أخبار أبي حنيفة وأصحابه

وَمن أَصْحَاب أبي حنيفَة أَيْضا ابْنه حَمَّاد

وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الدّين والورع والزهد مَعَ علم بالفقه وَكِتَابَة للْحَدِيث
أخبرنَا عمر بن شاهين قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن يَعْقُوب بن شيبَة قَالَ حَدثنِي جدي قَالَ سَمِعت أَبَا نعيم الْفضل بن دُكَيْن قَالَ تقدم حَمَّاد بن أبي حنيفَة إِلَى شريك بن عبد الله فِي شَهَادَة فَقَالَ لَهُ شريك وَالله إِنَّك لعفيف الْبَطن والفرج خِيَار مُسلم
وَمن أَصْحَاب أبي حنيفَة عَليّ بن مسْهر

وَهُوَ الَّذِي أَخذ عَنهُ سُفْيَان علم أبي حنيفَة وَنسخ مِنْهُ كتبه وَكَانَ أَبُو حنيفَة ينهاه عَن ذَلِك
وَمن اصحابه أَيْضا حبَان ومندل ابْنا عَليّ وَحَفْص ابْن غياث وابو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد وَقد أَخذ عَنهُ الفضيل بن عِيَاض الْفِقْه وَعبد الله بن دَاوُد الْخُرَيْبِي
حَدثنَا الْعَبَّاس بن أَحْمد الْهَاشِمِي قَالَ ثَنَا أَحْمد بن مَنْصُور المنصوري قَالَ ثَنَا عَليّ ابْن مُحَمَّد النَّخعِيّ قَالَ ثَنَا عبد الله بن أَحْمد بن البهلول قَالَ ثَنَا الْقَاسِم بن مُحَمَّد البَجلِيّ قَالَ سَمِعت إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد بن أبي حنيفَة قَالَ قَالَ أَبُو حنيفَة يَوْمًا أَصْحَابنَا هَؤُلَاءِ سِتَّة وَثَلَاثُونَ مِنْهُم ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ يصلحون للْقَضَاء وَمِنْهُم سِتَّة يصلحون للفتيا وَمِنْهُم اثْنَان يؤدبان الْقُضَاة وَأَصْحَاب الْفَتْوَى وَأَشَارَ إِلَى أبي يُوسُف وَزفر
أخبرنَا عَبَّاس بن الْفضل الْهَاشِمِي قَالَ ثَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد قَالَ ثَنَا عَليّ بن مُحَمَّد النَّخعِيّ قَالَ ثَنَا نجيح قَالَ ثَنَا ابْن كَرَامَة قَالَ كُنَّا عِنْد وَكِيع يَوْمًا فَقَالَ رجل

(1/158)


أَخطَأ أَبُو حنيفَة فَقَالَ وَكِيع يقدر أَبُو حنيفَة يخطىء وَمَعَهُ مثل أبي يُوسُف وَزفر فِي قياسهما وَمثل يحيى بن أبي زَائِدَة وَحَفْص بن غياث وحبان ومندل فِي حفظهم للْحَدِيث وَالقَاسِم بن معن فِي مَعْرفَته باللغة والعربية وفضيل بن عِيَاض وَدَاوُد الطَّائِي فِي زهدهما وورعهما من كَانَ هَؤُلَاءِ جلساءه لم يكن يخطىء لِأَنَّهُ إِن أَخطَأ ردُّوهُ
أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد القَاضِي قَالَ أنبأ أَبُو بكر الدَّامغَانِي قَالَ أنبأ الطَّحَاوِيّ قَالَ سَمِعت أَبَا خازم يَقُول سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن نائل القَاضِي يَقُول كنت أسأَل هلالا وَأَبا عَاصِم عَن مسَائِل مُحَمَّد بن الْحسن من الْجَامِع الْكَبِير فَكَانَ أَبُو عَاصِم أحفظ لَهَا من هِلَال قَالَ وَكَانَا يقعدان فِي جَامع الْبَصْرَة إِلَى سَارِيَة وَاحِدَة وَلزِمَ أَبُو عَاصِم زفر بن الْهُذيْل بعد أبي حنيفَة وَعَلِيهِ تفقه وَهُوَ الَّذِي لقبه ب النَّبِيل
اُخْبُرْنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ أنبأ أَبُو بكر الدَّامغَانِي قَالَ ثَنَا الطَّحَاوِيّ قَالَ أنبأ يزِيد بن سِنَان قَالَ كُنَّا يَوْمًا عِنْد أبي عَاصِم فتحدثنا شَيْئا وَقَالَ بَعْضنَا لبَعض لم سمي أَبُو عَاصِم النَّبِيل فَسمع ذَلِك فسألنا عَمَّا نَحن فِيهِ وَكَانَ إِذا عزم على شَيْء لم نقدر على خِلَافه فَذَكرنَا لَهُ ذَلِك فَقَالَ نعم كُنَّا نَخْتَلِف إِلَى زفر وَكَانَ مَعنا رجل من بني سعد يكنى أَبَا عَاصِم وَكَانَ ضَعِيف الْحَال فَكَانَ يَأْتِي زفر بِثِيَاب ثرية وَكنت انا آتِيَة بطويلة على دَابَّة بِثِيَاب سَرِيَّة فاستأذنت عَلَيْهِ يَوْمًا فأجابتني جَارِيَة لَهُ وَفِيه عجمة يَقُول لَهَا زهرَة فَقَالَ من هَذَا فَقلت لَهَا أَبُو عَاصِم فَدخلت على مَوْلَاهَا فَقَالَ لَهَا من بِالْبَابِ قَالَت أَبُو عَاصِم فَقَالَ لَهَا من أَبُو عَاصِم ليقف على المستأذن عَلَيْهِ من هُوَ أَنا أَو السَّعْدِيّ فَقَالَت لَهُ ذَاك النَّبِيل ثمَّ أَذِنت لي عَلَيْهِ فَدخلت عَلَيْهِ وَهُوَ يضْحك فَقلت لَهُ مَا يضحكك أصلحك الله فَقَالَ إِن هَذِه الْجَارِيَة لقبتك بلقب لَا أرَاهُ يفارقك أبدا فِي حياتك وَلَا بعد موتك ثمَّ أخْبرت خَبَرهَا فسميت مِنْهُ يَوْمئِذٍ النَّبِيل

