الرياض النضرة في مناقب العشرة

الفصل التاسع: في خصائصه
وقد تقدم منها طرف جيد في أبواب الأعداد خاصة في باب الشيخين، وتقدم منها أنه أول من أسلم على الاختلاف فيه، وأول من أظهر إسلامه وأنه لم يتردد ولم يتلعثم حين عرض عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- تقدمًا في فضل إسلامه واختصاصه بالصديقية، وقد تقدم الكلام فيها في فصل أسمه وأنه أول خطيب دعا إلى الله تعالى في فضل إسلام أمه، وأنه أول من تنشق عنه الأرض بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
تقدم في باب مناقب الشيخين وأنه لم يجتمع لأحد من المهاجرين إسلامه أبويه غيره، تقدم فيه أيضًا من حديث علي واختصاصه بصحبته في الهدجرة وخدمته له فيها، تقدم في باب هجرته واختصاصه براجحيته بالأمة في باب مادون العشرة، واختصاصه براجحيته بالأمة في باب الثلاثة، وأنه لم يسوء النبي -صلى الله عليه وسلم- قط، تقدم في باب ما دون العشرة.
ذكر اخصاصه بأنه لم يكذب النبي -صلى الله عليه وسلم- قط:
عن ابن عباس قال: جاء أبو بكر وعلي يزروان النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته بستة أيام، فقال علي لأبي بكر: تقدم يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو بكر مال كنت لأتقدم رجلا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "علي مني كمنزلتي من ربي"، فقال علي: ما كنت لأتدم رجلا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا وقد كذبني غير أبي بكر، وما منكم من أحد يصبح إلا على بابه ظلمة إلا بالب أبي بكر"، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله؟ قال نعم، فأخذ أبو بكر بيد علي، ودخلا جميعًا، خرجه ابن السمان في الموافقة ولعله1 علي باب قلبه والله أعلم وهو المراد.
__________
1 ولعل اللفظ في الحديث السابق: يعني على بابه ظلمه "على باب قلبه".

(1/124)


ذكر اختصاصه بمؤانسته له -صلى الله عليه وسلم- في الغار:
وبما كان من شفقته عليه فيه وفي طريقه وإيثاره إياه التنزيل: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} وقد تقدمت أحاديث هذا الذكر في ذكر الغار مستوفاة:
وعن ربيعة الأسلمي قال: كان بيني وبين أبي بكر كلام فقال: لي أبو بكر كلمة كرهتها وندم فقال: يا ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصًا قال: قلت لا أفعل فقال: أبو بكر لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت ما أنا بفاعل قال: فرفض الأرض وانطلق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وانطلقت تلوه فجاء ناس من أسلم فقالوا: يرحم الله أبا بكر في أي شيء يستعدي عليك وهو الذي قال: لك ما قال: قلت أتدرون ما هذا هذا أبو بكر هذا ثاني اثنين إذ هما في الغار إياكم لا يلتفت فيراكم تنصرونني عليه فيغضب فيأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيغضب لغضبه فيغضب الله -عز وجل- لغضبهما فتهلك ربيعة قالوا ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا قال: فانطلق أبو بكر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وتبعته وحدي حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحدثه الحديث كما كان فرفع إلي رأسه فقال: يا ربيعة ما لك وللصديق قلت يا رسول الله كان كذا وكذا قال: لي كلمة كرهتها فقال: لي قل كما قلت حتى يكون قصاصًا فأبيت فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "فلا ترد عليه ولكن قل له غفر الله لك يا أبا بكر" فقلت غفر الله لك يا أبا بكر قال: الحسن فولى أبو بكر وهو يبكي خرجه أحمد.
"شرح" -رفض الأرض برجله ضربها بها- تلوه- أي أتلوه وأتبعه.
وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وقد قال: في مجلسه رجل ما كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من موطن إلا وعلي معه فيه فقال: القاسم يا أخي لا تحلف قال: هلم قال: بلى ما لا ترده قال: الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي

(1/125)


الْغَارِ} خرجه أبو عمر.
"شرح" -هلم- بمعنى هات ما عندك استعارة من هلم بمعنى تعال قال: الجوهري بفتح الميم وقال: الخليل أصله من قولهم لم الله شعثك أي جمعه كأنه أراد لم نفسك إلينا وها للتنبيه وحذفت الألف لكثرة الاستعمال وجعل اسمه واحدًا يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث في لغة أهل الحجاز قال: تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين هلما وللجمع هلموا وللمرأة هلمي وللنساء هلممن والأول أفصح.
ذكر اختصاصه بالسبق بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
عن ابن عباس قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "اليوم الرهان وغدًا السباق والغاية الجنة والهالك من يدخل النار أنا الأول وأبو بكر المصلي وعمر التالي والناس بعد على السنن الأول فالأول" أخرجه المهتدي بالله في مشيخته وقد تقدم في باب الشيخين.
ذكر اختصاصه بإثبات أهلية الخلة له ولولا أنه -صلى الله عليه وسلم- خليل الرحمن لاتخذه خليلًا:
عن جندب قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بخمس وهو يقول "إني أبرأ إلى الله -وعز وجل- أن يكون لي منكم خليل فإن الله -وعز وجل- قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا" تفرد به مسلم.
ذكر أحاديث تدل على ثبوت الخلة له وهي أعظم الخصائص:
عن أبي أمامة قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا وإنه لم يكن نبي إلا له في أمته خليل ألا وإن خليلي أبو بكر" أخرجه الواحدي في تفسيره الوسيط.

(1/126)


ذكر تخصيصه بالأخوة والصحبة:
عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا" خرجه مسلم وأبو حاتم.
وعن ابن عباس قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن أخي وصاحبي" خرجه البخاري. وفي رواية لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذته خليلًا ولكن أخوة الإسلام أفضل خرجه البخاري.
وسيأتي في ذكر حديث أمن الناس علي أبو بكر طرف منه وأخرجه الحافظ أبو الحسن علي ابن عمر الحرلي السكري من حديث أبي بن كعب بزيادة ولفظه عن أبي بن كعب أنه قال: إن أحدث عهدي بنبيكم -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته بخمس ليال دخلت عليه وهو يقلب يديه وهو يقول إنه لم يكن نبي إلا وقد اتخذ من أمته خليلًا وإن خليلي من أمتي أبو بكر بن أبي قحافة ألا وإن الله قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا والأحاديث النافية لاتخاذ الخلة أثبت وأصح وإن صحت هذه الرواية فيكون قد أذن الله له عند تبريه من خلة غير الله مع تشوقه لخلة أبي بكر لولا خلة الله في اتخاذه خليلًا مراعاة لجنوحه إليه وتعظيمًا لشأن أبي بكر ولا يكون ذلك انصرافًا عن خلة الله جل وعلا بل الخلتان ثابتتان كما تضمنه الحديث تشريف للمصطفى -صلى الله عليه وسلم- والأخرى تشريف لأبي بكر.
ذكر اختصاصه باستثناء بابه من سد الأبواب الشارعة في المسجد:
عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بسد الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر خرجه الترمذي وأبو حاتم وأخرجه ابن إسحاق وزاد في آخره فإني لا أعلم رجلًا كان أفضل في الصحبة يدًا منه.

(1/127)


وعن جبير بن نفير أن أبوابًا كانت مفتحة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر بها فسدت غير باب أبي بكر فقالوا: سد أبوابنا غير باب خليله وبلغه ذلك فقام فيهم فقال: أتقولون سد أبوابنا وترك باب خليله ولولا كان لي منكم خليل كان هو خليلي ولكن خليلي الله فهلا أنتم تاركون لي صاحبي؟ فقد واساني بنفسه وماله وقال: لي صدق وقلتم كذب خرجه في فضائله وهو مرسل وسيأتي في الذكر بعده طرف منه.
ذكر اختصاصه بقوله -صلى الله عليه وسلم- في حقه أنه أمن الناس عليه في صحبته وماله فيه طرف من الذكر قبله:
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن أخوة الإسلام لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر". أخرجاه وأحمد والترمذي وأبو حاتم. وعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج في مرضه الذي مات فيه عاصبًا رأسه فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إنه ليس من الناس أحد أمن علي بنفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذًا من الناس خليلًا لاتخذت أبا بكر لكن خلة الإسلام سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر". خرجه أحمد والبخاري وأبو حاتم واللفظ له وقال: في قوله سدوا عني كل خوخة إلى آخره دليل على حسم أطماع الناس كلهم من الخلافة إلا أبا بكر قلت وهذا القول وحده لا ينهض في الدلالة وإنما بانضمام القرائن الخالية إليه حصلت1 وذلك بارتقائه المنبر في حال المرض ومواجهة الناس بذلك وتعريفهم بحق أبي بكر وبفضله بذكر الخلة وذلك تنبيه على أنه الخليفة من بعده وكان هذا القول كالتوصية لهم به لأنه قرب الموت ولذلك فهمه الصحابة من القال والحال.
__________
1 أي الدلالة.

(1/128)


عن أبي سعيد قال: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرجعه من حجة الوداع على المنبر فقال: "إن عبدًا خيره الله -وعز وجل- بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وعزها والخلد فيها ثم الجنة وبين ما عنده والجنة فاختار ما عند الله والجنة". فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخير ولكن لم يفجعنا وكان أبو بكر أعلمنا بالأمور وقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام". ثم قال: "لا يبقين في المسجد إلا خوخة أبي بكر" فعلمنا أنه مستخلفه خرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي وقال: صحيح المتن غريب الإسناد.
وعن أبي المعلي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أمن الناس علي...." وساق الحديث بنحو حديث أبي سعيد، وقال: بعد قوله لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن ود وإخاء وإيمان مرتين أو ثلاثًا وأن صاحبكم خليل الله خرجه الترمذي والحافظ الدمشقي وقال: صحيح المتن حسن الإسناد واسم أبي المعلي زيد بن لوذان الأنصاري قاله أبو عمر.
وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن من أمن الناس علينا في نفسه وذات يده أبا بكر ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذته ولكن أخوة الإسلام سدوا كل خوخة في القبلة إلا خوخة أبي بكر خرجه". في فضائله فيه دليل بمنطوقه على أن الخوخات المسدودة كانت في القبلة وبمفهومه على أن في المسجد خوخات غيرها لم تسد.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحد أعظم عندي يدًا من أبي بكر واساني بنفسه وماله وأنكحني ابنته خرجه في فضائله.
وعن سهل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " إن من أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر الصديق فحبه وشكره وحفظه واجب على أمتي". خرجه الخطيب في تاريخه وصاحب الفضائل.

(1/129)


ذكر اختصاصه بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما نفعه من مال ما نفعه مال أبي بكر:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبو بكر" فبكى أبو بكر وقال: ما أنا ومالي إلا لك خرجه أحمد وأبو حاتم وابن ماجه والحافظ الدمشقي في الموافقات.
وعن ابن المسيب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما مال رجل من المسلمين أنفع لي من مال أبي بكر". قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي في مال أبي بكر كما كان يقضي في مال نفسه خرجه عبد الرزاق في جامعه وصاحب الفضائل والحديث مرسل.
ذكر شهادة علي بن أبي طالب بذلك وبغيره:
عن الشعبي إن أبا بكر نظر إلى علي بن أبي طالب فقال: من سره أن ينظر إلى أقرب الناس قرابة من نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وأعظمهم1 عنه غناء وأحفظهم عنده منزلة فلينظر إلى علي بن أبي طالب فقال: علي لئن قال: هذا إنه لأرأف الناس وإنه لصاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار وإنه لأعظم الناس غناء2 عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- في ذات يده خرجه ابن السمان.
ذكر اختصاصه بمكافأة الله تعالى: له عن نبيه -صلى الله عليه وسلم:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه بها خلا أبا بكر فإن له عندنا يدًا يكافيه الله بها يوم القيامة". خرجه الترمذي وقال: حسن غريب.
__________
1 بسبب الأخذ عنه: على باب مدينة علم الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
2 نفعا: بسب الأخذ عن نبيه: -صلى الله عليه وسلم-.

