلبث ما شاء
الله. ثم أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم بجبّة ديباج،
فأقبل بها عمر حتى أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: "يا رسول الله، قلت: "إنما هذه لباس من لا خلاق له،
أو إنما يلبس هذه من لا خلاق له، ثم أرسلت إليّ بهذه؟" ،
فقال: "تبيعها، أو تصيب بها بعض حاجتك"5.
__________
1 ابن الأكوع.
2 افتقروا. (القاموس ص 1193).
3 البخاري: الصحيح، كتاب الشركة 2/879، رقم: 2352.
4 الإستبرق: الديباج الغليظ. (القاموس ص 1120).
5 البخاري: الصحيح، كتاب الجهاد 3/1111، رقم: 2889، مسلم:
الصّحيح، كتاب اللباس والزينة 3/1638، رقم: 2068.
(1/254)
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام
على قتلى بدر وقال: "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟" قال
عمر: "يا رسول الله ما تُكلمُ من أجساد لا أرواح1 فيها".
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمّد بيده ما
أنتم بأسمعَ لما أقول منهم" 2.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لما أراد النبي صلى
الله عليه وسلم أن يصلي على عبد الله بن أبي، جذبه عمر،
وقال: "أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين؟"، فقال:
"أنا بين خيرتين: {اسْتَغْفِرْ لَهُم أَوْ لاَ
تَسْتَغْفِرْ لَهُم إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، فنزلت:
{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحْدٍ مِّنْهُمْ مَّاتَ أَبَداً}
[التوبة: 80، 84]3.
وفي رواية: "فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولتُ حتى قمت في
صدره، فقلت: "يا رسول الله أعلى عدوّ الله ابن أبي القائل
يوم كذا كذا وكذا وكذا، أعدد أيامه، ؟"، قال ورسول الله
صلى الله عليه وسلم يبتسم، حتى إذا أكثرتُ عليه قال:
"أخِّرْ4 عنّي يا عمر إني خيّرت فاخترت قد قيل:
{اسْتَغْفِرْ لَهُم أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُم إِنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، ولو علمت أني إن زدت
على السبعين غفر لهم لزدت".
ثم صلى عليه ومشى معه، فقام على قبره حتى فرغ منه، فعجباً
لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله
أعلم، فو الله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان:
{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحْدٍ مِّنْهُمْ مَّاتَ أَبَداً
وَلاَ تَقُمْ عَلَى
__________
1 في الأصل: (رواح)، وهو تحريف.
2 البخاري: الصحيح، كتاب المغازي 4/1461، رقم: 3757،
بأطول، وأخرجه بنحوه مسلم: الصّحيح، كتاب الجنائز 1/643،
رقم: 93.
3 البخاري: الصحيح، كتاب الجنائز 1/427، رقم: 1210.
4 أي: تأخر: وقيل معناه: أخّر عني كلامك. (فتح الباري
8/337).
(1/255)
قَبْرِهِ} ، إلى قوله: {فَاسِقُونَ} ،
[التوبة : 84]، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعدها على منافق ولا قام على قبره، حتى قبضه الله عزوجل"1.
وعن البراء قال: "لما كان أحد جاء أبو سفيان بن حرب فقال:
"أفيكم محمّد؟"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا
تجيبوه" ، ثم قال: "أفيكم محمّد؟"، فلم يجيبوه، ثم قال
الثالثة، فلم يجيبوه، ثم ذكر أبا بكر وعمر. فقال: "أما
هؤلاء فقد كفيتموهم"، فلم يملك عمر نفسه، قال: "كذبت يا
عدو الله، ها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو
بكر، وأنا، أحياءٌ، ولك منا / [23/ب] يوم سوء"، فقال: "يوم
بيوم بدر والحرب سِجال2، فقال: "أعل هبل"، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه" ، قالوا: "يا رسول الله ما
نقول؟"، قال: "قولوا: الله أعلى وأجل" ، قال3: "لنا العزى
ولا عزى لكم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أجيبوه"، قالوا: "يا رسول الله ما نقول؟"، قال: "قولوا:
الله مولانا ولا مولى لكم" 4.
