الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء

ذكر فتح المدائن «1» وما نشأ بينه وبين القادسية من الأمور
والمدائن على مسافة بعض يوم من بغداد، ويشتمل مجموعها على مدائن متصلة مبنية على جانبى دجلة شرقا وغربا، ودجلة تشق بينها، ولذلك سميت المدائن. فالمدينة الغربية منها تسمى بهرسير، والمدينة الشرقية تسمى العتيقة، وفيها القصر الأبيض الذى لا يدرى من بناه، ويتصل بهذه المدينة العتيقة المدينة الأخرى التى كانت الملوك تنزلها وفيها الإيوان، إيوان كسرى العجيب الشأن، الشاهد بضخامة ملك بنى ساسان، ويقال: إن سابور ذا الأكتاف منهم هو الذى بناه، وهو من أكابر ملوكهم، وقد بنى ببلاد فارس وخراسان مدنا كثيرة ذكرها أبو بكر بن ثابت الخطيب فى صدر كتابه فى تاريخ بغداد «2» .
قال: وكان الإسكندر أجل ملوك الأرض، وقيل: إنه ذو القرنين الذى ذكره الله فى كتابه، فقال: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 619) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 352- 361) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 61، 64- 69) ، الروض المعطار للحميرى (ص 526- 529) ، معجم البلدان لياقوت (5/ 75) .
(2) انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (1/ 128) .

(2/504)


[الكهف: 84، 85] ، حتى بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وله فى كل إقليم أثر، فبنى بالمغرب الإسكندرية، وبخراسان العليا على ما يقال سمرقند، ومدينة الصغد، وبخراسان السفلى مرو وهراة، وبناحية الجبل جى ومدينة أصبهان، وبنى مدنا أخرى كثيرة فى نواحى الأرض وأطرافها، وجال الدنيا كلها ووطئها، فلم يختر منها منزلا سوى المدائن فنزلها، وبنى بها مدينة عظيمة، وجعل عليها سورا أثره باق، وهى المدينة التى تسمى الرومية فى جانب دجلة الشرقى، وأقام بالإسكندرية راغبا عن بقاع الأرض كلها وعن بلاده ووطنه.
وذكر بعض أهل العلم أنها لم تزل مستقرة منذ نزلها حتى مات بها، وحمل منها فدفن بالإسكندرية لمكان والدته، فإنها كانت إذ ذاك باقية هناك.
وقد كان ملوك الفرس لهم حسن التدبير والسياسة والنظر فى الممالك واختيار المنازل، فكلهم اختار المدائن وما جاورها لصحة تربتها وطيب هوائها واجتماع مصب دجلة والفرات بها.
ويذكر عن الحكماء أنهم كانوا يقولون: إذا أقام الغريب على دجلة من بلاد الموصل تبين فى بدنه قوة، وإذا أقام بين دجلة والفرات بأرض بابل تبين فى عقله زيادة وفى فطنته ذكاء وحدة، وذلك الذى أورث أهل بغداد الاختصاص بحسن الأخلاق والتفرد بجميل الأوصاف، وقل ما اجتمع اثنان متشاكلان، وكان أحدهما بغداديا إلا كان هو المقدم فى لطف الفطنة، وحسن الحيلة، وحلاوة القول، وسهولة البذل، ووجد ألينهما جانبا، وأجملهما معاشرة.
وكان حكم المدائن إذ كانت عامرة آهلة هذا الحكم، ولم تزل دار مملكة الأكاسرة، ومحل كبار الأساورة، ولهم بها آثار عظيمة، وأبنية قديمة، منها الإيوان الذى لم ير فى معناه أحسن منه صنعة، ولا أعجب عملا، وقد أحسن فى وصفه أبو عبادة الوليد بن عبيد البحترى فى قصيدة له على روى السين يقال إنه ليس للعرب سينية مثلها، ووصف أيضا معه القصر الأبيض، وما كان مصورا فيه من الصور العجيبة والتماثيل البديعة والصنائع الغريبة فأبدع فى وصف ذلك وأحسن ما شاء، فقال:
حضرت رحلى الهموم فوجه ... ت إلى أبيض المدائن عنس
أتسلى عن الحظوظ وآسى ... لمحل من آل ساسان درس
أذكر تنيهم الخطوب التوالى ... ولقد تذكر الخطوب وتنس

(2/505)


وهم خافضون فى ظل عال ... مشرف يحسر العيون ويخس
حلل لم تكن كأطلال سعدى ... فى قفار من البسابس ملس
ومساع لولا المحاباة منى ... لم تطقها مسعاة عنس وعبس
لو تراه علمت أن الليالى ... جعلت فيه مأتما بعد عرس
وهو ينبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس
وإذا ما رأيت صورة أنطاكي ... ة ارتعت بين روم وفرس
والمنايا مواثل وأنو شر ... وان يزجى الصفوف تحت الدرفس
فى اخضرار من اللباس على أص ... فر يختال فى صبيغة ورس
وعراك الرجال بين يديه ... فى خفوت منهم وإغماض جرس
من مشيح يهوى بعامل رمح ... ومليح من السنان بترس
تصف العين أنهم جد أحيا ... ء لهم بينهم إشارة خرس
يغتلى فيهم ارتيابى حتى ... تتقراهم يداى بلمس
حلم مطبق على الشك عينى ... أم أمان غيرن ظنى وحدس
وكأن الإيوان من عجب الصن ... عة جوب فى جنب أرعن جلس
يتظنى من الكآبة إذا يب ... دو لعينى مصبح أو ممس
مزعجا بالفراق عن أنس إلف ... عز أو مرهقا بتطليق عرس
عكست حظه الليالى وبات ال ... مشترى فيه وهو كوكب نحس
فهو يبدى تجلدا وعليه ... كلكل من كلاكل الدهر مرس
لم يعبه أن بز من بسط الديب ... اج واستل من ستور الدمقس
مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت فى رؤس رضوى وقدس
لابسات من البياض فما تب ... صر منها إلا جلائل برس
لست تدرى أصنع إنس لجن ... صنعوه أم صنع جن لإنس
غير أنى أراه يشهد أن لم ... يك بانيه فى الملوك بنكس
ولا أعلم أحدا من الشعراء وصف القصر الأبيض وهذا الإيوان بأبدع من هذا الوصف ولا أشجى ولا أوقع.
ويروى أن أبا جعفر المنصور، رحمه الله، لما أفضت إليه الخلافة هم بنقض هذا الإيوان، واستشار فى ذلك جلساءه وذوى الرأى عنده من رجاله، فكلهم وافقه على رأيه وأشار عليه بما يطابق هواه إلا خالد بن برمك، فإنه قال له: لا تفعل يا أمير المؤمنين

(2/506)


فإنه آية الإسلام، وإذا رآه من يأتى فى مستقبل الزمان علم أن أصحاب مملكته لم يغلبوا عليه إلا بأمر من عند الله وبتأييد أمد به المسلمين الذين قهروهم، وبقاؤه فخر لكم وذكر، ومع هذا فالمؤونة فى هدمه أكثر من العائد عليه، فاستغشه المنصور فى ذلك، وقال له: يا خالد، أبيت إلا ميلا مع العجمية، ثم أمر بنقض الإيوان، فبلغت النفقة فى نقض الشىء اليسير منه مبلغا عظيما، فكتب إليه بذلك فعزم على تركه، وقال لخالد بن برمك: قد صرنا إلى رأيك، فقال له خالد: إن رأيى الآن أن تبلغوا به الماء، فقال له المنصور: وكيف ذلك؟ قال: لأنى آنف لكم أن يكون أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن هدمه والهدم أسهل من البناء. ففكر المنصور فى قوله فعلم أنه قد صدق، ثم نظر فإذا هدمه يتلف الأموال فأمر بالإمساك عنه. وكان بعد يقول: لقد حبب إلىّ هذا البناء أن لا أبنى إلا بناء جليلا يصعب هدمه.
وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالاستيلاء على مملكة فارس ووعدهم بافتتاح المدائن، فضرب يوم الخندق بمعول أخذه صخرة عظيمة اعتاصت عليهم فى الخندق، فكسر ثلثها بضربة، وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إنى لأبصر قصورها الحمر الساعة» ، ثم ضرب الثانية فكسر ثلثها الثانى وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إنى لأبصر قصر المدائن الأبيض» ، ثم ضرب الثالثة فكسر بقية الحجر وقال:
«الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنى لأرى أبواب صنعاء من مكانى هذا الساعة» فصدق الله وعده وأنجز لمحمد صلى الله عليه وسلم ما بشرهم به واستأصل بهم مملكة فارس، وفتح عليهم المدائن فى زمان عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر سيف بن عمر عمن سماه من رجاله «1» وربما زدت فى تضاعيفه من حديث غيره، قالوا: عهد عمر، رضى الله عنه، إلى سعد حين أمره بالمسير إلى المدائن أن يخلف النساء والعيال بالعتيق، ويجعل معهم كثفا من الجند ففعل، وعهد إليه أن يشركهم فى كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين فى عيالاتهم قالوا: وكان مقام سعد بالقادسية بعد الفتح شهرين فى مكاتبة عمر، رضى الله عنه، فى العمل بما ينبغى، فقدم سعد زهرة بن جوية نحو اللسان، وهو لسان البحر الذى أدلعه فى الريف، وعليه الكوفة اليوم، وكانت عليه قبل اليوم الحيرة، وكان النخيرجان معسكرا به فأرفض ولم يثبت حين سمع بمسيرهم إليه، ولحق بأصحابه. ثم أمر سعد عبد الله بن المعتم أن يتبع زهرة وأمر شرحبيل بن السمط أن يتبع عبد الله ثم أتبعهم هاشم بن عتبة وولاه خلافته التى كان
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 618) .

(2/507)


عليها قبل خالد بن عرفطة، وجعل خالدا على الساقة، ثم ارتحل سعد يتبعهم بعد فراغه من أمر القادسية كله، وكل المسلمين فارس مؤد قد نقل الله، عز وجل، إليهم ما كان فى عسكر فارس من سلاح وكراع ومال، فسار زهرة حتى ينزل الكوفة، والكوفة كلها حصباء ورملة حمراء مختلطين، ثم نزل عليه عبد الله وشرحبيل، فارتحل زهرة عند ذلك نحو المدائن.
فلما انتهى إلى برس لقيه بها بصبهرى فى جمع فناوشهم زهرة فهزمهم، وهربوا إلى بابل وبها فالة القادسية وبقايا رؤسائهم، وكان زهرة قد طعن بصبهرى يوم برس فمات من طعنته بعد ما لحق ببابل، وأقبل عند ذلك بسطام دهقان برس فاعتقد من زهرة وعقد له الجسور، وأتاه بخبر الذين اجتمعوا ببابل. وقدموا على أنفسهم الفيرزان، فكتب بذلك زهرة إلى سعد فأتاه الخبر وقد نزل بالكوفة على من بها مع هاشم بن عتبة، فقدمهم ثم أتبعهم حتى نزل برس فقدم منها زهرة وأتبعه الآخرين، ثم أتبعهم حتى نزلوا على الفيرزان ببابل فاقتتلوا فهزموا المشركين فى أسرع من لفت الرداء فانطلقوا على وجهين، ولم تكن لهم همة إلا الافتراق، فخرج الهرمزان نحو الأهواز، وخرج الفيرزان معه حتى طلع على نهاوند، وبها كنوز كسرى، فأخذها وأكل الماهين، وصمد النخيرجان ومهران الرازى للمدائن، حتى عبرا بهرسير إلى جانب دجلة الآخر، ثم قطعا الجسر وخلفا شهريار دهقانا من دهاقين الباب فى جمع بكوثى، فقدم سعد، زهرة بن جوية ثم أتبعه الجنود، فساروا إليه.
فلما التقى بأطراف كوثى جيش شهريار وأوائل خيل المسلمين، خرج شهريار فنادى: ألا رجل، ألا فارس منكم شديد عظيم يخرج إلىّ حتى أنكلكم به، فقال زهرة وكايده: لقد أردت أن أبارزك، فأما إذ سمعت قولك، فإنى لا أخرج إليك إلا عبدا، فإن أقمت له قتلك وإن فررت منه فإنما فررت من عبد، ثم أمر أبا نباتة نائلا الأعوجى وكان من شجعان بنى تميم، فخرج إليه، مع كل واحد منهما الرمح، وكلاهما وثيق الخلق، إلا أن شهريار مثل الجمل، فلما رأى نائلا ألقى الرمح ليعتنقه، وألقى نائل الرمح ليعتنقه، وانتضيا سيفيهما فاجتلدا، ثم اعتنقا فخرا عن دابتيهما، فوقع شهريار على نائل كأنه بيت، فضعضعه بفخذه، وأخذ الخنجر وأراد حل أزرار درعه ليذبحه، فوقعت إبهامه فى فم نائل، فممضغها فحطم عظمها وأحس منه فتورا، فثاوره فجلد به الأرض، ثم قعد على صدره، وأخذ خنجره فكشف درعه عن بطنه، فطعن فى بطنه وجنبه حتى مات، فأخذ فرسه وسواريه وسلبه، وانكشف أصحابه، فذهبوا فى البلاد، وأقام زهرة بكوثى

(2/508)