(1/130)


ذكر اختصاصه بمواساة النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه وماله وأنه لا ظلمة على باب قلبه:
عن المقدام بن معد يكرب قال: استب عقيل بن أبي طالب وأبو بكر فأعرض أبو بكر عنه لقرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنه شكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الناس فقال: "ألا تدعون لي صاحبي ما شأنكم وشأنه والله ما منكم رجل إلا على باب قلبه ظلمة إلا قلب أبي بكر فإنه على بابه النور والله لقد قلتم كذب وقال: أبو بكر صدق وأمسكتم الأموال وجاد لي بماله وخذلتموني وواساني بنفسه". خرجه صاحب الفضائل. وهو مروي لنا عن أبي القاسم عبد الرحمن السبط عن جده الحافظ السلفي بسنده وفيه "ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر".
وعن أبي الدرداء قال: كنت جالسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما صاحبكم فقد غامر فسلم ثم قال: إني كان بيني وبين عمر بن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فقال: أثم هو قالوا لا فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل وجه النبي يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله أنا كنت أظلم مرتين فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن الله بعثني إليكم فقلتم كذب وقال: أبو بكر صدقت وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركون لي صاحبي مرتين فما أوذي" بعدها انفرد البخاري بإخراجه.
"شرح" -غامر- أي سبق بالخير قاله أبو عبيد وأصله المباطشة في القتال تقول غامرته أي باطشته فقاتلته وتمعر أي تغير جثى على ركبتيه اعتمد عليهما تقول جثا يجثو ويجثي جثوًا وجثيًا.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر أخي في

(1/131)


الدنيا والآخرة، رحم الله أبا بكر وجزاه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا واساني في النفس والمال". خرجه الحافظ السلفي. وعن ابن عمر قال: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال: يا محمد مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فقال: "يا جبريل أنفق ماله علي قبل الفتح" قال: فإن الله -وعز وجل- يقرأ عليك السلام ويقول لك قل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط فقال: النبي -صلى الله عليه وسلم- "يا أبا بكر إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال: أبو بكر أسخط على ربي؟ أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض". خرجه الحافظ بن عبيد وصاحب الصفوة والفضائلي.
واحتج بظاهرة من ذهب إلى أن قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْح وَقَاتَلَِ} 1 الآية نزلت في أبي بكر الحديث الأول هو المصرح بالاختصاص وما بعده محمول عليه حمل المطلق على المقيد.
ذكر ما جاء في كمية ما أنفق أبو بكر -رضي الله عنه:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت أنفق أبو بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين ألفًا خرجه أبو حاتم.
وعن عروة قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفًا أنفقتها كلها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي سبيل الله. وعن أسماء بنت أبي بكر قالت لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم أو ستة خرج بها معه. قالت فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره وقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه،
__________
1 سورة الحديد الآية: 10.

(1/132)


قالت: قلت كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا قالت فأخذت أحجارًا فوضعتها في كوة البيت الذي كان أبي يضع ماله فيه ثم وضعت عليها ثوبًا ثم أخذت بيده وقلت يا أبت ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه قال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم ولا والله ما ترك لنا شيئًا ولكنني أردت أسكن الشيخ بذلك خرجه ابن إسحاق ولا تضاد بين هذا وبين ما تقدم فإنها لم تقل في هذا أنه جملة ما أنفقه وإنما هو بقية المال الذي أسلم وهو معه وهو الجملة المتقدمة ثم لم يزل ينفق إلى وقت الهجرة وقد بقيت تلك البقية فاحتملها معه وترك عياله لا شيء لهم ولعله كان قد خرج عن جملته فلذلك كان حمل البقية والله أعلم.
ذكر من أعتقه أبو بكر ممن كان يعذب في الله -وعز وجل:
عن عروة قال: أعتق أبو بكر سبعة كانوا يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة خرجه أبو عمرو عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أعتق أبو بكر ممن كان يعذب في الله تعالى: سبعة بلال وعامر بن فهيرة وزبيرة وأم عبيس والنهدية وابنتها وجارية ابن عمرو بن مؤمل خرجه معاوية الضرير.
وعن إسماعيل بن قيس قال: اشترى أبو بكر بلالًا وهو مدقوق بالحجارة بخمس أواق ذهبًا وقالوا لو أبيت إلا أوقية لبعناكه فقال: لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته خرجه في الصفوة.
قال ابن إسحاق: وكان بلال بن رباح واسم أمه حمامة صادق الإسلام طاهر القلب وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صلبه ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيقول وهو في ذلك البلاء أحد أحد قال: وكان ورقة بن نوفل يمر به

(1/133)


وهو يعذب بذلك وهو يقول أحد أحد فيقول ورقة أحد أحد والله يا بلال ثم يقبل على أمية بن خلف ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لاتخذنه حنانًا حتى مر به أبو بكر بن أبي قحافة وهم يصنعون ذلك به وكانت دار أبي بكر في بني جمح فقال: لأمية بن خلف ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى فقال: أبو بكر أفعل عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى أعطيكه به قال: قد قبلت قال: هو لك فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذه فأعتقه ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر ست رقاب بلال سابعهم عامر بن فهيرة وأم عبيس وزبيرة فأصيب بصرها حين أعتقها فقال: ت قريش ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى فقال: ت كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان فرد الله إليها بصرها والنهدية وابنتها وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما وقد بعثتها سيدتهما إلى طحين لها وهي تقول والله لا أعتقكما أبدًا فقال: أبو بكر حلا يا أم فلان فقال: ت حلا أنت أفسدتهما فاعتقهما قال: فبكم هما قالت بكذا وكذا قال: قد أخذتهما وهما حرتان أرجعا إليها طحينها قالتا أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده قال: ذلك إن شئتما ومر بجارية بني مؤمل حي من بني عدي وكانت مسلمة وكان عمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك فيضربها حتى إذا مل قال: أعتذر إليك إني لم أتركك إلا مللًا فتقول كذا فعل الله بك فابتاعها وأعتقها.
"شرح" -حلا- يا أم فلان أي تحللي من يمينك وهو منصوب على المصدر. وعن عمر بن الخطاب قال: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالًا فقال: لأبي بكر إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني وإن كنت اشتريتني لله -وعز وجل- فدعني وعمل لله أخرجه البخاري وهذان الذكران ليسا على مساق ما تقدمهما من الخصائص وإنما اقتضى ذكرهما ما تقدمهما من الأذكار ومناسبتهما لهن على أنهما من الخصائص إذ لم ينقل أن أحدًا من الصحابة

(1/134)


فعل مثل ذلك الفعل قبل الهجرة والله أعلم.
ذكر اختصاصه بأنه أحب الرجال إليه:
تقدم في ذلك حديث عمرو بن العاص في باب العشرة خرجه مسلم وأحمد وأبو حاتم وحديث عائشة في باب ما دون العشرة خرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. وعن أنس قال: قالوا يا رسول الله أي الناس أحب إليك قال: عائشة قالوا إنما نعني من الرجال قال: أبوها خرجه الترمذي وابن ماجه القزويني في سننه وعن عائشة قالت لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله ألا تتزوج؟ فقال: "ومن" قالت إن شئت بكرًا وإن شئت ثيبًا فقال: "ومن البكر ومن الثيب؟ " قالت أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر الصديق وأما الثيب فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك ثم ذكرت قصة تزويجها خرجه أبو الجهم الباهلي وصاحب الفضائل وسيأتي في فضائل الأزواج في ذكر التزويج.
ذكر اختصاصه بتبسم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه يوم الفتح:
عن الزهري قال: لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء يلطمن الخيل بالخمر يوم الفتح تبسم إلى أبي بكر خرجه ابن إسحاق.
ذكر اختصاصه بأنه أرحم الأمة بالأمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم:
عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر". خرجه عبد الرزاق والبغوي في1 المصابيح الحسان.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أرحم هذه الأمة بعد نبيها
__________
1 في أحاديث المصابيح الحسان، فإن للإمام البغوي كتابنا: يسمى المصابيح: ليس به إلا الصحاح والحسان من كلامه. -صلى الله عليه وسلم-.

(1/135)


أبو بكر". خرجه في فضائله.
وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن الله وعدني أن يدخل الجنة أربعمائة ألف"، فقال: أبو بكر زدنا يا رسول الله فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا وجمع كفيه فقال: عمر حسبك يا أبا بكر فقال: أبو بكر دعني يا عمر وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا فقال: عمر إن الله لو شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحدة فقال: النبي -صلى الله عليه وسلم- صدق عمر خرجه الطبراني في معجمه وأبو القاسم الدمشقي في معجم البلدان.
ذكر اختصاصه بالأفضلية والخيرية:
تقدم من أحاديث هذه الخصوصية جملة أحاديث وآثار مما خرجه الشيخان وغيرهما في باب مناقب الأربعة والثلاثة والاثنين.
وعن أبي الدرداء قال: رآني النبي -صلى الله عليه وسلم- أمشي أمام أبي بكر فقال: "يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة؟ ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر". خرجه المخلص الذهبي وخرجه الدارقطني ولم يقل والمرسلين. وخرجه ابن السمان في الموافقة عن جعفر1 بن محمد وقد سئل عن أبي بكر فقال: ما أقوله فيه لا أقول فيه إلا خيرًا أو قال: إلا الخير بعد حديث حدثنيه أبي محمد قال: حدثني أبي علي قال: حدثني أبي الحسين قال: سمعت أبي علي بن أبي طالب يقول سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول "ما طلعت شمس ولا غربت" الحديث بتمامه ثم قال: لا أنالني الله شفاعة جدي إن كنت كذبت فيما رويت لك وإني لأرجو شفاعته يوم القيامة يعني أبا بكر.
وعن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يطلع عليكم
__________
1 هو جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العبابدين بن الحسين: -رضي الله عنهم- أجمعين.

(1/136)


رجل لم يخلق الله بعدي أحدًا خيرًا منه ولا أفضل, وله شفاعة مثل شفاعة النبيين" فما برحنا حتى طلع أبو بكر فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فقبله والتزمه. خرجه الحافظ الخطيب أبو بكر أحمد بن ثابت البغدادي.
وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خير أصحابي أبو بكر" وعن جابر قال: كنا عند باب النبي -صلى الله عليه وسلم- نفرًا من المهاجرين والأنصار نتذاكر الأنصار فارتفعت أصواتنا, فخرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "فيم أنتم؟ " فقلنا: نتذاكر الفضائل قال: "فلا تقدموا على أبي بكر أحدًا؛ فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة" أخرجهما صاحب فضائله. وعنه قال: "إن الله جمع أمركم على خيركم, صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- و {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} وأولى الناس بكم" خرجه البخاري.
وعن عمر قال: أبو بكر سيدنا, وخيرنا, وأحبنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. خرجه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وعنه وقد قال له رجل: ما رأيت أحدًا خيرًا منك قال: هل رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا, قال: لو قلت: نعم لضربت عنقك, ثم قال: هل رأيت أبا بكر؟ قال: لا قال: لو قلت: نعم لبالغت في عقوبتك خرجه القلعي. وعن الزهري أن رجلًا قال لعمر: ما رأيت أحدًا أو رجلًا أفضل منك قال له عمر: هل رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا قال: فهل رأيت أبا بكر؟ قال: لا قال: لو أخبرتني أنك رأيت واحدًا منهما لأوجعتك. خرجه في الفضائل وقال: حديث حسن إلا أنه مرسل1؛ لأن الزهري لم يدرك عمر.
وعن علي وقد قيل له لما أصيب: ألا تستخلف؟ قال: لا أستخلف, ولكني أترككم كما تركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: يا رسول الله ألا تستخلف؟ فقال: "إن يعلم الله فيكم خيرًا استعمل عليكم
__________
1 الحديث المرسل: الذي سقط من سنده الصحابي الراوي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذلك الذي سقط من سنده الراوي عن الصحابي.

