الرياض النضرة في مناقب العشرة

الفصل الثامن: في هجرته مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وخدمته له فيها, وما جرى لهما في الطريق وما جرى لهما في الغار ومقدمهما المدينة, وذكر خروجهما من مكة طالبين غار ثور وما يتعلق بذلك
عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قد رأيت دار هجرتكم, أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان" فهاجر من هاجر قبل المدينة حتى ذكر ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى الحبشة من المسلمين, وتجهز أبو بكر مهاجرًا فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "على رسلك, فإني أرجو أن يؤذن لي" قال أبو بكر: وترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: "نعم" فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصحبته وعلف راحلتين كانتا عنده, ورق السمر أربعة أشهر, قالت عائشة: فبينا نحن جلوس يومًا في بيتنا في نحر الظهيرة إذ قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقبل متقنع في ساعة لم يكن يأتينا فيها, قال أبو بكر: فداه أبي وأمي, إن جاء به في هذه الساعة لأمر قالت: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن فدخل فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "أخرج من عندك" فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قد أذن لي في الخروج" قال أبو بكر: فالصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم" فقال أبو بكر: بأبي أنت يا رسول الله فخذ إحدى راحلتي هاتين, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بالثمن" قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب, وقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها وأوكت به الجراب؛ ولذلك سميت ذات النطاق, ولحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغار في جبل يقال له: ثور, فمكثا فيه ثلاث ليالٍ. خرجه البخاري وأبو حاتم وزاد في بعض طرق البخاري: يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن, فيدلج من عندهما سحرًا فيصبح عند قريش كبائت فلا يسمع أمرًا يكادان به إلا وعاه حتى

(1/98)


يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام, ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى لأبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء, فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينفق ثمنها عامر بغلس, يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا من بني الدئل هاديًا خريتًا, والخريت: الماهر في الهداية, قد غمس حلفًا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش, فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث, فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث, وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق الساحل, وفي رواية: قد غمس يده في حلف العاص بن وائل وفيها: فأخذ بهم طريق أذاخر طريق الساحل, وعند أبي حاتم قال أبو بكر: عندي ناقتان قد كنت أعددتهما للخروج قالت: فأعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- إحداهما وهي الجدعاء, فركبا حتى أتيا الغار ثم ذكر ما بعده.
"شرح" السبخة: واحدة السباخ وأرض سبخة بكسر الباء: ذات سباخ, على رسلك: مهلك وتؤدتك, نحر الظهيرة, الظهيرة: الهاجرة, ونحر النهار: أوله, فلعله أراد أول الهاجرة وإن كان سياق اللفظ يشعر بأن المراد شدة الظهيرة, النطاق: شدة تلبسها المرأة وتشد وسطها ثم ترسل الأعلى على الأسفل إلى الركبة والأسفل ينجرّ على الأرض وليس لها حجزة ولا نيفق ولا ساقان والجمع: نطق يقال: انتطقت المرأة إذا لبست النطاق, وانتطق الرجل إذا لبس المنطقة وهو كل ما شددت به وسطك قاله الجوهري, ثقف: حاذق خفيف بزنة ضخم من: ثقف ثقافة وثقف كخدر وخدر أو من ثقف ثقفًا كنعب نعبًا لغتان فيه, ولقن: سريع الفهم والتلقين: التفهيم, يدلج أدلج القوم: إذا ساروا أول الليل وادلجوا بالتشديد: ساروا آخره والاسم الدلجة بضم الدال وفتحها فيهما, منحة أصلها العطية ومنيحة اللبن: أن تعطي الناقة أو الشاة أحدًا غيرك يحلبها ثم يردها إليك فيجوز أن يكون لأبي بكر منحة من غيره ويجوز أن يكون سماها بملكها منحة

(1/99)


توسعًا, وقد استعمل ذلك فيما بعد الشرب وإن كان مملوكًا وهو المراد هنا والله أعلم, يريحها: أراح ماشيته إذا ردها إلى المراح وكذلك الترويح ولا يكون إلا بعد الزوال, الرسل بالكسر: اللبن وأرسل القوم: صاروا ذا رسل, والرضيف: اللبن يغلي بالرضف وهي الحجارة المحماة ورضفه: قواه بالرضف, وخريتًا أي: دليلًا حاذقًا كما فسر في الحديث وخرت الأرض: إذا عرف طرقها وقوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر لما عرض عليه الراحلة: "بالثمن" لم يكن ذلك والله أعلم إلا لأن يخلص ثواب الهجرة له لا يشركه أحد في ثوابها وإلا فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحكم في مال أبي بكر كما يحكم في مال نفسه على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى, وقد ذكر ابن إسحاق أن أبا بكر لما قدم الراحلتين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم أفضلهما له وقال: اركب فداك أبي وأمي, فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لا أركب بعيرًا ليس لي" قال: فهي لك يا رسول الله قال: "لا, ولكن بالثمن الذي ابتعتها به" قال: كذا وكذا قال: "قد أخذتها بذلك" فقد بين في هذا سبب الامتناع من قبولها مجانًا وهو أنه لا يركب بعيرًا ليس له, وما ذاك والله أعلم إلا للمعنى الذي ذكرناه آنفًا؛ لأنه لا يركب بعيرًا إلا في طاعة وعبادة, ولا تضاد بين هذا وحديث عائشة المتقدم, وأن هذا القول كان منه في بيت أبي بكر لجواز أن الحديث في ذلك تكرر ويشهد لهذا أن الأول لم يكن فيه تبايع وإنما وعد به, والثاني تضمن العقد والتمليك بالثمن والله أعلم.
وعنها1 أيضًا أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشية, حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهجيرة ثم ذكرت معنى ما تقدم وقالت بعد قولها: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ فقال: "الصحبة".
__________
1 وعن عائشة -رضي الله عنها.

