محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب

الباب الخامس والعشرون: هيبته وخوف الناس منه
...
الباب الخامس والعشرون: في ذكر هيبته وخوف الناس منه
تقدم في حديث النسوة / [26 / ب] اللاتي كن عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهن لما سمعن صوته قمن فابتدرن الحجاب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لقيك الشيطان سالكاً فجّاً إلا سلك فجّاً غير فجّك" 1.
وسبق: لما خرج عمر وارفض الناس والصبيان2.
وتقدم حديث المرأة في الباب قبله، لما دخل عمر فأخذت الدفّ فوضتعه تحتها3.
وفي الصحيحين عن عائشة: أن فاطمة4 لما توفي استنكر عليّ وجوهَ الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع تلك الأشهر5، فأرسل إلى أبي
__________
1 سبق تخريجه ص 307.
2 سبق تخريجه ص 310.
3 سبق تخريجه ص 309.
4 فاطمة بنت إمام المتقين رسول الله محمّد بن عبد الله الهاشمية، صلى الله على أبيها، ورضي عنها، سيّدة نساء العالمين، توفيت سنة إحدى عشرة. (الإصابة 8/157).
5 ثبت بالأسانيد الصحيحة مبايعة عليّ لأبي بكر - رضي الله عنهما - بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه من ذلك: ما رواه البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: "قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر. . . " إلى أن قال: "ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليّاً، فدعا بعليّ فجاء فقال: قلت: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين، قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فبايعه".
قال ابن كثير: "رواه البيهقي عن الحاكم وأبي محمّد المقري، وقد رواه عليّ بن عاصم عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال: "وهذا إسناد صحيح، محفوظ من حديث أبي نضرة، المنذر بن مالك عن أبي سعيد سعد بن مالك قال: وفيه فائدة جليلة وهي مبايعة عليّ بن أبي طالب إما في أوّل يوم أو اليوم الثاني من الوفاة، وهذا حق، فإن عليّاً بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه.
ومنها: ما رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم حدّثني أبي أنّ أباه عبد الرحمن بن عوف. . . إلى أن قال: وقال عليّ والزبير: ما غضبنا إلا أن أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حيّ". قال ابن كثير: "إسناده جيد". انظر: البداية والنهاية 3/5/218، 219، 3/6/306.
والجمع بين هذا ما ثبت في الصحيحين: أن فاطمة كانت قد أخذت في خاطرها على أبي بكر رضي الله عنه بعض العتب، لظنّها أنّ لها في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، والصواب خلاف ذلك لورود النص، وكذلك في صدقة الأرض التي بخيبر، فلم تكلم الصديق حتى ماتت فاحتاج عليّ أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم رأى عليّ أن يجدد البيعة مع أبي بكر - رضي الله عنها -. مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (انظر: البداية والنهاية 3/219، فتح الباري 7/495، الإمامة ص 143).

(1/270)


بكر: أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك، كراهية ليحضر1 - أو قال لمحضر - عمر بن الخطاب، فقال عمر: "لا والله، لا تدخل عليهم وحدك" فقال أبو بكر: "وما عسيتهم أن يفعلوا بي؟ واللّه لآتينّهم". وذكر باقي الحديث2.
وعن عكرمة3: أن حجاماً كان يقص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان رجلاً مهيباً فتنحنح4 عمر فأحدث الحجام، فأمر له عمر بأربعين درهماً.
__________
1 هذه الرواية في النسخة التي اعتمدها ابن حجر في فتح الباري ولم أجدها في النسخ الأخرى. وقال: "لمحضر عمر، رواية الأكثر". (انظر: فتح الباري 7/494).
2 البخاري: الصحيح، كتاب المغازي 4/1549، رقم: 3998، ومسلم: الصّحيح، كتاب الجهاد والسير 3/1380، رقم: 1759.
3 مولى ابن عباس.
4 تنحنح: تردّد صوته في جوفه. (القاموس ص 312).