(1/137)


خيركم" فعلم الله فينا خيرًا, فاستعمل علينا أبا بكر. خرجه ابن السمان في الموافقة.
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: أترككم, فإن يرد الله بكم خيرًا يجمعكم على خيركم, أخرجه القلعي. وعن موسى بن شداد قال: سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول: أفضلنا أبو بكر.
ذكر اختصاصه بسيادة كهول العرب:
عن إسماعيل بن أبي خالد قال: بلغني أن عائشة نظرت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا سيد العرب فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم, وأبوك سيد كهول العرب, وعلي سيد شباب العرب" خرجه أبو نعيم البصري ورواه الغيلاني, وعن عبد الله بن مسعود قال: اجعلوا إمامكم خيركم, فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل إمامنا خيرنا بعده. خرجه أبو عمر.
وعن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: ولينا أبو بكر الصديق, فخير خليفة أرحم بنا وأحنى علينا. خرجه ابن السمان في الموافقة.
وعن الليث بن سعد قال: ما صحب الأنبياء أحد أفضل من أبي بكر. خرجه صاحب الفضائل.
ذكر اختصاصه بأنه أشجع الناس:
عن محمد بن عقيل عن علي بن أبي طالب أنه قال يومًا وهو في جماعة من الناس: من أشجع الناس؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين, قال: أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه, ولكن أشجع الناس أبو بكر, لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عريشًا وقلنا: من يكون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لئلا يصل إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرًا السيف على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: واجتمع عليه المشركون بمكة فهذا يجره وهذا يتلتله, وهم يقولون: أنت جعلت الآلهة إلهًا واحدًا, فوالله ما دنا إليه منا أحد إلا أبو بكر

(1/138)


يضرب هذا ويجأ1 هذا ويتلتل هذا, ويقول: ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟! ثم قال علي: نشدتكم بالله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ قال: فسكت القوم, فقال: ألا تجيبون؟ والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون؛ مؤمن آل فرعون رجل كتم إيمانه وأبو بكر رجل أعلن إيمانه. خرجه ابن السمان في كتاب الموافقة, وصاحب الفضائل.
"شرح" العريش والعرش أيضًا: ما يستظل به, تلتله أي: زعزعه وحركه وأقلقه, يجأ: يضرب يقال: وجأه بالسكين أي: ضربه بها, ونشدتكم بالله أي: سألتكم به كأنه يذكره بالله, وينشد أي: يذكر ومما يناسب ذكره بعد هذا ذكر ما اشتهر عنه من شدة بأسه وثبوته عند الحوادث حتى شهد له علي -رضي الله عنه- بأنه أشجع الناس كما تقدم آنفًا, وأنه مثبت القلب فيما رواه أبو شريحة قال: سمعت عليا على المنبر يقول: إن أبا بكر مثبت القلب. خرجه في الصفوة, وصاحب الفضائل فمن ذلك:
ذكر شدة بأسه وثبوته يوم بدر, فيه ما تقدم في الذكر قبله:
وعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يوم بدر, وهو في قبة له: "اللهم أنشدك عهدك ووعدك, اللهم إن تشأ لا تعبد بعد هذا اليوم" فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله, قد ألححت على ربك, فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول2: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ, بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} خرجه البخاري.
وعنه قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلًا قال:
__________
1 ويطعن: ويضرب, كما شرح هذا اللفظ المؤلف، وسيأتي.
2 يذكر تاليا قول الله تعالى المذكور.

(1/139)


فاستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القبلة ثم مد يديه, فجعل يهتف بربه: "أنجز لي ما وعدتني, اللهم آتني ما وعدتني, اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض أبدًا" فما زال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه, فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه, ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك, وإنه سينجز لك ما وعدك, فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِي} 1 فأمده الله -عز وجل- بالملائكة, أخرجاه.
"شرح" هتف أي: صاح والهتف: الصوت يقال: هتف هتافًا أي: صاح, وهتفت الحمامة تهتف هتفًا, والعصابة: الجماعة من الناس والخيل والطير, قاله الجوهري.
قال ابن إسحاق: عدل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصفوف يوم بدر ثم رجع إلى العريش, فدخله ومعه فيه غيره ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يناشد ربه ما وعده به من النصر ويقول فيما يقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد" وأبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك, فإن الله منجز لك ما وعدك, وخفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: "أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله, هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع" النقع: الغبار.
وعن حكيم بن حزام قال: لما حضر القتال, رفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه يسأل الله النصر وما وعده, يقول: "اللهم إن ظهروا على هذه العصابة, ظهر الشرك ولا يقوم لك دين" وأبو بكر يقول: والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك, فأنزل الله تعالى ألفًا من الملائكة مردفين عند أكناف العدو, وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أبشر يا أبا بكر, هذا جبريل -عليه السلام- معتجر
__________
1 سورة الأنفال الآية: 9.

(1/140)


بعمامة صفراء, آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض, فلما نزل إلى الأرض تغيب عني ساعة، ثم طلع يقول: أتاكم نصر الله, أو دعوته". خرجه صاحب الفضائل.
"شرح" أكناف العدو: جوانبهم, والاعتجار: لفّ العمامة على الرأس, والمعجر: ما تشده المرأة على رأسها.
ذكر ثباته يوم الحديبية:
عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم حديث صلح الحديبية وفيه قال عمر: فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله ألست نبي الله حقا؟ قال: "بلى" قلت: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: "بلى" قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: "إني رسول الله ولست أعصيه, وهو ناصري" قلت: أوليس كنت تحدثنا أننا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "أوأخبرتك أنا نأتيه العام؟ " قلت: لا قال: "فإنك آتيه ومطوف به" قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: أيها الرجل, إنه رسول الله وليس يعصيه وهو ناصره, فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق, قلت: أوليس كان يحدثنا أننا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به, قال عمر: فعملت لذلك أعمالًا. خرجه البخاري ومسلم, واللفظ للبخاري.
"شرح" الغرز: ركاب الرجل من جلد, فإن كان من خشب أو حديد فهو ركاب.
ذكر ثباته يوم توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
عن عائشة قالت: أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح حتى

(1/141)


نزل فدخل المسجد, فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فبصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجى ببرده, فكشف عن وجهه -صلى الله عليه وسلم- وأكب عليه فقبله, ثم بكى فقال: بأبي أنت وأمي, لا يجمع الله عليك موتتين, أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها.
قال أبو سلمة: وأخبرني ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس فأبى, فقال: اجلس فأبى, فتشهد أبو بكر فمال الناس إليه وتركوا عمر فقال: أما بعد, فمن كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 1 إلى2 {الشَّاكِرِينَ} . قالت: فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر, فتلقاها منه الناس فما نسمع بشرًا إلا يتلوها, أخرجه الشيخان.
وعنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات وأبو بكر بالسنح تعني: العالية, فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا, والذين نفسي بيده لا يذيقك الموتتين أبدًا, ثم خرج فقال: أيها الحالف على3 رسلك, فلما تكلم أبو بكر جلس عمر, فحمد4 الله وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} قال: فنشج الناس يبكون, خرجه البخاري.
__________
1 أي: إلى آخر الآية الشريفة، وستذكر بتمامها.
2 سورة آل عمران الآية: 144.
3 على مهلك.
4 فحمد أبو بكر الله تعالى.

(1/142)


"شرح" نشج الباكي ينشج نشجًا ونشيجًا: إذا غصّ بالبكاء في حلقه, من غير انتحاب.
وعن ابن عمر قال: لما قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتانا أبو بكر فصعد المنبر, فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن كان محمدا إلهكم الذي تعبدونه فإن إلهكم قد مات, وإن كان إلهكم الذي في السماء فإن إلهكم حي لا يموت, ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 1 الآية.
قال الزهري: فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال: والله ما هو إلا أن تلاها أبو بكر يعني قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} عقرت وأنا قائم, حتى خررت إلى الأرض, وأثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات. خرج قول الزهري البخاري ومعنى الأول عنده.
"شرح" عقرت بالكسر من العقر, وهو أن يسلم الرجل قوائمه فلا يستطيع أن يقاتل من الخوف, وقيل: هو أن يفجأه الروع فيدهش, ولا يستطيع أن يتقدم ولا أن يتأخر. حكاهما في نهاية الغريب, والأول ذكره الجوهري.
وعن سالم بن عبيد الأشجعي قال: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب, قال: فأخذ بقائم سيفه وقال: لا أسمع أحدًا يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا, قال: فقال الناس: يا سالم اطلب صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فخرجت إلى المسجد, فإذا بأبي بكر فلما رأيته أجهشت بالبكاء, فقال: ما لك يا سالم؟ أمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدًا يقول مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا, قال: فأقبل أبو بكر, فلما رآه الناس سعوا له, فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجى، فوضع
__________
1 سورة آل عمران الآية: 144.

(1/143)


البردة عن وجهه ووضع فاه على فيه, واستنشأ الريح ثم سجاه, والتفت إلينا فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ومن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات, قال عمر: فوالله لكأني لم أتل هذه الآيات قط, فقالوا: يا صاحب رسول الله أمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم, قالوا: يا صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يغسله؟ قال: رجال أهل بيته الأدنى فالأدنى, قالوا: يا صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أين يدفن؟ قال: في البقعة التي قبضه الله -عز وجل- فيها, لم يقبضه إلا في أحب البقاع إليه. خرجه الحافظ أبو أحمد حمزة بن محمد بن الحارث بهذا السياق, وكذلك أخرجه في فضائله.
وخرج الترمذي معناه بتمامه, وزاد بعد قولهم: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: نعم, فعلموا أن قد صدق, وقال بعد ذكر الدفن: فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب, بدل إلا في أحب البقاع إليه, وزاد: فعلموا أن قد صدق.
وفي رواية: أنهم قالوا: يا صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنصلي عليه؟ قال: نعم قالوا: كيف نصلي عليه؟ قال: يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون له ثم يخرجون, ثم يدخل غيرهم حتى يفرغوا, قالوا: يا صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أين يدفن؟ ثم ذكر الحديث. خرجها في فضائله.
"شرح" جهش: فزع إلى غيره، وهو مع ذلك يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه وقد تهيأ للبكاء, يقول: جهش إليه يجهش وأجهش أيضًا, استنشأ الريح أي: شم ريح الموت, قال الهذلي:
ونشئتَ ريح الموت من تلقائهم ... وخشيت وقع مهند قرضاب
تقول منه: نشئت ريحًا نشوة بالكسر أي: شممت.

(1/144)


وعن جعفر بن محمد عن أبيه عمن حدثه قال: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر غائب بالسنح عند زوجته بنت خارجة, فسل عمر بن الخطاب سيفه وتوعد من يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى -عليه السلام- فلبث عن قومه أربعين ليلة, والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم, فأقبل أبو بكر من السنح حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة فأذنت له فدخل, فكشف عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجثا يقبله ويبكي ويقول: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذي نفسي بيده, صلوات الله عليك يا رسول الله, ما أطيبك حيا وميتا, ثم خرج سريعا إلى المسجد حتى جاء المنبر, فقام عليه ونادى الناس: اجلسوا, فجلسوا وأنصتوا, فتشهد شهادة الحق ثم قال: إن الله تعالى نعى نبيكم وهو حي بين أظهركم, ونعى لكم أنفسكم وهو الموت حتى لا يبقى أحد إلا الله, يقول الله -عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى: {الشَّاكِرِينَ} 1 وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 2، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 3 وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 4 وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والْإِكْرَامِ} 5 ثم قال: إن الله -عز وجل- عمر محمدًا وأبقاه حتى أقام دين الله, وأظهر أمر الله, وبلغ رسالة الله, وجاهد أعداء الله حتى توفاه الله وهو على ذلك, وترككم على الطريقة, فلا يهلك هالك إلا من بعد البينة والشفاء والنور, فمن كان الله ربه فإن الله حي لا يموت فليعبده, ومن كان ربه محمدًا ويراه إلهًا فقد هلك إلهه, فأقبلوا أيها الناس واعتصموا بدينكم, وتوكلوا على ربكم, فإن دين الله قائم وكلمته باقية, وإن الله ناصر دينه ومعز أهله, وإن
__________
1 سورة آل عمران الآية: 144.
2 سورة الزمر الآية: 30.
3 سورة آل عمران الآية: 185.
4 سورة القصص الآية: 88.
5 سورة الرحمن الآية: 27.