حتى قدم عليه سعد، فغنم سعد نائلا ذلك السلب كله، وقال له: عزمت عليك يا نائل إلا لبست سواريه وقباءه ودرعه وركبت دابته، فانطلق فتدرع سلبه ثم أتاه فى سلاحه على دابته، فقال له سعد: اخلع سواريك إلا أن ترى حربا فالبسهما، وكان أول رجل من المسلمين سور بالعراق.
قالوا: فأقام سعد بكوثى أياما وأتى المكان الذى حبس فيه إبراهيم، عليه السلام، بكوثى، والبيت الذى كان فيه محبوسا فنظر إليه وصلى على رسول الله وعلى إبراهيم وعلى أنبياء الله، صلوات الله على جميعهم، وقرأ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140] ، ثم إن سعدا قدم زهرة إلى بهرسير فمضى من كوثى فى المقدمات وتبعته المجنبات، وخرج هاشم، وخرج سعد فى أثره، وقد فل زهرة كتيبة كسرى التى كانت تدعى بوران حول المظلم، مظلم ساباط، وكان رجالها يحلفون كل يوم بالله لا يزول ملك فارس ما عشنا.
ولما انتهى هاشم إلى مظلم ساباط وقف لسعد حتى لحق به، فلما نزل قاله: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: 44] ، ووافق ذلك رجوع المقرط، أسد كان كسرى قد ألفه وتخيره من أسود المظلم، فبادر المقرط الناس حتى انتهى إليهم سعد، فنزل إليه هاشم فقتله، فقبل سعد رأسه، وقبل هاشم قدميه.
وقال المدائنى: فنظر هاشم إلى الناس وقد أحجموا ووقفوا فقال: ما لهم؟ فقيل له:
أسد قد منعهم، ففرج هاشم الناس وقصد له فثاوره الأسد وضربه هاشم فقطع موصله كأنما اجتلم به غصنا، ووقعت الضربة فى خاصرته، وقال بعضهم: على هامته، فقتله.
قالوا: وقدم سعد هاشما إلى بهرسير ثم ارتحل سعد فنزل على البأس بها وجعل المسلمون المتقدمون إليها كلما قدمت عليهم خيل وقفوا ثم كبروا حتى نجز آخر من كان مع سعد، ولما نزل سعد على بهرسير بث الخيول، فأغار على ما بين دجلة إلى من له عهد من أهل الفرات، فأصابوا مائة ألف فلاح، فقال شيرزاذ، دهقان ساباط، وكان قد تلقى زهرة فى طريقه بالصلح وتأدية الجزية، فقال لسعد عند ما أتى بالفلاحين فخندق لهم: إنك لا تصنع بهؤلاء شيئا، إنما هؤلاء علوج لأهل فارس فدعهم إلىّ حتى يفرق لك الرأى فيهم، فكتب عليه بأسمائهم، ودفعهم إليه، فقال لهم شيرزاذ: انصرفوا إلى قراكم.
وكتب سعد إلى عمر رحمهما الله: إنا وردنا بهرسير بعد الذى لقينا بين القادسية وبهرسير، فلم يأتنا أحد لقتال، فبثثت الخيول فجمعت الفلاحين من القرى والآجام،

(2/509)


فرأيك. فأجابه عمر: إن من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن لم يأتكم ولم يهرب فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.
فلما جاء سعدا الكتاب خلى عنهم. وراسله الدهاقين، فدعاهم إلى الإسلام أو الجزاء ولهم الذمة والمنعة، فرضوا بالجزية والمنعة، ولم يبق فى غربى دجلة إلى أرض العرب سوادى إلا أمن واغتبط بملك الإسلام واستقبلوا الخراج.
وأقام سعد بالناس على بهرسير يرمونهم بالمجانيق ويدبون إليهم بالدبابات، ويقاتلونهم بكل عدة.
قال بعضهم: وكان سعد عند ما نزلها وعليها خنادقها وحرسها وعدة الحرب استصنع شيرزاذ المجانيق فنصب على أهلها عشرين منجنيقا فشغلهم بها، وكان الأعاجم والعرب مطيفين بهم، وربما خرجوا يمشون على المسنيات المشرفة على دجلة فى جماعتهم وعدتهم لقتال المسلمين، فلا يقومون لهم، فكان آخر ما خرجوا فى رجالة وناشبة، وتجردوا للحرب، وتتابعوا على الصبر، فقاتلهم المسلمون فكذبوا وتوالوا، وكانت على زهرة بن الجوية يومئذ درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسرد فقال: ولم؟ فقالوا: إنا نخاف عليك منه، فقال: إنى لكريم على الله، أن ترك سهم فارس الجند كلهم ثم أتانى من هذا الفصم حتى يثبت فىّ، فكان أول رجل من المسلمين أصيب يومئذ بنشابة، فثبتت فيه من ذلك الفصم، فقال بعضهم: انزعوها عنه، فقال: دعونى، فإن نفسى معى ما دامت فىّ، لعلى أن أصيب فيهم بطعنة أو بضربة أو خطوة، فمضى نحو العدو، فضرب بسيفه شهربراز من أهل اصطخر، فقتله، وأحيط به فقتل وانكشفوا.
وسيأتى بعد من أخبار زهرة بن الجوية وآثاره فى الوقائع التى لا شك فى كونها بعد هذه ما يوهن خبر قتله المذكور آنفا، والأولى بحسب هذا إن شاء الله أن يكون غير زهرة هو صاحب هذه القصة؛ إذ قد ذكر المدائنى أن هاشم بن عتبة قال لزهير بن سليم الأزدى، قال: ويقال لغيره، ورأى فى درعه فصما، إنى لا آمن أن تصيبك نشابة فى هذا الموضع، فلو سردته قال: لئن تركت نشابة الفارسى جسدى كله إلا هذا الموضع إنى إذا لسعيد، ثم ذكر نحو ما تقدم، فالله أعلم.
وقال أنيس بن الحليس «1» : بينا نحن محاصرون بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم، أشرف علينا رسول فقال: إن الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 7) .

(2/510)


دجلة وجبلها، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم؟
فبدر الناس أبو مفرز الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله، عز وجل، بما لا يدرى ما هو ولا نحن، فأجابه بالفارسية ولا يعرف منها شيئا هو ولا نحن، فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن، فقلنا: يا أبا مفرز ما قلت له؟ قال: لا والذى بعث محمدا بالحق ما أدرى ما هو، وإلا أنى علتنى سكينة، وأرجو أن أكون أنطقت بالذى هو خير، وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد، فجاءنا فقال: يا أبا مفرز ما قلت له؟ فو الله إنهم لهراب، فحدثه بمثل حديثه إيانا، فنادى فى الناس، ثم نهد بهم، فما ظهر على المدينة أحد ولا خرج إلينا إلا رجل نادى بالأمان فأمناه، فقال: ما بقى أحد فيها فما يمنعكم، فتسورها الرجال، وافتتحناها، فما وجدنا فيها شيئا ولا أحدا، إلا أسارى أسرناهم خارجا منها، فسألناهم وذلك الرجل: لأى شىء هربوا؟ فقال: بعث إليكم الملك يعرض عليكم الصلح، فأجبتموه أنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذون بأترج كوثى، فقال الملك: وا ويلة ألا أرى الملائكة تكلم على ألسنتهم، ترد علينا وتجيبنا عن العرب، وو الله لئن لم يكن كذلك، ما هو إلا شىء ألقى علىّ فى هذا الرجل لننتهى، فأرزوا إلى المدينة القصوى.
قالوا: ولما دخل سعد والمسلمون بهرسير أمر بها فثلمت وتحول العسكر إليها ولاح لهم وذلك فى جوف الليل القصر الأبيض، فقال ضرار بن الخطاب: الله أكبر، أبيض كسرى هذا ما وعد الله ورسوله، وتابعوا التكبير حتى أصبحوا.
وقال القعقاع بن عمرو:
ألم يأتيك والأخبار تنمى ... وتصعد فى الملمعة الفياف
توافينا ومنزلنا جميعا ... أمام الخيل بالسمر الثقاف
قسمنا أرضهم قسمين حتى ... نزلنا مثل منزلهم كفاف
دعاء ما دعونا آل كسرى ... وقد هم المرازب بانصراف
وما أن طبهم جبن ولكن ... رميناهم بداعية ذعاف
فتحنا بهرسير بقول حق ... أتانا ليس من سجع القوافى
وقد طارت قلوب القوم منا ... وملوا الضرب بالبيض الخفاف
ولما نزل سعد بهرسير، وهى المدينة الدنيا من المدائن، طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى منها، فلم يقدر على شىء، ووجدهم قد ضموا السفن، فأقاموا أياما يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين، ودجلة قد طما ماؤها يتدفق جانباها،

(2/511)


فيروى أنه بينا سعد والمسلمون كذلك إذ سمعوا ليلا قائلا يقول: يا معشر المسلمين، هذه المدائن قد غلقت أبوابها وغيبت السفن وقطعت الجسور فما تنتظرون، فربكم الذى يحملكم فى البر هو الذى يحملكم فى البحر، فندب سعد الناس إلى العبور، فأتاه قوم من العجم ممن قد اعتقد منه ذمة فقالوا: ندلك على موضع أقل غمرا من هذا، فدلوه على ديلمايا «1» .
وقيل «2» : إن سعدا رأى رؤيا كأن خيول المسلمين اقتحمت دجلة فعبرتها، وقد أقبلت من المد بأمر عظيم، فعزم على تأويل رؤياه على العبور، وفى سنة جود صيبها متتابع، فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاؤا، فيناوشونكم فى سفنهم، وليس وراءكم شىء تخافون أن تؤتوا منه، فقد كفاكموهم أهل الأيام، وأعطوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأى أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصدكم الدنيا: ألا إنى قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم، فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل، فقال: من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى يتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم الخروج؟
فانتدب له عاصم بن عمرو أول الناس، وانتدب معه ستمائة من أهل النجدات، واستعمل عليهم عاصما، فسار فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة فقال: من ينتدب معى لنمنع الفراض من عدوكم حتى تعبروا؟ فانتدب له ستون فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكور، ليكون أسلس لعوم الخيل، ثم اقتحموا دجلة واقتحم بقية الستمائة على أثرهم وقد شدوا على خيولهم حزمها وألبابها وقرطوها أعنتها وشدوا عليهم أسلحتهم، فلما رأتهم الأعاجم وما صنعوا أعدوا للخيل التى تقدمت خيلا مثلها، فاقتحموا إليهم دجلة، فلقوا عاصما فى السرعان، وقد دنا من الفراض، فقال: الرماح الرماح أشرعوها وتوخوا العيون، فالتقوا، فاطعنوا فى الماء، وتوخى المسلمون عيونهم، فتولوا نحو البر والمسلمون يشمسون بهم خيلهم حتى ما يملكون منها شيئا، فلحقوا بهم فى البر فقتلوا عامتهم، ونجا باقيهم عورانا. ونزلت بالمسلمين خيولهم حتى انتقضت على الفراض، وتلاحق باقى الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين.
ويروى أن أولئك الستين خرجوا يومئذ من دجلة منقطعين زمرا، الزمرة الأولى تسعة فيهم عاصم، والثانية ثمانية عشر، والثالثة ثلاثة وثلاثون، ويومئذ سميت كتيبة عاصم هذه كتيبة الأهوال، لما رأى منهم فى الماء والفراض.
__________
(1) ديلمايا: موضع بالعراق على دجلة. انظر الخبر والتعريف فى: الروض المعطار (ص 249) .
(2) انظر: الطبرى (4/ 9، 10) .

(2/512)


ولما رأى سعد عاصما على الفراض وقد منعها، أذن للناس فى الاقتحام، وقال: قولوا نستعين بالله، ونتوكل على الله، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وتلاحق عظم الجند فركبوا اللجة، واعترضوا دجلة وإنها لمسودة تزخر، لها حدب يقذف بالزبد، فكان أول من اقتحم سعد بن أبى وقاص، ثم اقتحم الناس، وقد قرنوا أنثى بكل حصان يتحدثون على ظهورها كما يتحدثون على الأرض، وطبقوا دجلة خيلا ودواب ورجالا حتى ما يرى الماء من الشاطئ أحد، وسلمان الفارسى يساير سعدا يحدثه، والماء يطفو بهم، والخيل تعوم، فإذا أعيا فرس استوى قائما يستريح كأنه على الأرض، فقال قيس بن أبى حازم: إنى لأسير فى دجلة فى أكثر مائها إذ نظرت إلى فارس وفرسه كأنه واقف ما يبلغ الماء حزامه.
وقال بعضهم: لم يكن بالمدائن أمر أعجب من ذلك، فقال سعد: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 14] .
وفى رواية أنه قال لسلمان وهو يسايره فى الماء: والله لينصرن الله وليه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن عدوه، إن لم يكن فى الجيش بغى أو ذنوب تغلب الحسنات، فقال سلمان: يا أبا إسحاق، الإسلام جديد، ذلل الله لكم البحر كما فرقه وذلله لبنى إسرائيل، والذى نفس سلمان بيده، لتخرجن منه أفواجا كما دخلتموه أفواجا، فخرجوا منه كما قال سلمان، لم يفقدوا شيئا، ولم يغرق فيه أحد.
قال أبو عثمان النهدى «1» : إلا رجلا من بارق يدعى غرقدة، زل عن ظهر فرس له شقراء، كأنى أنظر إليها عريا تنفض عرفها، والغريق طاف، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرسه إليه، فجره حتى عبر، فقال البارقى: وكان من أشد الناس: أعجزت الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع وكانت للقعقاع فيهم خؤولة.
وقال بعض رجال سيف بن عمر «2» : إنه لم يذهب للمسلمين يومئذ فى الماء شىء إلا قدح كانت علاقته رثة، فانقطعت، فذهب به الماء، فقال الرجل: الذى كان يعاوم صاحب القدح «3» معيرا له: أصابه القدر فطاح، فقال: إنى لأرجو والله أن لا يسلبنى الله قدحى من بين أهل العسكر، وإذا رجل من المسلمين ممن تقدم ليحمى الفراض قد سفل
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 10) .
(2) انظر: الطبرى (4/ 12) .
(3) هو: مالك بن عامر، حليف لقريش من عنزة.

