محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب

الباب السابع والعشرون: قيامه ببيعه أبي بكر ومجادلته عنه
...
الباب السابع والعشرون: في قيامه ببيعة أبي بكر ومجادلته عنه
ذكر ابن الجوزي عن زر1 عن عبد الله2 قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير"، فأتاهم عمر فقال: "يا مشعر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَرَ أبا بكر أن يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟"، فقالت الأنصار: "نعوذ بالله أن تقدم أبا بكر"3.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "كان خبرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليّاً والزبير ومَن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخلف عنا الأنصار بأجمعهم في سقيفة4 بني ساعدة واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقلت له: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا [فانطلقنا]5 نؤمّهم، حين لقينا رجلان صالحان6، فذكروا لنا الذي صنع القوم، فقالا لنا: "أين تريدون يا معشر
__________
1 في الأصل: (ابن)، وهو تحريف.
2 ابن مسعود.
3 أحمد: المسند 1/213، والنسائي: السنن 2/74، 75، وفي إسناديهما: عاصم بن أبي النجود، قال أحمد شاكر: "إسناده صحيح"، وقال الألباني: "حسن الإسناد". (صحيح سنن النسائي 1/168).
4 السقيفة: الصّفّة، ومنه سقيفة بني ساعدة، وهي ظلة كانوا يجلسون تحتها، فيها بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه. (الصحاح 4/1375، معجم معالم الحجاز 4/211).
5 سقط من الأصل.
6 وردت تسميتهما في بعض الروايات وهما: عويمر بن ساعدة، ومعن بن عدي. (انظر: فتح الباري 12/15، الفتح الرباني 23/60).

(1/280)


المهاجرين؟"، فقلت: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا: "لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين"، فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى إذا جئناهم فإذا هم مجتمعون وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمَّل1 فقلت: من هذا؟ فقالوا: "سعد بن عبادة"، فقلت: ما له؟ قالوا: "وجع" فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله عزوجل بما هو أهله ثم قال: "أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفّت دافّة2 منكم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويحضنونا3 من الأمر"، فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت4 مقالة أعجبتني، أريد أن أقولها بين يدي أبي بكر، / [28 / ب] وقد كنت أُداري منه بعض الحدّ، وهو كان أحلم مني وأوقر، فقال أبو بكر: "على رسلك"، فكرهت أن أغضبه وكان أعلم مني وأوقر، فقال: والله ما ترك كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل، حتى سكت فقال: "أما بعد: فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم"، وأخذ بيدي ويد [أبي]5 عبيدة بن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يُقرّبُني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن
__________
1 التّزميل: الإخفاء، واللف في الثوب. (القاموس ص 1306).
2 الدّافة: هي الجماعة من الناس تقبل من بلد إلى بلد. (لسان العرب 9/104، وانظر: فتح الباري 12/151).
3 حضنه واحتضنه عن الأمر: أخرجه من ناحية عنه، واستبد به أو حبسه عنه. (لسان العرب 13/123، فتح الباري 12/152).
4 زوّرت: هيّأت وأصلحت، والتزوير: إصلاح الشيء. (لسان العرب 4/337).
5 سقط من الأصل.

(1/281)


أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر إلا أن تغير نفسي عند الموت، فقال قائل من الأنصار: "أنا جُذَيْلها المُحَكَّك1، وعُذَيقها المُرَجَّب2، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش".
قال: "فكثر اللغط3 وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار - رضي الله عنهم"4.
وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف5 أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب فقال: "إن فلاناً يقول: لو قد مات عمر بايعت فلاناً"، فقال عمر: "إني قائم العشية في الناس فمُحذَّرهم6 هؤلاء الرهط الذي يريدون أن يغصبوهم أمرهم، فقال عبد الرحمن فقلت: "يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع7 الناس وغوغاهم8، وإنهم الذين يغلبون على مجلسك إذا قمت في الناس، فأخشى أن تقول مقالة يطير بها أولئك فلا يعُوها ولا يضعوها على موضعها، ولكن تقدم المدينةَ، فإنها دار الهجرة والسنة وتخلّص بعلماء الناس وأشرافهم، فتقول ما قلت متمكناً،
__________
1 الجذيل: الأصل من الشجرة تحتكّ به الإبل، فتشفى به، فأراد أنه يستشفى برأيه. (لسان العرب 11/107، فتح الباري 7/31، معجم الأمثال 1/52).
2 العُذيق: تصغير عَذْق، والمُرَجَّب، الترجيب: إرفاد النخلة من جانب، ليمنعها من السقوط. أي: أن لي عشيرة تعضدني، تمنعني، وترفدني. (لسان العرب 1/412).
3 اللغط: الأصوات المبهمة المختلفة والجلبة لا تُفهم. (لسان العرب 7/391).
4 يأتي تخريجه في الذي بعده.
5 في المسند وصحيح البخاري: الحديث عن ابن عباس.
6 في الأصل: (لمحذرهم)، وهو تحريف.
7 رعاع: سُقاطهم وسفلتهم. (لسان العرب 8/128).
8 أصل الغوغاء: الجراد حين يخفّ للطيران، ثم استعير للسفلة من الناس والمتسرعّين إلى الشرّ. (لسان العرب 8/444).

(1/282)


فيعون مقالتك ويضعونها موضعها". قال عمر: "لئن قدمت المدينة سالماً لأكلّمن بها الناس في أوّل مقام أقومه"، فلما قدمنا المدينة في عقب ذي الحجّة، وكان يوم الجمعة، عجلت الرّواح1 صكة الأعمى؟.
قلت2: لمالك: "وما صكة الأعمى؟"، قال: "إنه لا يبالي أي3 ساعة خرج لا يعرف الحر والبرد ونحو هذا"4، وليست هذه الزيادة في الصحيح - فوجدت سعيد بن زيد عند ركن المنبر الأيمن قد سبقني، فجلست حذاءه تحك ركبتي ركبته، فلم أنشب أن طلع عمر فلما رأيته قلت: ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة ما قالها عليه أحد قبله، قال فأنكر سعيد بن زيد ذلك فقال: "وما عسيت أن يقول ما لم يقل أحد؟"، فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله عزوجل بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد: أيها الناس فإني قائل مقالة قدِّر لي أن أقولها، لا أدري5 لعلها بين يدي أجلي، فمن وعاها وعقلها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن لم يعها فلا أحل له أن يكذب عليّ، إن الله تبارك وتعالى بعث محمّداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب وكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها ورجم رسول الله، ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة / [29 / أ] قد أنزلها الله عزوجل، فالرجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والسناء، إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف،
__________
1 الرواح: المضي إلى الجمعة والخفة إليها. (لسان العرب 2/464).
2 السائل: إسحاق بن عيسى الطباع.
3 في الأصل: (انه)، وهو تحريف.
4 انظر: ابن منظور: لسان العرب 10/457.
5 في الأصل: (لادري)، وهو تحريف.

(1/283)


ألا وإنا قد كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم، ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطْري عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله" ، وقد بلغني أن قائلاً منكم يقول: "لو قد مات عمر بايعت فلاناً"، فلا يغترّن أمرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة1 ألا وإنها كانت كذلك، ألا إن الله عزوجل وقى شرّها.
وليس فيكم اليوم من تُقْطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، ألا وإنه كان من خَبَرنا حين توفي رسول الله أنّ عليّاً والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله، وتخلفت عنا الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له: يا أبا بكر انطلق2 بنا إلى إخواننا من الأنصار". فانطلقنا نؤمّهم حتى لقِيَنَا رجلان صالحان، فذكرا لنا الذي صنع القوم. فقالا: "أين تريدون يا معشر المهاجرين؟". فقلت: "نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار". فقالا: "لا عليكم أن لا تقربوهم، واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين"، فقلت: "والله لنأتينهم فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين ظهرانيهم رجل مُزمَّل، فقلت: "من هذا؟"، قالوا: "سعد بن عبادة"، فقلت: "ما له؟"، قالوا: "وجع"، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، وقال:
"أما بعد فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفّت دافّة منكم يريدون أن يختزلونا3 من أصلنا ويحضنونا من الأمر".
فلمّا سكت أردت أن أتكلم
__________
1 فلتة: فجأة من غير تردد وتدبر. (القاموس ص 201).
2 في الأصل: (انطلقوا)، وهو تحريف.
3 الاختزال: الاقتطاع. يقال: اختزله عن القوم مثل: اخترعه. (لسان العرب 11/304).

