الاكتفاء
بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة
الخلفاء ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى
فروة بن عمرو الجذامى ثم النفاتى، وما كان من تبرعه بالإسلام هداية من الله
عز وجل له «1»
ذكر الواقدى بإسناد له أن فروة بن عمرو»
، هذا كان عاملا لقيصر على عمان من
__________
(1) راجع: السيرة (4/ 214) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب ترجمة رقم (2097) .
(2/26)
أرض البلقاء وفى كتاب ابن إسحاق: معان وما
حولها من أرض الشام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى هرقل
وإلى الحارث بن أبى شمر، ولم يكتب إليه، فأسلم فروة، وكتب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وبعث من عنده رسولا يقال له: مسعود بن سعد من
قومه بكتاب مختوم فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد رسول الله النبى، إنى مقر بالإسلام مصدق
به، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وإنه الذى بشر به
عيسى ابن مريم. والسلام عليك» .
ثم بعث مع الرسول بغلة بيضاء يقال لها: فضة، وحماره يعفور، وفرسا يقال له:
الضرب، وبعث بأثواب من لين، وقباء من سندس مخوص بالذهب، فقدم الرسول فدفع
الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقترأه، وأمر بلالا أن ينزله
ويكرمه، فلما أراد الخروج كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جواب
كتابه:
«من محمد رسول الله، إلى فروة بن عمرو، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله
الذى لا إله إلا هو، أما بعد. فإنه قدم علينا رسولك بكتابك فبلغ ما أرسلت
به، وخبر عن ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامك، وإن الله عز وجل قد هداك إن أصلحت
وأطعت الله ورسوله وأقمت على الصلاة وآتيت الزكاة، والسلام عليك» .
ولما بلغ قيصر إسلام فروة بن عمرو بعث إليه فحبسه، ولما طال حبسه أرسلوا
إليه:
أن ارجع إلى دينك ويعيد إليك ملكك، فقال: لا أفارق دين محمد أبدا، أما أنك
تعرف أنه رسول الله، بشرك به عيسى ابن مريم، ولكنك ضننت بملكك وأحببت
بقاءه. فقال قيصر: صدق والإنجيل.
وذكر الواقدى أنه مات فى ذلك الحبس، فلما مات صلبوه.
قال: فلما اجتمعت الروم لصلبه قال:
ألا هل أتى سلمى بأن حليلها ... على ماء عفرا فوق إحدى الرواحل «1»
على ناقة لم يضرب الفحل أمها ... مشذبة أطرافها بالمناجل «2»
وذكر ابن شهاب الزهرى أنهم لما قدموه ليقتلوه قال:
__________
(1) إحدى الرواحل: المراد بها الخشبة التى صلب عليها.
(2) مشذبة: قد أزيلت أغصانها.
(2/27)
أبلغ سراة المسلمين بأننى ... سلم لربى
أعظمى ومقامى
ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء، يرحمه الله.
قال ابن إسحاق «1» : وقد كان تكلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
الكذابان: مسيلمة بن حبيب الحنفى باليمامة فى بنى حنيفة، والأسود بن كعب
العنسى بصنعاء.
وذكر بإسناد له عن أبى سعيد الخدرى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يخطب الناس على منبره وهو يقول:
«يا أيها الناس، إنى قد رأيت ليلة القدر، ثم أنسيتها، ورأيت فى ذراعى
سوارين من ذهب، فكرهتهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين: صاحب
اليمن، وصاحب اليمامة» «2» .
وعن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم
الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالا، كلهم يدعى النبوة» «3» .
قال ابن إسحاق «4» : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أمراءه
وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان، فبعث المهاجر بن
أبى أمية بن المغيرة «5» إلى صنعاء، فخرج عليه العنسى وهو بها، وبعث زياد
بن لبيد «6» أخا بنى بياضة الأنصارى إلى
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 222) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (4/ 1781/ 21) ، سنن الترمذى (4/ 2292) ،
مسند الإمام أحمد (1/ 263، 2/ 319، 338، 344) .