(2/513)


حتى طلعت عليه أوائل الناس، وقد ضربت الرياح والأمواج القدح حتى وقع إلى شاطئ، فتناوله برمحه، فجاء به إلى العسكر فعرّفه، فعرفه صاحبه فأخذه، وقال لصاحبه الذى كان يعاومه: ألم أقل لك؟ فيروى أن عمر، رحمه الله، بلغه ما كان قال له صاحبه أولا، فأنكره وأرسل إليه: أنت القائل أصابه القدر فطاح؟ تفجع مسلما!.
وقال الأسود بن قطبة أبو مفزر يرتجز يومئذ:
يا دجل إن الله قد أشجاك ... هذى جنود الله فى قراك
فلتشكرى الذى بنا حباك ... ولا تروعى مسلما أتاك
وقال عاصم بن عمرو فى ذلك:
ألا هل أتاها أن دجلة ذللت ... على ساعة فيها القلوب تقلب
ترانا عليها حين عبّ عبابها ... تبارى إذا جاشت بموج تصوب
نفينا بها كسرى عن الدار فانتوى ... لأبعد ما ينوى الركيك الموقب
قال: وفجأ المسلمون أهل فارس من هذا العبور بأمر لم يكن فى حسبانهم، فأجهضوكم وأعجلوهم عن حمل أموالهم، وخرجوا هرابا، وقد كان يزدجرد خرج قبلهم إلى حلوان فنزلها بعد أن قدم إليها عياله حين أخذت بهرسير وخرجوا معهم بما قدروا عليه من حر متاعهم وخفيفه، وبالنساء والذرارى وما قدروا عليه من بيت المال، وتركوا فى الخوائن من الثياب والمتاع والآنية والألطاف والأدهان ما لا يدرى ما قيمته، وخلفوا ما كانوا أعدوا للحصار من البقر والغنم وكل الأطعمة والأشربة، فدخل المسلمون المدائن واستولوا على ذلك كله فكان أول من دخلها كتيبة الأهوال، ثم تبعتها الخرساء، كتيبة سعد، فأخذوا فى سككها لا يلقون أحدا ولا يحسونه إلا ما كان فى القصر الأبيض، فأحاطوا بهم ودعوهم فاستجابوا لسعد على الجزاء والذمة، ويرجع إليها أهل المدائن على مثل عهدهم، ليس فى ذلك ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم.
ونزل سعد القصر الأبيض وسرح زهرة فى آثار القوم إلى النهروان فانتهى إليها، وسرح مقدار ذلك فى طلبهم من كل وجه.
وقال حبيب بن صبهان «1» : لما عبر المسلمون دجلة، جعل أهل فارس وهم ينظرون إليهم يعبرون يقول بعضهم لبعض بالفارسية ما تفسيره بالعربية: إنكم والله ما تقاتلون الإنس وإنما تقاتلون الجن.
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 14) .

(2/514)


قالوا: وما زالت حماة أهل فارس يقاتلون على ماء الفراض يمنعون المسلمين من العبور، حتى ناداهم مناد: علام تقتلون أنفسكم؟ فو الله ما فى المدائن من أحد، فانهزموا واقتحمتها الخيول عليهم، ولما دخلها سعد فرأى خلوتها وانتهى إلى إيوان كسرى أقبل يقرأ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ [الدخان: 25، 28] ، وصلى فيه صلاة الفتح، ولا تصلى جماعة، فصلى ثمانى ركعات لا يفصل بينهن، واتخذ الإيوان مسجدا، وفيه تماثيل الجص رجال وخيل، فلم يمتنع هو ولا المسلمون، يعنى من الصلاة فيه، لأجلها، وتركوها على حالها، وأتم سعد الصلاة يوم دخلها لأنه أراد المقام بها. وبالمدائن كانت أول جمعة جمعت بالعراق فى صفر سنة ست عشرة. ووكل سعد بالأقباض من يجمعها «1» ، وأمره بجمع ما فى القصر والإيوان ومنازل كسرى وسائر الدور، وإحصاء ما يأتيه به الطلب، وقد كان أهل المدائن تأهبوا عند المدائن للغارة، ثم طاروا فى كل وجه، فما أفلت أحد منهم بشىء ولا بخيط، ألح عليهم الطلب فتنفذوا ما فى أيديهم، ورجعوا بما أصابوا من الأقباض، فضموها إلى ما قد جمع.
وقال حبيب بن صبهان: دخلنا المدائن، فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالا مختمة بالرصاص، فما حسبناها إلا طعاما، فإذا هى آنية الذهب والفضة وقسمت بعد بين الناس.
قال: ولقد رأيت الرجل يطوف ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير فما حسبناه إلا ملحا، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته فى الخبز.
وعن الرفيل بن ميسور «2» قال: خرج زهرة، يعنى ابن الجوية، فى المقدمة يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النهروان وهم عليه، فازدحموا فوقع بغل فى الماء وعجلوا عنه ثم كلبوا عليه، فقال زهرة: أقسم بالله إن لهذا البغل لشأنا، ما كلب القوم عليه ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك بعد ما أرادوا تركه إلا لشىء، فترجل حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه فاحتملوا البغل بما عليه حتى أدوه إلى الأقباض ما يدرون ما عليه، وإذا الذى عليه حلية كسرى، ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التى كان فيها الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة.
__________
(1) هو: عمرو بن عمرو بن مقرن.
(2) انظر: الطبرى (4/ 17) .

(2/515)


وقال الكلج الضبى: كنت فيمن خرج للطلب، فإذا أنا ببغالين قد ذبا الخيل عنهما بالنشاب، فما بقى معهما غير نشابتين، فالتظظت بهما، فاجتمعا، وقال أحدهما لصاحبه: ارمه وأحميك، أو أرميه وتحمينى، فحمى كل واحد منهما صاحبه حتى رميا بهما. ثم إنى حملت عليهما فقتلتهما، وجئت بالبغلين ما أدرى ما عليهما، حتى بلغتهما صاحب الأقباض، فإذا هو يكتب ما يأتيه به الرجال وما كان فى الخزائن والدور، فقال:
على رسلك حتى ننظر ما معك فحططت عنهما، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسخا، وكان لا تحمله إلا أسطوانتان، وفيهما الجوهر، وعلى الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التى كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجا منظوما.
قالوا «1» : وخرج القعقاع يومئذ فى الطلب، فلحق بفارسى يحمى الناس، فاقتتلا فقتله القعقاع، وإذا معه جنبية عليها عيبتان وغلافان فى أحدهما خمسة أسياف وفى الآخر ستة، وفى العيبتين أدراع، درع كسرى ومغافره وساقاه وساعداه، ودرع هرقل، ودرع النعمان، ودرع داهر، ودرع سياوخش، ودرع بهرام شوبين، وكانوا استلبوا ما لم يرثوا منها، مما استلبوا أيام غواتهم خاقان وهرقل وداهر، وأما النعمان وبهرام فحين هربا وخالفا كسرى. وفى أحد الغلافين سيف كسرى وهرمز وكسوتى قباذ وفيروز، وفى الآخر سيوف سائر من نسبت إليه دروع من تلك الدروع، فجاء القعقاع بذلك كله إلى سعد، فقال له: اختر أحد هذه الأسياف، فاختار سيف هرقل، وأعطاه إياه معه درع بهرام، ونفل سعد سائر ذلك فى الخرساء، كتيبته، إلا سيف كسرى والنعمان، فإنه بعث بهما إلى عمر فى الأخماس مع حلى كسرى وتاجه وثيابه، ليرى ذلك المسلمون، ولتسمع به العرب، لمعرفتهم بها.
وقال عصمة الضبى «2» : خرجت فيمن خرج يطلب، فأخذت طريقا مسلوكا فإذا عليه حمّار، فلما رآنى حث حماره فلحق آخر قدامه، فمالا، وحثا حماريهما، فانتهينا إلى جدول قد كسر جسره، فثبتا حتى أتيتهما، ثم تفرقا، ورمانى أحدهما فألظظت به حتى قتلته، وأفلت الآخر، فرجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما، فإذا سفطان فى أحدهما فرس من ذهب مسروج بسرج من فضة على ثغره ولببه الزمرد والياقوت منظومين على الفضة، ولجام كذلك، وفارس من فضة مكلل
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 18) .
(2) انظر: الطبرى (4/ 18، 19) .

(2/516)


بالجوهر، وإذا فى الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب، وبطان من ذهب وزمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر، كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتى التاج.
وعن أبى عبيدة العنبرى «1» قال: لما هبط المسلمون بالمدائن، وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحق فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال هو والذين معه، لما نظروا إلى ما فيه: ما رأينا مثل هذا قط، ثم قالوا له: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدونى، ولا غيركم ليقرظونى، ولكنى أحمد لله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا حتى أتى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإذا هو عامر بن عبد قيس.
ويروى أن سعدا، رحمه الله، قال حين رأى ما رأى من ورع الناس وكونهم لم يتعلق على أحد منهم بغلول فيما جمعوا من الغنائم: والله إن هذا الجيش لأهل أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر ما فضلتهم عليهم، ولقد نالت الدنيا من رجال من أهل بدر حين أصابوها.
وقال جابر بن عبد الله: والله الذى لا إله إلا هو، ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية يريد الدنيا مع الآخرة.
قال بعضهم: ولقد كانوا يخافون قيس بن مكشوح، وعمرو بن معدى كرب، وطليحة بن خويلد، وأشباههم على الغلول، فما تعلق على أحد منه بشىء يكرهونه ولا أرادوا الدنيا.
ولما قدم على عمر، رحمه الله، بسيف كسرى ومنطقته وزبرجه، قال: إن أقواما أدوا هذا لذووا أمانة. فقال على، رضى الله عنه: إنك عففت فعفت الرعية.
قالوا: ولما اجتمعت الغنائم، وتراجع الطلب قسم سعد بين الناس فيئهم بعد ما خمسه، فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا، وكلهم كان فارسا ليس فيهم راجل، وكانت الجنائب فى المدائن كثيرة، ويقال: كانوا بين أهل الأيام وأهل القادسية الذين لم يشهدوا الأيام، وبين من لحق بهم فى ثلاث من غير أهل الأيام بالقادسية، وبين أهل الروادف ستين ألفا، وقسم سعد دور المدائن بين الناس، وأوطنوها، وكان الذى ولى القبض عمرو بن عمرو المزنى، والذى ولى القسم سلمان بن ربيعة.
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 19) .

(2/517)


وقال الشعبى «1» : بعث سعد إلى العيالات فأنزلهم الدور لما قسمها وفيها المرافق، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل، ثم تحولوا إلى الكوفة بعد.
قالوا: وجمع سعد الخمس، وأدخل فيه كل شىء أراد أن يعجب به عمر، من ثياب كسرى وحليه وسيفه ونحو ذلك، ونفل من الأخماس فى أهل البلاء، ولم يجهدها، وفضل بعد القسم بين الناس، وإخراج الخمس، القطف فلم يعتدل، فقال للمسلمين: هل لكم فى أن تطيب أنفسنا عن أربعة أخماسه، ونبعث به إلى عمر فيضعه حيث يرى، فإنا لا نراه يتفق: وهو بيننا قليل، وهو يقع من أهل المدينة موقعا؟ فقالوا: نعم، فبعث به على ذلك الوجه، والقطف هو بهار كسرى ثقل عليهم أن يذهبوا به، فتركوه بالمدائن، فأصابه المسلمون، وكان بساطا واحدا ستين ذراعا فى ستين ذراعا فيه طرز كالسور وفصوص كالأنهار، وفى خلال ذلك كالدير، فى حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات فى الربيع من الحرير على قضبان الذهب ونواره بالذهب والفضة وأشباه ذلك. وكانوا يعدونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين، فكان إذا أرادوا الشراب شربوا عليه، فكأنهم فى رياض، وكانت العرب تسميه القطف، فبعث به سعد مع الأخماس إلى عمر، رضى الله عنه، مع بشير بن الخصاصية، فلما قدم عليه نفل من الخمس أناسا، وقال: إن الأخماس ينفل منها من شهدها ومن غلب من أهل البلاء فيما بين الخمسين، ولا أرى القوم جهدوا الخمس، ثم قسم الخمس فى مواضعه، ثم قال: أشيروا علىّ فى هذا القطف. فأجمع ملؤهم على أن قالوا: قد جعلوا ذلك لك، فراء رأيك، إلا ما كان من على، رضى الله عنه، فإنه قال: يا أمير المؤمنين، الأمر كما قالوا: ولم يبق إلا التروية، إنك إن تقبله اليوم على هذا لم تعدم فى غد من يستحق به ما ليس له، قال: صدقتنى ونصحتنى.
وفى رواية أن عمر، رضى الله عنه، استشارهم فيه، فمن بين مشير بقبضه، وآخر مفوض إليه، وآخر مرفق، فقام على، رضى الله عنه، حين رأى عمر تأنى حتى انتهى إليه، فقال: لم تجعل علمك جهلا، ويقينك شكّا إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فامضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت. قال: صدقتنى، فقطعه فقسمه بين الناس، فأصاب عليا قطعة منه، فباعها بعشرين ألفا، وما هى بأجود تلك القطع.
وذكر المدائنى أن عمر حين قال له على: إن بلته لم تعدم بعدك من يستحق مأثما
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 21) .

