الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء

ذكر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه، وما يتصل بذلك من أمره صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته
ولما فرغ الناس من بيعة أبى بكر الصديق رضى الله عنه وجمعهم الله عليه وصرف عنهم كيد الشيطان أقبلوا على تجهيز نبيهم صلى الله عليه وسلم والاشتغال به.
قالت عائشة رضى الله عنها: لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه، فقالوا: والله ما ندرى، أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه؟ قالت:
فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه فى صدره، وكلمهم

(2/58)


مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبى وعليه ثيابه. قالت: فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه والقميص دون أيديهم.
ويروى عن غير واحد أن الذين ولوا غسله صلى الله عليه وسلم ابن عمه على بن أبى طالب، وعمه العباس بن عبد المطلب، وابناه الفضل، وقثم، وحبه أسامة بن زيد، ومولاه شقران.
وقال أوس بن خولى أحد بنى عوف بن الخزرج وكان ممن شهد بدرا لعلى بن أبى طالب يومئذك أنشدك الله يا على وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: ادخل، فدخل وجلس، فحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، فأسند على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة وشقران هما اللذان يصبان الماء عليه، وعلى يغسله، قد أسنده إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه، لا يفضى بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى يقول: بأبى أنت وأمى، ما أطيبك حيا وميتا. ولم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلم شىء مما يرى من الميت «1» .
وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه «2» .
ولما فرغ من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن فى ثلاث أثواب.
قال ابن إسحاق «3» فى حديث يرفعه إلى على بن حسين: ثوبين صحاريين، وبرد حبرة أدرج فيه إدراجا «4» .
وخرج مسلم فى صحيحه من حديث عائشة، قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ثلاثة
__________
(1) انظر: الطبقات لابن سعد (2/ 280) ، تاريخ الطبرى (2/ 238) ، سنن ابن ماجه فى كتاب الجنائز باب ما جاء فى غسل النبى صلى الله عليه وسلم (1/ 1467) .
(2) انظر: مسند أبى داود الطيالسى (ص 215 ج 1530) .
(3) انظر: السيرة (4/ 288) .
(4) انظر: التمهيد لابن عبد البر (2/ 163) ، الدلائل للبيهقى (7/ 248) ، صحيح البخارى فى كتاب الجنائز (3/ 1264) ، صحيح مسلم فى كتاب الجنائز (2/ 650، 651) ، سنن أبى داود فى كتاب الجنائز باب فى الكفن (3/ 3151) ، سنن الترمذى فى كتاب الجنائز (3/ 996) ، سنن النسائى (1896) ، سنن ابن ماجه (1/ 1469) ، موطأ مالك (1/ 5/ 223) ، مسند الإمام أحمد (6/ 40، 132، 165، 192، 204، 231) .

(2/59)


أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة «1» .
زاد الترمذى قال: فذكروا لعائشة قولهم: فى ثوبين وبرد حبرة. فقالت: قد أتى بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه.
واختلف المسلمون فى موضع دفنه، فقال قائل: ندفنه فى مسجده، وقال آخر: بل ندفنه مع أصحابه، وقال أبو بكر رضى الله عنه: ادفنوه فى الموضع الذى قبض فيه، فإن الله لم يقبض روحه إلا فى مكان طيب، فعلموا أن قد صدق «2» .
وفى رواية أنه قال لهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبى إلا دفن حيث يقبض.
فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى توفى عليه، فحفر له تحته.
ولما أرادوا أن يحفروا له، وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذى يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد، دعا العباس برجلين، فقال لأحدهما: اذهب إلى أبى عبيدة بن الجراح، وللآخر: اذهب إلى أبى طلحة. اللهم خر لرسول الله، فوجد الذى توجه إلى أبى طلحة أبا طلحة، فجاء به، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وضع على سريره فى بيته، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون عليه أرسالا الرجال، حتى إذا فرغوا أدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.
ويروى فى حديث أن عليا رضى الله عنه قال: لقد سمعنا همهمة ولم نر شخصا، فسمعنا هاتفا يقول: ادخلوا رحمكم الله فصلوا على نبيكم.
ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل، ليلة الأربعاء «3» .
قالت عائشة رضى الله عنها: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت
__________
(1) انظر: صحيح مسلم (3/ 39) ، صحيح البخارى (2/ 211) ، سنن أبى داود (3/ 198/ 3151) ، سنن النسائى (490/ 35، 36) ، طبقات ابن سعد (2/ 282- 284) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 246- 249) .
(2) انظر: طبقات ابن سعد (2/ 275، 292، 299) ، دلائل النبوة للبيهقى (259- 261) .
(3) انظر: السيرة (4/ 289) .

(2/60)


المساحى من جوف الليل من ليلة الأربعاء. وكان الذين نزلوا فى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب، والفضل وقثم ابنا عمه العباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أوس بن خولى من الأنصار لعلى بن أبى طالب: يا على، أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: انزل، فنزل مع القوم.
وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة يلبسها ويفترشها، فأخذها شقران مولاه، فدفنها فى القبر: والله لا يلبسها أحد بعدك أبدا، فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما انصرف الناس قالت فاطمة رضى الله عنها لعلى رضى الله عنه: يا أبا الحسن، دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قالت فاطمة: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أما كان فى صدوركم لرسول الله رحمة؟ أما كان معلم الخير؟ قال:
بلى يا فاطمة، ولكن أمر الله الذى لا مرد له، فجعلت تبكى وتندب: وا أبتاه، أجاب ربا دعاه، وا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، وا أبتاه، إلى جبريل ينعاه.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إليها فى مرضه أنه مقبوض منه ولا حق بربه، فبكت مشفقة من فراقه، فأسر إليها ثانية أنها أول أهله لحاقا به، فضحكت راضية بالموت مسرورة بوقوعه فى جنب ما تتعجل من لقائه فى حضرة القدس ومحلة الرضوان والكرامة.
ولما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف المهاجرون والأنصار عن دفنه، ورجعت فاطمة رضى الله عنها إلى بيتها اجتمع إليها نساؤها فقال:
اغبر أفاق السماء وكورت ... شمس النهار وأظلم العصران
فالأرض من بعد النبى كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الرجفان
فليبكه شرق البلاد وغربها ... ولتبكه مضر وكل يمان
وليبكه الطود المعظم جوه ... والبيت ذو الأستار والأركان
يا خاتم الرسل المبارك ضنه ... صلى عليك منزل الفرقان
ويروى أيضا أن فاطمة رضى الله عنها أنشدت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم متمثلة بشعر سميتها فاطمة بنت الأجهم:
قد كنت لى جبلا ألوذ بظله ... فتركتنى أمشى بأجرد ضاح
قد كنت ذات حمية ما عشت لى ... أمشى البرار وكنت أنت جناحى

(2/61)


فاليوم أخضع للذليل وأتقى ... منه وأدفع ظالمى بالراح
وإذا دعت قمرية شجنا لها ... ليلا على فنن دعوت صباحى
ومما ينسب إلى على أو فاطمة رضى الله عنهما:
ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدا الزمان غواليا
صبت على مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا
وجلست أم أيمن تبكى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وهى حاضنته التى كان يأوى إليها بعد موت أمه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيته لم يدفن بعد، فقيل لها: ما يبكيك يا أم أيمن قد أكرم الله نبيه وأدخله جنته وأراحه من نصب الدنيا، فقالت: إنما أبكى على خبر السماء كان يأتينا غضا جديدا كل يوم وليلة، فقد انقطع عنا ورفع، فعليه أبكى. فعجب الناس من قولها وبكوا لبكائها.
وقال أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شىء، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شىء وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفى دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.
وقال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: ولد النبى صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين، فيا لهذا اليوم كم خير تسبب فيه إلى أهل الأرض، وأى مصيبة نزلت فيه بمنية ضاق عنها منفسح الطول والعرض.
وقد حدثنا ابن عباس أيضا أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان له فرطان من أمتى أدخله الله بهما الجنة» «1» . فقالت عائشة: فمن كان له فرط من أمتك؟ قال: «ومن كان له فرط يا موفقة» «2» قالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك؟ قال: «فأنا فرط لأمتى، لن يصابوا بمثلى» «3» .
ولله در شاعره حسان بن ثابت إذ يقول:
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (1062) ، مسند الإمام أحمد (1/ 334) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 68) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (1735) ، كنز العمال للمتقى الهندى (6572، 6609) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (12/ 208) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 335) ، الشمائل للترمذى (212) .
(3) انظر الحديث فى: هامش المواهب (200) .