وعن عكرمة5، أن أبا سفيان لما قال: أعل هبل، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: "قل: الله أعلى وأجل"
، فقال أبو سفيان: "لنا العزى ولا عزى
__________
1 أحمد: المسند 1/195، رقم: 95، قال أحمد شاكر: "إسناده
صحيح"، الترمذي: السنن 5/279، رقم: 3097، وقال: "هذا حديث
حسن صحيح غريب"، وأخرجه البخاري: الصحيح، كتاب الجنائز
1/459، رقم: 1300 بنحوه.
2 السجال: المكافأة في الحرب وغيرها. (شرح أبي ذر الخشني
بحاشية ابن هشام 3/136).
3 في الأصل: (قالوا)، وهو تحريف.
4 البخاري: الصحيح، كتاب الجهاد 2/1106، رقم: 2874، بألفاظ
مقاربة. وأورزه ابن الجوزي: مناقب ص 44.
5 مولى ابن عباس.
(1/256)
لكم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"[ قل ]1: الله مولانا ولا مولى لكم" 2.
وعن أبي وائل،3 قال: "قال سهل بن حنيف في الصلح الذي كان
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، قال:
"جاء عمر فقال: "يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على
الباطل؟"، قال: "بلى" . قال: "أليس قتلانا في الجنة
وقتلاهم في النار؟"، قال: "بلى ". قال: "فعلام نعطي
الدَّنيّة في ديننا ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبينهم؟"،
قال: "يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله
أبداً" ، فانطلق عمر إلى أبي بكر - رضي الله عنهما - ولم
يصبر متغيّظاً حتى أتا أبا بكر، فقال: "يا أبا بكر، ألسنا
على الحق وهم على الباطل؟"، قال: "بلى"، قال: "أليس قتلانا
في الجنة وقتلاهم في النار؟"، قال: بلى. قال: "يا ابن
الخطاب إنه رسول الله، ولن يضيعه الله". فنزل القرآن على
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح فأرسل إلى عمر
فأقرأه، فقال: "يا رسول الله أوفتح هو؟"، قال: "نعم" ،
فطابت نفسه ورجع"4.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "كنا قعوداً حول رسول
الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو بكر وعمر، في نفر، فقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا فأبطأ علينا،
وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا، وقمنا، فكنت أوّل من فزع
فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت
حائطاً5 للأنصار لبني النجار، فدرت به هل أجد له
__________
1 سقط من الأصل.
2 ابن الجوزي: مناقب ص 44، وهو منقطع.
3 شقيق بن سلمة .
4 مسلم: الصّحيح، كتاب الجهاد والسير 3/1411، رقم: 1785،
وسبق تخريجه من رواية البخاري ص 229؟
5 الحائط: البستان. (القاموس ص 856).
(1/257)
باباً فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط
[ من ]1 بئر خارجة (والربيع: الجدول)2، فاحتفزت فدخلت عل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أبو هريرة؟" ، فقلت:
نعم يا رسول الله، قال: "ما شأنك؟" ، قلت: كنت بين
ظهرينا3، فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقطع دوننا،
ففزعنا، وكنت أوّل من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما
يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي. فقال: "يا أبا هريرة -
وأعطاني نعليه - اذهب بنعلي هاتين فمن لقيته من وراء هذا
الحائط يشهد أن لا إله إلا الله / [ 24 / أ ] مستيقناً بها
قلبه فبشره بالجنة"، وكان أوّل من لقيت عمر، فقال: "ما
هذان النعلان يا أبا هريرة؟"، فقلت: هذان نعلا رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعثني بهما من لقيتُ يشهد أن لا إله
إلا الله مستيقناً قلبه بشرته بالجنة، فضرب عمر بين ثدييّ
بيده، فخررت لأستى، فقال: "ارجع يا أبا هريرة"، فرجعت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بالبكاء وركبني4 عمر.