(1/100)


قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي1 يومئذ, خرجه ابن إسحاق ولم يعلم أحد فيما بلغني بخروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا علي بن أبي طالب, فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع2 التي كانت عنده للناس, وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من أمانته وصدقه, فلما أجمع على الخروج أتى أبا بكر فخرج من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ثم عمد إلى غار بثور, جبل بأسفل مكة, وأمر أبو بكر عبد الله بن أبي بكر أن يستمع لهما ما يقول الناس نهارًا ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون من الخبر, وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار, وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما, فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار ثلاثة أيام ومعه أبو بكر وجعلت قريش حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم, حتى إذا مضت الثلاثة وسكن عنهما الناس, أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له, وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتيهما ونسيت أن تجعل لها عصامًا, فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام فتحل بطاقها فتجعله عصامًا, ثم علقتها به فكان يقال لها: ذات النطاق لذلك.
قال ابن هشام: وسمعت غير واحد من أهل العلم يقول ذات النطاقين, وتفسيره أنها شقت نطاقها باثنتين فعلقت السفرة بواحدة وانتطقت بالأخرى. وعن أسماء أنها قالت: صنعت سفرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت أبي
__________
1 كما قال الشاعر:
هجم السرور علي حتى إنه ... من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين قد سار البكا لك عادة ... تبكين من فرح ومن أحزان
2 وإيداع الودائع عنده -صلى الله عليه وسلم- وردها عند هجرته إلى أهلها، من أقوى الأدلة على أمانته.

(1/101)


بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة, قالت: فلم تجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به قالت: فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئًا أربط به إلا نطاقي, قالت: قال: شقيه باثنين فاربطي بأحدهما السقاء وبالآخر السفرة؛ فلذلك سميت ذات النطاقين. خرجه البخاري.
وفي رواية عند ابن السمان في كتاب الموافقة أن أبا بكر دفع إلى أسماء دراهم وقال: ابتاعي بهذا سفرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابتاعي به خبزًا ولحمًا, فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعجبه اللحم, ثم ذكر انطلاقهم إلى الغار وقال: فدخل أبو بكر الغار فلم يرَ فيه حجرًا إلا أدخل إصبعه فيه حتى أتى على حجر كبير, فأدخل رجله فيه إلى فخذه ثم قال: ادخل يا رسول الله, فقد مهدت لك الموضع تمهيدًا.
قال: ثم إن المشركين خرجوا بأجمعهم ينظرون إلى أثر قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان شثن الكفين والقدمين حتى أتوا منزل أبي بكر وأسماء تعالج اللحم, فأخرجت المصباح ليغلب رائحة الإدام فسألوا أسماء فقالت: إني مشغولة في عمل, فانطلقوا وجعلوا فيه مائة ناقة لمن قتله, وأقبلوا إلى باب الغار فعفا الله أثره وأثر أبي بكر, فلم يستبن لهم وقعد رجل منهم يبول فقال أبو بكر: يا رسول الله قد رآنا القوم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يا أبا بكر ما رأونا, ولو رأونا ما قعد ذلك يبول بين أيدينا" فتفرقوا وبات أبو بكر بليلة منكرة من الأفعى, فلما أصبح قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما هذا يا أبا بكر؟ " وقد تورم جسده فقال: يا رسول الله, الأفعى فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فهلا أعلمتني" فقال أبو بكر: كرهت أن أفسد عليك قال: فأمرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على أبي بكر فاضمحل ما كان بجسده من الألم, وكأنه أنشط من عقال ثم ذكر ما بعده.
وعنها قالت: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر أتانا نفر من قريش وفيهم أبو جهل بن هشام, فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم فقالوا:

(1/102)


أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي, قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشًا خبيثًا, فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا فمكثنا ثلاث ليالٍ لا ندري أين وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من الشعر غناء العرب, وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه, حتى خرج من أعلى مكة يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلَّا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
خرجه ابن إسحاق, وسيأتي قصة أم معبد مستوفاة في الذكر الثالث من هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
"شرح" القرط: هو الذي يعلق في شحمة الأذن والجمع: قرطة وقراط كرمح ورماح, وإتيان قريش هذا بيت أبي بكر الظاهر أنه غير الأول الذي تضمنه حديثها من رواية ابن السمان, وأن هذا كان بعد اليأس منهم, ألا تراها تقسم بالله أنها لا تعلم أين وجهه؟ وفي ذلك الوقت كانت تعلم أنه بالغار؛ لأنها كانت تأتيهم بالطعام على ما تقدم بيانه, وقولها: أقمنا ثلاثًا لا نعلم أين وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ أي: بعد توجههما للغار والله أعلم.
ويجوز أن يكون هو ذلك الأول أو بعده قريبًا منه وهم بالغار ولم تكن علمت حينئذ ثم علمت بعد, إلا أن قولها: فأقمنا ثلاثًا لا نعلم, لا يجوز حملها على الثلاث الأول؛ فإنها مدة مقامهم في الغار وقد كانت عالمة بهم فيكون سؤالهم عنه في تلك وهو الظاهر من حال الباحث عن شيء, ويكون قولها: فأقمنا ثلاثًا أي: بعد علمها بهم أولًا ثم ارتحالهم من الغار, والله أعلم.

(1/103)


قال ابن إسحاق: لما بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأنصار وأمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة وقال: "إن الله جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها" فخرجوا أرسالًا وأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتظر أن يؤذن له ولم يتخلف معه من أصحابه إلا من حبس أو فتن إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة, وكان أبو بكر كثيرًا ما يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة فيقول له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تعجل, لعل الله أن يجعل لك صاحبًا" فيطمع أبو بكر أن يكون إياه.
وعن علي قال: جاء جبريل -عليه السلام- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "من يهاجر معي؟ " فقال: أبو بكر وهو الصديق, خرجه ابن السمان في الموافقة.
ذكر الغار وما جرى لأبي بكر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه وفي طريقه, وتقدم في الذكر قبله طرف منه:
وعن أنس أن أبا بكر -رضي الله عنه- حدثهم قال: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الغار: لو أراد أحد منهم أن ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر, ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " خرجه أبو حاتم.
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقد ذكر عنده أبو بكر فبكى وقال: وددت لو أن عملي كله من عمله يومًا واحدًا من أيامه, وليلة من لياليه, أما الليلة فليلة سار مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الغار فلما انتهيا إليه قال: والله لا تدخله حتى أدخل قبلك, فإن كان فيه شيء أصابني دونك فدخله فكسحه فوجد في جوانبه ثقبًا فشق إزاره وسد بها تلك الثقب, وبقي منها اثنان فألقمهما رجله ثم قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: ادخل فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضع رأسه في حجره فنام, فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر, ولم يتحرك مخافة أن يستنبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسقطت دموعه على وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما لك يا أبا بكر؟ " قال: لدغت فداك أبي وأمي, فتفل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهب ما يجده ثم انتفض