(2/62)


وهل عدلت يوما رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد
وهذا البيت من قصيدة له يرثى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنذكرها بعد فى مراثيه.
وروى أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليعز المسلمين فى مصائبهم المصيبة بى» «1» .
فيا لها والله مصيبة أحرقت الأكباد، وغمرت بالأسف والحزن الآماد والآباد، ورزآ ثقيلا آد كاهل الإيمان منه ما آد، وخطبا جليلا أودى بكل صبر جميل أو كاد:
والصبر يحمد فى المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
ولولا أن الله سبحانه وتعالى ربط على القلوب من بعده بأمر من عنده لأودت مكانها كمدا، ولما وجدت إلى البقاء متسلفا، ولا عن وحى القنا ملتحدا، ولو رجفت الأرض لفقدان أحد لأصبحت لفقدانه راجفة، ولو نسفت الجبال لمهلك هالك لغدت رواسيها على حكم الأسف متناسفة، ولو كسفت النيرات لمصرع حى لأمست دررها منثورة لمصرعه، ولو تغيرت المشارع المورودة لموت إنسان لأمر لموته على كل وارد عذب مشرعه هيهات هيهات، ذلك والله الرزأ الكبار، والنازلة التى يعيى بها الاحتمال والاصطبار، والخطر الذى تقاصر دونه الأخطار، والخطب الذى تشقى بمضاضة مشاهدته المهاجرون والأنصار، والمفقود الذى لا عوض منه أبدا وإن تراخت الأيام وتطاولت الأعصار، ولو غير الأقدار أصابته لبدلت دونه أعلاق المهج، أو غير المنايا نابتة لتعذر على قاصده وجه السبيل المنتهج، ولكنها السبيل التى لا يتخطاها سالك، وما سبقت به مشيئة الدائم الباقى الذى كل شىء إلا وجهه هالك، فلا مجال للدفاع، ولا حيلة فى الامتناع، ولا غناء للأعوان والأتباع، ولا شىء يضمه حكم الممكن المستطاع غير الانقياد لأمر الله والإهطاع، ولهفا عليه، ويا برح شوق القلوب المشربة نور الإيمان به، وشدة نزاعها إليه، وبالدموع أجريت عليه، صلوات الله وبركاته عليه، لقد وجدت مجرا، وأوجبت أجرا وحرمت لهيا عن أسبابها وزجرا، ولقد كان من يقدم المدينة بعد أن استأثر به مولاه الذى شرح له صدرا، ورفع له ذكرا وقدرا، إذا أشرفوا عليها سمعوا لأهلها ضجيجا يصم السميع، وللبكاء فى جنباتها عجيجا أصحل الحلوق ونزف الدموع.
حدث أبو ذؤيب الهذلى فقال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل، فاستشعرت حزنا، وبت بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، فظللت أقاسى طولها حتى إذا كان قرب السحر أغفيت فهتف بى هاتف وهو يقول:
__________
(1) انظر الحديث فى: السلسلة الصحيحة للألبانى (1106) ، موطأ مالك (236) .

(2/63)


خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الأطام
قبض النبى محمد فعيوننا ... تذرى الدموع عليه بالتسجام
قال أبو ذؤيب: فوثبت من نومى فزعا، فنظرت إلى السماء، فلم أر إلا سعد الذابح، فتفاءلت به، ذبح يقع فى العرب، وعلمت أن النبى صلى الله عليه وسلم قد قبض، أو هو ميت من علته، فركبت ناقتى وسرت، فلما أصبحت طلبت شيئا أزجر به، فعن لى شيهم يعنى القنفذ قد قبض على صل يعنى الحية فهى تلتوى عليه، والشيهم يقضها حتى أكلها، فزجرت ذلك وقلت: شيهم شىء مهم، والتواء الصل التواء الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعده على الأمر، فحثثت ناقتى حتى إذا كنت بالغابة زجرت الطائر فأخبرنى بوفاته، ونعب غراب سانح، فنطق بمثل ذلك، فتعوذت بالله من شر ما عن لى فى طريقى، وقدمت المدينة ولها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت المسجد، فوجدته خاليا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت بابه مرتجا، وقيل إلى الأنصار، فجئت إلى السقيفة، فأصبت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وسالما مولى أبى حذيفة وجماعة من قريش، ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة، وفيهم شعراؤهم: حسان بن ثابت وكعب بن مالك وملأ منهم، فآويت إلى قريش وتكلمت الأنصار، فأطالوا الخطاب، وأكثروا الصواب، وتكلم أبو بكر رضى الله عنه فلله دره من رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع فصل الخطاب، والله لقد تكلم لكلام لا يسمعه سامع إلا انقاد له ومال إليه، ثم تكلم عمر رضى الله عنه بعده دون كلامه، ومد يده وبايعوه، ورجع أبو بكر ورجعت معه.
قال أبو ذؤيب: فشهدت الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وشهدت دفنه.
ثم أنشد أبو ذؤيب يبكى النبى صلى الله عليه وسلم:
لما رأيت الناس فى غسلاتهم ... ما بين ملحود له ومضرح
متبادلين لشرجع بأكفهم ... نص الرقاب لفقد أبيض أروح
فهناك صرت إلى الهموم ومن بيت ... جار الهموم يبيت غير مروح
كسفت لمصرعه النجوم وبدرها ... وتزعزعت آطام بطن الأبطح
وتزعزعت أجيال يثرب كلها ... ونخيلها لحلول خطب مفدح
ولقد زجرت الطير قبل وفاته ... بمصابه وزجرت سعد الأذبح
وذكر الزبير بن أبى بكر بإسناد له إلى هشام بن عروة: أن صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ترثى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفى:

(2/64)


ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برا ولم تك جافيا
وكنت رحيما هاديا ومعلما ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا
لعمرك ما أبكى النبى لفقده ... ولكن لما أخشى من الهرج آتيا
كأن على قلبى لذكر محمد ... وما خفت من بعد النبى المكاويا
أفاطم صلى الله رب محمد ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا
فدا لرسول الله أمى وخالتى ... وعمى وآباى ونفسى وماليا
صدقت وبلغت الرسالة صادقا ... ومت صليب العود أبلج صافيا
فلو أن رب الناس أبقى نبينا ... سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحية ... وأدخلت جنات من العدن راضيا
أرى حسنا أيتمته وتركته ... يبكى ويدعو جده اليوم نائيا
وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم «1» يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أرقت فات ليلى لا يزول ... وليل أخى المصيبة فيه طول
وأسعدنى البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل
لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحى والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل
وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كربت تسيل
نبى كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول
ويهدينا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل
أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعى ذاك السبيل
فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول
ولما بلغت عمرو بن العاص السهمى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ بعمان، قال يرثيه:
أتانى ورحلى فى عمان مصيبة ... فبت بعين طرفها طرف أرمد
غداة نعى الناس النبى محمدا ... فأعزز علينا بالنبى محمد
فقدنا به وحى السماء ونعمة ... تروح علينا بالمراد وتغتدى
وأوحش منه منبر كان زينة ... ومسجده وحش فيها خير مسجد
__________
(1) انظر ترجمته فى: تجريد أسماء الصحابة (2/ 173) ، الإصابة ترجمة رقم (10028) .

