سيرة الإمام أحمد بن حنبل

الْجُزْء الثَّانِي

(1/87)


بَاب ذكر وُرُود كتاب المتَوَكل إِلَى عبد الله بن إِسْحَاق فِي سَبَب الْعلوِي الَّذِي طلبه

اُخْبُرْنَا الْأُسْتَاذ الإِمَام أَبُو عُثْمَان إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن الصَّابُونِي رَضِي الله عَنهُ قِرَاءَة عَلَيْهِ قدم علينا دمشق فِي رَجَب سنة اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة قَالَ اُخْبُرْنَا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن احْمَد المخلدي رَضِي الله عَنهُ قَالَ اُخْبُرْنَا أَبُو بكر عبد الله الاسفرايني قَالَ سَمِعت أَبَا الْفضل صَالح بن احْمَد يَقُول
لما توفّي إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَولى ابْنه مُحَمَّد بن عبد الله بن إِسْحَاق كتب المتَوَكل إِلَيْهِ أَن وَجه إِلَى احْمَد بن حَنْبَل أَن عنْدك طلبة أَمِير الْمُؤمنِينَ فوجهه بحاجبه مظفر وَحضر صَاحب الْبَرِيد وَكَانَ يعرف بِابْن الْكَلْبِيّ وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا
قَالَ مظفر يَقُول لَك الْأَمِير قد كتب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن عنْدك طلبته
وَقَالَ لَهُ ابْن الْكَلْبِيّ مثل ذَلِك وَكَانَ قد نَام النَّاس فدق الْبَاب وَكَانَ على أبي ازار فَفتح لَهُم الْبَاب وقعدوا على بَابه وَمَعَهُمْ شَيْء فَلَمَّا قرئَ عَلَيْهِ الْكتاب

(1/93)


فَقَالَ لَهُم أبي مَا اعرف هَذَا واني لارى طَاعَته فِي الْعسر واليسر والمنشط وَالْمكْره والاثرة
واني لاسف عَن تخلفي عَن الصَّلَاة جمَاعَة وَعَن حُضُور الْجُمُعَة ودعوة الْمُسلمين
قَالَ أَبُو الْفضل وَقد كَانَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَجه إِلَى أبي
الزم بَيْتك وَلَا تخرج إِلَى جُمُعَة وَلَا جمَاعَة وَإِلَّا نزل بك مَا نزل بك فِي أَيَّام أبي إِسْحَاق
قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ قد امرني أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أحلفك مَا عنْدك طلبة فتحلف
قَالَ إِن استحلفني حَلَفت _ فاحلفه بِاللَّه وبالطلاق أَن مَا عنْدك طلبة أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَأَنَّهُم اومأوا إِلَيّ أَن عِنْده علويا ثمَّ قَالَ لَهُ أُرِيد أَن أفتش مَنْزِلك _
قَالَ أَبُو الْفضل وَكنت حَاضرا فَقَالَ ومنزل ابْنك
فَقَامَ مظفر وَابْن الْكَلْبِيّ وَامْرَأَتَانِ مَعَهُمَا فدفلا فَفَتَّشَا الْبَيْت ثمَّ فتشتا الْمَرْأَتَانِ النِّسَاء

(1/94)


وَقَالَ أَبُو الْفضل ثمَّ دخلُوا إِلَى منزلي ففتشوا الْحَرِيم ثمَّ خَرجُوا
فَلَمَّا كَانَ بعد يَوْمَيْنِ ورد كتاب عَليّ بن الجهم أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد صَحَّ عِنْده براءتك مِمَّا قذفت بِهِ وَقد كَانَ أهل الْبدع قد مدوا أَعينهم فَالْحَمْد لله الَّذِي لم يشمتهم بك وَقد وَجه إِلَيْك أَمِير الْمُؤمنِينَ بِيَعْقُوب الْمَعْرُوف بقوصرة وَمَعَهُ جَائِزَة ويأمرك بِالْخرُوجِ فَالله الله أَن تستعفي أَو ترد المَال

(1/95)


بَاب ذكر وُرُود كتاب المتَوَكل إِلَى أبي وَمَعَهُ الْجَائِزَة وبأشخاصه إِلَى المعسكر

قَالَ أَبُو الْفضل ثمَّ ورد من الْغَد يَعْقُوب قوصرة فَدخل إِلَى أبي فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عبد الله أَمِير الْمُؤمنِينَ يقرا عَلَيْك السَّلَام وَيَقُول قد صَحَّ عندنَا نقاء ساحتك وَقد أَحْبَبْت أَن اسر بقربك واتبرك بدعائك وَقد وجهت إِلَيْك عشرَة الآف دِرْهَم مَعُونَة على سفرك واخرج بدرة فِيهَا صرة نَحْو مِائَتي دِينَار وَالْبَاقِي دَرَاهِم صِحَاح فَلم ينظر إِلَيْهَا ثمَّ شدها يَعْقُوب وَقَالَ لَهُ أَعُود غَدا حَتَّى انْظُر مَا تعزم عَلَيْهِ _ وَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عبد الله الْحَمد لله الَّذِي لم يشمت بك أهل الْبدع وَانْصَرف فَجئْت بإجانة خضراء أكبها على البدرة فَلَمَّا كَانَ عِنْد الْمغرب قَالَ يَا صَالح خُذ هَذِه الصرة عنْدك فصيرتها عِنْد رَأْسِي فَوق الْبَيْت فَلَمَّا كَانَ سحرًا إِذْ هُوَ يُنَادي يَا صَالح فَقُمْت فَصَعدت إِلَيْهِ
فَقَالَ يَا صَالح مَا نمت لَيْلَتي هَذِه _
فَقلت لَهُ يَا أبه لم _ فَجعل يبكي وَقَالَ سلمت من هَؤُلَاءِ حَتَّى إِذا كَانَ فِي أخر عمري بليت بهم وَقد عزمت على أَن تفرق هَذَا الشَّيْء إِذا أَصبَحت فَقلت ذَلِك إِلَيْك فَلَمَّا اصبح جَاءَهُ الْحسن بن الْبَزَّار فَقَالَ

(1/96)