(1/159)


ذكر أَصْحَاب أبي يُوسُف وَزفر وَمُحَمّد بن الْحسن

فَمِمَّنْ أَخذ الْفِقْه عَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد جَمِيعًا أَبُو سُلَيْمَان مُوسَى بن سُلَيْمَان الْجوزجَاني وَمعلى بن مَنْصُور الرَّازِيّ رويا عَنْهُمَا الْكتب والأمالي وهما من الْوَرع وَالدّين وَحفظ الْفِقْه والْحَدِيث بالمنزلة الرفيعة
اُخْبُرْنَا عمر بن إِبْرَاهِيم قَالَ ثَنَا مكرم قَالَ ثَنَا أَحْمد بن عَطِيَّة قَالَ ثَنَا إِبْرَاهِيم بن سعيد قَالَ أحضر الْمَأْمُون مُوسَى بن سُلَيْمَان وَمعلى الرَّازِيّ فَبَدَأَ بِأبي سُلَيْمَان لسنه وشهرته بالورع فَعرض عَلَيْهِ الْقَضَاء فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ احفظ حُقُوق الله فِي الْقَضَاء وَلَا تول على أمانتك مثلي فَإِنِّي وَالله غير مَأْمُون الْغَضَب وَلَا ارضي نَفسِي لله إِن أحكم فِي عباده قَالَ صدقت وَقد أعفيناك فَدَعَا لَهُ بِخَير وَأَقْبل على مُعلى فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك فَقَالَ لَا أصلح قَالَ وَلم قَالَ لِأَنِّي رجل أداين فأبيت مَطْلُوبا وطالبا قَالَ نأمر بِقَضَاء دينك وبتقاضي ديونك فَمن أَعْطَاك قبلناه وَمن لم يعطك عوضناك مَالك عَلَيْهِ قَالَ فَفِي شكوك فِي الحكم وَفِي ذَلِك تلف أَمْوَال النَّاس قَالَ يحضر مجلسك أهل الدّين إخوانك فَمَا شَككت فِيهِ سَأَلتهمْ عَنهُ وَمَا صَحَّ عنْدك أمضيته قَالَ أَنا أرتاد رجلا أوصِي إِلَيْهِ من أَرْبَعِينَ سنة مَا أجد من أوصِي إِلَيْهِ فَمن أَيْن أجد من يُعِيننِي على قَضَاء حُقُوق الله الْوَاجِبَة عَليّ حَتَّى أئتمنه على دينك وديني فأعفاه
وَمن أَصْحَاب أبي يُوسُف وَمُحَمّد جَمِيعًا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سَمَّاعَة وَهُوَ من الْحفاظ الثِّقَات كتب النَّوَادِر عَن أبي يُوسُف وَعَن مُحَمَّد جَمِيعًا وروى الْكتب

(1/161)


والأمالي وَولى الْقَضَاء بِبَغْدَاد لأمير الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُون فَلم يزل نَاظرا إِلَى أَن ضعف بَصَره فِي أَيَّام المعتصم فاستعفى قَالَ يحيى بن معِين لَو كَانَ أَصْحَاب الحَدِيث يصدقون فِي الحَدِيث كَمَا يصدق مُحَمَّد بن سَمَّاعَة فِي الرَّأْي لكانوا فِيهِ على نِهَايَة
سَمِعت الشَّيْخ أَبَا بكر مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ إمامنا وأستاذنا يَقُول كَانَ سَبَب كتب ابْن سَمَّاعَة النَّوَادِر عَن مُحَمَّد أَنه رَآهُ فِي النّوم كَأَنَّهُ ينقب الأبر فاستعبر ذَلِك فَقيل لَهُ هَذَا رجل ينْطق بالحكمة فاجهد ان لَا يفوتك مِنْهُ لَفْظَة فَبَدَأَ حِينَئِذٍ فَكتب عَنهُ النَّوَادِر
وَمِمَّنْ أَخذ عَنْهُمَا جَمِيعًا هِشَام بن عبيد الله الرَّازِيّ غير أَنه لين فِي الرِّوَايَة وَفِي منزله مَاتَ مُحَمَّد بن الْحسن بِالريِّ وَدفن فِي مقبرتهم سَمِعت الشَّيْخ أَبَا بكر مُحَمَّد بن مُوسَى رَحمَه الله يذكر عَن الشَّيْخ أبي بكر الرَّازِيّ أَنه كَانَ يكره أَن يقْرَأ عَلَيْهِ الْأُصُول من رِوَايَة هِشَام لما فِيهِ من الِاضْطِرَاب فَكَانَ يَأْمر أَن يقْرَأ الْأُصُول من رِوَايَة أبي سُلَيْمَان أَو رِوَايَة مُحَمَّد بن سَمَّاعَة لصِحَّة ذَلِك وضبطهما
وَمن أَصْحَاب أبي يُوسُف خَاصَّة الْحسن بن أبي مَالك وَهُوَ ثِقَة فِي رِوَايَته غزير الْعلم وَاسع الرِّوَايَة وَكَانَ أَبُو يُوسُف يُشبههُ بجمل حمل أَكثر مِمَّا يُطيق وسير بِهِ فِي حل حمرَة تذْهب يَده هَكَذَا وَمرَّة تذْهب رجله هَكَذَا ثمَّ يرجع وَعنهُ وَعَن غَيره أَخذ ابْن شُجَاع الْعلم
وَمن أَصْحَاب أبي يُوسُف خَاصَّة أَبُو الْوَلِيد بشر بن الْوَلِيد الْكِنْدِيّ ولى الْقَضَاء بِمَدِينَة السَّلَام لِلْمَأْمُونِ وَكَانَ متحاملا على مُحَمَّد بن الْحسن منحرفا عَنهُ وَكَانَ الْحسن بن أبي مَالك ينهاه عَن ذَلِك وَيَقُول قد عمل مُحَمَّد هَذِه الْكتب فاعمل أَنْت مَسْأَلَة وَاحِدَة
وَمن أَصْحَاب أبي يُوسُف خَاصَّة بشر بن غياث المريسي وَله تصانيف وَرِوَايَات كَثِيرَة عَن أبي يُوسُف وَكَانَ من أهل الْوَرع والزهد غير أَنه رغب النَّاس عَنهُ فِي

