الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء

ذكر فتح العراق وما والاه على ما ذكره سيف بن عمر وأورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى عنه وعن غيره
ذكروا عن على بن أبى طالب وعبد الله بن عباس، رضى الله عنهما، قالا: حض الله المسلمين على عهد نبيه صلى الله عليه وسلم على الاستقامة على الدين وندبهم إلى فارس، ووعدهم، فتقدم إليهم فى ذلك من قبل غزوهم، ليحثهم وليدربهم، فبدأ بالردة فقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ

(2/368)


يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] ، فسمى من ثبت على دينه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاكرين. ثم عاد فى وصف من ناهض منهم أهل الردة، والمنافقون حشر فى المؤمنين، وإنما يكلم الله عز وجل، المؤمنين بما يعنى به المنافقين، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:
54] ، فسماهم أحباء وأثابهم، حيث كانوا أذلة أرقة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون، يعنى جهادا بعد جهادهم أهل الردة، يقاتلون من بعدهم أهل فارس، ولا يخافون تخويف من يخوفهم، هذا فضل الله يخص به من يشاء، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ عالم بهذا، فهم الشاكرون، وهم الفاضلون، وهم المقربون، وهم أحباء الله.
وعن على وابن عباس، رضى الله عنهما، فى قوله عز وجل: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ الآيتين إلى قوله: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [الفتح: 20، 21] ، «مغانم» فتوحا من لدن خيبر، تلونها وتضمون ما فيها «فعجل لكم هذه» أى عجل لكم من ذلك خيبر «وكف أيدى الناس عنكم» أيدى قريش بالصلح يوم الحديبية «ولتكون آية للمؤمنين» شاهدا على ما بعدها ودليلا على إنجازها «وأخرى لم تقدروا عليها» أى على علم وقتها، أفيئها عليكم: فارس والروم «قد أحاط الله بها» قضى الله بها أنها لكم، منها: الأيام، والقوادس، والواقوصة، والمدائن الحمر بالشام، ومصر، والضواحى، فاجتمعت هذه الصفات فيمن قاتل فارس والروم وسائر الأعاجم ذلك الزمان.
ذكر سيف قال: كان أول ملوك فارس قاتله المسلمون شيرى بن كسرى، وذلك أن أبا بكر الصديق، رضى الله عنه، حيث فرغ من أهل الردة، وأقامت جنود المسلمين فى بلدان من ارتد، كتب إلى خالد بن الوليد وهو باليمامة: أن ائذن للمسلمين فى القفل إلا من أحب المقام معك، ولا تكرهن أحدا على القيام، ولا تستعن فى شىء من حربك بمتكاره، وادع من يليك من تميم وقيس وبكر إلى موتان اليمامة، فإن موات ما أفاء الله على رسوله لله ولرسوله، فمن أحيا شيئا من ذلك فهو له، لا يدخل ذلك فى شىء من موات كل بلد أسلم عليه أهله.
ففعل خالد، فأنزل اليمامة من هؤلاء الأحياء من أقرن ببنى حنيفة، ولما أذن خالد فى القفل قفل الناس، أهل المدينة ومن حولها، وسائر من كان معه من أهل القبائل، وبقى

(2/369)


خالد فى ألفين من القبائل التى حول المدينة، من مزينة، وجهينة، وأسلم، وغفار، وضمرة، وأناس من غوث طيئ، ونبذ من عبد القيس.
ولما قفل من قفل، وجه المثنى بن حارثة الشيبانى، ومذعور بن عدى العجلى، وحرملة ابن مريطة، وسلمى بن القين الحنظليين وهما من المهاجرين، والمثنى ومذعور ممن وفد على النبى صلى الله عليه وسلم فقدموا على أبى بكر، رحمه الله، فقال له حرملة وسلمى: إنا معاشر بنى تميم وبكر بن وائل قد دربنا بقتال فارس، وأشجيناهم حتى اتخذوا الخنادق، وغبقوا المياه، واتخذوا المسالح فى القصور المشيدة وتحصنوا بها، فأذن لنا فى حربهم، فأذن لهما فولاهما على من تابعهما، واستعملهما على ما غلبا عليه، وكانا أول من قدم أرض فارس لقتال أهل فارس، وكانا من المهاجرين ومن صالحى الصحابة، فنزلا أطد»
ونعمان والجعرانة فى أربعة آلاف من تميم والرباب، وكان بإزائهما النوشجان والفيرمان بالوركاء «2» فزحفوا إليهما فغلبوهما على الوركاء، وغلبا على هرمزجرد إلى فرات بادقلى «3» .
وذكر سيف من طريق آخر أن المثنى ومذعورا لما قدما على أبى بكر استأذناه فى غزو أهل فارس وقالا: إنا وإخواننا من بنى تميم قد دربنا بقتالهم، وأخذنا النصف من أحد وثنى كل موسم، فأذن لهما، وولاهما على من تابعهما، واستعملهما على ما غلبا عليه، فجمعا جموعهما ثم سارا بهم حتى قدما بلاد فارس، وكانا أول من قدمها لقتالهم هما وحرملة وسلمى، وقدم المثنى ومذعور فى أربعة آلاف من بكر بن وائل وعنزة وضبيعة، فنزل أحدهما بخفان «4» ، ونزل الآخر بالمهارق، وعلى فرج الفرس مما يليهما شهربراز بن بندا، فنفياه وغلبا على فرات بادقلى إلى السيلحين «5» واتصل ما غلبا عليه وما غلب عليه سلمى وحرملة، وفى ذلك يقول مذعور بن عدى:
غلبنا على خفان بندا وشيحة ... إلى النخلات السحق فوق المهارق
وإنا لنرجو أن تجول خيولنا ... بشاطى الفرات بالسيوف البوارق
وقال المثنى فى ذلك:
__________
(1) أطد: أرض قرب الكوفة من جهة البر. انظر: معجم البلدان (1/ 216) .
(2) انظر: معجم البلدان (5/ 372، 373) .
(3) الخبر عن سيف بن عمر فى معجم البلدان (5/ 372، 373) .
(4) خفان: موضع قرب الكوفة. انظر: معجم البلدان (2/ 379) .
(5) موضع بين الكوفة والقادسية. انظر: معجم البلدان (3/ 298، 299) .

(2/370)


ألا أبلغا شهرا وشهر مهاجر ... بأنا سنلقاه على الحدثان
فنحن سللنا شيحة يوم بارق ... إلى شرّ دار تنتوى ومكان
ويروى أن أبا بكر، رحمه الله، لما بلغه ما كان من فتح حرملة وسلمى ومثنى ومذعور ما بين السيلحين إلى أسفل الفرات تمثل بقول الآخر:
ومتى تسلف فى قبيل خطة ... تلق المنال مضاعفا أو موعبا
وإذا عقدت بحبل قوم مرة ... ذربوا عليك فلم تجد لك مقضبا
حيان لا خطما بحبل هضيمة ... أنفا الزمام فلم يقرا مركبا
وحكى عمر بن شبة عن شيوخه من أهل الأخبار: أن المثنى بن حارثة كان يغير على أهل فارس بالسواد، فبلغ أبا بكر والمسلمين خبره، فقال عمر: من هذا الذى تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه، فقال له قيس بن عاصم: أما إنه غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا قليل العدد، ولا ذليل العمارة، ذلك المثنى بن حارثة الشيبانى «1» .
ثم إن المثنى قدم على أبى بكر فقال له: يا خليفة رسول الله، ابعثنى فى قومى، فإن فيهم إسلاما، أقاتل بهم أهل فارس، وأكفك أهل ناحيتى من العدو. ففعل ذلك أبو بكر، فقدم المثنى العراق، فقاتل وأغار على أهل فارس ونواحى السواد حولا مجرّما، ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبى بكر يسأله المدد، ويقول: إنك إن أمددتنى وسمعت بذلك العرب أسرعوا إلىّ وأذل الله المشركين، مع أنى أخبرك يا خليفة رسول الله، أن الأعاجم تخافنا وتتقينا. فقال له عمر: يا خليفة رسول الله أبعث خالد بن الوليد مددا للمثنى بن حارثة، يكون قريبا من أهل الشام، فإن استغنى عنه أهل الشام ألح على أهل العراق حتى يفتح الله عليه. قال: فهذا الذى هاج أبا بكر، رحمه الله، على أن يبعث خالد بن الوليد إلى العراق «2» .
وفى حديث آخر: أنه ولاه حرب العراق لما قضى ما أراد قضاءه من اليمامة، وكتب إلى المثنى ومذعور وسلمى وحرملة بأن يسمعوا له ويطيعوا.
__________
(1) انظر: الفتوح لابن أعثم الكوفى (1/ 89) ، الاستيعاب لابن عبد البر (ص 1457) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 106) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى (ص 53، 54) ، الاستيعاب لابن عبد البر (ص 1457) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 106، 107) .

