الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء

كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن على مع سليط بن عمرو العامرى، وما كان من خبره معه «2»
ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك يدعوهم إلى الله، بعث سليط بن عمرو إلى
__________
(1) انظر التخريج السابق.
(2) راجع: تاريخ الطبرى (3/ 644، 645) ، المصباح المضىء لابن حديدة (2/ 354، 359) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 78) .

(2/19)


هوذة بن على الحنفى صاحب اليمامة والمتوج بها وهو الذى يقول فيه الأعشى، ميمون ابن قيس من كلمة:
إلى هوذة الوهاب أعلمت ناقتى ... أرجى عطاء فاضلا من عطائكا
فلما أتت آطام جو وأهلها ... أنيخت وألقت رحلها بقبائكا
وذكر الواقدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هوذة مع سليط حين بعثه إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هوذة بن على، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن دينى سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك» . فلما قدم عليه سليط بكتاب النبى صلى الله عليه وسلم مختوما أنزله وحياه، واقترأ عليه الكتاب، فرد ردا دون رد، وكتب إلى النبى صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومى وخطيبهم، والعرب تهاب مكانى فاجعل إلى بعض الأمر أتبعك.
وأجاز سليطا بجائزة، وكساه أثوابا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبى صلى الله عليه وسلم كتابه، وقال: «لو سألنى سبابة من الأرض ما فعلت، باد وباد ما فى يده» ، فلما انصرف النبى صلى الله عليه وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ، يقتل بعدى» ، فقال قائل:
يا رسول الله، فمن يقتله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت وأصحابك» ، فكان من أمر مسيلمة وتكذبه ما كان، وظهر المسلمون عليه فقتلوه، وكان ذلك القاتل من قتله وفق ما قاله الصادق المصدوق صلوات الله وبركاته عليه.
وذكر وثيمة بن موسى أن سليط بن عمرو لما قدم على هوذة بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كسرى قد توجه، وقال له: يا هوذة، إنه قد سودتك أعظم حائلة وأرواح فى النار، وإنما السيد من متع الإيمان ثم زود التقوى، إن قوما سعدوا برأيك، فلا تشقين به، وإنى آمرك بخير مأمور به، وأنهاك عن شر منهى عنه، آمرك بعبادة الله، وأنهاك عن عبادة الشيطان، فإن فى عبادة الله الجنة، وفى عبادة الشيطان النار، فإن قبلت نلت ما رجوت وأمنت ما خفت، وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطلع.
فقال هوذة: يا سليط، سودنى من لو سودك شرفت به، وقد كان لى رأى اختبر به الأمور فقدته، فموضعه من قلبى هواء، فاجعل لى فسحة يرجع إلى رأيى فأجيبك به إن شاء الله «1» .
__________
(1) انظر التخريج السابق.

(2/20)


وقال هوذة فى ذلك:
أتانى سليط بالحوادث جمة ... فقلت له ماذا يقول سليط
فقال التى فيها على غضاضة ... وفيها رجاء مطمع وقنوط
فقلت له غاب الذى كنت أجتلى ... به الأمر عنى فالصعود هبوط
وقد كان لى والله بالغ أمره ... أبا النصر جاش فى الأمور ربيط
فأذهبه خوف النبى محمد ... فهوذة فيه فى الرجال سقيط
فأجمع أمرى من يمين وشمأل ... كأنى ردود للنبال لقيط
وأذهب ذاك الرأى إذ قال قائل ... أتاك رسول الله للنبى خبيط
رسول الله راكب ناضح ... عليه من أوبار الحجاز غبيط
سكرت ودبت فى المفارق وسنة ... لها نفس على الفؤاد غطيط
أحاذر منه سورة هائمية ... فوارسها وسط الرجال عبيط
فلا تعجلنى يا سليط فإننا ... نبادر أمرا والقضاء محيط
وذكر الواقدى بإسناد له عن عبد الله بن مالك أنه قال: قدمت اليمامة فى خلافة عثمان بن عفان، فجلست فى مجلس لحجر، فقال رجل فى المجلس: إنى لعند ذى التاج الحنفى يعنى هوذة يوم الفصح إذ جاء حاجبه، فاستأذن لأركون دمشق وهو عظيم من عظماء النصارى فقال: ائذن له، فدخل فرحب به وتحدثا، فقال الأركون: ما أطيب بلاد الملك وأبرأها من الأوجاع. قال ذو التاج: هى أصح بلاد العرب، وهى زين بلادهم، قال الأركون: وما قرب محمد منكم؟ قال ذو التاج: هو بيثرب، وقد جاءنى كتابه يدعونى إلى الإسلام فلم أجبه. قال الأركون: لم لا تجيبه؟ قال: ضننت بدينى، وأنا ملك قومى، وإن تبعته لم أملك. قال: بلى، والله لئن اتبعته ليمكنك وإن الخيرة لك فى اتباعه، وإنه للنبى العربى الذى بشر به عيسى ابن مريم، وإنه لمكتوب عندنا فى الإنجيل: محمد رسول الله. قال ذو التاج: قد قرأت فى الإنجيل ما تذكر. ثم قال الأركون: فما لك لا تتبعه؟ قال: الحسد له، والضن بالخمر وشربها. قال: فما فعل هرقل؟ قال: هو على دينه ويظهر لرسله أنه معه، وقد سبر أهل مملكته، فأبوا أشد الإباء، فضن بملكه أن يفارقه، قال ذو التاج: فما أرانى إلا متبعه وداخلا فى دينه، فأنا فى بيت العرب، وهو مقرى على ما تحت يدى. قال البطريق: هو فاعل فاتبعه، فدعا رسولا وكتب معه كتابا، وسمى هدايا، فجاءه قومه فقالوا: تتبع محمدا وتترك دينك، لا تملكن علينا أبدا، فرفض الكتاب.
قال: فأقام الأركون عنده فى حباء وكرامة، ثم وصله ووجه راجعا إلى الشام.