(2/65)


فلو كنت يوما شاهدا لوفاته ... لمست ترابا من ضريحته يدى
بإذن يراه أهله ومكيده ... أسود بها ما عشت يومى وفى غد
كما نالها منه المغيرة خدعة ... وما أنا دون الطائفى الجفيدد
يريد: المغيرة بن شعبة الثقفى، وكان يدعى أنه أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أخذت خاتمى فألقيته فى القبر، وقلت: إن خاتمى سقط منى، وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون أحدث الناس عهدا به صلى الله عليه وسلم.
وكان على بن أبى طالب رضى الله عنه ينكر ذلك من قول المغيرة ويأباه، ويقول:
أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن عباس.
وذكر وثيمة بن موسى أن عبد الله بن أنيس الجهنى «1» كان غائبا ببعض ضواحى المدينة، فلما انتهى إليه الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلمت عليه الأرض، ثم قال: والله، لو أن ميتا رده قتل حى نفسه لقتلت نفسى، ولكن أفرغ إلى أمر الله، إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم سأل الذى أخبره: هل استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بعينه؟ قال: لا والله.
قال: الله اكبر، لو استخلفه هلكنا بمعصية. فهل اجتمع الناس على رجل؟ قال: أمر نبى الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلى بالناس. قال: هى إعلام الإمامة، وليس كل من صلى بإمام. ما فعل على؟ قال: هو فى بيته. قال: لا يريدها يا ابن أخى، لها ثلاثة من قريش: على وأبو بكر وعمر، من ادعى منازلهم قصر دونهم. ما صنعت الأنصار؟ قال: اعتزلت، قال:
كلا، طائف من الشيطان، لم يكن الله ليخذلهم مع ما سبق لهم، بت عندى الليلة فإنى عليل ولا أرانى إلا لما بى من هذه الصدمة، ولكن أبلغ عنى قريشا، فقال:
نفا النوم ما لا تبتغيه الأصابع ... وخطب جليل للبلية جامع
غداة نعى الناعى إلينا محمدا ... وتلك التى تستك منها المسامع
فلو رد نفسا قتل نفس قتلتها ... ولكنه لا يدفع الموت دافع
فآليت لا أبكى على هلك هالك ... من الناس ما أؤسى ثبير وفارغ
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4565) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2827) ، الثقات (3/ 234) ، حلية الأولياء (2/ 5) ، حسن المحاضرة (1/ 211) ، شذرات الذهب (1/ 60) ، البداية والنهاية (8/ 57) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 298) ، تهذيب التهذيب (5/ 149) ، العبر (1/ 59) ، الجرح والتعديل (5/ 1) ، تلقيح فهوم أهل الأثر (367) ، التاريخ الكبير (3/ 14) ، تهذيب الكمال (2/ 666) ، الطبقات (118) ، الكاشف (2/ 73) ، تقريب التهذيب (1/ 402) ، الوافى بالوفيات (17/ 76) ، الأنساب (2/ 178) ، بقى بن مخلد (113) .

(2/66)


ولكننى باك عليك ومتبع ... مصيبته إنى إلى الله راجع
وقد قبض الله النبيين قبله ... وعادا أصيب بالورى والتتابع
فإن مات فالإسلام حى وربنا ... لذا الدين مما كاده اليوم مانع
فيا ليت شعرى من يقوم بأمرنا ... وهل لقريش يا إمام منازع
ثلاثة رهط من قريش هم هم ... أزمة هذا الأمر والله صانع
على أو الصديق أو عمر لها ... وليس لها بعد الثلاثة رابع
أولئك خير الحى فهر بن مالك ... وأول من تجنى عليه الأصابع
أولئك إن قاموا به سلكوا بنا ... محجتنا العظمى وقل التنازع
وكل قريش والذى أنا عبده ... على كل حال للثلاثة تابع
فإن قال منا قائل غير هذه ... أبينا وقلنا الله راء وسامع
فيا لقريش قلدوا الأمر بعضكم ... فإن ضجيع العجز للسن قارع
ولا تبطئوا عنها فواقا فإنها ... إذا قطعت لم تسر فيها المطامع
قال: فانتهى الرجل إلى قريش وقد انطلق المهاجرون إلى الأنصار، وكان من أمرهم الذى كان، فرجع إلى عبد الله بن أنيس، فأخبره الخبر، ففرح بذلك.
ولأبى الهيثم بن التيهان الأنصارى فى نحو هذا المعنى شعر قاله وقد مر به أبو بكر الصديق رضى الله عنه قبل مبايعة الناس إياه، فشكى إليه وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الهيثم: وقد والله شمتت اليهودية والنصرانية، وبلغنى عن الناس أمر ساءنى، فرجع أبو الهيثم إلى منزله، فقال:
ألا قد أرى أن المنى لم تخلد ... لأن المنايا للنفوس بمرصد
لقد جدعت أذاننا وأنوفنا ... غداة فجعنا بالنبى محمد
تكلم أهل الشرك من بعد غلظة ... لغيبة هاد كان فينا ومهتدى
ثلاثة أصناف من الناس كلهم ... يروح علينا بالشنان ويغتدى
نصارى يقولون الفرى ومنافق ... شبيه بذاك الشامت المتهود
وأوعد كذاب اليمامة جهده ... فأجلب عودا باللسان وباليد
فإن تك هذا اليوم منهم شماتة ... فلا يأمنوا ما يحدث الله فى غد
وما نحن إن لم يجمع الله أمرنا ... بخير قريش كلها بعد أحمد
بأمنع من شاء يقفر مطيرة ... بقيعة قاع أو ضباب بفدفد
وإنى لأرجو أن يقوم بأمرنا ... على أو الصديق والمرء من عدى

(2/67)


أولئك خيار الحى فهر بن مالك ... وأنصار هذا الدين من كل معتدى
ولما انتهت إلى همدان وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمت سفاؤهم بما كرهت ظماؤهم، فقال عبد الله بن مالك الأرض، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له هجرة وفضل فى دينه، فاجتمعت إليه همدان، فقال:
يا معشر همدان، إنكم لم تعبدوا محمدا، إنما عبدتم رب محمد، وهو الحى الذى لا يموت، غير أنكم أطعتم رسولكم بطاعة الله فدعاكم فأجبتموه، وهداكم فاتبعتموه، واعلموا أنه ولى نعمتكم فى دينكم ودنياكم، فأما دينكم فاستنقذكم الله به من النار، وأما دنياكم فاستنقذكم الله به من الرق، ولم يكن الله ليجمع صحابة رسوله على ضلال، وقد وعدهم أن يهديهم عندما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فأطيعوا من اختاروا، وقدموا من قدموا، فى كلام غير هذا تكلم به على هذا المثال، ونسجه على هذا المنوال.
وقال فى ذلك:
لعمرى لئن مات النبى محمد ... لما مات يا ابن القيل رب محمد
وما كان إلا مرسلا برسالة ... ليبلغها والحادثات بمرصد
ولما قضى من ذاك ما كان قاضيا ... ولم يبق شىء فيه إلحاد ملحد
دعاه إليه ربه فأجابه ... فيا خير غورى ويا خير منجد
وما نحن إلا مثل من كان قبلنا ... فريقين شتى كافر وموحد
ونحن على ما كان بالأمس بيننا ... من الدين نهدى من أراد فيهتدى
ثم قام ابن ذى مران، وكان من سادات همدان وملوكهم، فتكلم فيهم، فأطال نفس الكلام، وحرض على التمسك بالدين، وحمل على الطاعة للقائم بالأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال يرثيه ويتفجع للمصيبة فيه:
إن حزنى على الرسول طويل ... ذاك منى على الرسول قليل
قلت والموت يا إمام كريه ... ليتنى مت يوم مات الرسول
ليتنى لم أكن بقيت فواقا ... بعده والفواق منى طويل
بكت الأرض والسماء عليه ... وبكاه خليله جبريل
يا لها رحمة أصيب بها النا ... س تولت وحان منها الرحيل
جدعت منهم الأنوف فللقل ... ب خفوق وللجفون همول
ليس للناس إمام من الأم ... ر فتيل وأين منك الفتيل

(2/68)


