الاكتفاء
بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة
الخلفاء ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المنذر بن ساوى العبدى مع العلاء بن الحضرمى بعد انصرافه من الحديبية «1»
ذكر الواقدى بإسناد له عن عكرمة قال: وجدت هذا الكتاب فى كتب ابن عباس بعد
موته، فنسخته، فإذا فيه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن
الحضرمى، إلى المنذر بن
__________
(1) راجع: تاريخ الطبرى (3/ 645) ، الروض الأنف للسهيلى (4/ 250) ، المصباح
المضىء (2/ 335، 338) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 78) .
(2/15)
ساوى «1» ، وكتب إليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، فكتب يعنى المنذر إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أما بعد، يا رسول الله، فإنى قرأت كتابك على أهل هجر،
فمنهم من أحب الإسلام، وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضى مجوس
ويهود، فأحدث إلى فى ذلك أمرك» .
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد
رسول الله، إلى المنذر ابن ساوى، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا
إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد،
فإنى أذكرك الله عز وجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلى
ويتبع أمرهم فقد أطاعنى، ومن نصح لهم فقد نصح لى، وإن رسلى قد أثنوا عليك
خيرا، وإنى قد شفعتك فى قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل
الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهودية
أو مجوسية فعليه الجزية» «2» .
وذكر غير الواقدى أن العلاء بن الحضرمى لما قدم على المنذر بن ساوى قال له:
يا منذر، إنك عظيم العقل فى الدنيا، فلا تصغرن من الآخرة، إن هذه المجوسية
شردين، ليس فيها تكرم العرب، ولا علم أهل الكتاب، ينكحون ما يستحى من
نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون فى الدنيا نارا تأكلهم يوم
القيامة، ولست بعديم عقل ولا أرى، فانظر: هل ينبغى لمن لا يكذب أن تصدقه،
ولمن لا يخون أن تأتمنه، ولمن لا يخلف أن تثق به، فإن كان هذا هكذا فهو هذا
النبى الأمى الذى والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه،
أو ما نهى عنه أمر به أو ليته زاد فى عفوه أو نقص من عقابه، إن كل ذلك منه
على أمنية أهل العقل وفكر أهل البصر.
فقال المنذر: قد نظرت فى هذا الذى فى يدى فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت
فى دينكم فوجدته للآخرة والدنيا، فما يمنعنى من قبول دين فيه أمنية الحياة
وراحة الموت، ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يدره، وإن من إعظام
ما جاء به أن يعظم رسوله، وسأنظر.
وذكر ابن إسحاق والواقدى وسيف والطبرى وغيرهم أن المنذر لما وصله العلاء
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2515) ، الإصابة الترجمة رقم
(8234) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5106) .
(2) انظر التخريج السابق.
(2/16)
برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكتابه أسلم فحسن إسلامه. وزاد الواقدى: أن النبى صلى الله عليه وسلم
استقدم العلاء بن الحضرمى، فاستخلفه العلاء مكانه على عمله.
وذكر ابن إسحاق وغيره أن المنذر توفى قبل ردة أهل البحرين والعلاء عنده
أميرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين.
وذكر ابن قانع أن المنذر وفد على النبى صلى الله عليه وسلم ولا يصح ذلك إن
شاء الله.
ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى الأزديين،
ملكى عمان، مع عمرو بن العاص «1»
ذكر الواقدى بإسناد له إلى عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعث نفرا سماهم إلى جهات مختلفة برسم الدعاء إلى الإسلام.
قال عمرو: فكنت أنا المبعوث إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى، وكتب رسول الله
صلى الله عليه وسلم معى كتابا.
قال: وأخرج عمرو الكتاب، فإذا صحيفة أقل من الشبر، فيها: «بسم الله الرحمن
الرحيم، من محمد بن عبد الله، إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى، سلام على من
اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوكما بداعية الإسلام، أسلما تسلما، فإنى رسول
الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، وإنكما
إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل
عنكما، وخيلى تحل بساحتكما، وتظهر نبوتى على ملككما» وكتب أبى بن كعب، وختم
رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب.
ثم خرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين
وأسهلهما خلقا، فقلت: إنى رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى
أخيك، فقال:
أخى المقدم على بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، ثم قال لى:
وما تدعو إليه؟ قلت: أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عبد من
دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: يا عمرو، إنك ابن سيد قومك، فكيف
صنع أبوك؟ فإن لنا
__________
(1) راجع: تاريخ الطبرى (3/ 645) ، الروض الأنف للسهيلى (4/ 250) ، تاريخ
اليعقوبى (2/ 78) .