وإذا هو على أثري فقال رسول الله: "ما لك يا أبا هريرة؟" ،
قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني5 به، فضرب بين ثدييّ
ضربة فخررت لأستى، فقال: "ارجع"، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "يا عمر ما حملك على ما فعلت؟" ، فقال: "يا
رسول الله أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله
إلا الله مستيقناً بها قلبه بشّره
__________
1 سقط من الأصل.
2 انظر: لسان العرب 8/107.
3 في الأصل: (أظهرنا)، ثم طمس عيلها، وكتب: (ظهرينا)، وفي
صحيح مسلم: (أظهرنا)، قال النووي: "هكذا هو في الموضعين
أظهرنا، وقال القاضي: "ووقع الثاني في بعض الأصول ظهرينا،
وكلاهما صحيح". (انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 1/334).
4 ركبني: تبعني وجاء على إثري. (لسان العرب 1/432).
5 في الأصل: (بعثني)، وهو تحريف.
(1/258)
بالجنة؟"، قال: "نعم" ، قال: "فلا تفعل؟
فإني أخاف أن يتكل الناس عليها فخلّهم يعملون"، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "فخلّهم" 1.
وعن الأعمش2 عن أبي صالح3 عن أبي سعيد4 أو عن أبي هريرة -
رضي الله عنهما - شك الأعمش. قال: "لما كان في غزوة تبوك5،
أصاب الناس مجاعة، فقالوا يا رسول الله لو أذنت فذبحنا
نواضحنا6 فأكلنا وادّهنّا، فقال لهم رسول الله: "افعلوا" ،
فجاء عمر فقال: "يا رسول الله إنهم إن فعلوا قل الظهر،
ولكن ادعهم فيأتوا بفضل أوزادهم، ثم ادع لهم عليه بالبركة،
فلعل الله عزوجل أن يجعل في ذلك"7، فدعا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بنطع8 فبسطه ثم دعاهم بفضل أزوادهم، فجعل
الرجل يجيء بكف الذرة، والآخر بكف التمر، والآخر بالكسرة،
حتى اجتمع من ذلك على النطع شيء يسير9. ثم دعا النبي صلى
الله عليه وسلم بالبركة ثم قال: "خذوا
__________
1 مسلم: الصّحيح، كتاب الإيمان 1/59، رقم: 31.
2 سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي، الكوفي، ثقة حافظ عارف
بالقراءات ورع لكنه يدلس، توفي سنة سبع وأربعين ومئة.
(التقريب ص 54).
3 ذكوان، أبو صالح السمان الزيات، المدني، ثقة ثبت، توفي
سنة إحدى ومئة. (تهذيب التهذيب 3/189-190، التقريب ص 203).
4 سعد بن مالك الخدري.
5 تبوك: موضع بين وادي القرى والشام، خرج إليها النبي صلى
الله عليه وسلم في سنة تسع للهجرة، وهي آخر غزواته، وتبوك
الآن مدينة كبيرة وهي قاعدة شمال غرب المملكة العربيّة
السّعوديّة، وتبعد عن المدينة حوالي سبع مئة كيل. (معجم
البلدان 2/14، شمال غرب المملكة 1/349).
6 النواضح من الإبل التي يستقى عليها الماء، والأنثى
بالهاء: ناضحة. (لسان العرب 2/619).
7 في محذوف تقديره: "يجعل في ذلك بركة أو خيراً"، فحذف
المفعول به لأنه فضلة. (شرح النووي 1/225).
8 النطع: بالكسر وبالفتح وبالتحريك، وكعِنَب: بساطٌ من
الأديم. (القاموس ص991).
9 في الأصل: (شيئاً يسيراً)، وهو سهو من المؤلف، لأنه فاعل
والفاعل مرفوع، ويسير صفة لشيء.
