الاكتفاء
بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة
الخلفاء تأمير عمر، رضى الله عنه، سعد بن أبى وقاص
على العراق وذكر الخبر عن حرب القادسية «1»
ذكر المدائنى بإسناده إلى رجال من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض أن عمر بن
الخطاب، رضى الله عنه، كان يخير من قدم عليه من العرب بين الشام وبين
العراق، فكانت مضر تختار العراق وتختار أهل اليمن الشام، فقال عمر: اليمن
أشد تعاطفا يحنون إلى سلفهم، ونزار كلهم سلف نفسه، ومضر لا تحن إلا سلفها،
ولم يكن أحد من العرب أشد إقداما على أرض فارس من ربيعة، فبلغ عمر اختلاف
المثنى بن حارثة وجرير ابن عبد الله فى الإمارة، فاستشار الناس، فقال
المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين، تداركهم برجل من المهاجرين واجعله
بدريا، فقال: أشيروا علىّ برجل، فقال عبد الرحمن ابن عوف: قد وجدته، قال:
من هو؟ قال: سعد بن أبى وقاص، قال: هو لها، فكتب عمر إلى المثنى: لم أكن
لأستعملك على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى جرير
والمثنى: إنى موجه سعدا إليكما، فاسمعا له وأطيعا.
وذكر الطبرى وغيره فى هذا الموضع من تحرك عمر، رضى الله عنه، للخروج إلى
العراق بنفسه واستدعائه وجوه المهاجرين والأنصار للمشورة عليه فيه، بعد أن
خرج بذلك الرسم فنزل صرارا، وقدم بين يديه طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص،
وخلف بالمدينة على بن أبى طالب واليا عليها، وإشارة أولى الرأى عليه
بالرجوع إلى المدينة، والاستخلاف على ذلك الوجه، واستنفار العرب له، ما قد
فرغنا من ذكره فى صدر وقعة البويب من خبر الجسر، حيث ذكره المدائنى، ولعل
ذلك الموضع أولى به، فإن يكن كذلك فقد ذكرناه حيث ينبغى، وإن يكن موضعه
هذا، فقد نبهنا عليه ليعرف ما وقع من الاختلاف بين المؤلفين فى هذا الشأن
بحسب ما تأذى إليهم من جهة النقل، والأمر فى ذلك قريب، والاختلاف فى
المنقولات غير مستنكر، والله تعالى أعلم.
وقد كان أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، استعمل سعد بن أبى وقاص على
__________
(1) انظر: فتوح البلدان (ص 303- 320) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/
309- 338) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 37- 47) ، تاريخ ابن خلدون (3/
313- 321) .
(2/431)
صدقات هوازن بنجد، فأقره عمر عليها، فلما
أتاه اجتماع فارس، وقيام يزدجرد فى قول من جعل قيامه بعد وقعة البويب،
خلافا لما ذكره المدائنى وآخرون معه، من قيامه قبل ذلك حسب ما قدمناه، كتب
عمر إلى المسلمين بما عملوا به قبل انتهاء كتابه إليهم من الوقوف على حدود
أرضهم، وأن يستخرجوا كل ذى سلاح وفرس ممن له رأى ونجدة فيضموه إليهم حتى
يأتيهم أمره، وكتب إلى عمال العرب على الكور والقبائل، وذلك فى ذى الحجة
سنة ثلاث عشرة مخرجه إلى الحج يأمرهم أيضا بانتخاب الناس أولى الخيل
والسلاح والنجدة والرأى، ويستعجلهم فى توجيههم إليه، وكتب بمثل ذلك إلى سعد
بن أبى وقاص، فجاءه كتاب سعد:
إنى قد انتخبت لك ألف فارس مرد، كلهم له نجدة ورأى، يحوط حريم قومه، ويمنع
زمارهم، إليهم انتهت أحسابهم وآراؤهم، فشأنك بهم.
فوافق وصول كتاب سعد بهذا مشاورة عمر الناس فى رجل يوجهه إلى العراق،
فقالوا: قد وجدته، قال: من؟ قالوا: الأسد عاديا، سعد بن مالك، فانتهى إلى
رأيهم، وأرسل إليه، فقدم عليه، فأمّره على حرب العراق وأوصاه، فقال: يا
سعد، سعد بنى وهيب، عليك بتقوى الله، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن
يمحو السيئ بالحسن، ولا يغرنك أن يقال: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وخال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل ليس بينه وبين أحد سبب
إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم فى ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده،
يتفاضلون بالعاقبة، ويدركون ما عنده بالطاعة، ألم تسمع لقول الله تبارك
وتعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها [القصص: 84] ، و:
مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل: 90]
، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ بعثه الله حتى قبض إليه، فالزم
ما رأيته عليه، وإنى موجهك إلى أرض فارس، فسر على بركة الله، فقد استعملتك
على من مررت به من القبائل ممن سقط إليكم من العرب، فاندبهم إلى الجهاد
ورغبهم فيه، وأعلمهم ما أعد الله لأهله، فمن تبعك منهم فأحسن إليه وارفق
بهم، واجعل كل قبيلة على منزلها، ومن لم يبلغ أن تستنفره بمن معه من قبيلة،
فاجعله مع من أحب، وانزل فيدا حتى يأتيك أمرى.
وفى رواية أنه قال لما أراد أن يسرحه:
إنى قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتى، فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص
منه إلا الحق، فعود نفسك ومن معك الخير، واستفتح به، واعلم أن لكل عادة
(2/432)
عتادا، وعتاد الخير الصبر، فالصبر الصبر
تجتمع لك به خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع لك فى أمرين: فى طاعته
واجتناب معصيته، وإنما أطاعه من أطاعه بحب الآخرة وبغض الدنيا، وعصاه من
عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة، وللقلوب حقائق ينشئها الله عز وجل إنشاء،
منها السر والعلانية، فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه فى الحق سواء،
وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قبله على لسانه، وبمحبة الناس إليه، فلا
تزهد فى التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم، وإن الله تعالى إذا أحب عبدا
حببه إلى خلقه، وإذا أبغض عبدا بغضه إليهم، فاعتبر منزلتك عند الله عز وجل
بمنزلتك عند الناس، ممن يسرع معك فى أمرك.
وذكر المدائنى أن عمر، رضى الله عنه، كتب لسعد مع ما أوصاه به عهدا يقول له
فيه:
أوصيك بتقوى الله والرغبة فيما عنده، فادع الناس إلى الله، فمن أجابك فهو
أولى بماله وأهله وولده، وليس لك منه إلا زاد بلاغ إن احتجت، وعظ نفسك
وأصحابك ولا تكثر عليهم فيملوا، واجعلهم رفقاء إخوانا، وألن لهم جناحك،
وحطهم بنفسك كنفسك، واعلم أن المسلمين فى جوار الله، وأن المسلم أعظم الخلق
عند الله حرمة، ولا يطلبنك الله بخفرته فى أحد منهم، واحذر عليهم واحفظ
قاصيتهم، وعد مريضهم، وانصف مظلومهم، وخذ لضعيفهم من قويهم، واصلح بينهم،
وألزمهم القرآن وخوفهم بالله، وامنعهم من ذكر الجاهلية وما كان فيها، فإنها
تورث الضغينة وتذكرهم الذحول، واعلم أن الله قد توكل من هذا الأمر بما لا
خلف فيه، فاحذر أن يصرف الله ذلك عنك بذنب ويستبدل بكم غيركم، واحذر من
الله ما حذركم من نفسه، فإنك تجد ما قدمت يداك من خير محضرا وما عملت من
سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا.
ثم سرحه فيمن اجتمع إليه بالمدينة من نفير المسلمين، فخرج سعد بن أبى وقاص
من المدينة قاصدا للعراق فى أربعة آلاف، ثلاثة آلاف من أهل اليمن والسراة،
وألف من سائر الناس.
قالوا: وشيعهم عمر، رحمه الله، من صرار إلى الأعواص، ثم قام فى الناس
خطيبا، فقال:
إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول ليحيى بذلك القلوب،
فإن القلوب ميتة فى صدورها حتى يحييها الله تعالى، من علم شيئا فلينتفع به،
وإن للعدل
(2/433)
أمارات وتباشير، فأما الأمارات: فالحياء
والسخاء والهين واللين، وأما التباشير: فالرحمة، وقد جعل الله لكل أمر
بابا، ويسر لكل باب مفتاحا، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد، والاعتبار
ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له بتقديم الأعمال، والزهد أخذ الحق
إلى كل أحد له حق، ولا يصانع فى ذلك أحدا، ويكتفى بما يكفيه من الكفاف، فإن
لم يكفه الكفاف لم يغنه شىء، إنى بينكم وبين الله، وليس بينى وبين الله
أحد، وإن الله عز وجل قد ألزمنى دفع الدعاء عنه، فأنهوا شكاتكم إلينا، فمن
لم يستطع فإلى من يبلغناها نأخذ له الحق غير متعتع.
فسار سعد فى عام غيداق خصيب، حتى نزل فيدا فأقام بها أشهرا، وجعل عمر لا
يأتيه أحد من العرب إلا وجهه إليه، ثم كتب إليه أن يرتفع بالناس إلى زرود،
فأتاها وأقام بها، وأتاه من حولها من بنى تميم من حنظلة، وأتته سعد والرباب
وعمرو، فكان ممن أتاه عطارد ولبيد بن عطارد والزبرقان بن بدر وحنظلة بن
ربيعة الأسدى وربعى الرياحى وهلال بن علقمة التميمى والمنذر بن حسان الضبى،
فقالت رؤساء حنظلة: يا بنى تميم، قد نزل بكم الناس، وهم قبائل الحجاز
واليمن وأهل العالية، وقد لزمكم قراهم، فشاطروهم الرسل، ففعلوا، فمن كان له
منحتان قصر إحداهما عليهم، ومن كان له أكثر، فعلى حساب ذلك، فقروهم شتوة
بزرود.
وكان عمر أمد سعدا بعد خروجه، فيما ذكر سيف، عن أشياخه، بألفى يمانى وألفى
نجدى مرد من غطفان وسائر الناس، فنزلوا معه زرود فى أول الشتاء، وتفرقوا
فيما حولها، وأقام سعد ينتظر اجتماع الناس وأمر عمر، وانتخب من بنى تميم
والرباب أربعة آلاف، منهم ألف من الرباب، وانتخب من بنى أسد ثلاثة آلاف،
وأمرهم أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة، فأقاموا هنالك بين سعد
بن أبى وقاص وبين المثنى بن حارثة، والمثنى بذى قار، ويقال: بأليس، وقال
بعضهم: بشراف، وجرير ومن معه من أخلاط الناس متفرقون فيما بين العذيب إلى
خصى، ويقال: غضى.
وكان المثنى فى ثمانية آلاف من ربيعة، منهم ستة آلاف من بكر بن وائل،
وألفان من سائر ربيعة، منهم أربعة آلاف ممن كان المثنى انتخبه بعد فصول
خالد عنه إلى الشام، وأربعة آلاف كانوا معه ممن بقى يوم الجسر، وكان معه من
أهل اليمن ألفان من بجيلة، وألفان من قضاعة وطيئ ممن انتخب إلى ما كان قبل
ذلك، على طيئ عدى بن حاتم، وعلى قضاعة عمرو بن وبرة، وعلى بجيلة جرير بن
عبد الله، فبينا الناس كذلك، سعد يرجو أن يقدم عليه المثنى، والمثنى أن
يقدم عليه سعد، انتقضت بالمثنى جراحاته
(2/434)
التى كان أصيب بها يوم الجسر، فمات رحمه
الله، ولما أحس بالموت استخلف على الناس بشير بن الخصاصية، وكتب إلى سعد:
كتبت إليك وأنا لا أرانى إلا لما بى، فإن أهلك أو أسلم فإنى أشهد أن لا إله
إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الجنة مأوى المتقين،
وأن النار مثوى الكافرين، ولا أخال العجم إلا سيجمعون على حربك، فهم لاقوك
بجمع لم يلقونا بمثله، وقد أرانى الله إن كان قضى بينك وبينهم حربا أن
تقاتلهم على أدنى حجر من بلادك، على حد أرضهم، فإن ظفرتم فلكم ما وراءهم،
وإن كانت الأخرى، ولا أراها الله المسلمين، كنتم أعلم بسبيلكم وأجرأ على
طريقكم وأجرأ على أرضكم، وانحزتم إلى فئتكم إلى أن يرد الله لكم الكرة
عليهم.
وكان مع بشير بن الخصاصية عند ما استخلفه المثنى وجوه أهل العراق، ومع سعد
وجوه أهل العراق الذين قدموا على عمر، رحمه الله، فيهم فرات بن حيان العجلى
وعتيبة ابن النهاس، فردهم مع سعد.
فمن أجل ذلك اختلف الناس فى عدد أهل القادسية، فمن قال: هم أربعة آلاف،
فلمخرجهم مع سعد من المدينة، ومن قال: ثمانية آلاف، فلاجتماعهم بزرود، ومن
قال:
تسعة آلاف، فللحاق القيسيين، ومن قال: اثنا عشر ألفا، فلدفوف بنى أسد من
فروع الحزن بثلاثة آلاف، وقدم عليه بعد ذاك ناس كثير مع الأشعث بن قيس
وغيره.
قالوا: فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون ألفا.
وكتب سعد إلى عمر، رحمه الله، بموت المثنى، فكتب إليه: أن سر حتى تنزل
بشراف، واحذر على من معك من المسلمين، وعليك بالإصلاح ما استطعت.
فارتحل سعد عن زرود ومعه تميم وقيس واليمن وغيرهم، وفيهم رجالة فحمل بنو
تميم ضعفاءهم حتى قدموا شراف فنزلها، فأتاهم بشير بن الخصاصية وجرير ومن
كان معه بفروع الحزن، وقدم عليه المعنى بن حارثة، أخو المثنى، وقدمت معه
زوج المثنى، سلمى بنت خصفة من بنى تميم اللات بوصيته إلى سعد، وكان قد أوصى
بها وأمرهم أن يعجلوها عليه بزرود، فلم يفرغوا لذلك، وشغلهم عنه قابوس بن
قابوس بن المنذر إلى أن انقضى ذلك، كما نذكره بعد ذكر مقتل قابوس على ما
ذكره المدائنى، فقدم حينئذ المعنى وسلمى على سعد بوصية المثنى ورأيه، فترحم
عليه سعد عند ما انتهى ذلك إليه، وأمّر أخاه المعنى على عمله، وأوصى بأهل
بيته خيرا، وخطب سلمى فتزوجها وبنى بها،
(2/435)
وبنى مسجدا بشراف، فقال بعض التميميين يذكر
نفيرهم إلى سعد وقراهم له وحملانهم:
فنفرنا إليهم باحتساب ... لم نعرج ولم نذق تغميضا
وقريناهم ربيعا من الرسل ... حقينا مثملا وغريضا
وحملنا رجالهم من زرود ... إذ تعايوا فلم يطيقوا النهوضا
وكتب سعد إلى عمر حين نزل شراف يخبره بمكانه، فقال: لأرمين فارس وأبناءها
بالمهاجرين وأبناء المهاجرين، فوجه ألفا ومائة منهم ممن شهد بدرا نيف
وأربعون رجلا وسائرهم ممن شهد بيعة الرضوان إلى الفتح، وحضهم عمر، رحمه
الله، فقال: إن أحب عباد الله إلى الله وأعظمهم عنده منزلة أتقاهم له
وأشدهم منه رجلا، فعليكم بتقوى الله والإصلاح ما استطعتم، وما التوفيق إلا
بالله، الزموا الطاعة يجمع الله لكم ما تحبون من دينكم ودنياكم، وأوفوا
بالعهد لمن عاهدتم، وإياكم والغدر والغلول، فإنه من يغلل يأت بما غل يوم
القيامة، ومن غدر أدال الله منه عدوه، ووهن كيده، فافهموا ما توعظون به،
واعقلوا على الله أمره، ولا تكونوا كالجفاة الجاهلية.
وعن سيف «1» : أن عمر، رحمه الله، قال: والله لأضربن ملوك العجم بملوك
العرب، فلم يدع رئيسا، ولا ذا رأى، ولا ذا شرف، ولا ذا سلطة، ولا خطيبا ولا
شاعرا إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم.
وكتب عمر، رضى الله عنه، إلى عبيدة وهو بالشام أن يمد سعدا بمن كان عنده من
أهل العراق، وكانوا ستة آلاف، ومن اشتهى أن يلحق بهم، وكتب إلى المغيرة بن
شعبة أن يسير إلى سعد من البصرة، وكتب إلى سعد بمثل رأى المثنى الذى أشار
به على سعد:
أما بعد، فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين، وتوكل على الله،
واستعن به على أمرك كله، واعلم أنك تقدم على أمة عددهم كثير، وعدتهم فاضلة،
وبأسهم شديد، وعلى بلد وإن كان سهلا كؤود لبحوره وفيوضه ودآدئه، فإذا لقيتم
القوم أو أحدا منهم فابدؤهم الضرب والشد، وإياكم والمناظرة لجموعهم، ولا
يخدعنكم، فإنهم خدعة مكرة، أمركم غير أمرهم، إلا أن تجادوهم، فإذا انتهيت
إلى القادسية، والقادسية باب فارس فى الجاهلية، وهى أجمع تلك الأبواب لما
تريد ويريدون، وهو منزل رحيب خصيب حصين دونه قناطر وأنهار ممتنعة، فتكون
مسالحك على
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 487) .
(2/436)
أنقابها، ويكون الناس بين الحجر والمدر على
أقصى حجر من أرض العرب، وأدنى مدرة من أرض العجم، ثم الزم مكانك فلا تبرحه،
فإنهم إذا أحسوك أنقضتهم ورموك بجمعهم الذى يأتى على خيلهم ورجلهم وحدهم
وجدهم، فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم بقتالهم، رجوت أن تنصروا عليهم، ثم
لا يجمع لكم مثلهم أبدا إلا أن يجتمعوا، وليست معهم قلوبهم، وأن تكن الأخرى
كان الحجر فى أدباركم، فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من
أرضكم، ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل، حتى
يأتيكم الله بالفتح، ويرد لكم الكرة، وليكن منزلك الذى تنزله رحيبا خصيبا،
وإذا نزلت منزلا فلا تستأخر عنه، فإن ذلك وهن عليك وجرأة لعدوك، وأذك
العيون واتبع الغرض ولا تأمنن قريبا ولا بعيدا، وصف لى منزلك الذى تنزله،
وكم بينك وبين أول عدوك وآخره، وكيف مأتاهم، وسم لى المنزل، فإنه ألقى فى
روعى أنكم ستفتحون فارس، وأنكم الأعلون.
وفى رواية أنه كتب إليه باليوم الذى يرتحل فيه من شراف، وأين ينزل بالناس
فيما بين عذيب والهجانات، وعذيب والقوادس، وأن يشرف بالناس ويغرب بهم.
فارتحل سعد عن شراف يريد أن ينزل منزلا على ما كتب به إليه عمر، فانتهى إلى
المغيثة، فأقام وبنى مسجدا بين الفرعاء والمغيثة، وقدم بين يديه زهرة بن
عبد الله بن قتادة بن الجوية يرتاد له منزلا، فأقبل زهرة حتى انتهى إلى
العذيب، وكتب إلى سعد فأقبل فى أثره، فنزل المسلمون ما بين العذيب إلى
القادسية، وهى أحساء، فقال فى ذلك النعمان بن مقرن المزنى، وتروى لغيره:
نزلنا بأحساء العذيب ولم تكن ... لنا همة إلا اختيار المنازل
لنحوى أرضا أو نناهب غارة ... يضج لها ما بين بصرى وبابل
ونزل زهرة القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنطرة وقديس، وهى يومئذ
أسفل منها بميل، وكتب سعد إلى عمر: إنا نزلنا من القادسية والعذيب منزلا
خصيبا رحيبا على أقصى حجر من أرضنا وأدنى مدرة من أرض عدونا، فأما عن يسار
القادسية فبحر أخضر لاج إلى الحيرة بين طرفين، أما أحدهما فعلى الظهر، وأما
الآخر فعلى شاطئ نهر يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة، وأما عن
يمين القادسية ففيض من فيوض مياههم، وبيننا وبين أدنى عدونا منا خمسة عشر
ميلا، ولم يبلغنى من الذى أسندوا إليه أمرهم إلى أن كتبت إليك، ومتى يبلغنى
ذلك أكتب به إليك إن شاء الله، ونحن متوكلون على الله راجعون له.
(2/437)
ولما بلغ أهل فارس اجتماع العرب لهم، وكثرة
من انثال على سعد من رؤسائهم ووجوههم، عظم ذلك عليهم، ورعبهم وزادهم نزولهم
القادسية رعبا وضيقا، فعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار، وأرسلوا إليه:
إن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب، وأن فعلهم منذ نزلوها
لا يبقى عليه شىء، وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات، فليس هنالك أنيس إلا
فى الحصون، وقد ذهبت الدواب وكل شىء لم تحمله الحصون من الأطعمة، ولم يبق
إلا أن يستنزلونا، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدنا.
وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطّفّ، وأعانوهم عليه.
ولما كثرت الاستغاثة من أهل السواد على يزدجرد، خشعت نفسه واتقى الحرب
برستم فأرسل إليه، فدخل عليه، فقال: إنى أريد أن أوجهك فى هذا الوجه، وإنما
يعد للأمور على قدرها، وأنت رجل أهل فارس اليوم، وأنت لها، وقد ترى ما جاء
أهل فارس من أمر لم يأتهم منذ ولى آل أردشير.
فأراه رستم أن قد قبل منه وأثنى عليه، فقال له الملك: قد أحببت أن أنظر
فيما لديك لأعلم ما عندك، فصف لى العرب وفعلهم، وصف لى العجم وما يلقون
منهم، فقال رستم: صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت، فقال: ليس كذلك، إنما
سألتك رجاء أن تعرف صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب، فافهم عنى،
إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفت على مرقب عند جبل تأوى فى ذراة
الطير تبيت فى أوكارها، فإذا أصبحت الطير تجلت، فأبصرت العقاب ترقبها،
فخافتها فلم تنهض، وطمعت العقاب، فلم ترم، وجعلت كلما شذ منها طائر انقضت
عليه فاختطفتها حتى أفنتها، فلو نهضت بأجمعها نهضة واحدة لنجت، وأشد شىء
يكون فى ذلك أن تنجو كلها إلا واحدا، فهذا مثلهم ومثل الأعاجم، فاعمل على
قدر ذلك، فإنى أريد أن أوجه إلى هؤلاء القوم جمعا أستأصلهم به.
فسجد له رستم، وقال: الملك أفضل رأيا، وأيمن أمرا، وأسعد جدا، وإن أذن لى
تكلمت.
قال: قل، قال: هزيمة جيش بعد جيش أمثل وأبقى من هزيمة الجماعة التى ليس
بعدها مثلها، فأبى عليه يزدجرد إلا أن يجمع له الناس ويوجهه بهم إلى العرب،
فقال له رستم:
أيها الملك، دعنى فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضربهم بى، ولعل دولة
تكون فيكون الله قد كفى، ونكون قد أصبنا المكيدة ورأى الحرب، فإن الرأى
فيها والمكيدة
(2/438)
أنفع من بعض الظفر، فألح يزدجرد وترك
الرأى، وكان ضيقا لجوجا، وقال لرستم:
امض حتى يأتيك أمرى، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط ووجه إليه الملك المرازبة
والقواد والأساورة واستحثه فى المسير، فأعاد عليه رستم كلامه، وقال: أيها
الملك، إن هزيمتى لهم دونها ما بعدها وعليكم دونها ما بعدها، ولقد اضطرنى
تضييع الرأى إلى إعظام نفسى وتزكيتها، ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به،
فأنشدك الله فى أهلك ونفسك وملكك، دعنى أقم بعسكرى وأسرج الجالينوس، فإن
تكن لنا فذاك، وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره، حتى إذا لم نجد بدا ولا حيلة
صبرنا لهم، وقد وهناهم وحسرناهم ونحن جامون، موفورون، فأبى إلا أن يسير.
ولما نزل رستم بساباط وجمع أداة الحرب وآلاتها، بعث على مقدمته الجالينوس
فى أربعين ألفا، وخرج هو فى ستين ألفا، وساقته فى عشرين ألفا، وعليها
الفيرزان، وعلى ميمنته الهرمزان، وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازى، وقال
رستم: ليشجع الملك إن فتح الله علينا هؤلاء القوم فهو وجهنا إلى ملكهم فى
داره حتى نشغلهم فى أهلهم وبلادهم، إلا أن يقبلوا المسالمة ويرضوا بما
كانوا يرضون به.
وقال سيف عن أشياخه «1» : خرج رستم فى عشرين ومائة ألف كلهم متبوع، فكانوا
بأتباعهم أكثر من مائتى ألف، ثم إن رستم رأى رؤيا فكرهها، وأحس لها الشر،
وكره لها الخروج ولقاء القوم، واختلف عليه رأيه واضطرب، وسأل الملك أن يمضى
الجالينوس، ويقيم حتى ينظر ما يصنعون، وقال: إن غناء الجالينوس كغنائى، وإن
كان اسمى أشد عليهم من اسمه، فإن ظفر فهو الذى نريد، وإن تكن الأخرى وجهنا
مثله، ودافعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما، فإنى لا أزال مرجوا فى أهل فارس ما
لم أهزم، ولا أزال مهيبا فى صدور العرب، ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم
أباشرهم، وإن باشرتهم اجترؤا آخر دهرهم، وانكسر أهل فارس آخر دهرهم.
قالوا: ولما أبى الملك إلا مسير رستم، كتب رستم إلى أخيه وإلى رؤس بلاده:
من رستم بن البندوان إلى مرزبان الباب وسهم أهل فارس، الذى كان يعد لكل
عظيمة، فيفض الله به الجموع، ويفتح به الحصون، ومن قبله من عظماء أهل فارس
والمرازبة والأساورة، فرموا حصونكم، وأعدوا واستعدوا، فكأنكم بالعرب هذه
الأمة الذليلة كانت عندكم الخسيسة المنزلة الضيقة المعيشة قد وردوا بلادكم،
وقارعوكم على
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 505) .
(2/439)
أرضكم وأبنائكم، وانتزعوا ما فى أيديكم،
وكان من رأيى مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود نجومنا فأبى الملك.
ويقال: إن رستم عند ما أمر يزدجرد بالنهوض إلى ساباط كتب إلى أخيه بنحو
الكتاب الأول، وزاد فيه: أن السمكة قد كدرت الماء، وأن النعائم قد حبست،
وحسنت الزهرة، واعتدل الميزان، وذهب بهرام، ولا أرى هؤلاء القوم إلا
سيظهرون علينا، ويستولون على ما قبلنا، وإن أشد ما رأيت أن الملك قال:
لتسيرن إليهم أو لأسيرن إليهم بنفسى، وأنا سائر إليهم.