يَا صَالح جئني بميزان وجهوا إِلَى أَبنَاء الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار ثمَّ قَالَ وَجه إِلَى فلَان حَتَّى يفرق فِي ناحيته وَإِلَى فلَان فَلم يزل حَتَّى فرقها كلهَا ونفض الْكيس وَنحن فِي حَالَة الله بهَا عليم فَجَاءَنِي ابْن لي فَقَالَ لَهُ يَا ابه أَعْطِنِي درهما فَنظر إِلَيّ فأخرجت قِطْعَة أَعْطيته فَكتب صَاحب الْبَرِيد انه تصدق بِالدَّرَاهِمِ من يَوْمه حَتَّى تصدق بالكيس قَالَ عَليّ بن الجهم فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد تصدق بهَا وَعلم النَّاس انه قد قبل مِنْك مَا يصنع احْمَد بِالْمَالِ _ وانما قوته رغيف
قَالَ فَقَالَ لي صدقت يَا عَليّ

(1/97)


بَاب مسير أبي عبد الله الْعَسْكَر

قَالَ أَبُو الْفضل ثمَّ أخرج أبي رَحمَه الله لَيْلًا ومعنا حراس مَعَهم النفاطات فَلَمَّا اصبح واضاء الْفجْر قَالَ لي يَا صَالح مَعَك دَرَاهِم قلت نعم قَالَ أعطهم _ فأعطيتهم درهما درهما فَلَمَّا أَصْبَحْنَا جعل يَعْقُوب يسير مَعَه فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عبد الله ابْن الثَّلْجِي بَلغنِي انه كَانَ يذكرك
فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا يُوسُف سل الله الْعَافِيَة
فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عبد الله أُرِيد أَن أودي عَنْك فِيهِ رِسَالَة إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فَسكت
فَقَالَ لَهُ إِن عبد الله بن إِسْحَاق اخبرني أَن الوابصى قَالَ لَهُ أَنِّي اشْهَدْ عَلَيْهِ انه قَالَ إِن احْمَد يعبد ماني

(1/98)


فَقَالَ يَا أَبَا يُوسُف يَكْفِي الله
فَغَضب يَعْقُوب فَالْتَفت إِلَيّ فَقَالَ مَا رَأَيْت اعْجَبْ مِمَّا نَحن فِيهِ أسأله أَن يُطلق لي كلمة اخبر أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَا يفعل
قَالَ أَبُو الْفضل وَقصر أبي الصَّلَاة فِي خُرُوجه إِلَى الْعَسْكَر وَقَالَ تقصر الصَّلَاة فِي أَرْبَعَة برد وَهِي سِتَّة عشر فرسخا فَصليت يَوْمًا بِهِ الْعَصْر فَقَالَ لي طولت بِنَا الْعَصْر تقْرَأ فِي الرَّكْعَة مِقْدَار خَمْسَة عشرَة آيَة وَكنت اصلي بِهِ فِي الْعَسْكَر
قَالَ أَبُو الْفضل فَلَمَّا صرنا بَين الحائطين قَالَ لنا يَعْقُوب أقِيمُوا ثمَّ وَجه إِلَى المتَوَكل بِمَا عمل فَدَخَلْنَا الْعَسْكَر وَأبي منكس الرَّأْس وَرَأسه مغطى فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب اكشف رَأسك يَا أَبَا عبد الله فكشفه ثمَّ جَاءَ وصيف يُرِيد الدَّار فَلَمَّا نظر إِلَى النَّاس وجمعهم قَالَ مَا هَؤُلَاءِ _ قَالُوا احْمَد بن حَنْبَل
فَوجه إِلَيْهِ بعد مَا جَازَ بِيَحْيَى بن هرثمة فَقَالَ يُقْرِئك الْأَمِير يُقْرِئك السَّلَام وَيَقُول الْحَمد لله الَّذِي لم يشمت بك أهل الْبدع قد علمت مَا كَانَ من حَال ابْن أبي دؤاد فَيَنْبَغِي أَن تَتَكَلَّم بِمَا يجب لله وَمضى يحيى

(1/99)


بَاب مقَام أبي عبد الله فِي الْعَسْكَر

قَالَ أَبُو الْفضل انْزِلْ أبي دَار ايتاخ فجَاء عَليّ بن الجهم فَقَالَ قد أَمر لكم أَمِير الْمُؤمنِينَ بِعشْرَة الآف مَكَان الَّتِي فرقها وامر أَن لَا يعلم شيخكم بذلك فيغتم ثمَّ جَاءَهُ مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة فَقَالَ إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ بكثر ذكرك وَيَقُول تقيم هَا هُنَا تحدث
فَقَالَ أَنا ضَعِيف ثمَّ وضع أُصْبُعه على بعض أَسْنَانه فَقَالَ إِن بعض أسناني يَتَحَرَّك وَمَا أخْبرت بذلك وَلَدي
ثمَّ وَجه إِلَيْهِ فَقَالَ مَا تَقول فِي بهيمتين انتطحتا فعقرت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى فَسَقَطت فذبحت
فَقَالَ إِن كَانَ أطرف بِعَيْنِه ومصع بِذَنبِهِ وسال دَمه يُؤْكَل قَالَ أَبُو الْفضل ثمَّ صَار إِلَيْهِ يحيى بن خاقَان فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله قد أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أصير إِلَيْك لتركب إِلَى أبي عبد الله ثمَّ قَالَ لي امرني أَن قطع لَهُ سوادا وطليسانا وقلنسوة فَأَي قلنسوة تلبس
فَقلت لَهُ مَا رَأَيْته لبس قلنسوة قطّ فَقَالَ لَهُ إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أَمر ان يصير لَك مرتبَة فِي أَعلَى الْمَرَاتِب

(1/100)


وَيصير أَبُو عبد الله فِي حجرك ثمَّ قَالَ قد امرني أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يجْرِي عَلَيْكُم وعَلى قرأباتك أَرْبَعَة الآف دِرْهَم تفرقها عَلَيْهِم ثمَّ أعَاد يحيى من الْغَد فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله تركب _
قَالَ ذَاك إِلَيْكُم فَقَالَ استخير الله فَلبس إزَاره وخفيه وَقد كَانَ خفه قد أَتَى عِنْده نَحْو من خَمْسَة عشر سنة قد رقع برقاع عدَّة
فَأَشَارَ يحيى إِلَى أَن يلبس قلنسوة
فَقَالَ كَيفَ يدْخل عَلَيْهِ حاسرا وَيحيى قَائِم فطلبنا لَهُ دَابَّة يركبهَا فَقَالَ يحيي يُصَلِّي فَجَلَسَ على التُّرَاب وَقَالَ {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم} ثمَّ ركب بغل بعض التُّجَّار فمضينا مَعَه حَتَّى أَدخل دَار المعتز فاجلس فِي بَيت الدهليز ثمَّ جَاءَ يحيي فَأخذ بِيَدِهِ حَتَّى ادخله وَرفع لنا السّتْر وَنحن نَنْظُر
وَكَانَ المعتز قَاعِدا على دكان فِي الدَّار وَكَانَ قد تقدم يحيى إِلَيْهِ فَقَالَ لَا تمد يدك إِلَيْهِ فَلَمَّا صعد الدّكان قعد