(2/518)


بك، صرفه إلى سعد، وكتب إليه: أن بعه واقسم ثمنه على من أفاءه الله عليهم.
قال رجال سيف «1» : ولما أتى عمر بحلى كسرى وزيه فى المباهاة، وفى غير ذلك، وكانت له عدة أزياء لكل حالة زى، قال: علىّ بمحلم، وكان أجسم عربى يومئذ بأرض المدينة، فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب، وصب عليه أوشحته وقلائده وثيابه، وأجلس للناس، فنظر إليه عمر، ونظر إليه الناس، فرأوا أمرا عظيما من أمر الدنيا وفتنتها، ثم قام عن ذلك، فألبس زيه الذى كان يلبسه، فنظروا إلى مثل ذلك فى غير نوع، حتى أتى على الأزياء كلها، ثم ألبسه سلاحه، وقلده سيفه، فنظروا إليه فى ذلك، ثم وضعه ثم قال: والله إن أقواما أدوا هذا لذووا أمانة، ونفل سيف كسرى محلما، هكذا وقع ذكر محلم فى هذا الحديث، ولا أعرف ولا أعلم فى ذلك الصدر من اسمه محلم إلا محلم بن جثامة، ويقال: إنه توفى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصته فى الدم الذى أصابه، والعفو عند وجوب القود، ودعاء النبى صلى الله عليه وسلم لما مثل بين يديه، قصة مشهورة.
وقد قيل: إنه عاش بعد النبى صلى الله عليه وسلم فالله أعلم.
وكذلك قيل: إن الذى ألبسه عمر سوارى كسرى هو سراقة بن مالك المدلجى.
وروى سفيان بن عيينة عن أبى موسى، عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك»
: «كيف بك إذا لبست سوارى كسرى؟» «3» قال: فلما أتى عمر بسوارى كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة فألبسه إياهما، وكان سراقة رجلا أزب كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك فقل: الحمد لله، الله أكبر، الحمد لله الذى سلبهما كسرى بن هرمز الذى كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيا من بنى مدلج، ورفع بها عمر صوته.
وذكر أبو الحسن المدائنى فى فتوح العراق خبر المدائن، فخالف فيه كثيرا مما تتقدم وزاد ونقص، وسأذكر من ذلك ما يحسن ذكره على سبيل الاختصار والتوخى لحذف ما يكون ذكره تكرارا إلا ما يعتاض فضله من الحديث للحاجة إليه.
__________
(1) انظر: الطبرى (22، 23) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3122) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1955) ، الثقات (3/ 180) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 210) ، تقريب التهذيب (1/ 284) ، تهذيب التهذيب (3/ 456) ، تهذيب الكمال (1/ 466) ، الجرح والتعديل (4/ 1342) ، شذرات الذهب (1/ 35) ، العبر (1/ 27) ، العقد الثمين (4/ 523) .
(3) انظر الحديث فى: إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 18) ، الشفاء للقاضى عياض (1/ 674) .

(2/519)


فمن ذلك أن يزدجرد لما غلب سعد على مدينة نهرسير واعتقد أهل غربى دجلة منه الذمة نقل خزائنه وأمواله ودواوينه إلى حلوان، وأقام فى الإيوان فى مقاتلته، وسعد والمسلمون فى دير المنازل، فبينما هم به ودجلة قد طماها ماؤها يتدفق جانباها، إذ سمعوا ليلا قائلا يقول: يا معشر المسلمين، هذه المدائن غلقت أبوابها، وغيبت السفن، وقطعت الجسور، فما تنتظرون، فربكم الذى يحملكم فى البر يحملكم فى البحر؟ فندب سعد الناس إلى العبور، ثم ساق الحديث فى ركوبهم دجلة على ظهور خيلهم نحوا مما تقدم، ثم قال: ونظر ضرار بن الخطاب والمسلمون فرأوا بناء أبيض، فقال ضرار: الله أكبر، أبيض المدائن ورب الكعبة، وهرب أهل المسالح حين عبر المسلمون، واعروها وقالوا: هؤلاء من السماء، وخرج أهل الرومية ومن كان فيها من الأساورة معهم الفيلة فقاتلهم المسلمون، فكانت الفيلة تهم فى وجوه الخيل، والمسلمون قليل ليست لهم رجالة تقاتل عن خيلهم، فكانت الخيل تنفر، فأتى رجل سعدا فقال: تؤمننى على نفسى وأهلى ومالى وأدلك على ما ترد به الفيلة؟ قال: نعم. قال: الخنازير. قال: وأنى لى بها؟ قال: أنا أجيئك بها، فجاءه بخنازير فضربت فجعلت تقيع فى وجوه الفيلة، فولت وانهزم المشركون. فوقف رجل يحميهم واعترض الطريق فلما دنا منه المسلمون ضرب فرسه ليقدم عليهم، فاعتاص وضربه ليهرب، فاعتاص فطعنه رجل من المسلمين فقتله، ودخل الآخرون الرومية، ومضى الأساورة إلى يزدجرد بالإيوان، فهرب هو وأساورته ومقاتلته، وسمعوا صوتا من ورائهم علام تقتلون أنفسكم وقد ذهبت مدة ملككم.
ومضى سعد إلى المدينة العتيقة، فمر المسلمون بمجلس لكسرى كان يسمى بهشت إيوان، فوقفوا ينظرون إليه وقد تقدم سعد فانطوى عليه، فظن أنهم اقتطعوا، فسأل عنهم، فأخبر، فقال لبعض من معه من العجم: ما هذا المجلس؟ قالوا: بهشت إيوان.
قال: وما تفسيره؟ قالوا: الجنة. فأرسل سعد قوما فأحرقوه، وخرج أهل المدائن إلى سعد فتلقوه بجامات الذهب والفضة مملوءة دنانير ودراهم يسألونه الأمان على أن يعطوا الجزية، فقبل ذلك منهم، ونزل القصر الأبيض، وأمر أهل المدائن فعقدوا الجسر، فعبر المسلمون جميعا وأثقالهم وإبلهم، وتحول سعد فعسكر فى مكانين على الناقوس وعلى نهر أبغش، بين العسكرين ميل، وكان أكثر العسكرين أهلا الذين على نهر أبغش، واتخذ سعد مسجدا على الناقوس فهو إلى اليوم يسمى مسجد العسكر، وصلى فيه على بن أبى طالب حين قدم المدائن وهو يريد صفين.
ولم يأخذ سعد من المدينة ومن أهلها إلا ما كان للملك وأهل بيته ولمن هرب،

(2/520)


وأصابوا فى خزائنهم ما عجزوا عن حمله من المتاع وصنوف الأطعمة ما لا يوصف كثرة، فأمر سعد بجمع ذلك، فجمع وولاه النعمان بن مقرن ثم تلا:
أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [إبراهيم: 44، 45] .
وكتب سعد إلى عمر بفتح المدائن وبهرب ابن كسرى، فكتب إليه عمر:
أوصيك بتقوى الله الذى بتقواه سعد من سعد وبترك تقواه شقى من شقى، وقد عرفت بلاء الله عندنا أيها الرهط أنه استنقذنا من الشرك وأهله، وأخرجنا من عبادة أوثانهم، وهدانا من ضلالتهم، وعرفت مخرجنا من عندهم، كيف خرجنا، وأن الرهط على بعير عليه أنفسهم وزادهم يتعاور اللحاف الواحد العدة منا من بلغ مأمنه منا بلغ مجهودا، ومن أقام فى أرضه أقام مفتونا فى دينه معذبا فى بدنه، أشد أهله عليه أقربهم منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بالله لتأخذن كنوز كسرى وقيصر، يعجب من ذلك من سمعه، فأبقاك الله حتى وليت ذلك بنفسك، فأعرض عن زهرة ما أنت فيه، حتى تلقى الخماص الذين ذهبوا فى شمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدنيا، ولم يغتروا بها، فاقتدوا بهديهم، ولا تضللن أنفسكم، وكونوا الأمة الممدوحة المباركة التى قال الله تبارك وتعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ [الأنبياء:
73] .
قال: وحصر سعد الرومية تسعة أشهر حتى أكل السنانير والكلاب بعضهم، فأتى سعدا رجل مستأمن، فسأله الأمان لنفسه وأهله، على أن يدله على عورة المدينة، فأمنه فدله على مجرى الماء إلى المدينة، وكان يأتيهم الماء فى قناة من دجلة، فغورها المسلمون فارتحل أهل الرومية حين انقطع الماء عنهم من ليلتهم، وحملوا ما خف من أموالهم، وخرجوا على حامية معهم أثقالهم، فأخذوا طريق خراسان، فأتت امرأة منهم سعدا فسألته الأمان فأمنها، فقالت لم يبق فى المدينة أحد من المقاتلة ولا عيالاتهم، بقى قوم ضعفاء، فدخلها سعد، فأصابوا متاعا كثيرا وسلاحا وسبيا قليلا، فبعث بخمس ما أصاب من الرومية، وما صالح عليه أهل المدائن إلى عمر مع بشير بن الخصاصية.
وذكر من حديث البساط الذى مر ذكره نحوا مما تقدم.
وذكر، أيضا، عن حرملة بن صدقة بإسناده إليه قال: غزوت خراسان فرأيت رجلا

(2/521)


من العجم يشبه الروم فسألنى عن مسكنى، فقلت: المدائن، قال: أيها؟ قلت: الرومية.
قال: فأين منزلك منها؟ فوصفته له، قال: هذه دارى، إنى أحدث أصحابى عنها وعن حالى، وما كنت فيه فيكذبوننى، ولقد دفنت حين حصرنا العرب فى الدكان التى على باب الدار عشرة آلاف درهم وآنية ذهب وفضة كثيرة، فأغضيت على ما قال، واستأذنت أميرى فى القفل، فأذن لى، فقدمت فاحتفرت ذلك الموضع فأصبت ما قال على ما قال، فأحرزته ورجعت إلى مركزى.
قال المدائنى: واقتسم المسلمون الرومية أرباعا فنزلوها، ونسبت الأرباع إلى قبائل، ومعهم فيها غيرهم، غير أنه قيل: ربع عبد القيس وربع بجيلة وأسد وربع خزاعة وربع بقى على ما كان يسمى فى الجاهلية، طسوج هندوان.
وكان كسرى أنزله قوما من الزط فهو يسمى بذلك الاسم إلى اليوم، واتخذ آل صوخان مسجدا بالرومية، واختطت القبائل فيما حول الإيوان، ونزلوا المدينة العتيقة، ولم ينزلوا إلا ما كان للملك ولأهل بيته ولمن هرب مما لم يصالح عليه، فاختط حول الإيوان والرومية تميم وسليم وعبس وبكر ومزينة وجهينة وهمدان وثقيف والأنصار ومراد، ونزل بنو أسد الفارقين، ونزل المسلمون الإيوانات وبيوت النيران والمرابط والسكك ودور الضرب والدواوين، وصار بستان الملك الذى كان يدخله إذا فرغ من الزمزمة مقابر للمسلمين، ونزل حذيفة مربط يزدجرد، ونزل سعد القصر الأبيض والمسجد الذى يجتمعون فيه مسجد العسكر على الناقوس، فلم يزل المسلمون بالمدائن وما حولها حتى تحولوا إلى الكوفة، فتركوا خططهم على حالها تعرف بهم، وأقام قوم اتخذوا الضياع بالسواد، فلم يتحولوا، وكان مقامهم بعد الحرب سنتين.
وذكر أيضا أن سعد بن أبى وقاص كان حين سار إلى المدائن خلف قوما بأرض الكوفة، فقسم لهم مع من شهد المدائن حين فتحها، فقام إليه رجل من هذيل فقال له:
عمدت إلى فيئنا فأعطيته من لم يشهد، وركب إلى عمر فشكا سعدا، فأرسل عمر، عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود، فقال: إن وجدتماه بالكوفة فلا تبيتن بها، وإن وجدتماه خارجا عن الكوفة فلا تدعاه يدخلها وخذا الخاتم من يده، فلقياه بفيين فأخذ أحدهما الخاتم من يده، فنظر إلى الآخر، فقال: أمر بذلك، فقال سعد:
خذينى فجرينى ضباع وأبشرى ... بلحم امرئ لم يحضر اليوم ناصره
قال: دعونى أدخل الكوفة، قالا: لا، فقطعا به الفرات من دير الأعور، فلما قدم على