(2/21)


قال الرجل: وتبعته حين خرج، فقلت: أحق ما أخبرت ذا التاج؟ قال: نعم والله، فاتبعه، قال: فرجعت إلى أهلى فتكلفت الشخوص إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقدمت عليه مسلما، فأخبرته بكل ما كان، فحمد الله الذى هدانى.
ولم يسم فى حديث الواقدى هذا الرجل، إلا أن فيه أنه كان من طيئ، ثم من بنى نبهان.
وقد تقدم صدر هذا الكتاب أن عامر بن سلمة من بنى حنيفة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعوام ولاء فى الموسم بعكاظ وبمجنة وبذى المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله وإلى أن ينصروه، حتى يبلغ عن الله فلا يستجيب له أحد، وإن هوذة بن على سأل عامرا بعد انصرافه عن الموسم إلى اليمامة فى أول عام عن ما كان فى موسمهم من خبر، فأخبره خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رجل من قريش، فسأله هوذة: من أى قريش هو؟ فقال له عامر: من أوسطهم نسبا، من بنى عبد المطلب، قال هوذة: أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ فقال: هو هو، فقال هوذة: أما إن أمره سيظهر على ما هاهنا وغير ما هاهنا. ثم ذكر تكرر سؤال هوذة له عنه حتى ذكر له فى السنة الثالثة أنه رآه وأمره قد أمر، فقال له هوذة: هو الذى قلت لك، ولو أنا اتبعناه لكان خيرا لنا، ولكنا نضن بملكنا.
وأخبر عامر بذلك كله سليط بن عمرو، وقد مر به منصرفا عن هوذة إذ بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسلم وأسلم عامر آخر حياة النبى صلى الله عليه وسلم ومات هوذة كافرا على نصرانيته.
ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى مع شجاع بن وهب «1»
ذكر الواقدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث شجاعا إلى الحارث بن أبى شمر، وهو بغوطة دمشق، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى الحارث بن أبى شمر، سلام على
__________
(1) راجع: تاريخ الطبرى (3/ 644، 652) ، الروض الأنف للسهيلى (4/ 25، 251) ، المصباح المضىء لابن حديدة (2/ 314، 316) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 78) .

(2/22)