(1/101)


فَقَالَ لَهُ يحيى يَا أَبَا عبد الله إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ جَاءَ ليأنس بقربك يصير أَبَا عبد الله فِي حجرك
فاخبرني بعض الخدم أَن المتَوَكل كَانَ قَاعِدا وَرَاء ستر فَلَمَّا دخل الدَّار قَالَ لامه يَا أُمَّاهُ قد أنارت الدَّار
ثمَّ جَاءَ خَادِم بمناديل فاخذ يحيى المنديل واخرج مِنْهُ مبطنه فِيهَا قَمِيص فَادْخُلْ يَده فِي جيب الْقَمِيص والمبطنة ثمَّ أَخذ بيد أبي فأقامه ثمَّ أَدخل الْقَمِيص والمبطنة فِي راسة ثمَّ ادخل يَده الْيُمْنَى وَكَذَلِكَ الْيَسَار وَهُوَ لَا يُحَرك يَده ثمَّ اخذ قلنسوة فوضعها على رَأسه والبسه طيلسانا ولحفه بِهِ وَلم يجيئوا بخف فَبَقيَ الْخُف عَلَيْهِ ثمَّ انْصَرف وَكَانُوا قد تحدثُوا انه لَا يخلع عَلَيْهِ السوَاد فَلَمَّا صَار إِلَى الدَّار نزع الثِّيَاب عَنهُ ثمَّ جعل يبكي ثمَّ قَالَ سلمت من هَؤُلَاءِ مُنْذُ سِتِّينَ سنة حَتَّى إِذا كَانَ اخر عمري بليت بهم مَا احسبني سلمت من دخولي على هَذَا الْغُلَام فَكيف بِمن يجب عَليّ نصحه من وَقت يَقع عَيْني عَلَيْهِ إِلَى أَن أخرج من عِنْده _
ثمَّ قَالَ يَا صَالح وَجه بِهَذِهِ الثِّيَاب إِلَى بَغْدَاد يُبَاع وَيتَصَدَّق بِثمنِهَا وَلَا يَشْتَرِي أحد مِنْكُم مِنْهَا شَيْئا
قَالَ أَبُو الْفضل فوجهت بهَا إِلَى يَعْقُوب بن بحتان فَبَاعَهَا وَفرق

(1/102)


ثمنهَا وَبقيت عِنْدِي القلنسوة ثمَّ اُخْبُرْنَا الدَّار الَّتِي هُوَ فِيهَا ايتاخ فَقَالَ اكْتُبْ رقْعَة إِلَى مُحَمَّد بن الْجراح لتعفي لي من هَذِه الدَّار فكتبنا رقْعَة فامر المتَوَكل أَن يُعْفَى مِنْهَا وَوجه إِلَى قوم لِيخْرجُوا مَنَازِلهمْ فَسَأَلَ أَن يُعْفَى من ذَلِك واكتريت لَهُ دَار بِمِائَتي دِرْهَم فَصَارَ إِلَيْهَا واجرى لنا مائدة وثلج وَضرب الحنيش فَلَمَّا رأى الحنيش والطبري نحى نَفسه عَن ذَلِك الْموضع والقى نَفسه على مضربة لَهُ واشتكت عينه وبرئت قَالَ أَلا تعجب كَانَ عَيْني تَشْتَكِي فَمَكثَ حِين حَتَّى يبرا ثمَّ قد بَرِئت فِي سرعَة وَجعل يواصل يفْطر فِي كل ثَلَاث على تمر وَسَوِيق فَمَكثَ بذلك خمس عشر يفْطر فِي كل ثَلَاث ثمَّ جعل بعد ذَلِك يفْطر لَيْلَة وَلَيْلَة لَا يفْطر إِلَّا على رغيف وَكَانَ إِذا جىء بالمائدة تُوضَع فِي الدهليز لكَي لَا يَرَاهَا فيأكل من حضر وَكَانَ إِذا أجهده الْحر بل خرقَة فَيَضَعهَا على صَدره وَفِي كل يَوْم يُوَجه المتَوَكل إِلَيْهِ بِابْن ماسويه فَينْظر إِلَيْهِ _ وَيَقُول لَهُ يَا أَبَا عبد الله أَنا أميل إِلَيْك وَإِلَى أَصْحَابك وَمَا بك عِلّة إِلَّا الضعْف وَقلة الدَّد
فَقَالَ لَهُ ابْن ماسويه أَنا امرنا عبادنَا بِأَكْل دهن الْخلّ فانه يلين وَجعل يَجِيئهُ بالشَّيْء ليشربه فيصبه
وَقطع لَهُ يحيى دراعة وطليسانا سوادا

(1/103)