(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 450) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/
315) ، سنن أبى داود (4/ 4333) .
(4) انظر: السيرة (4/ 223) .
(5) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8271) ، أسد الغابة ترجمة رقم
(5134) ، مؤتلف الدارقطنى (ص 163) .
(6) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2871) ، أسد الغابة ترجمة رقم
(1809) ، مسند أحمد (4/ 160) ، الطبقات الكبرى (3/ 598) ، التاريخ الكبير
(3/ 344) ، التاريخ الصغير (1/ 41) ، تاريخ الطبرى (3/ 147) ، الجرح
والتعديل (3/ 543) ، المعجم الكبير (5/ 304) ، الكامل فى التاريخ (2/ 301)
، تهذيب الكمال (9/ 506) ، الكاشف (1/ 262) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 195)
، الوافى بالوفيات (15/ 10) ، تهذيب التهذيب (3/ 382) ، خلاصة تهذيب
التهذيب (125) ، تاريخ الإسلام (1/ 52) .
(2/28)
حضرموت وعلى صدقاتها، وبعث عدى بن حاتم «1»
على طيىء وصدقاتها، وعلى بنى أسد، وبعث مالك بن نويرة اليربوعى «2» على
صدقات بنى حنظلة، وفرق صدقة بنى سعد على رجلين منهم، فبعث الزبرقان بن بدر
«3» على ناحية منها، وقيس بن عاصم «4» على ناحية، وكان قد بعث العلاء بن
الحضرمى «5» على البحرين، وبعث على بن أبى طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم
ويقدم عليهم بجزيتهم.
وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مسيلمة
رسول الله، إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد. فإنى قد أشركت فى
الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون» .
فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب رسولان لمسيلمة، فقال
لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ كتابه: «فما تقولان أنتما؟»
قالا: نقول كما قال، فقال: «أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت
أعناقكما» . ثم كتب إلى مسيلمة:
__________
(1) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (6/ 22) ، التاريخ الكبير (7/ 43) ،
التاريخ الصغير (1/ 148) ، المعارف (313) ، الجرح والتعديل (7/ 2) ، تاريخ
بغداد (1/ 189) ، تاريخ ابن عساكر (11/ 234) ، تهذيب الأسماء واللغات (1/
327) ، تهذيب الكمال (925) ، تاريخ الإسلام (3/ 46) ، العبر (1/ 74) ،
تذهيب التهذيب (3/ 36) ، جامع الأصول (9/ 111) ، مرآة الجنان (1/ 142) ،
تهذيب التهذيب (7/ 166) ، خلاصة تذهيب الكمال (223) ، شذرات الذهب (1/ 74)
، سير أعلام النبلاء (3/ 162) ، الإصابة ترجمة رقم (5491) ، أسد الغابة
ترجمة رقم (3610) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7712) ، أسد الغابة ترجمة رقم
(4654) .
(3) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 142) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1728) ،
تجريد أسماء الصحابة (1/ 188) ، الإصابة ترجمة رقم (2789) ، الاستبصار
(314، 415) ، الأعلام (3/ 41) ، تقريب التهذيب (1/ 257) ، الطبقات الكبرى
(7/ 36، 1/ 294، 2/ 161) ، الجرح والتعديل (3/ 27600) ، البداية والنهاية
(5/ 41) .
(4) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 338) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 22) ،
الجرح والتعديل (7/ 101) ، تقريب التهذيب (2/ 129) ، تهذيب التهذيب (8/
399) ، خلاصة تهذيب الكمال (2/ 357) ، الكاشف (2/ 305) ، أزمنة التاريخ
الإسلامى (816) ، التاريخ الكبير (7/ 141) ، الأنساب (9/ 135) ، بقى بن
مخلد (321) ، الإصابة ترجمة رقم (7209) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4370) .
(5) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (5658) ، أسد الغابة ترجمة رقم
(3745) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 388) ، الجرح والتعديل (6/ 356) ،
التاريخ الكبير (6/ 506) .