(2/371)


أخبار الأيام فى زمان خالد بن الوليد رضى الله عنه «1»
وكانت لمن وليها الفضيلة والسابقة والقدمة؛ لأنهم شركوا أهل القادسية والبويب وفضلوهم بولايتهم هذه.
وهذا كما اجتمعت للمهاجرين النصرة مع الهجرة، وفضلوا الأنصار بالهجرة، فروى الشعبى وهشام بن عروة قالا: لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة كتب إليه أبو بكر: إنى قد وليتك حرب العراق، فاحشد من ثبت على الإسلام، وقاتل أهل الردة ممن بينك وبين العراق، من تميم وقيس وأسد وبكر بن وائل وعبد القيس، ثم سر نحو فارس، واستنصر الله عز وجل، وادخل العراق من أسفل العراق، فابدأ بفرج الهند، وهو يومئذ الأبلة «2» ، وكان صاحبها يساجل أهل الهند والسند فى البحر، ويساجل العرب فى البر.
وقال له: تألف أهل فارس، ومن كان فى مملكتهم من الأمم، وأنصفوا من أنفسكم فإنكم كنتم خير أمة أخرجت للناس. نسأل الله أن يجعل من ألحقه بنا وصيره منا خير متبع بإحسان. وإن فتح الله عليك فعارق حتى تلقى عياضا.
وكتب إلى عياض بن غنم وهو بين الحجاز والنباج «3» : أن سر حتى تأتى المصيخ فاحشد من بينك وبينها على إسلامه، وقاتل أهل الردة فابدأ بهم، ثم ادخل العراق من أعلاها فعارق حتى تلقى خالدا.
فاستمد خالد أبا بكر قبل خروجه من اليمامة، فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمى، واستمده عياض قبل تحركه، فأمده أبو بكر بعبد بن عوف الحميرى، وقيل لأبى بكر:
أتمد خالدا برجل قد أرفض عنه الناس؟ فقال: لا يهزم جيش فيه مثل القعقاع، وسيحشر من بينه وبين أهل العراق.
وكتب خالد إلى حرملة وسلمى والمثنى ومذعور ليلحقوا به، وأمرهم أن يغزوا جنودهم الأبلة ليوم سماه، ثم حشد من بينه وبين العراق، فحشد ثمانية آلاف من مصر
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 343- 350) ، الكامل لابن الأثير (2/ 261، 263) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 342، 343) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 78) .
(2) الأبلة: بلدة على شاطىء دجلة فى زاوية الخليج الذى يدخل إلى مدينة البصرة. انظر: معجم البلدان (1/ 77) .
(3) النباح: موضع بين البصرة ومكة. انظر: معجم البلدان: (5/ 255، 256) .

(2/372)


وربيعة إلى ألفين كانا معه، فقدم فى عشرة آلاف إلى ثمانية آلاف ممن كان مع الأمراء الأربعة، فلقى هرمز فى ثمانية عشر ألفا.
وفيما ذكره سيف من مسير خالد وعياض إلى العراق: أن أبا بكر أمرهما أن يستبقا إلى الحيرة، فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه. وقال: فإذا اجتمعتما بالحيرة، وفضضتما مسالح فارس، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم، فليكن أحد كما ردآ لصاحبه وللمسلمين بالحيرة، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم بالمدائن.
وكتب إليهما: استعينوا بالله واتقوه، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا، يجمع الله لكم بطاعته الدنيا إلى الآخرة، ولا تؤثروا الدنيا فتعجزكم، ويسلبكم الله بمعصيته الدنيا والآخرة، فما أهون العباد على الله إذا عصوه.
قال: ولما عزم خالد على المسير من اليمامة إلى العراق سأل عن الأدلة، فأتى بنفر، فسأل عن أسمائهم، فتفاءل منهم إلى ثلاثة بأسمائهم: ظفر بن عمرو السعدى ورافع بن عميرة الطائى، ومالك بن عباد الأسدى.
وجدد خالد التعبئة، فعبأ الناس تعبئة مستأنفة غير التى دخل بها اليمامة، ونصب لجنده أعلاما غير الذين كانوا أعلامهم، وذلك أن أعلامهم الذين دخل بهم اليمامة قفلوا. فوضع رجالا مكانهم، وتوخى الصحابة، ثم توخى منهم الكماة، فاستعمل على مضر القعقاع بن عمرو «1» ، وعلى ربيعة فرات بن حيان «2» ، وعلى قضاعة وضم إليهم أهل اليمن جرير بن عبد الله الحميرى أخا الأقرع بن عبد الله رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وجعل على القبائل دون ذلك، على نصف خندق، فارس أطلال بكير بن عبد الله الليثى، وعلى النصف الآخر معقل بن مقرن المزنى، وعلى قيس عيلان وعلى غطفان ومن يلاقيهم إلى سعد بن قيس، سعد بن عمارة التغلبى، وعلى هوازن ومن يلاقيهم إلى خصفة أبا حنش بن ذى اللحية العامرى، وضم جديلة إليهم، وهم عمرو بن قيس بن عيلان وعلى اللهازم من بكر بن وائل عتيبة بن النهاس، واللهازم عجل، وتيم اللات، وقيس بن ثعلبة، وعنزة، وعلى الدعائم وهم: شيبان بن ثعلبة، وذهل بن ثعلبة، وضبيعة
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7142) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4315) .
(2) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 333) ، تقريب التهذيب (2/ 107) ، الكاشف (2/ 379) ، الجرح والتعديل (7/ 449، 450) ، تهذيب التهذيب (8/ 259) ، الطبقات (65، 132) ، الإصابة ترجمة رقم (6989) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4213) .

(2/373)


ابن ربيعة، ويشكر بن ربيعة، يشكر بن بكر بن مطر بن عامر الشيبانى، وعلى قضاعة الحارث بن مرة الجهنى، وعلى اليمن مالك بن مرة الرهاوى، وابن زيد الخيل بن مهلهل، وهؤلاء تحت أيدى أولئك الثلاثة.
واستعمل على المقدمات: المثنى بن حارثة، وعلى المجنبات: عدى بن حاتم وعاصم ابن عمرو أخا القعقاع، وعلى الساقة: بسر بن أبى رهم الجهنى صاحب جبانة بسر، واستخلف على اليمامة وهوافى قيس وتميم سبرة بن عمرو العنزى، وكل من أمر له صحبة وقدمة. وخرج قاصدا الهرمز والأبلة.
وقال المغيرة بن عتبة قاضى الكوفة: فرق خالد مخرجه من اليمامة جنده ثلاث فرق، ولم يحملهم على طريقة واحدة، فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر، وسرح عديا وعاصما ودليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر، أحدهما قبل صاحبه بيوم، وخرج خالد ودليله رافع، فواعدهم جميعا الحفير ليجتمعوا فيه وليصادموا به عدوهم.
وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأنا وأشده شوكة، وكان صاحبه يحارب العرب فى البر والهند فى البحر.
وعن الشعبى قال: كتب خالد إلى هرمز قبل خروجه، وهرمز صاحب الثغر يومئذ:
أما بعد، أسلم تسلم، أو اعقد لنفسك وقومك الذمة وأقر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
ولما قدم كتاب خالد على هرمز كتب بالخبر إلى شيرى بن كسرى، وإلى أزدشير بن شيرى، وجمع جموعه ثم تعجل إلى الكواظم فى سرعان أصحابه ليتلقى خالدا، وسبق حلبته فلم يجد طريق خالد، وبلغه أنهم تواعدوا الحفير، فاعج يبادر خالدا إليه، فنزله فعبأ به، وجعل على مجنبتيه أخوين يلاقيان أزدشير وشيرى آل أزدشير الأكبر، يقال لهما:
قباذ وأنو شجان، فاقترنوا فى السلاسل، فقال من لم ير ذلك لمن رآه: قيدتم أنفسكم لعدوكم، فلا تفعلوا فإن هذا طائر سوء. فأجابوهم: أما أنتم فتحدثوننا أنكم تريدون الهرب. فلما أتى الخبر خالدا بمنزل هرمز أمال الناس إلى كاظمة، وبلغ ذلك هرمز، فبادره إليها فنزلها وهو حسير.
وكان من أسوء أمراء ذلك الفرج جوارا للعرب، فكل العرب عليه مغيظ، وقد كانوا يضربونه مثلا فى الخبث والمكر حتى قالوا: «أخبث من هرمز، وأمكر من هرمز» . وتعبأ هو وأصحابه والماء فى أيديهم.

(2/374)


وقدم خالد فنزل على غير ماء، فقالوا له فى ذلك، فأمر مناديه فنادى: ألا انزلوا وحطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمرى ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين. فحطت الأثقال والخيل وقوف، وتقدم الرجل ثم زحف إليهم حتى لاقاهم، فاقتتلوا، وأرسل الله سبحانه سحابة فأغدرت ماء وراء صف المسلمين فقواهم بها، وما ارتفع النهار وفى الغائط مقترن.
وأرسل هرمز أصحابه ليغدروا بخالد، ثم خرج فنادى رجل: أين خالد؟ وقد عهد إلى فرسانه عهده. فلما برز خالد نزل هرمز ودعاه إلى البراز، فبرز خالد يمشى إليه، فالتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد، وحملت حامية هرمز وغدرت، فاستلحموا خالدا فما شغله ذلك عن قتله.
وحمل القعقاع بن عمرو، واستلحم حماة هرمز، فأتاهم وخالد يماصعهم، فانهزم أهل فارس، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، وجمع خالد الرثاث والسلاسل، فكان وقر بعير، ألف رطل، فسميت ذات السلاسل.
قال: وكان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم فى عشائرهم، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف، وتمام شرف أحدهم أن يكون من البيوتات السبعة، فكان هرمز ممن تم شرفه، فكانت قيمة قلنسوته مائة ألف، فنفلها أبو بكر، رحمه الله، خالدا، وكانت مفصلة بالجوهر.
وقال حنظلة بن زياد بن حنظلة: فلما تراجع الطلب من ذلك اليوم، نادى منادى خالد بالرحيل، وسار بالناس، واتبعته الأثقال حتى نزل موضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وقد أفلت قباذ وأنوشجان، وبعث خالد بالفتح وما بقى من الأخماس وبالفيل، وقرئ الفتح على الناس، فلما قرئ فيه: «خرجت من اليمامة فى ألفين، وحشرت من ربيعة ومضر ثمانية آلاف، فقدمت فى عشرة آلاف على ثمانية آلاف مع الأمراء الأربعة: المثنى ومذعور وحرملة وسلمى» تمثل أبو بكر، رضى الله عنه:
تمنانا ليلقانا بقوم ... تخال بياض لامهم السرابا
فقد لاقيتنا فأريت يوما ... عماسا يمنع الشيخ الشرابا
تبدل علقما منا بحلو ... ينسيك الغنيمة والإيابا
إذا خرجت سوالفهن زورا ... كأن على حواركهن غابا
عليها كل متصل بمجد ... من الجهتين يلتهب التهابا