(1/104)


عليه فكان سبب موته, فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتدت العرب وقالوا: لا نؤدي زكاة, فقال: لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه, فقلت: يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تألف الناس وارفق بهم فقال: أجبار في الجاهلية, وخوار في الإسلام؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين, ثم انتفض وأنا حي, خرجه النسائي.
وخرج في الصفوة منه قصة الغار عن أنس وقال في آخره: فلما أصبح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فأين ثوبك يا أبا بكر؟ " فأخبره بالذي صنع, فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يديه وقال: "اللهم اجعل أبا بكر في درجتي يوم القيامة" فأوحى الله سبحانه إليه: "أن الله قد استجاب لك".
وخرجه الحافظ أبو الحسن بن بشران والملاء في سيرته عن ميمون بن مهران عن ضبة بن محصن الغنوي قال: كان علينا أبو موسى أميرًا بالبصرة فكان إذا خطبنا حمد الله -عز وجل- وأثنى عليه وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم بدأ يدعو لعمر قال: فأغاظني ذلك منه فقمت إليه فقلت له: أين أنت عن صاحبه, تفضله عليه؟! قال: فصنع ذلك ثلاث جمع ثم كتب إلى عمر يشكوني ويقول: إن ضبة بن محصن الغنوي يتعرض لي في خطبتي قال: فكتب إليه عمر أن أشخصه لي قال: فأشخصني إليه، فقدمت على عمر فدققت عليه فخرج إلي فقال: من أنت؟ فقلت: أنا ضبة بن محصن الغنوي قال: فلا مرحبًا ولا أهلًا قال: قلت: أما الرحب فمن الله -عز وجل- وأما الأهل فلا أهل ولا مال, فبِمَ استحللت يا عمر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته؟ قال: فما الذي شجر بينك وبين عاملك؟ قال: قلت: الآن أخبرك يا أمير المؤمنين: كان إذا خطبنا فحمد الله -عز وجل- وأثنى عليه وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ يدعو لك, فأغاظني ذلك منه قال: فقمت إليه وقلت له: أين أنت عن صاحبه, تفضله عليه؟! فصنع ذلك ثلاث جمع, ثم كتب إليك يشكوني قال: فاندفع عمر باكيًا فجعلت أرثي له, ثم قال: أنت والله

(1/105)


أوثق عنه وأرشد, فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر الله لك ذنبك؟ قال: قلت: غفر الله لك يا أمير المؤمنين, ثم اندفع باكيًا وهو يقول: والله الليلة من أبي بكر خير من عمر, هل لك أن أحدثك بيومه وليلته؟ قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين قال: أما الليلة, فلما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- هاربًا من أهل مكة خرج ليلًا, فتبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف هذا من فعلك؟ " قال: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك, وأذكر الطلب فأكون خلفك, ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك, قال: فمشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه, فلما رأى أبو بكر أنها قد حفيت حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى به فم الغار فأنزله ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله قبلك, فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك, فدخل فلم ير فيه شيئًا فحمله, وكان في الغار خروق فيها حيات وأفاعٍ فخشي أبو بكر أن يخرج منها شيء يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فألقمها قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه الحيات والأفاعي, وجعلت دموعه تتحادر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له: "يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا" فأنزل الله سكينته وهي طمأنينة لأبي بكر, فهذه ليلته.
وأما يومه, فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر مثل ما تقدم, وقال في آخره: ثم كتب إلى أبي موسى يلومه. خرجه الملاء في سيرته, وصاحب فضائله, وخرج الخجندي معناه وزاد بعد قوله: أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك إلى آخره: فقال: "يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك؟ " قال: نعم والذي بعثك بالحق, ثم ذكر معنى ما بعده ثم قال بعد ذكر سد الجحرة: انزل يا رسول الله فنزل ثم قال عمر: والذي نفسي بيده, لتلك الليلة خير من آل عمر.
"شرح" الغار: الكهف في الجبل والجمع: غيران, كسحه: كنسه

(1/106)


والمكسحة: المكنسة, طمأنينة هكذا قيد في الحديث, تقول: اطمأن الرجل اطمئنانًا وطمأنينة من غير همز عند إلحاق الهاء: إذا سكن قاله الجوهري, فتفل التفل: شبيه بالبزق وهو أقل منه, أوله البزق ثم التفل ثم النفث ثم النفخ تقول منه: تفل يتفل بضم الفاء وكسرها قاله الجوهري, الخوار: الضعيف من الخور بالتحريك يقال: رجل خوار وأرض خوارة ورمح خوار والجمع: خور, أشخصه من: شخص من بلد إلى بلد شخوصًا إذا ذهب وأشخصه غيره, مرحبًا من الرحب بالضم: السعة وفلان رحب الصدر أي: واسعه, وقولهم: مرحبًا وأهلًا أي: أتيت سعة وأتيت أهلًا فاستأنس ولا تستوحش, شجر بينك وبين عاملك أي: اختلف, واشتجر القوم وتشاجروا أي: تنازعوا والمشاجرة: المنازعة, الرصد بالتحريك: القوم يرصدون كالحرس, يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث, وربما قالوا في الجميع: أرصاد, وبالإسكان مصدر رصدت الشيء أرصده رصدًا ورصدًا أيضًا: إذا راقبته, حفيت رجله أي: رقت من كثرة المشي ويشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل وكان حافيًا, وإلا فلا يحتمل بعد الإمكان ذلك.
ويؤيد ذلك ما روته عائشة قالت: قال لي أبو بكر: لو رأيتني ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ صعدنا الغار فأما قدما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقطرتا دمًا, وأما قدماي فعادتا كأنهما صفوان فقالت عائشة: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتعود الحفية ولا الرعبة ولا الشقوة. خرجه في فضائله أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة, ويدل عليه وقوله: فمشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلته ولا يحتمل ذلك مشي ليلة إلا بتقدير ذلك أو سلوك غير الطريق تعمية على الطلب, الكاهل: الحارك وهو ما بين الكتفين, قال صلى الله عليه وسلم: "تميم كاهل مضر وعليها المحمل" الأفاعي: جمع أفعى وهي الحية, تقول: هذه أفعًى بالتنوين وكذلك أروى قاله الجوهري, وفي قوله: انزل يا رسول الله دليل على أن باب الغار كان من أعلاه.