(2/29)
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول
الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله
يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين» «1» .
قال ابن إسحاق: وكان ذلك فى آخر سنة عشر «2» .
وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى: وقد قيل: إن دعوى مسيلمة ومن ادعى من
الكذابين النبوة فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت بعد
انصرافه من حجة التمام، ووقوعه فى المرض الذى توفاه الله فيه، فالله تعالى
أعلم.
ذكر حجة الوداع «3» وتسمى أيضا حجة التمام، وحجة البلاغ
ولما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو القعدة من سنة عشر تجهز
للحج، وأمر الناس بالجهاز له، وخرج لخمس ليال بقين من ذى القعدة، وقد كان
أذن فى الناس أنه خارج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول
الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله.
قال جابر بن عبد الله: فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فصلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فى المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على
البيداء نظرت إلى مد بصرى بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن
يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين
أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شىء عملناه، فأهل
بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك
والملك لا شريك لك» «4» .
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن البيهقى (9/ 211) ، مسند الإمام أحمد (3708) ، سنن
أبى داود (3/ 2761) .
(2) انظر: السيرة (4/ 224) .
(3) عرفت باسم: حجة الوداع؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسمى
أيضا حجة الإسلام. انظر: لم يحج بعدها، إذ بدأ به مرضه الذى توفاه الله
فيه، كما قيل: حجة البلاغ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أرى الناس مناسكهم
وعلمهم حجهم، وقيل: حجة الإسلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد أن
فرض الحج فى الإسلام غيرها. راجع: طبقات ابن سعد (2/ 172- 189) ، المغازى
للواقدى (3/ 1088- 1115) ، الثقات لابن حبان (2/ 124- 129) .
(4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (2/ 170، 7/ 209) ، صحيح مسلم كتاب الحج،
باب-
(2/30)
وأهل الناس بهذا الذى يهلون به، فلم يرد
عليهم شيئا منه، ولزم صلى الله عليه وسلم تلبيته.
وفى حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج فى حجة الوداع لم
يكن يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج، حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله صلى
الله عليه وسلم معه الهدى وأشراف من أشراف الناس، أمر الناس أن يحلوا
بعمرة، إلا من ساق الهدى.
وقال جابر فى حديثه: لسنا ننوى إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا
البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم
فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] فجعل
المقام بينه وبين البيت، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى
الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ
اللَّهِ [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقى عليه حتى
رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: «لا إله إلا الله وحده،
أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» «1» . ثم دعا بين ذلك، قال مثل
هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه فى بطن الوادى، حتى إذا
صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان
آخر طواف على المروة قال:
«لو أنى استقبلت من أمرى ما استدبرت، لم أسق الهدى ولجعلتها عمرة، فمن كان
منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة» «2» . فقام سراقة بن مالك بن جعشم
«3»
__________
- (3) رقم (19، 20، 21، باب (19) رقم (147) ، سنن أبى داود (1812، 1813) ،
سنن الترمذى (825) ، سنن ابن ماجه (2915، 2918، 3074) ، سنن النسائى (5/
159، 160، 161) ، مسند الإمام أحمد (1/ 267، 401، 2/ 77، 401، 3/ 320، 6/
100، 181، 230، 243) ، السنن الكبرى للبيهقى (5/ 44، 45، 7/ 48) ، موطأ
مالك (331) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 219) ، فتح البارى لابن حجر (1/
360) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (2541، 2555) ، تاريخ بغداد للخطيب
البغدادى (3/ 73، 5/ 55، 282، 6/ 45) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 127) ،
البداية والنهاية لابن كثير (5/ 143) .
(1) انظر الحديث فى: سنن الدارمى (2/ 46) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 226)
.
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الحج باب (19) رقم (147) .
