سيرة الإمام أحمد بن حنبل

بَاب ذكرى مَا جرى بَين أبي وَرَسُول المتَوَكل
بعد عودة من المعسكر
قَالَ أَبُو الْفضل وَقدم المتَوَكل فَنزل الشماسية يُرِيد الْمَدَائِن فَقَالَ لأبي يَا صَالح أحب أَن لَا تذْهب الْيَوْم وَلَا تنبه على قَلما كَانَ بعد يَوْم وَأَنا قَاعد خَارِجا وَكَانَ يَوْم مطر إِذا يحيا بن خاقَان قد جحاء والمطر عَلَيْهِ فِي منْكب عَظِيم فَقَالَ صبحان الله لم تصل إِلَيْنَا حَتَّى نبلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ السَّلَام على شيخك حَتَّى وَجه بِهِ ثمَّ نزل خَارج الزقاق فجهدت بِهِ أَن يدْخل على الدَّابَّة فَلم يفعل فَجعل يَخُوض فِي الْمَطَر فَلَمَّا صَار إِلَى الْبَاب نزع جرموقه وَكَانَ على خفه وَدخل وَأبي فِي الزاوية قَاعد عَلَيْهِ كسَاء مربع وعمامة والستر الَّذِي على الْبَاب قِطْعَة خيش فَسلم عَلَيْهِ وَقبل جَبهته وَسَأَلَهُ عَن حَاله وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يُقْرِئك السَّلَام وَيَقُول كَيفَ أَنْت فِي نَفسك وَكَيف حالك وَقد أنست بقربك ويسألك أَن تَدْعُو لَهُ فَقَالَ مَا يَأْتِي عَليّ يَوْم إِلَّا وَأَنا أَدْعُو الله لَهُ
ثمَّ قَالَ قد وَجه معي ألف دِينَار تفرقها على أهل الْحَاجة
فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا زَكَرِيَّا أَنا فِي الْبَيْت مُنْقَطع عَن النَّاس وَقد أعفاني من كل مَا أكرهه
فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله الْخُلَفَاء لَا يحْتَملُونَ هَذَا
فَقَالَ يَا أَبَا زَكَرِيَّا تلطف بذلك
فَدَعَا لَهُ ثمَّ قَامَ فَلَمَّا صَار إِلَى الدَّار رَجَعَ وَقَالَ أهكذا كنت لَو وَجه إِلَيْك بعض أخوانك تفعل

(1/123)


- قَالَ نعم فَلَمَّا صرنا إِلَى الدهليز قَالَ أَمرنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أدفعها إِلَيْك تفرقها
فَقلت تكون عنْدك إِلَى أَن تمْضِي هَذِه الْأَيَّام
ذكر مَا جرى بَين أبي وأبن طَاهِر من طلب استزارته وامتناعه عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو الْفضل وَقد كَانَ وَجه مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر إِلَى أبي فِي وَقت قدومه بالعسكر أحب أَن تصير إِلَيّ وتعلمني الَّذِي تعزم عَلَيْهِ حَتَّى لَا يكون عِنْدِي أحد
فَوجه إِلَيْهِ أَنا رجل لم أخالط السُّلْطَان وَقد أعفاني أَمِير الْمُؤمنِينَ مِمَّا أكره وَهَذَا مِمَّا أكره فجهد أَن يصير إِلَيْهِ فَأبى

(1/124)


بَاب فِي ذكر مَرضه

قَالَ أَبُو الْفضل وَكَانَ أبي قد أدمن الصَّوْم لما قدم وَجعل لَا يَأْكُل الدسم وَكَانَ قبل ذَلِك يَشْتَرِي لَهُ شَحم بدرهم فيأكل مِنْهُ شهرا فَترك أكل الشَّحْم وأدام الصَّوْم وَالْعَمَل وتوهمت أَنه قد كَانَ جعل على نَفسه ذَلِك أَن سلم
وَكَانَ قد حمل أبي إِلَى المتَوَكل سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ ثمَّ مكث إِلَى سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَكَانَ قل يَوْم يمْضِي إِلَّا وَرَسُول المتَوَكل يَأْتِيهِ فَلَمَّا كَانَ فِي أول يَوْم من شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ حم أبي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء فَدخلت عَلَيْهِ يَوْم الْأَرْبَعَاء وَهُوَ مَحْمُوم يتنفس نفسا شَدِيدا وَكنت قد عرفت علته وَكنت أمرضه إِذا اعتل
فَقلت لَهُ يَا أبه على مَا أفطرت البارحة
قَالَ على مَاء باقلاء
ثمَّ أَرَادَ الْقيام فَقَالَ خُذ بيَدي فَأخذت بِيَدِهِ فَلَمَّا صَار إِلَى الْخَلَاء ضعفت رِجْلَاهُ حَتَّى توكأ عَليّ وَكَانَ يخْتَلف إِلَيْهِ غير متطبب كلهم مُسلمُونَ فوصف لَهُ تطيب يُقَال لَهُ عبد الرَّحْمَن قرعَة تشوى ويسقى ماءها وَهَذَا يَوْم الثُّلَاثَاء وَتُوفِّي يَوْم الْجُمُعَة
فَقَالَ يَا صَالح قلت لبيْك
قَالَ لَا تشوي فِي مَنْزِلك وَلَا فِي منزل عبد الله أَخِيك