من اتبع الهدى وآمن به وصدق، وإنى أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبق لك ملكك» . فختم الكتاب، وخرج به شجاع بن وهب.
قال: فانتهيت إلى صاحبه، فأخذه يومئذ وهو مشغول بتهيئة الإنزال والألطاف لقيصر، وهو جاء من حمص إلى إيلياء، حيث كشف الله عنه جنود فارس شكرا لله تعالى قال: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إنى رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حاجبه: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه وكان روميا اسمه مرى يسألنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه، فكنت أحدثه، فيرق حتى يغلبه البكاء، ويقول: إنى قرأت فى الإنجيل، وأجد صفة هذا النبى بعينه فكنت أراه يخرج بالشام، فأراه قد خرج بأرض القرظ، فأنا أؤمن به وأصدقه، وأنا أخاف من الحارث بن أبى شمر أن يقتلنى.
قال شجاع: فكان، يعنى هذا الحاجب، يكرمنى ويحسن ضيافتى ويخبرنى عن الحارث باليأس منه، ويقول: هو يخاف قيصر.
قال: فخرج الحارث يوما فجلس، فوضع التاج على رأسه، فأذن لى عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، ثم رمى به، وقال: من ينتزع منى ملكى؟ أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته، على بالناس، فلم يزل جالسا بعرض حتى الليل، وأمر بالخيل أن تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره خبرى، فصادف قيصر بإيلياء وعنده دحية الكلبى قد بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه:
أن لا تسر إليه واله عنه ووافنى بإيلياء، قال: ورجع الكتاب وأنا مقيم، فدعانى وقال:
متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ قلت: غدا، فأمر بمائة مثقال، ووصلنى مرى بنفقة وكسوة، وقال: اقرأ على رسول الله منى السلام، وأخبره أنى متبع دينه.
قال شجاع: فقدمت على النبى صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: باد ملكه، وأقرأته من مرى السلام، وأخبرته بما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق» .
قال الواقدى: ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح، وكان نازلا بجلق، ووليهم جبلة ابن الأيهم، وكان ينزل الجابية، وكان آخر ملوك غسان، أدركه عمر بن الخطاب رضى الله عنه بالجابية فأسلم، ثم إنه لاحى رجلا من مزينة، فلطم عينه، فجاء به المزنى إلى عمر رضى الله عنه وقال: خذ لى بحقى، فقال له عمر: الطم عينه، فأنف جبلة وقال: عينى وعينه سواء؟ قال عمر: نعم، فقال جبلة: لا أقيم بهذه الدار أبدا، ولحق بعمورية مرتدا، فمات هناك على ردته.

(2/23)


هكذا ذكر الواقدى أن توجه شجاع بن وهب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إلى الحارث بن أبى شمر، وكذلك قال ابن إسحاق.
وأما ابن هشام «1» فقال: إنما توجه إلى جبلة بن الأيهم، وقد قال ذلك غيره، فالله أعلم.
وذكر بعض من وافق ابن هشام على أن الرسالة كانت إلى جبلة: أن شجاع بن وهب لما قدم عليه قال له: «يا جبلة، إن قومك نقلوا هذا النبى الأمى من داره إلى دارهم يعنى الأنصار فأووه ومنعوه، وإن هذا الدين الذى أنت عليه ليس بدين آبائك، ولكنك ملكت الشام وجاورت بها الروم، ولو جاورت كسرى دنت بدين الفرس لملك العراق، وقد أقر بهذا النبى الأمى من أهل دينك من إن فضلناه عليك لم يغضبك، وإن فضلناك عليه لم يرضك، فإن أسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم، وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا ولك الآخرة، وكنت قد استبدلت المساجد بالبيع، والأذان بالناقوس، والجمع بالشعانين، والقبلة بالصليب، وكان ما عند الله خير وأبقى» .
فقال له جبلة: «إنى والله لوددت أن الناس اجتمعوا على هذا النبى الأمى اجتماعهم على خلق السموات والأرض، ولقد سرنى اجتماع قومى له، وأعجبنى قتله أهل الأوثان واليهود واستبقاءه النصارى، ولقد دعانى قيصر إلى قتال أصحابه يوم مؤتة فأبيت عليه، فانتدب له مالك بن نافلة من سعد العشيرة، فقتله الله، ولكنى لست أرى حقا ينفعه ولا باطلا يضره، والذى يمدنى إليه أقوى من الذى يختلجنى عنه، وسأنظر» .
وأما توجه المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة المخزومى، وهو شقيق أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن عبد كلال، فلم أجد عند ابن إسحاق، ولا فيما وقع إلى عن الواقدى شيئا أنقله عنهما سوى ما ذكر ابن إسحاق «2» من توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه إلى الحارث بن عبد كلال ذكرا مقتصرا فيه على القدر مختصرا من الإمتاع بما تحسن إضافته إلى ذلك من الوصف.
وتقدم لابن إسحاق فى كتابه، وذكره أيضا الواقدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك، ورسولهم إليه بإسلامهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل: ذى رعين ومعافر وهمدان، وبعث إليه زرعة ذى يزن مالك بن مرة الرهاوى بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله.
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 231) .
(2) انظر: السيرة (4/ 231) .