(1/271)


واسم هذا الحجام سعيد بن الهيلم1"2.
وعن القاسم بن محمّد3 قال: "بينما عمر يمشي وخلفه عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بدا له فالتفت فإن بقي منهم أحد إلا وجب4 لركبتيه ساقطاً، قال: فأرسل عينيه فبكى ثم قال: "اللهم تعلم أني منك أشد فرقاً منهم مني"5.
وعن الحسن6 - رحمه الله - قال: "بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة يتحدث عنها الرجال فأرسل إليها، قال: وكان عمر رجلاً مهيباً، فلما جاءها الرسول، قالت: "يا ويلها ما لها ولعمر"، فخرجت فضربها المخاض فمرت بنسوة فعرفن الذي بها، فقدمت بغلام فصاح صيحة ثم طفا7 فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فجمع المهاجرين والأنصار واستشارهم، وفي آخر القوم رجل، فقالوا: "يا أمير المؤمنين إنما كنت مؤدباً وإنما أنت راعي8"، قال: "ما تقول يا فلان؟"، قال: "أقول إن كان القوم تابعوك على هواك فوالله ما نصحو لك، وإن يك اجتهادُهم أراهم فوالله لقد أخطأ رأيهم، يا أمير المؤمنين، قال: "فعزمت عليك لما قمت فقسمتها على قومك"، قال: فقيل
__________
1 في الأصل: (الهيام)، وهو تحريف.
2 ابن سعد: الطبقات 3/287، وهو منقطع، ابن الجوزي: مناقب ص 134.
3 ابن أبي بكرالتيمي، ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة، توفي سنةست ومئة. (التقريب ص 451).
4 الوجْبة: السقطة مع الهَدّة. (القاموس ص 180).
5 ابن الجوزي: مناقب ص 134، وهو منقطع.
6 البصري.
7 طفا فلان: مات. (القاموس ص 1685).
8 كذا في الأصل، على لغة إثبات يا المنقوص، والأشهر حذفها.

(1/272)


للحسن: من الرجل؟ قال: عليّ بن أبي طالب"1.
وعن أسلم2: أن نفراً من المسلمين كلموا عبد الرحمن بن عوف قالوا: "أعلم عمر بن الخطاب فإنه قد أخسانا3، حتى والله ما نستطيع أن4 نديم إليه أبصارنا". قال: وذكر ذلك عبد الرحمن لعمر، قال: "أو قد ذكروا ذلك؟! والله لقد لنت لهم حتى تخوفت من الله [في]5 ذلك، ولقد اشتددت عليهم حتى خفت الله في ذلك. وأيم الله لا أنا أشد منهم فرَقاً [منهم]6 منّي"7.
وعن عمر بن مرة8 قال: "لقي رجل من قريش عمر فقال: "لِنْ لنا فقد ملأت قلوبنا مهابة"، فقال: "أفي ذلك ظلم؟"، قال: "لا"، قال: "فزادني الله في صدوركم مهابة"9.
وعن عبيد بن حنين1011: أنه سمع عبد الله بن عباس يُحدّث قال:
__________
1 عبد الرزاق: المصنف 9/458، وهو من مراسيل الحسن. والبيهقي: السنن6/123، وأبو يعلى: كتاب الروايتين والوجهين 2/343، وابن الجوزي: مناقب ص 135، وابن قدامة: المغني 12/35-101.
2 العدوي مولى عمر.
3 في المناقب: (أخشانا).
4 قوله: (أن) سقط من الأصل سوى: (ن).
5 سقط من الأصل.
6 سقط من الأصل.
7 الطبري: التاريخ 4/207، ابن الجوزي: مناقب ص 135، وبنحوه من طريق آخر، ابن سعد: الطبقات 3/287، والبلاذري: أنساب الأشراف (الشيخان: أبو بكر وعمر) ص 220.
8 الشَّنّي، بصري، مقبول، من الرابعة. (التقريب ص 417).
9 ابن الجوزي: مناقب ص 135.
10 في الأصل: (عبد الله جبير)، وهو تحريف.
11 عبيد بن حُنين، ثقة، قليل الحديث، توفي سنة خمس ومئة. (التقريب ص 376).