(1/107)


ويؤيده أن في حديث الخجندي أن أبا بكر لما دخل الغار وخرج حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الحجرة, فدخل فاستبرأها ثم قال: انزل يا رسول الله, وقول عمر: خير من آل عمر يعني نفسه, ومنه {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} أي: داود نفسه.
وعن ابن عباس قال: لما كانت ليلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار قال لصاحبه أبي بكر: "أنائم أنت؟ " قال: لا وقد رأيت صنيعك وتقليك يا رسول الله, فما بالك بأبي أنت وأمي؟ قال: "جحر رأيته قد انهار فخشيت أن تخرج منه هامة تؤذيك أو تؤذيني" فقال أبو بكر: يا رسول الله فأين هو؟ فأخبر فسد الجحر وألقمه عقبه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رحمك الله من صديق صدقتني حين كذبني الناس، ونصرتني حين خذلني الناس، وآمنت بي حين كفر بي الناس، وآنستني في وحشتي, فأي منه لأحد عليّ كمثلك" خرجه في فضائله.
"شرح" الهامة مخففا: من طير الليل وهو الصدي والجمع: هام قاله الجوهري, فلعله أراد ذلك لأنهم أتوا الغار ليلًا أو أراد دواب الأرض استعارة من ذلك.
وعن جابر بن عبد الله أن أبا بكر الصديق لما ذهب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الغار فدخل أبو بكر ثم قال: كما أنت يا رسول الله, فضرب برجله فأطار اليمام يعني الحمام الطوري وطاف فلم ير شيئًا فقال: ادخل يا رسول الله, فدخل فإذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه مخافة أن يخرج على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء, وغزل العنكبوت على الغار وذهب الطلب في كل مكان فمروا على الغار فأشفق أبو بكر منهم فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا".
وعن جندب بن عبد الله بن سفيان العلقي قال: لما انطلق أبو بكر

(1/108)


مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الغار فأصاب يده شيء, فجعل يمسح الدم من أصبعه ويقول:
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
"شرح" في جندب لغتان: ضم الدال وفتحها, وسفيان جده نسب إليه, وجندب هذا نزل الكوفة فيمن نزلها من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم صار إلى البصرة ثم خرج عنها, والعلقي منسوب إلى علق فخذ من بجيلة, خرجه في فضائله.
وعن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه؟ فقال: "يا أبا بكر, ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " أخرجاه وأبو حاتم وغيرهم بطرق كثيرة, وفيه دلالة على ما تقدم من أن باب الغار كان من أعلاه.
وعن أبي مصعب المكي قال: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وسمعتهم يتحدثون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة الغار, قال: فأمر الله -عز وجل- شجرة فنبتت في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- فسترته وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار فأقبل فتيان من قريش, من كل بطن رجل, بعصيهم وهراواتهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- بقدر أربعين ذراعًا فجاء رجل منهم لينظر في الغار, فرأى الحمامتين بفم الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا: ما لك لم تنظر في الغار؟ قال: رأيت حمامتين بفم الغار فعلمت أن ليس فيه أحد, فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قال, فعرف أن الله درأ بهما فدعا لهن النبي -صلى الله عليه وسلم- وشمت عليهن وفرض جزاءهن وانحدرن في الحرم, خرجه في فضائله.
"شرح" الهراوة: العصا الضخمة والجمع: الهراوَى بفتح الواو بزنة مطايا كما في الإداوة, وهروته بالهراوة وتهريته أي: ضربته بها, شمت عليهن

(1/109)


أي: برك عليهن, ومنه الحديث: "شمتوا في الطعام" أي: إذا فرغتم فادعوا بالبركة لمن طعمتم عنده, ومنه تشميت العاطس.
قال أبو عمر: واختلفوا في مكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر في الغار؛ فيروى عن مجاهد ما روته عائشة في الحديث المتقدم في الباب قبله, فمكثا فيه ثلاث ليال وعليه جمهور المحدثين.
وروي في حديث مرسل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مكثت مع صاحبي في الغار بضعة عشر يومًا ما لنا طعام إلا ثمر البرير -يعني ثمر الأراك" ولا يصح هذا وحمله على غار ثور غلط؛ فإنه كان طعامهم فيه ما تقدم ذكره وإنما كانت هذه القصة والله أعلم أيام كان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الله -عز وجل- ويروى أن ثمر البرير كان طعام النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في سفر الهجرة.
وعن سعد بن هشام قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بهم فقام رجل فقال: يا رسول الله أحرق بطوننا التمر فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني خرجت أنا وصاحبي هذا -يعني أبا بكر- ليس لنا طعام إلا حب البرير, فقدمنا على إخواننا الأنصار فواسونا في طعامهم وكان جل طعامهم التمر, وايم الله لو أجد لكم الخبز لأطعمتكموه". خرجه في فضائله وسعد بن هشام تابعي يروي عن الزهري وأنس وعائشة.
وعن ابن عباس قال: كان أبو بكر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار فعطش عطشًا شديدًا فشكا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "اذهب إلى صدر الغار فأشرب" قال أبو بكر: فانطلقت إلى صدر الغار فشربت ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأذكى رائحة من المسك, ثم عدت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "شربت؟ " قلت: نعم قال: "ألا أبشرك يا أبا بكر؟ " قلت: بلى يا رسول الله, قال: "إن الله تبارك وتعالى أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن يخرق نهرًا من جنة الفردوس إلى صدر الغار ليشرب أبو بكر" فقلت:

(1/110)