(1/162)


ذَلِك الزَّمَان لاشتهاره بِعلم الْكَلَام وخوضه فِي ذَلِك وَعنهُ أَخذ حُسَيْن النجار مذْهبه
وَمن أَصْحَاب أبي يُوسُف أَيْضا إِبْرَاهِيم بن الْجراح ولى الْقَضَاء بِمصْر وَهُوَ لين فِي رِوَايَته وَكَانَ أَبُو يُوسُف يَقُول لَهُ تَأْخُذ الْمَسْأَلَة من عندنَا طرية وتردها مكحلة وَقد كتب الأمالي عَنهُ عَليّ بن الْجَعْد وَغَيره
وَمن أَصْحَاب أبي يُوسُف وَزفر هِلَال بن يحيى وَالْمَعْرُوف ب هِلَال الرَّأْي وَقد ذكرنَا فِي أَخْبَار أبي يُوسُف قصَّته مَعَه عِنْد دُخُوله الْبَصْرَة
أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ أنبأ أَبُو بكر الدَّامغَانِي قَالَ أنبأ الطَّحَاوِيّ قَالَ سَمِعت أَبَا بكرَة بكار بن قُتَيْبَة يَقُول سَمِعت هِلَال بن يحيى يَقُول حججْت فِي زمن هَارُون بعد موت أبي يُوسُف وَحج مَعَ هَارُون سنتئذ أَسد بن عَمْرو وَكَانَ على الْقَضَاء فَرَأَيْت هَارُون وَهُوَ يطوف طواف الْقدوم وَقد فَاتَهُ الرمل وَالنَّاس متباعدون عَنهُ وَخَلفه خَادِم فجر ثَوْبه إِن ارْجع فارمل وَكنت أَنا فِي أخريات النَّاس فناديت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك إِن مضيت كَانَ جَائِزا فَسمع ندائي فَمضى وَترك مَا أَرَادَ مِنْهُ الْخَادِم فَذكرت ذَلِك لأبي خازم فَقَالَ حَدثنِي عمر بن يحيى أَخُو هِلَال قَالَ أَنا حَاضر هَذَا كُله فَلَمَّا هم بالنداء جمعت ثوبي فأدخلته فِي فِيهِ وَقلت وَالله مَا خرجنَا عَن أمنا إِلَّا الكره مِنْهَا لذَلِك أفتريد أَن تعدمها وَاحِدًا منا قَالَ فوَاللَّه مَا صَبر أَن نَادَى بذلك قَالَ أَبُو بكر فِي حَدِيثه فَلَمَّا فرغ هَارُون من الطّواف وَالسَّعْي دخل الْكَعْبَة وَمَعَهُ أَسد بن عَمْرو وَسَائِر قواده وَبَنُو عَمه وأغلقت عَلَيْهِم فاطلعت من شقّ الْبَاب فَرَأَيْت هَارُون قَاعِدا وَأسد بن عَمْرو قَاعد قبالته وَسَائِر النَّاس من الهاشميين وَغَيرهم قيام على أَرجُلهم فَعلمت أَن لَا أحد أنبل من فَقِيه وَوَقع لأسد بن عَمْرو فِي قلبِي من الْجَلالَة مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله

(1/163)


ثمَّ خرج هَارُون فِي موكبه وَركب أَسد ركُوب الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء فتبعته وَهُوَ على دَابَّته فَقلت لَهُ لم فرق أَبُو حنيفَة بَين الْخِيَانَة فِي التَّوْلِيَة والمرابحة قَالَ فوَاللَّه مَا عرف ذَلِك من قَول أبي حنيفَة فَقل فِي عَيْني فَأتيت يُوسُف بن خَالِد وَكَانَ حَاجا فِي تِلْكَ السّنة فَأَخْبَرته بالْخبر كُله فَقَالَ لي وَمَا يدْرِي أَسد مَا هَذَا فرق أَبُو حنيفَة بَينهمَا لِأَنَّهُ جعل التَّوْلِيَة نقل بيع لِأَنَّهَا بِالثّمن الأول فَكَأَن البَائِع نقل إِلَى الْمولى مَا ملكه بِحَق الْمَبِيع بِمَا ملكه من الثّمن الأول وَجعل الْمُرَابَحَة بيعا ثَانِيًا إِذْ كَانَ بِثمن غير الثّمن الأول ولهلال كتاب الشُّرُوط وَأَحْكَام الْوُقُوف وَكَانَ مقدما فِي علم الشُّرُوط
وَمن أَصْحَاب زفر خَاصَّة مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ من ولد أنس بن مَالك ولى الْقَضَاء بِالْبَصْرَةِ وَعبيد الله بن عبد الْمجِيد الْحَنَفِيّ وَكَانَ من أَصْحَاب البتي ثمَّ أنتقل إِلَى زفر
وَمن أَصْحَاب مُحَمَّد بن الْحسن خَاصَّة مُوسَى بن نصر الرَّازِيّ
وَمُحَمّد بن مقَاتل الرَّازِيّ أَيْضا
وَمن أَصْحَابه عَمْرو بن أبي عمر جد أبي عرُوبَة الْحَرَّانِي
وَسليمَان بن شُعَيْب الكيساني وَله النَّوَادِر عَنهُ وَعلي بن معبد
وَمن أَصْحَاب الْحسن بن زِيَاد مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي وَهُوَ الْمُقدم فِي الْفِقْه والْحَدِيث وَقِرَاءَة الْقُرْآن مَعَ ورع وَعبادَة مَاتَ فَجْأَة فِي سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَدفن فِي نَاحيَة دَار الرَّقِيق من بَغْدَاد
وَمن أَقْرَان مُحَمَّد بن عَليّ الرَّازِيّ وَكَانَ عَارِفًا بمذاهب أَصْحَابنَا وَقد طعن على مسَائِل من الْجَامِع الْكَبِير وَمن الْأُصُول مَعَ زهد وورع وسخاء وإفضال
وَمِمَّنْ تَأَخّر عَن هَذِه الطَّبَقَة أَبُو بكر أَحْمد بن عَمْرو الْخصاف وَله التصانيف المرضية فِي الشُّرُوط وَأَحْكَام الْوُقُوف وآداب الْقُضَاة وَالرّضَاع والنفقات
وَمن هَذِه الطَّبَقَة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عِيسَى البرتي القَاضِي روى الْكتب عَن أبي سُلَيْمَان الْجوزجَاني وَكَانَ إِلَيْهِ أحد جَانِبي بَغْدَاد والجانب الاخر إِلَى إِسْمَاعِيل بن