(1/125)


وَصَارَ الْفَتْح بن سهل إِلَى الْبَاب ليعوده فَحَجَبَتْهُ وأتى عَليّ بن الْجَعْد فَحَجَبَتْهُ وَكثر النَّاس فَقلت يَا أبه قد كثر النَّاس
قَالَ فَأَي شَيْء ترى
قلت تَأذن لَهُم فَيدعونَ لَك
قَالَ استخر الله
فَجعلُوا يدْخلُونَ عَلَيْهِ أَفْوَاجًا حَتَّى تمتليء الدَّار فيسألونه وَيدعونَ لَهُ ثمَّ يخرجُون وَيدخل فَوْج آخر وَكثر النَّاس وامتلأ الشَّارِع وأغلقنا بَاب الزقاق وَجَاء رجل من جيراننا قد خضب فَدخل عَلَيْهِ
فَقَالَ أبي أَنى لارى الرجل يحيى شَيْئا من السّنة فَأَفْرَح فَدخل فَجعل يَدْعُو لَهُ فَجعل يَقُول لَهُ وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين
وَجَاء رجل فَقَالَ تلطف لي بالأذن عَلَيْهِ فَإِنِّي قد حضرت ضربه يَوْم الدَّار وَأُرِيد أَن أستحله
فَقلت لَهُ فَأمْسك فَلم أزل يه حَتَّى قَالَ أدخلهُ فأدخلته فَقَامَ بَين يَدَيْهِ وَجعل يبكي وَقَالَ يَا أَبَا عبد الله أَنا كنت مِمَّن حضر ضربك يَوْم الدَّار وَقد أَتَيْتُك فَإِن أَحْبَبْت الْقصاص فَأَنا بَين يَديك وَأَن رَأَيْت أَن تحلني فعلت فَقَالَ عَليّ أَن لَا تعود لمثل ذَلِك
قَالَ نعم
قَالَ إِنِّي جعلتك فِي حل فَخرج يبكي وَبكى من حضر من النَّاس

(1/126)


وَكَانَ لَهُ فِي خريقة قطيعات فَإِذا أَرَادَ الشَّيْء أعطينا من يشترى لَهُ فَقَالَ لَهُ يَوْم الثُّلَاثَاء وَأَنا عِنْده أنظر فِي خريقتي شَيْء فَنَظَرت فَإِذا فِيهَا دِرْهَم فَقَالَ وَجه فاقتضي بعض السكان فوجهت فَأعْطيت شَيْئا فَقَالَ وَجه فاشتر تَمرا وَكفر عني كَفَّارَة يَمِين فوجهت فاشتريت وكفرت عَنهُ كَفَّارَة يَمِين وَبَقِي ثَلَاثَة دَرَاهِم أَو نَحْو ذَلِك فَأَخْبَرته فَقَالَ الْحَمد لله
وَقَالَ اقْرَأ على الْوَصِيَّة فقرأتها عَلَيْهِ فأقرها
وَقَالَ أَبُو الْفضل لم يزل أبي يُصَلِّي فِي مَرضه قَائِما أمْسكهُ فيركع وَيسْجد ورافعه فِي رُكُوعه وَسُجُوده وَدخل عَلَيْهِ مُجَاهِد بن مُوسَى فَقَالَ يَا ابا عبد الله قد جاءتك الْبُشْرَى هَذَا الْخلق يشْهدُونَ لَك مَا تبالي لَو وَردت على الله عز وَجل السَّاعَة وَجعل يقبل يَده ويبكي وَجعل يَقُول أوصني يَا أَبَا عبد الله فَأَشَارَ إِلَى لِسَانه
وَدخل سوار القَاضِي فَجعل يبشره ويخبره بالرخص وَذكر لَهُ عَن مُعْتَمر أَنه قَالَ قَالَ أبي عِنْد مَوته حَدثنِي بالرخص
وَاجْتمعت عَلَيْهِ أوجاع الْحصْر وَغير ذَلِك وَلم يزل عقله ثَابتا وَهُوَ فِي خلال ذَلِك يَقُول كم الْيَوْم فِي الشَّهْر فَأخْبرهُ وَكنت أَنَام بِاللَّيْلِ إِلَى جنبه فَإِذا أَرَادَ حَاجَة حركني فأناوله وَقَالَ لي جئني بِالْكتاب الَّذِي فِيهِ حَدِيث ابْن إِدْرِيس عَن لَيْث عَن طَاوُوس أَنه كَانَ يكره الانين فَقَرَأته عَلَيْهِ فَلم يَئِن إِلَّا فِي اللَّيْلَة الَّتِي توفّي فِيهَا