(2/522)


عمر قال: أين الهذلى؟ فقام، فقال: ما يقول هذا؟ قال سعد: صدق، قال: ارجع فخذه منهم ثم أقسمه.
وذكر عن عبد الله بن سليم وغيره، قالوا: اجتمع الأساورة بحلوان عند يزدجرد، فذكروا العرب ورثاثة سلاحهم وسوء عدتهم وظهورهم عليهم، فتلاوموا وقالوا: أسلمنا ملكنا وما كنا فيه إلى عصابة لم تكن فى الأرض أمة أصغر أمرا عندنا منهم، فقال بعضهم: لا تعجبوا من هذا، فإنها دولة جاءت قوما، ومدة انقضت عنكم، وهذا أمر أراده الله، والله لا يغلب. فقال رجل منهم: ارفعوا لى كرة، فرفعوها فرماها بنشابات فلم يخطئها، قال: هذا ما ترون من رمى، ولقد رأيتنى مرة فى بستان أرمى الزنانير بجلاهق فما أخطأت بواحدة، فقدم العرب فهربت واتبعنى رجل فرميته بخمس نشابات فما أصبته، ودعا رجل بقوسه فرمى بنشابة فى حائط لبن فغيبها إلى قريب من الريش، ثم اعترض ساقا من شجرة بسيف فاجتمه، ثم قال: ترون رمى وضربى؟ قالوا: نعم، قال:
فإنى رميت رجلا، يعنى من المسلمين، ليس عليه سلاح ولا ثوب يقيه، فأصبت بطنه فما خدشه، ولقد ضربت رجلا حاسرا أصلع بسيفى هذا، فخرج من رأسه شبه الدقيق، وحدث بعض العجم قال: كنت فيمن انهزم عن العرب، فإنى لأسير فى عشرة من الأساورة إذ انتهينا إلى نهر ورجل من العرب يسقى فرسه، فلما رآنا شد حزام فرسه وألجمه وركبه وحمل علينا فولينا، وانفردت من أصحابى دهشا وطمع فىّ فاتبعنى حتى صرت فى مؤخر النهر وفرسى أقوى من فرسه، فزجرت فرسى، فطغى بى النهر، ووقف ينظر إلىّ لا يقدر على العبور، فالتفت إليه، فقال: أولى لك، فلم أدر ما قال لى حتى سألت بعد وعلمت، فما خرج رعب تلك الكلمة من قلبى.
وذكر بإسناد له إلى عبد الله بن معقل بن مقرن المزنى قال: اصطفى عمر من مال العجم أصنافا، مال من هرب ومن قتل، وكل مال لكسرى أو لأحد من أهل بيته، وكل مسيل ماء، وكل دير يريد، فكان خراج ما اصطفى سبعة آلاف ألف حتى كان يوم دير الجماجم أحرق الديوان، فأخذ كل قوم ما يليهم.
قال المدائنى: وكان المغنم بالمدائن والرومية قريبا من مغنم القادسية.
ومما قيل فى ذلك من الشعر قول أبى بجيد، نافع بن الأسود التميمى يفخر بقومه:
بنو تميم عتاد الحرب قد علموا ... والناهضون إذا فرسانها ركبوا
والحاملون إذا ما أزمة أزمت ... ثقل العشائر إن جمعوا وإن ندبوا

(2/523)


والفاصلون إذا ما خطة جهلت ... عند الجموع وفيهم تفصل الخطب
والمانعون من الأعداء دارهم ... عند الهياج إذا ما اهتزت الطنب
والواردون على كسرى مدائنه ... قسرا ومن دونها بحر له لجب
نحوى نهابهم والخيل مشعلة ... وسط الديار ومنها حولهم عصب
شعث عليها ليوث ما يهجهجها ... عند الصياح بها عجم ولا عرب
شمس بأيدهم سمر مثقفة ... وكل عضب له فى متنه شطب
إذا جلوها على الأعداء فى فزع ... لاحت كأن فوق أيديهم بها شهب
وقال أيضا:
ونحن صبحنا يوم دجلة أهلها ... سيوفا وأرماحا وجيشا عرمرما
نراوح بالبيض الرقاق رؤسهم ... إذ الرمى أغرى بيننا فتضرما
أذقناهم يوم المدائن بأسنا ... صراحا وأسعطنا الألائم علقما
سقيناهم لما تولوا إلى الردى ... كئوسا ملأناهن صابا وشبرما
أبيتم علينا السلم ثم رجعتمو ... إلى السلم لما أصبح السلم محرما
ويوم يطير القلب من نعراته ... ربطنا له جأشا وهجنا به دما
دعونا إليه من تميم معاشرا ... يجيبون داعيهم وإن كان مجرما
يحلون فى اليوم الشديد قيامه ... عن الشمس والآفاق أغبر مظلما
ألا أيها ذا السائل عن عشيرتى ... ستخبر عنهم إن سألت لتعلما
فمهما عقدنا جاز فى الناس حكمنا ... وننقضه منهم وإن كان محكما
وقال أيضا:
أىّ يوم لنا كيوم قديس ... قد تركنا به القنا مرفوضا
كم سبينا من تاج ملك وأسوا ... ر ترى فى نطاقه تفضيضا
وقربنا خير الجيوش شتاء ... وربيعا مجملا وغريضا
ونفرنا فى مثلهم عن تراض ... لم نعرض ولم نذق تغميضا
ثم سرنا من فورنا نحو كسرى ... ففضضنا جموعه تفضيضا
وأملنا على المدائن خيلا ... بحرها مثل برهن أريضا
وانتثلنا خزائن المرء كسرى ... يوم ولى وحاص منا جريضا
وقال النابغة الجعدى من كلمة يذكر أيامهم تلك مع كسرى وغيره:
فمضت كتائبنا إليه عنوة ... حتى حللنا حيث ينخرق الصبا

(2/524)


نرمى مدينته ونحطم جمعه ... ونصك رأس عموده حتى انشطا
ولقيصر أخرى رمينا رمية ... قطعت قرينته كما انقطع السدا
والخيل تخفق بين دجلة عنوة ... بالسفح من أقر إلى وادى القرى
لا قيصر أبدا ولا كسرى بها ... قضى الحديث وكان شيئا فانقضى
حديث «1» وقعة جلولاء «2»
ذكر سيف «3» عن قيس بن أبى حازم قال: أقمنا بالمدائن حين هبطنا واقتسمنا ما فيها، فأتانا الخبر بأن مهران قد عسكر بجلولاء، وخندق عليه، وأن أهل الموصل قد عسكروا بتكريت، فكتب سعد بذلك إلى عمر، فأجابه: أن سرح هاشم بن عتبة إلى جلولاء فى اثنى عشر ألفا، واجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو.
وروى من سماه سيف من رجاله: أن عمر كتب، أيضا، إلى سعد: لئن هزم الله الجندين: جند مهران وجند الأنطاق، فقدم القعقاع حتى يكون على حد سوادكم، بين السواد والجبل.
قالوا: وكان من حديث جلولاء أن الأعاجم لما انتهوا إليها بعد الهرب من المدائن، وتفرقت الطرق بأهل أذربيجان والباب وبأهل الجبال وفارس تذامروا وقالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، وهذا مكان يفرق بيننا، فهلموا فلنجتمع به للعرب ولنقاتلهم، فإن كان لنا فهو الذى نريد، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا ما علينا، وأبلينا عذرا. فاحتفروا الخندق، واجتمعوا فيه على مهران، ونفذ يزدجرد إلى حلوان فنزل بها، ورماهم بالرجال، وخلف فيهم الأموال، فأقاموا فى خندقهم، وقد أحاطوا به الحسك من الخشب إلا طرقهم. ففصل هاشم بالناس من المدائن فى اثنى عشر ألفا، فيهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب، فسار إلى جلولاء أربعا، حتى قدم عليهم، فحاصرهم وأحاط بهم، فطاولهم أهل فارس، وجعلوا لا يخرجون عليهم إلا إذا أرادوا، وزاحفهم المسلمون ثمانين زحفا، كل ذلك يعطيهم الله الظفر على المشركين، وغلبوهم على حسك الخشب، فاتخذوا حسك الحديد.
__________
(1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 24- 35) ، الكامل لابن الأثير (2/ 361- 364) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 69- 71) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 102، 103) .
(2) أشار صاحب الروض المعطار إلى أن جلولاء بالعراق فى أول الجبل، وهى مدينة صغيرة عامرة بها نخل وزرع، ومنها إلى خانقين سبعة وعشرون ميلا (ص 167) .
(3) انظر: الطبرى (4/ 24، 25) .

(2/525)


وعن بعض الرواة أن هاشما لما نزل على مهران بجلولاء جعل يقوم فى الناس، ويقول:
إن هذا منزل له ما بعده، وجعل سعد يمده بالفرسان حتى إذا كانوا أخيرا قال بعضهم لبعض: أبلوا الله بلاء حسنا يتم لكم عليه الأجر والمغنم، واعملوا لله فإنكم ردء المسلمين، فالتقوا فاقتتلوا، وبعث الله عليهم ريحا أظلت عليهم البلاد، ولم يستطيعوا إلا المحاجزة، فتهافتت فرسانهم فى الخندق، فلم يجدوا بدا من أن يجعلوا فرضا مما يليهم، تصعد منه خيلهم، فأفسدوا حصنهم، وبلغ ذلك المسلمين، فنظروا إليه، فقالوا: ننهد إليهم ثانية فندخله عليهم أو نموت دونه، فلما نهدوا الثانية خرج القوم، فرموا حول الخندق مما يلى المسلمين بحسك الحديد لكيلا تقدم عليهم الخيول، وتركوا للمجال وجها، فخرجوا منه على المسلمين، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله ولا ليلة الهرير إلا أنه كان أكمش وأعجل، وانتهى القعقاع فى الوجه الذى زحف منه إلى باب خندقهم، فأخذ به، وأمر مناديا فنادى: يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل خندق القوم فأقبلوا إليه، ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله. وإنما فعل القعقاع ذلك ليقوى المسلمين، فحملوا حملة لم يقم لها شىء، حتى انتهوا إلى باب الخندق، ولا يشكون أن هاشما به، فإذا هو بالقعقاع قد أخذ به، وأخذ المشركون فى الهزيمة يمنة ويسرة عن المجال الذى بحيال خندقهم، فهلكوا فيما أعدوا للمسلمين فعقرت دوابهم، وعادوا رجالة، واتبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلا من لا يعد، وقتل الله منهم يومئذ مائة ألف، فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسميت جلولاء لما جللها من قتلاهم، فهى جلولاء الوقيعة.
وقال بعضهم: كان أشقى أهل فارس بجلولاء أهل الرى، كانوا بها حماة أهل فارس، ففنى أهل الرى يوم جلولاء.
وفى حديث عن محفز بن ثعلبة، وكان شهدها: أن أهل فارس لما رأوا أمداد المسلمين بادروا بقتالهم فى عددهم، ثم وصف من شدة قتالهم. قال: حتى أنفذوا النبل، وقصفوا الرماح حتى صاروا إلى السيوف والطبرزينات وكانوا بذلك صدر نهارهم إلى الظهيرة، ولما حضرت الصلاة صلى الناس إيماء، حتى إذا كان بين الصلاتين خنست كتيبة من كتائب المشركين وجاءت أخرى فوقفت مكانها، فأقبل القعقاع على الناس، فقال:
أهالتكم هذه؟ قالوا: نعم، نحن مكلون وهم مريحون، والكال يخاف العجز إلا أن يعقب، فقال: إنا حاملون حملة عليهم ومجادوهم وغير كافين عنهم ولا مقلعين عنهم حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا حملة رجل واحد حتى تخالطوهم، ولا يكذبن أحد منكم. فحمل

(2/526)


فانفرجوا فما نهنه أحد عن باب الخندق، وألبسهم الليل رواقه، فأخذوا يمنة ويسرة، ونادى منادى القعقاع: أين تحاجزون وأميركم فى الخندق فحمل المسلمون، فأدخل الخندق، فأتى فسطاطا فيه مرافق وثياب، وإذا ترس على إنسان فأنبشه، فإذا امرأة كالغزال فى حسن الشمس، فأخذها وثيابها، فاديت الثياب، وطلبت الجارية حتى صارت إلىّ فاتخذتها أم ولد.
قالوا «1» : وأمر هاشم القعقاع بالطلب، فطلبهم حتى بلغ خانقين، وأدرك بها مهران فقتله، وأدرك الفيرزان فنزل، فتوقل فى الظراب وخلى فرسه، وأصاب القعقاع سبايا، فبعث بهن إلى هاشم، فكن مما اقتسم، واتخذن، فولدن فى المسلمين، فذلك السبى ينسب إلى جلولاء، ومنه كانت أم الشعبى، ويقال من القادسية.
ويروى أن عمر، رضى الله عنه، قال وقد بلغه ما أصيب من هؤلاء السبايا: اللهم إنى أعوذ بك من أبناء الجلوليات.
قالوا: ولما بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الجبل، فنزل القعقاع بحلوان فى جند فلم يزل إلى أن تحول سعد بالناس من المدائن إلى الكوفة، فلحق به.
قالوا: وكتبوا إلى عمر بفتح جلولاء وبنزول القعقاع حلوان، واستأذنوه فى اتباعهم، فأبى، وقال: لوددت أن بين السواد والجبل سدا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، إنى آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.
وساق المدائنى خبر جلولاء مساقا بينه وبين ما تقدم بعض اختلاف وأسنده عن جماعة سمى منهم، قال: وبعضهم يزيد على بعض، فسقت حديثهم: أن يزدجرد هرب إلى حلوان، فلما فتح سعد الرومية كتب إلى عمر يستأذنه فى البعثة إلى ابن كسرى، فكتب إليه: «الحمد لله الذى أذل ابن كسرى وشرده، فأقم بمكانك واحذر على من معك من المسلمين» فأقام سعد بالمدائن سنتين لم يوجه أحدا، وكتب ابن كسرى إلى الجبال فجمع المقاتلة فوجههم إلى جلولاء، وأمر الأساورة والجنود فنزلوها، فاجتمع بها جمع عظيم عليهم خرزادين خرمهر، فكتب سعد إلى عمر بجمعهم، فكتب إليه: أقم بمكانك ووجه إليهم جيشا، فإن الله ناصرك ومتم وعده الذى وعد نبيه صلى الله عليه وسلم فعقد سعد لهاشم بن عتبة وندب الناس، فانتدب معه أربعة آلاف فيهم طليحة بن خويلد، وعمرو ابن معدى كرب وفرسان المسلمين، فسار.
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 28) .