(2/375)


ولما قدم زر بن كليب بالفيل مع الأخماس فطيف به فى المدينة ليراه الناس، جعلت ضعيفات النساء يقلن: أمن خلق الله ما نرى؟ ورأينه مصنوعا، فرده أبو بكر، رضى الله عنه، مع زر.
وعن زياد بن حنظلة قال: إنى لبالمدينة وقد قدمتها وافدا من البحرين، إذ أرسل إلىّ أبو بكر وقد قدم عليه الخبر بوقعة ذات السلاسل، فقال لى: ألم تعلم أنه كان من الشأن ذيت وذيت، وأن خالدا ألقى هرمز فاستلحم، وأن القعقاع استلحم فقتلهم وتنفل؟.
قال زياد: فأقبلت على نفسى أحدثها فقلت: الخليفة وفراسته، وذكرت قوله:
«ولا يهزم جيش فيهم مثل هذا» ، فما راعنى إلا وأبو بكر يقول: أين أنت يا زياد؟ أما إن خالدا سيتغير له ويتنكر، ثم يراجع ويعرف الحق. فاستنكره القعقاع بعد ذلك، ووقع بينهما ما يقع بين الناس حتى قال القعقاع يعاتبه ولم يكن إلا ذلك:
منعتك من قرنى قباذ وليتنى ... تركتك فاستذكت عليك المعاتب
عطفت عليك المهر حتى تفرجت ... وملت من الطعن الدراك الرواجب
أجالدهم والخيل تنحط فى القنا ... وأنت وحيد قد حوتك الكتائب
وكائن هزمنا من كتيبة قاهر ... وكم عجمتنا فى الحروب العجائب
ولما نزل خالد موضع الجسر الأعظم اليوم بالبصرة بعث المثنى بن حارثة فى آثار القوم، فمضى حتى انتهى إلى نهر المرأة وإلى الحصن الذى فيه المرأة، فخلف المثنى بن حارثة عليها من حاصرها فى قصرها، ومضى المثنى، وأسلمت فتزوجها المثنى، ولم يحرك خالد وأمراؤه الفلاحين فى شىء من فتوحهم لتقدم أبى بكر فيهم، وسبى أولاد المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم، وأقر من لم ينهض من الفلاحين وجعل لهم الذمة.
وبلغ سهم الفارس يوم ذات السلاسل والثنى ألف درهم، والراجل على الثلث من ذلك.
حديث الثّنى والمذار «1»
وكانت وقعة المذار فى صفر سنة اثنتى عشرة، ويومئذ قال الناس: صفر الأصفار، فيه يقتل كل جبار، على مجمع الأنهار.
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 351، 352) ، الكامل لابن الأثير (2/ 263) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 108، 109) .

(2/376)


ولما كتب هرمز إلى ملكهم بكتاب خالد إليه بمسيره من اليمامة نحوه، أمده بقارن بن قربانس، فخرج من المدائن ممدّا لهرمز؛ حتى إذا انتهى إلى المذار بلغته الهزيمة؛ وانتهى إليه الفلال فتذامروا، وقال فلال الأهواز وفارس لفلال السواد والجبل: إن افترقتم لم تجتمعوا بعدها أبدا؛ فاجتمعوا على العدو مرة واحدة، فهذا مدد الملك وهذا قارن، لعل الله يديلنا ويشفينا من عدونا وندرك بعض ما أصابوا منّا. ففعلوا وعسكروا بالمذار، واستعمل قارن على مجنبتيه قباذ وأنوشجان، فأرسل المثنى إلى خالد بالخبر؛ فعند ذلك قسم خالد الفىء على من أفاء الله عليه، ونفل من الخمس ما شاء الله، وبعث مع الوليد ابن عقبة ببقيته، وبالفتح إلى أبى بكر، وبالخبر عن القوم، وباجتماع المغيث منهم والمغاث إلى الثنى، وهو النهر، وخرج خالدا سائرا إليهم حتى ينزل المذار، فالتقوا وخالد على تعبئته، فاقتتلوا على حنق وحفيظة، وخرج قارن يدعو للبراز، فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى بن النباش، فابتدراه، فسبقه إليه معقل فقتله، وقتل عاصم أنو شجان، وقتل عدى قباذ. وكان شرف قارن قد انتهى؛ ثم لم يقاتل المسلمون بعده أحدا انتهى شرفه فى الأعاجم.
وقتلت فارس مقتلة عظيمة؛ فضموا السفن ومنعت المياه المسلمين من طلبهم. وأقام خالد بالمذار، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت وقسم الفىء ونفل من الأخماس ما نفل فى أهل البلاء، وبعث ببقيتها إلى أبى بكر، رضى الله عنه.
وعن الشعبى قال: دفع خالد إلى أبيض الركبان سلب قارن وقيمته مائة ألف، وإلى عاصم وعدى سلب أنوشجان وقباذ، وقيمة سلب كل واحد منهما ثلاثة أرباع الشرف.
وعن أبى عثمان قال: قتل ليلة المذار ثلاثون ألفا سوى من غرق، ولولا المياه لأتى على آخرهم، ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة أو أشباه العراة.
قال الشعبى: لم يلق خالد أحدا بعد هرمز إلا كانت الوقعة الآخرة أعظم من التى قبلها.
وأقام خالد بالثنى يسبى عيالات المقاتلة ومن أعانهم، وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس بعد ما دعوا، وكل ذلك أخذ عنوة، ولكن دعوا إلى الجزاء فأجابوا وتراجعوا، وصاروا ذمة، وصارت أرضهم خراجا؛ وكذلك جرى ما لم يقسم، فإذا اقتسم فلا، ومن ذلك السبى كان حبيب أبو الحسن البصرى، وكان نصرانيا.
وقال عزيز بن مكنف: لم يدع خالد بعد هرمز أحدا من الأعاجم حتى هلك أزدشير

(2/377)


إلا أن يدعو قوما بعد ما يغلبهم على أرضهم ويجليهم عنها إلى الجزاء والذمة فيرد عليهم أرضهم فيصيروا ذمة ما لم تقتسم، وبذلك جرت السنة.
وأمر خالد على الجزاء سويد بن مقرن المزنى، وأمره بنزول الحفير، وأمره ببث عماله، ووضع يديه فى الجباية، وأقام لعدوه يتحسس الأخبار.
وقال عاصم بن عمرو فى ذلك من أبيات:
فلم أر مثل يوم السيب حتى ... رأيت الثنى تخضبه الدماء
وألوت خيلنا لما التقينا ... بقارن والأمور لها انتهاء
حديث الولجة «1» وهى مما يلى كسكر من البر
وكانت فى صفر سنة اثنتى عشرة.
قالوا: لما وقع الخبر إلى أردشير بمصاب قارن وأهل المذار، أرسل الأنذرزعر، وكان فارسيا من مولدى السواد وتنائهم؛ ولم يكن ممن ولد فى المدائن ولا نشأ بها، وأرسل بهمن جاذويه فى أثره، وكان رافد فارس فى يوم من أيام شهرهم، وذلك أنهم بنوا شهورهم كل شهر على ثلاثين يوما؛ فكان لأهل فارس فى كل يوم رافد نصب لذلك يرفدهم عند الملك؛ فكان بهمن أحدهم، فخرج الأنذرزعر سائرا من المدائن حتى أتى كسكر «2» ، ثم جازها إلى الوالجة «3» ، وخرج بهمن جاذويه فى أثره، فأخذ غير طريقه فسلك أوسط السواد، وقد حشد الأنذرزعر من بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية والدهاقين فعسكروا إلى جنب عسكره بالولجة؛ فلما اجتمع له ما أراد واستتم له أعجبه ما هو فيه، وأجمع السير إلى خالد.
ولما بلغ خالدا خبره ونزوله الولجة، نادى بالرحيل، وخلف سويد بن مقرن، وأمره بلزوم الحفير، وتقدم إلى من خلف بأسفل دجلة، وأمرهم بالحذر وقلة الغفلة، وترك
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 353، 354) ، الكامل لابن الأثير (263، 264) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 345) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 109) .
(2) كسكر: أى عامل الزرع، وهو بلد بالعراق بين الكوفة والبصرة. انظر: معجم البلدان (4/ 461) .
(3) الولجة والوالج: موضع يلى كسكر من البر. انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (3/ 353) ، معجم البلدان (5/ 383) .