يا رسول الله ولي عند الله هذه المنزلة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "نعم وأفضل, والذي بعثني بالحق نبيًّا لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبيًّا" خرجه الملاء في سيرته.
ذكر توجههما طالبين المدينة, وما جرى لهما في الطريق, ومقدمهما المدينة وما تعلق بذلك:
عن البراء بن عازب قال: اشترى أبو بكر من عازب رحلًا بثلاثة عشر درهمًا فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمله إلى أهلي فقال عازب: لا حتى تحدثني كيف صنعت أنت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكما؟ فقال: ارتحلنا من مكة فأحيينا ليلتنا حتى إذا أظهرنا وقام قائم الظهيرة رميت ببصري هل أرى ظلا نأوي إليه, فإذا أنا بصخرة فانتهيت إليها فإذا بقية ظلها فسويته ثم فرشت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قلت: اضطجع يا رسول الله, فاضطجع ثم ذهبت أنظر هل أرى من الطلب أحدًا؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي نريد -يعني الظل- فسألته فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: الغلام لفلان رجل من قريش فعرفته فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم فقلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم, فأمرته فاعتقل شاة من غنمه وأمرته أن ينفض عنها من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا فضرب إحدى يديه على الأخرى فحلب لي كثبة من لبن وقد رويت ومعي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إداوة على فمها خرقة, فصببت على اللبن حتى برد أسفله فانتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوافيته قد استيقظ, فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب فقلت: قد آن الرحيل يا رسول الله, فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن جعثم على فرس له فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله فبكيت فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا"، فلما دنا منا وكان بيننا وبينه قدر رمحين أو ثلاثة قلت: هذا الطلب يا رسول الله

(1/111)


وبكيت فقال: "ما يبكيك؟ " قلت: ما والله على نفسي أبكي, ولكن أبكي عليك, فدعا عليه1 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم اكفناه بما شئت" قال: فساخت فرسه في الأرض إلى بطنها فوثب عنها ثم قال: يا محمد, قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه, فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهمًا, فإنك ستمر على إبلي وغنمي في مكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لنا في إبلك" ودعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانطلق راجعًا إلى أصحابه, ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتينا المدينة ليلًا, فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني أنزل الليلة على بني النجار أخوال بني عبد المطلب, أكرمهم بذلك" فخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطريق وعلى البيوت من الغلمان والخدم يقولون: جاء محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما أصبح انطلق, فنزل حيث أمر.
قال البراء: وكان أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار بن قصي فقلنا له: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو في مكانه وأصحابه على أثري, ثم أتى بعده2 عمر ابن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر فقلنا: ما فعل من وراءك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؟ قال: هم الآن على أثري, ثم أتى بعده عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وبلال, ثم أتانا عمر بن الخطاب في عشرين راكبًا, ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدهم وأبو بكر معه.
قال البراء: فلم يقدم علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قرأ عشرًا من المفصل, ثم خرجنا تلقاء العير فوجدناهم قد حذروا. أخرجه بتمامه أبو حاتم وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث الهجرة إلى بلوغ المدينة.
__________
1 على الطلب.
2 المعروف أنه عبد الله ابن أم مكتوم، وأم مكتوم أم أبيه، وأبوه شريح بن مالك.

(1/112)


وفي رواية مكان ساخت فرسه فارتطم فرسه إلى بطنه فقال: قد أعلم أنكما قد دعوتما علي فادعوا لي ولكما أن أرد عنكما الناس ولا أضركما قال فدعوا له فخرجت به الفرس فرجع فوفى للنبي -صلى الله عليه وسلم- وجعل يرد الناس.
وقد ذكر ابن إسحاق أن أول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي هاجر إليها قبل بيعة العقبة حين آذته قريش عند مقدمه من الحبشة فبلغه إسلام من أسلم من الأنصار فخرج إليهم مهاجرًا ثم هاجر بعده عامر بن ربيعة حليف بني كعب بن عدي وامرأته ليلى بنت أبي حيثمة ثم عبد الله بن جحش احتمل بأهله وأخيه عبد الرحمن بن جحش وهو أبو أحمد وكان أبو أحمد رجلًا ضرير البصر وكان يطوف مكة أعلاها وأسفها بغير قائد وكان شاعرًا ثم قدم المهاجرون أرسالًا ولا تضاد بينه وبين ما تقدم فيكون أول من قدمها مطلقًا أبو سلمة وأول من هاجر بعد بيعة الأنصار مصعب بن عمير كما تقدم وأما من ذكره ابن إسحاق بعد أبي سلمة فجائز أن يكون أيضًا قبل العقبة كأبي سلمة وجاز أن يكون بعدها بعد مصعب بن عمير ولم يبلغ ابن إسحاق مهاجر مصعب قبله والله أعلم.
"شرح" أظهرنا أي دخلنا في الظهيرة وقائم الظهيرة عبارة عن اشتدادها وكذلك حر الظهيرة.
وقوله -هل أنت حالب لي- قال نعم هذا محمول على أنه عرف مالكها وعلم أنه يرضى بتصرفه لصداقة بينهما أو على أن قوله هل أنت حالب لي أراد به هل أذن لك في ذلك أو على أن ذلك مستفاض بين العرب لا يرون بأسًا على محتاج يتناول من لبن ماشيتهم ويبيحون ذلك لرعيانهم أو على إباحة ذلك لمضطر لا يجد غير مال الغير وقد يكون الحال كذلك على أن بعض العلماء لم يشترط الضرورة وأباح ذلك للمسافر وإن لم

(1/113)