(1/164)


إِسْحَاق ثمَّ استعفى فِي أَيَّام الْمُعْتَمد ورد عَلَيْهِم الْعَهْد وَلزِمَ بَيته واشتغل بِالْعبَادَة حَتَّى مَاتَ
حَدثنَا القَاضِي أَبُو عبد الله الضَّبِّيّ قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن صَالح الْهَاشِمِي قَالَ ثَنَا أَبُو عمر مُحَمَّد بن يُوسُف القَاضِي قَالَ ركبت يَوْمًا من الْأَيَّام مَعَ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق إِلَى أَحْمد بن عِيسَى البرتي وَهُوَ ملازم لبيته فرأيته شَيخا مصفارا أثر الْعِبَادَة عَلَيْهِ وَرَأَيْت إِسْمَاعِيل أعظمه إعظاما شَدِيدا وَسَأَلَهُ عَن نَفسه وَأَهله وعجائزه وَجَلَسْنَا عِنْده سَاعَة ثمَّ انصرفنا فَقَالَ لي إِسْمَاعِيل يَا بني تعرف هَذَا الشَّيْخ قلت لَا قَالَ هَذَا البرتي القَاضِي لزم بَيته واشتغل بِالْعبَادَة هَكَذَا تكون الْقُضَاة لَا كَمَا نَحن
وَمن هَذِه الطَّبَقَة أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن ابي عمرَان أستاذ أبي جَعْفَر الطَّحَاوِيّ وَكَانَ شيخ أَصْحَابنَا بِمصْر فِي وقته وَأخذ الْعلم عَن مُحَمَّد بن سَمَّاعَة وَبشر بن الْوَلِيد وأضرابهما وَله كتاب مَجْمُوع يعرف بالحجج هُوَ من حسان الْكتب وَقيل إِنَّه كَانَ ضريرا
وَمن أقرانه عَليّ بن مُوسَى القمي وَقد تكلم على كتب الشَّافِعِي ونقضها وَله تصانيف كَثِيرَة مُبتَدأَة
وَمن هَذِه الطَّبَقَة أَبُو عَليّ الدقاق الرَّازِيّ صَاحب كتاب الْحيض وَكَانَت قِرَاءَته على مُوسَى بن نصر الرَّازِيّ وَعَن أبي عَليّ أَخذ الْعلم أَبُو سعيد البرذعي
وَمن الْمُتَأَخِّرين عَن هَذِه الطبعة أَبُو خازم عبد الحميد بن عبد العزيزالقاضي أَصله من الْبَصْرَة وَأخذ الْعلم عَن بكر الْعمي وَعَن الشُّيُوخ الْبَصرِيين وَهُوَ جليل الْقدر ولى الْقَضَاء بِالشَّام والكوفة والكرخ من مَدِينَة السَّلَام وَكَانَ عبد الله بن سُلَيْمَان خاطبه فِي بيع ضَيْعَة ليتيم تجاور بعض ضيَاعه فَكتب إِلَيْهِ إِن رأى الْوَزير أعزه الله أَن يَجْعَلنِي أحد رجلَيْنِ إِمَّا رجلا صين الحكم بِهِ أَو صين الحكم عَنهُ وَالسَّلَام وَعنهُ أَخذ الْفُقَهَاء أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ وَأَبُو طَاهِر الدباس وَقد لقِيه أَبُو الْحسن الْكَرْخِي وَحضر مَجْلِسه وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى البرذعي

(1/165)


وَمن هَذِه الطَّبَقَة أَبُو سعيد أَحْمد بن الْحُسَيْن البرذعي أَخذ الْعلم عَن أبي عَليّ الدقاق وَعَن مُوسَى بن نصر فَأخذ عَنهُ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي وَأَبُو طَاهِر الدباس وَأَبُو عمر والطبري وأضرابهم وَكَانَ قدم بَغْدَاد حَاجا فَدخل الْجَامِع ووقف على دَاوُد بن عَليّ صَاحب الظَّاهِر وَهُوَ يكلم رجلا من اصحاب أبي حنيفَة وَقد ضعف فِي يَده الْحَنَفِيّ فَجَلَسَ فَسَأَلَهُ عَن بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد فَقَالَ يجوز فَقَالَ لَهُ لم قلت قَالَ لأَنا أجمعنا على جَوَاز بيعهنَّ قبل الْعلُوق فَلَا نزُول عَن هَذَا الْإِجْمَاع إِلَّا بِإِجْمَاع مثله فَقَالَ لَهُ أجمعنا بعد الْعلُوق قبل وضع الْحمل أَنه لَا يجوز بيعهَا فَيجب أَن نتمسك بِهَذَا الْإِجْمَاع وَلَا نزُول عَنهُ إِلَّا بِإِجْمَاع مثله فَانْقَطع دَاوُد وَقَالَ نَنْظُر فِي هَذَا وَقَامَ أَبُو سعيد فعزم على الْقعُود بِبَغْدَاد والتدريس لما رأى من غَلَبَة أَصْحَاب الظَّاهِر فَلَمَّا كَانَ بعد مُدَّة رأى فِي النّوم كَأَن قَائِلا يَقُول لَهُ {فَأَما الزّبد فَيذْهب جفَاء وَأما مَا ينفع النَّاس فيمكث فِي الأَرْض} فانتبه بدق الْبَاب وَإِذا قَائِل يَقُول لَهُ قد مَاتَ دَاوُد بن عَليّ صَاحب الْمَذْهَب فَإِن أردْت أَن تصلي عَلَيْهِ فأحضر وَأقَام أَبُو سعيد سِنِين كَثِيرَة يدرس ثمَّ خرج إِلَى الْحَج فَقتل فِي وقْعَة القرامطة مَعَ الْحَاج
وَصَارَ التدريس بِبَغْدَاد بعد أبي حَازِم وَأبي سعيد إِلَى أبي الْحسن عبيد الله بن الْحُسَيْن الْكَرْخِي وَإِلَيْهِ أنتهت رئاسة أَصْحَاب أبي حنيفَة وانتشر أَصْحَابه فِي الْبِلَاد وولوا الحكم فِي الْآفَاق ودرسوا وَكَانَ أَبُو الْحسن مَعَ غزارة علمه وَكَثْرَة رواياته عَظِيم الْعِبَادَة كثر الصَّوْم وَالصَّلَاة شَدِيد الْوَرع صبورا على الْفقر وَالْحَاجة عزوفا عَمَّا فِي أَيدي النَّاس
حَدثنَا أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن مُحَمَّد بن عَلان الوَاسِطِيّ وَمَا رَأَتْ عَيْنَايَ فِي مَعْنَاهُ مثله قَالَ لما أَصَابَهُ الفالج فِي آخر عمره حَضرته فِي بَيته وَحضر أَصْحَابه أَبُو بكر الدَّامغَانِي وَأَبُو عَليّ الشَّاشِي وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ فَقَالُوا هَذَا مرض يحْتَاج إِلَى نَفَقَة وعلاج وَهُوَ مقل ولانحب أَن نبذله للنَّاس فَنحب أَن نكتب إِلَى