وكان الذى جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى، وكان من أهل
فرات بادقلى، فأرسل إليه وقال: ما ترى فى مسير رستم وحرب العرب اليوم؟
فخافه على الصدق فكذبه، وكان رستم يعلم نحوا من عمله، فثقل عليه مسيره لأجل
ذلك، وخف على الملك لما غره منه، وقال الملك للغلام: إنى أحب أن تخبرنى
بشىء أراه أطمئن به إلى قولك، فقال الغلام لزرنا الهندى: أخبره، فقال:
سلنى، فسأله، فقال: أيها الملك، يقبل طائر فيقع على إيوانك، فيقع منه شىء
فى فيه هاهنا، وخط دائرة، فقال الغلام: صدق، والطائر غراب، والذى فى فيه
درهم، فيقع منه على هذا المكان.
وبلغ جابان أن الملك طلبه، فأقبل حتى دخل عليه، فسأله عما قال غلامه، فحسب،
فقال: صدق ولم يصب، إنما الطائر عقعق، والذى فى فيه درهم، فيقع منه على هذا
المكان، وكذب زرنا، يندر الدرهم من هاهنا فيستقر هاهنا، ودور دائرة أخرى،
فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق، فسقط منه درهم فى الخط الأول، فنزا
فسقط فى الخط الآخر، ونافر الهندى جابان حيث خطأه، فأتيا ببقرة نتوج، فقال
الهندى: سخلتها غراء سوداء، فقال جابان: كذبت، بل سوداء صبغاء، فنحرت
البقرة فاستخرخت سخلتها، فإذا ذنبها أبيض، وهو بين عينيها، فقال جابان: من
هاهنا أتى، وشجعاه على إخراج رستم، فأمضاه.
ولما فصل رستم من ساباط، لقيه جابان على القنطرة، فشكا إليه، وقال: ألا ترى
ما أرى؟ فقال رستم: أما أنا فأقاد بخشاش وزمام، ولا بد من الانقياد وأمر
الجالينوس بالتقدم إلى الحيرة، فمضى نحوها حتى اضطرب عسكره بالنجف، وخرج
رستم بعده حيث ينزل بكوثى، وأمر الجالينوس عند ما قدمه أن يصيب له رجلا من
العرب من جند سعد، فخرج هو والآزاذمرد، مرزبان الحيرة، فى سرية حتى انتهيا
إلى القادسية فأصابا دون قنطرتها
(2/440)
رجلا، فاختطفاه، ونفر الناس فأعجزوهم إلا
ما أصاب المسلمون فى أخرياتهم، فلما انتهيا إلى النجف سرحا به إلى رستم،
وهو بكوثى، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟ قال: جئنا نطلب موعود
الله عز وجل، قال: وما موعود الله عز وجل؟ قال:
أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أنتم أبيتم أن تسلموا، قال رستم: فإن قتلتم قبل
ذلك؟
قال: فى موعود الله عز وجل من قتل منا قبل ذلك أدخله الله الجنة، وأنجز لمن
بقى منا ما قلت لك، فنحن من ذلك على اليقين، فقال له رستم: قد وضعنا إذا فى
أيديكم، فقال: ويحك يا رستم، إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها، فلا
يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تحاول الإنس، إنما تحاول القضاء والقدر،
فاستشاط، فأمر به فضربت عنقه، رحمه الله.
وارتحل رستم من كوثى وكأنه يقاد بزمام، حتى إذا كان ببرس أفسد أصحابه
وغصبوا الناس أموالهم ووقعوا على نسائهم، فضج العلوج إلى رستم، وشكوا إليه
ما يلقون من أصحابه، فجمع المرازبة والرؤساء فقام فيهم، فقال: يا معشر أهل
فارس، والله لقد صدق العربى، والله ما أسلمتنا إلا أعمالنا، والله للعرب فى
هؤلاء وهم لهم ولنا حرب أحسن سيرة منكم، إن الله عز وجل إنما كان ينصركم
على العدو، ويمكن لكم فى البلاد بالعدل وحسن السيرة، فأما إذ تحولتم عن
ذلك، فأظهرتم البغى، وسارعتم فى الفساد، فلا أرى الله عز وجل إلا مغيرا ما
بكم، وما أنا بآمن أن ينزع الله سلطانه منكم، فإنه لم يفعل هذا قوم إلا نزع
عنهم النصر، وسلط عليهم العدو.
ثم بعث الرجال، فلقطوا بعض الذين شكوا، فضربت أعناقهم، ثم نادى فى الناس
بالرحيل، فسار حتى نزل بجبال دير الأعور، ودعا أهل الحيرة وسرادقه إلى جنب
الدير، فأوعدهم وهم بهم، وقال: يا أعداء الله، فرحتم بدخول العرب علينا
بلادنا، وكنتم عيونا لهم علينا، وأعنتموهم بالأموال فاتقوا بابن بقيلة،
وقالوا له: كن أنت الذى تكلمه، فتقدم إليه ابن بقيلة، فقال له: لا تجمع
علينا أمرين: العجز عن نصرنا واللائمة لنا فى الدفع عن أنفسنا وبلادنا، أما
قولك: أنا فرحنا بمجيئهم، وبأى ذلك من أمرهم نفرح؟
إنهم يزعمون أنا عبيد لهم، وما هم على ديننا، وأنهم ليشهدون علينا أنا من
أهل النار، وأما قولك: أنا كنا لهم عيونا فما احتاجوا إلى العيون، لقد ترك
أصحابك لهم البلاد حتى كانت خيولهم تذهب حيث شاءت، وأما إعانتهم بالأموال،
فإنا صانعناهم بها إذ لم تمنعونا مخافة أن نسبى ونخرب، وتقتل مقاتلتنا وقد
عجز عنهم من لقيهم منكم، فكنا نحن أعجز منهم، ولعمرى لأنتم أحب إلينا منهم،
فامنعونا نكن لكم، فإنا نحن بمنزلة علج
(2/441)
السواد، عبيد من غلبنا، فقال لهم رستم:
صدقكم الرجل. قال الرفيل: ورأى رستم بالدير أن ملكا هبط من السماء حتى دخل
عسكر فارس، فأخذ سلاحهم فختم عليها، ثم رفعها، فأصبح كئيبا، وقد أيقن أن
ملكهم قد ذهب، ثم ارتحل حتى نزل النجف فعادت عليه الرؤيا، فرأى ذلك الملك
ومعه النبى صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فأخذ الملك
سلاح أهل فارس فختمه، ثم دفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فدفعه النبى
صلى الله عليه وسلم إلى عمر، فأصبح رستم وقد ازداد جزعا، فلما رأى الرفيل
ذلك رغبه فى الإسلام فأسلم، وما كان داعيته إليه إلا ذلك.
وكان رستم قد أرسل إلى قابوس بن المنذر، وقال بعضهم: ابن النعمان بن
المنذر:
اكفنا ما كانت آباؤك تكفينا من العرب، وعقد له على أربعة آلاف وقدمه إلى
العذيب، فلما قدم سعد بن أبى وقاص بين يديه زهرة بن الجوية يرتاد له منزلا،
قدم زهرة أمامه بكر بن عبد الله الكنانى، وقال بعضهم: عبد الله بن بكير،
فانتهى إلى العذيب، ووافاه زهرة هنالك، فطرقوا قابوس بياتا فى حصن العذيب
فقتلوه وتفرق أصحابه منهزمين، حتى وصلوا إلى رستم، هكذا ذكر المدائنى.
وفى كتاب سيف «1» : أن الآزاذمرد بن الأزاذبة هو الذى بعث قابوس إلى
القادسية، وقال له: ادع العرب، فأنت على من أجابك، وكن كما كان آباؤك، فلما
نزل القادسية كاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة
ووعدا، فلما انتهى خبره إلى المعنى بن حارثة أسرى من ذى قار حتى بيته
فأنامه ومن معه، ثم رجع، فخرج إلى سعد ابن أبى وقاص بزوجة المثنى ووصيته،
وهذا الوجه الذى خرج إليه هو الذى شغله عن تعجيل القدوم على سعد بوصية
أخيه، حسب ما ذكرناه قبل.
وعن كريب بن أبى كرب العكلى، وكان فى المقدمات أيام القادسية، قال: قدمنا
سعد من شراف، فنزلنا فى عذيب الهجانات ثم ارتحل، فلما نزل علينا، وذلك فى
وجه الصبح، خرج زهرة بن الجوية فى المقدمات، فلما رفع لنا العذيب، وكانت من
مسالحهم، استبنا على بروجه ناسا، فما نشاء أن نرى على برج من بروجه رجلا أو
بين شرفتين إلا رأيناه، وكنا فى سرعان الخيل، فأمسكنا حتى تلاحق بنا كثف،
ونحن نرى أن فيها خيلا، ثم أقدمنا على العذيب، فلما دنونا منه، خرج منه رجل
يركض نحو القادسية، فانتهينا إليه، فدخلنا فإذا ليس فيه أحد، وإذا ذلك
الرجل هو الذى تراءى لنا على البروج وبين الشرف مكيدة، ثم انطلق بخبرنا،
فطلبناه فأعجزنا، وسمع بذلك زهرة
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 489) .
(2/442)
فلحق فجد له فيه، وكان أهل القادسية يعجبون
من شجاعة ذلك الرجل، وعلمه بالحرب، ولم تر عين قط أثبت منه ولا أربط جأشا
لولا بعد غايته لم يلحق به زهرة، ووجد المسلمون رماحا ونشابا وأسفاطا من
جلود وغيرها، انتفع المسلمون بها.
ولما أمسى زهرة بن الجوية بعث سرية فى جوف الليل، وأمر عليهم بكير بن عبد
الله الليثى، وكانوا ثلاثين معروفين بالنجدة والبأس وفيهم الشماخ القيسى
الشاعر، وأمرهم بالغارة على الحيرة، فساروا حتى جازوا السيلحين، وقطعوا
جسرها يريدون الحيرة، فسمعوا جلبة، فأحجموا عن الإقدام، وأقاموا كمينا حتى
يتبينوا، فما زالوا كذلك حتى جازت بهم خيول، تقدم تلك الغوغاء، فتركوها
فنفذت لطريق الصين، وإذا هم لم يشعروا بهم، وإنما ينتظرون ذلك العين الذى
قتله زهرة، وإذا أخت الآزاذمرد، مرزبان الحيرة، تزف إلى صاحب الصين، وكان
من أشراف العجم، وتلك الخيل تبلغها مخافة ما هو دون الذى لقوا، فلما انقطعت
الخيل عن الزواف، والمسلمون كمين فى النخل وحاذت بهم الأثقال، حمل بكير على
شيراز بن الأزاذبة أخى الآزاذمرد، وهو بين أخته وبين الخيل، فقصم بكير
صلبه، وطارت الخيل على وجوهها، وأخذوا الأثقال وابنة الآزاذبة فى ثلاثين
امرأة من الدهاقين ومائة امرأة من التوابع، ومعهم ما لا يدرى قيمته، ثم عاج
واستاق ذلك كله، فصبح سعدا بعذيب الهجانات بما أفاء الله، عز وجل، على
المسلمين، فكبروا تكبيرة شديدة. فقال سعد: أقسم بالله لقد كبروا تكبيرة
عرفت فيها العز، فقسم ذلك سعد على المسلمين، ونفل من الخمس، وأعطى
المجاهدين بقيته، فوقع منهم موقعا، ووضع سعد بالعذيب خيلا تحوط الحريم،
وانضم إليها حاطة كل حريم، وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثى، ونزل سعد
القادسية، وكتب سعد إلى عمر، رحمه الله، يعلمه بقتل الآزاذبة على يدى بكير
بن عبد الله، وقال فيما كتب به إليه: وأنا مقيم بالقادسية على أمرك،
ومنزلنا خصيب الجناب، ونحن ننتصف فيه من عدوان نزل بنا فى الخصب ننال من
ذلك أفضل الذى نريد، وهو يوم كتبت لك مباح لنا لا يدفعوننا عنه إلا
بالاعتصام بمعاقلهم، ولن يزال عندك منا كتاب بما يحدث إن شاء الله.
فأقام سعد شهرا، ثم كتب بمثلها إلى عمر، رحمهما الله: نحن وعدونا على ما
كتبت إليك، لم يوجهوا إلينا أحدا، ولا أسندوا حربا إلى أحد علمناه، ومتى
يبلغنا ذلك نكتب به، فاستنصروا الله لنا، فإنا بمنحاة دنيا عريضة، دونها
بأس شديد، وقد تقدم الله إلينا فى الدعاء إليهم، فقال تعالى: سَتُدْعَوْنَ
إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الفتح: 16] .
فكتب إليه عمر: أما بعد، فإن أبا بكر، رحمه الله، كان رشيدا موفقا، محفوظا
معانا
(2/443)
أكرمه الله وأعانه حتى قبضه إليه راضيا
مرضيا عنه، وقد ابتلينا بالذى ولينا مما لا طاقة لنا بحفظه والقيام عليه
إلا بتحنن القوى ذى العزة والعظمة، وقد علمت أن فارس ستقبل إليك بمرازبتها
وبأسها وعددها، فإياك والمناظرة لجموعهم، والقادسية على ما وصفت لى منزل
جامع، والجد الجد على الذى أنت عليه، واكتب إلىّ بجمعهم الذى زحفوا إليك
به، ومن رأسهم الذى يسندون إليه أمرهم، وكم بين أدنى عدوك منك وبين ملكهم،
واجعلنى من أمرهم على الجلية، فإنك بحمد الله على أمر وليه وناصره، والله
ناصر من نصره، وقد توكل لهذا الأمر بما لا خلف له، والله متم أمره، ومن يرد
الله به صلاحا يلهمه رشده فيما أعطاه، ويبصره الشكر لنعمته، والعمل بطاعته،
والعرفان لأداء حقوقه، ومن يكن بتلك المنزلة يعنه الله على حسن نيته، ويعطه
أفضل رغبته، وإنما يستوجب كرامة الله بتمام ننعمته من عصم له دينه، وإنما
يصلح الله النية لمن رغب فيما عنده وأذعن لطاعة ربه، وإن منازل عباد الله
عنده على نياتهم، فأكثر ذكر الله، وكن منه على الذى رغبك إليه وفيه، فإن فى
ذلك رواحا للمستريح ونجاحا تجد فيه غدا نفع ما قدمت، فإنك ممن أرغب له فى
الخير ويعنينى أمره للمكان الذى أنت فيه من عدو الإسلام، نسأل الله لنا ولك
إيمانا صادقا، وعملا زاكيا.
فكتب إليه سعد وقد علم بأن رستم هو الذى تعين لحرب العرب وقود جيوش فارس،
وأنه قد زحف إلى المسلمين ودنا منهم، إذ كان سعد وجه عيونا إلى الحيرة
فرجعوا إليه بالخبر. فكتب به فيما أجاب به عمر، رضى الله عنهما:
أتانى كتابك بما ذكرت من أبى بكر، رحمة الله عليه، ولم يكن أحد يذكر من أبى
بكر شيئا إلا وقد كان أفضل من ذلك، فبوأه الله غرف الجنة، وعرف بيننا
وبينه، وإنك عامل من عمال الله، فاستعن بالله وشمر، وليس شىء أهم عندى ولا
أنا أكثر ذكرا لما نحب أن نكون عليه من الذى أمرتنا به، والله ولى العون
على ذلك، وقد قدم علينا عظيم من عظمائهم يقال له رستم بالخيل والفيول
والعدد والعدة والقوة، فيما يرى الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبيننا
وبينه خمسة عشر ميلا، وبينه وبين ابن كسرى بأبيض المدائن نيف على ثلاثين
فرسخا، ولنا من عدونا النصف إن شاء الله، ولن يزال منا عندك كتاب يخبرنا إن
شاء الله، فاستنصروا الله لنا بالدعاء والتضرع خفية وجهرا، فإن الله يعطى
من سعة ويأخذ بقدرة ويفعل ما يشاء.
وكان عمر، رحمه الله، قد أمر بموالاة الكتب إليه بكل شىء، فكان سعد يكتب
إليه فى كل يوم.
(2/444)
وكتب إليه عمر: أتانى كتابك تذكر مكان عدوك
ونزولك حيث نزلت، ومسافة ما بينك وبين ابن كسرى، وأنه من يرد الله أن يهديه
يشرح صدره للإسلام، فأرسل إلى ابن كسرى من يدعوه إلى الإيمان أو إعطاء
الجزية أو الحرب، فإن أسلم فله ما لكم وعليه ما عليكم، وإن اختار إعطاء
الجزية ولم يسلم فله ما كسب وعليه ما اكتسب وقد حقن دمه وأحرز أرضه، ولا
سبيل عليه إلا فى حق عليه، فإن أبى الإسلام وإعطاء الجزية فلا يعظم عندك
حربه ولا يكربنك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتوك به، فاستعن بالله واستنصره
وتوكل عليه، وإذا لقيت عدوك فقدم أهل البأس والنجدة فى غير إهانة لهم ولا
تغرير بهم، وعليكم بالصبر فإنه ينزل النصر، فإذا ظهرت فأكثر القتل فى دبر
المشركين، واقتل المقاتلة، واستبق النساء والصبيان، ثم لا تتركن أحدا من
العدو وراءك، وإن أعطوك الصلح فلا تصالح إلا على الجلاء، إلا أن تترك فيها
من لا كيد له ولا نكاية، وأحط بأمرى، وخذ بعهدى.
وفى رواية أنه قال له، فيما كتب به إليه: وابعث إليهم رجالا من أهل المنظر
والرأى والجلد يدعونهم، فإن الله عز وجل جاعل دعاءهم توهينا لهم، وفلجا
عليهم.
ولما انتهى إلى سعد أمر عمر، رضى الله عنه، بالتوجه إلى يزدجرد، جمع نفرا
لهم نجار، ولهم آراء، ونفرا لهم منظر وعليهم مهابة.
فأما الذين لهم نجار ولهم آراء واجتهاد: فالنعمان بن مقرن، وبسر بن أبى
رهم، وجبلة بن جوية الكنانى، وحنظلة بن الربيع الأسدى، وفرات بن حيان
العجلى، وعدى ابن سهيل، والمغيرة بن زرارة بن النباش بن حبيب.
وأما الذين لهم منظر لأجسامهم، وعليهم مهابة، ولهم آراء: فعطارد بن حاجب،
والأشعث بن قيس، والحارث بن حسان، وعاصم بن عمرو، وعمرو بن معدى كرب،
وغيرهم ممن سماه سيف فى كتابه.
وخالفه المدائنى فى بعضهم، فلم يذكرهم، وذكر معهم ممن لم يذكره سيف: طليحة
ابن خويلد، وزهرة بن جوية، ولبيد بن عطارد، وشرحبيل بن السمط.
قال المدائنى: فأتوا الحيرة، فأرسل إليهم رستم: أين تريدون؟ قالوا: نريد
ابن كسرى.
فأرسل معهم أساورة فجوزوهم إلى المدائن، فوقفوا ببابه.
وقال سيف: إنهم طووا رستم، حتى انتهوا إلى باب يزدجرد، فوقفوا على خيول
(2/445)
عراب معهم جنائب، وكلها صهال، فاستأذنوا
فحبسوا، وبعث يزدجرد إلى وزرائه ووجوه أرضه ليستشيرهم فيما يصنع بهم، ويقول
لهم، وسمع بهم الناس فحضروهم ينظرون إليهم، وعليهم المقطعات والبرود، وفى
أيديهم سياط رقاق، وفى أرجلهم النعال. فلما اجتمع رأيهم أذن لهم فدخلوا
عليه.
قال بعض من حضر هذا اليوم ممن سبى فى القادسية ثم حسن إسلامه: لما كان هذا
اليوم الذى قدم فيه وفود العرب على يزدجرد ثاب إليهم الناس ينظرون إليهم،
فلم أر عشرة قط يعدلون فى الهيئة بألف غيرهم، وخيلهم تخبط ويوغر بعضها
بعضا. وجعل أهل فارس يسؤهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم، فلما دخلوا على
يزدجرد أمرهم بالجلوس، وكان سيئ الأدب، فكان أول شىء دار بينه وبينهم أن
قال لترجمانه: سلهم ما يسمون هذه الأردية؟ فسأل النعمان بن مقرن، وكان على
الوفد: ما تسمى رداءك؟ قال:
البرد. قال: فتطير لموافقة هذا الاسم اسم شىء متطير به عندهم، وتغيرت ألوان
فارس، وشق ذلك عليهم. ثم قال: سلهم عن أحذيتهم، فسأله. فقال: النعال،
فتطير، أيضا، لمثل ذلك، ثم سأله عن الذى فى يده، فقال: سوط، والسوط
بالفارسية الحريق، فقال:
أحرقوا فارس أحرقهم الله، وكان تطيره على أهل فارس، ثم قال لترجمانه: سلهم
ما جاء بكم، وما دعاكم إلى غزونا والولوغ ببلادنا؟ أمن أجل أنا أجممناكم،
وتشاغلنا عنكم، اجترأتم علينا؟ فقال لهم النعمان بن مقرن: إن شئتم أجبت
عنكم، ومن شاء آثرته.
قالوا: بل تكلم، وقالوا للملك: كلام هذا الرجل كلامنا. فتكلم النعمان. فقال
إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر
وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع لذلك قبيلة
إلا صاروا فرقتين: فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه فى دينه إلا
الخواص. فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من
العرب، ويبدأ بهم ففعل، فدخلوا معه جميعا على وجهين: مكره عليه فاغتبط،
وطائع أتاه فازداد، فعرفنا جميعا فضل ما جاءنا به على ما كنا عليه من
العداوة والضيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف،
فنحن ندعوهم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح، فإن أبيتم فأمر من
الشر هو أهون ما آخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى
ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، وعلى أن تحكموا بأحكامه، ونرجع
عنكم وشأنكم وبلادكم، فإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا منكم ومنعناكم، وإلا
قاتلناكم.
قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إنى لا أعلم فى الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا
(2/446)
ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم
قرى الضواحى فيكفونناكم لا نغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان
عدد لحق فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا وأكرمنا
وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم.
فأسكت القوم.
فقام المغيرة بن زرارة النباش الأسدى، فقال: أيها الملك، إن هؤلاء رؤس
العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف الأشراف،
ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، وتفخم الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به
جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا
ذلك، فجاوبنى لأكون الذى أبلغك، ويشهدون على ذلك، أنك قد وصفتنا، فأما ما
ذكرت من سوء الحال، فما كان أحد أسوأ حالا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه
الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، فنرى ذلك طعاما. وأما
المنازل فإنما هى ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار
الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، ويغير بعضنا على بعض، فإن كان أحدنا
ليدفن ابنته وهى حية كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالتنا قبل اليوم على
ما ذكرت لك، وبعث الله إلينا رجلا معروفا، نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده،
فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير
قبائلنا، وهو بنفسه كان خيرنا فى الحال التى كان فيها أصدقنا وأجملنا،
فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد، أول من ترب له كان الخليفة من بعده، فقال
وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئا إلا كان، فقذف الله فى
قلوبنا اتباعه والتصديق له، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا
فهو قول الله، وما أمرنا به فهو أمر الله، فقال لنا: إن ربكم يقول: إنى أنا
الله وحدى لا شريك لى، فكنت إذ لم يكن شىء وكل شىء هالك إلا وجهى، وأنا
خلقت كل شىء وإلىّ مصير كل شىء، وأن رحمتى أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل
لأدلكم على السبيل التى بها أنجيكم بعد الموت من عذابى، ولأحلكم دارى، دار
السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الله، وقال: من تابعكم على هذا
فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم أمنعوهم مما
تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم. فمن قتل منكم
أدخلته الجنة، ومن بقى منكم أعقبته النصر على من ناوأه، فاختر إن شئت
الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجو بنفسك. فقال:
أتستقبلنى بمثل هذا؟
فقال: ما استقبلت إلا من كلمنى، ولو كلمنى غيرك لم أستقبلك به. فقال: لولا
أن
(2/447)
الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شىء لكم عندى،
وقال: ائتونى بوقر من تراب، واحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من
أبيات المدائن، ارجعوا إلى صاحبكم وأعلموه أنى مرسل إليهم رستم حتى يدفنه
وجنده فى خندق القادسية، ومنكل به وبكم من بعده، ثم أورده بلادكم، حتى
أشغلكم فى أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.
ثم قال: من شد فكم؟ فسكت القوم، فقال: عاصم بن عمرو: أراد لنأخذ التراب،
أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحملنيه، قال: أكذلك؟ قالوا: نعم، فحمله على
عنقه، فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها، فقال له
أصحابه: حملت ترابا؟ قال:
نعم، الفأل، قد أمكنكم الله من أرضهم، فلم يزل معه حتى قدم به على سعد
فأخبره الخبر. فقال سعد: أبشروا، فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم، وجعل
المسلمون يزدادون فى كل يوم قوة، ويزداد عدوهم فى كل يوم وهنا، واشتد على
جلساء الملك ما صنع، وما صنع المسلمون من قبول التراب، وراح رستم من ساباط
إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم، وكيف رآهم، فقال الملك: ما كنت
أرى أن فى العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا علىّ، والله ما أنتم بأعقل منهم،
ولا أحسن جوابا، وأخبره بكلام متكلمهم، وقال: لقد صدقنى القوم، لقد وعدوا
أمرا ليدركنه أو ليموتن عليه، على أنى وجدت أفضلهم أحمقهم، لما ذكروا
الجزية أعطيته ترابا يحمله على رأسه فخرج به، ولو شاء اتقى بغيره، وأنا لا
أعلم.
قال: أيها الملك، أخذ التراب أعقلهم، وما أخذه إلا تطيرا، وأبصرها دون
أصحابه وخرج رستم من عنده كئيبا غضبان، فبعث فى أثر الوفد، وقال لبعثه: إن
أدركتموهم تلافينا أرضنا، وإن أعجزوكم سلبكم الله أرضكم، فرجع إليه من كان
وجه أثرهم من الحيرة فأعلمه بفواتهم، فقال: ذهب القوم بأرضكم غير ذى شك، ما
كان من شأن ابن الحجامة الملك ذهب القوم بمفاتيح أرضنا، فكان ذلك مما زاد
الله به فارس غيظا، وأغار بعد ما خرج الوفد إلى يزدجرد إلى أن جاؤا صيادين
قد اصطادوا سمكا، وسار سواد بن مالك التميمى إلى النجاد والفراض إلى جنبها،
فاستتاق ثلاثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور، فأوقروها سمكا، واستاقوها،
فصبحوا بها العسكر، فقسم سعد السمك بين الناس، وقسم الدواب، ونفل الخمس إلا
ما رد منه على المجاهدين، وأسهم على السبى، وهذا يوم الحيتان، وكان
الآزاذمرد الآزاذبة قد خرج فى الطلب، فعطف عليه سواد وفوارس معه، فقاتلهم
على قنظرة السيلحين، حتى عرفوا أن قد نجت الغنيمة، ثم اتبعوها حتى أبلغوها
المسلمين، وكانوا إنما يقرمون إلى اللحم، وأما الحنطة والشعير والتمر،
(2/448)
فكانوا قد اكتسبوا منه ما اكتفوا به لو
أقاموا زمانا، فكانت السرايا إنما تسرى للحوم، ويسمون أيامها بها، كيوم
الأباقر ويوم الحيتان. وخرج، أيضا، مالك بن ربيعة بن خالد، من تيم الرباب،
ومعه المسافر بن النعمان التميمى فى سرية أخرى، فأغاروا على الفيوم فأصابوا
إبلا لبنى تغلب والنمر فشلوها ومن فيها، فغدوا بها على سعد، فنحرت الإبل فى
الناس، وأخصبوا.