(1/145)


كتاب الله -عز وجل- بين أظهرنا هو النور والشفاء, به هدى الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وفيه حلال الله وحرامه, ولا والله ما نبالي من أجلب علينا من خلق الله إن سيوفنا لمسلولة ما وضعناها بعد, ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ينعين أحد إلا نفسه, ثم انصرف. خرجه صاحب فضائله وقال: غريب.
"شرح" النعي: خبر الموت يقال: نعاه نعيًا ونعيانًا بالضم وكذلك النعي على فعيل, يقال: جاء نعي فلان, وأجلب علينا أي: جمع يقال: أجلبوا علينا وتألبوا أي: اجتمعوا, وأجلبه: أعانه.
ذكر أن غيبته في منزله بالسنح حين وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تكن إلا بإذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
عن عائشة قالت: رأيت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعض الشيء, فعصبت رأسي فدخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: وا رأساه فقال: "بل أنا وا رأساه" قالت: ثم أرسل إلى نسائه فاستأذنهن أن تمرضه عائشة, فأذنَّ له قالت: فمرضته أيامًا فدخل عليه أبو بكر فقال: يا رسول الله إني أراك كأنك اليوم أمثل, أتأذن لي أن آتي أهلي فأذن له نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قالت عائشة: فبينما أنا مسندته إلى صدري, إذ نظر كالرجل يريد من أهله الشيء, قالت: ثم نظر إلي فمال عن صدري فسجيت عليه, وظننت أنه غشي عليه إذ جاء أبو بكر على فرس فاقتحم الفرس في الحجرة, ثم نزل فدخل ثم قال: أي بنية ما شأنه؟ فقلت: والله ما أدري ما به إلا أني كنت مسندته إلى صدري فانخنث, فمال فسجيته, ولا أدري غشي عليه أم قبض؟ خرجه الحافظ حمزة بن الحارث.
وعن عائشة أن أبا بكر دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته, فوضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه فقال: وا نبياه, وا خليلاه, وا صفياه.

(1/146)


خرجه ابن عرفة العبدي, ولا تضاد بين هذا على تقدير صحته وبين ما تقدم مما يضمن بيانه بأن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق, خافتًا به صوته, ثم التفت إليهم وقال لهم ما قال.
ذكر شدة بأسه, وثبات قلبه لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر بعده, وكفر من كفر من العرب, قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله, فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه, وحسابه على الله"؟! فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال, والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها, فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال, فعرفت أنه الحق, أخرجاه.
وعنه لما قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وارتدت العرب وقالوا: لا نؤدي زكاة, قال أبو بكر: لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه, فقلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم, فقال لي: أجبار في الجاهلية, وخوار في الإسلام؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين, أوينقص وأنا حي؟ خرجه النسائي بهذا اللفظ, ومعناه في الصحيحين.
وقد تقدم في ذكر قصة الغار وتقدم شرحه أيضًا, وعن يحيى بن عمر عن أبيه عن جده قال: لما امتنع من امتنع من دفع الزكاة إلى أبي بكر, جمع أبو بكر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشاورهم في أمرهم فاختلفوا عليه, فقال لعلي: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أقول لك: إن تركت شيئًا مما أخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم, فأنت على خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أما لئن قلت ذاك لأقاتلنهم, وإن منعوني عقالًا. أخرجه ابن

(1/147)


السمان في الموافقة.
وعن أبي رجاء العطاردي قال: دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين, ورأيت رجلًا يقبل رأس رجل وهو يقول: أنا فداؤك ولولا أنت لهلكنا, فقلت: من المقبِّل, ومن المقبَّل؟ قالوا: ذاك عمر يقبِّل رأس أبي بكر في قتاله أهل الردة, إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين. خرجه في الصفوة وفي فضائله. وعن ابن مسعود أنه قال: كرهنا ذلك ثم حمدناه في الانتهاء, ورأيناه رشيدًا, ولولا ما فعل أبو بكر لألحد الناس في الزكاة إلى يوم القيامة, خرجه القلعي.
"شرح" أصل الإلحاد: الميل, والمراد أنهم كانوا يتركونها جاحدين لوجوبها إلى يوم القيامة, وإذا فعلوا ذلك فقد مالوا عن الحق.
وعن عائشة قالت: لما خرج أبي شاهرًا سيفه راكبًا راحلته, يعني يوم الردة, فجاء علي بن أبي طالب فأخذ بزمام راحلته فقال له: إلى أين يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ أقول لك ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: "شم سيفك, لا تفجعنا بنفسك وارجع إلى المدينة, والله لئن أصبنا بك لا يكون بعدك نظام أبدًا" فرجع. خرجه الخلعي وابن السمان في الموافقة والفضائلي وصاحب الفضائل, وزادوا: مضي الجيش.
"شرح" شم سيفك أي: اغمده, ويقال: سله وهو من الأضداد.
وعن أبي هريرة أنه قال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله, ثم قال الثانية ثم قال الثالثة, فقيل له: مه1 يا أبا هريرة فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام, فلما نزل بذي خشب وقبض النبي -صلى الله عليه وسلم- وارتدت العرب حول المدينة
__________
1 انكفف.

(1/148)


فاجتمع عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء, يتوجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو, لو جرت الكلاب بأرجل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رددت جيشًا جهزه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا حللت لواء عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: والله لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أرده, ما رددته عن وجه وجهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر أسامة أن يمضي لوجهه ذلك.
وفي رواية: أن عمر هو القائل: يا خليفة رسول الله, إن العرب قد ارتدت على أعقابها كفارًا كما قد علمت, وأنت تريد أن تنفذ جيش أسامة, وفي جيش أسامة جماعة العرب وأبطال الناس, فلو حبسته عندك لتقويت به على من ارتد من هؤلاء العرب, فقال أبو بكر: لو أني علمت أن السباع تأكلني في هذه المدينة لأنفذن جيش أسامة كما قال صلى الله عليه وسلم: "امضوا جيش أسامة, فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" قال: فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم, ولكنهم ندعهم حتى يلقوا الروم, فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين, فثبتوا على الإسلام. خرجه أبو عبيدة في كتاب الأحداث, وأبو الحسن علي بن محمد القرشي في كتاب الردة والفتوح والفضائلي الرازي والملاء في سيرته.
وذكر أبو الحسن علي بن محمد القرشي أن أبا بكر أقبل على أسامة بن زيد وهو معسكر خارج المدينة وقال له: امض رحمك الله لوجهك الذي أمرك به النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا تقصر في أمرك, فإن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطاب بالمقام عندي فإني أستأنس به وأستعين برأيه, فقال أسامة: قد فعلت ذلك, وسار أسامة إلى الموضع الذي أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخروج إليه. وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في بني سليم ردة فبعث إليهم أبو بكر خالد بن الوليد, فجمع رجالًا منهم في الحظائر ثم أحرقها عليهم بالنار, فبلغ ذلك عمر فأتى أبا بكر فقال: تدع رجلًا يعذب بعذاب

(1/149)


الله -عز وجل؟ فقال أبو بكر: والله لا أشيم سيفًا سله الله على عدوه حتى يكون هو الذي يشيمه, ثم أمره فمضى من وجهه ذلك إلى مسيلمة. خرجه أبو معاوية, ومنه1:
ذكر ثباته عند الموت:
عن عائشة قالت: لما حضرت أبا بكر الوفاة, أردت أن أكلمه في طلحة بن عبيد الله فأتيته, فإذا هو يحشرج فقلت: إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر, فقال لها: يا بنية أوغير ذلك؟ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} 2, أجلسيني فأجلسته, فرفع يديه فقال: اللهم إني لم آل3. خرجه أبو حذيفة في فتوح الشام.
ذكر اختصاصه بالفهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه كان أعلمهم بالأمور, وأعلمهم به:
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس على المنبر فقال: "إن عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده, فاختار ما عنده" فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا, فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به. أخرجاه وأحمد وأبو حاتم وعند البخاري بعد قوله فبكى أبو بكر: فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خير, فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به.
وعند الترمذي من رواية أبي المعلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب فقال: "إن رجلًا خيره ربه بين أن يعيش في الدنيا ما شاء ويأكل من الدنيا ما
__________
1 أي: من هذا الباب الذي فيه ذكر شدة بأسه، وثبات قلبه.
2 سورة ق الآية: 19.
3 لم أقصر.

(1/150)


شاء أن يأكل, وبين لقاء ربه, فاختار لقاء ربه" قال: فبكى أبو بكر فقال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم: ألا تعجبون من هذا الشيخ إذ ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا صالحًا خيره ربه بين الدنيا ولقاء ربه؟ قال: فكان أبو بكر أعلمهم بما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر: بل نفديك بآبائنا وأموالنا.
وخرجه الحافظ الدمشقي عن أبي سعيد ولفظه قال: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني مرجعه من حجته فقال: "إن عبدًا" ثم ذكر معناه وقال: فكان أبو بكر أعلمنا بالأمور, وقد تقدم في ذكر اختصاصه بأنه أمن الناس في صحبته وماله.
وخرجه صاحب فضائله عن أبي سعيد ولفظه: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس, فاتبعه حتى قام على المنبر فقال: "إني الساعة قائم على الحوض" ثم قال: "إن عبدًا عرضت عليه الدنيا وزينتها, فاختار الآخرة" فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر, فقال: بأبي وأمي, بل نفيدك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا, قال: ثم هبط من المنبر فما رئي عليه حتى الساعة, وقال: حديث حسن.
وعن عمر قال: كنت أدخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو وأبو بكر يتكلمان في علم1 التوحيد, فأجلس بينهما كأني زنجي لا أعلم ما يقولون. خرجه الملاء في سيرته.
ذكر اختصاصه بشربه فضل لبن شربه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رؤيا رآها وأعطى فضله أبا بكر, وتفسير الصحابة ذلك بالعلم, وتصويبه -صلى الله عليه وسلم- ذلك التفسير:
عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رأيت كأني أعطيت عسًا مملوءًا لبنًا فشربت منه حتى امتلأت, فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد
__________
1 يدل ذلك على فضل علم التوحيد، وأنه من علوم الدين.

(1/151)


والعظم ففضلت منها فضلة, فأعطيتها أبا بكر" قالوا: يا رسول الله هذا علم أعطاكه الله حتى إذا امتلأت, فضلت فضلة فأعطيتها أبا بكر؟ قال صلى الله عليه وسلم: "قد أصبتم" خرجه أبو حاتم.
"شرح" العس: القدح العظيم والرفد أكبر منه وجمعه عساس, وقد جاء في الصحيح مثل هذا لعمر وسيأتي في خصائصه, ولعل الرؤيا تعددت في ذلك وعلى ذلك يحمل, فإن الحديثين صحيحان وإن كان حديث عمر متفقًا1 عليه.
ذكر اختصاصه بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأعلميته بالنسب:
عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان: "لا تعجل وأت أبا بكر, فإنه أعلم قريش بأنسابها حتى يمحص لك نسبي" خرجه في الفضائل وقال: حسن صحيح.
وعن ابن عباس: قال حدثني علي بن أبي طالب من فيه قال: لما أمر الله -تبارك وتعالى- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر، فدفعنا إلى مجالس العرب فتقدم أبو بكر وكان مقدمًا في كل خير، وكان رجلًا نسابة فسلم وقال: من القوم؟ قالوا: من ربيعة قال: وأي ربيعة أنتم من هامتها أم من لهازمها؟ فقالوا: من ذهل الأكبر, قال: فيكم عوف الذي يقال: لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا, قال: فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا، قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا، قال أبو بكر: فلستم ذهلا الأكبر أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له: دغفل حين بقل
__________
1 أي: مرويا في الصحيحين، فهو أعلى درجة.