(1/273)


"مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر رضي الله عنه عن آية، فلا أستطيع أن أسأله هيبة"1.
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: "مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجاً فخرجت معه، فلما رجعنا2 وكنا ببعض الطريق، عدل إلى الأراكِ لحاجة له، قال فوقفت له حتى فرغ، ثم سِرت معه، قلت له: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه، فقال: "تلك حفصة وعائشة"، قال: فقلت: والله إن كنتُ لأريد أن أسألك عن هذا من سنة، فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فاسألني، فإن كان لي علم خبرتك به"3.
وفي رواية: "فمكثت سنة لا أجد له مَوضِعاً"4. / [27 / أ].
__________
1 مسلم: الصّحيح، كتاب الطلاق 2/1108، رقم: 1479، مطولاً.
2 في صحيح البخاري: (رجعت)، وفي صحيح مسلم: (رجع).
3 البخاري: الصحيح، كتاب التفسر 4/1866، رقم: 4629، بأطول.
4 البخاري: الصحيح، كتاب التفسير 4/1867، رقم: 4631.

(1/274)


الباب السادس والعشرون: انزعاجه لموت الرسول وإنكاره له
...
الباب السادس والعشرون: في ذكر انزعاجه لموت الرسول وإنكاره له
وعن ابن شهاب1 قال: "أخبرني أنس، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى الناس فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطيباً في المسجد فقال: "لا أسمعن أحداً يقول: إن محمّداً قد مات، ولكنه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى بن عمران فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه قد مات"2.
وعن ابن شهاب قال "أخبرني أبو سلمة3 أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسّنْح4، حتى نزل فدخل [المسجد]5، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغَشىً6 بثوب حَبِرة فكشف عن وجهه ثم أكبّ ثم قال: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كُتبَتْ عليك فقد مُتَّها".
قال: وحدّثني أبو سلمة عن عبد الله بن عباس: أن أبا بكر خرج وعمر
__________
1 محمّد بن مسلم الزهري.
2 ابن سعد: الطبقات 2/266، وإسناده صحيح.
3 أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، ثقة مكثر، توفي سنة أربع وتسعين أو أربع ومئة. (التقريب ص 645).
4 السّنح: منازل بني الحارث بن الخزرج بعوالي المدينة، بينها وبين منزل النبي صلى الله عليه وسلم ميل. (معجم البلدان 3/265، ومعجم معالم الحجاز 4/243).
5 سقط من الأصل.
6 مُغشىً: مُغطى. (لسان العرب 15/127).

(1/275)


يكلم الناس، فقال: "اجلس يا عمر"، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أما بعد: فمن كان يعبد محمّداً، فإن محمّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلَبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، قال والله لكأن الناس ما علموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً إلا يتلوها".
قال سعيد بن المسيب - رحمه الله -: "إن عمر قال: "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقِرْت1 حتى ما تُقلُّني رجلاي، حتى هويت إلى الأرض"2.
وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يُكلّم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغشىً بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكبّ عليه فقبّله وبكى، ثم قال: "بأبي وأمي أنت، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها".
وعن ابن عباس: أنّ أبا أبكر خرج وعمر بن الخطاب يكلّم الناس، فقال: "اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس عليه تركوا عمر، فقال أبو بكر: "أما بعد: فمن كان يعبد محمّداً فإن محمّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ
__________
1 عقر: فجئه فلم يقدر أن يتقدم أو يتأخر، أو دُهش فهو عقير. (القاموس ص 570).
2 البخاري: الصحيح، كتاب المغازي 4/1618، رقم: 4187.