(1/166)


سيف الدولة ونطلب مِنْهُ مَا ينْفق عَلَيْهِ فَفَعَلُوا ذَلِك وأحس أَبُو الْحسن بِمَا هم فِيهِ فَسَأَلَ عَن ذَلِك فَأخْبر بِهِ فَبكى وَقَالَ اللَّهُمَّ لاتجعل رِزْقِي إِلَّا من حَيْثُ عودتني فَمَاتَ قبل أَن يحمل سيف الدولة شَيْئا ثمَّ ورد كتاب سيف الدولة وَمَعَهُ عشرَة أُلَّاف دِرْهَم ووعد أَن يمد ذَلِك بأمثاله فَتصدق بِهِ
حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن مُحَمَّد بن عَلان قَالَ كَانَ أَبُو الْحسن شَدِيد المقت لمن ينظر فِي الْقَضَاء وَكَانَ إِذا ولى أحد من أَصْحَابه هجره وأبعده فولى الحكم من أَصْحَابه أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن مُحَمَّد التنوخي وَكَانَ مقدما فِي الْفِقْه وَالْكَلَام مَعَ مَعْرفَته بِالْعَرَبِيَّةِ وقوته فِي الشّعْر فهجره أَبُو الْحسن وَقطع مَا كتبه مُكَاتبَة وَكَانَ يدْخل بَغْدَاد فَلَا يُمكنهُ الدُّخُول عَلَيْهِ فَإِذا سُئِلَ فِي بَابه يَقُول كَانَ يعاشرني على الْفقر وَالْحَاجة وَبَلغنِي أَنه الان ينْفق على مائدته فِي كل يَوْم دَنَانِير وَمَا عَلمته ورث مِيرَاثا وَلَا أتجر فربح وَمَا أعرف لهَذِهِ النَّفَقَة وَجها
قَالَ لنا الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن مُحَمَّد الوَاسِطِيّ فلعهدي بِهِ وَقد دخل آخر دخلة دَخلهَا بَغْدَاد وَحضر الْمجَالِس وكلم ابْن أبي هُرَيْرَة وَكَانَ ينْقل مَا يجْرِي بَينهمَا إِلَى أبي الْحسن رَحمَه الله فَكَأَنَّهُ لَان قلبه لأبي الْقَاسِم التنوخي فخوطب فِي أَن يَأْذَن لَهُ فِي الدُّخُول عَلَيْهِ فَسكت قَالَ فَرَأَيْت أَبَا الْقَاسِم وَقد دخل مَجْلِسه وَعَلِيهِ ثِيَابه ومرقعته وَقد انكب فباس رَأسه وَقعد بَين يَدَيْهِ فَتَبَسَّمَ فِي وَجهه وَمَا كلمة بِحرف وودعه أَبُو الْقَاسِم وَخرج وَلَو ذكرنَا مَا عندنَا من أَخْبَار أبي الْحسن وأخبار أبي خازم لاحتجنا إِلَى كتاب مُفْرد وَإِنَّمَا ذكرنَا مَا لَا بُد مِنْهُ وَتوفى أَبُو الْحسن لَيْلَة النّصْف من شعْبَان سنة أَرْبَعِينَ وثلاثمائة وَصلى عَلَيْهِ القَاضِي أَبُو تَمام الْحسن بن مُحَمَّد الْهَاشِمِي الزَّيْنَبِي وَكَانَ من أَصْحَابه وَقيل إِن مولده سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
حَدثنِي الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم الوَاسِطِيّ قَالَ حضر ابو عبد الله بن الدَّاعِي جَنَازَة أبي الْحسن الْكَرْخِي وَأَرَادَ أَن يُصَلِّي عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه هَذَا الشَّيْخ إِمَام أَصْحَاب

(1/167)