(1/259)
في أوعيتكم" ، فأخذوا في أوعيتهم حتى ما
تركوا في العكسر وعاء، إلا ملأوه، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت
منه فضلة، فقال رسول الله: "أشهد أن لا إله إلا الله،
وأشهد أني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاك، فيحجب
عن الجنة" 1.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلاً أتى عمر بن
الخطاب2 رضي الله عنه ف قال: "امرأة جاءت تبايعه3 فأدخلها
الدولج4 فأصبت منها ما دون الجماع؟"، فقال: "ويحك لعلها
مُغيبة5 في سبيل الله؟"، ونزل القرآن: {وَأَقِمِ
الصَّلاَةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ
إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيِّئَاتِ} [هود: 114]، /
[ 24 / ب ]، إلى آخر الآية، فقال: "يا رسول الله إليّ خاصة
أم للناس عامة؟"، فضرب صدره - يعني عمر - بيده، وقال: "لا،
ولا نَعْمة عين، بل للناس عامة"، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "صدق عُمر" 6.
وعن عبيدة7، قال: "جاء عيينة بن حصن8 والأقرع
__________
1 مسلم: الصّحيح، كتاب الإيمان 1/56، رقم: 27.
2 هكذا ف في الأصل والمسند.
3 تبتاع منه.
4 الدولج: المخدع. وهو البيت الصغير داخل البيت الكبير.
(لسان العرب 2/274).
5 المُغيبة: والمُغيب: التي غاب عنها زوجها. (النهاية
3/399).
6 أخرجه أحمد: المسند 4/41، قم: 2206، قال أحمد شاكر:
"إسناده صحيح". وأورده الهيثمي: مجمع الزوائد 7/38، بنحوه
وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير - بزيادة - وفي
الأوسط باختصار كثير، وفي إسناده أحمد والكبير عليّ بن
زيد، وهو سيئ الحفظ ثقة، وبقية رجاله ثقات، وإسناد الأوسط
ضعيف".
7 عبيدة بن عمرو السلماني المرادي الكوفي، تابعي كبير
مخضرم، فقيه ثقة، توفي سنة اثنتين وسبعين. (التقريب ص
379).
8 الفزاري: أسلم قبل الفتح وشهدها، وشهد حنيناً والطائف،
ثم ارتدّ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى
الإسلام، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه. (الإصابة
5/55).
(1/260)
ابن حابس1 إلى أبي بكر رضي الله عنه،
فقالا: "يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سبخة2 ليس فيها
كلاً ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعنا لعلنا3 نحرثها أو
نزرعها، لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر لمن
حوله: "ما تقولون فيما قالا، إن كانت أرضاً سبخة لا ينتفع
بها؟"، قالوا: "نرى أن تقطعهما إياها، لعل الله ينفع بها
بعد اليوم"، فأقطعهما إياه، وكتب لهما بذلك كتاباً، وأشهد
عمر، وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر يُشهدانه فوجداه
قائماً يهنأ4 بعيراً له، فقالا: "إن أبا بكر أشهدك على ما
في هذا الكتاب فنقرأ عليك أو تقرأ؟"، فقال: "أنا على الحال
الذي5 تريان، فإن شئتما فاقرءوا وإن شئتما فانظرا حتى
أفرغ، فأقرأ عليكما"، قالا: "بل نقرأ فقرأ فلما سمع ما في
الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل عليه فمحاه، فتذمرا،
وقالا مقالة سيّئة، فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يتألفكما، والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز
الإسلام، فاذهبا فاجهدا جهدكما، لا رعى [ الله ]6 عليكما
إن رعيتما"، قال: فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمّران فقالا:
"والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر؟!"، فقال: "لا، بل هو
لو كان شاء"، قال فجاء عمر - وهو مغضب - فوقف على أبي بكر
فقال: "أخبرني عن هذه
__________
1 ابن عقال التميمي المجاشعي الدارمي، شهد فتح مكة،
وحنيناً، والطائف، واليمامة، ودومة الجندل. وشهد مع خالد
حروب العراق. وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه. (الإصابة
1/59).
2 السّبخة: محركة ومسكنة: أرض ذات نزّ وملح. (القاموس ص
323).
3 في الأصل: (لعل)، وهو تحريف.