ولما كتب سعد إلى عمر، رحمه الله، يخبره بأمر ابن كسرى، وإعداده للمصادمة،
وأن من كان صالح المسلمين من أهل السواد قد صاروا إلبا عليهم لأهل فارس،
قال: وأمر الله بعد ماض، وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا، فنسأل الله
خير القضاء، وخير القدر فى عافية. كتب إليه عند ذلك عمر، رحمه الله:
قد جاءنى كتابك وفهمته، فأقم مكانك حتى ينغض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما
بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن، فإنه
خرابها إن شاء الله.
وجعل عمر يدعو لسعد خاصة، وللمسلمين عامة، ويدعون له معهم.
وفيما ذكر سيف عن رجاله «1» قالوا: كان بين خروج رستم من المدائن وعسكرته
بساباط وزحفه عنها إلى أن لقى سعدا أربعة أشهر، لا يقدم ولا يقاتل، رجاء أن
يضجروا بمكانهم، وأن يجهدوا فينصرفوا، وكان يكره القتال مخافة أن يلقى ما
لقى من قبله، ويحب المطاولة له لولا أن الملك جعل يستعجله وينهضه ويقدمه
حتى أقحمه.
وكتب عمر، رضى الله عنه، إلى سعد:
إنه قد ألقى فى روعى أنكم إذا لقيتم العدو وهزمتموهم، فاطرحوا الشك، وآثروا
عليه اليقين، فمن لاحن منكم أحدا من العجم بأمان بإشارة أو بلسان ولا يدرى
الأعجمى ما كلمتموه به، وكان عندهم أمانا، فأجروا ذلك مجرى الأمان، وآثروا
اليقين والنية على الشك، وإياكم والمحك، وعليكم بالوفاء، فإن الخطأ مع
الوفاء له بقية، والخطأ بالغدر هلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم وذهاب ريحكم
وإقبال ريحهم، وإياكم أن تكونوا شينا على المسلمين، وسببا لتوهينهم.
وكتب إليه سعد يستمده، فكتب إليه عمر:
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 509) .
(2/449)
أتستمدنى وأنت فى عشرة آلاف، ومعك مالك بن
عوف وحنظلة بن ربيعة وطليحة ابن خويلد وعمرو بن معدى كرب فى أمثالهم من
فرسان العرب، ومن معك من أهل الحسبة والرغبة فى الجهاد، فتوكل على الله
واستعنه وناهض عدوك، ولا تهيب الناس، واستفتحوا بحسن النية والحسبة والزهد
فى الدنيا والإنصاف، والصبر الصبر، والصدق الصدق، فإن النصر ينزل مع الصبر،
والأجر على قدر الحسبة، واحذر على المسلمين، وتحرز من البيات، وأكثر من
قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، واندب الناس إلى القتال، ونفل أهل البلاء،
ومن قتل قتيلا فنفله سلبه، ونكل على المعصية. واجعل الناس أسباعا، واستعمل
على كل سبع رجلا، وقال بعضهم: أعشارا، وقد كتبت إلى المغيرة بن شعبة أن
يشخص إليك فى طائفة ممن قبله بالبصرة، وكتبت إلى أبى عبيدة أن يمدك بجمع من
الشام، فإذا قدموا عليك فناهض عدوك، وإن رأيت فرصة قبل ذلك فاغتنمها، ولا
تؤخر ذلك إن شاء الله، ولا تستوحشن لقلة من معك، ولا تهن لكثرة عدوك،
فكثيرا ما ينصر القليل ويخذل الكثير، وقبلك طليحة بن خويلد، وعمرو بن معدى
كرب، وحنظلة بن ربيعة، وأوس بن معدان، وابن زيد الخيل، فلا تؤمرن أحدا منهم
على أكثر من مائة، وشاور عمرا وطليحة فى الحرب، ولا تولهما جمعا.
فانتهى سعد، رحمه الله، إلى كل ما أمره به عمر، رضى الله عنه، من تهيئة
الناس أسباعا أو أعشارا، وقدم عليهم المغيرة فى ثمانمائة، ويقال فى ألف
وخمسمائة، والمسلمون فى ضيق، فقال المغيرة، رحمه الله: من آسى إخوانه
بطعامه وزاد هو بناقته وجمله، فنحروا لهم وأخرجوا أطعماتهم فأصابوا منها
ووقوا، وأشار المغيرة على سعد أن يوجه السرايا فيصيبوا الطعام والعلف، فقبل
سعد مشورته، وبث السرايا، فأصابوا من الأطعمة ما كانوا يكتفون به زمانا.
وقد روى عن الشعبى أن عمر، رحمه الله، كتب إلى سعد مرتحله من زرود: أن ابعث
إلى فرج الهند رجلا ترضاه يكون بحياله، ردآ لك من شىء إن أتاك من تلك
التخوم، فبعث إليه المغيرة بن شعبة فى خمسمائة، فكان بحيال الأبلة من أرض
العرب، فأتى غضبا، ونزل على جرير، وهو يومئذ هنالك، فلما ننزل سعد بشراف
كتب إلى عمر بمنزله ومنزل الناس، فكتب إليه عمر:
إذا جاءك كتابى هذا فعشر الناس وعرف عليهم، وأمر على أجنادهم، وعبئهم، ومر
رؤساء المسلمين أن يشهدوا، وقدرهم وهم شهود، ثم وجههم إلى أصحابهم، وواعدهم
القادسية، واضمم إليك المغيرة فى خيله، واكتب إلىّ بالذى يستقر عليه أمرهم.
(2/450)
فبعث سعد إلى المغيرة، فانضم إليه وإلى
رؤساء القبائل، فأتوه، فقدر الناس، وعبأهم بشراف، فأمر أمراء الأجناد، وعرف
العرفاء، على كل عشرة رجلا، كما كانت العرافات أزمان النبى صلى الله عليه
وسلم، وكذلك كانت إلى أن فرض العطاء، وأمر على الرايات رجالا من أهل
النباهة، وأمر على الأعشار رجالا من الناس لهم وسائل فى الإسلام، وولى
الحرب رجالا، فولى على مقدماتها ومجنباتها وساقتها ومجرداتها وركبانها
وطلائعها، فلم يخرج من شراف إلا عن تعبئة، ولا فصل منها إلا بكتاب عمر
وإذنه.
قالوا فيما ذكر سيف عن رجاله: وبعث عمر، رحمه الله، الأطبة، وبعث على قضاء
الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلى، وجعل إليه الأقباض وقسمة الفىء، وجعل
داعيهم ورائدهم سلمان الفارسى. فكان أمراء التعبئة يلون الأمير والذين يلون
أمراء التعبئة أمراء الأعشار، والذين يلون أمراء الأعشار أصحاب الرايات،
والذين يلون أصحاب الرايات والقواد رؤساء القبائل، فلما فرغ سعد من تعبئته
وأعد لكل شىء من أمره جماعات ورؤساء كتب بذلك إلى عمر، رحمه الله، ولا خفاء
بما بين مقتضى هذا الحديث وبين ما قبله من الاختلاف بالتأخر أو التقدم،
والله تعالى أعلم.
وبعث سعد فى مقامه بالقادسية إلى أسفل الفرات عاصم بن عمرو فسار حتى أتى
ميسان، فطلب بقرا وغنما فلم يقدر عليها، وتحصنوا منه فى الأفدان، وأوغلوا
فى الآجام، فضرب حتى أصاب رجلا على طف أجمة، فسأله واستدله على البقر
والغنم، فحلف له، وقال: ما أعلم، وإذا هو راعى ما فى تلك الأجمة، فصاح منها
ثور: كذب والله وها نحن أولاء، فدخل فاستاق الثيران وأتى بها العسكر، فقسم
ذلك سعد على الناس، فأخصبوا أياما، وهذا اليوم هو يوم الأباقر.
وذكر المدائنى أن حنظلة بن الربيع الأسيدى هو صاحب هذه الغارة، وأنه أتى
أسفل الفرات فلم يصب مغنما ولم يلق كيدا، فرجع، فلقوا رجلا، فقالوا له: هل
تعلم مكان أحد من عدونا بحضرتك؟ قال: لا، قد رغبتموهم فخلوا عن مساكنهم،
قالوا: فتعلم مكان طعام، أو شاء، أو بقر؟ قال: لا، وسمعوا خوار ثور من
غيضة، فدخلوها، فأصابوا بقرا وغنما.
قال: وقال الحجاج لرجل من بنى أسد: أشهدت القادسية؟ قال: نعم، قرمنا إلى
اللحم فخرجت فى رجال من المسلمين نلتمس اللحم، فأخفقنا، فلما انصرفنا إذا
بصوت عن أيماننا: ادخلوا الغيضة فإن فيها غنيمة وأجرا، فدخلنا غيضة قريبا
منا فإذا عشرة من
(2/451)
الأعاجم، وإذا طعام وبقر وغنم، فقاتلونا
عما فى أيديهم، فاستشهد منا رجلان، وقتلنا منهم ثمانية، وأسرنا رجلين
فقتلناهما صبرا، وحملنا الطعام، واستقنا الشاء والبقر، فقسم سعد ذلك بين
المسلمين، ونفل كل رجل منا قتل رجلا سلبه. فقال الحجاج: هذه بشرى من الله
لأوليائه، لا يكون ذلك حتى يكون الجمع برّا تقيا. فكيف كانوا؟ قال: لا تسأل
عن صدق قول، ووفاء بالعهد، وأداء للأمانة، وصبر عند البأس، والله أعلم ما
يسرون، فأما الظاهر فإنا لم نر قوما قط أزهد فى دنيا ولا أشد لها بغضا، ما
اعتد على رجل منهم فى يوم بواحدة من ثلاث: لا بجبن، ولا بغدر، ولا بغلول،
أشداء على الكفار، رحماء بينهم، قال الحجاج: هذه صفة الأبرار.
وكتب عمر إلى سعد، رضى الله عنهما: أخبرنى عن الناس وبلائهم، أتفاضلت
القبائل فيه، أو أخرجوا على السواء؟ فكتب إليه: إن القبائل لم تزل إلى أن
كتبت إليك متساوية فى كل غارة، ومناهبة فى جميع ما أعدوا، وقسم ما ناهبوا،
ولم يفترقوا إلا فى ثلاث، لما نزلنا بلاد القوم وعسكرنا بالقادسية، قرمت
العرب إلى طعامهم، وعاموا إلى شرابهم، فانتدب لهم من مضر عاصم بن عمرو،
وسواد بن مالك، ومالك بن ربيعة، والمساور بن النعمان، وغالب بن عبد الله،
وعبيد الله بن وهب، وعبيد الله بن عمير الأشجعى، وعمرو بن الهذيل الأسدى،
وعمرو بن ربيعة، والحارث بن ذى البردين، فألحموا الناس وألبنوهم حتى تفرغوا
لحربهم، وانتدب من ربيعة: عبد الله بن عامر بن حجية، وأبجر بن جابر، وخالد
بن المعمر، وعائذ بن أبى مرضية، ويزيد بن مسهر، وسمى آخرين، فأنكحوا الناس
وأخدموهم بنات فارس، وبنيهم، فرغبوا فى حربهم.
وانتدب من أهل اليمن: خولى بن عمرو، والحارث بن الحارث، وعمرو بن خوثعة،
والقاسم بن عقيل، وخميصة بن النعمان، وسمى غيرهم، فحملوا الناس على خيول
وبغال وحمير، ودعوا الخيل العراب.
وأقام سعد بالمسلمين فى منزله من القادسية، ورستم بالحيرة، وكف رستم عن
القتال، وطمع أن يضجر المسلمون بمكانهم، وكف سعد عنهم والمسلمون، وصبروا
رجاء أن يصالحوا عن بلادهم ويعطوا الجزية ويسلموا.
وكان عمرا، رحمه الله، قد عرف أن القوم سيطاولونهم فلذلك ما عهد إلى سعد
والمسلمين أن ينزلوا على حدود أرضهم وأن يطاولوهم أبدا حتى ينقضوهم، فحينئذ
نزلوا القادسية وقد وطنوا أنفسهم على الصبر، وأبى الله إلا أن يتم نوره،
وإذا أراد الله أمرا أصابه، فأقاموا واطمأنوا، فكانوا يغيرون على السواد،
فانتسفوا ما يليهم فحووه، وأعدوا للمطاولة، أو يفتح عليهم.
(2/452)
وكان عمر، رضى الله عنه، يمدهم بالأسواق
إلى ما يصيبون، فلما رأى ذلك يزدجرد من أمرهم، وعلم أنهم غير منتهين، وأنه
إن أقام لم يتركوه، وشكا إليه عظماء أهل فارس من نزولهم القادسية، وإخرابهم
البلاد بالغارات، ورستم كاف عنهم، مقيم بإزائهم، أمر رستم بالشخوص
لمناجزتهم، ورأى رستم أن ينزل بينهم وبين العتيق، ثم يطاولهم مع المنازلة،
ورأى أن ذلك أمثل ما هم عاملون، حتى يصيبوا من الإحجام حاجتهم وتدور لهم
سعود.
وعن سيف «1» عن رجاله، قالوا: وجعلت السرايا تطوف، ورستم بالنجف،
والجالينوس بين النجف والسيلحين، وذو الحاجب بين رستم والجالينوس، وقال
الناس لسعد: قد ضاق بنا المكان فأقدم، فزجر من كلمه بذلك، وقال: إذا كفيتم
الرأى فلا تكلفوا، فإنا لن نقدم إلا على رأى ذوى الرأى، فاسكتوا ما سكتنا
عنكم.
وعن أبى عثمان النهدى «2» أن سعدا، رحمه الله، لما نزل رستم النجف بعث
الطلائع، وأمرهم أن يصيبوا رجلا ليسأله عن أهل فارس، فأخرج طليحة فى خمسة،
وعمرو بن معدى كرب فى خمسة، وذلك صبيحة قدم رستم الجالينوس وذا الحاجب وهم
لا يشعرون بفصولهم من النجف، فلم يسيروا إلا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا
مسالحهم وسرحهم على الصفوف قد ملؤها، فقال بعضهم: ارجعوا إلى أميركم فإنه
سرحكم وهو يرى أن القوم بالنجف فأخبروه الخبر، وقال بعضهم: ارجعوا لا ينذر
بكم عدوكم. فقال عمر لأصحابه: صدقتم، وقال طليحة لأصحابه: كذبتم، ما بعثتم
لتخبروا عن السرح، أو ما بعثتم إلا للخبر، قالوا: فما تريد؟ قال: أريد أن
أخالط عسكر القوم أو أهلك، قالوا:
أنت رجل فى نفسك غرر، ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن، فارجع معنا، فأبى.
وأتى سعد الخبر برحيل فارس، فبعث قيس بن هبيرة، وأمره على مائة، وعليهم أن
لقيهم، فانتهى إليهم وقد افترقوا، وفارقهم طليحة، فرجع بهم قيس فأخبروا
سعدا بقرب القوم، ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم، وبات فيه يجوسه وينظر
ويتوسم.
فلما أدبر الليل أتى أفضل من توسم فى ناحية العسكر، فإذا فرس لم ير فى خيل
القوم مثله، وفسطاط أبيض لم ير مثله، فانتضى سيفه، فقطع مقود الفرس، ثم ضمه
إلى مقود فرسه، وحرك فرسه فخرج يعدو به، ونذر به القوم، فتنادوا وركبوا
الصعبة والذلول، فخرجوا فى طلبه، فلحقه وقد أصبح فارس من الجند، فلما غشية
وبوّأ له الرمح
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 510) .
(2) انظر: الطبرى (3/ 512- 514) .
(2/453)
ليطعنه عدل طليحة فرسه، فبدر الفارسى بين
يديه، فكر عليه طليحة فقسم ظهره بالرمح، ثم لحق به آخر ففعل به مثل ذلك،
ولحق به آخر وقد رأى مصرع صاحبيه، وهما ابنا عمه، فازداد حنقا ففعل معه
طليحة كما فعل معهما، ثم كر عليه ودعاه إلى الإسار، فعرف الفارسى، أنه
قاتله، فاستأسر، وأمره طليحة أن يركض بين يديه، ففعل، ولحق الناس، فرأوا
فارسى الجند قد قتلا وأسر الثالث، وقد شارف طليحة عسكر المسلمين، فأحجموا
ونكصوا.
وأقبل طليحة حتى غشى العسكر، وهم على تعبئة، فأفزع الناس، وجوزوه إلى سعد،
فلما انتهى إليه قال: ويحك ما وراءك قال: دخلت عساكرهم وجستها، وقد أخذت
أفضلهم توسما، وما أدرى أصبت أو أخطأت وها هو ذا فاستخبره. فأقيم الترجمان
بين سعد وبين الفارسى، فقال الفارسى: أتؤمننى على دمى إن صدقتك؟ قال: نعم،
والصدق فى الحرب أحب إلينا من الكذب، قال: أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن
أخبركم عمن قبلى، باشرت الحرب وغشيتها، وسمعت بالأبطال ولقيتها مذ أنا غلام
إلى أن بلغت ما ترى، فلم أر ولم أسمع بمثل هذا، أن رجلا قطع عسكرين لا
يجترئ عليهما الأبطال إلى عسكر فيه سبعون ألفا يخدم الرجل منهم الخمسة
والعشرة إلى ما هو دون ذلك، فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فارس الجند
وهتك أطناب بيته، وطلبناه فأدركه الأول وهو فارس الناس، يعدل بألف فارس،
فقتله، ثم أدركه الثانى، وهو نظيره فقتله، ثم أدركته ولا أظننى خلفت بعدى
من يعدلنى، وأنا الثائر بالقتيلين، وهما ابنا عمى، فرأيت الموت فاستأسرت ثم
أخبره عن أهل فارس، أن الجند عشرون ومائة ألف، وأن الأتباع مثلهم خدام لهم.
وأسلم الرجل وسماه سعد مسلما، وعاد إلى طليحة فقال:
لا والله ما تهزمون ما دمتم على ما أرى من الوفاء والصدق والإصلاح
والمواساة، لا حاجة لى فى صحبة فارس، فكان من أهل البلاء يومئذ.
وعن موسى بن طريف «1» أن سعدا بعث طليحة وعمرو بن معدى كرب، فأمر طليحة
بعسكر رستم، وأمر عمرا بعسكر الجالينوس، فخرج فى عدة، وخرج طليحة وحده،
فبعث قيس بن هبيرة فى آثارهما، وقال: إن لقيت قتالا فأنت عليهم، فخرج حتى
تلقى عمرا، فسأله عن طليحة، فقال: لا علم لى به، فلما انتهيا إلى النجف قال
له قيس: ما تريد؟ قال: أن أغير على أدنى عسكرهم، قال: فى هؤلاء قال: نعم،
قال: لا أدعك والله وذاك أتعرض المسلمين لما لا يطيقون قال: وما أنت وذاك
قال: إنى أمرت
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 511) .
(2/454)
عليك، ولو لم أكن أميرا لم أدعك. فقال عمرو
بعد أن شهد لقيس نفر باستعمال سعد إياه عليه وعلى طليحة: والله يا قيس، إن
زمانا تكون علىّ فيه أميرا لزمان سوء؛ لأن أرجع عن دينكم هذا إلى دينى الذى
كنت عليه وأقاتل عليه حتى أموت أحب إلىّ أن تؤمر علىّ ثانية، ولئن عاد
صاحبك الذى بعثك لمثلها لنفارقنه، قال: ذلك إليك بعد مرتك هذه، فرده، فرجع
إلى سعد بالخبر وبأعلاج وأفراس، وشكا كل واحد منهما لصاحبه، أما قيس فشكا
عصيان عمرو، وأما عمرو فشكا طاعة قيس، فقال سعد: يا عمرو، الخير وسلامة
مائة أحب إلىّ من مصاب مائة تقتل ألفا، أتعمد إلى حلبة فارس فتصادمهم
بمائة؟ إن كنت لأراك أعلم بالحرب مما أرى. فقال له عمرو: إن الأمر لكما.
قلت: وخرج طليحة حتى أتى النجف فدخل عسكر رستم فى ليلة مقمرة، فتوسم فيه،
فهتك أطناب بيت رجل عليه واقتاد فرسه، ثم خرج حتى مر بعسكر ذى الحاجب، فهتك
على آخر بيته وحل فرسه، ثم خرج حتى أتى الخرار واتبعه هؤلاء، فكان أولهم
لحاقا به الجالينوس ثم الحاجبى ثم النخعى، فأصاب الأولين وأسر الآخر، وأتى
به سعدا فأخبره، وأسلم فسماه سعد مسلما، ولزم طليحة فكان معه فى تلك
المغازى كلها.
وعن موسى بن طريف، أيضا، قال: قال سعد لقيس بن هبيرة: أخرج يا عاقل، فإنه
ليس وراءك من الدنيا شىء تحنو عليه حتى تأتينى بخبر القوم، فخرج، وسرح معه
عمرو ابن معدى كرب وطليحة، فلما جاز القنطرة لم يسر إلا يسيرا حتى انتهى
إلى خيل عظيمة منهم بحيالها ترد عن عسكرهم، وإذا رستم قد ارتحل من النجف
فنزل منزل ذى الحاجب، وارتحل الجالينوس فنزل ذو الحاجب منزله، ونزل
الجالينوس بطيزناباذ «1» ، وقدم تلك الخيل، فقال قيس: قاتلوا عدوكم يا معشر
المسلمين. فأنشب القتال، وطاردهم ساعة، ثم حمل عليهم، فكانت هزيمتهم، وأصاب
منهم اثنى عشر رجلا، وأسر ثلاثة، وأصاب أسلاب، فأتوا سعدا بالغنيمة وأخبروه
الخبر، فقال: هذه بشرى إن شاء الله، إذا لقيتم جمعهم الأعظم وحدهم، فلهم
أمثالها، ودعا عمرا وطليحة، فقال: كيف رأيتما قيسا؟ فقال طليحة: رأيناه
أكيس منا، وقال عمرو: الأمير أعلم بالرجال منا، فقال سعد:
إن الله أحيا بالإسلام قلوبا كانت ميتة، وأمات به قلوبا كانت حية، وإنى
أحذركما أن تؤثرا أمر الجاهلية على أمر الإسلام، فتموت قلوبكما وأنتما
حيان، الزموا السمع والطاعة والاعتراف بالحقوق، فما رأى الناس كأقوام أعزهم
الله بالإسلام.
__________
(1) طيزناباذ: موضع بين الكوفة والقادسية على حافة الطريق، بينها وبين
القادسية ميل. انظر: معجم البلدان (4/ 54، 55) .
(2/455)
قالوا: ولما انتهى رستم إلى العتيق، وقف
عليه بحيال عسكر سعد، ونزل الناس، فما زالوا يتلاحقون وينزلهم فينزلون، حتى
أعتموا من كثرتهم.
وقال المدائنى: مكثوا ليلتهم كلها يتحدرون، ومن غد إلى قريب من نصف النهار
بعده تجب منها القلوب.
وقال قيس بن أبى حازم، وكان شهد القادسية: كان مع رستم ثمانية عشر فيلا،
ومع الجالينوس خمسة عشر فيلا.
وقال غيره: كان فى جملتها فيل سابور الأبيض، وكانت الفيلة تألفه، وكان
أعظمها وأقدمها.
وقال الرفيل: كانت ثلاثة وثلاثون، فى القلب ثمانية عشر، وفى المجنبتين خمسة
عشر.
قال: ولما نزل رستم العتيق وبات به، أصبح غاديا على التصفح والتحرز، فساير
العتيق نحو خفان، حتى أتى على مقطع عسكر المسلمين، ثم صعد حتى انتهى إلى
القنطرة، فتأمل القوم، حتى أتى على تل يشرف عليهم، فلما وقف على القنطرة
أرسل زهرة بن جوية، وكان هناك مسلحة لسعد، فخرج إليه حتى واقفه، فأراده على
أن يصالحهم، ويجعل له جعلا على أن ينصرفوا عنه، وجعل يقول إنكم جيراننا وقد
كانت طائفة منكم فى سلطاننا، فكنا نحسن جواركم، ونكف الأذى عنكم، ونوليهم
المرافق الكثيرة، ونحفظهم فى أهل باديتهم، فنرعيهم مراعينا، ونميرهم من
بلادنا ولا نمنعهم التجارة فى شىء من أرضنا، فقد كان لهم فى ذلك معاش، يعرض
له بالصلح ولا يصرح، فقال له زهرة: صدقت، قد كان ما تذكر، وليس أمرنا أمر
أولئك ولا طلبتنا طلبتهم. إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، إنما طلبتنا وهمتنا
الآخرة، كما ذكرت، يدين لكم من قدم عليكم منا، ويضرع إليكم يطلب ما فى
أيديكم، ثم بعث الله، عز وجل، إلينا رسولا، فدعانا إلى دينه فأجبناه، فقال
لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنى قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بدينى،
فأنا منتقم بهم منه، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به وهو دين الحق، لا
يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز.
قال رستم: وما هو؟ قال: أما عموده الذى لا يصلح منه شىء إلا به، فشهادة أن
لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والإقرار بما جاء به من عند الله
تعالى.
(2/456)
قال: ما أحسن هذا وأى شىء أيضا؟.
قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى.
قال: حسن، وأى شىء أيضا؟.
قال: والناس بنو آدم وحواء، إخوة لأب وأم.
فقال: ما أحسن هذا ثم قال له رستم: أرأيت لو أنى رضيت هذا الأمر وأجبتكم
إليه ومعى قومى كيف يكون أمركم أترجعون؟.
قال: إى والله، ثم لا نقرب بلادكم إلا فى تجارة أو حاجة.
قال: صدقتنى والله، أما أن أهل فارس منذ ولى أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من
عمله من السفلة، كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم: تعدوا طورهم، وعادوا
أشرافهم.
فقال له زهرة: نحن خير الناس للناس، ولا نستطيع أن نكون كما تقولون، نطيع
الله فى السفلة، ولا يضرنا من عصى الله فينا.
فانصرف عنه، ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فحموا منه، وأنفوا، فقال: أبعدكم
الله وأسحقكم أخزى الله أجزعنا وأجبننا.