أبي حنيفَة ومتقدمهم غير مدافع فَإِن صليت عَلَيْهِ وَكَبرت على مذْهبه فَتقدم فَقَالَ أَنا لَا أُخَالِف مَذَاهِب آبَائِي وَغَضب وَقدمُوا القَاضِي أَبَا تَمام فصلى عَلَيْهِ وَحمله أَصْحَابه على أَعْنَاقهم وَكَانَ المتولى لغسله إِبْرَاهِيم بن شهَاب وَأَبُو عبد الله ابْن رزام وَدفن بحذاء مَسْجده فِي درب الْحسن بن زيد على نهر الوسطيين
وَمن أقرانه أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سُفْيَان وَكَانَ أَكثر أَخذه عَن القَاضِي أبي خازم ويوصف بِالْحِفْظِ وَمَعْرِفَة الرِّوَايَات بَخِيلًا بِعِلْمِهِ ضنينا بِهِ وَولى الْقَضَاء بِالشَّام وَخرج إِلَى هُنَاكَ فَمَاتَ بهَا
وَمن هَذِه الطَّبَقَة بل يتقدمهم فِي المولد وَالسّن أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ وَهُوَ أَحْمد ابْن مُحَمَّد بن سَلمَة الطَّحَاوِيّ وَكَانَ مُقيما بِمصْر وَإِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة أَصْحَاب أبي حنيفَة هُنَاكَ أَخذ الْعلم عَن أبي جَعْفَر بن أبي عمرَان وَعَن أبي خازم القَاضِي وَعَن جمَاعَة آخَرين وَكَانَ فِي أصل تفقهه يتفقه على مَذْهَب الشَّافِعِي فَحَدثني الشَّيْخ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ قَالَ كَانَ سَبَب انْتِقَاله إِلَى مَذَاهِب أَصْحَابنَا أَن أَبَا إِبْرَاهِيم الْمُزنِيّ قَالَ لَهُ يَوْمًا وَالله لَا جَاءَ مِنْك شَيْء فَغَضب أَبُو جَعْفَر من ذَلِك وأنف لنَفسِهِ وانتقل إِلَى أبي جَعْفَر بن أبي عمرَان فَأول مَا صنف من كتبه مختصرة الَّذِي هُوَ على تَرْتِيب كتاب الْمُزنِيّ فَلَمَّا فرغ مِنْهُ قَالَ رحم الله أَبَا إِبْرَاهِيم لَو كَانَ حَيا لكفر عَن يَمِينه وَلأبي جَعْفَر كتب جليلة مثل إختلاف الْعلمَاء وَمَا عمل مثله أحد وَكتابه الْكَبِير فِي الشُّرُوط وَكتابه فِي أَحْكَام الْقُرْآن وَفِي شرح مَعَاني الْآثَار وَغير ذَلِك من الْكتب الجليلة وَكَانَت وَفَاته سنة إِحْدَى وَعشْرين وثلاثمائة ومولده سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
وَمن هَذِه الطَّبَقَة أَبُو عَمْرو الطَّبَرِيّ وَكَانَ مُقيما بِبَغْدَاد يدرس وَالشَّيْخ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي يدرس وَله شرح الجامعين جَمِيعًا وَشهد عِنْد القَاضِي أَحْمد ابْن عبد الله الْخرقِيّ

(1/168)


حَدثنِي القَاضِي أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن هَارُون الضَّبِّيّ قَالَ ركب أَحْمد بن عبد الله الْخرقِيّ إِلَى أبي عَمْرو يسْأَله أَن يشْهد عِنْده فَامْتنعَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ دَعَاني أَبُو عمر إِلَى هَذَا الْأَمر فَلم أجبه فَكيف أُجِيب الْآن فَقَالَ لَهُ أَحْمد بن عبد الله إِن أَبَا عمر أَرَادَ أَن يجملك بِالشَّهَادَةِ وَكَانَ مُخَالفا لَك فِي مذهبك وَأَنا أُرِيد أَن تجملني بشهادتك عِنْدِي مَعَ موافقتي لَك فِي الدّين فَركب إِلَيْهِ من يَوْمه وَشهد عِنْده وَتوفى أَبُو عَمْرو فِي سنة أَرْبَعِينَ
وَمِمَّنْ كَانَ يدرس مَعَ هَذِه الطَّبَقَة أَبُو عبد الله بن أبي مُوسَى الضَّرِير واسْمه مُحَمَّد بن عِيسَى وَولى الحكم فِي الْجَانِب الشَّرْقِي ثمَّ وجد مقتولا فِي دَاره وَكَانَت وَفَاته قبل وَفَاة أبي الْحسن الْكَرْخِي فِي سني نَيف وَثَلَاثِينَ
ثمَّ صَار التدريس بعد أبي الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله إِلَى أَصْحَابه فَمنهمْ أَبُو عَليّ الشَّاشِي وَكَانَ شيخ الْجَمَاعَة وَكَانَ أَبُو الْحسن جعل التدريس لَهُ حِين فلج وَالْفَتْوَى إِلَى ابي بكر الدَّامغَانِي وَكَانَ يَقُول مَا جَاءَنَا احفظ من أبي عَليّ
حَدثنِي القَاضِي أَبُو مُحَمَّد الْعمانِي قَالَ حضرت أَبَا عَليّ الشَّاشِي فِي مَجْلِسه وَقد جَاءَهُ أَبُو جَعْفَر الهندواني مُسلما عَلَيْهِ فَمَا قَامَ إِلَيْهِ فَأخذ يمتحنه بمسائل الْأُصُول وَكَانَت على طرف لِسَانه فَلَمَّا فرغ امتحن أَبَا جَعْفَر بِشَيْء من مسَائِل النَّوَادِر فَلم يحفظها فَكَانَ ذَلِك سَبَب حفظ الهندواني للنوادر وَقَالَ لأبي عَليّ جئْتُك زَائِرًا لَا متعلما فَلَمَّا قَامَ نَهَضَ لَهُ أَبُو عَليّ الشَّاشِي وَتوفى أَبُو عَليّ الشَّاشِي فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة
حَدثنِي أَبُو الْفرج الْعمانِي وَكَانَ قد أدْرك الشَّيْخ أَبَا الْحسن ودرس عَلَيْهِ قَالَ أوصى أَبُو عَليّ الشَّاشِي أَن يرجِعوا من مواراته ويفرقوا دفاتره على أَصْحَابه ويتصدقوا بِتركَتِهِ وَكَانَت تسع مائَة دِرْهَم عِنْد ثَلَاثَة أنفس يعِيش من فضل

(1/169)