(2/527)


فلما كان بمهروذ أتاه دهقانها فصالحه على أن يفرش له جريبا دراهم، فقبل منه ومضى إلى جلولاء، فقدم على قوم قد أعدوا عدة عظيمة، وتحرزوا بالخنادق، فقاتلوهم قتالا شديدا عن العيال والذرارى، وكتب هاشم إلى سعد يستمده، وأتى المشركون أهل أذربيجان مددا فعاجلوهم القتال، وكثروهم، فجال المسلمون وانكشفوا، فناداهم هاشم:
يا معشر المسلمين أين؟ أما رأيتم ما خلفتم؟ أتاتون عمر منهزمين؟ فعطف الناس، وعلى الميمنة حجر بن عدى، وعلى الميسرة عمرو بن معدى كرب، وعلى الخيل زهرة بن جوية، وعلى الرجال طليحة بن خويلد، فاشتد القتال بينهم حتى مضى وقت الظهر فصلى المسلمون يومئون إيماء، وألح المشركون عليهم، وطلعت كتيبة للمشركين حامية فجازت الخندق، ثم طلعت أخرى، فقال طليحة وعمرو بن معدى كرب: يا معشر الفرسان، الأرض واقرنوا خيولكم، ففعلوا وجثوا وأشرعوا الرماح فرجعت الخيل عنهم، ورموهم بالنشاب، فتترسوا، فمكثوا بذلك مليا، وأشفق المسلمون فحضهم طليحة وزهرة وعمرو، فبينا هم على ذلك إذ سمعوا تكبيرا للمسلمين وراءهم، فإذا قيس بن مكشوح قد جاءهم فى ألف وأربعمائة فارس وستمائة راجل، فانهزم المشركون قبل أن يصل إليهم، وهاجت ريح شديدة أظلمت لها الأرض، فتهافت المشركون فى الخندق، واتبعهم المسلمون فانتهوا إلى خنادقهم وقد انجلت عنهم الظلمة فركبوا أكتافهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وحووا عسكرهم، فأصابوا شيئا لم يصيبوا مثله من الأموال والسلاح والمتاع والسبايا والدواب، فجمع ذلك كله إلى هاشم، فجاء رجل من آل خارجة بن الصلت بتمثال ناقة من ذهب موشحة بالدر وألقاها فى المغنم، وجاء مجفر بن ثعلبة بجارية، وجاء كل رجل بما صار فى يديه، فحمل هاشم ذلك كله إلى سعد، فكتب سعد إلى عمر بالفتح وبما أصاب من السبايا واستأذنه فى اتباع العجم والمسير إلى الجبال، فكتب إليه عمر، رحمه الله: أقم مكانك عامك هذا حتى ننظر، واحذر على المسلمين، واترك أهل الجبال ما تركوك، فوددت أن بيننا وبين الجبال سدا من نار لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، فأقم ولا تطلب ما سوى ذلك عامك هذا إلا أن ينزل عدو بقربك، واقسم بين المسلمين ما أفاء الله عليهم.
وكانت الغنائم ثمانية عشر ألف ألف، فبلغت السهام ثلاثة آلاف، للفرس سهمان وللراجل سهم، وقال قوم: كانت الغنائم ستة وثلاثين ألف ألف، وكانت السهام ستة آلاف وثمانية من الدواب، للفرس سهمان وللراجل سهم، فحمل سعد الخمس مع زياد ابن أبى سفيان.

(2/528)


وفى كتاب سيف «1» عمن سمى من رجاله قالوا: ونفل سعد من أخماس جلولاء من أعظم البلاء ممن شهدها، ومن أعظمه ممن كان ثابتا بالمدائن، وبعث بالأخماس مع قضاعى بن عمرو الدؤلى من الذهب والورق والآنية والثياب، وبعث بالسبى مع أبى مفزر الأسود بن قطبة. قال بعضهم: وبعث بالحساب مع زياد بن أبى سفيان، وكان الذى يكتبه للناس ويدونهم، فلما قدموا على عمر كلم زياد عمر فيما جاء به ووصف له، فقال له عمر: هل تستطيع أن تقوم فى الناس بمثل الذى كلمتنى به؟ فقال: والله ما على الأرض شخص أهيب فى صدرى منك، فكيف لا أقوى على هذا فى غيرك؟ فقام فى الناس بما أصابوا وبما صنعوا، وبما يستأذنون فيه من الانسياح فى البلاد، فقال عمر، رضى الله عنه: هذا الخطيب المصقع، فقال زياد: إن جندنا أطلقوا بأفعالهم لسانى.
وعن أبى سلمة قال «2» : لما قدم على عمر، رحمه الله، بالأخماس من جلولاء، قال عمر: والله لا يجنه سقف بيت حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم يحرسانه فى صحن المسجد، فلما أصبح جاء فى الناس وكشف عنه جلابيبه، وهى الأنطاع، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال له عبد الرحمن: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله إن هذا إلا موطن شكر. فقال عمر: والله ما ذاك يبكينى، وتالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى باسهم بينهم. ثم دعا الحسن فيما ذكر المدائنى فحثا له، ثم دعا الحسين فحثا له، ثم قال: ما ترى؟ أنحثى لهم حثيا أم نكيل بالصاع. قال: بل احث لهم، ففعل، ثم دون الدواوين وفرض وقسم.
وذكر المدائنى، أيضا، أن سعدا كتب إلى عمر، رحمه الله، مع زياد يستأذنه فى اتباع المشركين ويصغر أمرهم عنده، فكتب إليه عمر: جاءنى كتابك تستأذننى فى اتباع المشركين، وسيأتى فيهم أمرى، وذلك من حق إمامك عليك، وإنما حق المسلم على المسلم بحق الله، وإن أعظم أهل الإسلام حقا عليهم إمامهم، وذلك أنه لا تجد أحدا من الناس صلاح أهل الأرض فى صلاحه إلا نبى أو خليفة، فالأمر إليك فى اتباعهم تغرير بالمسلمين، وانظر ما أجلب الناس به عليك فى العساكر من مال أو كراع أو سلاح أو متاع، فاقسمه بين من حضر، واترك الأرضين والأنهار فتكون فى أعطية المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضرك لم يكن لمن بعدهم شىء ولا توطن ولدا من والده، ولا تمسن أنثى من السبى حتى يطيب رحمها، ولا تتخذن مشركا أمينا على المسلمين، فإنهم
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 29) .
(2) انظر: الطبرى (4/ 30) .

(2/529)


يأخذون الرشوة فى دينهم ولا رشوة فى دين الله، وادع الناس فمن استجاب لك وأسلم قبل القتال فهو رجل من المسلمين وله سهم فى الإسلام، ومن أسلم بعد القتال وبعد الهزيمة فهو رجل من المسلمين وماله لأهل الإسلام، والأسير إذا أسلم فى أيدى المسلمين فقد أمن على دمه، وهو فىء للمسلمين، وأقر الفلاحين على حالهم إلا من حاربك أو هرب أو ترك أرضه وخلاها، فهى لكم فإن رجع فقبلتم منه الجزية فهو ذمة.
وذكر سيف «1» عن رجاله قالوا: كان صلح عمر الذى صالح عليه أهل الذمة، أنهم إن غشوا المسلمين لعدوهم برئت منهم الذمة، وإن سبوا مسلما أن ينهكوا عقوبة، وإن قاتلوا مسلما أن يقتلوا، وعلى عمر منعهم، وبرئ عمر إلى كل ذى عهد من معرة الجيش.
قال بعضهم: فكان الفلاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث، والدلالة مع الجزى عن أيديهم على قدر طاقتهم، وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة، وعلى كلهم الإرشاد وضيافة ابن السبيل من المهاجرين.
قال المدائنى: وشهد عبد الله بن عمر جلولاء، واشترى من المغنم متاعا بأربعين ألفا، فلما قدم المدينة أتاه عمر فى منزله، فقال لامرأته: يا صفية احتفظى بما جاء به عبد الله ولا يصلن منه إلى شىء، ثم قال لعبد الله: يا عبد الله اشتريت من غنائم المسلمين؟
فقالوا: ابن عمر وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن يرخصوا عليك بمائة أحب إليهم من أن يغلوا عليك بدرهم، لك فيما اشتريت ربحا لدرهم درهم، فدعا عمر التجار فعرضه عليهم وقال: اشتروا فإنه للمسلمين، فتزايدوا حتى بلغ مائة ألف، فباعه، وأعطى عبد الله ثمانين ألفا، وبعث بالباقى إلى سعد، وكتب إليه: اقسمه فيمن شهد سنة تسع عشرة.
وعن رجال سيف «2» قالوا: ولما رجع أهل جلولاء إلى المدائن نزلوا قطائعهم، وصار السواد ذمة لهم إلى ما أصفاهم الله به من مال الكاسرة، ومن لج معهم.
وقال القعقاع بن عمرو يذكر نزوله بجلولاء:
من مبلغ عنى القبائل مالكا ... وقد أحسنت عند الهياج القبائل
فلله جاهدنا وفى الفرس بغية ... ونحن على الثغر المخوف نساجل
وأنتم عتاد إن ألمت ملمة ... وجلت علينا فى الثغور الجلائل
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 32) .
(2) انظر: الطبرى (4/ 33) .

(2/530)


وهل تذكرونا إن نزلنا وأنتم ... منازل كسرى والأمور حوائل
فصرنا لكم ردآ بحلوان بعد ما ... نزلنا جميعا والجموع نوازل
فنحن الأولى فزنا بحلوان بعد ما ... أرنت على كسرى الإما والحلائل
وقال أبو بجيد فى ذلك:
ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت ... كتائبنا تردى بأسد عوابس
فضضت جموع الفرس ثم أنمتهم ... فتبا لأجساد المجوس النجائس
وأفلتهن الفيرزان بجرعة ... ومهران أردت يوم حز القوانس
أقاموا بدار للمنية موعد ... وللترب تحثوها خجوج الروامس
«1»
حديث يوم تكريت «2»
وكان سعد، رحمه الله، لما كتب إلى عمر، رضى الله عنه، بأمر جلولاء، وأجابه بما ذكر قبل، كتب إليه أيضا باجتماع أهل الموصل إلى الأنطاق وإقباله بهم إلى تكريت حتى نزل بها، وخندق عليه ليحمى أرضه، فأمر عمر سعدا أن يسرح عبد الله بن المعتم إلى الأنطاق، وعين لمقدمته وميمنته وميسرته وساقته رجالا سماهم له، ففصل على ذلك عبد الله من المدائن فى خمسة آلاف، فسار إلى تكريت حتى ينزل على الأنطاق، ومعه الروم وإياد وتغلب والنمر، وقد خندقوا، فحصرهم أربعين يوما وتزاحفوا أربعة وعشرين زحفا، فى كلها هزم المشركون ولا يخرجون خرجة إلا كانت عليهم.
فلما رأت الروم ذلك تركوا أمراءهم، ونقلوا متاعهم إلى السفن، وقد كان عبد الله ابن المعتم وكل بالعرب ليدعوهم إليه وإلى نصرته على الروم رجالا من تغلب وإياد والنمر، فكانوا لا يخفون عليه شيئا، فأقبلت إليه العيون منهم بما فعلت الروم وسألوه للعرب السلم وأخبروه أنهم قد استجابوا، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأقروا بما جاء به من عند الله، ثم اعملوا بما نأمركم، فردوا إليه رسلهم بالإسلام، فأرسل إليهم: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا قد نهدنا إلى الأبواب التى تلينا لندخل عليهم منها، فخذوا بالأبواب التى تلى دجلة، وكبروا وقاتلوا واقتلوا من قدرتم عليه.
__________
(1) انظر الأبيات فى: الطبرى (4/ 34) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 71) .
(2) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 35- 37) ، الكامل لابن الأثير (2/ 364- 366) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 71، 72) .