يكن مضطرًا واستدل بحديث أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال إذا مر أحدكم بإبل فأراد أن يشرب فليناد يا راعي الإبل فإن أجابه وإلا فليشرب أو على استباحة أموال المشركين على أنه قد روي ما يضاد هذا الحديث في الظاهر.
عن زر عن عبد الله بن مسعود قال كنت غلامًا يافعًا في غنم لعقبة بن أبي معيط أرعاها فأتى علي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر فقال: يا غلام هل معك من لبن قلت نعم ولكني مؤتمن قال فقال: ائتني بشاة لم ينز عليها الفحل فأتيته بعناق فاعتزلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم جعل يمسح الضرع ويدعو حتى أنزلت فأتاه أبو بكر بشيء فاحتلب فيه ثم قال: لأبي بكر اشرب فشرب أبو بكر ثم شرب النبي -صلى الله عليه وسلم- بعده ثم قال: للضرع اقلص فقلص فعاد كما كان قال ثم أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت يا رسول الله علمني من هذا الكلام أو من هذا القرآن فمسح رأسي وقال إنك غلام معلم فلقد أخذت من فيه سبعين سورة ما نازعني فيها بشر: أخرجه أبو حاتم ابن حبان.
وفي رواية أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط بمكة فأتى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وقد فرا من المشركين فقالا: "يا غلام عندك من لبن تسقينا قلت إني مؤتمن ولست بساقيكما فقال: اهل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت نعم وأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الضرع ودعا فحفل الضرع وأتاه أبو بكر بصخرة منقعرة فحلب فيها ثم شرب هو وأبو بكر ثم سقياني ثم قال: للضرع اقلص فقلص.
وفي رواية قال يا غليم مكان يا غلام ثم ذكر معنى ما بعده وقال فأتيته بشاة شطور لم ينز عليها الفحل والشطور الذي ليس لها إلا ضرع واحد فمسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكان الضرع وما لها ضرع فإذا ضرع حافل مملوء لبنًا فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بصخرة منقعرة فاحتلب ثم سقى أبا بكر وسقاني ثم قال: للضرع اقلص فرجع كما كان فأنا رأيت هذا من رسول

(1/114)


الله -صلى الله عليه وسلم- قلت يا رسول الله علمني فمسح رأسي وقال: "بارك الله فيك فإنك غلام معلم" فأسلمت فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فبينما نحن عنده على حراء إذا نزلت عليه {وَالْمُرْسَلات} أخرجه الطبراني في معجمه وخرج منه الغساني في معجمه قوله كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط فمر بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا غلام هل من لبن" فقلت نعم ولكني مؤتمن.
والظاهر أن هذه قضية غير تلك اتفقت لهما في بعض أسفارهما قبل الهجرة ألا ترى إلى اختلاف قول الراعيين واختلاف الحالبين واختلاف ما حلبا فيه؟
ويؤيد ذلك قوله بعد إسلامه وإتيانه إليه فبينما نحن عنده على حراء وأنه نزلت عليه سورة {وَالْمُرْسَلات} هذا فيه أبين البيان بأن ذلك قبل الهجرة فإنه بعد الهجرة لم يأت مكة إتيانًا يتمكن فيه من إتيان حراء وسورة المرسلات مما نزل بمكة قبل الهجرة وقوله في هذا الحديث يافعًا أي مرتفعًا من اليفاع وهو ما ارتفع من الأرض وأيفع الغلام أي ارتفع فهو يافع ولا يقال موفع وهو من النادر قاله الجوهري وذكر الفراء في حدوده أنه يقال يفع الغلام وحكاه ثابت عن أبي عبيدة في خلق الإنسان وقوله فيه لم ينز عليها الفحل أي لم تضرب ولم يواقعها الفحل تقول نزا نزاء بالكسر يقال ذلك في الحافر والظلف والسباع ونزاه غيره ونزاه وأما النزا بالضم فهو داء يأخذ الشاة فتنزوي منه حتى تموت حفل الضرع جمع والتحفيل التصرية صخرة منقعرة أي ذات قعر من التقعير والتعمق ورأيتها في الحديث مقيدة بالنون ولا معنى له هنا فإن المنقعر المنقلع ومنه أعجاز نخل منقعر قلص ارتفع والشطور قد فسرها في الحديث وقوله فمسح -صلى الله عليه وسلم- مكان الضرع وما لها ضرع بعد قوله لها ضرع واحد يريد به والله أعلم مكان الضرع الآخر وما لها فيه ضرع وإلا تضاد أول الحديث وآخره فقد تضمن هذا الحديث أن سورة المرسلات نزلت بحراء وسورة المرسلات مما

(1/115)


نزلت بمكة قبل الهجرة وقد جاء في المتفق عليه من الصحيحين عن عبد الله قال بينا نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غار بمنى إذا نزلت عليه والمرسلات وإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وعن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية فقال: رسول الله صلى الله عيه وسلم اقتلوها فابتدرناها لنقتلها فسقتنا فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقيت شركم ووقيتم شرها. الحديث وآخره فقد تضمن هذا الحديث أن سورة المرسلات نزلت بحراء وسورة المرسلات مما نزلت بمكة قبل الهجرة وقد جاء في المتفق عليه من الصحيحين عن عبد الله قال بينا نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غار بمنى إذا نزلت عليه والمرسلات وإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وعن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقتلوها" فابتدرناها لنقتلها فسقتنا فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "وقيت شركم ووقيتم شرها".
وقوله بمنى للبخاري دون مسلم وهذا أصح وأثبت:
وقوله في حديث البراء فاعتقل شاة وهو أن يضع رجليها بين فخذه وساقه ليحلبها واعتقل رمحه إذا جعله بين ساقه وركابه وكأنه جعل له ذلك عقالًا وفي أمره بنفض الضرع ونفض اليد وفرشه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتسويته الأرض دليل على التوسعة في مثل هذه الرفاهية ونحوها الكثبة من اللبن قدر حلبة الأداوة المطهرة والجمع أداوى.
وقوله فصببت على اللبن حتى برد أسفله يجوز أن يريد أنه صب على ظاهر الإناء فبرد أسفله لاستقرار الماء في أسفله وإلا فكان يبرد كله لو صب فيه نفسه وعلى هذا دل بعض ألفاظ الحديث ويجوز أن يكون صب على اللبن نفسه وإنما خص أسفله بالبرد لأن الماء يغوص في اللبن فيلابس أسفله منه لما لا يلابس أعلاه فيكثر البرد في أسفله ويترجح هذا باقتضاء الحال فإنها حالة جوع وحاجة إلى شربه وصب الماء فيه نفسه أسرع لتسكين حرارته وبرده الطب جمع طالب فساخت أي دخلت فيها تقول ساخ يسوخ ويسيخ وارتطمت بمعناه تقول رطمته فارتطم أي أدخلته في أمر لا مخرج له منه لا عمين أي لألبسن وعمي عليهم الأمر التبس -الكنانة- التي تجمع فيها السهام -العير- بالكسر الإبل تحمل الميرة ويجوز أن يجمع على عيرات فتنازعوا أي قبائل الأنصار بني النجار أخوال عبد المطلب كان هاشم تزوج امرأة من بني النجار فولدت عبد المطلب فلذلك كانوا أخواله واسم المرأة سلمة بنت زيد بن خراش بن أمية بن أسد بن عامر بن