(1/152)


وجهه, فقال:
إن على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله
يا هذا, إنك قد سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئًا, فمن الرجل؟ قال: أبو بكر من قريش قال الفتى: بخ بخ أهل الشرف والرياسة, فمن أي القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة, قال الفتى: أمكنت والله من سواء الثغرة, أمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر وكان يدعى في قريش مجمعًا؟ قال: لا, قال: فمنكم هاشم الذي قال فيه الشاعر:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف؟
قال: لا, قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء الذي كان وجهه كالقمر يضيء في الليلة الداجية الظلماء؟ قال: لا, قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا, قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا, قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا قال: فمن أهل الوفادة أنت؟ قال: لا, فاجتذب أبو بكر زمام الناقة راجعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال الغلام:
صادف درء الستر درءًا يرفعه ... يهيضه حينًا وحينًا يرفعه
أما والله لو ثبت لأخبرتك من أي قريش أنت؟ فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال علي: فقلت: يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة قال: اجلس أبا الحسن, ما من طامة إلا وفوقها طامة, والبلاء موكل بالمنطق قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار, فتقدم أبو بكر فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة, فالتفت أبو بكر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: بأبي وأمي هؤلاء غرر الناس, وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك, وكان مفروق قد غلبهم جمالًا ولسانًا, وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته, وكان أدنى القوم مجلسًا

(1/153)


فقال أبو بكر: العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا نزيد على ألف ولن يغلب ألف من قلة, فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: علينا الجهد ولكل قوم حد فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ قال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى وأشد ما نكون لقاء حين نغضب, وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح, والنصر من عند الله تعالى يديلنا مرة ويديل علينا أخرى, لعلك أخو قريش؟ قال أبو بكر: قد بلغكم أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا هو ذا؟ فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك فإلامَ تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله, وإلى أن تؤووني وتنصروني, فإن قريشًا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسله, واستغنت بالباطل عن الحق, والله هو الغني الحميد" فقال مفروق بن عمرو: وإلام تدعونا يا أخا قريش, فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا؟ فتلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} 1 إلى: {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ 2 بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3 فقال مفروق: وإلام تدعونا يا أخا قريش؟ قال: فتلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} 4 إلى: {تَذَكَّرُونَ} فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال, ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك, وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش, وإني أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك بمجلس جلسناه إليك ليس له أول ولا آخر, زللًا في
__________
1 سورة الأنعام الآية: 151.
2 وقد تضمنت هذه الآيات من سورة الأنعام الوصايا العشر في الإسلام.
3 سورة الأنعام الآية: 153.
4 وهذه الآية من سورة النحل أجمع آية لمكارم الأخلاق؛ ولهذا يذكر بها خطباء الجمعة الناس عقب الخطبة الثانية.

(1/154)


الرأي وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة, ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدًا, ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر, وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا, فقال المثنى بن حارثة: وقد سمعت مقالتك يا أخا قريش, والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتك على دينك, وإنما نزلنا بين صريتين: اليمانية والشامية.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما هاتان الصريتان؟ ".
فقال: أنهار كسرى ومياه العرب, فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور, وعذره غير مقبول, وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا, وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك, فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق, وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه, أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم, ويفرشكم نساءهم, أتسبحون الله وتقدسونه؟ " فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذلك, قال: فتلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 1 ثم نهض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قابضًا على يد أبي بكر وهو يقول: "يا أبا بكر, أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها, بها يدفع الله -عز وجل- بأس بعضهم عن بعض, وبها يتحاجزون فيما بينهم" قال: فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فلقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد سُرّ بما كان من أبي بكر, ومعرفته بأنسابهم.
"شرح" هامتها: رأسها, واللهازم في الأصل: جمع لهزمة بالكسر
__________
1 سورة الأحزاب الآية: 45.

(1/155)


واللهزمتان: عظمتان ناتئتان في اللحيين تحت الأذنين, وتيم الله بن ثعلبة بن عكابة من بني ربيعة يقال لهم: اللهازم قاله الجوهري, ذهل: حي من بكر وهما ذهلان كلاهما من ربيعة, أحدهما: ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة, والآخر: ذهل بن ثعلبة بن عكابة, حامي الذمار أي: إذا ذمر وغضب حمى, وذمر أي: حث يقال: تذامر القوم أي: حث بعضهم بعضًا وذلك في الحرب, وذمر الأسد إذا زأر, والحوفزان بفاء وزاي: هو لقب الحارث بن شريك الشيباني لقب بذلك؛ لأن قيس بن عاصم التميمي حفزه بالرمح حين خاف أن يفوته, ودغفل: هو ابن حنظلة النسابة أحد بني شيبان, والدغفل: ولد الفيل قاله الجوهري, بقل وجهه: خرجت لحيته, والندوة والندي على فعيل بمعنًى وهو مجلس القوم ومتحدثهم, وكذلك النادي والمنتدى فإن تفرقوا فليس بندي, وسميت دار الندوة بمكة التي بناها قصي لأنهم كانوا ينتدون فيها أي: يجتمعون للمشاورة, وإليها الإشارة على حذف المضاف والله أعلم, العبء بالكسر: الحمل وجمعه أعباء, سوا الثغرة أي: وسطها والثغرة: ثغرة النحر التي بين الترقوتين كأنه استعارها لمكان شرف النسب, مسنتون: مجدبون, وأسنت القوم أي: أجدبوا, الدرء: كل ما استترت به, يهيضه: يكسره وهاض العظم: كسره, الباقعة: الداهية وبقع الرجل إذا رمى بكلام قبيح, الطامة يقال لما علا وغلب: طم, غرر الناس: ساداتهم وغرة كل شيء: أوله وأكرمه, غديرتان: ضفيرتان, تريبا واحدة الترائب وهي عظام الصدر ما بين الترقوة والثندوة, المنعة: الامتناع ويقال: جمع مانع نحو كافر وكفرة, الجد بالفتح: الحظ, يديلنا أي: يجعل لنا الدولة تارة وعلينا أخرى, ظاهرة من المظاهرة: المعاونة, الصريتان: تثنية صرية لعله من الصرا بكسر الصاد وفتحها: الماء يطول مكثه واستنقاعه أو من الصراة: نهر بالعراق, التحاجز: التمانع.
وربما يتوهم جاهل أن أبا بكر لما رجع عن دغفل كان عن انقطاع وعي ولم يكن رجوعه لذلك, فإن أبا بكر انتسب إلى أرومة ليس منها أحد

(1/156)


ممن ذكره دغفل, وإلى بيت ليس فيه شيء من تلك المناصب, ولو ثبت أبو بكر لما أمكن دغفل أن يقول له: لست من تيم بن مرة ولا لست من قريش, ولكان لأبي بكر أن يقول له: يا أخا العرب إن جميع من ذكرته لم يكن إلا من الأرومة التي انتسبت إليها, وما ذكرته من المناصب ليس شيء منه في البيت الذي انتسبت إليه, ولا يقتضي كونهم ليسوا منا, فلا شيء من هذه المناصب, فينافي إخراجي من قريش, فإن قريشًا بطون كثيرة ولم أدع أني من أرومة تشملني ومن ذكرته, أما أنتم فادعيتم أنكم من الهامة من ذهل الأكبر, وذهل الأكبر أرومة من عددته عليكم, فيلزم من كل من كان من ذهل الأكبر أن يكون هؤلاء منهم, فلما أقررتم بانتفاء اللازم وهو أن هؤلاء ليسوا منكم مع الاعتراف بأنهم من ذهل الأكبر, فانتفى الملزوم وهو أن يكون ذهل الأكبر أرومتكم؛ لأنهم متفق عليهم فتعينتم للانتفاء. وإنما كان رجوعه -رضي الله عنه- من باب عظموا أقداركم بالتغافل فإنه رأى إنسانًا قصد التنقص به والغض من أرومته بكون هؤلاء العظماء النبلاء المشهورين بالمناقب ليسوا منكم, والحط من مرتبته بكون هذه المناصب الشريفة ليس شيء منها فيه, وعرف أنه مقتدر على الكلام وترويجه, والتعاريض بما ينقصه به بين ذلك الملأ فكان من النظر السديد ما فعله أبو بكر, وقول دغفل: أما والله لو ثبت لأخبرتك من قريش أي قريش الممتدحة بتلك المناقب والمناصب, وكأنه يقول: فهم قريش على الحقيقة, لا أنه يريد أن تيم بن مرة ليس من قريش فإنه علّامة بالنسب مشهور بذلك بين العرب, فكيف يعزب عنه هذا؟ وقول علي: لقد وقعت من الأعرابي على باقعة صحيح, ولا شك في أنه كذلك, وقول أبي بكر: ما من طامة إلا وفوقها طامة لا يلزم منه أنه أراد أنه أعلم منه بالنسب.
وإنما لما كان أبو بكر من أفصح العرب, وأعرفهم بوجوه الكلام ومحاسنه وحقائقه ومجازاته, وأعلمهم بالنسب, لكنه لم يكن يستعمل التمويه

(1/157)


والمعاريض التي هي شبيه بالباطل, وإن كانت حقا لمكان دينه وورعه, ودغفل وإن كان في الفصاحة والعلم بالنسب كذلك, إلا أنه لا دين له ولا ورع عنده يمنعانه من ذلك كما قد وقع, فإنه أوهم أن أبا بكر ليس من قريش بما عرض به من تعداد أقوام ونفي أبي بكر عنهم وهو محق في القول مبطل في الإيهام, فبذلك طم على أبي بكر والله أعلم.
ذكر اختصاصه بالفتوى بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإمضاء النبي -صلى الله عليه وسلم:
عن أبي قتادة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلًا له عليه بينة, فله سلبه" وكنت قتلت رجلًا من المشركين فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست فأعادها فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست فأعادها الثالثة فقال رجل: صدق يا رسول الله, سلبه عندي فأرضه عني, فقال أبو بكر: لا ها الله إذًا لا أعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله يعطيك سلبه فقال صلى الله عليه وسلم: "صدق, فأعطه" فبعث الدرع فابتعت به مخرفًا في بني سلمة, فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام, أخرجاه.
"شرح" لا ها الله إذًا, هكذا يروونها للتنبيه وفيها لغتان: المد والقصر, وجاءت في هذا الموضع عوضًا عن واو القسم كهمزة الاستفهام في الله, ومد ألفها أحسن ويجوز حذفها لالتقاء الساكنين.
وذكر أبو حاتم السجستاني فيما يلحن فيه العامة أنهم يقولون: لا ها الله إذا, والصواب: لا ها الله ذا والمعنى: لا والله هذا ما أقسم به فأدخل اسم الله بين ها وذا, فعلى هذا يكون هذا من الرواة لأنهم كانوا يروون بالمعنى, هذا مذهب الأخفش, وذهب الخليل إلى أن الخبر محذوف أبدًا وأن التقدير: لا والله إلا من ذا, ولا والله لا يكون ذا, فحذف لكثرة الاستعمال. واعلم أن بدار أبي بكر بالزجر والردع والفتوى واليمين على ذلك في حضرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يصدقه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما قال, ويحكم

(1/158)