وَجعل يَعْقُوب وعتاب يصيران إِلَيْهِ فَيَقُولَانِ لَهُ يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا تَقول فِي ابْن دؤاد فِي مَاله _ فَلَا يُجيب فِي ذَلِك
وَجعل يَعْقُوب وعتاب يخبرانه بِمَا يحدث من أَمر ابْن أبي دؤاد فِي كل يَوْم ثمَّ انحدر ابْن أبي دؤاد إِلَى بَغْدَاد فاشهد عَلَيْهِ بِبيع ضياعة وَكَانَ رُبمَا صَار إِلَيْهِ يحيى بن خاقَان وَهُوَ يُصَلِّي فيجلس فِي الدهليز حَتَّى يفرغ ويجىء عَليّ بن الجهم فينزع سَيْفه وقلنسوته وَيدخل عَلَيْهِ وامر المتَوَكل أَن يَشْتَرِي لنا دَارا
فَقَالَ يَا صَالح قلت لبيْك لَئِن أَقرَرت لَهُم بشرَاء دَار ليَكُون القطيعة بيني وَبَيْنكُم إِنَّمَا تُرِيدُونَ أَن تصيروا هَذَا الْبَلَد لي مأوى ومسكنا _
فَلم يزل يدْفع شِرَاء الدَّار حَتَّى انْدفع وَصَارَ إِلَى صَاحب الْمنزل فَقَالَ أُعْطِيك كل شهر ثَلَاثَة آلَاف مَكَان الْمَائِدَة _ فَقلت لَا افْعَل
وَجعلت رسل المتَوَكل تَأتيه يسألونه عَن خَبره فيصيرون إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ لَهُ هُوَ ضَعِيف وَفِي خلال ذَلِك يَقُولُونَ يَا أَبَا عبد الله لَا بُد من أَن يراك فيسكت فَإِذا خَرجُوا قَالَ إِلَّا تعجب من قَوْله لَا بُد من أَن يراك وَمَا عَلَيْهِم من أَن يراني _
وَكَانَ فِي هَذِه الدَّار حجرَة صَغِيرَة فِيهَا بيتان فَقَالَ أدخلوني تِلْكَ الْحُجْرَة وَلَا تسرجوا سِرَاجًا فأدخلناه إِلَيْهَا فَجَاءَهُ يَعْقُوب فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله أَمِير الْمُؤمنِينَ مشتاق إِلَيْك وَيَقُول

(1/104)


انْظُر إِلَى الْيَوْم الَّذِي تصير إِلَيْهِ فِيهِ أَي يَوْم هُوَ حَتَّى اعرفه _ فَقَالَ ذَاك إِلَيْكُم فَقَالَ يَوْم الْأَرْبَعَاء يَوْم خَال وَخرج يَعْقُوب فَلَمَّا كَانَ الْغَد جَاءَ فَقَالَ الْبُشْرَى يَا أَبَا عبد الله أَمِير الْمُؤمنِينَ يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام وَيَقُول قد أعفيتك من لبس السوَاد وَالرُّكُوب إِلَى وَالِي وُلَاة العهود وَإِلَى الدَّار فان شِئْت فالبس الْقطن وان شِئْت فالبس الصُّوف فَجعل يحمد الله على ذَلِك د
وَقَالَ لَهُ يَعْقُوب إِن لي ابْنا وَأَنا معجب وَله فِي قلبِي موقع فاحب أَن تحدثه بِأَحَادِيث فَسكت
فَلَمَّا خرج قَالَ أتراه لَا يرى مَا أَنا فِيهِ
قَالَ أَبُو الْفضل كَانَ أبي يخْتم من جُمُعَة إِلَى جُمُعَة فَإذْ ختم دَعَا فيدعو ونؤمن على دُعَائِهِ فَلَمَّا كَانَ غَدَاة الْجُمُعَة وَجه إِلَيّ وَإِلَى أخي عبد الله فَلَمَّا أَن ختم جعل يَدْعُو ونؤمن على دُعَائِهِ فَلَمَّا فرغ جعل يَقُول أستخير الله مرَارًا فَجعلت أَقُول مَا تُرِيدُ _
ثمَّ قَالَ إِنِّي أعطي الله عهدا أَن الْعَهْد كَانَ مسئولا وَقد قَالَ الله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ} إِنِّي لَا أحدث حَدِيثا تَاما حَتَّى ألْقى الله وَلَا اسْتثْنِي مِنْكُم أحدا فخرجنا وَجَاء عَليّ بن الجهم فَقُلْنَا لَهُ فَقَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فَأخْبر المتَوَكل بذلك
وَقَالَ إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَن أحدث فَيكون هَذَا الْبَلَد حبسي وَإِنَّمَا كَانَ

(1/105)


سَبَب الَّذين أَقَامُوا بِهَذَا الْبَلَد لما أعْطوا فقبلوا وَأمرُوا فَحَدثُوا وَكَانَ يخيرونه فَيتَوَجَّه لذَلِك وَجعل يَقُول وَالله لقد تمنيت الْمَوْت فِي الْأَمر الَّذِي كَانَ وَإِنِّي لأتمنى الْمَوْت فِي هَذَا وَذَاكَ إِن هَذَا فتْنَة الدُّنْيَا وَكَانَ ذَاك فتْنَة الدّين ثمَّ جعل يضم أَصَابِع يَده وَيَقُول لَو كَانَت نَفسِي فِي يَدي لأرسلتها ثمَّ يفتح أَصَابِعه وَكَانَ المتَوَكل يُوَجه إِلَيْهِ فِي كل وَقت يسْأَل عَن حَاله وَكَانَ فِي خلال ذَلِك يُؤمر لنا بِالْمَالِ فَيَقُول يُوصل إِلَيْهِم وَلَا يعلم شيخهم فيغتم مَا يُرِيد مِنْهُم إِن كَانَ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ الدُّنْيَا فَمَا يمنعهُم
وَقَالَ للمتوكل إِنَّه - كَانَ - لَا يَأْكُل من طَعَامك وَلَا يجلس على فرشك وَيحرم الَّذِي تشرب فَقَالَ لَهُم لَو نشر لي المعتصم لم أقبل مِنْهُ

(1/106)


بَاب خطاب أبي عبد الله إِلَيّ بِعَدَمِ الْخُرُوج إِلَيْهِ

قَالَ أَبُو الْفضل ثمَّ إِنِّي انحدرت إِلَى بَغْدَاد وخلفت عبد الله عِنْده فَإِذا عبد الله قد قدم وَجَاء بثيابي الَّتِي كَانَت عِنْده فَقلت مَا جَاءَ بك قَالَ قَالَ لي انحدر وَقَالَ لصالح لَا تخرج فَأنْتم كُنْتُم افتي وَالله لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا أخرجت مِنْكُم وَاحِدًا معي لَوْلَا مَكَانكُمْ لمن كَانَ تُوضَع هَذِه الْمَائِدَة وَلمن كَانَ يفرش هَذَا الْفرش وَيجْرِي هَذَا الإجراء
قَالَ أَبُو الْفضل فَكتبت إِلَيْهِ اعلمه بِمَا قَالَ لي عبد الله فَكتب إِلَيّ بِخَطِّهِ
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