(3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3122) ، أسد الغابة ترجمة رقم
(1955) ، الثقات (3/ 180) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 210) ، تقريب التهذيب
(1/ 284) ، تهذيب التهذيب (3/ 456) ، تهذيب الكمال (1/ 466) ، الكاشف (1/
349) ، الجرح والتعديل (4/ 1342) ، شذرات الذهب (1/ 35) ، الطبقات (34) ،
الطبقات الكبرى (9/ 78) ، بقى بن مخلد (130) ، العقد الثمين (4/ 523) ،
العبر (1/ 27) ، الأعلام (3/ 80) ، الأنساب (7/ 116) .
(2/31)
فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟
فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة فى الأخرى، وقال: «دخلت
العمرة فى الحج مرتين بل لأبد الأبد» «1» .
وقدم على من اليمن ببدن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة ممن حل
ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبى أمرنى بهذا،
قال: فكان على يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا
على فاطمة للذى صنعت، مستفتيا له فيما ذكرت عنه، فأخبرته أنى نكرت ذلك
عليها، فقال: «صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟» «2» قال: قلت: اللهم
إنى أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن معى الهدى فلا
تحل، فكان جماعة الهدى الذى قدم به على من اليمن والذى أتى به النبى صلى
الله عليه وسلم مائة.
فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، فركب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث
قليلا حتى طلعت الشمس، فأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش
تصنع فى الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا أتى عرفة
فوجد القبة قد ضربت به بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء
فرحلت له، فأتى بطن الوادى، فخطب الناس.
قال ابن إسحاق «3» : ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه، فأرى
الناس مناسكهم،
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم فى كتاب الحج باب (19) رقم (147) ، سنن أبى
داود فى كتاب المناسك، باب (23) ، باب (57) ، سنن النسائى فى كتاب الحج باب
(76) ، سنن الترمذى (932) ، سنن ابن ماجه (3074) ، مسند الإمام أحمد (1/
236، 253، 259، 341، 4/ 175) ، سنن الدارمى (47) ، السنن الكبرى للبيهقى
(4/ 352، 5/ 7، 13، 18) ، مستدرك الحاكم (1/ 619، 3/ 619) ، مجمع الزوائد
للهيثمى (3/ 235، 378) ، المعجم الكبير للطبرانى (2/ 144، 7/ 140، 151،
154، 11/ 83، 12/ 228) ، التمهيد لابن عبد البر (8/ 360) ، مصنف ابن أبى
شيبة (4/ 102) ، إرواء الغليل للألبانى (4/ 152) ، المطالب العالية لابن
حجر (1100) ، كنز العمال للمتقى الهندى (11975، 11983، 12474) ، البداية
والنهاية لابن كثير (5/ 135) ، الحاوى للفتاوى للسيوطى (2/ 51) ، الكاف
الشاف فى تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر (59) ، مسند الشافعى (112، 196) ،
تاريخ أصبهان لأبى نعيم (2/ 191) ، سنن الدارقطنى (2/ 283) ، المنتقى لابن
الجارود (465) .
(2) انظر الحديث فى: المنتقى لابن الجارود (469) .
(3) انظر: السيرة (4/ 227) .
(2/32)
وأعلمهم سنن حجهم، وخطب للناس خطبته التى
بين فيها ما بين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
«أيها الناس، اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا
الموقف أبدا، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام؛ إلى أن تلقوا
ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن
أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن
كل ربّا موضوع، ولكن لكم رؤس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه
لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم كان فى الجاهلية
موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان
مستعرضا فى بنى ليث، فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أما بعد، أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا،
ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك، فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على
دينكم.
أيها الناس: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا
عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة: 37] ،
ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات
والأرض، إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي
كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ، [التوبة: 36] . ثلاثة متوالية، ورجب مضر الذى هو بين جمادى وشعبان.
أما بعد، أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا، لكم عليهن أن
لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن
فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن
انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم
عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم
فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولى، فإنى قد بلغت وقد تركت فيكم
ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس، اسمعوا قولى واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن
المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه؛ فلا
تظلمن أنفسكم.