ذَلِك وَأَن لَا يجلسوا لَهُ فِي عزاء فَفَعَلُوا ذَلِك وَحضر أَبُو عبد الله الدَّاعِي وَأَبُو تَمام الزَّيْنَبِي رَضِي الله عَنْهُمَا جنَازَته وتفرقة كتبه وَتركته ثمَّ تفَرقُوا
وَمن طبقته أَبُو بكر الدَّامغَانِي الْأنْصَارِيّ وَكَانَ أَقَامَ على الطَّحَاوِيّ سِنِين كَثِيرَة ثمَّ أَقَامَ على أبي الْحسن وَكَانَ إِمَامًا فِي الْعلم وَالدّين مشارا إِلَيْهِ فِي الْوَرع والزهادة ولى الْقَضَاء بواسط لِأَنَّهُ ركبته دُيُون وَخرج إِلَيْهَا فَحَدثني الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن مُحَمَّد الوَاسِطِيّ أَنه كَانَ ينظر بَين الْخُصُوم على وَجه التَّحْكِيم كَانَ يَقُول لِلْخَصْمَيْنِ أنظر بَيْنكُمَا فَإِذا قَالَا نعم نظر بَينهمَا وَرُبمَا قَالَ حكمتماني فَإِذا قَالَا نعم نظر بَينهمَا وَكَانَ عِنْد أَصْحَابنَا أَنه غض من نَفسه بولايته للْحكم
وَمن هَذِه الطَّبَقَة ابو مُحَمَّد بن عَبدك وَكَانَ متروحا إِلَى أبي عَمْرو الطَّبَرِيّ وَله شرح الجامعين وَكتاب الِاقْتِدَاء بعلي وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا خرج إِلَى الْبَصْرَة وَكَانَ من أَهلهَا فدرس بهَا وَمَات بهَا سنة سبع وَأَرْبَعين وثلاثمائة
وَمن هَذِه الطَّبَقَة أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن عَليّ الْبَصْرِيّ شيخ الْمُتَكَلِّمين فِي عصره وَكَانَ مقدما فِي العلمين مَعَ كَثْرَة أَمَالِيهِ فيهمَا وتدريسه لَهما وَمَا بلغ أحد مبلغه فِي هذَيْن العلمين أَعنِي الْكَلَام وَالْفِقْه مَعَ سَعَة النَّفس وَكَثْرَة الأفضال والتقدم عِنْد السُّلْطَان وانتشار الْأَصْحَاب فَلَو لم يكن لَهُ صَاحب إِلَّا عَليّ بن مُحَمَّد الوَاسِطِيّ الْمجمع على دينه والمقبول عِنْد الْمُوَافق والمخالف حَتَّى كَانَ يُقَال إِنَّه عَمْرو بن عبيد زَمَانه لَكَانَ فِيهِ كِفَايَة فَكيف وَقد رزق الْعدَد الْكثير من الْأَصْحَاب وتوجهوا فِي الْعلم وبلغوا فِيهِ كل مبلغ وَتوفى فِي ذِي الْحجَّة من سنة تسع وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَصلى عَلَيْهِ أَبُو عَليّ الْحسن بن أَحْمد بن عبد الْغفار الْفَارِسِي النَّحْوِيّ وَدفن فِي تربة أبي الْحسن الْكَرْخِي رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا
وَمن هَذِه الطَّبَقَة أَبُو بكر بن شاهوية مَاتَ بنيسابورسنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَإِلَيْهِ انْتهى علم الْحساب وَحل الزيج وَعمل الأشكال من كتاب إقليدس مَعَ حفظه للْمَذْهَب وَعلمه بالنكت وَكَانَ عضد الدولة أخرجه مَعَ جمَاعَة من الْفُقَهَاء إِلَى بُخَارى فِي رِسَالَة فزينت لَهُ بِلَاد خُرَاسَان فَحَدثني إِسْمَاعِيل الزَّاهِد

(1/170)


قَالَ رَأَيْت أَبَا بكر مُحَمَّد بن الْفضل البُخَارِيّ وَقد حمل إِلَيْهِ جُزْءا فِيهِ مشكلات الْكتب فأملى أَبُو بكر جوابها من سَاعَته فَقبل ابْن الْفضل رَأسه وَقَالَ مَا ظَنَنْت أَن على وَجه الارض مثلك
وَمن هَذِه الطَّبَقَة أَبُو سهل الزجاجي صَاحب كتاب الرياضة درس على أبي الْحسن الْكَرْخِي وَرجع إِلَى نيسابور فَمَاتَ بهَا سَمِعت الصاحب أَبَا الْقَاسِم إِسْمَاعِيل ابْن عباد يَقُول كَانَ أَبُو سهل الزجاجي إِذا دخل مجَالِس النّظر تَغَيَّرت وُجُوه الْمُخَالفين لقُوَّة نَفسه وَحسن جدله وَبَلغنِي أَن أَبَا بكر الرَّازِيّ رَحمَه الله درس عَلَيْهِ
وَمن هَذِه الطَّبَقَة أَبُو الْحُسَيْن قَاضِي الْحَرَمَيْنِ كَانَ عِنْد أبي الْحسن الْكَرْخِي ثمَّ انْتقل إِلَى أبي طَاهِر الدباس ثمَّ ولى الْقَضَاء بالحرمين وَعَاد إِلَى نيسابور فَمَاتَ بهَا وفقهاء نيسابور كلهم ينتسبون إِلَى أبي سهل أَو إِلَى أبي الْحُسَيْن لَا يخرجُون عَنْهُمَا
ثمَّ أستقر التدريس بِبَغْدَاد لأبي بكر أَحْمد بن عَليّ الرَّازِيّ وانتهت الرحلة إِلَيْهِ وَكَانَ على طَريقَة من تقدمه فِي الْوَرع والزهادة والصيانة وخوطب على قَضَاء الْقُضَاة مرَّتَيْنِ فَامْتنعَ
حَدثنِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الطَّبَرِيّ قَالَ حَدثنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن صَالح الْأَبْهَرِيّ قَالَ خاطبني الْمُطِيع على قَضَاء الْقُضَاة وَكَانَ السفير فِي ذَلِك أَبُو الْحسن ابْن أبي عَمْرو الشراني فأبيت عَلَيْهِ وأشرت بِأبي بكر أَحْمد بن عَليّ الرَّازِيّ فأحضر للخطاب على ذَلِك وسألني أَبُو الْحسن بن أبي عَمْرو معونته عَلَيْهِ فخوطب فَامْتنعَ وخلوت بِهِ ورفقت فَقَالَ لي تُشِير عَليّ بذلك فَقلت لَا أرى لَك ذَلِك ثمَّ قمنا إِلَى بَين يَدي أبي الْحسن بن أبي عَمْرو وَأعَاد خطابه وعدت إِلَى معونته فَقَالَ لي أَلَيْسَ قد شاورتك فأشرت على أَن لَا أفعل فَوَجَمَ أَبُو الْحسن بن أبي عَمْرو من ذَلِك وَقَالَ تُشِير علينا بانسان ثمَّ تُشِير عَلَيْهِ ان لَا يفعل قلت نعم إمامي فِي ذَلِك مَالك بن أنس أَشَارَ على أهل الْمَدِينَة أَن يقدموا نَافِعًا القارىء فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَشَارَ على نَافِع أَن لَا يفعل فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أَشرت عَلَيْكُم بِنَافِع لِأَنِّي لَا أعرف مثله وأشرت عَلَيْهِ أَن لَا يفعل لِأَنَّهُ يحصل لَهُ أَعدَاء