(2/378)


الاغترار، وخرج سائرا فى الجنود نحو الولجة، حتى نزل على الأنذرزعر وجنوده ومن تأشب إليه، فاقتتلوا قتالا شديدا؛ هو أعظم من قتال الثنى، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، واستبطأ خالد كمينه؛ وكان قد وضع لهم كمينا فى ناحيتين، عليهم بسر بن أبى رهم وسعيد بن مرة العجلى، فخرج الكمين من وجهين، فانهزمت صفوف العاجم وولوا؛ وأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم، فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه؛ ومضى الأنذرزعر فى هزيمته، فمات عطشا. وقام خالد فى الناس خطيبا يرغبهم فى بلاد العجم، ويزهدهم فى بلاد العرب، وقال: ألا ترون إلى الطعام كالتراب، والله لو لم يلزمنا الجهاد فى الله، والدعاء إليه، ولم يكن إلا المعاش لكان الرأى أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولى الجوع والإقلال من تولاه ممن تثاقل عما أنتم عليه.
وسار خالد فى الفلاحين سيرته فلم يقتلهم، وسبى ذرارى المقاتلة ومن أعانهم، ودعا أهل الأرض إلى الجزاء والذمة فتراجعوا.
وبارز خالد يوم الولجة رجلا من أهل فارس يعدل بألف رجل فقتله، فلما فرغ اتكأ عليه، ودعا بغذائه.
وقال خالد يذكر ذلك اليوم:
نهكناهم بها حتى استجاروا ... ولولا الله لم يرزوا قبالا
فولوا الله نعمته وقولوا ... ألا بالله نحتضر القتالا
وقال القعقاع فى ذلك وأثنى على المسلمين:
ولم أر قوما مثل قوم رأيتهم ... على ولجات البر أحمى وأنجبا
وأقتل للرواس فى كل مجمع ... إذا صعصع الدهر الجموع وكبكبا
فنحن حبسنا بالزمازم بعد ما ... أقاموا لنا فى عرصة الدار ترقبا
قتلناهم ما بين قلع مطلق ... إلى القيعة الغبراء يوما مطنبا
حديث ألّيس، وهى على صلب الفرات «1»
ولما أصاب خالد من أصاب يوم الولجة من بكر بن وائل من نصاراهم الذين أعانوا
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 355- 358) ، الروض المعطار (ص 29، 30) ، الكامل لابن الأثير (2/ 264، 265) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 109، 110) ، البداية والنهاية لابن كثير (ص 346، 347) .

(2/379)


أهل فارس غضب لهم نصارى قومهم؛ فكاتبوا الأعاجم وكاتبتهم الأعاجم؛ فاجتمعوا إلى أليس، وعليهم عبد الأسود العجلى، وكان أشد الناس على أولئك النصارى مسلموا بنى عجل عتيبة بن النهاس وسعيد بن مرة وفرات بن حيان والمثنى بن لاحق ومذعور بن عدى.
وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه: أن سر حتى تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب. فقدم بهمن أمامه جابان وأمره بالحث وقال له: كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك. فسار جابان نحو أليس، وانطلق بهمهن إلى أردشير ليحدث به عهدا، ويستأمره فيما يريد أن يشير به، فوجده مريضا؛ فعرج عليه، وأخلى جابان بذلك الوجه، ومضى جابان حتى انتهى إلى أليس فنزل بها، واجتمعت إليه المسالح التى كانت بإزاء العرب، وعبد الأسود فى نصارى بنى عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة، وكان أبجر بن بجير نصرانيا فساند عبد الأسود؛ وكان خالد بلغه بجمع عبد الأسود وأبجر وزهير فيمن تأشب إليهم، فنهد إليهم ولا يشعر بدنو جابان، وليست لخالد همة إلا من تجمع له من عرب الضاحية ونصاراهم.
ولما طلع خالد على أليس قالت الأعاجم لجابان: أنعاجلهم أو نغدى الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم، ثم نقاتلهم بعد الفراغ؟ فقال جابان: إن تركوكم والتهاون بهم فتهاونوا، ولكن ظنى أن سيعاجلوكم ويعجلوكم عن طعامكم، فعصوه وبسطوا البسط ووضعوا الأطعمة، وتداعوا إليها، وتوافوا عليها.
فلما انتهى خالد إليهم أمر بحط الأثقال، فلما وضعت توجه إليهم، ووكل خالد بنفسه حوامى يحمون ظهره، ثم برز أمام الصف فنادى: أين أبجر؟ أين مالك بن قيس؟
رجل من خدرة، فنكلوا عنه جميعا إلا مالكا، فبرز له، فقال له خالد: يا ابن الخبيثة، ما جرأك علىّ من بينهم، وليس فيك وفاء!.
وقال:
أنا ابن ذات الحسب الممذوق ... إنك فى ضيق أشد الضيق
وضربه فقتله، وأجهض الأعاجم عن طعامهم قبل أن يأكلوه، فقال لهم جابان: ألم أقل لكم يا قوم؟ لا والله ما دخلتنى من رئيس وحشة قط حتى كان اليوم، فقالوا: تجلدا، حيث لم يقدروا على الأكل: ندعها حتى نفرغ منهم؛ ثم نعود إليها. فقال جابان:

(2/380)


وأيضا أظنكم والله لهم وضعتموها وأنتم لا تشعرون، فالآن فأطيعونى وسموها؛ فإن كانت لنا فأهون هالك، وإن كانت علينا كنا قد صنعنا شيئا، وأبلينا عذرا. فقالوا: لا، إلا اقتدارا عليهم.
وجعل جابان على مجنبتيه عبد الأسود وأبجر، وخالد على تعبئته فى الأيام التى قبلها، فاقتتلوا قتالا شديدا، والمشركون يزيدهم كلبا وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن، فصابروا المسلمين للذى كان فى علم الله أن يصيرهم إليه، وحرب المسلمون عليهم، وقال خالد: اللهم لك علىّ إن منحتنا أكتافهم أن لا استبقى منهم أحدا قدرنا عليه حتى أجرى نهرهم بدمائهم! ثم إن الله، عز وجل، كشفهم للمسلمين، ومنحهم أكتافهم، فأمر خالد مناديه، فنادى فى الناس: الأسر الأسر! لا تقتلوا إلا من امتنع، فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين يساقون سوقا، وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم فى النهر، ففعل ذلك بهم يوما وليلة وطلبوهم الغد وبعد الغد؛ حتى انتهوا إلى النهرين، ومقدار ذلك من كل جوانب أليس. فضرب أعناقهم، وكانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر ثلاثة أيام وهم ثمانية عشر ألفا أو يزيدون.
ولما رجع المسلمون من طلبهم، ودخلوا عسكرهم، وقف خالد على الطعام الذى كان المشركون قدموه لغدائهم فأعجلوا عنه، فقال للمسلمين: قد نفلتكموه فهو لكم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى على طعام مصنوع نفله، فقعد الناس على ذلك لعشائهم بالليل، وجعل من لا يرد الأرياف ولا يعرف الرقاق يقول: ما هذه الرقاع البيض! وجعل من قد عرفها يجيبهم، ويقول لهم مازحا: هل سمعتم برقيق العيش؟ فيقولون: نعم، فيقول: هو هذا؛ فسمى الرقاق.
وعن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الناس يوم خيبر الخبز والطبيخ والشواء وما أكلوا غير ذلك فى بطونهم غير متأثليه.
وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلا من بنى عجل، وكان دليلا صارما، فقدم على أبى بكر، رضى الله عنه، بالخبر، وبفتح أليس، وبقدر الفىء، وبعدة السبى، وبما حصل من الأخماس، وبأهل البلاء من الناس، فلما رأى أبو بكر صرامته وثبات خبره، قال: ما اسمك؟ قال: جندل. فقال أبو بكر: ويها جندل:
نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكرّ والإقداما
وأمر له بجارية من السبى فولدت له.

(2/381)


وكان خالد وجنده هم جند المسلمين، وكتيبة الإسلام، بهم فض الله أهل فارس ورعبهم، وما زالت بعدها مرعوبة منتشرة لم يأتوا فى وقعة بمثل ذلك الجد والصبر إلى أن فارقهم خالد إلى الشام.
وبلغت قتلاهم يوم أليس سبعين ألفا جلهم من أمغيشيا، وفى ذلك يقول الأسود بن قطبة:
قتلنا منهم سبعين ألفا ... بقية خربهم غبّ الإسار
سوى من ليس يحصى من قتيل ... ومن قد غال جولان الغبار
وقال خالد بن الوليد لما افتتح الحيرة: لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع فى يدى تسعة أسياف، وما لقيت قوما كقوم لقيتهم من أهل فارس، وما لقيت من أهل فارس قوما كأهل أليس.
حديث أمغيشيا وكيف أفاءها الله بغير قتال «1»
ولما فرغ خالد من وقعة أليس، نهض فأتى على أمغيشيا وقد أعجلهم عما فيها، وقد جلا أهلها، وتفرقوا فى السواد، فأمر خالد بهدمها وهدم كل شىء كان فى حيزها وكانت مصرا كالحيرة؛ وكان فرات بادقلى ينتهى إليها، وكان أليس من مسالحها، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا قط قبله مثله.
وبلغ سهم الفارس ألفا وخمسمائة، سوى الأنفال التى نفلها أهل البلاء.
ولما بلغ ذلك أبا بكر قال: يا معشر قريش، عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله، أعجز النساء أن ينسأن بمثل خالد.
حديث يوم المقر وفم فرات بادقلى مع ما يتصل به من حديث الحيرة «2»
ذكر أن الآزادبه كان مرزبان الحيرة من زمان كسرى إلى ذلك اليوم، وكانوا لا يمد
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 358، 359) ، الروض المعطار (ص 31) .
(2) انظر: الطبرى (3/ 359- 373) ، الكامل لابن الأثير (3/ 265- 268) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 111، 112) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 347، 348) .