احسن الله عاقبتك وَدفع عَنْك كل مَكْرُوه ومحذور الَّذِي حَملَنِي على الْكتاب إِلَيْك وَالَّذِي قلت لعبد الله لَا يأتيني أحدا وَرُبمَا يَنْقَطِع ذكري ونحمل فَإِنَّكُم إِذا كُنْتُم هَا هُنَا فَشَا ذكري وَكَانَ يجْتَمع إِلَيْك قوم ينقلون أخبارنا وَلم يكن إِلَّا خيرا
وَاعْلَم يَا بني إِن أَقمت فَلَا تأت أَنْت وَلَا أَخُوك فَهُوَ رضائي فَلَا تجْعَل فِي نَفسك إِلَّا خيرا وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته
قَالَ أَبُو الْفضل ثمَّ ورد إِلَيّ كتاب آخر يذكر فِيهِ

(1/107)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
احسن الله عاقبتك وَدفع عَنْك السوء برحمته كتأبي إِلَيْك وَأَنا فِي نعْمَة من الله متظاهرة اسأله إِتْمَامهَا والعون على أَدَاء شكرها قد انفكت عَنْهَا عقدَة لما كَانَ حبس من هَا هُنَا لما أَعْطوهُ فقبلوا واجرى عَلَيْهِم فصاروا فِي الْحَد الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ وَحَدثُوا ودخلوا عَلَيْهِم فَهَذِهِ كَانَت قيودهم فنسال الله أَن يعيذنا من شرهم ويخلصنا فقد كَانَ يَنْبَغِي لكم لَو قربتموني بأموالكم وأهاليكم فهان ذَلِك عَلَيْكُم للَّذي أَنا فِيهِ فَلَا يكبر عَلَيْك مَا أكتب بِهِ إِلَيْكُم فالزموا بُيُوتكُمْ فَلَعَلَّ الله تَعَالَى أَن يخلصني وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله
ثمَّ ورد غير كتاب إِلَيّ بِخَطِّهِ بِنَحْوِ من هَذَا فَلَمَّا خرجنَا من المعسكر رفعت الْمَائِدَة والفرش وكل مَا كَانَ أقيم لنا

(1/108)


بَاب وَصِيَّة أبي عبد الله رَحمَه الله

قَالَ أَبُو الْفضل وَأوصى وَصيته بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا مَا أوصى بِهِ احْمَد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل أوصى أَنه يشْهد أَن لَا اله إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وان مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أرْسلهُ بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ
وَأوصى من أطاعه من أَهله وقرابته أَن يعبدوا الله فِي العابدين ويحمدوه فِي الحامدين وان ينصحوا لجَماعَة الْمُسلمين
وَأوصى أَنِّي قد رضيت بِاللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دينا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَبيا
وَأوصى أَن لعبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف ببوران على نَحْو من خمسين دِينَارا وَهُوَ مُصدق فِيمَا قَالَ فَيقْضى مَاله عَليّ من غلَّة الدَّار إِن شَاءَ الله فَإِذا استوفى أعْطى وَلَدي صَالح وَعبد الله إبنا احْمَد بن مُحَمَّد ابْن حَنْبَل كل ذكر وَأُنْثَى عشرَة دَرَاهِم بعد وَفَاء مَا عَليّ لِابْنِ مُحَمَّد
شهد أَبُو يُوسُف وَصَالح وَعبد الله ابْنا أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل

(1/109)


بَاب ذكر إِذن أَمِير الْمُؤمنِينَ لأبي عبد الله رَحمَه الله بالعودة

قَالَ أَبُو الْفضل ثمَّ سَالَ أبي أَن يحول من الدَّار الَّتِي اكتريت لَهُ فاكترى هُوَ دَارا وتحول إِلَيْهَا فَسَالَ المتَوَكل عَنهُ فَقيل انه عليل فَقَالَ كنت احب أَن يكون فِي قربي وَقد أَذِنت لَهُ يَا عبيد الله احْمِلْ إِلَيْهِ ألف دِينَارا ينفقها وَقَالَ لسَعِيد تهيىء لَهُ حراقة ينحدر فِيهَا
فَجَاءَهُ عَليّ بن الجهم فِي جَوف اللَّيْل فاخبره ثمَّ جَاءَ عبيد الله وَمَعَهُ ألف دِينَار فَقَالَ إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أذن لَك وَقد أَمر لَك بِهَذِهِ الْألف دِينَار فَقَالَ قد أعفاني أَمِير الْمُؤمنِينَ مِمَّا اكره فَردهَا وَقَالَ أَنا رَقِيق على الْبرد وَالْبر ارْفُقْ بِي
فَكتب إِلَيّ مُحَمَّد بن عبد الله فِي بره وتعاهده

(1/110)


بَاب ذكر مَا جرى بَين أبي وبيني وَعبد الله وَعَمه حِين قبلنَا صلَة السُّلْطَان

فَقدم علينا فِيمَا بَين الظّهْر وَالْعصر فَلَمَّا انحدر إِلَى بَغْدَاد وَمكث قَلِيلا قَالَ لي يَا صَالح قلت لبيْك قَالَ احب أَن تدع هَذَا الرزق فَلَا تَأْخُذهُ وَلَا توكل فِيهِ أحدا فقد علمت أَنكُمْ إِنَّمَا تأخذونه بسببي فَسكت
فَقَالَ مَالك فَقلت اكره أَن أُعْطِيك شَيْئا بلساني واخالف الى غَيره فاكون قد كذبتك ونافقتك وَلَيْسَ فِي الْقَوْم اكثر عيالا مني وَلَا اعذر وَقد كنت أَشْكُو إِلَيْك فَتَقول أَمرك مُنْعَقد بأَمْري وَلَعَلَّ الله أَن يحل هَذِه الْعقْدَة ثمَّ قلت لَهُ وَقد كنت تَدْعُو لي فأرجوا أَن يكون الله قد اسْتَجَابَ لَك
قَالَ وَلَا تفعل قلت لَا
قَالَ قُم فعل الله بك وَفعل فَأمر بسد الْبَاب بيني وَبَينه
فتلقاني عبد الله فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرته فَقَالَ مَا أَقُول
قلت ذَاك إِلَيْك فَقَالَ لَهُ مثل مَا قَالَ لي فَقَالَ لَا افْعَل
فَكَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ نَحْو مَا كَانَ مِنْهُ إِلَيّ فلقينا عَمه فَقَالَ لَو أردتم أَن تَقولُوا لَهُ وَمَا علمه إِذا أَخَذْتُم شَيْئا

(1/111)