بقوله, خصوصية شرف لم تكن لأحد غيره, وقد كان يفتي في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعة عشر من الصحابة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار بن ياسر وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وسلمان وأبو موسى الأشعري.
ولهذا لما قال ذلك الرجل فسألت رجالًا من أهل العلم, فأخبروني أن على ابني جلد مائة جلدة لم ينكر عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتوى غيره في زمانه؛ لأنها عنه صدرت وعن تعليمه أخذت, وأما الفتوى بحضرته على ما ذكرنا فلم تكن لأحد سوى أبي بكر.
وعن محمد بن كعب القرطبي قال: بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه التي قبض فيها قالت له قريش: أرسل إلى ابن أخيك يرسل إليك من هذه الجنة التي ذكرها ما يكون لك شفاء, فخرج الرسول حتى وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر جالس معه فقال: يا محمد, إن عمك يقول لك: إني كبير ضعيف سقيم, فأرسل إلي من جنتك هذه التي تذكر من طعامها وشرابها شيئًا يكون لي فيه شفاء, فقال أبو بكر: إن الله حرمها على الكافرين, فرجع الرسول إليهم وأخبرهم بمقالة أبي بكر فحملوا عليه بأنفسهم, حتى أرسل رسولًا من عنده فوجد الرسول في مجلسه فقال له مثل ذلك فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرمها على الكافرين" خرجه في فضائل أبي بكر وهو مرسل.
ذكر تعبيره الرؤيا بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حال انفراده عنه, وتقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- تعبيره في الحالي, وأنه كان أعلم الناس بالتعبير:
عن ابن عباس أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- منصرفه من أحد فقال: يا رسول الله إني رأيت في المنام ظلة تنطف عسلًا وسمنًا، والناس

(1/159)


يتكففون فمنهم المقل ومنهم المستكثر, ثم رأيت سببًا واصلًا من السماء أخذت به فعلوت, ثم أخذ به آخر بعدك فعلا, ثم أخذ به آخر فانقطع, ثم وصل له فعلا قال: فقال أبو بكر: اتركني أعبرها يا رسول الله قال: "عبرها" قال: أما الظلة فالإسلام, وأما السمن والعسل فهو القرآن حلاوته ولينه, والناس يتكففون منه فمنهم المقل ومنهم المكثر, وأما السبب من السماء فهو الحق الذي أنت عليه أخذت به فعلوت ثم أخذ به آخر بعدك فعلا, ثم أخذ به آخر فعلا, ثم أخذ به آخر فانقطع, ثم وصل له فعلا, أصبت يا رسول الله؟ قال: "أصبت بعضًا, وأخطأت بعضًا" قال: أقسمت يا رسول الله لتخبرني قال: "لا تقسم" أخرجاه.
"شرح" يتكففون ويستكفون بمعنًى, وهو أن يمد كفه يسأل, والسبب: الحبل في لغة هذيل.
وعن عمرو بن شرحبيل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رأيت كأني في غنم سود إذ ردفتها غنم بيض, فلم أستبن السود من كثرة البيض" قال أبو بكر: يا رسول الله هذه العرب ولدت فيها, ثم تدخل العجم فلا تستبين العرب من كثرتهم, قال: "كذلك عبرها الملك". خرجه سعيد بن منصور في سننه والحاكم أبو عبد الله بن الربيع واللفظ له, وهو مرسل.
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لقي ابن بديل فقال: "ما كنت أرى إلا أنك قد قتلت, أتذكر رؤيا رأيتها فقصصتها على أبي بكر؟ إن صدقت رؤياك قتلت بغير أمر ملتبس" فقتل يوم صفين. خرجه في الفضائل.
وعن عطاء قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إني رأيت كأن جائز بيتي انكسر وزوجها غائب فقال: "يرد عليك غائبك" فرجع زوجها ثم غاب, فجاءت الثانية فقالت: إني رأيت كأن جائز بيتي انكسر فقال لها مثل ذلك, فقدم زوجها ثم جاءت الثالثة فلم تجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

(1/160)


ووجدت أبا بكر وعمر أو أحدهما, فأخبرت بما رأت فقال: يموت زوجك, ثم أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال لها: "هل سألت أحدًا قبلي؟ " قالت: نعم قال: "فهو كما قال لك".
وعن سعيد بن المسيب قال: رأت عائشة كأن وقع في بيتها ثلاثة أقمار فقصتها على أبي بكر, وكان من أعبر1 الناس فقال: إن صدقت رؤياك ليدفن في بيتك خير أهل الأرض ثلاثة, فلما قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر: يا عائشة هذا خير أقمارك. خرجهما سعيد بن منصور.
ذكر اختصاصه بالشورى بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وقبوله -صلى الله عليه وسلم- مشورته:
عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في قصة الحديبية, وأنه لما أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- عينه فقال: إن قريشًا جمعوا لك جموعًا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك فقال: "أشيروا أيها الناس علي, أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت, فإن فاتونا كان الله قد قطع عينًا من المشركين وإلا تركناهم محرومين؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حربًا, فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال: "امضوا على اسم الله -عز وجل" أخرجاه.
ذكر اختصاصه بأمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بمشاورته:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أتاني جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد, إن الله تعالى أمرك أن تستشير أبا بكر" خرجه تمام في فوائده وأبو سعيد النقاش.
ذكر اختصاصه بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يزال عنده يسمر في أمر المسلمين:
عن عمر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يزال يسمر عند أبي بكر الليلة في
__________
1 من أعظمهم تعبيرا للرؤيا.

(1/161)


الأمر من أمر المسلمين, وإنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه, فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرجنا معه فإذا رجل قائم يصلي في المسجد, فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع قراءته فما كدنا نعرفه, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقرأ القرآن رطبًا كما أنزل, فليقرأه على قراءة ابن أم عبد".
ذكر ما جاء في أن الله تعالى يكره تخطئة أبي بكر:
عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر في الأرض" وعنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن استشار ناسًا من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وأسيد بن حضير فقال أبو بكر: لولا أنك استشرتنا ما تكلمنا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إني فيما لم يوح إلي كأحدكم" فتكلم القوم فتكلم كل إنسان برأيه قال: "ما ترى يا معاذ؟ " قال: أرى ما قال أبو بكر فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يكره من فوق سمائه أن يخطأ أبو بكر" أو قال: "أن يخطئ أبو بكر" خرجه الإسماعيلي في معجمه.
ذكر اختصاصه بأنه أول من جمع القرآن:
عن عبد خير قال: سمعت عليا يقول: رحم الله أبا بكر: كان من أعظم الناس أجرًا في جمع المصاحف, وهو أول من جمع بين اللوحين. خرجه ابن حرب الطائي وصاحب الصفوة.
وعن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة, فإذا عمر جالس عنده فقال أبو بكر: إن عمر جاءني فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن, وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في كل المواطن؛ فيذهب من القرآن كثير, وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قال: قلت لعمر: وكيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير, فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر

(1/162)


عمر, ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد: فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك, قد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتتبع القرآن فاجمعه, قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن, قال: قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير, فلم يزل أبو بكر يراجعني وفي أخرى: فلم يزل عمر يراجعني, حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر, قال: فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف وصدور الرجال, حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري, فلم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 1 خاتمة براءة, قال: فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى, ثم عند عمر حتى توفاه الله تعالى, ثم عند حفصة بنت عمر, خرجه البخاري.
"شرح" استحر القتل أي: كثر واشتد, والعسب: جمع عسيب وهو سعف النخل, وأهل2 العراق يسمونها الجريد وقد تقدم, واللخاف: حجارة بيض رقاق واحدتها: لخفة.
ذكر اختصاصه بأنه أول من أقام بالمسلمين الحج:
عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استعمل أبا بكر وهو أول من جمع للناس الحج, ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج من قابل. أخرجه الحافظ أبو الحسين علي بن نعيم البصري, وهو حديث حسن.
ذكر اختصاصه بأنه أول من تنشقّ عنه الأرض بعد النبي -صلى الله عليه وسلم:
عن ابن عمر قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تنشقّ عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر, ثم آتي البقيع فيحشرون معي, ثم أنتظر أهل مكة حتى
__________
1 سورة التوبة الآية: 128.
2 وكذلك أهل مصر.

(1/163)


يحشروا بين الحرمين" أخرجه أبو حاتم في فضائل عمر من قسم الأخبار.
ذكر اختصاصه بأنه أول من يدخل الجنة من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم:
عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتاني جبريل -عليه السلام- فطاف بي في أبواب الجنة, فأراني الباب الذي أدخل أنا وأمتي منه" فقال أبو بكر الصديق: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ليتني كنت معك, قال: "أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي" خرجه البغوي في المصابيح الحسان, والملاء في سيرته وصاحب الفضائل وزاد: فضرب على منكبه وقال: "أما إنك أول من يدخل".
ذكر اختصاصه بأنه أول من يرد الحوض:
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أول من يرد عليَّ يوم القيامة أبو بكر الصديق" خرجه الملاء في سيرته.
ذكر مصاحبته النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحوض:
عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر: "أنت صاحبي على الحوض, وصاحبي في الغار" خرجه الترمذي وقال: حسن صحيح.
ذكر اختصاصه بمرافقته النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة:
عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكل نبي رفيق, ورفيقي في الجنة أبو بكر" أخرجه ابن الغطريف.
وعن الزبير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم إنك جعلت أبا بكر رفيقي في الغار, فاجعله رفيقي في الجنة" خرجه في الفضائل.
ذكر اختصاصه بالكون بين الخليل والحبيب يوم القيامة:
عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة

(1/164)


نصب لإبراهيم -عليه السلام- منبر أمام العرش, ونصب لي منبر أمام العرش, ونصب لأبي بكر كرسي فيجلس عليه وينادي منادٍ: يا لك من صديق بين حبيب وخليل" خرجه الخطيب البغدادي, وخرج الملاء معناه وقال في الثلاثة: كرسي كرسي.
ذكر اختصاصه بأنه لا يحاسب يوم القيامة من بين الأمة:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قلت لجبريل حين أسري بي إلى السماء: يا جبريل, هل على أمتي حساب؟ قال: كل أمتك عليها حساب ما خلا أبا بكر, فإذا كان يوم القيامة قيل له: يا أبا بكر ادخل الجنة فيقول: ما أدخل حتى يدخل معي من كان يحبني في الدنيا" خرجه أبو الحسن العتيقي وصاحب الديباج وصاحب الفضائل, وقال: غريب.
ذكر اختصاصه بتجلي الله تعالى له يوم القيامة خاصة:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر الصديق: "يا أبا بكر, إن الله -عز وجل- يتجلى للخلائق عامة, ويتجلى لك خاصة" خرجه الملاء في سيرته وصاحب الفضائل وقال: حسن.
وعن علي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينادي منادٍ: أين السابقون الأولون؟ فيقال: من؟ فيقول: أين أبو بكر الصديق؟ فيتجلى الله لأبي بكر خاصة, وللناس عامة" خرجه ابن بشران وصاحب الفضائل وقال: غريب.
وعن جابر قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء وفد عبد القيس فتكلم بعض القوم ولغا في كلامه, فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر فقال: "يا أبا بكر أسمعت ما قالوا؟ " قال: نعم, قال: "فأجبهم" قال: فأجابهم وأجاد, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر, أعطاك الله الرضوان الأكبر" فقال له بعض القوم: يا رسول الله, وما الرضوان الأكبر؟ قال: "يتجلى الله -عز وجل- للعباد عامة, ويتجلى لأبي بكر خاصة" خرجه الملاء أيضًا وصاحب

(1/165)


الفضائل وقال: غريب.
"شرح" لغا أي: قال باطلًا.
وعن أنس قال: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الغار أخذ أبو بكر بركاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدبر بزمام الناقة, فقال صلى الله عليه وسلم: "وهب الله لك الرضوان الأكبر" فقيل: وما الرضوان الأكبر؟ فذكر نحو ما تقدم ذكره الملاء.
وعن الزبير بن العوام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خرج يريد الغار أتاه أبو بكر بناقة فقال: اركبها يا رسول الله, فلما ركبها التفت إلى أبي بكر فقال: "يا أبا بكر أعطاك الله الرضوان الأكبر" قال: يا رسول الله وما الرضوان الأكبر؟ قال: "يتجلى الله -عز وجل- يوم القيامة لعباده عامة, ويتجلى لك خاصة". خرجه صاحب الفضائل, ولا تضاد بين هذا وبين ما تقدم من أنه -صلى الله عليه وسلم- مشى حتى حفيت أقدامه فحمله أبو بكر على كاهله, إذ يجوز أن يكون هذا في السهل فلما ارتقى الجبل حيث لا تسلك الناقة مشى صلى الله عليه وسلم وحفيت أقدامه, وحمله أبو بكر حينئذ.
ذكر اختصاصه بأنه لم يسمع واحد وطء جبريل حين ينزل بالوحي غيره:
عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: لم يسمع وطء جبريل حين ينزل بالوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أبو بكر, خرجه ابن البختري.
ذكر اختصاصه بكتب اسمه خلف اسم النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل سماء:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عرج بي إلى السماء, فما مررت بسماء إلا وجدت فيها اسمي مكتوبًا: محمد رسول الله, وأبو بكر الصديق من خلفي" خرجه ابن عرفة العبدي والحافظ الثقفي, وخرجه في الفضائل عن ابن عمر.