(2/382)


بعضهم بعضا إلا بإذن الملك، فلما أخرب خالد أمغيشيا علم أنه غير متروك، فتهيأ لحرب خالد، وقدم ابنه، ثم خرج فى أثره، فعسكر خارجا من الحيرة، وأمر ابنه بسد الفرات.
ولما استقبل خالد من أمر أمغيشيا وحمل الرجل فى السفن مع الأثقال والأنفال، لم يفجأ خالدا إلا والسفن جوانح فارتاعوا لذلك، فقال الملاحون: إن أهل فارس فجروا النهار، فسلك الماء على غير طريقه، فلا يأتينا الماء إلا بسد الأنهار، فتعجل خالد فى خيل نحو الآزادبه، فلقى على فم العتيق خيلا من خيلهم، فجأهم وهم آمنون غارته تلك الساعة، فأنامهم بالمقر، ثم سار من فوره، وسبق الأخبار إلى ابن الآزادبه حتى يلقاه وجنوده بفم فرات بادقلى، فاقتتلوا، فأنامهم خالد، وفجر الفرات وسد الأنهار فسلك الماء سبيله.
ثم قصد خالد للحيرة، واستلحق أصحابه، وسار حتى ينزل بين الخورنق والنجف، فقدم خالد الخورنق، وقد قطع الآزادبه الفرات هربا من غير قتال، وإنما جرأه على الهرب أن الخبر وقع إليه بموت أردشير وبمصاب ابنه، وكان عسكره بين الغربين والقصر الأبيض. ولما تتام أصحاب خالد إليه بالخورنق خرج منه حتى يعسكر فى موضع عسكر الآزادبه بين الغربين والقصر الأبيض، وأهل الحيرة متحصنون، فأدخل خالد الحيرة الخيل من عسكره، وأمر بكل قصر رجلا من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم، فكان ضرار بن الأزور محاصرا للقصر الأبيض، وفيه إياس بن قبيصة الطائى، وكان ضرار بن الخطاب محاصرا قصر الغربين وفيه عدى بن عدى المقتول، وكان ضرار بن مقرن المزنى، عاشر عشرة إخوة له، محاصرا قصر بنى مازن وفيه ابن أكال، وكان المثنى محاصرا قصر بنى بقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح، فدعوهم جميعا، وأجلوهم يوما، فأبى أهل الحيرة ولجوا، فناوشهم المسلمون.
وعهد خالد إلى أمرائه أن يبدؤا بالدعاء، فإن قبلوا قبلوا منهم، وإن أبوا أجلوهم يوما، وقال: لا تمكنوا عدوكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر، ولكن ناجزوهم ولا ترددوا المسلمين عن قتال عدوهم.
فكان أول القواد أنشب القتال بعد يوم أجلوهم فيه ضرار بن الأزور، وكان على قتال القصر الأبيض، فأصبحوا وهم مشرفون، فدعاهم إلى إحدى ثلاث: الإسلام، أو الجزاء، أو المنابذة، فاختاروا المنابذة، فقال ضرار: ارشقوهم، فدنوا منهم فرشقوهم بالنبل، فأعروا رؤس الحيطان، ثم بثوا غارتهم فيمن يليهم، وصبح أمير كل قوم أصحابه

(2/383)


بمثل ذلك، فافتتحوا الدور والديران، وأكثروا القتل، فنادى القسيسون والرهبان: يا أهل القصور، ما يقتلنا غيركم. فنادى أهل القصور: يا معشر العرب، قد قبلنا واحدة من ثلاث فدعونا وكفوا عنا حتى تبلغونا خالدا.
وكان أول من طلب الصلح عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث وهو بقيلة، وإنما سمى بقيلة لأنه خرج على قومه فى بردين أخضرين، فقالوا له: يا حار ما أنت إلا بقيلة خضراء، ثم تتابعوا على ذلك. فخرج وجوه كل قصر إلى من كان عليه من أمراء خالد، فأرسلوهم إليه مع كل رجل منهم ثقة من قبل مرسله، فخلا خالد بأهل كل قصر منهم دون الآخرين، وبدأ بأصحاب عدى بن عدى وقال: ويحكم ما أنتم؟
أعرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أو عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ فقال له عدى: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا؟! فقال له عدى: ليدلك على ما تقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال:
صدقت. اختاروا واحدة من ثلاث: إما أن تدخلوا فى ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا إن نهضتم وهاجرتم أو أقمتم فى دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة، فقد والله أتيتكم بقوم هم أحرى على الموت منكم على الحياة. فقال: بل نعطيكم الجزية، فقال خالد: تبا لكم، ويحكم إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان:
أحدهما عربى فتركه واستدل الأعجمى. فصالحوه على مائة ألف وتسعين ألفا، وتتابعوا على ذلك، وأهدوا له الهدايا، وبعث بالفتح والهدايا إلى أبى بكر الصديق، فقبلها أبو بكر، رضى الله عنه، من الجزاء، وكتب إلى خالد: أن احسب لهم هديتهم من الجزاء، إلا أن تكون من الجزاء وخذ بقية ما عليهم فقو بها أصحابك.
وفى حديث مثله أو نحوه عن رجل من كنانة وغيره: أن أهل الحيرة لما انتهوا إلى خالد كانوا يختلفون إليه ويقدمون فى حوائجهم عمرو بن عبد المسيح، فقال له خالد:
كم أتت عليك؟ قال: مئوسنين، قال: فما أعجب ما رأيت؟ قال: رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة، وتخرج المرأة من الحيرة فلا تزود إلا رغيفا، فتبسم خالد، قال:
هل لك من شيخك إلا عقله ... خرفت والله يا عمرو
ثم أقبل على أهل الحيرة وقال: ألم يبلغنى أنكم خبثة خدعة مكرة؟ فما لكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يدرى من أين جاء؟ فتجاهل له عمرو، وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله، ويستدل به على صحة ما حدثه به، فقال: وحقك أيها الأمير، إنى لأعرف من أين جئت؟ قال: فمن أين جئت؟ قال: أقرب أم أباعد؟ قال: ما شئت، قال:

(2/384)


من بطن أمى، قال: فأين تريد؟ قال: ما أمامى، قال: وما هو؟ قال: الآخرة. قال: فمن أين أقصى أثرك؟ قال: صلب أبى، قال: ففيم أنت؟ قال: فى ثيابى، فقال خالد: إنه ليعقل! قال: أى والله وأفيد، فوجده حين فره عضا وكان أهل قريته أعلم به.
وقال خالد: قتلت أرض جاهلها، وقتل أرضا عالمها، القوم أعلم بما فيهم! فقال عمرو: والنملة أعلم بما فى بيتها من الجمل بما فى بيت النملة!.
قالوا: وكان مع ابن بقيلة منصف له متعلقا كيسا فى حقوه، فتناول خالد الكيس ونثر ما فيه فى راحته، وقال: ما هذا يا عمرو؟ قال: هذا وأمنة الله سمّ ساعة، قال: ولم تحتقبه؟ قال: خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، وقد أتيت على أجلى، والموت أحب إلىّ من مكروه أدخله على قومى. فقال خالد: إنه لن تموت نفس حتى تأتى على أجلها، وقال: بسم الله خير الأسماء، ورب الأرض والسماء، الذى ليس يضر مع اسمه داء، فأهووا إليه ليمنعوه، فبادرهم وابتلع السم، فقال عمرو: والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن.
وأقبل على أهل الحيرة، وقال: لم أر كاليوم أمرا أوضح إقبالا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر الحيرة وأنه أريها ورفعت له، وكأن شرف قصورها أضراس الكلاب، وأنها ستفتح على المسلمين. فسأله رجل يقال له: شويل، كرامة بنت عبد المسيح، فقال له: «هى لك إذا فتحت عنوة» ، يعنى الحيرة، فلما راوض أهل الحيرة خالدا على الصلح وأداء الجزية قام إليه شويل فذكر له ذلك وشهد له به، فأبى خالد أن يكاتبهم إلا على إسلام كرامة إلى شويل، فثقل ذلك عليهم، فقالت: هونوا عليكم وأسلمونى، فإنى سأفتدى، ففعلوا، وكتب خالد بينه وبينهم كتابا:
«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديا وعمرا ابنى عدى، وعمرو بن عبد المسيح، وإياس بن قبيصة، وحيرى بن أكال، وهم نقباء أهل الحيرة، ورضى بذلك أهل الحيرة وأمروهم به، وعاهدوهم على تسعين ومائة ألف درهم، تقبل فى كل سنة جزاء عن أيديهم فى الدنيا، رهبانهم وقسيسيهم، وجماعتهم، إلا من كان غير ذى يد، حبيسا عن الدنيا، تاركا لها، وسائحا تاركا للدنيا، وعلى المنعة، فإن لم يمنعهم فلا شىء عليهم حتى يمنعهم، وإن غدروا بقول أو فعل فالذمة منهم بريئة. وكتب فى شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة» .
فاستخف أهل الحيرة بهذا الكتاب وضيعوه، فلما نقض أهل السواد بعد موت أبى