إنما الأمر للذى خلق الخل ... ق وفى خلقه عليه دليل
فى أبيات غير هذه يؤنس فيها المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة، وكان أميرا عليهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عند قومه من حسن الطاعة له والقيام فى الحق معه.
ثم قام ابن ذى المشغار، وكان ملك أهل ناحيته، وكان متألها، فتكلم أيضا فى هذا النحو بكلام حسن، نظما ونثرا، فلما فرغ من مقالته أتاه مسروق بن الحارث القوال الأرحبى، فقال له:
أيها الملك، إنه لا يعرف عندك فى قريش إلا رجل مثلى من قومك، أنا القوال ابن القوال، الفارس ابن الفارس، ابعثنى إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقوم مقاما شريفا أباهى به فيك الناس.
فسرحه، فلما قدم مسروق على أبى بكر رضى الله عنه تهيأت له قريش، وقالوا:
خطيب همدان وفتاها، فتكلم عندهم بكلام تركنا ذكره وذكر ما أنشد معه من الشعر، إذ ليس مناسبا لما نحن الآن بسبيله من ذكر مراثى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعت قريش شعره وخطبته، عجبت منه، وكان معه عبد الله بن سلمة الهمدانى، فقام فقال: يا معشر قريش، إنكم لم تصابوا بنبى الله صلى الله عليه وسلم دون سائر العرب، لأنه لم يكن لأحد دون أحد، وأيم الله، لا أدرى أى الرجلين أشد حزنا عليه، وأعظم مصابا به، من عاينه فغاب عنه عيانه، أو من أشرف على رؤيته، فلم يره؟ غير أنا معترفون للمهاجرين بفضل هجرتهم، وللأنصار بفضل نصرتهم، والتابع ناصر، والمؤمن مهاجر فى كلام غير هذا صدر عن قلب مؤمن، وجأش به خاطر شديد، فأثنى عليه أبو بكر خيرا، وحمدته قريش، وكان سيدا، فقال:
إن فقد النبى جدعنا اليو ... م فدته الأسماع والأبصار
وفدته النفوس ليس من المو ... ت فرار وأين أين الفرار
ما أصيبت به الغداة قريش ... لا ولا أفردت به الأنصار
دون من وجه الصلاة إلى الل ... هـ وقد هنئت به الكفار
ورجال منافقون شمات ... ويوم واروه كفرهم إسرار
من بكته السماء تسعدها الأر ... ض وبكت بعد القفار البحار
وسرافيل قد بكاه وجبري ... ل وميكال والملأ الطهار
يا لها كلمة يضيق بها الحل ... ق أتانا بنقلها السفار

(2/69)


قيل مات النبى فانصدع القل ... ب وشابت من هولها الأشعار
فعليه السلام ما هبت الري ... ح ومدت جنح الدجى أنوار
وقال سواد بن قارب الدوسى «1» ، وهو الذى كان كاهنا فأسلم فحسن إسلامه بإرشاد ربه إياه إلى ذلك حسب ما تقدم صدر كتابنا هذا من خبره يبكى النبى صلى الله عليه وسلم لما بلغت أسد السراة وفاته، وبعد أن قام فيهم مقاما محمودا، يثبتهم فى الدين، ويحذرهم سوء عاقبة الارتداد، وكان قد سادهم وشرف فيهم، فأجابوه إلى ما أراد، وقبلوا رأيه، وقال:
جلت مصيبتك الغداة سواد ... وأرى المصيبة بعدها ترداد
أبقى لنا فقد النبى محمد ... صلى الإله عليه ما يعتاد
حزنا لعمرك فى الفؤاد مخامرا ... أو هل لمن فقد النبى فؤاد
كنا نحل به جنابا ممرعا ... خف الجناب فأجدب الرواد
فبكت عليه أرضنا وسماؤنا ... وتصدعت وجدا به الأكباد
قل المتاع به وكان عيانه ... حلما تضمن سكريته رقاد
كان العيان هو الطريف وحزنه ... باق لعمرك فى النفوس تلاد
إن النبى وفاته كحياته ... والحق حق والجهاد جهاد
لو قيل تفدون النبى محمدا ... بذلت له الأموال والأولاد
وتسارعت فيها النفوس لبذلها ... هذا له الأغياب والأشهاد
هذا وهذا لا يرد نبينا ... لو كان يفديه فداء سواد
وقال عبد الحارث بن أسد بن الريان من أهل نجران يبكى النبى صلى الله عليه وسلم لما بلغتهم وفاته، بعد قيامه فيهم أحمد مقام، يحرضهم على التمسك بالدين والثبوت على الإسلام، ويذكرهم نعمة الله عليهم، بالدخول فيه واللحاق بمن هاجر إليه، ويقول لهم فيما قال:
إنما كان نبى الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم عارية، فأتى عليه أجله، وبقى الكتاب الذى كان يحكم به، ويحكم عليه، فأمره أمر ونهيه نهى إلى يوم القيامة، وقد سهل لكم الطريق فاسلكوه، ولا بد من جولة، فكونوا فيها ذوى إناة، وقد اختار القوم لأنفسهم رجلا لا يألوهم خيرا، فأطيعوا قريشا ما أطاعوا الله، فإذا عصوه فاعصوهم، فإنه لا ينبغى لآخرنا أن يملك
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3596) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2334) ، الثقات (3/ 179) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 248) ، الوافى بالوفيات (16/ 35) ، التاريخ الكبير (4/ 202) ، الأعلام (3/ 144) .

(2/70)


إلا بما ملك به أولنا، وهى النبوة، فميراثها منها فى كلام غير هذا حسن أبلى به عذرا، وبالغ لقومه نصحا.
وقال:
لعمرى لئن كان النبى محمد ... عليه السلام الله أودى به القدر
لقد كسفت شمس النهار لفقده ... وبكت عليه الأرض وانكسف القمر
وبكته آفاق السماء وما لها ... وللأرض شجو غير ذاك ولا عبر
ولو قيل تفدون النبى محمدا ... لقلنا نعم بالنفس والسمع والبصر
وقل له منا الفداء وهذه ... وإن بذلت لا يسترد بها بشر
فإن يك وافاه الحمام فدينه ... على كل دين خالف الحق قد ظهر
ونحن بحمد الله هامة مذحج ... بنو الحارث الخير الذين هم الغرر
بنجران نعطى من سعى صدقاتنا ... موفرة ما فى الخدود لها صعر
ونحن على دين النبى نرى الذى ... نهانا حراما منه والأمر ما أمر
أحاذر إن لم يدفع الله جولة ... مجدعة يبيض من هولها الشعر
يحين فيها الله من خف حلمه ... ويسعد فيها ذو الأناة بما صبر
نطيع قريشا ما أطاعوا فإن عصوا ... أبينا ولم نشر السلامة بالغرر
وكان لهذا الأمر منهم ثلاثة ... على أو الصديق أو ثالث عمر
فلم يخطئوا إذا سددوها لبعضهم ... هم ما هم كل لإرعاده مطر
وأمثال هذه المقالات نثرا ونظما لرجال من سادات العرب وأشراف القبائل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، قاموا بها فى قومهم يحذرونهم من الفتنة، ويحرضونهم على التمسك بالطاعة لمن قام بالأمر.
وقد ذكر المؤلفون فى الردة كثيرا منها، وهى بذلك الباب أخص، وإنما تخيرت هنا منا ما يتعلق نظمه بباب الرثاء، ويبعث فى حق المصطفى على التفجع والبكاء، حشدا على الداهية الدهياء، واستعانة على الحادثة النكراء، وعظيم المصيبة بوفاة من حق فى حقه بكاء الأرض والسماء، وقل لفقده أن تسح المدامع عوض الدموع بالدماء:
هو الرزء الذى ابتدأ الرزايا ... وقال لأعين الثقلين جودى
وقال حسان بن ثابت الأنصارى «1» يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 292) .