فَدخل عَلَيْهِ فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله لست اخذ شَيْئا من هَذَا
فَقَالَ الْحَمد لله وهجرنا وسد الْأَبْوَاب بَيْننَا وَبَينه وتحامى منزلنا أَن يدْخل مِنْهُ إِلَى منزله شَيْء
قَالَ أَبُو الْفضل فَلَمَّا مضى نَحْو من شَهْرَيْن كتب لنا بِشَيْء فجيء بِهِ إِلَيْنَا فَأول من جَاءَ عَمه فاخذ فاخبر فجَاء إِلَى الْبَاب الَّذِي كَانَ سَده بيني وَبَينه وَقد كَانَ فتح الصّبيان كوَّة فَقَالَ ادعوا لي صَالحا
فجَاء الرَّسُول وَقلت لَهُ أجيء فَوجه إِلَيّ لم لَا تَجِيء _ فَقلت قل لَهُ هَذَا الرزق يرتزقه جمَاعَة كَثِيرَة وانما أَنا وَاحِد مِنْهُم وَلَيْسَ فيهم اعذر مني وَإِذا كَانَ توبيخ خصصت بِهِ أَنا فَمضى فَلَمَّا نَادَى عَمه بِالْأَذَانِ خرج فَلَمَّا خرج قيل لي انه قد خرج إِلَى الْمَسْجِد فَجئْت حَتَّى صرت فِي مَوضِع اسْمَع فِيهِ كَلَامه فَلَمَّا فرغ من الصَّلَاة الْتفت إِلَى عَمه ثمَّ قَالَ لَهُ نافقتني وكذبتني وَكَانَ غَيْرك اعذر مِنْك زعمت انك لَا تَأْخُذ من هَذَا شَيْئا ثمَّ أَخَذته وَأَنت تستغل مِائَتي دِرْهَم وعمدت إِلَى طَرِيق الْمُسلمين تستغله إِنَّمَا أَنا أشْفق عَلَيْك أَن تطوق يَوْم الْقِيَامَة بِسبع أَرضين أخذت هَذَا الشَّيْء بِغَيْر حَقه
فَقَالَ _ قد تَصَدَّقت قَالَ تَصَدَّقت بِنصْف دِرْهَم
ثمَّ هجره وَترى الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد وَخرج إِلَى مَسْجِد خَارج يُصَلِّي

(1/112)


فِيهِ قَالَ صَالح وحَدثني أبي قَالَ حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ سَمِعت شَيخنَا يحدث قَالَ اسْتعْمل بعض أُمَرَاء الْبَصْرَة عبد الله بن مُحَمَّد بن وَاسع على الشرطة فآتاه مُحَمَّد بن وَاسع فَقيل للأمير مُحَمَّد الْبَاب فَقَالَ الْمُقَوّم ظنُّوا بِهِ فَقَالَ بَعضهم جَاءَ يشْكر للأمير اسْتعْمل ابْنه
فَقَالَ لَا وَلكنه جَاءَ يطْلب لِابْنِهِ الإعفاء أَو قَالَ الْعَافِيَة
قَالَ فَأذن لَهُ فَلَمَّا دخل قَالَ أَيهَا الْأَمِير بَلغنِي انك اسْتعْملت ابْني واني احب أَن تسترنا يسترك لله قَالَ قد أعفيناه يَا أَبَا عبد الله
قَالَ أَبُو الْفضل ثمَّ كتب لنا بِشَيْء فَبَلغهُ فجَاء إِلَى الكوة الَّتِي فِي الْبَاب فَقَالَ يَا صَالح انْظُر مَا كَانَ لِلْحسنِ عَليّ فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى بوران حَتَّى يتَصَدَّق بِهِ فِي الْموضع الَّذِي اخذ مِنْهُ فَقلت وَمَا علم بوران من أَي مَوضِع اخذ هَذَا _ فَقَالَ افْعَل مَا أَقُول لَك فوجهت بِمَا كَانَ أصابهما إِلَى بوران وَكَانَ إِذا بلغه أَنا قبضنا شَيْئا طوى تِلْكَ اللَّيْلَة فَلم يفْطر ثمَّ مكث اشهرا لَا ادخل إِلَيْهِ ثمَّ فتح الصّبيان الْبَاب _ ودخلوا غير أَنه لَا يدْخل إِلَيْهِ من منزلي شَيْء ثمَّ وجهت إِلَيْهِ
يَا أَبَت قد طَال هَذَا الْأَمر وَقد اشْتقت إِلَيْك فَسكت فَدخلت فأكببت عَلَيْهِ وَقلت لَهُ يَا أَبَت تدخل على نَفسك هَذَا الْغم فَقَالَ يَا بني يأتيني مَالا أملكهُ ثمَّ مكثنا مُدَّة لم تَأْخُذ شَيْئا ثمَّ كتب لنا بِشَيْء

(1/113)


فقبضناها فَلَمَّا بلغه هجرنا أشهرا فَكَلمهُ بوران وَوجه إِلَى بوران فَدخلت فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عبد الله صَالح يرضيك الله
فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّد وَالله لقد كَانَ أعز الْخلق عَليّ وَأي شَيْء أردْت لَهُ مَا أردْت لَهُ إِلَّا مَا أردْت لنَفْسي
فَقلت لَهُ يَا أَبَت وَمن رَأَيْت أَنْت أَو من لقِيت قوى على مَا قويت أَنْت عَلَيْهِ
قَالَ وتحتج عَليّ
قَالَ أَبُو الْفضل ثمَّ كتب أبي رَحمَه الله إِلَى يحيى بن خاقَان يسْأَله ويعزم عَلَيْهِ أَن لَا يعيننا على شَيْء من أرزاقنا وَلَا يتَكَلَّم فِيهِ فبلغني فوجهت إِلَى الْقيم لنا وَهُوَ ابْن غَالب بن بنت مُعَاوِيَة بن عَمْرو وَقد كنت قلت لَهُ يَا أَبَت انه يكبر عَلَيْك وَقد عزمت إِذا حدث أَمر أَخْبَرتك بِهِ فَلَمَّا وصل رَسُوله بِالْكتاب إِلَى يحيى أَخذه من صَاحب الْخَبَر قَالَ فَأخذت نسخته ووصلت إِلَى المتَوَكل فَقَالَ لعبد الله كم من شهر لولد احْمَد بن حَنْبَل _
فَقَالَ عشرَة اشهر قَالَ تحمل السَّاعَة إِلَيْهِم أَرْبَعُونَ ألف دِرْهَم من بَيت المَال صحاحا وَلَا يعلم بهَا
فَقَالَ يحيى للقيم أَنا اكْتُبْ إِلَى صَالح واعلمه فورد عَليّ كِتَابه فوجهت إِلَى أبي أعلمهُ فَقَالَ الَّذِي أخبرهُ أَنه سكت قَلِيلا وَضرب بذقنه