(1/171)


وحساد فَكَذَلِك أَنا أَشرت عَلَيْكُم بِهِ لِأَنِّي لَا أعرف مثله وأشرت عَلَيْهِ أَن لَا يفعل لِأَنَّهُ أسلم لدينِهِ
وحَدثني الشَّيْخ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ أَن مولد أبي بكر أَحْمد بن عَليّ كَانَ فِي سنة خمس وثلاثمائة وَأَنه دخل بَغْدَاد سنة خمس وَعشْرين وثلاثمائة ودرس على أبي الْحسن الْكَرْخِي ثمَّ خرج إِلَى الأهواز ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد بعد أَن زَالَ الغلاء وَخرج إِلَى نيسابور مَعَ الْحَاكِم النَّيْسَابُورِي بِرَأْي أبي الْحسن الْكَرْخِي ومشورته وَإِن أَبَا الْحسن مَاتَ وَهُوَ بنيسابور ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَأَبُو عَليّ الشَّاشِي عليل عِلّة الْمَوْت فَجَلَسَ للتدريس فِي مَسْجِد أبي الْحسن الْكَرْخِي وَكَانَ الْموضع متماسكا ثمَّ انْتقل إِلَى سويقة غَالب ودرس فِي درب المقير ثمَّ انْتقل فِي سنة سِتِّينَ إِلَى درب عَبدة ودرس فِي مَسْجِد درب عَبدة وَكَانَ يدرس فِي مَسْجِد درب عَبدة أَبُو سعيد البرذعي وَفِيه تفقه أَبُو الْحسن الْكَرْخِي ودرس فِيهِ أَبُو عَمْرو الطَّبَرِيّ وَأَبُو مُحَمَّد سهل بن إِبْرَاهِيم القَاضِي وبعدهما أَبُو عَليّ الشَّاشِي ثمَّ الشَّيْخ أَبُو بكر الرَّازِيّ ثمَّ شَيخنَا واستاذنا أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ وَهُوَ مَسْجِدنَا الَّذِي ندرس فِيهِ الْآن وَنَرْجُو أَن يلحقنا وَمن يغشانا بَرَكَات هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الَّذين سبقُونَا فِي الْجُلُوس فِيهِ
وَتوفى الشَّيْخ أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ الرَّازِيّ فِي ذِي الْحجَّة سنة سبعين وثلاثمائة وَصلى عَلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ وألحده بِيَدِهِ وَجلسَ فِي مَسْجده بعد أَن كَانَ أجلسه فِيهِ حُدُود الْعشْر سِنِين يدرس فيي آخر النَّهَار فِيهِ
فَصَارَ إِمَام أَصْحَاب أبي حنيفَة ومدرسهم ومفتيهم بعد وَفَاة أبي بكر أَحْمد بن عَليّ الرَّازِيّ شَيخنَا وإمامنا أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْخَوَارِزْمِيّ وَمَا شَاهد النَّاس مثله فِي حسن الْفَتْوَى والإصابة فِيهَا وَحسن التدريس وَقد دعى إِلَى ولَايَة الحكم مرَارًا فَامْتنعَ مِنْهُ وَكَانَ مُعظما فِي النُّفُوس مقدما عِنْد السُّلْطَان والعامة وَلَا يكَاد يقبل لأحد من النَّاس برا وَلَا صلَة وَلَا هَدِيَّة وَتوفى فِي لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّامِنَة

(1/172)


عشرَة من جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَأَرْبَعمِائَة وتوليت غسله وتجهيزه مَعَ جمَاعَة من أَصْحَابه وَصلى عَلَيْهِ ابْنه أَبُو الْقَاسِم مَسْعُود بن مُحَمَّد فِي جَامع الْمَنْصُور قبل صَلَاة الْجُمُعَة ورد إِلَى منزله فِي درب عَبدة وَدفن فِيهِ رَضِي الله عَنهُ ونفعه بِمَا علمنَا ونفعنا بذلك
وَمن طبقته أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن مُحَمَّد الضَّرِير الْبَصْرِيّ وَإِن كَانَ قد درس فِي حَيَاة أبي بكر الرَّازِيّ وَكَانَ مثل شَيخنَا فِي الْإِسْنَاد لِأَنَّهُ أَخذ الْعلم عَن أَصْحَاب أبي الْحسن وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّا حَافِظًا لمذاهب أَصْحَابنَا عَارِفًا بالأصول والجامعين والنوادر مَعَ ورع صِيَانة وعفاف وتواضع وَكَانَ ضريرا قد رحلت إِلَيْهِ وقرأت عَلَيْهِ وَكَانَ عَالما بالفرائض قيمًا بِالْحِسَابِ والجبر والمقابلة إِمَامًا فِي ذَلِك
فَهَذَا آخر مَا ذَكرْنَاهُ من طَبَقَات أَصْحَابنَا بالعراق وَمَا قرب مِنْهُ مِمَّن وَقع إِلَيْنَا أخبارهم وأشتهر فِي النَّاس ذكرهم فَأَما بخراسان وَمَا وَرَاء النَّهر فخلق عَظِيم لم نذكرهم
وَكَانَ فراغنا من هَذَا الْكتاب فِي شهر رَمَضَان سنة أَربع وَأَرْبَعمِائَة نسْأَل الله خَاتِمَة خير ومنقلبا إِلَى خير وَأَن يجعلنا مِمَّن يعْمل بِعِلْمِهِ وَأَن لَا يَجْعَل مَا تعلمنا وبالا علينا وَالله ولي التَّوْفِيق وَعَلِيهِ توكلي وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَصلَاته على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي وَآله وَسَلَامه
وَوَافَقَ الْفَرَاغ مِنْهُ بِمَدِينَة السَّلَام بالجانب الشَّرْقِي بمشهد الامام أبي حنيفَة رضوَان الله عَلَيْهِ فِي شهر رَمَضَان من سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة كتبه مُحَمَّد بن طَاهِر الْخَوَارِزْمِيّ

(1/173)