وعن سيف «1» عن رجاله، قالوا: أرسل سعد إلى المغيرة وبسر بن أبى رهم وعرفجة
ابن هرثمة وحذيفة بن محسن وربعى بن عامر وقرفة بن أبى زاهر التيمى الوائلى
ومذعور ابن عدى العجلى والمضارب بن يزيد وسعيد بن مرة، وهما من بنى عجل،
أيضا، وكان سعيد من دهاة العرب، فقال لهم سعد: إنى مرسلكم إلى هؤلاء، فما
عندكم؟.
قالوا: نتبع ما تأمرنا به، وننتهى إليه، فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شىء
نظرنا أمثل ما ينبغى وأنفعه للناس، فكلمناهم به.
قال سعد: هذا فعل الحزمة، اذهبوا فتهيئوا.
فقال ربعى بن عامر: إن الأعاجم لهم آراء وأدب، ومتى نأتهم جميعا يرون أنا
قد احتفلنا لهم فلا تزدهم على رجل، فمالئوه جميعا على ذلك، فقال: فسرحنى،
فسرحه، فخرج ربعى بن عامر ليدخل على رستم عسكره، فاحتبسه الذى على القنطرة،
وأرسل
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 518) .
(2/457)
إلى رستم بمجيئه، فاستشار عظماء أهل فارس،
فقال: ما ترون؟ أنباهى أم نتهاون؟
فاجتمع ملؤهم على المباهاة، فأظهروا الزبرج، وبسطوا البسط والنمارق، ولم
يتركوا شيئا، ووضعوا لرستم سرير الذهب، وألبس زينته، من الأنماط والوسائد
المنسوجة بالذهب. وأقبل ربعى يسير على فرس له زباء قصيرة، معه سيف له مشوف
وغمده لفافة ثوب خلق، ورمحه معلوب بقد، معه حجفة من جلود البقر، على وجهها
أديم أحمر مثل الرغيف، ومعه فرسه ونبله.
فلما انتهى إلى أدنى البسط، قيل له: انزل، فحمل فرسه عليها، فلما استوت على
البسط نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما، ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا
أن ينهوه، وإنما أروه التهاون، وعرف ما أرادوا، فأراد استحراجهم، وعليه درع
له كأنه أضاة، ويلمقة عباءة بعيره، قد جابها وتدرعها، وشدها على وسطه بسلب،
ولأسه أربع ضفائر، قد قمن قياما، كأنهن قرون الوعول، وكان أكثر العرب شعرة.
فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إنى لم آتكم فأضع سلاحى بأمركم، أنتم دعوتمونى،
فإن أحببتم أن آتيكم كما أريد وإلا رجعت. فأخبروا رستما، فقال: ائذنوا له،
هل هو إلا رجل فأقبل يتوكأ على رمحه، وزجه نصل يقارب الخطو، ويزج النمارق
والبسط، فما ترك لهم نمرقة ولا بساطا إلا أفسده وتركها متهتكة مخرقة.
فلما دنا من رستم تعلق به الحرس، وجلس على الأرض، وركز رمحه فى البساط،
فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم. فقال له
رستم: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا، وجاء بنا لنخرج من شاء من عبادة
العباد إلى عبادة الله تعالى، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور
الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبله
قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه
أبدا، حتى نفضى إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال:
الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى. قال رستم: قد سمعنا
مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا قال: نعم، كم
أحب إليك؟ أيوم أم يومان؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا.
فقال: إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل به أئمتنا، ألا
نمكن الأعداء من بداتنا، ولا نؤجلهم عند الالتقاء أكثر من ثلاث، فنحن
مترددون عنكم ثلاثا، فانظر فى أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، اختر
الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنيا
تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجا منعناك، أو المنابذة فى اليوم الرابع،
ولسنا نبدؤك فيما
(2/458)
بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا،
أنا كفيل لك بذلك على جميع من ترى. قال:
أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين فيما بينهم كالجسد بعضهم من بعض، يجير
أدناهم على أعلاهم. فخلص رستم برؤساء أهل فارس، فقال: ما ترون؟ هل سمعتم
كلاما قط أوضح نصرا ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله أن تميل
إلى شىء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه فقال: ويحكم لا
تنظروا إلى الثياب، ولكن انظروا إلى الرأى والكلام والسيرة، إن العرب تستخف
باللباس والمأكل ويصونون الأحساب، ليسوا مثلكم فى اللباس، ولا يرون فيه ما
ترون. وأقبلوا إليه يتناولون سلاحه ويزهدونه فيه، فقال لهم: هل لكم أن
ترونى فأريكم؟ فأخرج سيفه من خرقة كأنه شعلة نار. ثم رمى ترسا ورموا حجفته،
فخرق ترسهم وسلمت حجفته. فقال: يا أهل فارس، إنكم عظمتم الطعام والشراب،
وأنا صغرناهما، ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل.
فلما كان الغد بعثوا: أن ابعث إلينا ذلك الرجل، فبعث إليهم سعد حذيفة بن
محصن، فأقبل فى نحو ذلك الزى، حتى إذا كان على أدنى البساط، قيل له: أنزل،
قال: ذلك لو جئتكم فى حاجتى، فقولوا لملككم: أله حاجة أم لى؟ فإن قال لى
فقد كذب، ورجعت عنه، وتركتكم، وإن قال له، لم آته إلا على ما أحب. فقال:
دعوه، فجاء حتى وقف عليه ورستم على سريره، فقال له: انزل، قال: لا أفعل،
فلما أبى سأله: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال: إن أميرنا يحب أن
يعدل بيننا فى الشدة والرخاء، فهذه نوبتى. قال: ما جاء بكم؟ قال: الله عز
وجل منّ علينا بدينه، وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين. ثم أمرنا
بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث، فأيها أجابوا إليه قبلناه:
الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة.
فقال: أو الموادعة إلى يوم. فقال: نعم، ثلاثا من أمس.
فلما لم يجد عنده إلا ذلك رده، وأقبل على أصحابه فقال: وليكم ألا ترون ما
أرى؟
جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقر ما نعظم، وأقام فرسه على زبرجنا
وربطه به، فهو فى يمن الطائر، ذهب بأرضنا وما فيها إليهم، مع فضل عقله.
وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا، فهو فى يمن الطائر سيقوم على أرضنا دوننا،
فراده أصحابه الكلام حتى أغضبوه وأغضبهم.
فلما كان من الغد أرسل: أبعثوا إلينا رجلا، فبعثوا إليه المغيرة بن شعبة.
قالوا: فلما جاء إلى القنطرة يعبرها إلى أهل فارس حبسوه واستأذنوا رستما فى
إجازته، فأذن فى ذلك، فأقبل المغيرة والقوم فى زيهم فى الأمس، لم يغيروا
شيئا من شارتهم، تقوية
(2/459)
لتهاونهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة
بالذهب، وبسطهم على غلوة لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها غلوة، وجاء
المغيرة وله أربع ضفائر يمشى، حتى جلس معه على سريره وشارته، فوثبوا إليه
فنتروه وأنزلوه ومغثوه، فقال: إنه كانت تبلغنا عنكم أحلام، ولا أرى قوما
أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا
لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذى صنعتم أن
تخبرونى أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، ولم
آتكم ولكنكم دعوتمونى، زاد المدائنى: وليس ينبغى لكم إذا أرسلتم إلىّ أن
تمنعونى من الجلوس حيث أردت، وما أكلمكم إلا وأنا جالس معه، اليوم علمت
أنكم مغلوبون، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول.
فقالت السفلة: صدق والله العربى، وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا
يزال خولنا والضعفاء منا ينزعون إليه، قاتل الله أولينا، ما كان أحمقهم حين
يصغرون أمر هذه الأمة فمازحه رستم ليمحو ما صنع به، فقال له: يا عربى، إن
الحاشية قد تصنع ما لا يوافق الملك، فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عما
ينبغى من ذلك، والأمر على ما تحب من الوفاء وقبول الحق، وليس ما صنعوا
بضائرك ولا ناقصك عندنا، فاجلس حيث شئت، فأجلسه معه، ثم قال: ما هذه
المغازل التى معك؟، يعنى السهام، قال: ما ضر الجمرة أن لا تكون طويلة ثم
راماهم، ثم قال له رستم: تكلم أو أتكلم؟ فقال المغيرة:
أنت الذى بعثت إلينا، فتكلم، فأقام الترجمان بينهما، وتكلم رستم، فحمد
قومه، وعظم الملك والمملكة، وقال: لم نزل متمكنين فى البلاد، ظاهرين على
الأعداء، أشرافا فى الأمم، ليس لأحد من الملوك مثل عزنا وشرفنا وسلطاننا،
ننصر على الناس ولا ينصرون علينا إلا اليوم أو اليومين أو الشهر أو
الشهرين، لأجل الذنوب، فإذا انتقم الله منا فرضى رد إلينا عزنا، ثم إنه لم
تكن فى الناس أمة أصغر عندنا أمرا منكم، كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة، لا
نراكم شيئا ولا نعدكم، وكنتم إذا قحطت أرضكم وأصابتكم السنة استعنتم بناحية
أرضنا فنأمر لكم بشىء من التمر والشعير ثم نردكم، وقد علمت أنه لم يحملكم
على ما صنعتم إلا ما أصابكم من الجهد فى بلادكم، فأنا آمر لأميركم بكسوة
وبغل وألف درهم، وآمر لكل واحد منكم بوقر من تمر وبثوبين، وتنصرفون عنا،
فإنى لست أشتهى أن أقتلكم، ولا آسركم.
فتكلم المغيرة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله سبحانه خالق كل شىء
ورازقه، يرفع من يشاء ويضع من يشاء، فمن صنع شيئا فإن الله، تبارك اسمه
وتعالى،
(2/460)
هو يصنعه والذى صنعه. وأما الذى ذكرت به
نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكين فى البلاد وعظم السلطان فى
الدنيا، فنحن نعرفه ولا ننكره، والله صنعه لكم، ووضعه فيكم، وهو له دونكم،
وأما ما ذكرت فينا من سوء الحال، وضيق المعيشة، واختلاف القلوب، فنحن
نعرفه، والله ابتلانا بذلك، وصيرنا إليه، والدنيا دول، ولم يزل أهل شدائدها
يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه، وأهل رخائها يتوقعون الشدة حتى تنزل بهم،
ويصيروا إليها، ولو كنتم فيما آتاكم الله دوننا أهل شكر، لكان شكركم يقصر
عما أوتيتم، ولأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال، ولو كنا فيما ابتلينا به
أهل كفر، كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا، ولكن
الشأن غير ما تذهبون إليه، إن الله تعالى بعث فينا رسولا، فكذبه مكذبون
وصدقه منا آخرون، وأظهر الله دعوته، وأعز دينه على كره ممن كذبه وحاده، حتى
دخلوا فى الإسلام طوعا وكرها، فأمرنا أن ندعو من خالفنا إلى ديننا، فمن
أباه قاتلناه.
وذكر نحو ما تقدم من الكلام فى الأحاديث المتقدمة من دعائه إلى الإسلام،
وقال له:
فإن أبيت فكن لنا عبدا تؤدى الجزية عن يد وأنت صاغر، وإلا السيف إن أبيت.
فنخر رستم عند ذلك نخرة واستشاط غضبا، ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الضحى
غدا حتى أقتلكم أجمعين.
فانصرف المغيرة، وخلص رستم بأشراف فارس، فقال: أين هؤلاء منكم؟ ما بعد هذا؟
ألم يأتكم الأولان فجسراكم واستخرجاكم، ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا، وسلكوا
طريقا واحدا، ولزموا أمرا واحدا، هؤلاء والله الرجال، صادقين أو كاذبين،
والله لئن كان بلغ من رأيهم وصونهم أمرهم أن لا يختلفوا، ما قوم أبلغ فيما
أرادوا منهم، وإن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شىء فلجوا وتجلدوا، فقال:
والله إنى لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم، وإن هذا منكم رياء، فازدادوا
لجاجا.
وفى بعض الروايات أن مما قال المغيرة لرستم وقد توعد المسلمين بأنهم
مقتولون، قال: هو الذى نتمنى، أن المقتول منا صائر فى الجنة، والهارب فى
النار، وللباقى الصابر الظفر بحديث صادق ووعد لا خلف له، وقد أصبنا فى
بلادكم حبة كأنها قطع الأوتار، فأكلنا منها وأطعمنا أهلينا، فقالوا: لا صبر
لنا حتى تنزلونا هذه البلاد.
قال رستم: أما لنقرننكم فى الجبال.
قال المغيرة: أما وبنا حياة فلا.
(2/461)
قال رستم: ارجع إلى أصحابك واستعدوا للحرب،
فليس بيننا وبينكم صلح، ولنفقأن عينك غدا.
فقال المغيرة: وأنت ستقتل غدا إن شاء الله، وإن ما قلت لى ليسرنى، لولا أن
أجاهدكم بعد اليوم لسرنى أن تذهبا جميعا.
ورجع المغيرة فتعجبوا من قوله. فقال رستم: ما أظن هذا الملك إلا قد انقضى،
وأن أجمل بنا ألا يكون هؤلاء أصبر منا، ولقد وعدوا وعدا ليموتن أو ليدركنه،
ولقد حذروا وخوفوا من الفرار خوفا لا يأتونه، وقد رأيت ليلتى هذه كأن القوس
التى فى السماء خرت، وكأن الحيتان خرجن من البحر، وأن هؤلاء القوم سيظهرون
عليكم، فهل لكم أن تقبلوا بعض ما عرضوا عليكم؟ قالوا: لا.
قال: فأنا رجل منكم، وكتب إلى يزدجرد بما كلمه به المغيرة، فقال شاهين
الأزدى:
لو لم يكن إلا ساسة دوابنا لأخذناهم بهم. فكتب إليه أمره بقتالهم، وقال:
إذا لقيتهم فضع الرجال فيما بينى وبينك، على كل ربوة رجلا، فكلما حدث أمر
نادى به بعضهم بعضا حتى يفضى الخبر إلىّ.
وحدث سيف «1» عن رجاله، قالوا: أرسل إليهم سعد بقية ذوى الرأى جميعا، وحبس
الثلاثة، فخرجوا حتى أتوه، فقالوا له: إن أميرنا يقول لك: إن الحرب تحفظ
الولاة، وإنى أدعوك إلى ما هو خير لنا ولك، وهى العاقبة بأن تقبل منا ما
دعاك الله، عز وجل، إليه، ونرجع إلى أرضنا، وترجع إلى أرضك وبعضنا من بعض،
إلا أن داركم لكم، وأمركم فيكم، وما أصبتم مما وراءكم كان زيادة لكم دوننا،
وكنا لكم عونا على أحد إن أرادكم أو قوى عليكم. واتق الله يا رستم، ولا
يكونن هلاك قومك على يديك، فإنه ليس بينك وبين أن تغتبط إلا أن تدخل فيه
وتطرد به الشيطان عنك.
فقال رستم: إنى قد كلمت منكم نفرا، ولو أنهم فهموا عنى رجوت أن تكونوا قد
فهمتم، وإن الأمثال أوضح من كثير من الكلام، وسأضرب لكم مثلكم. إنكم كنتم
أهل جهد فى المعيشة، وقشف فى الهيئة، لا تمتنعون ولا تنتصفون، فلم نسئ
جواركم، ولم ندع مواساتكم، تقتحمون المرة بعد المرة، فنميركم ثم نردكم،
وتأتوننا أجراء وتجارا فنحسن إليكم، فلما تطعمتم طعامنا، وشربتم شرابنا،
وأظلكم ظلنا، وصفتم ذلك لقومكم، ثم دعوتموهم فأتيتمونا بهم، وإنما مثلكم فى
ذلك ومثلنا كمثل رجل كان له
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 525- 528) .
(2/462)
كرم، فرأى فيه ثعلبا، فقال: وما ثعلب
فانطلق الثعلب، فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم، فلما اجتمعت عليه سد عليها
صاحب الكرم مدخلها فقتلها، وقد علمت أن الذى حملكم على هذا الحرص والطمع مع
الجهد، فارجعوا عنا عامكم هذا، وامتاروا حاجتكم، ولكم العود كلما احتجتم،
فإنى لا أشتهى أن أقتلكم، وقد أصاب أناس كثير منكم ما أرادوا من أرضنا، ثم
كان مصيرهم القتل والمهرب، ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى، وقد رأيتم أنتم
كلما أصابوا شيئا أصيب بعضهم ونجا بعضهم، وخرج مما كان أصاب، ومن أمثالكم
فيما تصنعون مثل جرذان ألفت جرة فيها حب، وفى الجرة ثقب، فدخل الأول فأقام
فيها، وجعلت الأخر ينقلن منها ويرجعون ويكلمنه فى الرجوع، فيأبى، فانتهى
سمن الذى فى الجرة، فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله، فضاق عليه الجحر، ولم
يطق الخروج، فشكى القلق إلى أصحابه، وسألهم المخرج، فقالوا: ما أنت بخارج
منها حتى تعود كما كنت قبل أن تدخل، فكف وجوع نفسه، وبقى فى الجرة، حتى إذا
عاد كما كان أتى عليه صاحب الجرة فقتله، فاخرجوا أو ليكونن هذا لكم مثلا.
وقال لهم، أيضا، فيما قال: لم يخلق الله خلقا أولع من ذباب، ما خلاكم يا
معشر العرب، ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع، ومثلكم فى هذا مثل الذباب إذا
رأى العسل طار، وقال: من يوصلنى إليه وله درهمان حتى يدخله؟ لا ينهاه أحد
إلا عصاه، فإذا دخله غرق ونشب، وقال: من يخرجنى وله أربعة دراهم؟ وضرب
للقوم أمثالا غير هذه نحوا منها.
قالوا: فتكلم القوم، فقالوا: أما ما ذكرت من سوء حالنا فيما مضى، وانتشار
أمرنا، فلم نبلغ كنهه يموت الميت منا إلى النار، ويبقى الباقى منا فى بؤس،
فبينا نحن فى أسواء ذلك، فبعث الله، عز وجل، فينا رسولا من أنفسنا إلى
الإنس والجن، رحمة رحم بها من أراد رحمته، ونقمة ينتقم بها ممن رد كرامته،
فبدأ بنا قبيلة قبيلة، فلم يكن أحد أشد عليه ولا أشد إنكارا لما جاء به،
ولا أجهد على قتله ورد ما جاء به من قومه، ثم الذين يلونهم، حتى طابقناه
على ذلك كلنا، فنصبنا له جميعا، وهو وحده فرد ليس معه إلا الله تعالى فأعطى
الظفر علينا، فدخل بعضنا طوعا وبعضنا كرها، ثم عرفنا جميعا الحق والصدق لما
أتى به من الآيات المعجزة، وكان مما أتى به من عند ربنا، عز وجل، جهاد
الأدنى فالأدنى، فصرنا فى ذلك فيما بيننا، نرى أن الذى قال لنا ووعدنا لا
نخرج عنه ولا ننقص منه، حتى اجتمعت العرب على هذا، وكانوا من الاختلاف فيما
لا يطيق
(2/463)
الخلائق بالتفهم معه، ثم أتيناكم بأمر
ربنا، نجاهد فى سبيله، وننفذ لأمره، ونستنجز موعوده، وندعوكم إلى الإسلام
وأحكامه، فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا، وخلفنا فيكم كتاب الله، عز وجل، وإن
أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزاء، فإن فعلتم وإلا
فإن الله، عز وجل، قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم. فاقبلوا نصيحتنا، فو
الله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم، ولقتالكم بعد أحب إلينا من صلحكم،
وأما ما ذكرت من رثاثتنا وقلتنا فإن إرادتنا الطاعة، وقتالنا الصبر وأما ما
ضربتم لنا من الأمثال، فإنكم ضربتم للرجال وللأمور الجسام وللجد الهزل،
ولكنا سنضرب لكم مثلا، وإن مثلكم مثل رجل غرس أرضا، واختار لها الشجر
والحب، وأجرى لها الأنهار، وزينها بالقصور، وأقام فيها فلاحين يسكنون
قصورها، ويقومون على جناتها، فخلفه الفلاحون فى القصور بما لا يحب، وفى
الجنان بمثل ذلك، فأطال نظرتهم، فلما لم يستحيوا من تلقاء أنفسهم، استعتبهم
فكابروه، فدعا إليهم غيرهم، فأخرجهم منها، فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس،
وإن أقاموا صاروا خولا لهم يملكونهم ويسومونهم الخسف أبدا، والله لو لم يكن
ما نقول لكم حقا، ولم تكن إلا الدنيا، لما كان لنا عما ضربنا به من لذيذ
عيشكم، ورأينا من زبرجكم من صبر، ولقارعناكم أو نغلبكم عليه.
فقال رستم: أتعبرون إلينا أو نعبر إليكم؟ فقالوا: بل اعبروا إلينا، فخرجوا
من عنده عشيا، فأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم، وأرسل إليهم: شأنكم
والعبور، فأرادوا القنطرة، فأرسل إليهم: لا ولا كرامة أما شىء قد غلبناكم
عليه فلن نرده عليكم، تكلفوا معبرا غير القناطر، فباتوا يسكرون العتيق حتى
الصباح بأمتعتهم.
وذكر المدائنى أن رستم وجه الجالينوس ليعبر القنطرة، فوقف بحيال زهرة بن
جوية، وكان عليها، وقال: ليخرجن إلىّ الموكل بهذا الموضع، فخرج زهرة على
فرس كميت أغر ذنوب، معه رمح معلوب، وسيف رث الجفن، فقال له الفارسى: إنك لم
توضع هذا الموضع إلا وأنت ركن من أركان أصحابك، وأرى سيفك رث الجفن، قال:
إن يكن رث المنظر فإنه حديد الضربة، وقرب إليه الفارسى بالصلح ولم يصرح،
ومناه، وقال:
نحسن جواركم ونرفقكم فى معايشكم. فقال زهرة: إنا لم نأتكم نطلب الدنيا بغير
آخرة، إنما أتيناكم ندعوكم إلى ديننا، فإن أبيتموه فدنياكم التى تعرضون
علينا لنا إن شاء الله، فقال له الفارسى: فخلوا لنا الطريق فنعبر إليكم
فنناجزكم، قال: لا، قال: ولم وأنتم تمنون لقاءنا قال: نكره أن نرد عليكم
شيئا قد غلبناكم عليه، فرجع إلى رستم فأخبره، فأعظم ذلك، فانصرف الجالينوس،
فجلس رستم يفكر فيما أخبره، وغلبته عيناه فنام
(2/464)
فانتبه ويده فى كتف جارية قاعدة بين يدى
فراشه، فقال: ما لك؟ قالت: مالت يدك فرفعتها، فقال: أشفقت أن سقطت من فراش
ديباج على بساط ديباج؟ فكيف بها غدا إذا انعفرت فى التراب ووطئتها الخيل؟
قالت: وما يضطرك إلى ذلك؟ وقد أعطوك ما لك فيه نصف ونجاة: إما أن تدخل فى
دينهم فتكون مثلهم، وإما أن تفتدى منهم بشىء تعطيهم ويبقى لك أمرك، وإما أن
تذهب إلى مأمنك من الأرض؟ فقال: إن فى عنقى حبلا أقاد به إلى مصرعى، لا
أقدر على الامتناع.
وبات العاجم ليلتهم يسكرون العتيق بالقصب والتراب والبراذع حتى جعلوه
طريقا، واستتم بعد ما ارتفع النهار من الغد.
قالوا: ورأى رستم من الليل أن ملكا نزل من السماء فأخذ قسى أصحابه فختم
عليها، ثم صعد بها إلى السماء، فاستيقظ مهموما حزينا، فدعا خاصته وقصها
عليهم، وقال: إن الله، عز وجل، ليعظنا، لو أن فارس تركونى أتعظ، أما ترى
النصر قد رفع عنا وترى الريح مع عدونا وأنا لا نقوم لهم فى فعل ولا منطق؟.
يوم أرماث
ولما تم السكر عبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق، ولما عبر أهل فارس
أخذوا مصافهم، وجلس رستم على سريره، وضربت عليه طيارة، وعبأ فى القلب
ثمانية عشر فيلا، عليها الصناديق والرجال، وفى المجنبتين ثمانية وسبعة
عليها الصناديق والرجال، وأقام الجالينوس بينه وبين ميمنته والبيزران بينه
وبين ميسرته، وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين والمشركين.
وأخذ المسلمون، أيضا، مصافهم، وكانت التعبئة التى تقدم بها سعد قبل انفصاله
عن شراف بإذن عمر، رضى الله عنه، أن جعل على المقدمة زهرة بن الجوية، وعلى
الميمنة عبد الله بن المعتم، وكان من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، وأحد
التسعة الذين قاموا عليه فتممهم طلحة بن عبيد الله عشرة فى العرافة، وعلى
الميسرة شرحبيل بن السمط الكندى، وكان شابا قد قاتل أهل الردة على الردة،
ووفى الله عز وجل، فعرف ذلك له، وعلى الساقة عاصم بن عمرو السعدى، وعلى
الطلائع سواد بن مالك التميمى، وعلى المجردة سلمان بن ربيعة الباهلى، وعلى
الرجال حمال بن مالك الأسدى، وعلى الركبان عبد الله بن ذى السهمين الخثعمى،
فلما تصافوا يومئذ جعل سعد زهرة وعاصما بين عبد الله بن المعتم،
(2/465)
وبين شرحبيل بن السمط، ووكل صاحب الطلائع
بالطرد، وخلط بين الناس فى القلب والمجنبات، ونادى مناديه: ألا إن الحسد لا
يحل إلا على الاجتهاد فى أمر الله تعالى يا أيها الناس، فتحاسدوا وتغايروا
على الاجتهاد.
وذكر المدائنى أنه كان على الميمنة يوم القادسية شرحبيل بن السمط، وعلى
الميسرة هاشم بن عتبة، وعلى الخيل قيس بن مكشوح، وعلى الرجل المغيرة بن
شعبة، فالله تعالى أعلم.
وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس، كان به عرق النسا ودماميل،
وإنما هو على وجهه وفى صدره وسادة، وهو مكب عليها، مشرف على الناس من
القصر، يرمى بالرقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة، وهو أسفل منه،
وكان الصف إلى جانب القصر، وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهدا
مشرفا.
وقيل: بل استخلفه على الناس لأجل شكواه، فاختلف عليه الناس، فقال سعد:
احملونى، فأشرفوا به على الناس، فارتقوا به، فأكب مطلعا عليهم، والصف فى
أصل حائط قديس، حيث كان سعد يأمر خالدا فيأمر خالد الناس، وكان ممن شغب
عليه وجوه من وجوه الناس، فهم بهم سعد وشتمهم، وقال: أما والله لولا أن
عدوكم بحضرتكم لجعلكم نكالا لغيركم فحبسهم فى القصر وقيدهم، منهم أبو محجن
الثقفى.