(1/284)


وكنت قد زوَّرت مقالة أعجبتني، أريد أن أقولها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أداري1 منه بعض الحدّ2، وهو كان أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري3 إلا قالها في بديهته وأفضل، حتى سكت، فقال: "أما بعد: فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم، وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة ابن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك إلى إثم، أحب إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر رضي الله عنه، إلا أن تغير نفسي عند الموت".
فقال قائل من الأنصار: "أنا جُذْيلها المُحَكّك وعُذْيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش".
فقلت4 لمالك: ما معنى جذيلها المحكك وعذيقها المجرب؟، قال: كأنه يقول: أنا داهيتها"5.
قال: فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى خشيت الاختلاف، فقلت: "أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: "قتلتم سعداً"، فقلت: قتل الله سعداً، قال عمر: أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أوفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم يكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما6 أن نُتَابِعَهُم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم
__________
1 في الأصل: (أدري)، وهو تحريف.
2 في الأصل: (الجد)، وهو تحريف.
3 قوله: (تزويري)، تكرر في الأصل.
4 القائل : إسحاق بن عيسى الطبّاع .
5 انظر: ص 328.
6 في الأصل: (وإما)، وهو تحريف.

(1/285)


فيكون فيه فساد، فمن بايع أميراً من غير مشورة المسلمين فلا بيعة للذي بايعه، تغرة أن يقتلا"1، 2.
__________
1 أي: خوفاً أن يقتلا.
2 أحمد: المسند 1/56، واللفظ له، البخاري: الصحيح، كتاب المحاربين 6/250، رقم: 6442، مسلم: الصّحيح، كتاب الحدود 3/1317، رقم: 1691، مختصراً ولم يذكر قصة السقيفة.

(1/286)


الباب الثامن والعشرون: عهد أبي بكر إليه ووصيته إياه
...
الباب. ومن قول عمر: "إن استخلفت فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني النبي صلى الله عليه وسلم". ما يدل على ذلك1.
وعلى قولنا: ثبتت بالنص الظاهر لا يكون من هذا الباب، ويكون من باب عهد الإمام قبله. فلو بايع الناس لشخص ثم بايعوا2 لآخر بعده فلا بيعة للثاني، وإن بايع بعض لشخص، ثم بايع بعضهم لآخر فلا بيعة للثاني أيضاً، وإن بايع بعض أفراد الناس لشخص من غير مشورة جميعهم، أو بايعوا لغير من اتفق عليه الجم الغفير فلا بيعة له.
قال أصحابنا: "ولو ظهر رجل بسيفه فقهر الناس وأخذ الخلافة بيده، فهو خليفة يحرم قتاله، والخروج عليه، وعزله منها3.
فإن خرج على الخليفة وقهره فللناس مساعدة الخليفة عليه وليس هو الخليفة، ولا يقرّ على ذلك ولو بايعه بعض الناس. والله أعلم. / [31 / ب].
فصل: في وصية أبي بكر لعمر - رضي الله عنهما -
عن إسماعيل بن أبي خالد عن زُبيد4 أن أبا بكر قال لعمر بن الخطاب: "إني موصيك [بوصية]5 إن حفظتها: إن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، ولله حق في
__________
1 البخاري: الصحيح، كتاب الأحكام 6/2638، رقم: 2791، ومسلم: الصّحيح، كتاب الإمارة 3/1454، رقم: 1823.
2 في الأصل: (بايع).
3 انظر: ابن قدامة: المغني 12/243، والكافي 4/146، المرداوي: الإنصاف في معرفة الخلاف 10/310.
4 زُبيد بن الحارث اليامي، الكوفي، ثقة عابد، توفي سنة اثنتين وعشرين ومئة، أو بعدها. (التقريب ص 213).
5 سقط من الأصل.

(1/267)