(2/71)


بطيبة رسم للرسول ومعهد ... منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
«1»
ولا تمتحى الآيات من دار حرمة ... بها منبر الهادى الذى كان يصعد
وواضح آثار وباقى معالم ... وربع له فيه مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوفد
معارف لم تطمس على العهد أيها ... أتاها البلى فالآى منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وعهده ... وقبرا بها واراه فى التراب ملحد
ظللت بها أبكى الرسول فأسعدت ... عيون ومثلاها من الجفن تسعد
يذكون ألاء الرسول وما أرى ... لها محصيا نفسى فنفسى تبلد «2»
مفجعة قد شفها فقد أحمد ... فظلت لآلاء الرسول تعدد «3»
وما بلغت من كل أمر عشيره ... ولكن لنفسى بعد ما قد توجد «4»
اطالت وقوفا تذرف العين جهدها ... على طلل القبر الذى فيه أحمد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحد منك ضمن طيبا ... عليه بناء من صفيح منضد «5»
تهيل عليه الترب أيد واعين ... عليه وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة ... عشية علوه الثرى لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكى السموات يومه ... ومن قد بكته الآرض فالناس أكمد
وهل عدلت يوما رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد
تقطع فيه منزل الوحى عنهم ... وقد كان ذا نور يغور وينجد «6»
يدل على الرحمن من يقتدى به ... وينفذ من هول الخزايا ويرشد
إمام لهم يهديهم الحق جاهدا ... معلم صدق أن يطيعوا ويسعدوا
__________
(1) طيبة: اسم مدينة النبى. والرسم: ما بقى من آثار الدار. وتعفو: أى تدرس وتتغير. وتهمد: أى تبلى.
(2) تسعد: أى تعين.
(3) شفها: أى أضعفها.
(4) العشير: أى العشر. وتوجد: من الوجد، وهو الحزن.
(5) الصفيح: الحجارة العريضة. والمنضد: الذى جعل بعضه على بعض.
(6) يغور: أى يبلغ الغور، وهو المنخفض من الأرض. وينجد: أى يبلغ النجد، وهو المرتفع من الأرض.

(2/72)


عفو عن الزلات يقبل عذرهم ... وإن يحسنوا فالله بالخير أجود
وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله ... فمن عنده تيسير ما يتشدد
فبينا هم من نعمة الله وسطهم ... دليل به نهج الطريق يقصد
عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
عطوف عليهم لا يثنى جناحه ... إلى كتف يحنو عليهم ويمهد «7»
فبينا هم فى ذلك النور إذ غدا ... إلى نورهم سهم من الموت مقصد
فأصبح محمودا إلى الله راجعا ... يبكيه جن المرسلات ويحمد
وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها ... لغيبة ما كانت من الوحى تعهد
قفارا سوى معمورة اللحد ضافها ... فقيد نبكيه بلاط وغرقد
ومسجده فالموحشات لفقده ... خلاء له فيها مقام ومقعد
وبالجمرة الكبرى له ثم أوحشت ... ديار وعرصات وربع ومولد
فبكى رسول الله يا عين عبرة ... ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد
ومالك لا تبكين ذا النعمة التى ... على الناس منها سابغ يتغمد
فجودى عليه بالدموع وأعولى ... لفقد الذى لا مثله الدهر يوجد
وما فقد الماضون مثل محمد ... ولا مثله حتى القيامة يفقد
أعف وأوفى ذمة بعد ذمة ... وأقرب منه نائلا لا ينكد
وأبذل منه للطريف وتالدا ... إذا ضن معطاء بما كان يتلد «8»
وأكرم صيتا فى البيوت إذا انتهى ... وأكرم جدا أبطحيا يسود «9»
وأمنع ذروات وأثبت فى العلا ... دعائم عز شاهقات تشيد
وأثبت فرعا فى الفروع ومنبتا ... وعودا غذاه المزن فالعود أغيد
رباه وليدا فاستتم تمامه ... على أكرم الخيرات رب ممجد
تناهت وصاة المسلمين بكفه ... فلا العلم محبوس ولا الرأى يفند
أقول ولا يلقى لما قلت عائب ... من الناس إلا عازب العقل مبعد «10»
وليس هواى نازعا عن ثنائه ... لعلى به فى جنة الخلد أخلد
__________
(7) الكنف: أى الجانب والناحية.
(8) الطريف: المال المستحدث. والتالد: المال القديم الموروث. وضن: أى بخل. ويتلد: أى يكتسب قديما.
(9) الصيت: أى الذكر الحسن. والأبطحى: المنسوب إلى أبطح مكة، وهو موضع سهل متسع.
(10) عازب العقل: بعيد العقل غائبه.

(2/73)


مع المصطفى أرجو بذاك جواره ... وفى نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
وقال حسان بن ثابت «1» يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما بال عينك لا تنام كأنما ... كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعا على المهدى أصبح ثاويا ... يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
وجهى يقيك الترب لهفا ليتنى ... غيبت قبلك فى بقيع الغرقد
بأبى وأمى من شهدت وفاته ... فى يوم الاثنين النبى المهتدى
فظللت بعد وفاته متبلدا ... متلدا يا ليتنى لم أولد
أأقيم بعدك فى المدينة بينهم ... يا ليتنى صبحت سم الأسود
أو حل أمر الله فينا عاجلا ... فى روحة من يومنا أو من غد
فتقوم ساعتنا فنلقى طيبا ... محضا ضرائبه كريم المحتد
يا بكر آمنة المبارك ذكرها ... ولدته محصنة الأسعد
نورا أضاء على البرية كلها ... من يهد للنور المبارك يهتدى
يا رب فاجمعنا معا ونبينا ... فى جنة تبنى عيون الحسد
فى جنة الفردوس فاكتبها لنا ... يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد
والله أسمع ما بقيت بهالك ... إلا بكيت على النبى محمد
يا ويح أنصار النبى ورهطه ... بعد المغيب فى سواء الملحد
ضاقت بالانصار البلاد فأصبحوا ... سودا وجوههم كلون الأثمد
ولقد ولدناه وفينا قبره ... وفضول نعمته بنا لم تجحد
والله أكرمنا به وهدى به ... أنصاره فى كل ساعة مشهد
صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد
وقال حسان بن ثابت «2» أيضا يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نب المساكين أن الخير فارقهم ... مع النبى تولى عنهم سحرا
من ذا الذى عنده رحلى وراحلتى ... ورزق أهلى إذا لم يؤنسوا المطرا
أم من نعاتب لا نخشى جنادعه ... إذا اللسان عتا فى القول أو عثرا
كان الضياء وكان النور نتبعه ... بعد الإله وكان السمع والبصرا
يا ليتنا يوم واروه بملحده ... وغيبوه وألقوا فوقه المدارا
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 295) .
(2) انظر: السيرة (4/ 296) .

(2/74)


لم يترك الله منا بعده أحدا ... ولم يعش بعده أنثى ولا ذكرا
ذلت رقاب بنى النجار كلهم ... وكان أمرا من أمر الله قد قدرا
واقتسم الفىء دون الناس كلهم ... وبددوه جهارا بينهم هدرا
وقال حسان بن ثابت أيضا يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
آليت ما فى جميع الناس مجتهدا ... منى ألية بر غير إفناد «1»
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت ... مثل الرسول نبى الأمة الهادى
ولا برا الله خلقا من بريته ... أو فى بذمة جار أو بميعاد
من ذا الذى كان فينا يستضاء به ... مبارك الأمر ذا عدل وإرشاد
أمسى نساؤك عطلن البيوت فما ... يضربن فوق قفا ستر بأوتاد
مثل الرواهب يلبسن المباذل قد ... أيقن بالبؤس بعد النعمة الباد
«2»
يا أفضل الناس إنى كنت فى نهر ... أصبحت منه كمثل المفرد الصادى «3»
وقال كعب بن مالك الأنصارى من كلمة يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وباكية حرى تحرق بالبكا ... وتلطم منها خدها والمقلدا
على هالك بعد النبى محمد ... ولو عدلت لم تبك إلا محمدا
فلست بباك بعد فقد محمد ... فقيدا وإن كان القريب المسودا
فجعنا بخير الناس حيا وميتا ... وأدناه من أهل السموات مقعدا
وأعظمه فقدا على كل مسلم ... وأكرمه فى الناس كلهم يدا
متى تنزل الأملاك بالوحى بعده ... علينا إذ ما اللبس فينا ترددا
إذا كان منه القول كان موفقا ... وإن كان وحيا كان نورا مجددا
جزى الله عنا ربنا خير ما جزى ... نبى الهدى الداعى إلى الحق أحمدا
وقال عمرو بن سالم الخزاعى يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لعمرى لئن جادت لك العين بالبكا ... لمحقوقة أن تستهل وتدمعا
فيا حفص إن الأمر جل عن البكا ... غداة نعى الناعى النبى فأسمعا
فلم أر يوما كان أعظم حادثا ... ولم أر يوما كان أكثر موجعا
__________
(1) الألية: اليمين والحلف. والإفناد: العيب والخطأ.
(2) المباذل: الأثواب التى تستعمل يوميا، أو الأثواب الخلقة.
(3) الصادى: العاطش أو الشديد العطش.