(1/166)


ذكر اختصاصه بكتبه اسمه مع اسم النبي -صلى الله عليه وسلم- في فرندة خضراء حول العرش:
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي مكتوبًا حول العرش في فرندة خضراء بقلم من نور: لا إله إلا الله محمد رسول الله, أبو بكر الصديق".
ذكر اختصاصه بكتبه اسمه مع اسم النبي -صلى الله عليه وسلم- في علم من نور:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن لله علمًا من نور مكتوبًا عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله, أبو بكر الصديق" خرجهما في الفضائل, وهذا مغاير لما تقدم فإن أسماء الأربعة تقدم أنها مكتوبة في لواء الحمد, وهذا علم من نور الله تعالى فحمل على أنه غيره, وكذلك ما تقدم في باب الثلاثة, فإنه تقدم أن أسماءهم مكتوبة على العرش ولم يذكر أنه في فرندة خضراء حول العرش كما في هذا, فيجوز أن يكون في موضع آخر غيره, وتقدم أن أسماءهم في كل ورقة في الجنة وهما في كل سماء, والله أعلم.
ذكر اختصاصه بتقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه أميرًا على الحج في حياته -صلى الله عليه وسلم:
عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين رجع إلى المدينة من عمرة الجعرانة, بعث أبا بكر أمينًا على الحج, خرجه أبو حاتم في حديث طويل سيأتي في خصائص علي -رضي الله عنه. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان, أخرجاه.
ذكر اختصاصه بالتقديم إمامًا في الصلاة حين غاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض شئونه:

(1/167)


عن سهل بن سعد قال: كان قتال في بني عمرو بن عوف فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم, فقال: "يا بلال إذا حضرت الصلاة ولم آت, فمر أبا بكر فليصل بالناس" قال: فلما أن حضرت العصر أقام بلال الصلاة ثم أمر أبا بكر فتقدم وصلى بهم, وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما دخل أبو بكر في الصلاة, فلما رأوه صفحوا, وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر, وكان أبو بكر إذا دخل في الصلاة لم يلتفت, فلما رأى التصفيح لا يمسك عنه التفت فرأى النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه فأومأ إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده أن امضه, فقام أبو بكر كهيئته فحمد الله على ذلك, ثم مشى القهقرى قال: فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصلى بالناس.
فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاته قال: "يا أبا بكر, ما منعك إذ أومأت إليك ألا تكون مضيت؟ " قال: فقال أبو بكر: لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال للناس: "إذا رابكم في صلاتكم شيء, فليسبح الرجل ولتصفح النساء" أخرجه أحمد وأبو حاتم في التقاسيم والأنواع, وأبو داود والنسائي.
"شرح" التصفيح مثل التصفيق.
ذكر اختصاصه -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر بأنه لا ينبغي أن يتقدمه غيره:
عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره" أخرجه الترمذي وقال: غريب, وخرجه السمرقندي ولفظه: قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليصل أبو بكر للناس" قالوا: يا رسول الله لو أمرت غيره؟ قال: "لا ينبغي لأمتي أن يؤمهم إمام وفيهم أبو بكر" وخرجه في الفضائل ولفظه: قالت: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الأنصار ليصلح بينهم في شأن, فحضرت الصلاة فقال بلال لأبي بكر: قد حضرت الصلاة وليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاهدًا, فهل لك أن أؤذن وأقيم وتصلي بالناس؟ فقال: إن شئت, فأذن بلال وأقام فتقدم أبو بكر وصلى

(1/168)


بالناس, فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما فرغوا, فقال: "أصليتم؟ " قالوا: نعم قال: "من صلى بكم؟ " قالوا: أبو بكر قال: "أحسنتم, لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يصلي بهم غيره" وفي رواية: "أن يؤمهم" وقال: حديث حسن غريب.
هاتان والله أعلم قضيتان متغايرتان عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في إحداهما إلى بلال إذا حضرت الصلاة أن يصلي بهم أبو بكر على ما تضمنه حديث الشيخين في الذكر قبل هذا, وفي الأخرى لم يعهد وعليه دل سياق لفظ هذا الحديث وطرق كثيرة في الصحيحين رويت كذلك ليس فيها عهد, والله أعلم.
ذكر اختصاصه بتقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه إمامًا في مرض وفاته؛ تنبيهًا على خلافته:
عن ابن عمر: لما اشتد برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعه قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" قالت له عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء, قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فعاودته مثل مقالها فقال: "إنكن صواحبات يوسف, مروا أبا بكر فليصل بالناس" أخرجاه وأبو حاتم واللفظ له.
وعن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" قالت: فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف, وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس, فلو أمرت عمر؟ فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" قالت: فقلت لحفصة: قولي له, فقالت له حفصة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف, وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس, قال: "إنكن صاحبات يوسف, مروا أبا بكر فليصل بالناس" أخرجاه وأبو حاتم.
قال أبو حاتم: الصواب صواحب إلا أن السماع صواحبات, وخرجه

(1/169)


الترمذي وزاد في آخره: فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا, وقال: حديث حسن صحيح.
وفي بعض طرق الصحيحين أنه لما أرسل إلى أبي بكر قال أبو بكر لعمر: يا عمر صل بالناس فقال عمر: أنت أحق بذلك, فصلى أبو بكر تلك الأيام. وعن عبد الله بن زمعة قال: لما استعزّ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا عنده في نفر من المسلمين, دعاه بلال إلى الصلاة فقال: "مروا من يصلي" فخرج عبد الله بن زمعة فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائبًا, فقلت: يا عمر قم فصل بالناس فتقدم وكبر, فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- صوته قال: "فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون" فبعث إلى أبي بكر بعد أن صلى عمر تلك الصلاة, فصلى بالناس.
وفي رواية: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سمع صوت عمر خرج حتى أطلع رأسه من حجرته, ثم قال: "لا لا لا, ليصل للناس ابن أبي قحافة" يقول ذلك مغضبًا, أخرجهما أبو داود.
وخرج أحمد معناه وخرجه ابن إسحاق ولفظه: عن عبد الله بن زمعة قال: لما استعزّ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا عنده في نفر من المسلمين -قال- دعاه بلال إلى الصلاة فقال: "مروا من يصلي بالناس" قال: فخرجت فإذا عمر في الناس وأبو بكر غائب فقلت: قم يا عمر فصل بالناس قال: فقام, فلما كبر سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوته وكان عمر رجلًا مجهرًا قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون" قال: فبعث إلى أبي بكر, فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس, قال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك ماذا صنعت بي يابن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرك بذلك, ولولا ذلك ما صليت بالناس, قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيء ولكني حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس.

(1/170)


"شرح" استعز برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي: اشتد به المرض وأشرف على الموت, يقال: عز يعز إذا اشتد, واستعز به المرض وغيره إذا اشتد عليه وغلبه, ثم بني الفعل للمفعول الذي هو الجار والمجرور.
وفي هذا كله أبين البيان, وأوضح الدلالة على أنه الخليفة بعده.
وعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليصل بالناس أبو بكر" قالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل حضر فقال: "ابعثوا إلى عمر" فقال عمر: ما كنت لأتقدم وأبو بكر حي, فتقدم أبو بكر فصلى بالناس, خرجه في الفضائل وقال: حسن. وعن عبد الله بن عمير الليثي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا بكر أن يصلي بالناس الصبح وإن أبا بكر كبر, فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض الخفة فقام يفرج الصفوف قال: وكان أبو بكر لا يلتفت إذا صلى, فلما سمع أبو بكر الحس من ورائه عرف أنه لا يتقدم إلى ذلك المقام إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخنس وراءه إلى الصف, فرده النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانه وجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جنبه, خرجه الشافعي في مسنده وخرجه ابن إسحاق وقال مكان فرده: فدفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جنبه, فصلى قاعدًا عن يمين أبي بكر.
"شرح" خنس أي: انقبض وتأخر.
وعن أنس قال: لم يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلينا ثلاثًا فأقيمت الصلاة, فذهب أبو بكر يتقدم فقام نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بالحجاب فرفعه, فلما وضح لنا وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما نظرنا منظرًا قط كان أعجب إلينا من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وضح لنا, قال: فأومأ نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى الحجاب, فلم يقدر عليه حتى مات -صلى الله عليه وسلم, أخرجاه. وعنه أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة فنظرنا إليه وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف, ثم تبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضاحكًا ... الحديث, أخرجه مسلم.

(1/171)


ذكر اختصاصه بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه, بعد أمره له بالتقدم إمامًا:
عن أنس قال: آخر صلاة صلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع القوم, صلى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر. خرجه النسائي والطبراني في معجمه.
وعن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى خلف أبي بكر.
وعن سهل بن سعيد مثله, وعن عائشة نحوه وقالت: قاعدًا. أخرجه ابن حبان.
وعن أسماء قالت: رأيت أبي يصلي في ثوب واحد وثيابه إلى جنبه فقلت له: يا أبت, أتصلي في ثوب واحد وإلى جنبك ثيابك؟ فقال: يا بنية, آخر صلاة صلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفي في ثوب واحد.
وعن أبي موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى خلف أبي بكر, صحيح متفق عليه.
ذكر اختصاصه بالحوالة عليه بعد وفاته تنبيهًا على خلافته, وأنه القائم بعده:
عن جبير بن مطعم أن امرأة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- تسأله شيئًا فقال لها: "ارجعي إلي" فقلت له: يا رسول الله فإن رجعت ولم أجدك, تعرض بالموت فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وإن لم تجديني فأت أبا بكر". أخرجاه والترمذي وأبو حاتم وخرجه صاحب الفضائل عن ابن عباس بزيادة تصريح بها ولفظه قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألته شيئًا فقال: "تعودين" قالت: يا رسول الله إن عدت فلم أجدك, تعرض بالموت قال: "إن جئت فلم تجديني, فأت أبا بكر؛ فإنه الخليفة من بعدي".
وقال: غريب, وقال في باب الشيخين حديث اليهودي في هذا المعنى, وفي ذكر عمر بعد أبي بكر, وقد تقدم في باب الثلاثة حديث الأعرابي وحديث ابن المصطلق في هذا المعنى وفيه ذكر عثمان بعد عمر.

(1/172)


ذكر اختصاصه بإرادة العهد إليه في الخلافة ثم ترك ذلك إحالة على إباء الله تعالى خلاف ذلك والمؤمنين:
عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه: "ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى, ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " أخرجاه.
وعنها أنها قالت: وا رأساه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ذلك لو كان وأنا حي, فأستغفر لك وأدعو لك" فقالت عائشة: وا ثكلاه والله إني لأظنك تحب موتي, ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسًا ببعض أزواجك فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بل أنا وا رأساه, لقد عممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون, أو يدفع الله ويأبى المؤمنون" انفرد البخاري بإخراجه.
وعنها قالت: لما ثقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه, فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: "أبى الله والمؤمنون أن يختلف على أبي بكر" أخرجه أحمد, وعنها قالت: لما كان وجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قبض فيه قال: "ادعوا إلي أبا بكر فلنكتب؛ لئلا يطمع في الأمر طامع أو يتمنى متمن" ثم قال: "يأبى الله ذلك والمؤمنون" قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون إلا أن يكون أبي فكان أبي, خرجه في الفضائل وقال: بإسناد صحيح على شرط الشيخين.
وعن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في شكايته التي توفي فيها: "يا عائشة, ادعي إلي عبد الرحمن بن أبي بكر حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف فيه بعدي, معاذ الله أن يختلف على أبي بكر أحد من المؤمنين" خرجه في الفضائل وقال: غريب.