وقال جرير يومئذ: أما أنى بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن أسمع
وأطيع لمن ولى الأمر وإن كان عبدا حبشيا.
وقال سعد: والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويساغبهم وهم
بإزائهم إلا سننت فيه سنة يؤخذ بها من بعدى.
وذكر المدائنى أنه أتى رستما رجل من أهل الحيرة ليلا، فقال له: أمير
المسلمين وجع، وهو فى قصر العذيب مع العيال، ولو طرقته خيل لقتل لا يشعر به
أصحابه، فانتخب رستم خمسمائة فارس، فوجههم، إليه، فترفعوا عن العسكرين
وقطعوا الوادى، وأخذوا فى خفض من الأرض، وجاء رجل من العجم إلى المسلمين
مستأمنا، فأخبرهم، فانتدب حنظلة بن الربيع الأسيدى فى خمسمائة من تحت
الليل، فسار إلى العذيب، وقال لأصحابه: إنه ليطيب نفسى أن عبد الله بن سبرة
عند سعد، فانتهى إلى سعد عند طلوع الفجر ولم تصل إليهم الفرس، فأنذروه
وأصبحوا فإذا الأساورة متحدرون من ناحية وادى السباع، فتلقاهم عبد الله بن
سبرة الواقفى، أحد بنى حرملة بن سعد بن مالك بن
(2/466)
ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، فى سرعان الناس،
معه عشرة فوارس وغلام له روى يقال له يزيد، كان أصابه يوم اليرموك، واتبعهم
حنظلة فى أصحابه، فقتل عبد الله بن سبرة قبل أن تتام إليه الخيل أسوارين.
وقال مرة الهمدانى، وكان مع حنظلة: لما دنونا من معتركهم سمعنا صوتا منكرا
شديدا، فقال حنظلة: صوت ابن الكندية ورب الكعبة، بعض هنات أبى قيس،
فانتهينا إليهم فإذا عبد الله بن سبرة يذمر أصحابه وهو يقول لغلامه: يا
يزيد ثكلتك أمك إن فاتك أحد، وقد انكسر رمحه، وهو يضربهم بعمود ما يضرب به
رجلا إلا قتله، ولا دابة إلا عقرها، وإن غلامه ليذودهم عليه بالرمح، فلما
غشيهم حنظلة وأصحابه انهزموا، فما تشاء أن تجد الخمسة والستة من المسلمين
يخفقون أسوارا بأسيافهم إلا وجدته، فقتل منهم ثلاثون، ويقال مائة، وأفلت
الآخرون أكثرهم جريح، فرجعوا إلى رستم، فطلب الحيرى ليقتله وظن أنه عين دس
له فلم يقدر عليه، وتحول سعد فنزل مع جماعة الناس.
وفيما حكاه سيف عن رجاله «1» : أن سعدا، رحمه الله، بعد ما تهدم على الذين
اعترضوا على خالد بن عرفطة خطب من يليه يومئذ فحمد الله وأثنى عليه. وقال:
إن الله وهو الحق، وقوله الحق، لا شريك له فى الملك، وليس لقوله خلف، قال:
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ
يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] ، إن هذا ميراثكم وهو
موعد ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج، وأنتم تطعمون منها وتأكلون،
وتقتلون أهلها، وتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم، بما نال منه أصحاب الأيام
منكم، وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب، وأعيانهم، وخيار كل
قبيلة، وعز من وراءكم، فإن تزهدوا فى الدنيا وترغبوا فى الآخرة يجمع الله
لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرب ذلك أحدا إلى أجله، وأن تفشلوا وتهنوا
وتضعفوا تذهب ريحكم وتوبقوا آخرتكم.
وكتب سعد إلى أهل الرايات: إنى قد استخلفت عليكم خالد بن عرفطة، وليس
يمنعنى أن أكون مكانه إلا وجعى الذى كان يعودنى، وما بى من جبون، وإنى مكب
على وجهى وشخصى لكم باد، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه إنما يأمركم بأمرى،
ويعمل برأيى. فقرئ على الناس فزادهم خيرا، فانتهوا إلى رأيه، وقبلوا منه،
وتحاثوا على السمع والطاعة، وأجمعوا على عذر سعد والرضا بما صنع.
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 531، 532) .
(2/467)
قالوا: وأرسل سعد للذين انتهى إليهم رأى
الناس، والذين انتهت إليهم نجدتهم، وأصناف الفضل منهم إلى الناس، فقال:
انطلقوا فقوموا فى الناس بما يحق عليكم وعليهم عند مواطن البأس، فإنكم من
العرب بالمكان الذى أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم
ونجدتهم وسادتهم، فسيروا فيهم، وحرضوهم على القتال.
فساروا فيهم.
فقال قيس بن هبيرة: أيها الناس، احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم
يزدكم، واذكروا آلاء الله، وارغبوا إليه فى عادته، فإن الجنة والغنيمة
أمامكم، وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء، والأرض القفر، والظراب الخشن،
والفلوات التى لا تقطعها الأدلة.
وقال غالب بن عبد الله الليثى: أيها الناس، احمدوا الله على ما أبلاكم،
وسلوه يزدكم، وادعوه يجبكم، يا معشر معد، ما علتكم اليوم وأنتم فى حصونكم،
يعنى الخيل، ومن لا يعصيكم معكم، يعنى السيوف؟ فاذكروا حديث الناس فى غد،
فإنه بكم غدا يبدأ، وبمن بعدكم يثنى.
وقال ابن الهذيل الأسدى: يا معشر معد، اجعلوا حصونكم السيوف، وكروا عليهم
كأسود الجم، وتربدوا إليهم تربد النمور، وادرعوا العجاج، وثقوا بالله تعالى
وغضوا الأبصار، فإذا كلت السيوف فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه.
وقال بسر بن أبى رهم: احمدوا الله، وصدقوا قولكم بفعل، ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون، انصروا الله ينصركم، ولا يكونن شىء بأهون عليكم من الدنيا، فإنها
تأتى من تهاون بها، ولا تميلوا إليها فتهرب منكم.
وقال عاصم بن عمرو: يا معشر العرب، إنكم أعيان العرب، وقد صمدتم لأعيان
العجم، إنما تخاطرون بالجنة، ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونن على دنياهم أحوط
منكم على آخرتكم. لا تحدثن اليوم أمرا تكونون به شينا على العرب غدا.
وقال ربيع السعدى: يا معشر العرب، قاتلوا للدين والدنيا، سارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] ، فإن عظم الشيطان عليكم الأمر،
فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل.
وتقدم كل واحد من أولئك الذين بعثهم سعد من وجوه الناس بمثل هذا الكلام،
وتواثق الناس، وتعاهدوا، واهتاجوا لكل ما ينبغى لهم.
(2/468)
وفعل أهل فارس، فيما بينهم، مثل ذلك،
وتعاهدوا وتواصوا، واقترنوا بالسلاسل، وكان المقترنون ثلاثين ألفا.
وقال سعد للناس: الزموا مواقفكم، لا تحركوا شيئا حتى نصلى الظهر، فإذا
صليتم الظهر فإنى مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا، واعلموا أن التكبير لم يعطه
أحد قبلكم، وإنما أعطيتموه تأييدا، فإذا سمعتم الثانية فكبروا، ولتستتموا
عدتكم، فإذا كبرت الثالثة فكبروا، ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا ويطاردوا،
فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعا حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا: لا حول ولا
قوة إلا بالله العلى العظيم.
ويروى أنه لما نادى منادى سعد بالظهر، نادى رستم: أكل عمر كبدى أحرق الله
كبده علم هؤلاء حتى علموا.
وقيل: إن رستم قال نحوا من هذا عند ما نزل بين الحصن والعتيق، وقد أذن مؤذن
سعد الغداة، وراى الناس يتخشخشون، فنادى فى أهل فارس: أن اركبوا، فقيل له:
ولم؟
قال: أما ترون إلى عدوكم قد نودى فيهم فتخشخشوا لكم؟ فقال له رجل قد كان
رستم بعثه قبل ذلك عينا إلى عسكر المسلمين فانغمس فيهم وعرف حالهم، وانصرف
إليه: فأخبره أن ذلك تخشخشهم للصلاة. فقال رستم بالفارسية ما تفسيره: أتانى
صوت عند الغداة، وإنما هو عمر الذى يعلم الكلاب العقل، فلما سمع الأذان
بالصلاة قال: أكل عمر كبدى.
قالوا: ولما صلى سعد الظهر أمر غلاما كان عمر، رحمه الله، ألزمه إياه، وكان
من القراء، بقراءة سورة الجهاد، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها،
فقرأها على الكتيبة التى تليه، وقرئت فى كل كتيبة، فهشت قلوب الناس وعرفوا
السكينة مع قراءتها.
قال مصعب بن سعد: وكانت قراءتها سنة، يقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
عند الزحف، ويستقرئها، فعمل الناس بذلك.
قالوا: ولما فرغ القراء، كبر سعد فكبر الذين يلونه، وكبر بعض الناس بتكبير
بعض، فتخشخش الناس، ثم ثنى فاستتم الناس، ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا
القتال، وخرج أمثالهم من فارس، فاعتوروا الطعن والضرب، وخرج غالب بن عبد
الله الليثى وهو يقول:
قد علمت واردة المسالح ... ذات البنان واللبان الواضح
(2/469)
أنى سمام البطل المشايح ... وفارج الأمر
المهم الفادح
فخرج إليه هرمز، وكان من ملوك الباب، وكان متوجا، فأسره غالب أسرا، فجاء به
فأدخل إلى سعد، وانصرف غالب للمطاردة.
وذكر المدائنى أن رستم أمر هرمز فتقدم فى كتيبة، فشد عليه غالب وزهرة بن
جوية، فسبق إليه غالب فى خيل فقتله.
قالوا: وخرج عاصم بن عمرو وهو يقول:
قد علمت صفراء بيضاء اللبب ... مثل اللجين يتغشاه الذهب
أنى أمر إمرار السبب ... مثلى على مثلك يعديه الكثب
فطارد رجلا من أهل فارس، فهرب منه واتبعه، حتى إذا خالط صفهم والتقى بفارس
معه بغل، فترك الفارس البغل، واعتصم بأصحابه فحموه، واستاق عاصم البغل
والرحل، حتى آوى إلى الصف، وإذا الفارس خباز الملك، وإذا الذى كان معه لطف
الملك:
الأخبصة والعسل المعقد، فنفل ذلك سعد أهل موقف عاصم، وبعث إليهم ليأكلوه
وهم فى موقفهم.
وجال عمرو بن معدى كرب بين الصفين يحرض الناس، ويقول: إن الرجل من هذه
الأعاجم إذا ألقى من فرسه فإنما هو تيس.
قال قيس بن أبى حازم: فبينا هو كذلك يحرضنا إذ خرج إليه رجل من الأعاجم،
فوقف بين الصفين فرماه بنشابة فما أخطأت سية قوسه وهو متنكبها، فالتفت إليه
ثم حمل عليه، فاعتنقه، ثم أخذ بمنطقته فاحتمله فوضعه بين يديه، فجاء به حتى
إذا دنا منا كسر عنقه، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه، ثم ألقاه. وقال: هكذا
فافعلوا بهم. فقلنا:
من يستطيع يا أبا ثور أن يصنع كما تصنع؟.
وقال بعضهم: وأخذ سواريه ومنطقته ويلمق ديباج كانت عليه. ثم كتبت الكتائب
من هؤلاء وهؤلاء.
وذكر المدائنى أن رستم ظاهر يومئذ بين درعين، وقرب له فرس فنزا عليه، ولم
يمسه بيده، وقال: اليوم ندق العرب دقا. فقال له رجل: قل إن شاء الله. قال:
إن شاء وإن لم يشأ، وقدم كتيبة عليها الدروع والمغافر والأداة الكاملة،
فدفعوا إلى جعفى، وهم حديثو عهد بالشرك، فنازلوهم فلم تحك سيوفهم فى جنبهم،
فظنوا أن الحديد لا يحك فيهم،
(2/470)
حتى حمل رجل منهم على أسوار فطعنه فقتله،
ونادى: يا آل جعفى، السلاح تنفد فيهم فشأنكم بهم، ونحو هذا قول عمرو بن
معدى كرب فى ذلك اليوم، وقد رماه رجل من أهل العجم بنشابة، فوقعت فى كتفه،
وعليه درع حصينة، فلم تنفد، وحمل هو على الرجل فعانقه ثم صرعه قفتله، وقال:
أنا أبو ثور وسيفى ذو النون ... أضربهم ضرب غلام مجنون
يا زيد إنهم يموتون
ولم يكن عمرو ولا قومه يجهلون أن القوم يموتون، ولكنه الشعر تحسن فيه هذه
المآخذ، ويملح بهذه المقاصد.
ومثله قول الآخر:
القوم أمثالكم لهم شعر ... فى الرأس لا ينشرون إن قتلوا
ويفوق هذا كله قول الله سبحانه، ولكتابه المثل الأعلى: وَلا تَهِنُوا فِي
ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ
كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ
عَلِيماً حَكِيماً [النساء: 104] . وقد بعدنا عما كنا بسبيله، فلنعد إليه.
قالوا: لما كتبت الكتائب بعد الطراد، وتزاحف الناس، صرفت الأعاجم فيولها
نحو المسلمين، فوجهت إلى الوجه الذى فيه بجيلة ثلاثة عشر فيلا، وصفوا على
سائر الناس سبعة عشر، ولما حمل أصحاب الفيلة تفرقت الكتائب، وابذعوت الخيل،
وكادت بجيلة تؤكل، فرت خيلها نفارا، فأرسل سعد إلى بنى أسد: يا بنى أسد
ذببوا على بجيلة ومن لافها من الناس، فخرج طليحة بن خويلد، وحمال بن مالك
الأسدى وغالب بن عبد الله والرفيل بن عمرو فى كتائبهم فباشروا الفيلة، حتى
عزلها ركبانها، وإن على كل فيل يومئذ عشرين رجلا.
وقال موسى بن طريف: قام طليحة فى قومه حين استصرخهم سعد، فقال: يا عشيرتاه،
إن المنوه باسمه، الموثوق به، أنتم، وإن هذا، يعنى سعدا، لو علم أن أحدا
أحق بإغاثة هؤلاء منكم لاستغاثهم، ابدؤهم الشدة، وأقدموا عليهم إقدام
الليوث الحربة، فإنما سميتم أسدا لتفعلوا فعلهم، شدوا ولا تصدوا، وكروا ولا
تفروا، لله در ربيعة أى فرى يفرون وأى قرن يغنون هل يوصل إلى مواقفهم
فأغنوا عن مواقفكم أعانكم الله، شدوا عليهم باسم الله. فقام المعرور بن
سويد وشقيق، فشدوا والله عليهم فما زالوا يضربونهم
(2/471)
ويطعنونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم، وخرج إلى
طليحة عظيم منهم فبارزه، فما ألبثه طليحة أن قتله.
قالوا: وقام الأشعث بن قيس، فقال: يا معشر كندة، لله در بنى أسد أى فرى
يفرون وأى هذ يهذون عن موقفهم منذ اليوم أغنى كل قوم ما يليهم، وأنتم
تنظرون من يكفيكم البأس، أشهد ما أحسنتم أسوة إخوانكم من العرب، وأنهم
ليقتلون ويقتلون، وأنتم جثاة على الركب، فوثب إليه منهم عشرة، فقالوا: عثر
جدك إنك لتؤبسنا يا هذا، نحن أحسن الناس موقفا! فمن أين خذلنا قومنا العرب
وأسأنا أسوتهم؟ فها نحن معك، فنهد ونهدوا، فأزالوا الذين بإزائهم.
ولما رأى أهل فارس ما تلقى من كتيبة بنى أسد رموهم بحدهم؛ وبدر المسلمون
الشدة عليهم، وهم ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس،
فيهم ذو الحاجب والجالينوس، على بنى أسد ومعهم تلك الفيلة، وقد ثبتوا لهم،
وكبر سعد التكبيرة الرابعة، فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على بنى
أسد، وحملت الفيول فى الميمنة والميسرة على الخيول، فكانت الخيول تحجم عنها
وتحيد، وألح فرسانهم على الرجل، وجد المقاتلة مع الفيلة، فقال بعض
الأسديين: والله لأموتن أو لأطعنن عينى بعض هذه الفيلة، فقصد لأعظمها فيلا
فقاتل حتى وصل إليه، وعلى كل فيل قوم يقاتلون، فطعن فى عين ذلك الفيل
بسيفه، وضربه سائس الفيل بعمود فهشم وجهه، وأدبر الفيل فخبط من حوله، واشتد
القتال عند فيل منها، فقال حبيش الأسدى لبشر بن أبى العوجاء الطائى: أرى
القتال قد اشتد عند هذا الفيل، فتبايعنى على الموت فنحمل على حماته فنكشفهم
أو نقتل دونه. قال: نعم، فحملا فضرب حبيش رجلا من الفرس من حماة الفيل
فقتله، ودنوا من الفيل، فضرب حبيش مشفره فرمى به وضرب الطائى ساقه فبرك
الفيل، وانطوت الفرس على بنى أسد، فقتل حبيش.
وأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو، فقال: يا معشر بنى تميم، ألستم أصحاب الإبل
والخيل؟ أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة، قالوا: بلى والله، ثم نادى عاصم فى
رجال من قومه رماة وأخر أهل ثقافة، فقال: يا معشر الرماة، ذبوا ركبان
الفيلة عنا، ويا معشر أهل الثقافة، استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها، وخرج
يحميهم والرحى دائرة على بنى أسد، وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد،
وأقدم أصحاب عاصم على الفيلة، فأخذوا بأذنابها وذباب توابيتها فقطعوا
وضنها، فما بقى لهم يومئذ فيل إلا أعرى، وقتل أصحابها، وتقاتل الناس ونفس
عن بنى أسد، وردوا عنهم الفرس إلى مواقفهم، فاقتتلوا حتى غربت
(2/472)
الشمس. ثم حتى ذهبت هدأة من الليل، ثم رجع
هؤلاء وهؤلاء، وأصيب من بنى أسد تلك العشية خمسمائة، وكانوا ردآ للناس،
وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم، فهذا يوم القادسية الأول، وهو يوم أرماث.
وقال عاصم بن عمرو التميمى فى ذلك:
ألم يأتيك والأنباء تسرى ... بما لاقيت فى يوم النزال
ولما أن تزايل مقرفوهم ... عصينا القوم بالأسل الطوال
وعريت الفيول من التوابى ... وعطلت الخيول من الرجال
ولولا ذبنا عمن يلينا ... للج الجمع فى فعل الضلال
حمينا يوم أرماث حمانا ... وبعض القوم أولى بالحمال
وقال عمرو بن ساس الأسدى:
فلا وأبيك لا ينفك فينا ... من السادات حظ ما بقينا
ألسنا المانحين لدى قديس ... جموع الفرس مرداة طحونا
ولسنا مثل من لا طرق فيه ... ولكن غثنا يلفى سمينا
ونحن إذا يريح الليل أمرا ... يهم الناس عصمة من يلينا
ومرقصة منعناها إذا ما ... رأت دون المحافظة التقينا
نذكرها إذا ولهت بنيها ... ونحميها إذا نحمى بنينا
إذا افترش النواحى بالنواحى ... وكان القوم فى الأبدان جونا
إذا ثار الغبار كأن فيه ... إذا اصطفت عجاجته طحينا
وقد علمت بنو أسد بأنا ... نضارب بالسيوف إذا غشينا
ونحن فوارس الهيجا إذا ما ... رأيت الخيل مسندة عرينا
وذكر المدائنى خبر هذا اليوم، وقد أورد كثيرا مما أورده، فى تضاعيف الأخبار
المتقدمة وفى بعض ما ذكره أن المسلمين هم الذين عبروا إلى الفرس، خلافا لما
تقدم ذكره: أنه لما عزم الفريقان على اللقاء أرسل سعد إلى جرير والمغيرة
وحنظلة، فقال:
إنكم قد أصبحتم فى دار قد أذل الله لكم أهلها، فأنتم تطئونهم منذ سنين، وقد
أتوكم فى جمع لا أظنهم يريدون أن يزايلوكم حتى يفصل بينكم، ولستم وهم سواء
فى دنيا تقاتلون عنها، وقد خلفوا مثلها، فإن فروا فروا إلى مثلها وأنتم
تقاتلون عن دينكم، فإن فررتم فررتم عنه إلى فيافى لا خير فيها، وأنتم غرر
قومكم، إنكم إن ظهرتم عليهم كان لكم أبناؤهم ونساؤهم، وإن تواكلتم لم يبقوا
منكم باقية مخافة أن تعودوا عليهم،
(2/473)
والأرض من وراءكم قفر بسابس، ليس لكم فيها
معقل ولا ملجأ، فاتقوا الله واصبروا، وحضوا المسلمين وواسوهم وتنجزوا موعود
الله، فإنه قال: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ
أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] ، وقد
وليت الحرب خالد بن عرفطة، فالزموا السمع والطاعة، ولا تهنوا ولا تفشلوا
فتذهب ريحكم، فخرجوا من عند سعد وقد استعد المشركون لقتالهم، وهم وقوف
يهابون العبور والإقدام، فأرسل سعد إلى الناس: لا تعبروا حتى آذن لكم، وقد
أخذ الناس العدة للقتال، فوقفوا ينتظرون الإذن من سعد، وحض رؤساء القبائل
عشائرهم، فلما طال وقوفهم ولم يأتهم إذن سعد، قال جرير بن عبد الله: أيها
الناس، ما تنتظرون، أما تريدون أن تقاتلوهم إن لم يقاتلوكم، وعبر النهر فى
بجيلة، فقال قيس بن مكشوح: يا معشر مذحج، قد تقدمكم إخوانكم فسابقوهم، فو
الله لا يسبق أحد اليوم إلا أعطاه الله غدا على قدر سبقه فى الدنيا، وعبر
قيس، وعبر بعده عمرو بن معدى كرب، وقال زهرة بن جوية: يا بنى تميم، ما
تنتظرون وقد مضى إخوانكم، وعبروا، واتبع الناس بعضهم بعضا. فقال سعد: اللهم
إنهم عبروا ولم يستأمرونى فاقض لهم بالنصر، فصف المسلمون، على ميمنتهم
شرحبيل بن السمط، وعلى ميسرتهم هاشم بن عتبة، وعلى الخيل قيس بن مكشوح،
وعلى الرجالة المغيرة بن شعبة، والمسلمون عشرة آلاف، ويقال ما بين السبعة
الآف إلى الثمانية، عامة جثهم براذع الرحال، قد عرضوا فيها الجريد يتسترون
بها، وعلى رؤسهم أنساع الرجال، يطوى الرجل نسعة رحله على رأسه، والمشركون
ستون ألفا، وقيل أكثر.
وظاهر رستم بين درعين، وقدم كتيبة عليهم الدروع والمغافر والأداة الكاملة،
فدفعوا إلى جعفى، وقد تقدم خبرهم، وأخرج رستم بعد ذلك كتيبة فيها
الجالينوس، فتقدم وقد اعتصب بعصابة ديباج، معه ترس مذهب، فتلقاه طليحة،
واختلفا ضربتين، فوقعت ضربة الجالينوس فى جحفة طليحة، ووقع سيف طليحة فى
رأس الجالينوس، فهشم البيضة وندرت عن رأسه وقد جرحه، فولوا منهزمين إلى
رستم، فعظموا أمر العرب ليعذرهم، وأخذ طليحة البيضة فنفلها، فكانت قيمتها
أربعمائة مثقال، وأقبل قيس بن مكشوح، يومئذ، فوقف على المغيرة فقال: ما
رأيت كاليوم عديدا ولا حديدا، فقال المغيرة: إن هذا زبد من زبد الشيطان،
والله جاعل بعضه على بعض، وحض المغيرة الناس وقال: إن الكلام عند القتال
فشل، فالزموا الصمت، ولا يزولن أحد منكم عن مركزه، فإذا حركت رايتى
فاحملوا، فقال له رجل: ما تنتظر؟ قال: اجلس، فقال رجل من بنى
(2/474)
مجاشع: الله أكبر، إنى لأرى الأرض من خلل
صفهم، فكبروا واحملوا، فقال له المغيرة:
اجلس، وأقبل المغيرة على قيس بن مكشوح فقال: احمل يا قيس فإنى حامل، ونكبنى
خيلك، لا أعرفنك إذا غلبت رجالى فيهم إن تجاوزها خيلك، فإذا عضك السلاح
رددتها على أعقابها فى وجوه رجالى، فيكون أشد عليهم من عدوهم، وهز المغيرة
رايته، وحمل، واتبعه قيس، فما وصلوا كتيبته حتى رجع فيهم طعنتين، فقال
طليحة: يا بنى أسد، ما تستحيون، الناس يقاتلون وأنتم وقوف، فحمل فقالت
امرأة من بنى أسد لبنيها وهم أربعة: يا بنى، والله ما نبت بكم دار ولا
أفحمتكم سنة، ولقد أسلمتم طائعين، وهاجرتم راغبين، وجئتم بأمكم عجوزا كبيرة
فوضعتموها بين يديى أهل فارس، فقاتلوا عن دينكم وأمكم، فو الله إنكم لبنو
رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، فاشهدوا أشد القتال، فحملوا، فقالت:
اللهم احفظ فىّ بنى.
وروى الشعبى أن هذه المرأة كانت من النخع، وذكر حديثها بنحو ما تقدم إلى
قولها: كما أنكم بنو امرأة واحدة، وزاد هاهنا: ما خنت أباكم، ولا فضحت
خالكم، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره، فأقبلوا يشتدون، فلما غابوا عنها
رفعت يديها إلى السماء وهى تقول: اللهم ادفع عن بنى، فرجعوا إليها وقد
أحسنوا القتال، فما كلم رجل منهم كلما.
قال الشعبى: فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء، فيأتون أمهم
فيلقونه فى حجرها، فترده عليهم، وتقسمه فيهم على ما يصلحهم.
وقد ذكر الزبير بن بكار نحو هذا عن الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية فى
بنين لها أربعة شهدت معهم حرب القادسية، فقالت لهم من أول الليل: يا بنى،
إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وذكرت من صونها لنسبهم نحو ما ذكر
قبل، ثم قالت لهم:
وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل فى حرب الكافرين،
واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا أصبحتم غدا إن شاء
الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين،
فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظاها على سباقها وجللت نارا
على أرواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام حميسها «1» ،
تظفروا بالغنم والكرامة فى دار الخلد والمقامة، فخرج بنوها قابلين لنصحها،
فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم، وأنشأ أولهم يقول:
__________
(1) الحميس: أى التنور.