(2/24)


وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسيره إلى تبوك يقول: «إنى بشرت بالكنزين: فارس والروم، وأمددت بالملوك: ملوك حمير، يأكلون فىء الله ويجاهدون فى سبيل الله» . فلما قدم عليه مالك بن مرة بإسلامهم، كتب إليهم: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله النبى، إلى الحارث بن عبد كلال وإلى نعيم بن عبد كلال وإلى النعمان قيل:
ذى رعين ومعافر وهمدان. أما بعد ذلكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من الأرض الروم فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم به، وخبر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه. أن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس الله وسهم النبى وصفيه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة وبين لهم صدقة الزرع والإبل والبقر والغنم، ثم قال: فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وله ذمة الله وذمة رسوله، وأنه من أسلم من يهودى أو نصرانى فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف من قيمة المعافر أو عوضه ثيابا، فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله.
أما بعد، فإن محمد النبى أرسل إلى زرعة ذى يزن أن إذا أتاكم رسلى فأوصيكم بهم خيرا، معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة وعقبة بن نمر ومالك بن مرة وأصحابهم، وأن أجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم وأبلغوها رسلى، فإن أميرهم ابن جبل، فلا ينقلبن إلا راضيا. أما بعد، فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرة الرهاوى قد حدثنى أنك قد أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين، فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيرا، ولا تخاونوا ولا تخاذلوا فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته، وإنما هى زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وإن مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب، وآمركم به خيرا، وإنى قد أرسلت إليكم من صالحى أهلى وأولى دينهم وأولى علمهم وآمركم بهم خيرا، فإنه منظور إليهم، والسلام عليكم ورحمة الله» «1» .
فهذا ما ذكر ابن إسحاق «2» من شأن ملوك حمير، وما كتبوا به، وكتب إليهم، وذكر الواقدى أيضا نحوه.
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (5/ 75) .
(2) انظر: السيرة (4/ 212- 213) .

(2/25)


ولا ذكر للمهاجر بن أبى أمية فى شىء من ذلك إلا أن ابن إسحاق والواقدى ذكرا أن قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مقدمه من تبوك، وذلك فى سنة تسع، وتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك إنما كان بعد انصرافه عن الحديبية آخر سنة ست، فلعل المهاجر والله أعلم كانت وجهه حينئذ إلى الحارث بن عبد كلال فصادف منه عامئذ ترددا واستنظارا، ثم جلا الله عنه العمى فيما بعد، وأمر بهدايته فاستبان له القصد، فعند ذلك أرسل هو وأصحابه بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك يجتمع الأمران، ويصح الخبران، إذ لا خلاف بين أهل العلم بالأخبار والعناية بالسير أن ملوك حمير أسلموا وكتبوا بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنه لا خلاف بينهم أيضا فى توجيه المهاجر بن أبى أمية إلى الحارث بن عبد كلال.
ويقول بعض من ذكر ذلك أن المهاجر لما قدم عليه قال له: يا حارث إنك كنت أول من عرض عليه النبى صلى الله عليه وسلم نفسه فخطيت عنه، وأنت أعظم الملوك قدرا، فإذا نظرت فى غلبة الملوك فانظر فى غالب الملوك، وإذا أسرك يومك فخف غدك، وقد كان قبلك ملوك ذهبت آثارها وبقيت أخبارها، عاشوا طويلا وأملوا بعيدا وتزودوا قليلا، منهم من أدركه الموت، ومنهم من أكلته النقم، وإنى أدعوك إلى الرب الذى إن أردت الهدى لم يمنعك، وإن أرادك لم يمنعك منه أحد، وأدعوك إلى النبى الأمى الذى ليس شىء أحسن مما يأمر به ولا أقبح مما ينهى عنه، واعلم أن لك ربا يميت الحى ويحيى الميت، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
فقال الحارث: قد كان هذا النبى عرض نفسه على، فخطيت عنه، وكان ذخرا لمن صار إليه، وكان أمره أمرا بسق، فحضره اليأس وغاب عنه الطمع، ولم تكن لى قرابة أحتمله عليها، ولا لى فيه هوى أتبعه له، غير أنى أرى أمرا لم يؤسسه الكذب، ولم يسنده الباطل، له بدو سار وعافية نافعة، وسأنظر.