(1/173)


ذكر اختصاصه بالسبق إلى أنواع من البر في اليوم الواحد:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "فمن أطعم اليوم منكم مسكينًا؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ " قال أبو بكر: أنا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" أخرجه أحمد ومسلم.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أيكم أصبح اليوم صائما؟ " قال: فسكت القوم فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله, ثم قال: "أيكم تصدق اليوم على مسكين؟ " قال: فسكت القوم فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله فقال: "أيكم شيع اليوم جنازة؟ " فسكت القوم فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله, وفي أخرى: "أيكم عاد اليوم مريضًا؟ " قال أبو بكر: أنا فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "والذي بعثني بالحق, ما جمعهن رجل في اليوم إلا دخل الجنة" خرجه الملاء في سيرته.
وعن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: "أيكم أصبح صائمًا؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "فأيكم عاد مريضًا؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "فأيكم تبع جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا وخفيت علي الرابعة فقال: "من كملت فيه هذه الأربع, بني له بيت في الجنة" خرجه في فضائله.
وعن أبي جراد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: "هل فيكم من مشى في جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "هل فيكم من تصدق اليوم على مسكين؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "هل فيكم من أصبح صائمًا؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "سبقت أنت, سبقت إلى الجنة أربعين عامًا".
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الصبح فلما قضى صلاته قال: "أيكم أصبح اليوم صائمًا؟ " فقال عمر بن الخطاب:

(1/174)


أما أنا يا رسول الله بت لا أحدث نفسي بالصوم وأصبحت مفطرًا, فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله بت الليلة وأنا أحدث نفسي بالصوم فأصبحت صائمًا فقال: "فأيكم عاد اليوم مريضًا؟ " فقال عمر: يا رسول الله إنما صلينا الساعة ولم نبرح فكيف نعود المريض؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله أخبروني بالأمس أن أخي عبد الرحمن بن عوف وجع فجعلت طريقي عليه فسألت به ثم أتيت المسجد, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فأيكم تصدق اليوم بصدقة؟ " فقال عمر: يا رسول الله ما برحنا معك منذ صلينا أو قال: لم نبرح منذ صلينا فكيف نتصدق؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله, لما جئت من عند عبد الرحمن دخلت المسجد فإذا سائل يسأل وابن لعبد الرحمن بن أبي بكر معه كسرة خبز فأخذتها فناولتها السائل, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "فأبشر بالجنة" مرتين, فلما سمع عمر بذكر الجنة تنفس فقال: هاه, فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال كلمة رضّى بها عمر: "رحم الله عمر, إن عمر يقول: ما سابقت أبا بكر إلى خير قط إلا سبقني إليه" خرجه بهذا السياق الخلعي, وخرج أبو داود منه التصدق بالكسرة في المسجد في باب المسألة في المساجد.
وقد ورد مثل هذا لعمر وسيأتي في خصائصه, وهو محمول على أن ذلك كان في يومين اختص أبو بكر بيوم اجتمع له فيه تلك المبرات, وعمر بيوم آخر.
وعن صلة بن زفر قال: كان أبو بكر إذا ذُكر عند علي قال: السباق, والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر, خرجه ابن السمان في الموافقة.
ذكر اختصاصه بالصلاة إمامًا على فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وعليها لما ماتت:
عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين

(1/175)


قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء, فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف, فلما وضعت ليصلى عليها قال علي -رضي الله عنه: تقدم يا أبا بكر قال: وأنت شاهد يا أبا الحسن؟ قال: نعم تقدم فوالله لا يصلي عليها غيرك, فصلى عليها أبو بكر -رضي الله عنهم أجمعين- ودفنت ليلًا. خرجه البصري وخرجه ابن السمان في الموافقة.
وفي بعض طرقه فكبر عليها أربعًا, وهذا مغاير لما جاء في الصحيح فإنه ورد في الصحيح أن عليا لم يبايع أبا بكر حتى ماتت فاطمة, وطريان هذا مع عدم البيعة يبعد في الظاهر والغالب وإن جاز أن يكونوا لما سمعوا بموتها حضروها, فاتفق ذلك ثم بايع بعده.
ذكر أن فاطمة لم تمت إلا راضية عن أبي بكر:
عن عامر قال: جاء أبو بكر إلى فاطمة وقد اشتد مرضها فاستأذن عليها فقال لها علي: هذا أبو بكر على الباب يستأذن فإن شئت أن تأذني له؟ قالت: أوذاك أحب إليك؟ قال: نعم, فدخل فاعتذر إليها وكلمها فرضيت عنه.
وعن الأوزاعي قال: بلغني أن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غضبت على أبي بكر, فخرج أبو بكر حتى قام على بابها في يوم حار ثم قال: لا أبرح مكاني حتى ترضى عني بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدخل عليها علي فأقسم عليها لترضى فرضيت, خرجه ابن السمان في الموافقة.
ذكر اختصاصه بالدعاء بخليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
عن ابن أبي مليكة قال: قيل لأبي بكر: يا خليفة الله قال: لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله وأنا راضٍ بذلك, خرجه أحمد وأبو عمر. وعن ابن عمر أن أبا بكر بعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام فمشى معهم نحوًا من ميلين فقيل له: يا خليفة رسول الله لو انصرفت؟ فقال: لا إني سمعت

(1/176)


رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من اغبرّت قدماه في سبيل الله -عز وجل- حرمهما الله على النار" خرجه في فضائله.
وقد تقدم في ذكر ثبات قلبه وشدة بأسه يوم الردة قول علي -رضي الله عنه- لما خرج إلى قتال أهل الردة: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ ولا خلاف بين فرق المسلمين من الموافقين والمخالفين أن أبا بكر كان يدعى بخليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يدع بذلك أحد غيره.
ذكر اختصاص بيته بوجود أربعة فيه:
بعضهم ولد بعض, كلهم رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وآمنوا به وسمعوا كلامه ورووا عنه وهم: أبو بكر وأبوه أبو قحافة وابنته أسماء وابنها عبد الله بن الزبير, وأيضًا وجد فيه أربعة بعضهم ولد بعض لثلاثة منهم رؤية ورواية, وواحد صحت له رؤية دون رواية.
عن موسى بن عقبة قال: لا نعلم أربعة أدركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- هم وأبناؤهم إلا هؤلاء الأربعة: أبا قحافة وأبا بكر وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبا عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر, واسم أبي عتيق محمد. خرجه القاضي أبو بكر بن مخلد, وهذا أبو عتيق ولد في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري: وصحت له رضية ولم تصح له رواية, وهذه منقبة ليست في بيت أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا على الوصف الأول ولا على الوصف الثاني, إلا في بيت أبي بكر على الوصفين كما ذكرناه, والله أعلم.
ذكر اختصاصه بآي من القرآن نزلت فيه أو بسببه:
منها قوله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} 1 الآية. لا خلاف أن المراد بأحد الاثنين أبو بكر وأنه المراد بصاحبه, وقد تقدم ذلك في قصة الغار من
__________
1 سورة التوبة الآية: 40.

(1/177)


الصحيحين وغيرهما.
وعن الحسن قال: والله لقد عاب الله -عز وجل- أهل الأرض جميعًا بهذه الآية إلا أبا بكر, خرجه في فضائله وعن الشعبي مثله, خرجه الواحدي.
وعن عمرو بن الحارث أن أبا بكر قال: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ قال رجل: أنا, فقرأ فلما بلغ: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 1 بكى أبو بكر وقال: أنا والله صاحبه.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} 2 يعني: على أبي بكر, فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت السكينة عليه قبل ذلك, ومنها قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} 3 الآية.
وعن عائشة في حديث الإفك قصة مسطح بن أثاثة قالت: حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح أبدًا, فنزل قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} إلى {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} 4 قال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي, فأرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه فقال: لا أنزعها أبدًا أخرجاه, ومنها قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} 5 عن ابن عباس: أنها نزلت في أبي بكر والخطاب لسعد بن أبي وقاص, ذكره الواحدي وقيل: المراد النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكره الماوردي, ومنها {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} 6 عن علي قال: جاء بالصدق محمد -صلى الله عليه وسلم- وصدق به أبو بكر, خرجه ابن السمان في الموافقة وخرجه في فضائله, ومنها {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ
__________
1 سورة التوبة الآية: 40.
2 سورة التوبة الآية: 26.
3 سورة النور الآية: 22.
4 سورة النور الآية: 22.
5 سورة لقمان الآية: 5.
6 سورة الزمر الآية: 33.

(1/178)


اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} 1 الآية, عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر, وقيل غير ذلك.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 2, عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر, ذكره الواحدي.
ومنها قوله تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 3 عن ابن عباس قال: هو أبو جهل وأبو بكر وقيل غير ذلك, حكاه الثعلبي.
ومنها قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} 4 إلى قوله: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} , عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر فاستجاب الله له, فأسلم والده وأولاده كلهم, رواه عقيل بن خالد وقد تقدم ذكرها في ذكر إسلام أمه.
ومنها قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} 5 الآية قال الكلبي: نزلت في أبي بكر, ذكره الواحدي, ومنها قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 6 الآية, عن ابن جريج أن أبا قحافة سبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فصكه أبو بكر صكة شديدة سقط منها, ثم ذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفعلته؟ " قال: نعم قال: "فلا تعد إليه" فقال أبو بكر: والله لو كان السيف قريبًا مني لقتلته فنزلت, خرجه الواحدي وأبو الفرج, وقيل: نزلت في جماعة وقد تقدم.
__________
1 سورة الزمر الآية 9.
2 سورة فصلت الآية: 30.
3 سورة فصلت الآية: 40.
4 سورة الأحقاف الآية: 15.
5 سورة الحديد الآية 10.
6 سورة المجادلة الآية 22.

(1/179)


ومنها قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} 1, عن عبد الله بن الزبير عن بعض أهله قال: قال أبو قحافة لابنه أبي بكر: أراك تعتق رقابًا ضعافًا, فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالًا يمنعونك ويقومون دونك, فقال أبو بكر: يا أبت إنما أريد ما أريد قال: فما نزلت هذه الآيات إلا فيه وفيما قاله أبوه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إلى آخر السورة, خرجه ابن إسحاق الواحدي في أسباب النزول.
وقد روي ما يدل على حكمها: عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" قالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ قال: "اعملوا, فكل ميسر لما خلق له" ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} . أخرجاه, ولا تضاد بينهما لجواز أن تكون نزلت بسبب فعل أبي بكر ثم عمم الحكم.
وعن ابن عباس: أن أبا بكر لما اشترى بلالًا وأعتقه قال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده, فنزلت: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} 2 إلى آخر السورة, خرجه الواحدي. وعن ابن مسعود أن السورة كلها نزلت مدحًا في أبي بكر الصديق وما فيها من ذم ففي أمية بن خلف سيد بلال الذي ابتاعه أبو بكر منه, فقوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} 3 سعي أبي بكر وأمية, {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} لا إله إلا الله, يعني أبا بكر {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الجنة {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى, وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} بلا إله إلا الله, يعني أمية وأبيا {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} النار {تَرَدَّى} مات وهلك {الْأَشْقَى, الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أمية وأبي.
__________
1 سورة الليل الآية: 6.
2 سورة الليل الآية: 19.
3 سورة الليل الآية: 4.

(1/180)