(2/531)


فانطلقوا حتى واطؤوهم على ذلك، ونهد عبد الله والمسلمون لما يليهم وكبروا وكبرت تغلب وإياد والنمر، وقد أخذوا بالأبواب، فحسب القوم أن المسلمين قد أتوهم من خلفهم، فابتدروا الأبواب التى أمامهم، فأخذتهم سيوف المسلمين مستقبلتهم، وسيوف الربعيين الذين أسلموا ليلتئذ من خلفهم، فلم يفلت من أهل الخندق إلا من أسلم من تغلب وإياد والنمر.
قال سيف «1» : وكان عمر، رضى الله عنه، قد عهد إلى سعد، إن هزم أهل تكريت أن يأمر عبد الله بن المعتم بتسريح ربعى بن الأفكل العنزى إلى الحصنين، وربعى هو الذى كان عمر رسم أن يكون على مقدمة عبد الله فى هذا الوجه، فسرحه عبد الله إلى الحصنين، وقال له: اسبق الخبر، وسر ما دون القيل، وأحى الليل، وسرح معه تغلب وإياد والنمر، فقدمهم وعليهم عتبة بن الوعل، أحد بنى سعد بن جشم وذو القرط وأبو وداعة ابن أبى كرب وابن ذى السنينة قتيل الكلاب وابن الحجير الأيادى وبشر بن أبى حوط متساندين، فساروا يسبقون إلى الحصنين خبر الهزيمة ليغزوا أهلها.
فلما كانوا قريبا منها، قدموا عتبة بن الوعل فادعى الظفر والنفل والقفل، ثم الرجال المسلمون آنفا واحدا بعد آخر، كلما وصل واحد منهم ذكر مثل ما ذكر عتبة، فوقفوا بالأبواب وقد أخذوا بها، وأقبلت سرعان الخيل مع ربعى بن الأفكل، حتى اقتحمت الحصنين على أهلهما، فكانت إياها، فنادوا بالإجابة إلى الصلح، فأقام من استجاب، وهرب من لم يستجب، إلى أن أتاهم عبد الله بن المعتم، فدعا من لج وهرب، ووفى لمن أقام، فتراجع الهارب واغتبط مع المقيم، وصارت لهم جميعا الذمة والمنعة، واقتسم المسلمون بتكريت ما أفاء الله عليهم على أن لكل سهم ألف درهم للفارس ثلاثة آلاف وللراجل ألف، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان «2» ، وبالفتح مع الحارث بن حسان «3» ، وولى حرب الموصل ربعى بن الأفكل، والخراج عرفجة بن هرثمة.
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 36) .
(2) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 333) ، الإكمال (2/ 325) ، الطبقات الكبرى (6/ 40) ، تهذيب الكمال (2/ 1092) ، الجرح والتعديل (7/ 449، 450) ، الإصابة ترجمة رقم (6980) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4205) .
(3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (1400) ، أسد الغابة ترجمة رقم (869) ، الثقات (3/ 75) ، تقريب التهذيب (1/ 140) ، الجرح والتعديل (3/ 325) ، تهذيب التهذيب (2/ 139) .

(2/532)


ذكر يوم ماسبذان «1» ويوم قرقيسيا «2»
ذكروا «3» أنه لما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن، بلغ سعدا أن آذين بن الهرمزان جمع جمعا، فخرج بهم إلى السهل، وأن أهل الجزيرة بعثوا جندا إلى هيت، فكتب سعد بذلك إلى عمر، فكتب إليه أن يبعث ضرار بن الخطاب فى جند إلى ابن الهرمزان، ويبعث عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف فى جند إلى هيت، ورسم لكلا الجندين صاحب مقدمتيه ومجنبتين وساقة وسماهم، فخرج ضرار فى الجند، وقدم صاحب مقدمته حتى انتهى إلى سهل ماسبذان، فالتقوا بمكان يدعى بهندف، فاقتتلوا به، فأسرع المسلمون فى المشركين، وأخذ ضرار آذين بن الهرمزان سلما، فأسره فانهزم عنه جيشه، فقدمه فضرب عنقه، ثم خرج فى الطلب حتى انتهى إلى السيروان، فأخذ ماسبذان عنوة، فتطاير أهلها فى الجبال، فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحول سعد من المدائن فأرسل إليه، فنزل الكوفة واستخلف على ماسبذان، وكانت إحدى فروج الكوفة.
وخرج عمر بن مالك فى جنده سائرا نحو هيت «4» ، وقدم الحارث بن يزيد العامرى، وهو المعين لمقدمته، حتى نزل بهيت وقد خندقوا عليهم، فلما رأى عمر بن مالك امتناع القوم بخندقهم استطال أمرهم، فترك الأخبية على حالها وخلف عليهم الحارث بن يزيد يحاصرهم، وخرج فى نصف الناس يعارض الطريق حتى جاء قرقيسيا فى عرة، فأخذها عنوة، فأجاب أهلها إلى الجزاء، وكتب إلى الحارث فى أهل هيت: إن هم استجابوا فخل عنهم وإلا فخندق على خندقهم خندقا أبوابه مما يليك حتى أرى من رأيى، فسمحوا بالاستجابة، وانضم الجند إلى عمر بن مالك والأعاجم إلى أهل بلدهم.
وقال ضرار بن الخطاب يذكر ملتقاهم بهندف:
ولما لقينا فى بهندف جمعهم ... تنادوا وقالوا يا صبر وايال فارس
فقلنا جميعا نحن أصبر منكم ... وأكرم فى يوم الوغى والتمارس
__________
(1) ماسبذان: أحد فروج الشام بالقرب من هيت. انظر: الروض المعطار (ص 519) .
(2) قرقيسيا: كورة من كور ديار ربيعة، كانت فى الجانب الشرقى من الفرات. انظر: الروض المعطار (ص 455) .
(3) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 37، 38) ، الكامل لابن الأثير (2/ 366، 367) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 72، 73) .
(4) هيت: مدينة بين الرحبة وبغداد، وهى على شاطئ الفرات. انظر: الروض المعطار (ص 597) .

(2/533)


ضربناهم بالبيض حتى إذا انثنت ... أقمنا لها ميلا بضرب القوانس
فولوا سراعا نحو دار أبيهم ... وقد خومروا يوم الوغا بالوساوس
فما برحت خيلى تقص طريقهم ... وتقتلهم بين اشتباك الخنادس
ذكر الحديث عن تمصير الكوفة والبصرة وتحول سعد بن أبى وقاص عن المدائن إلى الكوفة وما يندرج مع ذكر البصرة من فتح الأبلة «1»
ذكروا «2» أنه جاء عمر، رضى الله عنه، فتح جلولاء، وما ذكر بعدها، ونزول المسلمين حيث ذكر قبل نزولهم منها، ولما قدمت الوفود بذلك عليه، أنكرهم حين رآهم، وقال: والله ما هيئتكم بالهيئة التى بدوتم بها، ولقد قدمت وفود القادسية والمدائن وإنهم لكما بدوا، فما غيركم؟ قالوا: وخومة البلاد، فنظر فى حوائجهم، وعجل سراحهم، وكتب إلى سعد: أنبئنى ما الذى غير ألوان العرب ولحومهم؟.
فكتب إليه: إن العرب خددهم وغير ألوانهم وخومة المدائن ودجلة، فكتب إليه عمر:
إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سلمان رائدا وحذيفة، وكانا رائدى الجيش، فليرتادا منزلا بريا بحريا، ليس بينى وبينكم فيه بحر ولا جسر، ولم يكن بقى من أمر الجيش شىء إلا وقد أسنده عمر إلى رجل، فبعث سعد حذيفة وسلمان.
فخرج سلمان حتى أتى الأنبار، فسار فى غربى الفرات لا يرى شيئا، حتى أتى الكوفة، وخرج حذيفة فى شرقى الفرات لا يرضى شيئا، حتى أتى الكوفة، فأتيا عليها وفيها ديارات ثلاث: دير حرقة، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، وأخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة، فنزلا فصليا، وقال كل واحد منهما: اللهم رب السماوات وما أظلت، ورب الأرضين وما أقلت، ورب الريح وما أذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلت، والخصاص وما أجنت، بارك لنا فى هذه الكوفة، واجعله منزل ثبات، فرجعا إلى سعد بالخبر.
وذكر المدائنى أن الناس اجتووا المدائن بعد أن رجعوا من جلولاء، فشكوا ذلك إلى
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 40) / فتوح البلدان للبلاذرى (ص 338- 354، 425- 458) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 367- 371) .
(2) انظر: الطبرى (4/ 40) .

(2/534)


عمر، فقال عمر: هل تصبر بها الإبل؟ قالوا: لا؛ لأن بها بعوضا، قال: فإن العرب لا تصبر ببلاد لا تصبر بها الإبل، اخرجوا فارتادوا منزلا.
قال أبو وائل: فخرجنا فأردنا أن ننزل الحيرة، فقال رجل من أهلها: يا معشر المعذبين، ألا أدلكم على ما ارتفعت عن البعوضة وتطأطأت عن الثلجة وطعنت فى البرية وخالطت الريف؟ قلنا: بلى، فدلنا على الكوفة، فاختط الناس ونزلوا الكوفة، فكتب إلى عمر بذلك.
وذكر سيف «1» عمن سماه من رجاله قالوا: مصر المسلمون المدائن وأوطنوها، حتى إذا فرغوا من جلولاء وتكريت وأخذوا الحصنين، كتب عمر إلى سعد أن ابعث عتبة بن غزوان «2» إلى فرج الهند فليرتد منزلا يمصره، وابعث معه سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابعث بعده عرفجة بن هرثمة، واجعل مكانه الحارث بن حسان، وابعث عاصم بن عمرو، وحذيفة بن محصن، ومجزأة بن ثور، والحصين بن القعقاع، فخرج عتبة فى سبعمائة من المدائن واتبعه عرفجة فى سبعمائة، ثم عاصم ثم حذيفة ثم مجزأة ثم الحصين، كل واحد منهم فى سبعمائة، ثم سعد بن سلمى فى سبعمائة، فساروا حتى أتوا على البصرة اليوم فنزلوها وثبتوا بها، والبصرة كل أرض حجارتها جص.
قالوا «3» : ولما نزل أهل الكوفة الكوفة، واستقرت بأهل البصرة الدار، عرف القوم أنفسهم، وثاب إليهم ما كانوا فقدوا، ثم إن أهل المصرين استأذنوا فى بنيان القصب، فقال عمر، رضى الله عنه: العسكرة أجد لحربكم وأذكى لكم، وما أحب أن أخالفكم، وما القصب؟ قالوا: العكرش إذا روى قصب فصار قصبا، قال: فشأنكم، فابنوا بالقصب، ثم وقع الحريق فى المصرين، وكانت الكوفة أشدهما حريقا، فاحترق ثمانون عرشا، ولم يبق فيها قصبة، فبعث سعد نفرا منهم إلى عمر يستأذنونه فى البنيان باللبن، ويخبرونه عن الحريق وما بلغ منهم، وكانوا لا يدعون شيئا ولا يأتونه إلا أمروه فيه، فقال: ابنوا، ولا يزدن أحد على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا فى البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة، فرجع القوم بذلك إلى الكوفة.
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 43) .
(2) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (3/ 1/ 69) ، التاريخ الكبير (6/ 520، 521) ، المعارف (275) ، الجرح والتعديل (6/ 373) ، تاريخ بغداد (1/ 155- 157) ، تهذيب التهذيب (7/ 100) ، شذرات الذهب (1/ 27) ، الإصابة ترجمة رقم (5427) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3556) .
(3) انظر: الطبرى (4/ 43) .

(2/535)


وكتب عمر إلى عتبة وأهل البصرة بمثل ذلك، وعهد عمر إلى الوفد، وتقدم إلى الناس ألا يرفعوا بنيانا فوق القدر، قالوا: وما القدر؟ قال: ما لا يقربكم من السرف، ولا يخرجكم من القصد.
فأول شىء خط بالكوفة، وبنى حين عزموا على البناء المسجد، فاختط ثم قام رجل شديد النزع، فرمى عن يمينه ومن بين يديه ومن خلفه وعن شماله، وأمر من شاء أن يا بنى وراء مواقع تلك السهام، وبنوا لسعد دارا بحياله، بينهما الطريق، وجعل فيها بيوت الأموال، وهى قصر الكوفة اليوم، وبنى سعد فى الذى خطوا للقصر قصرا بحيال محراب مسجد الكوفة اليوم، وجعل فيه بيت المال، وسكن ناحيته، ثم إن بيت المال نقب عليه منه، فأخذ منه المال.
وكتب سعد بذلك إلى عمر، ووصف له موضع الدار وبيوت المال من الصحن، فكتب إليه عمر: أن انقل المسجد حتى تضعه إلى جانب الدار، واجعل الدار قبالته، فإن للمسجد أهلا بالنهار وبالليل، وفيهم حصن لمالهم، فنقل المسجد وأراع بنيانه، فقال له دهقان من أهل همذان، يقال له روزبة بن بزرجمهر: أنا أبنيه لك، وأبنى لك قصرا وأصلهما، ويكون بنيانا واحدا، فخط قصر الكوفة على ما خط عليه، ثم أنشأه من بعض آجر قصر كان للأكاسرة فى ضواحى الحيرة على مساحته اليوم، ووضع المسجد بحيال بيوت الأموال، وكان بنيانه على أساطين من رخام، كانت لكنائس لكسرى بغير مجنبات، فلم يزل على ذلك حتى بنى زمن معاوية بنيانه اليوم على يدى زياد.
ولما أراد زياد بناءه دعا بنائين من بنائى الجاهلية، فوصف لهم موضع المسجد وقدره وما يزيد من طوله فى السماء، وقال: أشتهى من ذلك شيئا لا أقع على صفته، فقال له بناء قد كان بنى لكسرى: لا يجىء هذا إلا بأساطين من جبال الأهواز، تنقر ثم تثقب، وتحشى بالرصاص وبسفافيد الحديد، فترفعه ثلاثين ذراعا فى السماء ثم تسقفه، ثم تجعل له مجنبات ومواخر، فيكون أثبت له، فقال: هذه الصفة التى كانت نفسى تنازعنى إليها ولم تعبرها.
قال عطاء مولى إسحاق بن طلحة: كنت أجلس فى المسجد الأعظم من قبل أن يبنيه زياد، وليست له مجنبات ولا مواخر، فأرى منه دير هند وباب الجسر.
وذكر الطبرى «1» عن المدائنى أن عمر بن الخطاب وجه عتبة بن غزوان إلى البصرة
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 590) .