(2/475)
يا إخوتى إن العجوز الناصحه ... قد نصحتنا
إذ دعتنا البارحه
مقالة ذات بيان واضحه ... فباكروا الحرب الضروس الكالحه
وإنما تلقون عند الصالحه ... من آل ساسان كلابا نابحه
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه ... وأنتم بين حياة صالحه
أو موتة تورث غنما رابحه
وتقدم فقاتل حتى قتل، رحمه الله، ثم حمل الثانى وهو يقول:
إن العجوز ذات حزم وجلد ... والنظر الأوفق والرأى السدد
قد أمرتنا بالسداد والرشد ... نصيحة منها وبرا بالولد
فباكروا الحرب حماة فى العدد ... إما لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عز الأبد ... فى جنة الفردوس والعيش الرغد
فقاتل حتى استشهد، رحمه الله، ثم حمل الثالث وهو يقول:
والله لا نعصى العجوز حرفا ... قد أمرتنا حدبا وعطفا
نصحا وبرا صادقا ولطفا ... فبادروا الحرب الضروس زحفا
حتى تلفوا آل كسرى لفّا ... وتكشفوهم عن حمالكم كشفا
فقاتل حتى استشهد، رحمه الله، وحمل الرابع وهو يقول:
لست لخنساء ولا لاخزم ... ولا لعمر وذى السناء الأقدم
إن لم أرد فى الجيش جيش العجم ... ماض على الهول خضم خضرم
إما لفوز عاجل ومغنم ... أو لوفاة فى السبيل الأكرم
فقاتل حتى قتل، رحمة الله عليه وعلى إخوته، فبلغ الخبر أمهم، فقالت: الحمد
لله الذى شرفنى بقتلهم، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته، فكان
عمر، رضى الله عنه، يعطى الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة، لكل واحد
مائتى درهم، حتى قبض، رحمه الله.
فهذا ما ذكره الزبير بن بكار، والذى قبله ذكره المدائنى، رحمهما الله، ولعل
الخبرين صحيحان، والله أعلم أى ذلك كان. ثم ذكر المدائنى، بعد، من حسن بلاء
بنى أسد وانطواء الفرس عليهم فى مجال الفيلة ما قد ذكرناه قبل فى موضعه.
وذكر، أيضا، أن الأشعث بن قيس قال عند ما اشتد قتالهم: لله در بنى أسد، أى
فرى يفرون، وأنتم تنظرون، يا معشر كندة.
(2/476)
وقال زهرة بن جوية: يا بنى تميم، قد صبر
إخوانكم من بنى أسد، وأحسنوا فذودوا عنهم الفيلة وحماتها، فحمل زهرة فى بنى
تميم، وجرير فى بجيلة، فكشفوا المشركين عن بنى أسد، وقد استشهد منهم خمسون
رجلا، وتحاجزوا قريبا من العصر، فجمعوا بين الصلاتين ثم عاودوا القتال
مطاردة ومشاولة حتى غابت الشمس.
والتقى حنظلة بن الربيع الأسيدى ذو الحاجب فاختلفا طعنتين، فصارا جميعا إلى
الأرض، فضرب حنظلة ذا الحاجب على رأسه فصرعه، فحامت عنه الأساورة، حتى ركب،
وحامى عن حنظلة القعقاع بن عمرو، أحد بنى يربوع، وذريح، أحد بنى تيم اللات،
حتى ركب، فقال ذريح:
لما رأيت الخيل شك نحورها ... رماح ونشاب صبرت جناحا
على الموت حتى أنزل الله نصره ... وود جناح لو قضى فأراحا
كأن سيوف الهند حول لبانه ... بوارق غيث من تهامة لاحا
قال: وأصيبت يومئذ عين المغيرة بن شعبة، وتحاجزوا حين أمسوا، فرجع المسلمون
إلى عسكرهم، ورجع رستم إلى عسكره. هذا ما ذكره المدائنى.
ويقال: إن القعقاع لم يشهد يوم أرماث هذا، وإنما قدم من الشام بعد انقضائه،
فشهد سائر الأيام وأبلى فيها، وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله.
وذكر سيف عن بعض رجاله أن سعدا كان قد تزوج سلمى بنت خصيفة، امرأة المثنى
بن حارثة، كما تقدم، فنزل بها القادسية، فلما كان يوم أرماث، وجال الناس،
جعل سعد يتململ ويجول فوق القصر، وكان لا يطيق جلوسا إلا على بطنه، فلما
رأت سلمى ما يصنع أهل فارس قالت: وامثنياه ولا مثنى للخيل اليوم، وهى عند
رجل قد أضجر ما يرى من أصحابه ومن نفسه، فلطم وجهها، وقال: أين المثنى من
هذه الكتيبة التى تدور عليها الرحى!، يعنى أسدا، وعاصما، فقالت: أغيرة
وجبنا؟ قال: والله لا يعذرنى أحد اليوم إذا أنت لم تعذرينى وأنت ترين ما
بى، فالناس أحق ألا يعذرونى!.
فلما ظهر المسلمون لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه، وكان غير جبان ولا ملوم،
رضى الله عنه.
وكانت القادسية فى شوال سنة خمس عشرة، وابتداء أيامها يوم الاثنين لثلاث
ليال خلون من شوال أو لأيام بقين منه، وقيل كانت فى المحرم سنة أربع عشرة،
والأول أصح وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى.
(2/477)
ذكر اليوم الثانى من أيام القادسية، وهو
يوم أغواث
قالوا «1» : ولما أصبح الناس من الغد، يعنون الغد من يوم أرماث، أصبحوا على
تعبئة، وقد وكل سعد رجالا بنقل الشهداء إلى العذيب ونقل الرثيث. فأما
الرثيث فأسلموا إلى النساء يقمن عليهم حتى يقضى الله فيهم قضاءه، وأما
الشهداء فليدفنوهم هنالك على مشرق، واد بين العذيب وبين عين شمس فى عدوتيه
جميعا، وفى ذلك يقول سعد، رحمه الله:
جزى الله أقواما بجنب مشرق ... غداة دعا الرحمن من كان داعيا
جنانا من الفردوس والمنزل الذى ... يحل به ذو الخير ما كان باقيا
وانتظر الناس بالقتال حمل الرثيث والأموال، فلما استقلت بهم الإبل موجهة
نحو العذيب طلعت عليهم نواصى الخيل من نحو الشأم، وكان عمر، رضى الله عنه،
قد أمر أبا عبيدة بن الجراح لما انقضى شأن اليرموك وفتح دمشق بصرف أهل
العراق أصحاب خالد الذين قدم بهم عليه إلى العراق، ولم يذكر له عمر خالدا،
فضن أبو عبيدة بخالد فحبسه، وقد قيل إن عمر أمر بحبسه، فأمسكه وسرح الجيش
وهم ستة آلاف، ألف من أبناء العرب من أهل الحجاز، وسائرهم من ربيعة ومضر،
وأمر عليهم هاشم بن عتبة بن أبى وقاص «2» ، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو،
أى التميمى، فجعله أمامه، وجعل على إحدى مجنبتيه قيس بن مكشوح المرادى «3»
، ولم يكن شهد الأيام، وإنما أتاهم وهم باليرموك حين صرف أهل العراق فصرف
معهم، وعلى المجنبة الأخرى الهزهاز بن عدى العجلى، فطوى القعقاع وتعجل،
فقدم على الناس صبيحة يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه أن ينقطعوا أعشارا،
وهم ألف، فكلما بلغ عشرة مد البصر سرح فى آثارهم عشرة، وتقدم هو فى عشرة،
فأتى الناس فسلم عليهم، وبشرهم بالجنود، وقال: يا أيها الناس، إنى قد جئتكم
فى قوم، والله لو كانوا بمكانكم، ثم أحسوكم لحسدوكم حظوتها، وحاولوا أن
يطيروا بها دونكم، فاصنعوا كما أصنع، فتقدم ثم نادى: من يبارز؟ فسكن الناس
إليه، وقالوا لقول أبى بكر الصديق، رضى الله عنه: لا يهزم جيش
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 542) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8934) ، أسد الغابة ترجمة رقم
(5328) ، العبر (1/ 39) ، طبقات خليفة (831) ، مروج الذهب (3/ 130) ، تاريخ
بغداد (1/ 196) ، مرآة الجنان (1/ 101) ، العقد الثمين (7/ 359) ، شذرات
الذهب (1/ 46) .
(3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7329) ، طبقات ابن سعد (5/ 525) ،
المحبر (261) ، معجم الشعراء (198) ، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 64) ،
شذرات الذهب (1/ 46) .
(2/478)
فيهم مثل القعقاع، فخرج إليه ذو الحاجب،
فقال له القعقاع: من أنت؟ فقال: أنا بهمن جاذويه، فنادى: يا لتارات أبى
عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر. فاجلتدا، فقتله القعقاع، وجعلت خيله ترد
قطعا، وما زالت ترد إلى الليل وتنشط الناس، وكأن لم تكن بالناس مصيبة،
كأنما استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبى وبلحاق القطع، وانكسرت الأعاجم لذلك.
وكان أول القتال قبل أن يقدم القعقاع المطاردة، فلما قدم قال: أيها الناس
اصنعوا كما أصنع، فنادى: من يبارز؟ فبرز له ذو الحاجب فقتله، وآخر فقتله،
وخرج الناس من كل ناحية، وبدأ الضرب والطعان، ونادى القعقاع، أيضا: من
يبارز؟ فخرج إليه رجلان، أحدهما البيزران والآخر البندوان، فانضم إلى
القعقاع الحارث بن ظبيان، أحد بنى تيم اللات، فبارز القعقاع البيزران،
فضربه فأذرى رأسه، وبارز ابن ظبيان البندوان، فضربه فأذرى رأسه، وحمل بنو
عم القعقاع، يومئذ، عشرة عشرة من الرجال، على إبل قد ألبسوها، فهى مجللة
مبرقعة، وأطافت بهم خيولهم، وأمروا أن تحمل تلك الإبل على خيل الفرس يشبهون
بالفيلة التى أرسلت عليهم الفرس بالأمس، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا
لكثير إلا نفرت بهم خيلهم، وركبتهم خيول المسلمين. فاستنوا بهم، فلقى أهل
فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقى المسلمون من الفيلة يوم أرماث.
ولم يقاتلوا فى هذا اليوم على فيل، كانت توابيتها قد تكسرت بالأمس،
واستأنفوا علاجها حين أصبحوا فلم ترتفع حتى كان من الغد، ولم ير أهل فارس
فى هذا اليوم شيئا يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل.
وقالوا: قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين جملة، كلما حمل حملة قتل فيها، وآزر
القعقاع، يومئذ، ثلاثة من بنى يربوع، وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر
المسلمون ويحمل ويحملون، وقدم ذلك اليوم رسول لعمر، رضى الله عنه، بأربعة
أفراس، وأربعة أسياف ليقسمها سعد فيمن انتهى إليه البلاء، إن كان لقى حربا،
فدعا حمال بن مالك والرفيل بن عمرو بن ربيعة الوالبيين وطليحة بن خويلد
الفقعسى «1» ، وكلهم من بنى أسد، وعاصم بن عمرو التميمى»
، فأعطاهم الأسياف، ودعا القعقاع بن عمرو
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4309) ، تاريخ خليفة (102، 103،
104) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2641) ، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 254، 255)
، دول الإسلام (1/ 17) ، تاريخ الإسلام (2/ 41) ، العبر (1/ 26) ، شذرات
الذهب (1/ 32) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4374) .
(2/479)
التميمى واليربوعيين وهم: نعيم بن عمرو بن
عتبان وعتاب بن نعيم بن عتاب، وعمرو ابن شبيب بن زنباع، أحد بنى زيد،
فحملهم على الأفراس، فأصاب ثلاثة من بنى يربوع ثلاثة أرباعها، وأصاب ثلاثة
من بنى أسد ثلاثة أرباع السيوف، فقال الرفيل فى قطعة يذكر السيوف:
لقد علم الأقوام أنى أحقهم ... إذا حصلوا بالمرهفات البواتر
وقال القعقاع فى شأن الخيل:
ولم تعرف الخيل العرب سواءنا ... عشية أغواث بجنب القوادس
وذكر المدائنى حرب هذا اليوم فخالف بعض ما تقدم، وقال: إن الناس لما أصبحوا
غداة الثلاثاء عبر رستم إلى المسلمين بجنوده وفيلته من حين طلعت الشمس إلى
قريب من نصف النهار، وأخذوا عدة الحرب، وصافهم المسلمون، وعلى الميمنة عبد
الله بن المعتم، وعلى الميسرة هاشم بن عتبة، وعلى الخيل المغيرة بن شعبة،
وعلى الرجالة سلمة بن حديم، فقال سعد بن عبيد الأنصارى: يا أيها الناس، إن
الدنيا دار زوال وفتنة، وأنتم منقلبون إلى دار الجزاء، فلا يكونن شىء أحب
إليكم من فراقها، فإن ما عند الله خير للأبرار، وتقدم أمام الناس، فبرز له
شهريار السجستانى، فقتل كل واحد منهما صاحبه، ثم طاردت الفرسان واقتتلوا
حتى زالت الشمس، وتحاجزوا، وصلى المسلمون ثم عادوا إلى مصافهم، فنصل من
عسكر المشركين رجل يسأل المبارزة، فبرز له زهرة بن جوية فقتله، وحمل فوارس
من المشركين على زهرة فعقروا به، وندر سيفه من يده، فقاتلهم راجلا يحثو فى
وجوههم التراب حتى توافت إليه خيل المسلمين، فكشفوهم عنه، وقد ذهبوا بسيفه،
فقال:
فإن تأخذوا سيفى فإنى محرب ... خروج من الغماء محتضر النصر
وإنى لحام من وراء عشيرتى ... أطاعن فيهم بالمثقفة السمر
وقد روى غير المدائنى هذا الشعر والخبر للأعرف بن الأعلم العقلى فى هذا
اليوم.
وقال عمرو بن معدى كرب لقومه: يا بنى زبيد، إنى مخالط الجمع، فانظرونى قدر
نحر جزور وتعسيرها، ثم اطلبونى، فإنكم تجدونى وسيفى فى يدى أقاتل به قدما
لا أزول، وفى رواية: فإن تأخرتم عنى فقد فقدتم أبا ثور، وأين لكم مثل أبى
ثور، وحمل حتى خالطهم، فستره الغبار، فقال بعض الزبيديين: أيا بنى زبيد،
علام تدعون صاحبكم وقد توسط جمع المشركين، والله ما أرى أن تدركوه حيا، وإن
فقدتموه فقد المسلمون
(2/480)
فارسهم، فحملوا وحمل الناس حملة واحدة
فانتهوا إليه وقد رمى فرسه بنشابة فسب فصرعه وعار، وأخر عمرا عنه المشركون،
وذلك بعد ما طعنوه، وإن سيفه لفى يده يضاربهم به.
فلما رأى أصحابه أخذ برجل فرس أسوار فاحتبسه، وإن الفارسى ليضرب فرسه فما
يتحرك، فلما غشيه الجمع رمى بنفسه وخلا فرسه فركبه عمرو، وقال: أنا أبو ثور
كدتم تفقدوننى، وثبت عمرو يقاتل فارسا وراجلا، إذا قاتل راجلا شد مقود فرسه
فى وسطه وقاتل.
وتزاحف الناس فقال رجل من المسلمين لرجل من الأنصار: أعرنى ترسك، قال: ما
بى عنه غنى، ولكن أى أتراس العجم تريد أتيتك به إن شاء الله، فأشار له إلى
ترس مذهب، فحمل فلم يزل يقاتل حتى خلص إلى صاحب الترس فقتله واستلب ترسه،
فأتى به صاحبه، فقال: دونك.
وصار الناس إلى السيوف، فقاتلوا حتى أعتموا وتحاجزوا عند العتمة عن قتلى
وجرحى كثير فى الفريقين، وقتل يومئذ رجل من طيئ يكنى أبا كعب رجلا من
المشركين، وأخذ قلنسوته فلبسها، وأقبل يعدو به فرسه وهو يقاتل، فنظر إليه
رجل من بجيلة يقال له مضرس، وهو يقاتل، فظن أنه من الفرس فطعنه، فقال: بسم
الله، قتلتنى، فقال مضرس: إنا لله وعانقه، فقال: غفر الله لك يا أخى، فبكى
مضرس واحتمل أبو كعب، فقال سعد: الشهادة لا تقاد، ولا كل ميتة مظنون غيرها،
ولكن من أحب أخذ الدية، فكان مضرس يأتيه يعوده فيبكى حتى تبل دموعه لحيته،
ويقول أبو كعب: غفر الله لك يا أخى.
وقال أبو كعب:
لعمرى لقد ثارت رماح مضرس ... بعلج هوى فى الصف من آل فارس
ثم مات أبو كعب بعد أيام من تلك الطعنة، وصفح وليه عن الدية.
ويروى أنه عرض مثل هذا بعينه لرجل آخر من طيئ، أيضا، يقال له: بجير بن
عميرة، وكان أحمر شبيها بالعجم، فاستلب رجلا من أهل فارس رايته فأقبل بها،
فبصر به رجل من كندة يدعى فروة، فحمل عليه فطعنه، فأصاب مقتله، فنادى بجير:
بسم الله، فاعتنقه فروة، فأتيا سعدا فقال لهما: إن الشهادة لا ثواب لها فى
الدنيا، ولكن كفوا العجلات.
(2/481)
وخرج يومئذ رجل من أهل فارس ينادى: من
يبارز، فبرز له علباء بن جحش العجلى، فبعجه علباء، فأصاب سحره، وبعج
الفارسى علباء فخرق أمعاءه، وخرا جميعا، فأما الفارسى فمات من ساعته، وأما
الآخر فانتثرت أمعاؤه، فلم يستطع القيام، فعالج ادخالها فلم يتأت له حتى مر
به رجل من المسلمين فقال له: يا هذا أعنى على بطنى، فأدخله له، فأخذ
بصفاقيه ثم زحف نحو صف فارس ما يلتفت إلى المسلمين، فأدركه الموت على رأس
ثلاثين ذراعا من مصرعه إلى صف فارس. فقال:
أرجو بها من ربنا الثوابا ... قد كنت ممن يحسن الضرابا
قالوا «1» : وقاتلت الفرسان يوم الكتائب فيما بين أن أصبحوا إلى انتصاف
الليل، فكانت ليلة أرماث تدعى ليلة الهدأة، وليلة أغواث تدعى ليلة السواد،
والنصف الأول يدعى السواد، ثم لم يزل المسلمون يرون فى يوم أغواث الظفر على
فارس، وقتلوا فيه عامة أعلامهم، وجالت فيه خيل القلب، وثبت رجلهم، فلولا أن
خيلهم كرت أخذ رستم أخذا، فلما ذهب السواد تفايأ الناس وباتوا على مثل ما
بات القوم عليه ليلة أرماث، ولم يزل المسلمون ينتمون لدن أمسوا إلى أن
تفايأوا.
فلما أمسى سعد وسمع ذلك نام، وقال لبعض من عنده: إن تم الناس على الانتماء
فلا توقظونى، فإنهم أقوياء على عدوهم، وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا
توقظونى، فإنهم على التساوى، فإن سمعتم ينتمون فأيقظنى، فإنما انتماؤهم من
السوء.
قالوا «2» : ولما اشتد القتال بالسواد، وكان أبو محجن قد حبس وقيد، فهو فى
القصر، صعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله، فزبره سعد ورده فنزل، وأتى
سلمى بنت خصفة، فقال لها: يا بنت خصفة، هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال:
تخلين عنى وتعيرننى البلقاء، فالله علىّ إن سلمنى الله أن أرجع إليك حتى
أضع رجلى فى قيدى، وإن أصبت وخشيت هذا فما أكثر من يفلت ويجرب صاحبه.
فقالت: وما أنا وذاك فرجع يرسف فى قيوده ويقول:
كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا علىّ وثاقيا
إذا قمت عنانى الحديد وأغلقت ... مصاريع من دونى تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركونى واحدا لا أخا ليا
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 546، 547) .
(2) انظر: الطبرى (3/ 548- 550) .
(2/482)
ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت أن لا
أزور الحوانيا «1»
فقالت سلمى: إنى استخرت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته، وقالت: أما الفرس فلا
أعيرها، ورجعت إلى بيتها، فاقتاد أبو محجن الفرس فأخرجها من باب القصر الذى
يلى الخندق فركبها، قيل بسرجها، وقيل: عريا، ثم ذبب عليها حتى إذا كان
بحيال الميمنة كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين،
ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة، فكبر وحمل على ميمنة القوم، يلعب بين
الصفين برمحه وسلاحه، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبرز أمام الناس،
فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا
منكرا ويعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النهار، فقال بعضهم:
أوائل أصحاب هاشم بن عتبة أو هاشم نفسه.
وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكب من فوق القصر: والله لولا محبس أبى
محجن الثقفى لقلت: إن هذا أبو محجن وهذه البلقاء. وقال بعض الناس: إن كان
الخضر يشهد الحروب فنظن أن صاحب البلقاء الخضر، وقال آخرون: والله لولا أن
الملائكة لا تباشر القتال لقلنا: ملك بيننا، ولا يذكر الناس أبا محجن ولا
يأبهون له، لمبيته فى محبسه، فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس وتراجع
المسلمون، وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج، فوضع عن نفسه وعن دابته،
وأعاد رجله فى قيده، وقال:
لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنا نحن أكثرهم سيوفا
وأكثرهم دروعا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنا وفدهم فى كل يوم ... فإن عيوا فسل بهم عروفا
وليلة قادس لم يشعروا بى ... ولم أشعر بمخرجى الزحوفا
فإن أحبس فذلكم بلائى ... وإن ترك أذيقهم الحتوفا
فقالت له سلمى: فى أى شىء حبسك هذا الرجل؟ قال: أما والله ما حبسنى لحرام
أكلته ولا شربته، ولكنى كنت صاحب شراب فى الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب
الشعر فى لسانى، وينبعث على شفتى، فيساء لذلك ثنائى، فعلى ذلك حبسنى. قلت:
إذا مت فادفنى إلى جنب كرمة ... تروى عظامى بعد موتى عروقها
ولا تدفنى بالفلاة فإننى ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
__________
(1) انظر الأبيات فى: الأغانى للأصفهانى (21/ 139، 140) ، مروج الذهب
للمسعودى (1/ 528- 530) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 330) .
(2/483)
ولم تزل سلمى مغاضبة لسعد عشية أرماث،
وليلة السواد، حتى إذا أصبحت أتته فصالحته وأخبرته خبرها وخبر أبى محجن،
فدعا به فأطلقته، وقال: اذهب فما أنا بمؤاخذك بشىء تقوله حتى تفعله، قال:
لا جرم، والله لا أجيب لسانى إلى صفة قبيح أبدا.
حديث يوم عماس، وهو اليوم الثالث من أيام القادسية
قالوا «1» : وأصبح المسلمون من اليوم الثالث، وهم على مواقفهم، وأصبحت
الأعاجم كذلك، وبين هؤلاء وهؤلاء قدر ميل فى عرض ما بين الصفين، وقد قتل من
المسلمين ألفان بين رثيث وميت، ومن المشركين عشرة آلاف. وقال سعد: من شاء
غسل الشهيد الميت والرثيث، ومن شاء فليدفنهم بدمائهم، وجعلهم المسلمون وراء
ظهورهم، وأقبل الذين يحملونهم إلى القبور، يتبعون القتلى ويبلغون الرثيث
إلى النساء، وكان النساء والصبيان يحفرون المقابر فى اليومين: يوم أرماث
ويوم أغواث، بعدوتى مشرق، وكان فى الطريق أصل نخلة بين القادسية والعذيب،
ليس بينهما يومئذ نخلة غيرها، فكان الرثيث إذا انتهى بهم إليها وأحدهم يعقل
سألهم أن يقفوا به تحتها يستروح إلى ظلها، فمر حاجب بن يزيد، وكان على
الشهداء بتلك النخلة مع بعض الشهداء بتلك النخلة مع بعض الشهداء وولاتهم،
ورجل من الجرحى من طيئ يدعى يقول وهو مستظل بظلها:
ألا يا اسلمى يا نخلة بين قادس ... وبين العذيب لا يجاورك النخل
وآخر من بنى ضبة أو من بنى ثور يدعى غيلان، وهو يقول:
ألا يا اسلمى يا نخلة فوق جرعة ... يجاورك الجمان والرمث والرغل
قالوا «2» : وبات القعقاع ليلته كلها يسرب أصحابه إلى المكان الذى فارقهم
فيه بالأمس، ثم قال: إذا طلعت لكم الشمس، فأقبلوا مائة مائة، وكلما توارت
عنكم مائة فليتبعها مائة، فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدا،
ففعلوا، ولا يشعر بذلك أحد، وكان مكانهم مما صنع الله للمسلمين، فلما ذر
قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل، طلعت نواصيها، فكبر وكبر الناس، وقالوا:
جاء المدد.
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 550) .
(2) انظر: الطبرى (3/ 551، 552) .
(2/484)
وقد كان عاصم بن عمرو أمر أن يصنع مثلها،
فجاؤا من قبل خفان، فتقدم الفرسان وتكتبت الكتائب، فاختلف الطعن والضرب،
ومدد المسلمين متتابع، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم،
وقد طوى فى سبعمائة، فأخبروه برأى القعقاع وما صنع فى يومه، فعبأ أصحابه
سبعين سبعين، فلما نجز آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم فى سبعين معه، فيهم قيس
بن هبيرة المرادى، وهو ابن المكشوح، فأقبل هاشم حتى إذا خالط القلب، كبر
وكبر المسلمون، وقد أخذوا مصافهم، وقال هاشم:
أول القتال المطاردة ثم المراماة، فأخذ قوسه، فوضع سهما ثم نزع فرفعت فرسه
رأسها، فخل أذنيها، فضحك وقال: وا سوأتاه من رمية رجل ينتظره كل من رآه،
أين ترون سهمى كان بالغا؟ فقيل: العتيق. فنزقها وقد نزع السهم عن أذنيها،
ثم ضربها حتى وقفت على العتيق، ثم ضربها فأقبلت تخرقهم حتى عاد إلى موقفه،
وقيل: إنه نزل عن فرسه وفعل ذلك راجلا، فالله أعلم.
وما زالت مقانبه تطلع وقد بات المشركون فى علاج توابيتهم حتى أعادوها على
الفيلة، فأصبحوا على موافقهم، وأقبلت الفيلة معها الرجالة يحمونها أن تقطع
وضنها، ومع الرجالة فرسان يحمونهم، إذا أرادوا كتيبة دلفوا إليها بفيل
وأتباعه، لينفروا بهم خيلهم، فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس؛ لأن الفيل
إذا كان وحده ليس معه أحد كان أوحش، وإذا طافوا به كان آنس، فكان الفيل
كذلك حتى عدل النهار.