(2/75)


ولم أر من يوم أعم مصيبة ... ولا ليلة كانت أمر وأفظعا
تعزى بصبر واذكرى الله واعلمى ... بأن سوف يجزى كل ساع بما سعى
ولا تزرئى محض الحياء فتفجعى ... بدينك والدنيا فتزريهما معا
فإن يك قد مات النبى فبعدما ... نعى نفسه بدآ وعودا فأسمعا
إذا ذكرت نفسى فراق محمد ... تهيج حزنى والفؤاد تقطعا
فيالك نفسا لا يزال يزيدها ... على الدهر طول الدهر إلا تصدعا
جزى منك رب الناس أفضل ما جزى ... نبيا هدانا ثم ولى مودعا
فو الله لا أنساك ما دمت ذاكرا ... لشىء وما قلبت كفا وإصبعا
وقد أكثر الشعراء فى تأبينه صلوات الله عليه قديما وحديثا، وقضوا من التفجيع عليه حقا، لا ينبغى أن يكون عهده نكيشا، ولم يمنعهم تقادم الأيام وتطاول الأعوام من تجديد البكاء عليه، ومزيد الحنين إليه، وبحق ما يكون ذلك، فهو الرزء الذى حقه أن ينسى جميع الأرزاء، والحادث الجلل الذى يقبح معه حسن العزاء، وطواعية الأسف عليه دائما من أعدل الشهادات بالإخلاص لمن قام بها واستقام بالنية والقول على سواء مذهبها، جعلنا الله ممن أحبه حقا، وكتبنا فيمن غدا لشفاعته المشفعة مستحقا.
فمن ذلك ما وقفت عليه لأبى إسحاق إسماعيل بن القاسم الغزى الكوفى، المعروف بأبى العتاهية من كلمة:
على رسول الله منى السلام ... ما كان إلا رحمة للأنام
أحيى به الله قلوبا كما ... أحيى موات الأرض صوب الغمام
أكرم به للخلق من مبلغ ... هاد وللناس به من إمام
وأصبح الحق به قائما ... وأصبح الباطل دحض المقام
وقال إسماعيل بن القاسم أيضا من كلمة أخرى:
ليبك رسول الله من كان باكيا ... ولا تنس قبرا بالمدينة ساويا
جزى الله عنا كل خير محمدا ... فقد كان مهديا دليلا هاديا
لمن تبتغى الذكرى لما هو أهله ... إذا كنت للبر المطهر ناسيا
أتنسى رسول الله أفضل من مشى ... وآثاره بالمسجدين كما هيا
وكان أبر الناس بالناس كلهم ... وأكرمهم بيتا وشعبا وواديا
تكدر من بعد النبى محمد ... عليه سلام الله ما كان صافيا
فكم من منار كان أوضحه لنا ... ومن علم أمسى وأصبح عافيا

(2/76)


ركنا إلى الدنيا الدنية بعده ... وكشفت الأطماع منا المساويا
وإنا لنرمى كل يوم بعبرة ... نراها فما نزداد إلا تعاميا
كأنا خلقنا للبقاء وأينا ... وإن مدت الدنيا له ليس فانيا
أبى الموت إلا أن يكون لمن ترى ... من الخلق طرا حيث ما كان لاقيا
حسمت المنى يا موت حسما مبرحا ... وعلمت يا موت البكاء البواكيا
ومزقتنا يا موت كل ممزق ... وعرفتنا يا موت منك الدواهيا
ولأبى عبد الله محمد بن أبى الخصال الغافقى الأندلسى، ومكانه من متانة العلم والدين وصدق المقالة وصحة اليقين المكان الذى يلحقه بأقرانه من العلماء المتقنين، قصائد يرثى بها النبى صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين يساجل بها شاعره حسان بن ثابت فى قصائده المتقدمة صوتا بصوت، وكلمة بكلمة، أخبرنا بها وبسائر كلامه نثره ونظمه غير واحد من أشياخنا رحمهم الله عنه فمن ذلك قوله يعارض حسان فى قصيدته الأولى ويمشى فى التفجع والتوجع على طريقته المثلى:
بطيبة آثار تحج وتقصد ... ودار بها الله نور مخلد
ومهبط جبريل بوحى وحكمة ... يبينها للعالمين محمد
ومظهر آيات كأن رسومها ... على ما محى منها البلى يتجدد
وفى مسجد التقوى تأرخ روضة ... عليها من الفردوس كل ممدد
يفاوحها طيب الجنان وتربة ... تبوءها من جنة الخلد أحمد
ومنبره الأعلى على ذروة التقى ... وجذع له فيه حنين مردد
ومولد إبراهيم حيث تمخضت ... به أمه مثوى كريم ومولد
وموقعه من نفسه واختياره ... له اسم خليل الله فخر مشيد
وإعلانه بالحزن تدمع عينه ... له رحمة والنفس ترقى وتصعد
ومبنى على والهدى يألف الهدى ... بفاطمة نور بنور يقيد
ومولد سبطيه وريحان قلبه ... مكانهما من عاتقيه ممهد
وحيث ارتقت منها إمامة مرتقى ... يقوم بها جبالها ثم يسجد
وحيث بنى بالطيبات نسائه ... بعصمته الوثقى وجبريل يشهد
ومتلى كتاب الله فى حجراتها ... يقمن به فى الليل والناس هجد
وتمت لأصحاب الكساء طهارة ... من الله يحييها الكتاب المؤيد
معاهد إيمان تألق نورها ... ففى كل أفق جذوة تتوقد

(2/77)


وكانت أمانا ثم عادت مخافة ... فزائرها فوق الردى يتوسد
فيا أيها الدار التى حق أهلها ... على الناس طرا دائم ليس ينفد
لقد درست منك المغانى وأوحشت ... وكان إليها الدين يأوى ويصمد
ذكرتك ذكرى من يهيم فؤاده ... بقربك لكنى عن القرب مبعد
ومثلت لى فى بهجة الدين والتقى ... وأمر رسول الله يعلو ويمهد
وإذا برقت نورا أسارير وجهه ... فزحزح قطع الليل والليل أسود
وألقت إليه الأرض أفلاذها التى ... تحل بها عقم الأمور وتعقد
وغزو تبوك ثم حج وداعه ... ولم يبق تبين ولم يبق مشهد
ومثلت لى والمسلمون بشكوه ... فرائصهم من روعة البيت ترعد
وقد جلل الدنيا ظلام مطبق ... يخال به ليل على الناس سرمد
فما راعهم إلا وفاة رسولهم ... وكل يرى أن الرسول يخلد
وقد ذهلوا أن التى يقرونها ... إذا جاء نصر الله للموت مرصد
وودع جبريل وداع مفارق ... ولا عود يستثنى ولا وحى يعهد
وأم أبيها مسبلات دموعها ... كما انحل من سلك فريد مبدد
فأودعها سرا بكت من نجيه ... وثنى بسر فانثنت تتجلد
وقد أعلنت عند الرسول بكربها ... لكرب أبيها وهو بالموت يجهد
فقال لها كفى دموعك واصبرى ... فما بعد هذا اليوم كرب يعدد
وبشرها من قرب ملحقها له ... ببشرى حديث صادق لا يفند
فيا من رأى حيا يعزى بموته ... فيرضى كأن الموت خلد مؤيد
فرارا عن الدنيا إلى قرب ربها ... وشجا عليها من حياة تنكد
ولطفا من الله العظيم بصونها ... وباب الرزايا المستكنات مرصد
ولو أنها امتدت طويلا حياتها ... لشرد عنها النوم ليل مسهد
وغصت على قرب بثكل ابن عمها ... وفقد شهيد حزنه ليس يفقد
أقام كتاب الله فى كل مارق ... يقر به فى زعمه وهو يجحد
فقيض أشقى الناس يدنى سعادة ... لمن هو بالإيمان أولى وأسعد
وكيف بها والله يأبى هوانها ... لمصرع سبط أول وهو مقصد
وقد جرعته حتفه كف جعدة ... بمكرع سم مجه فيه أسود
ولو حدثت عن كربلاء لأبصرت ... حسينا فتاها وهو شلو مقدد
وثانى سبطى أحمد جعجعت به ... عتاة جفاة وهو فى الأرض أوحد