(2/385)


بكر وكفروا فيمن كفر، وغلب عليهم أهل فارس، ثم افتتحها المثنى بن حارثة ثانية، أدلوا بمقتضى ذلك الكتاب، فلم يجبهم إليه، ودعا بشرط آخر، فلما غلب المثنى على البلاد كفروا فيمن كفر، وأعانوا، واستخفوا وأضاعوا الكتاب، فلما افتتحها سعد، أدلوا بذلك فسألهم واحدا من الشرطين، فلم يجيبوا به، فوضع عليهم وتحرى ما يرى أنهم يطيقون، فوضع عليهم أربعمائة ألف سوى الخزرة، وهو رسم كان عليهم لكسرى فى كل سنة أربعة دراهم على كل رأس.
وفيما حكاه ابن الكلبى من حديث الحيرة أن الذى خرج منهم إلى خالد هو عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة وهانئ بن قبيصة الطائى، مع من خرج إليه من أشرافهم، وأن خالدا سأل عبد المسيح فذكر نحوا مما تقدم عن عمرو بن عبد المسيح إلى أن قال له:
ويحك تعقل قال: نعم، وأفيد. قال خالد: وأنا أسألك، قال عبد المسيح: وأنا أجيبك.
قال: أسلم أنت أم حرب؟ قال: بل سلم. قال: فما هذه الحصون التى أرى؟ قال: بنيناها للسفيه تمنعه حتى يأتى الحليم فينهاه. ثم ذكر من مصالحته إياهم على الجزية نحوا مما تقدم.
قال: فكانت أول جزية حملت إلى المدينة، من العراق، ثم نزل على بانقيا فصالحهم بصهير بن صلوبا على ألف درهم وطيلسان، وكتب لهم كتابا.
وعن ابن إسحاق أن أول شىء صالح عليه خالد حين سار يريد العراق قريات من السواد، يقال لها: بانقيا، وباروسما، وأليس، نزل عليها خالد فصالحه عليها ابن صلوبا، فقبل منهم خالد الجزية، وكتب لهم كتابا.
قال: ثم أقبل خالد بمن معه حتى نزل الحيرة فجعل ابن إسحاق شأن تلك القريات مقدما على أمر الحيرة، والأكثرون يقولون إنها كانت بعدها، وإن أهلها وسائر دهاقين الملطاطين إنما كانوا يتربصون وينظرون ما يصنع أهل الحيرة. فلما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد على الصلح طلب جميعهم الصلح وسمحوا بالجزية واكتتبوا بها من خالد كتبا.
وبين الرواة خلاف كثير فى أسماء الرجال والأماكن ومقادير الجزاء، فرأيت اختصار ذلك أولى.
وعن الشعبى فى حديث كرامة بنت عبد المسيح لما اشتد على قومها دفعها إلى شويل وأعظم الخطر، قالت لهم: لا تخطروه، ولكن اصبروا، ما تخافون على امرأة بلغت ثمانين

(2/386)


سنة؟ إنما هذا رجل أحمق رآنى فى شبيبتى فظن أن الشباب يدوم. فدفعوها إلى خالد، فدفعها خالد إليه، فقالت: ما أربك إلى عجوز كما قد ترى؟ فأدنى قال: لا، إلا على حكمى، قالت: فلك حكمك مرسلا، فقال: لست لأم شويل إن نقصتك من ألف درهم! فاستكثرت ذلك لتخدعه، ثم أتته بها. فرجعت إلى أهلها، فتسامع الناس بذلك، فعنفوه، فقال: ما كنت أرى أن عددا يزيد على ألف، وخاصمهم إلى خالد، وقال:
كانت نيتى غاية العدد، وقد ذكروا أن العدد يزيد على ألف، فقال خالد: أردت أمرا وأراد الله غيره، ونأخذ بما ظهر وندعك ونيتك، كاذبا كنت أو صادقا.
ومما يروى من شعر ابن بقيلة:
أبعد المنذرين أرى سواما ... تروح بالخورنق والسدير
وبعد فوارس النعمان أرعى ... قلوصا بين مرة والحفير
فصرنا بعد ملك أبى قبيس ... كجرب المعز فى اليوم المطير
تقسمنا القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور
وكنا لا يرام لنا حريم ... فنحن كضرة الضرع الفجور
نودى الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير
كذاك الدهر دولته سجال ... فيوم فى مساءة أو سرور
وقال القعقاع بن عمرو فى أيام الحيرة «1» :
سقى الله قتلى بالفرات مقيمة ... وأخرى بأثباج النجاف الكوانف
فنحن وطئنا بالكواظم هرمزا ... وبالثنى قرنى قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت ... على الحيرة الروحاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كاد عرشهم ... يميل به فعل الجبان المخالف
مننا عليهم بالقبول وقد رأوا ... عيون المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا ... إلى الريف من أرض العريب النفانف
وقال أخوه عاصم بن عمرو فى ذلك:
صبحنا الحيرة الروحاء خيلا ... ورجلا فوق أثباج الركاب
حصرنا فى نواحيها قصورا ... مشرفة كأضراس الكلاب
فبادوا بالعريب ولم يحاموا ... فقلنا دونكم فعل العراب
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 365) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 348) .

(2/387)


فقالوا بل نؤدى الخرج حتى ... تزل الراسيات من الضراب
صدفنا عنهم لما اتقونا ... وأبنا حيث أبنا بالنهاب
وبعث خالد بن الوليد عماله ومسالحه، لجباية الخراج وحماية البلاد، وأمر أمراءه على الثغور بالغارة والإلحاح، فنزلوا على السيب فى عرض سلطانه، وهناك كانت الثغور فى زمانه، فمهدوا له ما وراء ذلك إلى شاطئ دجلة، وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر، وليس لأحدهم ذمة إلا الذين كاتبوا خالدا واكتتبوا منه، وسائر أهل السواد جلاء ومتحصنون ومحاربون، وجنى الخراج إلى خالد فى خمسين ليلة، وكان الذين ضمنوه رؤس الرساتيق رهنا فى يديه، فأعطى ذلك كله المسلمين، فقووا به على أمرهم.
وقال أبو مفزر الأسود بن قطبة فيما فتح بعد الحيرة:
ألا أبلغا عنا الخليفة أننا ... غلبنا على نصف السواد الأكاسرا
غلبنا على ماء الفرات وأرضه ... عشية حزنا بالسيوف الأكابرا
فدرت علينا جزية القوم بعد ما ... ضربناهم ضربا يقط البواترا
ولما غلب خالد على أحد جانبى السواد، دعا برجلين، أحدهما حيرى والآخر نبطى، وكتب معهما كتابين إلى أهل فارس، أحدهما إلى الخاصة والآخر إلى العامة. وهذا أحدهما:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، أما بعد، فالحمد لله الذى حل نظامكم، ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم لكان شرا لكم، فادخلوا فى أمرنا ندعكم وأرضكم، ونجزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك على غلب وأنتم كارهون، على أيدى قوم يحبون الموت كحبكم الحياة» .
والكتاب الآخر:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس، أما بعد، فالحمد لله الذى فض حرمتكم، وفرق كلمتكم، وفل حدكم، وكسر شوكتكم، فأسلموا تسلموا، وإلا فاعتقدوا منى الذمة، وأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» .
ودعا خالد الرجل الحيرى فقال له: ما اسمك؟ قال: مرة. قال: خذ الكتاب، لأحد الكتابين، فأت به أهل فارس لعل الله يمر عليهم عيشهم، أو يسلموا، وينيبوا. وقال للنبطى: ما اسمك؟ قال: هزقيل. قال: خذ الكتاب، اللهم ازهق نفوسهم.

(2/388)


وكان أهل فارس إذ ذاك لموت أردشير مختلفين فى الملك مجتمعين على قتال خالد متساندين، إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه ببهرسير، ومعه الآزادبه، فى أشباه له.
ولما وقعت كتب خالد إلى أهل المدائن تكلم نساء آل كسرى، فولى الفراخزاد بن البندوان إلى أن يجتمع آل كسرى على رجل إن وجدوه، وأقام خالد فى عمله سنة ومنزله الحيرة، يصعد ويصوب قبل خروجه إلى الشام، وأهل فارس يخلعون ويملكون، ليس إلا للدفع عن بهرسير، وكان شيرى بن كسرى قد قتل كل من يناسب إلى كسرى ابن قباذ، ووثب أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه، وقتلوا كل من بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جور، فبقوا لا يقدرون على من يملكونه ممن يجتمعون عليه.
وعن الشعبى قال: أقام خالد فيما بين فتح الحيرة إلى خروجه إلى الشام أكثر من سنة، يعالج عمل عياض الذى سمى له، فقال خالد للمسلمين: لولا ما عهد إلى الخليفة ما كان دون فتح فارس شىء، وكان عهد إليه وإلى عياض إذ وجههما أن يستبقا إلى الحيرة فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه، وقال: فإذا اجتمعتما بالحيرة وفضضتما مسالح فارس، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكما ردآ للمسلمين ولصاحبه بالحيرة وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن، حسب ما تقدم من كتاب أبى بكر إليهما بذلك قبل هذا.
فكان خالد لا يستطيع أن يفارق مكانه للاقتحام على فارس ولا لإغاثة عياض وكان بدومة قد شجى وأشجى؟، لأجل ما عهد إليه أبو بكر أن لا يقتحم عليهم، وخلفه نظام لهم. وكان بالعين عسكر لفارس وبالأنبار آخر وبالفراض آخر، ثم إن خالدا لما استقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد فرق سواد الحيرة على رجال ممن كان معه، وفعل فى سواد الأبلة مثل ذلك، وأقر أمر المسالح على ثغورهم، واستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو. وخرج خالد فى عمل عياض ليقضى ما بينه وبينه ولإغاثته، فسار حتى نزل بكربلاء، وأقام عليها أياما، وشكا إليه عبد الله بن وثيمة الذباب، فقال له: اصبر فإنى إنما أريد أن أستفرغ المسالح التى أمر بها عياض فتسكنها العرب، فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا من خلفهم، وتجيئنا العرب آمنة وغير متعتعة، وبذلك أمرنا الخليفة، ورأيه يعدل نجدة الأمة.
وقال رجل من أشجع فى مثل ما شكاه ابن وثيمة النضرى من أمر الذباب:
لقد حبست بكربلاء مطيتى ... وبالعين حتى عاد غثّا سمينها