4 يهنأ: الإبل يهنؤها، مُثلثة النون، طلاها بالهِناء، أي:
القطران. (لسان العرب1/187، القاموس ص 72).
5 قوله: "الذي"، مطموس في الأصل، والتصويب من الهامش.
6 سقط من الأصل.
(1/261)
الأرض التي أقطعتها هذين، أرضٌ هي لك خاصة،
أم للمسلمين عامة؟"، قال: "بل للمسلمين عامة"، قال: "فما
حملك أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟"، قال: "استشرت
هؤلاء الذين حولي فأشاروا عليّ بذلك"، قال: "فإذا استشرت
هؤلاء الذين حولك، فكل المسلمين أوسعتهم مشورة وَرَضىً)،
فقال أبو بكر رضي الله عنه: "قد كنت قلت لك إنك على هذا
أقوى مني، ولكن غلبتني"1.
وفي الصحيح عن عبد الله بن الزبير2: أنه قدم ركب من بني
تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: "أمِّر
القعقاع بن معبد بن زرارة3"، قال عمر: "بل أمّر الأقرع بن
حابس"، قال أبو بكر: "ما أردت إلا خلافي"، قال عمر: "ما
أردت خلافك" فتماريا4 حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، حتى انقضت"5.
(25/أ ) .
__________
1 البخاري: التاريخ الكبير 1/81، ابن الجوزي: مناقب ص 47،
ابن حجر: الإصابة 5/56، ونسبه للبخاري في التاريخ الصغير
وأمالي المحاملي. والإصابة 1/58، وقال: "وروى البخاري في
تاريخه الصغير ويعقوب بن سفيان بإسناد صحيح". ثم قال: "قال
عليّ بن المديني في العلل: "هذا منقطع؛ لأن عبيدة لم يدرك
القصة، ولا روى عن عمر أنه سمعه منه، قال: ولا يروى عن عمر
بأحسن من هذا الإسناد". وأشار إليه في فتح الباري 13/258،
ونسبه للبخاري في التاريخ الصغير، والهندي في الكنز
12/583، ونسبه ليعقوب بن سفيان وابن عساكر لكن فيه بدل
عيينة الزبرقان.
2 ابن العوام الأسدي، كان أوّل مولود في الإسلام من
المهاجرين وولي الخلافة تسع سنين إلى أن قتل في ذي الحجة
سنة ثلاث وسبعين. (التقريب ص 303).
3 التميمي الدارمي، شهد حنيناً، وكان يقال له: تيار الفرات
لسخائه. (الإصابة 5/245).
4 تماريا: تجادلا وتخاصما. (انظر: لسان العرب 15/278).
5 البخاري: الصحيح، كتاب المغازي 4/1587، رقم: 4109.
(1/262)
وقد راجع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة ففي
الصحيحين والمسند أن أبا هريرة قال: "لما توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر بعده، وكَفَر من كفر من
العرب، قال عمر: "يا أبا بكر كيف تقاتل الناس، وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عصم
مني ماله ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله" ، قال أبو بكر:
"والله لأقاتلن - وقال أبو اليمان1: "لأقتلنّ2 - من فرق
بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني
عناقاً3 كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقاتلهم على منعها". قال عمر: "فوالله ما هو إلا أن رأيت
أن الله عزوجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه
الحق"4.
__________
1 الحكم بن نافع البهراني، الحمصي، مشهور بكنيته ثقة، ثبت،
توفي سنة اثنتين وعشرين ومئتين. (التقريب ص 176).
2 أحمد: المسند 1/206).
3 العناق: هي الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة.
(لسان العرب 10/275).
4 أحمد: المسند 1/206، واللفظ له، والبخاري: الصحيح، كتاب
استتابة المرتدين والمعاندين6/2538، رقم: 6526، ومسلم:
الصّحيح، كتاب الإيمان1/51، رقم: 20.
(1/263)
الباب الرابع
والعشرون: مصارعته الشيطان وخوف الشياطين منه
...
No pages
(1/)
|