(2/33)
اللهم هل بلغت؟» فذكر أن الناس قالوا:
اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشهد» «1» .
وفى حديث جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس فى خطبته:
«وأنتم تسألون عنى، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت
ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: «اللهم
اشهد، اللهم اشهد» ثلاث مرات، ثم إذن، ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى
العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب حتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء
إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه. واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى
غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه،
ودفع وقد شنق القصواء الزمام حتى أرسلها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده
اليمنى: أيها الناس، السكينة، كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى
تصعد، ثم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم
يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر،
فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر
الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى
اصفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس حتى أتى بطن محر،
فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التى تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى
الجمرة التى عند الشجرة فرماها يسبع حصات، يكبر مع كل حصاة منها، رمى من
بطن الوادى، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، ثم أعطى
عليا فنحر ما غبروا شركة فى هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت فى قدر
فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى البيت فى قدر فأفاض وصلى بمكة الظهر، فأتى بنى عبد المطلب وهم
يسقون على زمزم، فقال: «انزعوا يا بنى عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس
على سقايتكم لنزعت معكم» «2» ، فناولوه دلوا، فشرب منه.
ويروى أن ربيعة بن أمية بن خلف هو الذى كان يصرخ فى الناس يقول رسول الله
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 147/ 886- 892) ، سنن أبى داود (2/
1905) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الحج (147) ، سنن أبى داود فى كتاب
المناسك باب (57) ، سنن ابن ماجه (3074) ، مسند الإمام أحمد (1/ 76) ،
السنن الكبرى للبيهقى (5/ 157) ، سنن الدارمى (2/ 49) ، الدر المنثور
للسيوطى (1/ 226) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 191) ، المنتقى لابن
جارود (469) .
(2/34)
صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، يقول له
رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: «أيها الناس، إن رسول الله يقول: هل
تدرون أى شهر هذا؟» فيقوله لهم، فيقولون: الشهر الحرام، فيقول لهم: إن الله
قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا، ثم يقول:
قل: أيها الناس، إن رسول الله يقول: «هل تدرون أى بلد هذا؟» قال: فيصرخ به،
فيقولون: البلد الحرام، فيقول: قل لهم: «إن الله قد حرم عليكم دماءكم
وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة بلدكم هذا» ، ثم يقول: «قل: يا أيها
الناس، إن رسول الله يقول: هل تدرون أى يوم هذا؟» فيقول لهم، فيقولون: يوم
الحج الأكبر، فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن
تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا» «1» .
وقال عمرو بن خارجة: وقفت تحت ناقة النبى صلى الله عليه وسلم وإن لعابها
ليقع على رأسى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة، فسمعته وهو
يقول: «أيها الناس، إن الله قد أدى إلى كل ذى حق حقه، فلا وصية لوارث،
والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه
فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا»
«2» .
ولما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة قال: «هذا الموقف، للجبل الذى
هو عليه، «وكل عرفة موقف» .
وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة: «هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف» .
ثم لما نحر بالمنحر بمنى قال: «هذا المنحر، وكل منى منحر» «3» .
فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، وقد أراهم مناسكهم، وأعلمهم ما
فرض عليهم من حجهم: من الموقف، ورمى الجمار، وطواف البيت، وما أحل لهم فى
حجهم، وما حرم عليهم، فكانت حجة البلاغ، وحجة الوداع، وذلك أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يحج بعدها.
__________
(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (1/ 473، 474) ، مجمع الزوائد للهيثمى
(3/ 270) .
(2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (4/ 2121) ، سنن النسائى (6/ 3644) ، مسند
الإمام أحمد (4/ 186، 238) .
(3) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (2/ 1907، 1935) ، سنن ابن ماجه (2/
3012) ، مسند الإمام أحمد (3/ 320، 321، 326) .
(2/35)
|