(2/389)


إذا رحلت من منزل رجعت له ... لعمر أبيها إننى لا أهينها
ويمنعها من ماء كل شريعة ... رفاق من الذبان زرق عيونها
حديث الأنبار «1» وهى ذات العيون «2»
وخرج خالد فى تعبيته التى خرج فيها من الحيرة، على مقدمته الأقرع بن حابس.
فلما نزل الأقرع المنزل الذى يسلمه إلى الأنبار نتج قوم من المسلمين إبلهم، فلم يستطيعوا العرجة، ولم يجدوا بدا من الإقدام، ومعهم بنات مخاض تتبعهم. فلما نودى بالرحيل صروا الأمهات، واحتقبوا المنتوجات؛ لأنها لم تطق السير، فانتهوا ركبانا إلى الأنبار، وقد تحصن أهلها، وخندقوا عليها، فأشرفوا من حصنهم، وعلى الجنود التى قبلهم شيرزاد صاحب ساباط «3» ، وكان أعقل أعجمى يومئذ وأسوده، فتصايح عرب الأنبار وقالوا:
صبح الأنبار شر، جمل يحمل جميلة وجمل تربه عوذ. فقال شيرزاد، وقد سأل عن ما يقولون، فأخبر به: أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم، والله لئن لم يكن خالد مجتازا لأصالحنه، فبينما هم كذلك قدم خالد على المقدمة، فأطاف بالخندق، وأنشب القتال، وكان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به، وتقدم إلى رماته، فأوصاهم وقال: إنى أرى أقواما لا علم لهم بالحرب، فارموا عيونهم ولا توخوا غيرها، فرموا رشقا واحدا، ففقئت ألف عين يومئذ، فسميت تلك الوقعة ذات العيون، وتصايح القوم: عيون أهل الأنبار فراسل شيرزاد خالدا فى الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله، وأتى خالد أضيق مكان فى الخندق فنحر رذايا الجيش ثم رمى فيه فأفعمه، ثم اقتحموا الخندق والرذايا جسورهم، فاجتمع المسلمون والمشركون فى الخندق، وأرز القوم إلى حصنهم، وراسل شيرزاد فى الصلح على مراد خالد، فقبل منه خالد على أن يخليه ويلحقه بمأمنه فى جريدة خيل، ليس معهم من المتاع والمال شىء، فخرج شيرزاد، فلما قدم على بهمهن جاذويه وأخبره الخبر لامه، فقال له شيرزاد: إنى كنت فى قوم ليست لهم عقول، وأصلهم من العرب، فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم، وقلما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم. ثم قاتلهم الجند، ففقئوا فيهم وفى أهل الأرض ألف عين، فعرفت أن المسألة أسلم، وأن قرة العين لهم، وأن العيون لا تقر منهم بشىء.
__________
(1) الأنبار: مدينة بالقرب من بلخ. انظر: معجم البلدان (1/ 257، 258) .
(2) انظر: الطبرى (3/ 373- 375) ، الكامل لابن الأثير (2/ 269) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 112، 113) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 349) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 81) .
(3) سابط: هى سابط كسرى، موضع بالمدائن. انظر: معجم البلدان (3/ 166، 167) .

(2/390)


ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون، وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب كانت أوئلهم نزلوا أيام بختنصر حين أباح العرب، فلم نزل عنها. فقال: ممن تعلمتم الكتابة؟ فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوا قول الشاعر:
قوم إياد لو أنهم أمم ... أو لو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم باحة العراق إذا ... ساروا جميعا والخط والقلم
«1» فصالح خالد من حولهم، وبدأ بأهل البوازيج، فبعث إليه أهل كلواذة «2» ليعقد لهم، وكاتبهم عيبته من وراء دجلة.
ثم إن الأنبار وما حولها نقضوا فيما كان يكون بين المسلمين والمشركين الدول ما خلا أهل البوازيج فإنهم ثبتوا كما ثبت أهل بانقيا.
حديث عين التمر «3»
ولما فرغ خالد من الأنبار، واستحكمت له، استخلف عليها الزبرقان بن بدر، وقصد لعين التمر، وبها يومئذ مهران بن سوسن فى جمع عظيم من العجم، وعقة بن أبى عقة فى جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لاقاهم. فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدا. قال: صدقت، لعمرى لأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا فى قتال العجم. فخدعه واتقى به، وقال: دونكموهم وإن احتجتم إلينا جئناكم.
فلما مضى عقة نحو خالد قالت الأعاجم لمهران: ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب فقال: دعونى فإنى لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر له، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم، وفل حدكم، ما اتقيته بهم، فإن كانت لهم على خالد فهى لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء، فاعترفوا له بفضل الرأى، فلزم مهران العين ونزل عقة لخالد على الطريق، وبينه وبين مهران روحة أو غدوة، فقدم عليه خالد وهو فى تعبئة جنده، فعبأ خالد جنده وقال لمجنبتيه: اكفونا ما
__________
(1) انظر الأبيات فى: الطبرى (3/ 375) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 349) .
(2) كلواذة: موضع بين الكوفة وواسط. انظر معجم البلدان (4/ 477) .
(3) انظر: الطبرى (3/ 376، 377) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص 112) ، الكامل لابن الأثير (2/ 269، 270) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 349، 350) .

(2/391)


عندكم فإنى حامل، ووكل بنفسه حوامى، ثم حمل وعقة يقيم صفوفه، فاحتضنه فأخذه أسيرا، وانهزم صفه من غير قتال، فاتبعهم المسلمون وأكثروا فيهم القتل والأسر.
ولما جاء الخبر مهران هرب فى جنده، وتركوا الحصن. فلما انتهى فلال عقة من العرب والعجم إلى الحصن اقتحموه واعتصموا به، وأقبل خالد فى الناس حتى نزل عليه ومعه عقة أسيرا وعمرو بن الصعق، وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان يغير عليهم من العرب، فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان. فأبى إلا حكمه، فسكنوا إليه.
فلما فتحوا دفعهم إلى المسلمين أسارى، وأمر بعقة فضربت عنقه ليوئس الأسرى من الحياة، فلما رأوه مطروحا على الجسر يئسوا ثم دعا بعمرو بن الصعق فضربت عنقه، وضرب أعناق أهل الحصن أجمعين، وسبى كل من حوى حصنهم، وغنم ما فيه، ووجد فى بيعتهم أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم، وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسمهم فى أهل البلاء، فمن أولئك الغلمان أبو زياد مولى ثقيف، وحمران مولى عثمان، ونصير أبو موسى بن نصير، وسيرين والد محمد بن سيرين، وأبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر.
وقال عاصم بن عمرو فى ذلك يعير عقة:
ألا أبلغا الوركاء أن عميدها ... رهينة جيش من جيوش الزعافر
فبهلا لمن غرت كفالة عتقه ... بنى عامر أخرى الليالى الغوابر
أتيح له ضرغامة لا يفله ... قراع الكماة والليوث المساعر
أتيحت له نار تسيح وتلتوى ... وترمى بأمثال النجوم العناهر
حديث دومة الجندل وما بعدها من الأيام بحصيد والخنافس ومصيخ والبشر والفراض «1»
قالوا: ولما قدم الوليد بن عقبة من عند خالد إلى أبى بكر، رضى الله عنه، بما بعثه به إليه من الأخماس، وجهه أبو بكر إلى عياض وأمده به، فقدم عليه الوليد وهو يحاصر أهل دومة، وهم محاصروه، وقد أخذوا عليه الطريق، فقال له الوليد: الرأى فى بعض الحالات
__________
(1) انظر: المغازى للواقدى (1/ 402) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 62، 63) ، معجم البلدان (2/ 487) ، الطبرى (3/ 378- 385) ، الكامل لابن الأثير (2/ 270- 275) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 350- 352) .