ولما قدم قيس بن المكشوح مع هاشم، قام فيمن يليه فقال: يا معشر العرب، إن
الله، عز وجل، قد من عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد صلى الله عليه وسلم،
فأصبحتم بنعمته إخوانا، دعوتكم واحدة وأمركم واحد، بعد إذ أنتم يعدو بعضكم
على بعض عدو الأسد، ويختطف بعضكم بعضا اختطاف الذئاب، فانصروا الله ينصركم،
وتنجزوا من الله تعالى فتح فارس، فإن إخوتكم من أهل الشام قد أنجز الله
تعالى لهم فتح الشام، وانتثال القصور الحمر والحصون الحمر.
وخرج يوم عماس رجل من العجم حتى إذا كان بين الصفين هدر وشقشق ونادى:
من يبارز؟ فخرج إليه رجل من المسلمين يقال له: شبر بن علقمة، وكان قصيرا
دميما، فقال: يا معشر المسلمين، قد أنصفكم الرجل، فلم يجبه أحد، ولم يخرج
إليه أحد، فقال:
أما والله لولا أن تزدرونى لخرجت إليه، فلما رأى أنه لا يمنع أخذ سيفه
وجحفته، ثم تقدم، فلما رآه الفارسى هدر، ثم نزل إليه فاحتمله، فألقاه ثم
جلس على صدره ثم أخذ سيفه ليذبحه، ومقود فرسه مشدود بمنطقته، فلما استل
السيف حاص الفرس حيصة
(2/485)
فجذبه المقود فقلبه عنه، فقام إليه وهو
يسحب فافترسه، فجعل أصحابه المسلمون يصيحون به، فقال: صيحوا ما بدا لكم، فو
الله لا أفارقه حتى أقتله ثم أسلبه، فذبحه وسلبه، ثم أتى سعدا بالسلب فنفله
إياه، فباعه باثنى عشر ألفا.
قالوا «1» : ولما رأى سعد الفيلة تفرق الناس، وعادت لفعلها يوم أرماث، سأل:
هل لها مقاتل؟ فقيل له: نعم، المشافر والعيون لا تنتفع بها بعدها، فأرسل
إلى القعقاع وأخيه عاصم: أن اكفيانى الفيل الأبيض، وكان بإزائهما، فأخذ
القعقاع وعاصم رمحين أصمين لينين ودنوا فى خيل ورجل، وقالا: اكتنفوه
لتحيروه، وفعل الآخران مثل ذلك، فلما اكتنف الفيلان نظر كل واحد منهما يمنة
ويسرة وهما يريدان أن يتخبطا، فحمل القعقاع وعاصم والفيل البيض متشاغل بمن
حوله فوضعا رمحيهما معا فى عينيه، وقبع ونفض رأسه فطرح سائسه ودلى مشفره،
فنفخه القعقاع ورمى به ووقع لجنبه، وقتلوا كل من كان عليه، وقال حمال
لصاحبه وقد قصدا إلى الفيل الأجرب: إما أن تضرب المشفر وأطعن فى عينه، أو
تطعن فى عينه وأضرب مشفره، فاختار صاحبه الضرب، فحمل عليه حمال وهو متشاغل
بملاحظة من اكتنفه، لا يخاف سائسه إلا على بطانه فطعنه فى عينه، فأقعى، ثم
استوى فنفخه الآخر، فأبان مشفره، وبصر به السائس ففقر أنفه وجبينه بفأسه.
ويروى أن الفيلين صاحا عند ذلك صياح الخنزير، ثم ولى الأجرب الذى عور فوثب
فى العتيق، فاتبعته الفيلة فخرقت صف الأعاجم، فعبرت العتيق فى أثره فبيتت
المدائن فى توابيتها وهلك من فيها.
وقيل: إنه بقى منها الفيل الأبيض، لم يبق فى المعركة غيره، وإن الناس رشقوا
مشافر الفيلة، فعند ذلك انبعث الفيل الآخر فلم تنته عن المدائن، وكانت تفعل
بالناس الأفاعيل فاستقام للناس بعدها وجه القتال، وخلصوا بأهل فارس،
فاجتلدوا على جرد بالسيوف حتى أمسوا وهم فى ذلك على السواء.
فكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدا، العرب والعجم فيه على السواء، ولا
يكون بينهم لفظة إلا تقاولها الرجال بالأصوات حتى تبلغ يزدجرد بالمدائن، إذ
كان قد أمر رستم بأن يرتب الرجال على الطريق بينهما ليبلغه بالتنادى ما
يطرأ فى العسكر من حينه، فيرسل إليهم أهل النجدات ممن بقى عنده فيتقوون
بهم، وأصبحت عنده للذى
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 555، 556) .
(2/486)
لقى بالأمس الأمداد على البرد، فلولا الذى
صنع الله للمسلمين فى الذى ألهم إليه القعقاع فى اليومين، وما أتاح لهم
بهاشم لكسر ذلك المسلمين.
وأصيب يومئذ مؤذن سعد بن أبى وقاص فتشاح الناس على الأذان، حتى كادوا
يجتلدون بالسيوف، فأقرع بينهم سعد.
قالوا «1» : ولما أمسى الناس من يومهم ذلك، وأطعنوا إلى الليل، واشتد
القتال فصبر الفريقان، فخرجا على السواء فلم يسمع إلا الغمائم من هؤلاء
وهؤلاء، فسميت ليلة الهرير، ولم يكن بعدها قتال بليل فى القادسية.
وجدد المشركون فى تلك الليلة تعبئة، وأخذوا فى أمر لم يكونوا عليه فى
الأيام الثلاثة، وبقى المسلمون على تعبئتهم، فخرج مسعود بن مالك الأسدى،
وقيس بن هبيرة المرادى، وهو ابن المكشوح، وأشباههم فطاردوا القوم وحركوهم
للقتال، فإذا هم فيه أمة لا يشهدون ولا يريدون إلا الزحف، فقال قيس بن
مكشوح لمن يليه، ولم يشهد شيئا من لياليها إلا تلك الليلة: إن عدوكم قد أبى
إلا المزاحفة، والرأى رأى الأمير، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجال،
فإن القوم إذا زحفوا وطاردهم عدوهم على الخيل لا رجال معهم عقروا بهم، ولم
يطيقوا أن يقدموا عليهم، فتيسروا للحملة.
وقال دريد بن كعب النخعى، وكان معه لواء النخع: إن المسلمين قد تهيئوا
للمزاحفة، فاسبقوا المؤمنين الليلة إلى الله والجهاد، فإنه لا يسبق الليلة
أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه، فنافسوهم فى الشهادة، وطيبوا بالموت
أنفسا، فإنه لا نجاء من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا فالآخرة ما
أردتم.
وقال الأشعث بن قيس: يا معشر العرب، إنه لا ينبغى أن يكون هؤلاء أجرأ على
الموت ولا أسخى أنفسا عن الدنيا منكم، تنافسوا ولا تجزعوا من القتل فإنه
أمانى الكرام، ومنايا الشهداء، وترجل.
وقال حنظلة بن الربيع «2» وأمراء الأعشار: ترجلوا أيها الناس، وافعلوا كما
نفعل، ولا
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 557) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (1864) ، أسد الغابة ترجمة رقم
(1280) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 142) ، الطبقات (1/ 43، 129) ، تهذيب
الكمال (1/ 343) ، الإكمال (1/ 73) ، تقريب التهذيب (1/ 216) ، الجرح
والتعديل (3/ 1059) ، تهذيب التهذيب (3/ 60، 63) .
(2/487)
تجزعوا مما لا بد منه، فالصبر أنجى من
الجزع. وفعل طليحة وغالب أهل النجدات من جميع القبائل مثل ذلك.
وقال أنس بن الجليس: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كضرب القيون
ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغا.
وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قط،
وانقطعت الأصوات والأخبار عن سعد ورستم، فبعث سعد فى تلك الليلة نجادا، وهو
غلام، إلى الصف، إذ لم يجد رسولا، فقال: انظر ماذا ترى من حالهم، فرجع إليه
فقال:
ما رأيت يا بنى؟ فقال: رأيتهم يلعبون، فقال: أو يجدون. فأقبل سعد على
الدعاء، حتى إذا كان فى وجه الصبح، انتمى الناس فاستدل سعد بذلك على أنهم
الأعلون، وأن الغلبة لهم.
قال بعضهم: أول شىء سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح فى نصف الليل
الباقى صوت القعقاع بن عمرو وهو يقول:
نحن قتلنا معشرا وزائدا ... أربعة وخمسة وواحدا
تحسب فوق البلد الأساودا ... حتى إذا ماتوا دعوت واحدا
الله ربى واحترزت جاهدا
فاستدل سعد بهذا، وبما سمع معه من غير القعقاع من الانتماء، واتسع له
الرجاء، فسمع عمرو بن معدى كرب يقول: أنا ابن أسلة، وطليحة يقول: أنا ابن
ليلى، وسعد بن عمارة يقول: أنا ابن أروى، ثم سمع الانتساب من كل ناحية:
خذها وأنا الغلام الجرمى من النخع، خذها وأنا الغلام المالكى من بنى أسد،
خذها وأنا الغلام الأسعدى من عجل، فأصبحوا والناس على مواقفهم متحاجزين،
فصلى المسلمون الغداة وفضوا من شأنهم.
خبر اليوم الرابع من أيام القادسية
وهذا أهو آخر أيامها، ويسمى من بينها: يوم القادسية، وفيه قتل الله رستم،
وأتم الفتح للمسلمين.
قالوا «1» : وأصبح الناس ذلك اليوم حسرى، لم يغمضوا ليلتهم كلها، فسار
القعقاع
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 563) .
(2/488)
فى الناس، فقال: إن الدبرة بعد ساعة لمن
بدأ اليوم، فاصبروا واحملوا، فإن النصر مع الصبر. فاجتمع إليه هلال بن
علفة، ومالك بن ربيعة، والكلح الضبى، وضرار بن الخطاب، وابن الهذيل، وغالب،
وطليحة، وعاصم بن عمرو بن ذى البردين، وأمثالهم ممن اختصر ذكره، ومعهم
عشائرهم. ثم صمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح.
ولما رأت ذلك القبائل قام فيهم رجال منهم، فقالوا: لا يكونن هؤلاء أجد فى
أمر الله تعالى، منكم، ولا أسخى نفسا عن الدنيا، تنافسوها. فحملوا مما
يليهم حتى خالطوا الذين بإزائهم.
وقام فى ربيعة عتيبة بن النهاس، وفرات بن حيان، والمعنى بن حارثة، وسعيد بن
مرة، فى أمثالهم، فقالوا: أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى،
فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم.
واقتتل الناس إلى أن انفرج قلب المشركين حين قام قائم الظهيرة، وقد ركد
عليهم النقع، واشتد الحر، وسقفتهم الشمس، فهبت ريح عاصف، فقلعت طيارة رستم
عن سريره، فهوت فى العتيق، فانتهى القعقاع وأصحابه إلى السرير فعثروا به،
وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قدمت عليه يومئذ بمال
فهى واقفة، فاستظل فى ظل بغل منها وحمله، وضرب هلال بن علفة العدل الذى على
البغل الذى رستم تحته، فقطع حباله، فوقع عليه أحد العدلين، ولا يراه هلال
ولا يشعر به، فأزال من ظهره فقارا، ويضربه ضربة فنفحت مسكا، ومضى رستم نحو
العتيق فرمى بنفسه فيه، فاقتحمه عليه هلال، فتناوله وقد عام، فأخرجه ثم ضرب
جبينه بالسيف حتى قتله، ثم جاء به فرمى به بين أرجل البغال، وصعد السرير،
ثم نادى: قتلت رستما ورب الكعبة، إلىّ إلىّ، فأطافوا به ما يحسون السرير
وما يرونه، وكبروا وتنادوا، وانبت قلب المشركون عندها وانهزموا، وقام
الجالينوس على الردم، ونادى أهل فارس إلى العبور، وانسفى الغبار، فأما
المقترنون فإنهم خشعوا فتهافتوا فى العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم فما
أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفا.
وأخذ ضرار بن الخطاب «درفش كابيان» ، راية كسرى، فعوض عنها ثلاثين ألفا،
وكانت قيمتها ألف ألف ومائتى ألف، وقتلوا فى المعركة من الليل، يعنى ليلة
الهرير، عشرة آلاف سوى من قتلوا فى تلك الثلاثة الأيام.
(2/489)
وأكب المسلمون على من ثبت لهم وعلى من سفل
منهم عن الردم ومن ارتفع عنه فقتلوا منهم ستين ألفا، فقتلوا يوم القادسية
مائة ألف سوى من قتلوا فى الأيام قبله.
قالوا: فلما انكشف أهل فارس، فلم يبق منهم بين الخندق والعتيق أحد، وطبقت
القتلى ما بين قديس والعتيق أمر سعد زهرة بن جوية باتباعهم، فنادى زهرة فى
المقدمات وساروا، وأمر سعد القعقاع بمن سفل، وشرحبيل بمن علا، وأمر خالد بن
عرفطة بسلب القتلى وبدفن الشهداء ليلة الهرير ويوم القادسية، ألفين
وخمسمائة، وقيل: ثلاثة آلاف، من وراء العتيق بحيال مشرق، ودفن شهداء الأيام
الثلاثة قبل ذلك على مشرق، ويقال:
كانوا ألفين وخمسمائة، وجمعت الأسلاب والأموال، فجمع منها شىء لم يجمع قبله
ولا بعده، وأرسل سعد إلى هلال بن علفة فدعا له، فقال: أين صاحبك؟ يعنى
رستما. قال:
رميت به تحت بغل، فقال: اذهب فجئ به، فذهب فجاء به. فقال له سعد: جرده إلا
ما شئت، فخذ سلبه، فلم يدع عليه شيئا، ويقال: إنه باع الذى سلبه بسبعين
ألفا، وكان قد تخفف حين وقع فى الماء، ولم توجد قلنسوته، وكانت قيمتها مائة
ألف.
وجاء نفر من العباد حتى دخلوا على سعد، فرأوا رستما ببابه مطروحا، فقالوا:
أيها الأمير، رأينا جسد رستم على باب قصرك وعليه رأس غيره، وكأن الضرب قد
شوهه، فضحك سعد، وخرج زهرة فى آثار أهل فارس، فانتهى إلى الردم وقد تبعوه
ليمنعوهم به من الطلب، فقال زهرة لبكير بن عبد الله الليثى، وهو الذى يقال
له فارس أطلال، وهو اسم فرس له كان يعرف بها: يا بكير، أقدم، وكان يقاتل
على الإناث، فضرب فرسه، وقال: ثبى أطلال، فتجمعت وقالت: وثبا وسورة البقرة
ثم وثبت ووثب زهرة، وكان على حصان، وتتابع ذلك ثلاثمائة فارس، فلحق زهرة
بالقوم والجالينوس فى آخرهم يحميهم، فشاوله زهرة، فاختلفا ضربتين، فقتله
زهرة، وأخذ سلبه، وقتل أولئك الفرار ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى
النجف، ورجع زهرة فى أصحابه حين أمسوا، فباتوا بالقادسية، ولما رجع القعقاع
وشرحبيل إلى سعد، قال لشرحبيل: اغد فى طلب القعقاع، وقال للقعقاع: اغد فى
طلب شرحبيل فعلا هذا، وسفل هذا، حتى بلغا مقدار الخرارة من القادسية.
قال الشعبى: خرج القعقاع وأخوه وشرحبيل فى طلب من ارتفع وسفل، فقتلوهم فى
كل قرية وأجمة وشاطئ نهر، ورجعوا، فوافوا صلاة الظهر، وهنأ الناس أميرهم،
وأثنى على كل حى خيرا، وذكره منهم.
(2/490)
وقال فى ذلك هلال بن علفة:
جدعت أنوف العجم يوم لقيتهم ... برستم والجمعان فى أشغل الشغل
فضضت به رض الصفوف فقوضت ... صفوفهم والحرب جاحمة تغلى
وقال الشماخ فى قصيدة يرثى بكير بن عبد الله، فارس أطلال، ويذكر ما كان من
فرسه فى وثبتها المذكورة قبل:
وغيب عن خيل بموقان أسلمت ... بكير بنى الشدّاخ فارس أطلال
غداة اقتحام القوم من بعد نطقها ... وحلفتها عرض العتيق بإدلال
ولما قتل زهرة الجالينوس وأخذ سلبه، جاء به إلى سعد، فعرفه الأسارى الذين
كانوا عند سعد، وقالوا: هذا سلب الجالينوس، وكان سيدا من ساداتهم، وعظيما
من عظمائهم، فقال سعد لزهرة: هل أعانك عليه أحد؟ قال: نعم. قال: من؟ قال:
الله عز وجل. فنفله إياه.
وقيل: إنما جاء بالسلب وقد لبسه، فانتزعه منه سعد، وقال: ألا انتظرت إذنى،
وكتب فيه إلى عمر، رضى الله عنه، فكتب إليه عمر: أن يمضى لزهرة ذلك السلب،
وعاتب سعدا فى كتابه، وقال له: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بما صلى به وبقى
عليك ما بقى من حربك، تكسر قرنه وتفسد قلبه.
ويروى أن سعدا استكثر له السلب، فكتب فيه إلى عمر، فكتب إليه: إنى قد نفلت
من قتل رجلا سلبه، فدفعه إليه سعد، فباعه بسبعين ألفا.
وقال زهرة فى قتل الجالينوس:
تبعنا جيوش الجالينوس وقد رأى ... بعينيه أمرا ذا إياس منكرا
لحقنا به نرمى الكرانيف سادرا ... ويعجب إذ خلى الجموح وشمرا
فوليته لما التقينا مصمما ... أراه محيا الموت أحمر أصفرا
وقال سيف «1» عن رجاله: ثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة، استحيوا من
الفرار، فصمد لهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين، لكل كتيبة منها رأس من
رؤساء المسلمين فأباد الله تلك الكتائب يومئذ.
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 569، 570) .
(2/491)
وقال سعيد بن المرزبان «1» : أصاب أهل فارس
يومئذ بعد ما انهزموا ما أصاب الناس قبلهم، قتلوا حتى إن كان الرجل من
المسلمين ليدعو الرجل منهم فيأتيه حتى يقوم بين يديه فيضرب عنقه، وحتى إنه
ليأخذ سلاحه فيقتله به، وحتى إنه ليأمر أحد الرجلين منهم بقتل صاحبه.
وقال بعض من شهدها: أبصر سلمان بن ربيعة الباهلى أناسا من الأعاجم تحت راية
لهم قد حفروا لها وجلسوا تحتها، وقالوا: لا نبرح حتى نموت، فحمل عليهم
فقتلهم وسلبهم، وكان سلمان فارس الناس يوم القادسية، وأحد الذين مالوا بعد
الهزيمة على من ثبت، وكذلك أخوه عبد الرحمن بن ربيعة، ذو النور، مال على
آخرين قد تكتبوا ونصبوا للمسلمين، فطحنهم بخيله.
وقال الشعبى: كان يقال لسلمان أبصر بالمفاصل من الجازر بمفاصل الجزور.
وقال بعض بنى معرض: ما رأينا مثل أهل القادسية، هزمناهم فاتبعناهم وهم على
خيولهم كأنها فى طين، ونحن على أرجلنا كأنا ظباء، ولقد أدركنا رجلا يعدو به
فرسه فصحنا به، فلم يتحرك، فأخذناه أسيرا.
قال أبو وائل، وشهدها: لقد سمعت الفرس يقولون ما تقطع سيوفنا الشعر، ولقد
نزع منا النصر.
وقال الأسود النخعى «2» : شهدت القادسية، فلقد رأيت غلاما منا من النخع
يسوق ستين أو ثمانين رجلا من أبناء الأحرار، وأتى رجل سعدا فقال: تجعل لى
ثلث ما أجيئك به؟ قال: نعم. فأتاه بأساورة قد أسرهم، فقال له سعد: كيف أخذت
هؤلاء وحدك؟
قال: صحت بهم وهم منهزمون فوقفوا لم يمتنع منهم أحد، فجعل سعد يتعجب.
وكان سعد أجرأ الناس وأشجعهم، إنه نزل قصرا غير حصين يشرف منه على الناس
ويرى قتالهم، وصف المسلمين إلى أصل حائط القصر، ولو أعراه الصف فواق ناقة
أخذوا برمته. فو الله ما كربه هول تلك الأيام، ولا أغلقه. ودخل إليه فى
اليوم الرابع رجل من بجيلة فقال: أبا إسحاق إن الناس قد جبنوك وقالوا: لم
يمنعك من الخروج الوجع، قال: ما أخاف ذلك على نفسى، أو ما ترى ما بى،
وسأخرج، وكان به حبون ودماميل لا يستطيع أن يقر لها إلا مكبا على صدره،
فركب فرسا فانتهى إلى باب القصر
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 569) .
(2) انظر: الطبرى (3/ 576) .
(2/492)
وقد تبوأ فيه حمام، فطرن فنفر الفرس فشب،
فانفجر ما كان من قروحه وخرج، فوقف وحض المسلمون وقال: لا تكون هذه الأعاجم
أصبر على المقارعة منكم، واعلموا أن القوم ملوا إن كنتم مللتم، فنشط الناس.
وفى حديث غير هذا أن جريرا البجلى قال فى ذلك اليوم:
أنا جرير كنيتى أبو عمرو ... قد نصر الله وسعد فى القصر
وقال رجل من المسلمين، أيضا:
نقاتل حتى أنزل الله نصره ... وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد أمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهم أيم
فلما بلغ ذلك من قولهما سعدا خرج إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من
القروح فى فخذيه، فعذره الناس، وقال سعد يجيب جريرا من أبيات:
وما أرجو بجيلة غير أنى ... أؤمل أجرهم يوم الحساب
وفى حديث يروى عن قيس بن أبى حازم «1» ، وكان شهد تلك الحرب أن الفرس لما
انهزموا لحقوا بدير قرة وما وراءه، ونهض سعد بالمسلمين حين نزل بدير قرة
على من هناك من الفرس، وقدم عليه بالدير عياض بن غنم فى ألف رجل من الشام
مددا لهم، فأسهم لهم سعد مع المسلمين فيما أصابوا بالقادسية، ثم إن الفرس
هربت من دير قرة إلى المدائن يريدون نهاوند، واحتملوا معهم الذهب والفضة
والديباج والفرند والحرير والسلاح وثياب كسرى، وخلوا ما سوى ذلك، وأتبعهم
سعد الطلب، فبعث خالد بن عرفطة ووجه معه عياض بن غنم فى أصحابه، وجعل على
مقدمة الناس هاشم بن عتبة، وعلى ميمنتهم جرير بن عبد الله وعلى الميسرة
زهرة بن جوية، وتخلف سعد لما به من الوجع.
فلما أفاق من وجعه أتبع الناس بمن بقى معه من المسلمين حتى أدركهم دون
دجلة، فلما وضعوا على دلجة العسكر والأثقال طلبوا المخاضة فلم يهتدوا لها،
حتى أتى سعدا علج من أهل المدائن فقال: أدلكم على طريق تدركونهم قبل أن
يمنعوا، فخرج بهم على مخاضة بقطربل، فكان أول من خاضها هاشم، وأتبعه خيله،
ثم جاز خالد بن عرفطة بخيله وتتابع الناس فخاضوا حتى جتاوزوا، فزعموا أنه
لم يتهد لتلك المخاضة بعد، ثم ساروا حتى انتهوا إلى مظلم ساباط، فأشفق
الناس أن يكون به كمين للعدو، فتردد الناس
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7168) .
(2/493)
وجبنوا عنه، فكان أول من دخله بجيشه هاشم،
فلما جاز ألاح للناس بسيفه، فعرف الناس أن ليس به شىء يخافونه، فأجاز بهم
خالد بن عرفطة، ثم لحق سعد بالناس حين انتهوا إلى جلولاء وبها جماعة من
الفرس، فكانت وقعة جلولاء بها، فهزم الله الفرس وأصاب المسلمون بها أفضل
مما أصابوا بالقادسية، وأصيبت ابنة لكسرى، يقال لها:
منجانة، ويقال: ابنة ابنه، وقال شاعر من المسلمين:
يا رب مهر حسن مطهم ... يحمل أثقال الغلام المسلم
ينجو إلى الرحمن من جهنم ... يوم جلولاء ويوم رستم
ويوم زحف الكوفة المقدم ... ويوم لا فى حتفة مهزم
وخر دين الكافرين للفم
وفى كتاب المدائنى عن أبى وائل قال: هزمناهم، يعنى يوم القادسية، حتى
انتهوا إلى الفرات فقاتلونا عليه، فهزمناهم حتى انتهوا إلى الصراة فقاتلونا
عليها، فهزمناهم حتى انتهوا إلى المدائن فدخلوها ونزل المسلمون دير السباع،
فجعلنا نغاديهم فنقاتلهم، فقال المسلمون: هؤلاء فى البيوت ونحن فى الصحراء،
اعبروا إليهم فعبرنا إليهم فحصرناهم فى الجانب الشرقى حتى أكلوا الكلاب
والسنانير، فخرجوا على حامية معهم الأثقال والعيال حتى نزلوا جلولاء
الوقيعة، وتبعناهم فقاتلوا بها قتالا شديدا عن العيال والذرارى، فجال
المسلمون جولة فناداهم سعد: يا معشر المسلمين، أين أين أما رأيتم ما خلفكم؟
أتأتون عمر منهزمين فعطفوا، وهزم الله المشركين، وسميت جلولاء الوقيعة فتح
الفتوح، وسيأتى ذكر فتح جلولاء والمدائن على التمام بعد انقضاء بقايا
الأخبار عن شأن القادسية ومغانمها إن شاء الله تعالى.
قال الشعبى: بلغ الفىء بالقادسية ستمائة ألف ألف، وكان خمسها عشرين ومائة
ألف ألف، وكان الملك يزدجرد بن كسرى قد حمل نصف الأموال إلى أهل فارس
بالقادسية ليتوردوا بها بلاد العرب، وليغزوا عمر، رضى الله عنه، فى داره
وقراره، فعل مقتدر مغرور، وأمر الجنود أن يحضروا الحرب بأموالهم، وأن
يختلفوا ليكون أجد لهم فى الامتناع والمخاطرة لدنياهم، فاجتمعت معهم من
الأموال والزين والشارات على قدر أحسابهم ما لا يحصى، وكان سبب ذلك ما قضى
الله عز وجل، للمسلمين، فساقه إليهم، وكان يزدجرد قد استبقى النصف من
الأموال وأقره فى بيت المال على حاله، فأفاءه الله على المسلمين يوم
المدائن.
وذكر المدائنى أن المسور بن مخرمة أصاب يوم القادسية أبريق ذهب عليه ياقوت،
(2/494)
فقال له بعض الفرس: آخذه منك بعشرة آلاف،
فأبى وأتى به سعدا، فباعه بمائة ألف.