(1/116)


غنم بن عدي بن النجار ويسمى زيد مناة وعن الزهري أنها سلمى بنت عمرو بن زيد وفي هذا الحديث أن ارتحالهم كان من مكة أنهم أحيوا ليلتهم بالسرى ولم يتضمن ذكر الغار كما تقدم.
وقد جاء في الصحيح أن أبا بكر قال ارتحلنا من الغار والقوم يطلبوننا فلم يدركنا منهم أحد غير سراقة بن مالك على فرس له وذكر الحديث ولا تضاد بينهما وكان ارتحالهم المتصل بإحياء الليلة من الغار وأطلق عليه ارتحالًا من مكة لأن الغار في ثور كما تقدم وهو جبل في الحرم قريب من مكة فأطلق على الارتحال منه ارتحال من مكة لقربه أو لكونه من الحرم ومنه أن الله حرم مكة والمراد الحرم. وعن حبيش بن خالد صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين خرج من مكة خرج منها مهاجرًا إلى المدينة هو وأبو بكر ومولى لهم عامر بن فهيرة ودليلهما الليث بن عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية وكانت برزة جلدة تختبئ بفناء القبة ثم تسقي وتطعم فسألوها تمرًا ولحمًا يشترونه منها فلم يصيبوا عندها من ذلك شيئًا وكان القوم مرملين مسنتين فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى شاة في كسر الخيمة فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد" قالت خلفها الجهد عن الغنم قال: "هل بها من لبن؟ " قالت هي أجهد من ذلك قال: "أتأذنين لي أن أحلبها؟ " قالت نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها فدعا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت ودعا بإناء يربض الرهط فحلب ثجًا حتى علاه إليها ثم سقاها حتى رويت ثم سقى أصحابه حتى رووا ثم شرب آخرهم ثم حلب ثانيًا بعد بدء حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها وبايعها وارتحلوا يعني عنها فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا تساوكن هزلًا مخهن قليل.
فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال من أين لك هذا يا أم معبد

(1/117)


والشاة عازب حيال ولا حلوب في البيت؟ قالت لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا قال صفيه لي يا أم معبد قالت رجل ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة وسيم قسيم في عينيه دعج وفي أشفاره وطف وفي وصوته صحل وفي عنقه سطع وفي لحيته كثاثة أزج أقرن إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاه من بعيد وأحسنه وأحلاه من قريب حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ربعة لا بائن من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرًا وأحسنهم قدرًا له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر تبادروا لأمره محفود محشود لا عابس ولا مفند قال أبو معبد فهذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن عن وجدت لذلك سبيلًا وأصبح صوت بمكة عال يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلاها بالهدى فاهتديا به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا قصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال أو فجار وسؤدد
ليهن بنو كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنك إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت ... عليها صريحًا ضرة الشاة مزيد
فغادرها رهنًا لديها كحالب ... يرددها في مصدر ثم مورد
خرجه الحافظ أبو القاسم في الأربعين الطوال.
"شرح" -مرملين- أين نفذت أزوادهم مسنتين أي دخلوا في السنة ويروى مشتين أي دخلوها في الشتاء وكسر الخيمة -جانبها- وتفاجت -فتحت ما بين رجليها- ويربض الرهط أي يرويهم حتى يثقلوا

(1/118)


فيربضوا -والثج- السيلان- والبها بهاء اللبن وهو وبيص رغوته وتساوكن هزلًا أي تمايلن ويروى تشاركون من المشاركة أي تساوين في الهزال وغادره أبقاء والشاة عازب أي بعيد في الرعي والأبلج المشرق الوجه المضيئة والحيال جمع حائل وهي التي لم تحمل والوضاءة الحسن والثجلة عظم البطن والصعلة صغر الرأس ويروى ثجلة بالضم وهي الضمرة والدقة وصقلة الخاصرة يعني أنه غير طويل الخاصرة والوسيم الحسن وكذلك القسيم والدعج السواد في العين والوطف الطول والصحل البحة والسطع الطول والكثاثة كثرة الشعر والأزج الرقيق طرف الحاجبين والأقرن المقرون الحاجبين بخلاف ما في حديث غيره والنزر القليل والهذر الكثير من الكلام فكلامه وسط وتقتحمه تحتقره يعني أنه بين الطويل والقصير والمحفود المخدوم والمحشود الذي عنده حشد وهو الجماعة والعابس من عبوس الوجه والمفند الذي يكثر اللوم وهو التفنيد ويروى معتد من العداء وهو الظلم والصريح الخالص والضرة لحمة الضرع وفي رواية فتحلبت له بصريح وهو الصواب وغادرها أي خلف الشاة عندها مرتهنة بأن تدر والله أعلم.
وعن عبد الرحمن بن عويمر بن ساعدة قال حدثني رجال من قومي من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لما سمعنا بمخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظهر حرتنا ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظل فإذا لم نجد ظلًا دخلنا وذلك في أيام حارة حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا فقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود وقد رأى ما كنا نصنع وإنا ننتظر قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء فخرجنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر وأكثرنا لم

(1/119)