(2/78)


ولم يرقبوا إلا لآل محمد ... ولم يذكروا أن القيامة موعد
وأن عليهم فى الكتاب مودة ... لقرباه لا ينحاش عنها موحد
فيا سرع ما ارتدوا وصدوا عن الهدى ... ومالوا عن البيت الذى بهم هدوا
فحل عن برد الفرات عطاشهم ... وروى منهم ذابل ومهند
فيا أوجها شاهت وناهت عن الهدى ... أهذا التحفى منكم والتردد
وترتم رسول الله فى ذبح سبطه ... وبؤتم بنار حرها ليس يبرد
فما لكم عند الشفيع شفاعة ... ولا لكم فى كوثر الحوض مورد
لعمرى لقد غادرتم كل مؤمن ... على مضض برح يقوم ويقعد
ونغصتم المحيى وأرضيتم العدى ... فأنتم لغير الله جند وأعبد
فيا كبدى إن أنت لم تتصدعى ... فأنت من الصفوان أقسى وأجلد
ويا عبرتى إن لم تفيضى عليهم ... فنفسى أسخى بالحياة وأجود
أتنتهب الأيام أفلاذ أحمد ... وأفلاذ من عاداهم تتودد
ويضحى ويظمى أحمد وبناته ... وبنت زياد وردها لا يصرد
أفى دينه فى أمنه فى بلاده ... تضيق عليهم فسحة تتورد
وما الدين إلا دين جدهم الذى ... به أصدروا فى العالمين وأوردوا
ينام النصارى واليهود بأمنهم ... ونومهم بالخوف نوم مشرد
وما هى إلا ردة جاهلية ... وحقد قديم بالحديث يؤكد
ألهفى على سبطى هدى ونبوة ... جرى لها يوم من الشر أنكد
شهيدين متبوعين من كل مؤمن ... بكل صلاة برة تتعهد
فهذا أذابت سورة السم كبده ... وهذا أبادته قسى تكبد
فما عذر أهل الأرض والقسط قائم ... وكلهم فى موقف الفصل شهد
أيفعل هذا بابن بنت نبيكم ... وليس لكم فى النصر يوم ولا غد
أبى الله إلا أن فى النفس حسرة ... بغصتها أضحى وأمسى وأرقد
إلى أن يقيد الله من كل واتر ... على أن كفؤا مقنعا ليس يوجد
وأى دم يوفى دم ابن محمد ... حسين وأمسى وهو سبط موحد
فيا خاتم الأسباط إن تحيتى ... تؤمك من أرض بعيد وتقصد
مثقلة بالدمع شوقا ولوعة ... على زفرة من حرها أتأود
ويا أسوة للمؤمنين كريمة ... يلين عليها الحادق المتشدد
فمن ينكر البلوى وأنت بكربلا ... لذى البث والشكوى إمام مقلد

(2/79)


فإن تجهل الدنيا عليك وأهلها ... فإنك فى أهل السماء ممجد
أبوك شفيع الناس وهو الذى له ... مقام كريم فى البرية يحمد
ومشرعة الحوض الروى بكفه ... تزاد رجال عندها وتطرد
وممن يذود الله عنه عصابة ... بقتلك فى طغيانها تتحمد
وذنبهم فى قتلك الذنب كله ... فما لهم إلا الجحيم تغمد
وهل كنت إلا مثل عمك جعفر ... قتيلا بكفار بذى العرش ألحدوا
وإلا كليث الله جدك حمزة ... وحربة وحشى إليه تسدد
وما منهم إلا غريق شهادة ... حياتهم موصولة حين تنفد
ومثل أبى حفص وعثمان بعده ... ومثل على وهو للحق سيد
دماؤهم مسك ذكى وأجرهم ... على الله لا يحصى ولا يتحدد
أقول ببث مستكن وظاهر ... مضاضته عن حبكم تتولد
وما سرنى أنى خلى من الهوى ... هوى هو فى حم يتلى ويسند
سريرة حب يوم تتلى سرائرى ... يقوم بها عنى الصفيح المنضد
سلام على تلك المعاهد إنها ... لآل رسول الله طهر ومسجد
فيا رب وفدنى إليها مسلما ... ويا طيب مسرى من إليها يوفد
أفض بها دمعى وأنقع غلتى ... وأتهم فى ربع الرسول وأنجد
وأدعو إلى الرحمن دعوة تائب ... إلى عفوه من طيبه يتزود
وأسموا إلى البيت العتيق بفرضه ... فكل به من ذنبه يتجرد
ولست على قبر الرسول بمؤثر ... ليحشر من ذاك البقيع محمد
فيا رب حقق نيتى ومنيتى ... هنالك والأرواح جند مجند
وقال أيضا يعارض حسان فى كلمته الثانية التى أولها:
ما بال عينك لا تنام كأنما............... ......
بهذه الكلمة المرسومة بعد:
هل يجمعن صباح يوم أو غد ... بينى وبين القبر قبر محمد
حتى أروى ناظرى من عبرتى ... ويقر عينى طيب ذاك المشهد
وأقبل الأرض التى حملت به ... نورا يجلى كل جنح أسود
وأعظم البلد الذى رأسى به ... طود النبوة ثابتا بالأسعد
أشكو إلى جبل تضمن حبه ... حبا أضاق تصبرى وتجلدى

(2/80)


وأبلغ القلب المروع أمانه ... وأقول للنفس التى ظمئت ردى
وأهش للأفق المبارك جوه ... متجددا من نوره المتجدد
وأسح فى أبيات آل محمد ... دمعا كنظم اللؤلؤ المتبدد
والله يعلم أن آل رسوله ... آل تمكن حبهم فى محتدى
وبكربتى منهم أبوح وأنطوى ... وبحسرتى فيهم أروح وأغتدى
قف بالمنازل سائلا عن أهلها ... أين الرسالة والرسول المهتدى
أين الصواحب والصحابة حوله ... إذ بايعوه بالقلوب وباليد
أين الذين بسبقهم عز الهدى ... وعلت على الأديان ملة أحمد
أين الذين لعتبة ولشيبة ... وإلى الوليد سموا بكل مهند
أين الذين بيوم أحد صرعوا ... ما بين مثنى فى الإله وموحد
أين الذين بمؤتة وجلادها ... ماتوا كراما كالليوث الحرد
أين الثمانية الذين بصبرهم ... تابت بأوطاس بصائر من هدى
يا مسجد التقوى غدوت بفضلهم ... ومكانهم فى الدين أفضل مسجد
وبقيت بعدهم مثابة رحمة ... فى غربة المستوحش المتفرد
تبكى على خير البرية كلها ... بدموع كل مصدق وموحد
فقد السماء كما فقدت نديهم ... ونحيبهم فى مهبط أو مصعد
وتفرد الرحمن بالغيث الذى ... كان الرسول بوحيه عبق الند
ولقد أقام الدين من خلفائه ... أصهاره كل بأحمد يقتدى
وأتتك بعدهم الملوك فمصلح ... يضع الأمانة عند آخر مفسد
يا بيت عائشة المجن ثلاثة ... تطموا به نظم الطراز الأوحد
مثوى النبى وصاحبيه وفسحة ... عيسى ابن مريم حازها بالموعد
بوركت من بيت يضم رسالة ... ونبوة وخلافة فى ملحد
منى إليك تحية يهفو بها ... قلب بذكرهم وحلهم ند
صلى الإله وأرضه وسماؤه ... والعالمون على النبى المقتدى
بالأنبياء المهتدى بهداهم ... رشدا تبين فى الكتاب المرشد
وقال أبو عبد الله أيضا يعارض حسان فى كلمته الثالثة التى أولها:
نب المساكين أن الخير فارقهم............... .......
بهذه الكلمة المرسومة:

(2/81)


هون عليك من الأرزاء ما خطرا ... بعد الرسول ولا تعدل به خطرا
واذكره فى كل محذور تغص به ... تلقى المصاب به قد هون الحذرا
أبعد أحمد يستقرى مضاجعه ... فودع البيت والأركان والحجرا
مستقبلا طيبة والله ينقله ... إلى رضاه فلما يعد أن صدرا
ثم استعز به شكو يعالجه ... يغشى بسورته الأبيات والحجرا
حتى انتهى دوره فى بيت عائشة ... فى نومها يتبع الأنفاس والأثرا
فمال فى حجرها طلقا أسرته ... غض البشاشة إلا اللمح والنظرا
فأذهل الناس طرا عن حياتهم ... موت الرسول ومنهم من نفى الخبرا
فياله من نظام بات فى قلق ... لولا أبو بكر الصديق لانتثرا
إن كنت معتبرا فانظر تقلله ... والأرض تبر ودين الله قد ظهرا
لم يرض منها سوى قبر تضمنه ... كان الفراش له فى نومه مدرا
يا قبر أحمد هل من زورة أمم ... قبل الحمام تسر السمع والبصرا
وهل إلى طيبة ممشى يقربها ... يا طيبة إن تأتى يومه سفرا
فتنشق النفس فى أرجائها أرجا ... يشفى السقام وينفى الذنب والضررا
وأستجير ببطن الأرض من كرب ... فى ظهرها لم تدع شمسا ولا قمرا
أستجمل الله من أسرار قدرته ... عزما يخوض إليه البدو والحضرا
وقوة بالضعيف الهم ناهضة ... وحجة تنظم الآصال والبكرا
يا حب أحمد كن لى فى زيارته ... أقوى ظهير إلى أن أقضى الوطرا
صلى الإله صلاة غير نافدة ... تكاثر الريح والأشجار والمطرا
على البشير النذير المصطفى كرما ... من كل بطن وصلب طيب ظهرا
على ابن آمنة الماحى بملته ... من كان بالله والإسلام قد كفرا
وأهله الطيبين الأكرمين ومن ... آوى وساهم فى البلوى ومن نصرا
وأمهات جميع المؤمنين ومن ... هدى هداه ومن صلى ومن نحرا
ونضر الله حسانا وأعظمه ... وقد بعثت الجوى والحزن والذكرا
أبا الوليد لقد هيجت لى شجنا ... نافحت عنهم بروح القدس مقتدرا
وأنت شاعر آل الله قاطبة ... ضريحه وامسحى عن وجهه العفرا
يا رحمة الله أمى غير صاغرة ... فى الحق أن تمسح الأعطاف والغررا
فإنه سابق والسابقات لها ... عمت فى المدر استثنت ولا الوبرا
أبقى له منبر الإنشاد مكرمة ... فى الحق أن تمسح الأعطاف والغررا

(2/82)


ولم يسل لسانا فى مقاولة ... وإنما سل عضبا صارما ذكرا
يا مقولا نضر الله الرسول به ... لا زلت فى جنة الفردوس مشتهرا
وقال أيضا رحمه الله يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعارض حسان فى كلمته المتقدمة قبل، رابعة لكلماته، وهى التى أولها:
آليت ما فى جميع الناس مجتهدا............... ...........
بهذه الكلمة الموسومة بعد:
قلبى إلى طيبة ذو غلة صادى ... إلى البشير النذير الخاتم الهادى
إلى أبى القاسم الماحى بملته ... كفران كل كفور جهله بادى
حتى أعفر خدى فى مواطئه ... غورا بغور وأنجادا بأنجاد
وأرسل الدمع سحا فى منازله ... مستفرغا جهد أفلاذ وأكباد
فى حيث أودع جبريل رسالته ... وحيا إليه بتوفيق وإرشاد
وأشرب الماء من أروى منابعه ... فطيبه قد سرى فى ذلك الوادى
يا حب أحمد إنى منك فى ثقة ... وأنت أحضر أعتادى وأزوادى
سر بى إليه وجاور بى مثابته ... حتى أضمن أكفانى وأعوادى
وما تمكنت من قلبى لتبدع بى ... ولا لتقطعنى عن ذلك النادى
نور من الله لو أنى سريت به ... لما افتقرت إلى هاد ولا حادى
لم يقذف الله فى قلبى محبته ... إلا لأحمل فوق الرأس والهاد
متى أقول لوفد الله عن كثب ... يا رايحين انظرونى إننى غاد
وقد برئت إلى الرحمن من نشبى ... وقد تخليت عن أهلى وأولادى
مستبدلا بجوار الله منقطعا ... إلى الرسول انقطاع العاطف الباد
صلى الإله وأهل الأرض يقدمهم ... أهل السموات من مثنى وآحاد
على الذى أنقذ الله العباد به ... من ظلمة الكفر رشدا بعد إفناد
على ابن آمنة المختار من نفر ... ما فوق مجدهم مرمى لمزداد
على النبى الذى تمت نبوته ... وآدم طينة قدت لأجساد
على الرسول بن عبد الله أكرم من ... أورى بنور أضاء الأرض وقاد
وبعده صلوات الله عاطرة ... على الصحابة أعداد بأعداد
وأهله الطيبين الأكرمين فهم ... فى الأرض أطهر غياب وشهاد
يا رب واحفظ مقامى فى محبتهم ... فإنها وإليك المنتهى زادى

(2/83)


فهذا ما تيسر لنا ذكره من مراثى الشعراء فى سيد المرسلين وخاتم الأنبياء. وبقى علينا منها كثير تخطيناه، إما لتخطى الاختيار له والانتقاء، وإما لقصد الاختصار والاكتفاء، وأكثر الشعراء أفحمتهم المصيبة القاصمة للظهور، الرزية المتجددة على بلى الأزمان وتجدد الدهور، عن أن يفوهوا فى ذلك ببنت شفة أو يفوا بما يناسب ذلك الكرب العظيم والخطب الجسيم من صفة متصفة، وأولئك أولى الناس بالمعذرة، وأحقهم بالتجاوز عن مقصدهم المقصرة، فمصاب المسلمين به عليه أفضل الصلاة والسلام أعظم من أن تؤدى حقيقته سعة الكلام، أو تستقل أساليب القول المتشعبة ومنادح العبارات المتطنبة المهذبة بأيسر جزء من مآثره الكرام ومحاسنه العظام، أو تفى الألفاظ على اتساعها وتعدد ضروبها وأنواعها بشرح ما يتحمل فيه القلوب المؤمنة من برح الآلام، والإعراب عن قدر مصيبة فقده على الإسلام، فجزاه الله عن نهجه لنا السبيل إلى دار السلام أفضل ما أعده من الجزاء لأنبيائه المختصين من عنايته بشرف الاجتباء والاصطفاء دون الأنام، وأدر عليه وعليهم من سحب الرحمة والبركات والسلام والصلوات ما يزرى بهطال الديم وواكف الغمام.
وهنا انتهى ما يختص من هذا المجموع بمغازى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذكر أيامه وكافة أمره إلى حين وفاته.
ونشرع الآن فى صلة ذلك بمغازى خلفائه الثلاثة الأول رضى الله عن جميعهم على نحو ما علمنا به فى مغازى من قصد التهذيب، وبذل الجهد فى حسن الترتيب، وربنا الكريم جلت قدرته نعم الوكيل بالمعونة على ذلك، لا حول ولا قوة إلا به، هو حسبى لا إله إلا هو، عليه توكلت وإليه أنيب.

(2/84)