وقال مخنف بن سليم: إنى لفى طلب المشركين يومئذ إذ لحقت رجلين أحدهما على
فرس والآخر على بغل، ثم ذكر حديثا انتهى فيه إلى أن فاته صاحب الفرس ولحق
بصاحب البغل فأخذه، قال: وأنا أريد أن آتى به سعدا وما من رأى أن أنظر
إليه، فجاء مولى لى وأنا أصلى فحط الثقل واستخرج سفطا فنظر إليه وقال لى:
أتدرى ما معك؟
قلت: لا، قال: بعض كنوز كسرى، فنظرت فإذا ناقة ذهب عليها رجل ذهب وبطان ذهب
وزمام ذهب، وإذا ذلك كله مكلل بالجوهر عليه مثال رجل من فضة، فأتيت بها
سعدا، فقال: أبشر لأفضل منه من ثواب الله، وولانى مغانم القادسية، ومعى
غيرى، فجاء رجل بسفط آخر فألقاه فى المغانم، وقال: أما والله لولا خوف الله
ما أديته، فإذا الذى جئت به لا يقارب ما جاء به الرجل، فقلت: من أنت؟ قال:
والله ما أخبرك لتحمدنى أنت ولا أحد من الناس، وأصاب الناس رثة ومتاعا
كبيرا.
وقال طلحة بن مصرف: أمروا مما جدوا من الطيب للنساء ببعضه، فأصاب كل امرأة
مع الناس ثلاثة وثلاثون مثقالا من عنبر، ومثلها من مسك، وأشرك صبيان الذين
استشهدوا فى ذلك، فأما الكافور فلم يعبأوا به شيئا، وبعضهم استبدل منه
بالملح كيلا بكيل، وأصاب الرجل من المسلمين خمسة آلاف ونيف من سهمه، وصير
الله، عز وجل، العدة والأداة إلى المسلمين، فلم يبق أحد إلا أردى، وركب،
وفضل عنهم حتى جنبوا الجنائب.
وذكر سيف عن رجاله قالوا: وقسم سعد الفىء بالقادسية على تسعة وثلاثين ألفا
أو يزيدون، وكان من شهدها أكثر من تسعة وثلاثين ألفا وأقل من الأربعين،
فأصيب منهم خمسة آلاف ومائتان، وقيل وخمسمائة، ثم لحق فى الأيام الثلاثة
بعد الوقعة عدد من استشهد فقسم الفىء على تلك العدة التى هى أقل من أربعين
ألفا. قالوا: وأعطى الناس المتاع بالقيمة فى سهم الرجل.
قال إبراهيم بن يزيد: كانوا ليقومون الشىء الثمين بالشىء اليسير.
وقال الشعبى: لم يقسم يومئذ لأكثر من فرسين، ولا يقسم لأكثر منهما، قالوا:
فبلغ سهم الفرسين وصاحبهما سبعة وعشرين ألفا، للرجل خمس ذلك وللفرسين سائر
ذلك، وللفرس الواحد بحساب ذلك عشرة آلاف ونيف، وسهم الرجل الواحد خمسة آلاف
ونيف، وسهم الرجل الفارس ذى الفرس الواحد خمسة عشر ألفا ونيف، وكان القاسم
(2/495)
بين الناس والمميز للخيل والذى يلى الأقباض
سلمان بن ربيعة الباهلى.
قال المدائنى: فجاء عمرو بن معدى كرب بفرسين يقودهما، فقال سلمان لأحد
الفرسين: هذا هجين، فقال عمرو: الهجين يعرف الهجين، فأغلظ له سعد عند ذلك
وهدده. فقال عمرو:
إذا قتلنا ولا يبكى لنا أحد ... قالت قريش ألا تلك المقادير
نعطى السوية من طعن له نهل ... ولا سوية إذ تعطى الدنانير
ونح فى الصف قد تدمى حواجبنا ... نعطى السوية مما أخلص الكير
قالوا «1» : وكتب سعد بالفتح إلى عمر، رحمه الله، وبعدة من أصيب من
المسلمين جملة، وسمى له منهم من كان عمر يعرفه، وكان كتابه إليه:
أما بعد، فإن الله، عز وجل، نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كان قبلهم
من أهل دينهم، بعد قتال طويل وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير
الراؤن مثل زهوها فلم ينفعهم الله بذلك، بل سلبهموه ونفله عنهم إلى
المسلمين، واتبعهم المسلمون يقتلونهم على الأنهار وعلى صفوف الآجام وفى
الفجاج، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ، وفلان وفلان، ورجال من
المسلمين لا تعلمهم، الله بهم عالم، كانوا إذا جن عليهم الليل يدوون
بالقرآن دوى النحل، وهم آساد من الناس لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى
منهم على من بقى إلا بفضل الشهادة، إذ لم تكتب لهم.
ولما أتى عمر الكتاب بالفتح قام فى الناس فقرأه عليهم، وكان رضى الله عنه،
لما أتاه الخبر بنزول رستم القادسية يستخبر الركبان عن أهل القادسية من حين
يصبح إلى انتصاف النهار، ثم يرجع إلى بيته، فلما لقيه البشير سأله من أين
جاء، فأخبره، فقال: يا عبد الله، حدثنى، قال: هزم الله العدو، وعمر، رضى
الله عنه، يخب معه ويستخبره، والآخر يسير على ناقته وهو لا يعرفه حتى دخل
المدينة، فإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين، فقال الرجل: فهلا
أخبرتنى، رحمك الله، أنك أمير المؤمنين وجعل عمر يقول له: لا عليك يا أخى.
وقال عمر للناس عندما قرئ عليهم الفتح: إنى حريص على أن لا أدع حاجة إلا
سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك عنا تأسينا حتى نستوى فى الكفاف،
إنى
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 583) .
(2/496)
والله ما أنا بملك فأستعبدكم، ولكنى عبد
الله عرض علىّ الأمانة، فإن أبيتها ورددتها عليكم وأتبعتكم حتى تشبعوا
وترووا فى بيوتكم سعدت، وإن أنا حملتها واستتبعتكم إلى بيتى شقيت، ففرحت
قليلا وحزنت طويلا، وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب.
وكتب سعد، أيضا، إلى عمر فى ثلاثة أصناف من المسلمين اجتمعوا إليه يسأله
عنهم، عمن أسلم بعد ما فتح الله تعالى، عليهم ممن كان له عهد ومعونة، وعمن
أعتق الجند من رقيقهم بعد الفتح، وعمن جاء بعد ما فتح الله عليهم وأخبره
أنه ممسك عن القسم حتى تأتيه رأيه.
قالوا: وكانت طائفة من الديلم ورؤساء أهل المسالح قد استجابوا للمسلمين
واختاروا عهودهم على عهد فارس، وقاتلوا مع المسلمين على غير الإسلام،
وكانوا حشوة فيمن أسلم منهم، فلما فتح الله تعالى على المسلمين قال أولئك
الذين لم يكونوا أسلموا:
إخواننا الذين سبقونا دخلوا فى هذا الأمر من أول الشأن خير وأصوب رأيا،
والله لا يفلح أهل فارس بعد رستم إلا من دخل فى هذا الأمر منهم، فأسلموا،
فهم الصنف الأول من الذين سأل عنهم سعد عمر، رضى الله عنهما، قالوا: وتتابع
أهل العراق من أصحاب الأيام الذين شهدوا اليرموك ودمشق ورجعوا ممدين لأهل
القادسية، فتوافوا بها من الغد ومن بعد الغد جاء أولهم يوم أغواث وآخرهم من
بعد الغد من يوم الفتح، وقدمت أمداد فيها وهمدان ومن أبناء الناس، فهذا
الصنف الثانى ممن كتب فيهم سعد.
وأقام المسلمون فى انتظار أمر عمر، رضى الله عنه، يقومون أقباضهم، ويحزرون
جندهم ويرمون أمورهم ويجددون حربهم، حتى جاءهم جواب عمر:
أما بعد، فالغنيمة لمن شهد الوقعة، والمواساة لمن أغاث فى ثلاث بعد الوقعة،
فأشركوهم ومن أعانكم فى حربكم من أهل عهدكم، ثم أسلم بعد الحرب فى ثلاث،
ومن شهد حربكم من مملوك ثم عتق فى ثلاث بعدها فأشركوا هؤلاء الأصناف
الثلاثة فيما أفاء الله عليكم.
وكانوا كتبوا إليه، أيضا، يسألونه عمن احتلم بعد الوقعة ممن شهدها، فأجابهم
عن ذلك:
أما بعد فمن أدرك الحلم ممن شهد الوقعة فى ثلاث بعدها فأشركوهم وألحقوهم،
وأقسموا لهم ولمن لحق فى ثلاث أو أسلم فى ثلاث، فإن الله لن يزيدكم بذلك
إلا فضلا، وليست فى الفيوء أسوة بعد الخمس إلا لهؤلاء الطبقات.
(2/497)
وكتبوا إلى عمر، أيضا، أن أقواما من أهل
السواد ادعوا عهودا، ولم يقم على عهد الأيام لنا ولم يف به أحد علمناه إلا
أهل بانقيا وبسما وأهل أليس الأخيرة، وادعة سائر أهل السواد أن فارس
أكرهوهم وحشروهم، فلم يخالفوا إلينا، ولم يذهبوا فى الأرض.
وكتبوا إليه، أيضا، فى كتاب آخر: أن أهل السواد جلوا، فجاءنا من تمسك بعهده
ولم يجلب علينا، فتممنا لهم على ما كان بين المسلمين وبينهم قبلنا، وزعموا
أن أهل الأرض قد لحقوا بالمدائن، فأحدث إلينا فيمن أقام وفيمن جلا وفيمن
ادعى أنه استكره وحشر فهرب ولم يقاتل، أو استسلم، فإنا بأرض رغيبة، والأرض
خلاء من أهلها، وعددنا قليل، وقد كثر أهل صلحنا، وإن أعمر لها وأوهن لعدونا
تألفهم.
فلما انتهى ما كتبوا به إلى عمر، رضى الله عنه، قام فى الناس فقال: إنه من
يعمل بالهوى والمعصية يسقط حظه ولا يضر إلا نفسه، ومن يتبع السنة وينته إلى
الشرائع ويلزم السبيل النهج ابتغاء ما عند الله لأهل طاعته أصاب أمره وظفر
بحظه، وذلك أن الله عز وجل يقول: وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا
يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف: 49] ، وقد ظهر الأيام والقوادس بما
يليهم، وجلا أهله، وأتاهم من أقام على عهدهم، فما رأيكم فيمن زعم أنه
استكره وحشر، وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا، وفيمن أقام ولم يدع شيئا، ولم
يجل، وفيمن استسلم.
فأجمعوا على أن الوفاء لمن أقام وكف، وأن من ادعى وصدق بمنزلتهم، ومن كذب
نبذ إليهم وأعادوا صلحهم، وأن يجعل أمر من جلا إلى المسلمين، فإن شاؤا
وادعوهم وكانوا لهم ذمة، وإن شاؤا أتموا على منعهم من أرضهم، ولم يعطوهم
إلا القتال، وأن يخيروا من أقام واستسلم بين الجزاء والجلاء، وكذلك الفلاح.
فكتب عند ذلك عمر، رضى الله عنه، جوابا عما كتبوا إليه فى ذلك.
أما بعد، فإن الله عز وجل أنزل فى كل شىء رخصة فى بعض الحالات إلا فى
أمرين: العدل فى السيرة، والذكر. فأما الذكر فلا رخصة فيه فى حالة، ولم يرض
منه إلا بالكثير، وأما العدل فلا رخصة فيه فى قريب ولا بعيد، ولا فى شدة
ولا رخاء، والعدل وإن رئى لنا، فهو أقوى وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من
الجور، وإن رئى شديدا فهو أنكس للكفر، فمن تم على عهده من أهل السواد ولم
يعن عليكم بشىء فله الذمة وعليهم الجزية، وأما من ادعى أنه استكره ممن لم
يخالفهم أو يذهب فى الأرض فلا تصدقوهم بما ادعوا من ذلك إلا أن تشاؤا، وإن
لم تشاؤا فانبذوا إليهم، وأبلغوهم
(2/498)
مأمنهم، ومن أقام ولم يجل وليس له عهد فلهم
ما لأهل الذمة بمقامهم لكم وكفهم عنكم إجابة، والفلاحون إذا فعلوا ذلك، وكل
من ادعى شيئا فصدق فلهم الذمة. وإن كذبوا نبذ إليهم، وأما من أعان وجلا
فذلك أمر جعله الله إليكم، فإن شئتم فادعوهم إلى أن يقوموا لكم فى أرضكم،
ولهم الذمة وعليهم الجزية، فإن كرهوا ذلك فاقتسموا ما أفاء الله عليكم
منهم.
فلما قدمت كتب عمر على سعد بن مالك والمسلمين عرضوا على من يليهم ممن جلا
وتنحى من أهل السواد أن يتراجعوا، ولهم الذمة وعليهم الجزية، وتراجعوا
وصاروا ذمة كمن تم ولزم عهده إلا أن خراجهم أثقل، وأنزلوا من ادعى
الاستكراه وهرب منزلتهم، وعقدوا لهم، وأنزلوا من أقام منزلة ذى العهد،
وكذلك الفلاحون، ولم يدخل فى الصلح ما كان لآل كسرى، ولا ما كان لمن خرج
معهم، ولم يجب إلى الإسلام ولا إلى الجزية.
فصارت فيئا لمن أفاء الله عليه كالصوافى فى الأول، وسائر السواد لهم ذمة،
وأخذوهم بخراج كسرى، وكان على رؤس الرجال وما بأيديهم من الحصة والأموال،
وكان مما أفاء الله عليهم ما كان لآل كسرى ومن صوب معهم وعيالهم وعيال من
قاتل معهم وماله، وما كان لبيوت النيران والآجام ومستنقع المياه، وما كان
للسكك، فلم يتأت قسم ذلك الفىء الذى كان لآل كسرى ومن صوب معهم؛ لأنه كان
متفرقا فى كل السواد، فكان يليه لأهل الفىء من وثقوا به وتراضوا عليه.
قالوا: وأدلى جرير وبجيلة يوم القادسية بمثل ما كان عمر جعل لهم من ربع
الخمس مما أفاء الله يوم البويب، فكتب سعد إلى عمر بذلك، فاجابه: قد ضللت
إذا وما أنا من المهتدين، إنى إنما كنت جعلت لهم ربع الخمس مما أفاء الله
على المثنى حين أمددته بهم فى وجههم ذلك إلى البويب نفلا، فقد أخذوه أيام
البويب، ثم لم يمضوا ولكن رجعوا إلى أرض العرب، فعنفهم بما ادعوا مما ليس
لهم ولا لى وقل لهم: والله ولولا أنى قاسم مسئول لبلغت منكم.
فلما بلغ الكتاب سعدا أمر جريرا بجمع بجيلة، فجمعهم له، فقرأ عليهم سعد
الكتاب، فقال جرير: صدق والله عمر وأسأنا، وتتابع على ذلك قومه إلا امرأة
يقال لها: أم كرز، فإنها قالت: كذبت والله يا جرير، وجعل جرير يقول لها:
حلا يا أم كرز، فتعود له بالتكذيب، فلا يزيد على أن يقول: حلا يا أم كرز.
وخالف المدائنى ما ذكره سيف فى قصة جرير وقومه، وقال: إن سعدا لما جمع
الغنائم
(2/499)
وعزل الخمس، وأراد قسمة الباقى، قال له
جرير: إن أمير المؤمنين جعل لنا الربع، وقال بعضهم: الثلث بعد الخمس من كل
شىء، فبعث سعد بالخمس إلى عمر، وكتب إليه بقول جرير، فقال عمر: صدق جرير،
قد جعلت له ولقومه ما قال من السواد، فخيروهم، فإن شاؤا أعطوا وكان قتالهم
للجعالة، وإن شاؤا فلهم سهم المسلمين وقتالهم، فخيرهم سعد فاختاروا سهام
المسلمين. فالله أعلم أى ذلك كان.
وذكر المدائنى، أيضا، أنه كان فيمن قدم على عمر مع الخمس الأسدى الذى طعن
الفيل فضربه سائسه على وجهه فهشم وجهه، فقال له عمر: من أنت؟ وما هذه؟ يعنى
الضربة التى فى وجهه، قال: أصابنى قدر من قدر الله، فأخبر القوم عمر خبره،
فعانقه عمر وقال: أبشر فهى نور لك يوم القيامة، فهل لك من حاجة؟ قال: تكتب
إلى سعد يعطينى محتلما وفرسى، فكتب إلى سعد: أعطه محتلمين، ففعل ذلك سعد.
قال الشعبى: وأمر عمر، رضى الله عنه، فى الأعشار بخمسمائة فرس نفلا من خيل
فارس لتقسم فى أهل البلاء، فأصاب كل عشر خمسون فرسا، فأصاب النخع عشرون،
وقيل: خمسة وعشرون، وأصاب سائرها، سائر مذحج.
قالوا: وكتب عمر، رحمه الله، إلى سعد: أنبئنى أى فارس كان يوم القادسية
أفرس، وأى راجل كان أرجل، وأى راكب كان أثبت. فكتب إليه: إنى لم أر فارسا
مثل القعقاع بن عمرو حمل فى يوم ثلاثين حملة، فقتل فى كل حملة كميا، ولم أر
راجلا مثل يعفور بن حسان الذهلى إنه جاء فى اليوم بخمسة فوارس، يختل الفارس
منهم حتى يردفه، ثم يغلبه على عنانه حتى يأتى به سلما، ولم أر راكبا مثل
الحارث بن قرم البهزى، إنه جاء ببعيره يرفعه، ثم ركب الكراديس ففرق بينها،
فإذا نفر بالفارس انحط عنه فعانقه، ثم قتله، ثم يثب على بعيره من قيام.
وكتب عمر إلى سعد، أيضا: أنبئنى من وجدت أصبر ليلة الهرير؟ فكتب إليه: إن
الحس سكن عنى، حتى إذا كان فى وجه الصبح سمعت انتماء فى مضر وانتماء فى
ربيعة ثم انتسابا فى اليمن، فوجدت المنتمين من تميم وأسد وقيس والمنتمين من
بكر وحلفاؤها والمنتسبين فى أهل اليمن من مذحج وكندة.
وفى كتاب المدائنى أن عمر كتب إلى سعد يسأله: أى الناس كان أصبر بالقادسية؟
فكتب إليه سعد: إن الحرب ركدت ليلة، فلم أسمع إلا هماهم الرجال، وهريرهم،
ووقع الحديد، فلما كان قبيل الفجر سمعت الانتماء من كل: أنا ابن معدى كرب،
أنا
(2/500)
الجذامى، أنا المالكى من أسد، أنا الأشعرى،
ثم صار الانتماء قصره فى جذيمة، فلما انجلت الحرب رأيت جماعة قتلى فى ربضة،
فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: من جذيمة النخع، أصيبوا من آخر الليل وهم ينتمون،
فنفلهم عمر خمسة وعشرين فرسا، يعنى بنى جذيمة.
وحكى المدائنى عن الشعبى قال: كان السبى بالقادسية وجلولاء مائة ألف رأس،
وقد قيل: أقل من هذا، وقول الشعبى أكثر وأشهر.
ويروى أنه لما كان العطاء فضل من أهل البلاء بالقادسية بخمسمائة خمسمائة فى
أعطياتهم خمسة وعشرون رجلا، منهم زهرة بن الجوية وعصمة الضبى والكلح الضبى،
وأما أهل البلاء قبلهم ففرض لهم العطاء على ثلاثة آلاف، فضلوا على أهل
القادسية.
وذكر سيف بن عمر عن رجاله، قالوا: كانت العرب توقع وقعة العرب وأهل فارس فى
القادسية يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وكانت فى كل بلدة مصيخة إليها،
تنظر ما يكون من أمرها، حتى أن كان الرجل ليريد الأمر فيقول: لا أنظر فيه
حتى أرى ما يكون من أمر القادسية، فلما كانت وقعتها سارت بها الجن إلى ناس
من الإنس فسبقت أخبار الإنس إليهم، قالوا: فبرزت امرأة ليلا على جبل
بصنعاء، لا يدرى من هى، وهى تقول:
حييت عنا عكرم ابنة خالد ... وما خير زاد بالقليل المصرد
وحيتك عنى الشمس عند طلوعها ... وحياك عنى كل ناج مفرد
وحيتك عنى عصبة حنفية ... حسان الوجوه آمنوا بمحمد
أقاموا لكسرى يضربون جنوده ... بكل رقيق الشفرتين مهند
وسمع أهل اليمامة مجتازا يغنى بهذه الأبيات:
وجدنا الأكثرين بنى تميم ... غداة الروع أصبرهم رجالا
هم ساروا بأرعن مكفهر ... إلى لجب يوازنهم رعالا
بحور للأكاسر من رجال ... كأسد الغاب تحسبهم جبالا
هم تركوا بقادس عز فخر ... وبالنجفين أياما طوالا
مقطعة أكفهم وسوق ... بمردى حيث قابلت الجبالا
وسمع أهل البحرين راكبا يقول:
ألا حييا أفناء بكر بن وائل ... فقد تركوا جمع الأعاجم واجما
هم صدقوا يوم القوادس فارسا ... بأسيافهم ضربا يبل القوائما
(2/501)
أناخوا لهم فى عرصة الدار وانتموا ... إلى
باذخ يعلو الذرى والجماجما
وسمع سامع بعمان قائلا:
ألا إن عبد القيس كانوا بأسرهم ... غداة قديس كالأسود الشداقم
وإذا هم من تغلب ابنة وائل ... كتائب تردى بالقنا والقوائم
هم فرقوا جمع الأعاجم وابتنوا ... قرارهم بالمقربات السواهم
فقولا لعبد الله أهلا ومرحبا ... وتغلب إذ فضوا هوادى الأعاجم
وأشقوا رؤس العجم بالبيض وانتموا ... لأكرم أنساب العريب الأكارم
وذكر الرواة أنهم سمعوا نحو هذا بالمدينة ومكة ونجران، وأنشدوا ما سمع فى
كل موضع منها، تركت ذكر ذلك اختصارا.
ومما قيل أيضا فى فتح القادسية من الشعر الذى لم يزل العلماء قديما يروونه،
قول بشر بن ربيعة الخثعمى:
تذكر هداك الله وقع سيوفنا ... بباب قديس والمكر ضرير
عشية ود القوم لو أن بعضهم ... يعار جناحى طائر فيطير
إذا ما فرغنا من قراع كتيبة ... برزنا لأخرى كالجبال تسير
ترى القوم منها واجمين كأنهم ... جمال بأحمال لهن زفير
وعند أبى حفص عطاء لراحل ... وعند المعنى فضة وحرير
وقال القعقاع بن عمرو يذكر شدة ذلك اليوم وما لقيت الفيول فيه وتأثيره
فيها:
حضض قومى مضر حى بن يعمر ... فلله قومى حين هزوا العواليا
وما خام عنها يوم سادت جموعنا ... لأهل قديس يمنعون المواليا
فإن كنت قاتلت العدو بنية ... فإنى لألقى فى الحروب الدواهيا
فيولا أراها كالليوث مغيرة ... أسمل أعيانا لها ومآقيا
وقال حمال الأسدى فى مثل ذلك:
ألا هل أتاها يوم أعماس أننى ... أمارس آسادا لها وفيولا
أمارس فيلا مثل كعبة أبهر ... ترى دونه رجراجة وخيولا
طعنت برمحى عينه فرددته ... يرشح بولا خشية وجفولا
وقال الشماخ بن ضرار:
ويوم بجو القادسية إذ سموا ... فعجت بقصاب من الهند نافح
(2/502)
أجالدهم والحى حولى كأنهم ... رجال تلاقوا
بينهم بالسوافح
وإنى لمن قوم على أن ذممتهم ... إذا أولموا لم يولموا بالأنافح
وأنك من قوم تحن نساؤهم ... إلى الجانب الأقصى حنين المنائح
وقال أيضا:
فليت أبا حفص رآنا ووقعنا ... بباب قديس بعد ما عدل الصف
حملنا على الآساد آساد فارس ... كحملة هرماس يحربه الصرف
وقال عاصم بن عمرو:
شاب المفارق والأعراض فالتمعت ... من وقعة بقديس جرها العجم
جاب الكتائب والأوزاع وانشمرت ... من صكة ديانها الحكم
بينا بجيلة قد كدت سراتهم ... سالت عليهم بأيدى الناصر العصم
سرنا إليهم كأنا عارض برد ... تزجى تواليه الأرواح والديم
كان العتيق لهم مثوى ومعركة ... فيها الفرائض والأوصال واللمم
وقال أبو بجيد، نافع بن الأسود يمدح قوموه، ويذكرهم أثرهم فى الجاهلية
والإسلام:
وقال القضاة من معد وغيرها ... تميمك أكفاء الملوك الأعاظم
هم أهل عز ثابت وأرومة ... وهم من معد فى الذرى والغلاصم
وهم يضمنون المال للجار ما ثوى ... وهم يطعمون الدهر ضربة لازم
سديف الذرى من كل كوماء بازل ... مقيما لمن يعفوهم غير جارم
فكيف تناحيها الأعاجم بعد ما ... علوا لجسيم المجد أهل المواسم
وبذل الندى للسائلين إذا اعتفوا ... وكب المتالى فى السنين الأوازم
ومدهم الأيدى إلى غاية العلى ... إذا أقصرت عنها أكف الألائم
وإرسالهم فى النائبات تلادهم ... لفك العناة أو لكشف المغارم
وقودهم الخيل العتاق إلى العدى ... ضوارى تردى فى لجاج المخارم
مجنبة تشكو النسور من الوجى ... يعاندن أعناق المطى الرواسم
لتنفض وترا أو لتحوى مغنما ... كذلك قدماهم حماة المغانم
وكائن أصابوا من غنيمة قاهر ... حدائق من نخل بقران ناعم
وكان لهذا الحى منهم غنيمة ... كما أحرزوا المرباع عند المقاسم
كذلك كان الله شرف قومنا ... بها فى الزمان الأول المتقادم
وحين أتى الإسلام كانوا أئمة ... وقادوا معدّا كلها بالخزائم
(2/503)
إلى هجرة كانت سناء ورفعة ... لباقيهم فيهم وخير مراغم
إذا الريف لم ينزل عريف بصحبه ... وإذ هو تكفيه ملوك الأعاجم
فجاءت تميم فى الكتائب نصرة ... يسيرون صفا كالليوث الضراغم
على كل جرداء السراة وملهب ... بعيد مدى التقريب عبل القوائم
عليهم من الماذى زعف مضاعف ... له حبك من شكة المتلازم
فقيل لكم مجد الحياة فجاهدوا ... فأنتم حماة الناس عند العظائم
فصفوا لأهل الشرك ثم تكبكبوا ... وطاروا عليهم بالسيوف الصوارم
فما برحوا يعصونهم بسيوفهم ... على الهام منهم والأنوف الرواغم
لدن غدوة حتى تولوا تسوقهم ... رجال تميم ذحلها غير نائم
من الراكبين الخيل شعثا إلى الوغى ... بصم القنا والمرهفات القواصم
فتلك مساعى الأكرمين ذوى الندى ... تميمك لا مسعاة أهل الألائم |