(1/127)


بَاب فِي ذكر غسله وكفنه
قَالَ أَبُو الْفضل لما توفّي أبي وَاجْتمعَ النَّاس فِي الشوارع وجهت إِلَيْهِم أعلمهم بوفاته وَإِنِّي أخرجه بعد الْعَصْر وَوجه ابْن أبي طَاهِر بحاجبه مظفر وَمَعَهُ غلامان مَعَهم مناديل فِيهَا ثِيَاب وَطيب فَقَالُوا الْأَمِير يُقْرِئك السَّلَام وَيَقُول قد فعلت مَا لَو كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ حاضره كَانَ يفعل ذَلِك لَهُ فَقلت لَهُ أقرأه السَّلَام وَقل لَهُ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أَعْفَاهُ فِي حَيَاته مِمَّا كَانَ يكره وَلَا احب أَن أتبعه بعد مَوته بِمَا كَانَ يكرههُ فِي حَيَاته فَعَاد وَقَالَ يكون شعاره وَلَا يكون دثاره فَأَعَدْت عَلَيْهِ مثل ذَلِك
وَقد كَانَ غزلت لَهُ جَارِيَة ثوبا عشاريا قوم ثَمَانِيَة وَعشْرين درهما ليقطع مِنْهُ قميصين فقطعنا لَهُ لفافتين واخذنا من بوران لفافة أُخْرَى فأدرجناه فِي ثَلَاث لفائف واشترينا حنوطا
وَقد كَانَ بعض أَصْحَابنَا من العطارين سَأَلَني أَن يُوَجه بحنوط فَلم أفعل وصب فِي حب لنا مَاء فَقلت قُولُوا لأبي مُحَمَّد يَشْتَرِي رِوَايَة وَيصب المَاء فِي الْحبّ الَّذِي كَانَ يشرب مِنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يكره أَن يدْخل من مَنَازلنَا إِلَيْهِ بِشَيْء وَفرغ من غسله وكفناه وَحضر نَحْو من مائَة من بني هَاشم وَنحن نكفنه وَجعلُوا يقبلُونَ جَبهته حِين رفعناه على السرير

(1/128)


بَاب فِي ذكر الْمُتَقَدّم للصَّلَاة عَلَيْهِ

قَالَ أَبُو الْفضل لما توفّي أبي وَجه إِلَيّ ابْن طَاهِر من يُصَلِّي عَلَيْهِ قلت أَنا فَلَمَّا صرنا إِلَى الصَّحرَاء إِذا ابْن طَاهِر وَاقِف فخطا إِلَيْنَا خطوَات وعزانا وَوضع السرير فَلَمَّا انتظرت هنيهة تقدّمت وَجعلت أسوي النَّاس فَجَاءَنِي ابْن طالوت وَمُحَمّد فَقبض هَذَا عل يَدي وَهَذَا على يَدي وَقَالُوا الْأَمِير فمانعتهم فنحياني فصلى وَلم يعلم النَّاس بذلك فَلَمَّا كَانَ الْغَد علم النَّاس فَجعلُوا يجيئون وَيصلونَ عَلَيْهِ على الْقَبْر وَمكث النَّاس مَاء شَاءَ الله يأْتونَ فيصلون على الْقَبْر تمّ الْكتاب
وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين

(1/129)