(1/114)


سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه فَقَالَ مَا حيلتي إِذا أردْت أمرا وَأَرَادَ الله أَمر
قَالَ أَبُو الْفضل وَجَاء رَسُول المتَوَكل إِلَى أبي يَقُول لَو سلم أحد من النَّاس سلمت رفع رجل إِلَى وَقت كَذَا أَن علويا قدم من خُرَاسَان وَأَنَّك وجهت إِلَيْهِ بِمن يلقاه وَقد حبست الرجل وَأَرَدْت ضربه وكرهت أَن تغتم فَمر فِيهِ
فَقَالَ هَذَا بَاطِل تخلى سَبيله
قَالَ وَكَانَ رَسُول المتَوَكل يَأْتِي أبي يبلغهُ السَّلَام ويسأله عَن حَاله فنسر نَحن بذلك فتأخذه نفضة حَتَّى ندثره وَيَقُول وَالله لَو أَن نَفسِي فِي يَدي لأرسلتها وَيضم أَصَابِعه ويفتحها

(1/115)


بَاب ذكر مَا ورد من سُؤال أَمِير الْمُؤمنِينَ المتَوَكل لأبي عبد الله فِي أَمر الْقُرْآن
قَالَ أَبُو الْفضل كتب عبيد الله بن يحيى إِلَى أبي يُخبرهُ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرنِي أَن اكْتُبْ إِلَيْك كتابا أَسأَلك من أَمر الْقُرْآن لَا مَسْأَلَة امتحان وَلَكِن مَسْأَلَة معرفَة وبصيرة فأملى عَليّ أبي - رَحمَه الله - إِلَى عبيد الله بن يحيى - وحدي مَا مَعنا أحد -
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

أحسن الله عاقبتك أَبَا الْحسن فِي الْأُمُور كلهَا وَدفع عَنْك مكاره الدُّنْيَا برحمته
قد كتبت إِلَيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْك بِالَّذِي سَأَلَ عَنهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ بِأَمْر الْقُرْآن بِمَا حضرني وَأَنِّي أسأَل الله أَن يديم توفيق أَمِير الْمُؤمنِينَ قد كَانَ النَّاس فِي خوض من الْبَاطِل وَاخْتِلَاف شَدِيد يغتمسون فِيهِ حَتَّى أفضت الْخلَافَة إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فنفى الله بأمير الْمُؤمنِينَ كل بِدعَة وانجلى عَن النَّاس مَا كَانُوا فِيهِ من الذل وضيق الْمجَالِس فصرف الله ذَلِك كُله وَذهب بِهِ بأمير الْمُؤمنِينَ وَوَقع ذَلِك من الْمُسلمين موقعا عَظِيما ودعوا الله لأمير الْمُؤمنِينَ وأسأل الله أَن يستجيب فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ

(1/116)


صَالح الدُّعَاء وَأَن يتم ذَلِك لأمير الْمُؤمنِينَ وَأَن يزِيد فِي بَيته ويعينه على مَا هُوَ عَلَيْهِ
فقد ذكر عَن عبد الله بن عَبَّاس أَنه قَالَ لَا تضربوا كتاب الله بعضه بِبَعْض فان ذَلِك يُوقع الشَّك فِي قُلُوبكُمْ
وَذكر عَن عبد الله بن عمر أَن فُقَرَاء كَانَا جُلُوسًا بِبَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ بَعضهم ألم يقل الله كَذَا _ وَقَالَ بَعضهم ألم يقل الله كَذَا _
قَالَ فَسمع ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخرج كَأَنَّمَا فقئ فِي وَجهه حب الرُّمَّان فَقَالَ أَبِهَذَا أمرْتُم أَن تضربوا كتاب الله بعضه بِبَعْض _ إِنَّمَا ضلت الْأُمَم قبلكُمْ فِي مثل هَذَا انكم لَسْتُم مِمَّا هُنَا فِي شَيْء انْظُرُوا الَّذِي أمرْتُم بِهِ فاعملوا بِهِ وانظروا الَّذِي نهيتم عَنهُ فَانْتَهوا عَنهُ
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مراء فِي الْقُرْآن كفر وروى عَن أبي جهم - رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تماروا فِي الْقُرْآن فان مراء فِيهِ كفر

(1/117)


وَقَالَ عبد الله بن الْعَبَّاس قدم على عمر بن الْخطاب رجل فَجعل عمر يسْأَل عَن النَّاس فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد قَرَأَ الْقُرْآن مِنْهُم كَذَا وَكَذَا
فَقَالَ ابْن عَبَّاس فَقلت وَالله مَا أحب أَن يتسارعوا يومهم هَذَا فِي الْقُرْآن هَذِه المسارعة قَالَ فنهرني عمر وَقَالَ مَه
فَانْطَلَقت إِلَى منزلي مكتئبا حَزينًا فَبَيْنَمَا أَنا كَذَلِك إِذْ أَتَانِي رجل فَقَالَ أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَخرجت فَإِذا هُوَ بِالْبَابِ ينتظرني فَأخذ بيَدي فَخَلا بِي وَقَالَ مَا الَّذِي كرهت مِمَّا قَالَ الرجل آنِفا _
فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَتى مَا يتسارعوا هَذِه المسارعة يَخْتَلِفُوا وَمَتى مَا يَخْتَلِفُوا يختصموا وَمَتى مَا يختصموا يَخْتَلِفُوا وَمَتى مَا اخْتلفُوا يقتتلوا
قَالَ لله أَبوك وَالله إِن كنت لاكمتها النَّاس حَتَّى جِئْت بهَا وروى عَن جُبَير بن نفير قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنكُمْ لن ترجعوا بِشَيْء أفضل مِمَّا خرج مِنْهُ يعْنى بِالْقُرْآنِ
وروى عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ جردوا الْقُرْآن لَا تكْتبُوا فِيهِ شَيْئا إِلَّا كَلَام الله عز وَجل
وروى عَن عمر بن الْخطاب أَنه قَالَ هَذَا الْقُرْآن كَلَام الله فضعوه مَوْضِعه
وَقَالَ رجل لِلْحسنِ الْبَصْرِيّ يَا أَبَا سعيد أَنى إِذا قَرَأت كتاب الله وتدبرته كدت أَن أياس وَيَنْقَطِع رجائي