(2/17)
فيه قدوة. قلت: مات، ولم يؤمن بمحمد صلى
الله عليه وسلم وودت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى
هدانى الله للإسلام. قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبا، فسألنى أين كان إسلامى؟
قلت: عند النجاشى، وأخبرته أن النجاشى قد أسلم، قال: فكيف صنع قومه بملكه؟
قلت: أقروه واتبعوه، قال: والأساقفة والرهبان تبعوه، قلت: نعم. قال: انظر
يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة فى رجل واحد أفضح له من كذب. قلت: ما
كذبت، وما نستحله فى ديننا. ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشى.
قلت: بلى. قال: بأى شىء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشى يخرج له خرجا، فلما
أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال: لا، والله لو سألنى درهما واحدا
ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له نياق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا،
ويدين دينا محدثا؟ قال هرقل: رجل رغب فى دين واختاره لنفسه، ما أصنع به،
والله لولا الضن لملكى لصنعت كما صنعوا. قال: انظر ما تقول يا عمر، قلت:
والله صدقتك. قال عبد: فأخبرنى ما الذى يأمر به وينهى عنه. قلت: يأمر بطاعة
الله عز وجل وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم
والعدوان، وعن الزنا وشرب الخمر، وينهى عن عبادة الحجر والوثن والصليب.
فقال: ما أحسن هذا الذى يدعو إليه، لو كان أخى يتابعنى لركبنا حتى نؤمن
بمحمد ونصدق به، ولكن أخى أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا.
قلت: إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فأخذ الصدقة
من غنيهم فردها على فقيرهم. فقال: إن هذا لخلق حسن، وما الصدقة؟ فأخبرته
بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات فى الأموال حتى انتهيت
إلى الإبل. فقال: يا عمرو، تؤخذ من سوائم مواشينا التى ترعى الشجر وترد
المياه. فقلت: نعم.
فقال: والله، ما أرى قومى فى بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا. قال:
فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبرى، ثم إنه دعانى يوما
فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعى، فقال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس، فأبوا أن
يدعونى أجلس، فنظرت إليه، فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختوما،
ففض خاتمه، فقرأه حتى انتهى إلى آخره. ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته،
إلا أنى رأيت أخاه أرق منه، ثم قال: ألا تخبرنى عن قريش، كيف صنعت؟ فقلت:
تبعوه، إما راغب فى الدين، وإما مقهور بالسيف. قال: ومن معه؟ قلت: الناس،
قد رغبوا فى الإسلام، واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم
أنهم كانوا فى ضلال، فما أعلم أحدا بقى غيرك فى هذه الحرجة، وأنت إن لم
تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل، ويبيد خضراءك،
(2/18)
فأسلم تسلم ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال. قال: دعنى
يومى هذا وارجع إلى غدا.
فرجعت إلى أخيه، قال: يا عمرو، إنى لأرجوا أن يسلم إن لم يضن بملكه حتى إذا
كان الغد أتيت إليه، فأبى أن يأذن لى، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أنى لم
أصل إليه، فأوصلنى إليه. فقال: إنى فكرت فيما دعوتنى إليه، فإذا أنا أضعف
العرب إن ملكت رجلا ما فى يدى وهو لا تبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله ألفت
قتالا ليس كقتال من لاقى. قلت: فأنا خارج غدا، فلما أيقن بمخرجى خلا به
أخوه، فقال: ما نحن فيما قد ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح،
فأرسل إلى، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا النبى صلى الله عليه
وسلم وخليا بينى وبين الصدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لى عونا على من
خالفنى «1» .
وفى حديث غير الواقدى أن عمرا قال له فيما دار بينهما من الكلام: إنك وإن
كنت منا بعيدا فإنك من الله غير بعيد، إن الذى تفرد بخلقك أهل أن تفرده
بعبادتك، وأن لا تشرك به من لم يشركه فيك، وأعلم أنه يميتك الذى أحياك،
ويعيدك الذى أبدأك، فانظر فى هذا النبى الأمى الذى جاءنا بالدنيا والآخرة،
فإن كان يريد به أجرا فامنعه، أو يميل به هوى فدعه، ثم انظر فيما يجىء به،
هل يشبه ما يجىء به الناس؟ فإن كان يشبهه فسله العيان وتخير عليه فى الخبر،
وإن كان لا يشبهه فاقبل ما قال، وخف ما وعد.
قال ابن الجلندى: إنه والله لقد دلنى على هذا النبى الأمى أنه لا يأمر بخير
إلا كان أول من أخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا
يبطر، ويغلب فلا يضجر، وأنه يفى بالعهد، وينجز الموعود، وأنه لا يزال سر قد
اطلع عليه يساوى فيه أهله، وأشهد أنه نبى. |