يكن رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر حتى إذا زال الظل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك خرجه ابن إسحاق بهذا السياق ومعناه عند الشيخين.
"شرح" -قيلة- هذه هي أم الأوس والخزرج وهما جماعة الأنصار أمهما قيلة بنت كامل ابن عذرة بن سعد بن هزيم من قضاعة بها يعرفون جدكم أي حظكم وغناكم من الجد الحظ ركبه الناس أي ازدحموا عليه حتى كادوا يركبونه. عن أنس قال: أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وأبو بكر شيخ يعرف والنبي -صلى الله عليه وسلم- شاب لا يعرف فيلقى الرجل أبا بكر فيقول يا أبا بكر من هذا الذي بين يديك فيقول يهديني السبيل فيحسب الحاسب أنه يهديه الطريق وإنما يعني سبيل الخير فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحق بهم فقال: يا رسول الله هذا فارس قد لحق بنا فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "اللهم اصرعه" فصرعه فرسه ثم قامت تحمحم فقال: يا نبي الله مرني بما شئت فقال: "قف مكانك لا تتركن أحدًا يلحق بنا" فقال: فكان أول النهار جاهدًا على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وكان آخر النهار مسلحة له فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- جانب الحرة ثم بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فسلموا عليهما وقالوا اركبا آمنين مطاعين فركب نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح فقيل بالمدينة جاء نبي الله فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب فقال: النبي -صلى الله عليه وسلم- "أي بيوت أهلها" أقرب قال: أبو أيوب يا نبي الله هذه داري وهذا بابي قال: فانطلق فهيأ لنا مقيلًا قال: قومًا على بركة الله خرجه البخاري.
"شرح" ظاهر قوله وأبو بكر شيخ يعرف يدل على أنه كان أسن من النبي -صلى الله عليه وسلم- والمعروف عند أهل الخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسن منه بمدة خلافته وسيأتي بيان ذلك إن شاء تعالى أو لعله يريد بشيخ يعرف أي كبير في قومه رئيس معهم معروف.

(1/120)


وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث عن أنس ارتدف النبي -صلى الله عليه وسلم- خلف أبي بكر فكان إذا مر بالملأ من قريش قالوا يا أبا بكر من هذا الرجل معك؟ فيقول هذا رجل يهديني السبيل خرجه الحلواني على شرط الصحيح.
وفي بعضها إن أبا بكر كان رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان أعرف بذلك الطريق فيراه الرجل يعرفه فيقول يا أبا بكر من هذا الغلام بين يديك فيقول هذا يهديني السبيل حديث صحيح وأكثر الروايات على أنه كان رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي بعضها قالوا من هذا يا أبا بكر الذي تعظمه هذا الإعظام؟ قال: هذا يهديني الطريق وهو أعرف به مني.
وقد جاء أن أبا بكر كان مردفًا عامر بن فهيرة مولاه يخدمهم فكانوا أربعة بالدليل ولا تضاد بينهما إذ قد يكون ارتدف خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- وارتدف النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه في بعض الطريق لعارض اقتضى ذلك والله أعلم.
وعن أنس قال: إني لأسعى في الغلمان تقول جاء محمد فأسعى فلا أرى شيئًا حتى جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر الصديق فكمنا في بعض خراب المدينة ثم بعثا رجلًا من أهل البادية ليؤذن الأنصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما فقالت الأنصار انطلقوا آمنين مطاعين فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه بين أظهرهم فخرج أهل المدينة حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءين يقلن أيهم هو أيهم هو قال: فما رأينا منظرًا شبيهًا بيومئذ.
قال: أنس فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض فلم أر يومين شبيهًا بهما أخرجه في فضائله وقال: صحيح.
وفي رواية أنهم نزلوا بالحرة وأرسلوا إلى الأنصار فجاءوا فقال: وا قومًا آمنين مطاعين.

(1/121)


قال: أنس فوالله ما رأيت يومًا أضوأ ولا أنور ولا أحسن من يوم دخل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا رأيت يومًا أظلم ولا أقبح من يوم مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخرجهما في فضائله.
"شرح" -كمنا: أي اختفيا ومنه الكمين في الحرب زهاء خمسمائة أي قدرها وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال: لما أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مهاجره لقي ركبًا فقال: "يا أبا بكر سل القوم من هم" فسألهم فقالوا: من بني سهم فقال: "رمى بسهمك يا أبا بكر" حديث حسن.
وعن عروة بن الزبير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة تلقاه المسلمون بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عامر بن عوف وذلك يوم الاثنين في شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- صامتًا فطفق من جاء من الأنصار من لم ير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجيء أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بردائه فعرف الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك خرجه البخاري.
وعن ابن الفضل ابن الحباب الجمحي قال: سمعت ابن عائشة يقول أراه عن أبيه قال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة جعل الصبيان والنساء والولائد يقولون:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
خرجه الحلواني على شرط الشيخين. قال: ابن إسحاق: نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يذكرون على كلثوم بن هدم أخي عمرو بن عوف ويقال: بل على سعد بن خيثمة لأنه كان عزبًا لا أهل له ونزل أبو بكر على حبيب بن عساف أخي بني الحارث بن الخزرج

(1/122)


بالسنح ويقال: على خارجة بن زيد أخي بني الحارث بن الخزرج قال: فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين والثلاث والأربع والخميس ثم خرج عنهم يوم الجمعة فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي فهي أول جمعة صليت بالمدينة ثم لم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمر بأحياء الأنصار حي بعد حي وكلما مر على حي قاموا إليه فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا العدد والعدة والمنعة وهو يقول خلوا سبيلها يعني الناقة فإنها مأمورة.
حتى إذا أتت بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده -صلى الله عليه وسلم- وهو يومئذ مربد1 لغلامين يتيمين من بني النجار ثم من بني مالك.
فلما بركت الناقة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم ينزل عنها وثبت وسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله ليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت على مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته ثم سأل عن المربد واتخذ المسجد مكانه وكان من أمره ما كان -صلى الله عليه وسلم- وهذا سياق ابن إسحاق ومعناه عند البخاري بتغير بعض اللفظ وتقديم وتأخير.
"شرح" -تحلحلت: أي تحركت ورزمت أي صوتت من حلقها من غير أن تفتح فاها من الرزمة بالتحريك وهو الصوت كذلك والحنين أشد منه أو لعل معناه ثبتت من الرزام البعير الثابت على الأرض لا يقوم من الهزال فاستعير لثبوتها بذلك المكان والجران العنق من المذبح إلى المنحر والجمع جرن.
__________
1 جرن: كان يجفف به التمر.

(1/123)