(1/118)


قَالَ فَقَالَ الْحسن أَن الْقُرْآن كَلَام الله وأعمال ابْن آدم إِلَى الضعْف وَالتَّقْصِير فاعمل وأبشر
وَقَالَ فَرْوَة بن نَوْفَل الْأَشْجَعِيّ كنت جَار الْخَبَّاب وَهُوَ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَخرجت مَعَه يَوْمًا من الْمَسْجِد وَهُوَ آخذ بيَدي فَقَالَ يَا هَذَا تقرب لله بِمَا اسْتَطَعْت فَإنَّك لن تتقرب إِلَيْهِ بِشَيْء أحب من كَلَامه
وَقَالَ رجل للْحكم ابْن عتبَة مَا حمل أهل الْأَهْوَاء على هَذَا _ قَالَ الْخُصُومَات
وَقَالَ مُعَاوِيَة بن قُرَّة - وَكَانَ أَبوهُ مِمَّن أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - إيَّاكُمْ وَهَذِه الْخُصُومَات فَإِنَّهَا تحبط الْأَعْمَال
وَقَالَ أَبُو قلَابَة - وَكَانَ قد أدْرك غير وَاحِد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تجالسوا أَصْحَاب الْأَهْوَاء - أَو قَالَ أَصْحَاب الْخُصُومَات - فَأَنِّي لَا آمن أَن يغمسوكم فِي ظلالتهم ويلبسوا عَلَيْكُم بعض مَا تعرفُون
وَدخل رجلَانِ من أَصْحَاب الْأَهْوَاء على مُحَمَّد بن سِيرِين فَقَالَا يَا أبكر نحدثك بِحَدِيث فَقَالَا لَا قَالَا فنقرأ عَلَيْك آيَة من كتاب الله _
قَالَ لَا لتقومان عني أَو لَا قوم عنكما
قَالَا فَقَالَ الرّجلَانِ فَخَرَجَا فَقَالَ بعض الْقَوْم يَا أَبَا بكر وَمَا عَلَيْك أَن يقرا عَلَيْك آيَة من كتاب الله تَعَالَى _ فَقَالَ لَهُ ابْن سِيرِين إِنِّي خشيت أَن يقْرَأ عَليّ آيَة فيحرفانها فَيقر ذَلِك فِي قلبِي

(1/119)


وَقَالَ مُحَمَّد لَو أعلم أَنِّي أكون مبتلى السَّاعَة لتركتها وَقَالَ رجل من أهل الْبدع لأيوب السجتياني يَا أَبَا بكر أَسأَلك عَن كلمة
فولى وَهُوَ يَقُول بِيَدِهِ وَلَا نصف كلمة
وَقَالَ ابْن طَاوس لِابْنِ لَهُ بِكَلِمَة رجل من أهل الْبدع يَا بني ادخل إصبعيك فِي أذنيك لَا تسمع مَا يَقُول ثمَّ قَالَ أشدد
وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز من جعل دينه غَرضا للخصومات أَكثر التنقل
وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَن الْقَوْم لم يدْخل عَنْهُم شَيْء خير لكم لفضل عنْدكُمْ
وَكَانَ الْحسن رَحمَه الله يَقُول شَرّ دَاء خالط قلبا يَعْنِي الْأَهْوَاء
وَقَالَ حُذَيْفَة بن الْيَمَان - وَكَانَ من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - اتَّقوا الله معشر الْقُرَّاء وخذوا طَرِيق من كَانَ قبلكُمْ وَالله لَئِن اسْتَقَمْتُمْ لقد سبقتم بَعيدا وَلِأَن تَرَكْتُمُوهُ يَمِينا وَشمَالًا لقد ضللتم ضلالا بَعيدا - أَو قَالَ مُبينًا -
قَالَ أبي رَحمَه الله وَإِنَّمَا تركت ذكرى الْأَسَانِيد لما تقدم من الْيَمين الَّتِي حَلَفت بهَا مِمَّا قد علمه أَمِير الْمُؤْمِنُونَ لَوْلَا ذَلِك لذكرتها بأسانيدها
وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله}

(1/120)


وَقَالَ {أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر} فَأخْبر بالخلق ثمَّ قَالَ وَالْأَمر فَأخْبر أَن الْأَمر غير مَخْلُوق
وَقَالَ عز وَجل {الرَّحْمَن علم الْقُرْآن خلق الْإِنْسَان علمه الْبَيَان}
فَأخْبر تَعَالَى أَن الْقُرْآن من علمه
وَقَالَ تَعَالَى {وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم مَا لَك من الله من ولي وَلَا نصير}
وَقَالَ {وَلَئِن أتيت الَّذين أُوتُوا الْكتاب بِكُل آيَة مَا تبعوا قبلتك وَمَا أَنْت بتابع قبلتهم وَمَا بَعضهم بتابع قبْلَة بعض وَلَئِن اتبعت أهواءهم من بعد مَا جَاءَك من الْعلم إِنَّك إِذا لمن الظَّالِمين}
وَقَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حكما عَرَبيا وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد مَا جَاءَك من الْعلم مَا لَك من الله من ولي وَلَا واق}
فالقرآن من علم الله تَعَالَى وَفِي هَذِه الْآيَات دَلِيل على أَن الَّذِي جَاءَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْقُرْآن لقَوْله {وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم}

(1/121)


وَقد روى عَن غير وَاحِد مِمَّن مضى مِمَّن سلفنا أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ الْقُرْآن كَلَام الله لَيْسَ بمخلوق وَهُوَ الَّذِي أذهب إِلَيْهِ لست بِصَاحِب كَلَام وَلَا ادري الْكَلَام فِي شَيْء من هَذَا إِلَّا مَا كَانَ فِي كتاب الله أَو حَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو عَن أَصْحَابه أَو عَن التَّابِعين رَحِمهم الله فَأَما غير ذَلِك فَإِن الْكَلَام فِيهِ غير مَحْمُود

(1/122)