(1/276)


لا يموت، قال الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} ، / [27/ب] {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ، إلى قوله: {الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، وقال والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها عنه الناس كلهم فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها.
قال الزهري1: "وأخبرني ابن المسيب: أن عمر قال: "ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعُقرت، حتى ما تُقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات"2.
وذكر أبو القاسم الأصفهاني في (سير السلف) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد أن قيل: مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات".
قال: وأقبل أبو بكر حتى نزل [على]3 باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية البيت مسجى4 عليه ببردة حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم أكبّ عليه فقبّله، ثم قال: "بأبي أنت وأمي،
__________
1 في الصحيح: (فأخبرني سعيد)، ولم يصرح باسم القائل. قال ابن حجر: "صرح عبد الرزاق عن معمر بأنه الزهري". (فتح الباري 8/146).
2 البخاري: الصحيح، كتاب المغازي 4/1618، رقم: 4187.
3 سقط من الأصل.
4 مسجى: مغطى. (لسان العرب 14/371).

(1/277)


أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، ثم لن يصيبك بعد موتة أبداً"، قال: ثم ردّ الثوب على وجهه، ثم خرج وعمر يكلّم الناس، فقال: "على رسلك يا عمر"، فأبى إلا أن1 يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أيها الناس، إنه من كان يعبد محمّداً فإن محمّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، ثم تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعَقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] الآية.
قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تلاها يومئذ أبو بكر: وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم، قال أبو هريرة: قال عمر: "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض وما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات"2.
وقال في: (عيون التاريخ)3، وغيره قال سعد4: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى الناس فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه / [28 / أ] في
__________
1 في الأصل: (أن إلا)، والمثبت من سير السلف.
2 أبو القاسم: سير السلف ص 115، 116، والحديث أخرجه ابن هشام: السيرة 25/655، 656، تحقيق السقا وزملائه، الطبري: التاريخ 3/200، كلاهما من طريق إسحاق وقد عنعن. إلا أن قول عمر ثبت من غير طريق ابن إسحاق، فقد رواه عبد الرزاق عن الزهري عن أنس. (المصنف 5/433)، وابن سعد من طريق الزهري وسند متصل. (ابن سعد: الطبقات 2/266). وقول أبي بكر أخرجه البخاري: الصحيح، كتاب المغازي 4/1618.
3 عيون التاريخ لمحمّد بن شاكر الكتبي الدمشقي (ت 764هـ) مخطوط في ست مجلدات. (الزركلي: الأعلام 6/156).
4 لعله ابن أبي وقاص.

(1/278)


المسجد خطيباً فقال: "لا أسمعن أحداً يقول: "إن محمّداً قد مات، ولكنه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى بن عمران، فلبث في قومه أربعين ليلة، والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه قد مات"1.
قال عكرمة2: "ما زال عمر يتكلم وهو يتوعد المنافقين حتى أزبد شدقاه3، وأقبل أبو بكر على فرس له من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكبّ عليه فقبّله وبكى، ثم قال: "بأبي أنت وأمي، طبت حيّاً وميتاً، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي قد كُتبت عليك فقد متّها". وخرج وعمر يكلم الناس، فقال: "اجلس يا عمر"، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد: فإن من كان يعبد محمّداً فإن محمّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، قال الله عزوجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ، إلى قوله: {الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. قال والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً إلا يتلوها".
فأخبرني سعيد بن المسيب: أن عمر قال: "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي حتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها"4.
__________
1 هذه الرواية تقدمت بنصها من طريق أنس بن مالك ص 255، ولم أعثر عليها من طريق سعد.
2 مولى ابن عباس.
3 الشدق: بالكسر وبفتح: طفطفة الفم من باطن الخد من باطن الخدين. (القاموس ص1158).
4 ابن سعد: الطبقات 2/266، حتى قوله: "أزيد شدقاه"، ثم قال: "فقال ابن العباس: "فلعل المؤلف انتقل بصره إلى الرواية التي بعدها، وهو منقطع لأن عكرمة لم يدرك أبا بكروعمر، لكنه ثبت من طرق أخرى تقدمت". ولم أجده كاملاً من طريق عكرمة.

(1/279)