(2/536)


سنة أربع عشرة، وذكر عن الشعبى قال: قتل مهران فى صفر سنة أربع عشرة، فقال عمر لعتبة: قد فتح الله على إخوانكم الحيرة وما حولها، وقتل عظيم من عظمائها، ولست آمن أن يمدهم إخوانهم من أهل فارس، فأنا أريد أن أوجهك إلى أرض الهند، والبصرة يومئذ تدعى أرض الهند، لتمنع أهل ذلك الحيز من إمداد إخوانهم على إخوانكم وتقاتلهم، لعل الله أن يفتح عليكم، فسر على بركة الله، واتق الله ما استطعت، واحكم بالعدل، وصل الصلاة لوقتها، وأكثر ذكر الله.
فأقبل عتبة فى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وضوى إليه قوم من الأعراب وأهل البوادى، فقدم البصرة فى خمسمائة، يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا.
وذكر من طريق آخر «1» أنه دقمها فى ثلاثمائة، فملا رأى منبت القصب، وسمع نقيق الضفادع قال: إن أمير المؤمنين أمرنى أن أنزل أقصى البر من أرض العرب، وأدنى أرض الريف من أرض العجم، فهذا حيث وجب علينا طاعة إمامنا، فنزل الخريبة.
وفى حديث الشعبى «2» : وليس بها، يعنى بالبصرة، يومئذ إلا سبع دساكر، فكتب إلى عمر، ووصف له منزله، فكتب إليه عمر: أجمع الناس موضعا واحدا ولا تفرقهم، وأقام عتبة أشهرا لا يغزو ولا يلقى أحدا.
وفى حديث آخر «3» : أن عتبة أقبل بمن كان معه حتى إذا كانوا بالمربد وجدوا هذا الكذان، قالوا: هذه البصرة، فساروا حتى بلغوا حيال الجسر الصغير، فإذا حلفاء وقصب نابتة، فقالوا: هاهنا أمرتم، فنزلوا دون صاحب الفرات، فأتى فقيل له: إن هاهنا قوما معهم راية، وهم يريدونك، فأقبل فى أربعة آلاف أسوار، فقال: ما هم إلا ما أرى، اجعلوا فى أعناقهم الحبال، وأتونى بهم، فجعل عتبة يوجل ويقول: إنى شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعنى فكان لا يقاتل حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر، حتى إذا زالت الشمس، قال عتبة لأصحابه: احملوا، فحملوا عليهم فقتلوهم أجمعين، إلا صاحب الفرات، أخذوه أسيرا، فقال عتبة: ابغوا لنا منزلا هو أنزه من هذا، وكان يوم عكاك، فرفعوا له منبرا، فقام يخطب، فقال: إن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة الإناء، ألا وأنكم منتقلون منها إلى دار القرار، فانتقلوا بخير ما
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 594) .
(2) انظر: الطبرى (3/ 591) .
(3) انظر: الطبرى (3/ 591، 592) .

(2/537)


بحضرتكم، ولقد ذكر لى: أن صخرة ألقيت من شفير جهنم هوت سبعين خريفا، ولتملأنه، أفعجبتم! ولقد ذكر لى أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليه يوم وله كظيظ من الرخام، ولقد رأيتنى وإنى لسابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق السمر، حتى تقرحت أشداقنا، والتقطت بردة فشققتها بينى وبين سعد، فما منا من أولئك السبعة من أحد إلا وهو أمير مصر من الأمصار، وستجربون الأمراء بعدنا.
وفى بعض ما ذكره الطبرى «1» من الأحاديث عن مقدم عتبة البصرة، وأنه نزل الخريبة، قال: وبالأبلة خمسمائة من الأساورة يحمونها، وكان مرفأ السفن من الصين وما دونها، فسار عتبة، فنزل دار الإجانة، فأقام نحوا من شهر، ثم خرج إليه أهل الأبلة فناهضهم عتبة، وجعل قطبة بن قتادة السدوسى، وقسامة بن زهير المازنى فى عشرة فوارس، وقال لهما: كونا فى ظهورنا، فتردا المنهزم، وتمنعا من أرادنا من ورائنا، ثم التقوا فما اقتتلوا مقدار جزر جزور وقسمها، حتى منحهم الله أكتافهم، وولوا منهزمين، حتى دخلوا المدينة، ورجع عتبة إلى عسكره فأقاموا أياما وألقى الله فى قلوبهم الرعب فخرجوا عن المدينة، وحملوا ما خف لهم، وعبروا إلى الفرات، وخلوا المدينة، فدخلها المسلمون فأصابوا متاعا وسلاحا وسبيا وعينا، فاقتسموا العين، فأصاب كل رجل منهم درهمان، وولى نافع بن الحارث أقباض الأبلة، فأخرج خمسه ثم قسم الباقى بين من أفاء الله عليه، وكتب بذلك مع نافع بن الحارث.
وقال داود بن أبى هند: أصاب المسلمون بالأبلة من الدراهم ستمائة درهم، فأخذ كل رجل درهمين، ففرض عمر لأصحاب الدرهمين فى ألفين من العطاء.
وقال الشعبى «2» : شهد فتح الأبلة مائتان وسبعون، فيهم أبو بكرة، نفيع بن الحارث، وشبل بن معبد، والمغيرة بن شعبة، ومجاشع بن مسعود، وأبو مريم البلوى.
وفى حديث يروى عن عمرة ابنة قيس «3» : أنه لما خرج الناس لقتال أهل الأبلة، وكانوا حيالها، قالوا للعدو: نعبر إليكم أو تعبرون إلينا؟ قال: اعبروا إلينا، فأخذوا خشب العشر فأوثقوه، وعبروا، فقال المشركون: لا تأخذوا أولهم حتى يعبر آخرهم،
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 594) .
(2) انظر: الطبرى (3/ 595) .
(3) انظر: الطبرى (3/ 597) .

(2/538)


فلما صاروا على الأرض كبروا تكبيرة، ثم كبروا الثانية، فقامت دوابهم على أرجلها، ثم كبروا الثالثة، فجعلت الدابة تضرب بصاحبها الأرض، وجعلنا ننظر إلى رؤس تندر، ما نرى من يضربها، وفتح الله على أيديهم المدينة.
وقال سلمة بن المحبق «1» : شهدت فتح الأبلة، فوقع فى سهمى قدر نحاس، فلما نظرت إذا هى ذهب فيها ثمانون ألف مثقال، وكتب فى ذلك إلى عمر، فكتب: أن تصبر يمين سلمة بالله لقد أخذها يوم أخذها وهى عنده نحاس، فإن حلف سلمت إليه، وإلا قسمت بين المسلمين. قال: فحلفت فسلمت لى.
قال المثنى بن موسى بن سلمة: فأصول أموالنا اليوم منها.
وقال عباية بن عبد عمرو»
: شهدت فتح الأبلة مع عتبة، فبعث نافعا إلى عمر، وجمع لنا أهل دست ميسان، فقال عتبة: أرى أن نسير إليهم، فسرنا فلقينا مرزبان دست ميسان، فقاتلناه، فانهزم أصحابه وأخذ أسيرا، فأخذ قباؤه ومنطقته فبعث بها عتبة مع أنس بن حجية اليشكرى.
قال أبو المليح الهذلى: فسأله عمر: كيف المسلمون؟ قال: انثالت عليهم الدنيا، فهم يهيلون الذهب والفضة، فرغب الناس فى البصرة فأتوها.
وعن على بن زيد قال: لما فرغ عتبة من الأبلة جمع له مرزبان دست ميسان، فسار إليه عتبة من الأبلة فقتله، ثم سرح مجاشع بن مسعود إلى الفرات وبها مدينة، ووفد عتبة إلى عمر، وأمر المغيرة بن شعبة أن يصلى بالناس حتى يقدم مجاشع من الفرات، فإذا قدم فهو الأمير، فظفر مجاشع بأهل الفرات، ورجع إلى البصرة، وجمع الميلكان، عظيم من عظماء الأعاجم، للمسلمين، فخرج إليه المغيرة، فلقيه بالمرغاب «3» ، فظفر به، فكتب إلى عمر بالفتح، فقال عمر لعتبة: من استعملت على البصرة؟ فقال: مجاشع بن مسعود، قال:
تستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر؟ تدرى ما حدث؟ قال: لا، فأخبره بما كان من أمر المغيرة، وأمره أن يرجع إلى عمله، فمات عتبة فى الطريق، واستعمل عمر المغيرة.
وفى رواية أن أهل ميسان هم الذين جمعوا، فلقيهم المغيرة، وظهر عليهم قبل قدوم مجاشع من الفرات، وبعد أن شخص عتبة إلى عمر أثر ما قتل مرزبان دست ميسان.
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 596) .
(2) انظر: الطبرى (3/ 595) .
(3) المرغاب: موضع نهر بالبصرة. انظر: معجم البلدان (5/ 107) .

(2/539)


وذكر الطبرى بسنده عن قتادة قال: جمع أهل ميسان للمسلمين، فسار إليهم المغيرة، وخلف الأثقال، فلقيهم دون دجلة، فقالت أردة بنت الحارث بن كلدة: لو لحقنا بالمسلمين فكنا معهم، فاعتقدت لواء من خمارها، واتخذ النساء من خمرهن رايات، وخرجن يردن المسلمين، فانتهين إليهم، والمشركون يقاتلونهم، فلما رأى المشركون الرايات مقبلة، ظنوا أن مددا أتى المسلمين فانكشفوا، واتبعهم المسلمون، فقتلوا منهم عدة.
أردة بنت الحارث بن كلدة: هذه كانت تحت شبل بن معبد البجلى، وكانت أختها صفية عند عتبة بن غزوان، فلما ولى عتبة البصرة، انحدر معه أصهاره، أبو بكرة ونافع وشبل، وانحدر معهم زياد، فلما فتحوا الأبلة لم يجدوا قاسما يقسم بينهم، فكان زياد قاسمهم، وهو ابن أربع عشرة سنة، له ذؤابة، فأجروا عليه كل يوم درهمين.
قال الطبرى: وكان ممن سبى من ميسان يسار أبو الحسن البصرى، وأرطبان جد عبد الله بن عون بن أرطبان.
والأخبار فى شأن هذين المصرين يوهم ظاهرها الاختلاف المتباين فى وقت عمارة المسلمين لهما، فأكثرها على أن ذلك كان بعد المدائن، وبعد جلولاء، وقد ذكرنا ما ذكر الطبرى فى بعض ما أورده، أن عمر وجه الناس مع عتبة إلى البصرة فى سنة أربع عشرة، وهذا يقتضى أنه قبل القادسية، فضلا عن المدائن، وكذلك ذكر المدائنى من حديث حميد بن هلال، أن خالد بن عمير العدوى حدثه قال: لما كان أيام القادسية، كتب إلينا أهل الكوفة يستمدوننا، فأمدهم أهل البصرة بألف وخمسمائة راكب، كنت فيهم، فقدمنا على سعد بالقادسية وهو مريض، وذكر بقية الحديث.
ولعل نزول المسلمين بهذين الموضعين كان متقدما على تمصيرهما وبنيانهما بزمان، ومع ذلك فلا يرتفع الخلاف فى ذلك بين الأخبار كل الارتفاع، والله تعالى أعلم.
وكان عمر، رضى الله عنه، قد أمر سعدا بعد ما وجهه إلى العراق أن يجعل الناس أعشارا، فلما كان بعد ذلك رجح الأعشار بعضهم بعضا رجحانا كثيرا، فكتب سعد إلى عمر فى تعديلهم، فكتب إليه: أن عدلهم، فأرسل سعد إلى قوم من نساب العرب وعقلائهم وذوى الرأى منهم، كسعيد بن نمران، ومشعلة بن نعيم، فعدلوهم أسابعا، فلم يزالوا كذلك عامة إمارة معاوية حتى ولى زياد فربعهم.

(2/540)