(2/392)


خير من جند كثيف، ابعث إلى خالد واستمده، ففعل، فقدم رسوله على خالد غب وقعة العين مستغيثا، فعجل به خالد إلى عياض وكتب إليه معه: إياك أريد.
لبث قليلا تأتك الجلائب ... يحملن آسادا عليها القاشب
كتائب يتبعها كتائب
ولما فرغ خالد من عين التمر خلف فيها عويمر بن الكاهل الأسلمى، وخرج فى تعبئته التى دخل فيها العين يريد عياضا، ولما بلغ أهل دومة مسير خالد إليهم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وقبل ما أتتهم منهم طوائف فيهم وديعة الكلبى، وابن الأيهم التنوخى، وابن الحدرجان، فأشجوا عياضا وأشجوا به، فلما بلغهم دنو خالد وهم على رئيسين: أكيدر بن عبد الملك، والجودى بن ربيعة، اختلفوا، فقال أكيدر: أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن طائرا منه، ولا أحد فى حرب، ولا يرى وجه خالد قوم قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعونى وصالحوا القوم، فأبوا عليه، فقال: لن أمالئكم على حرب خالد، فشأنكم.
فخرج لطيته، وبلغ ذلك خالدا فبعث عاصم بن عمرو معارضا له، فأخذه وقال: إنما تلقيت الأمير خالدا، فلما أتى به خالدا أمر به فضربت عنقه، وأخذ ما كان معه من شىء، ومضى خالد حتى ينزل على أهل دومة، وعليهم الجودى بن ربيعة، فجعل خالد دموة بين عسكره وعسكر عياض، وكان النصارى الذين أمدوا أهل دومة من العرب محيطين بحصن دومة لم يحملهم الحصن، فلما اطمأن خالد خرج الجودى فنهض بوديعة فزحفا لخالد، وخرج ابن الحدرجان وابن الأيهم إلى عياض، فاقتتلوا فهزم الله الجودى ووديعة على يدى خالد، وهزم عياض من يليه، وركبهم المسلمون، فأما خالد فإنه أخذ الجودى أخذا، وأخذ الأقرع بن حابس وديعة، وأرز بقية الناس إلى الحصن، فلم يحملهم، فلما امتلأ الحصن، أغلق من فى الحصن الحصن دون أصحابهم، فبقوا حوله، وقال عاصم ابن عمرو: يا بنى تميم، حلفاؤكم كلب آسوهم وأجيروهم، فإنكم لا تقدرون لهم على مثلها، ففعلوا، وكان سبب نجاتهم يومئذ وصية عاصم بهم، وأقبل خالد إلى الذين أرزوا إلى الحصن فقتلهم حتى سد بهم باب الحصن، ودعا بالجودى فضرب عنقه، وضرب أعناق الأسرى إلا أسير كلب، فإن عاصما والأقرع وبنى تميم قالوا: قد أمناهم، فأطلقهم لهم خالد، وقال: ما لى ولكم أتحوطون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام؟ فقال له عاصم: لا تحسدهم العافية، ولا تحرزهم الشيطان. ثم أطاف خالد بباب الحصن، فلم يزل عنه حتى اقتلعه، واقتحموا عليهم، فقتلوا المقاتلة وسبوا الشرخ فأقاموهم فيمن يزيد،

(2/393)


فاشترى خالد ابنة الجودى، وكانت موصوفة بالجمال، ثم إن خالدا رد الأقرع إلى الأنبار، وثبت بدومة قليلا، ثم ارتحل منها إلى الحيرة، فلما كان قريبا منها حيث يصحبها أخذ القعقاع أهلها بالتغليس فخرجوا يتلقونه وهم مغلسون، وجعل بعضهم يقول لبعض:
مروا بنا فهذا فرج الشر.
قالوا: وقد كان خالد عند ما أقام بدومة كاتب عرب الجزيرة الأعاجم غضبا لعقة، فخرج زرمهر من بغداد ومعه روزبه يريدان الأنبار، واتعدا حصيدا والخنافس، فكتب بذلك الزبرقان وهو على الأنبار إلى القعقاع بن عمرو وهو يومئذ خليفة خالد على الحيرة، فبعث القعقاع أبا ليلى بن فدكى السعدى وأمره بحصيد، وبعث عروة بن الجعد البارقى وأمره بالخنافس، وقال لهما: إن رأيتما مقدما فأقدما. فخرجا فحالا بينهما وبين الريف، وانتظر روزبه وزرمهر بالمسلمين اجتماع من كاتبهما من ربيعة، وقد كانوا تكاتبوا واتعدوا.
فلما رجع خالد من دومة إلى الحيرة على الظهر وبلغه ذلك وقد عزم على مصادمة أهل المدائن كره خلاف أبى بكر، وأن يتعلق عليه بشىء، فعجل القعقاع وابن عمرو، وأبا ليلى بن فدكى إلى روزبه وزرمهر، فسبقاه إلى عين التمر، وقدم على خالد كتاب امرئ القيس الكلبى، أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ، ونزل ربيعة بن بجير بالثنى فى عسكر غضبا لعقة، يريدان زرمهر وروزبه. فخرج خالد وعلى مقدمته الأقرع ابن حابس، واستخلف على الحيرة عياض بن غنم، وأخذ خالد طريق القعقاع وأبى ليلى حتى قدم عليهما بالعين، فبعث القعقاع إلى حصيد، وأمره على الناس، وبعث أبا ليلى إلى الخنافس، وأمره على الناس، وقال: زجياهم ليجتمعوا ومن استشارهم، وإلا فواقعاهم، فأبى روزبه وزرمهر إلا المقام.
فلما رآهما القعقاع لا يتحركان سار نحو حصيد، وعلى من به من العرب والعجم روزبه. ولما رأى روزبه أن القعقاع قد قصد له استمد زرمهر، فأمده بنفسه، واستخلف على عسكره المهبوذان، فالتقوا حينئذ فاقتتلوا، فقتل الله العجم مقتلة عظيمة، وقتل القعقاع زرمهر وقتل، أيضا، روزبه، قتله عصمة بن عبد الله، أحد بنى الحارث بن طريف، من بنى ضبة، وكان عصمة من البررة، وكل فخذ هاجرت بأسرها تدعى البررة، وكل قوم هاجروا من بطن يدعون الخيرة، فكان المسلمون خيرة بررة، وغنم المسلمون يوم حصيد غنائم كثيرة، وأرز فلّال حصيد إلى الخنافس فاجتمعوا بها.

(2/394)


وقال القعقاع فى ذلك اليوم:
ألم ينه عنا غى فارس أننا ... منعناهم من ريفهم بالصوارم
وأنا أناس قد تعود خيلنا ... لقاء العادى بالحتوف القواصم
وروزا قتلنا حيث أرهف حده ... وكل رئيس زاريا بالعظائم
تركنا حصيدا لا أنيس بجوه ... وقد شقيت أربابه بالأعاجم
وإنى لراج أن تلاقى جموعهم ... غديّا بإحدى المنكرات الصوادم
ألا أبلغا أسماء أن خليلها ... قضى وطرا من روزمهر الأعاجم
وسار أبو ليلى ابن فدكى بمن معه ومن قدم عليه نحو الخنافس وبها المهبوذان، فلما أحس بهم هرب هو ومن معه إلى المصيخ «1» وبه الهذيل بن عمران، فلما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد «2» وهرب أهل الخنافس كتب إلى القعقاع وأبى ليلى وعروة وواعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها على المصيخ، وهو بين حوران والقلت، وخرج خالد من العين قاصدا للمصيخ على الإبل يجنب الخيل، فلما كان فى تلك الساعة من ليلة الموعد اتفقوا جميعا معه بالمصيخ، فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوى إليهم، وهم نائمون، أتوهم بالغارة من ثلاثة أوجه، فقتلوهم، وامتلأ الفضاء قتلى، فما شبهوا إلا غنما مصرعة، وأفلت الهذيل فى أناس قليل، وقد كان حرقوص بن النعمان بن النمر بن قاسط محضهم النصح، وأجاد الرأى، فلم ينتفعوا بتحذيره، وذلك أن حرقوصا قال قبل الغارة:
ألا فاسقيانى قبل خيل أبى بكر ... لعل منايانا قريب ولا ندرى
ألا فاسقيانى بالزجاج وكررا ... علينا كميت اللون صافية تجرى
أظن خيول المسلمين وخالدا ... ستطرقكم عند الصباح إلى البشر
فهل لكم فى السير قبل قتالهم ... وقبل خروج المعصرات من الخدر
أرينى سلاحى يا أميمة إننى ... أخاف بيات القوم مطلع الفجر «3»
وكان حرقوص معرسا بامرأة من بنى هلال تدعى أم تغلب، فقتلت تلك الليلة، وقد تقدم من حديث عدى بن حاتم فيما مضى من هذا الكتاب، قال: أغرنا على المصيخ، وإذا رجل يدعى حرقوص بن النعمان بن النمر، وإذا حوله بنوه وامرأته، وبينهم جفنة من
__________
(1) المصيخ: موضع بين حوران والقلت. انظر: معجم البلدان (2/ 391) .
(2) حصيد: واد بين الكوفة والشام. انظر: معجم البلدان (2/ 226) .
(3) انظر الأبيات فى: الطبرى (3/ 416، 417) ، الكامل لابن الأثير (2/ 280) ، معجم البلدان لياقوت (1/ 427، 5/ 144) .

(2/395)


خمر، وهم عليها عكوف، فقال: اشربوا شرب وداع، فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها، خالد بالعين وجنوده بحصيد، وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا.
ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر ... بعيد انتفاخ القوم بالعكر الدثر
وقبل منايانا المصيبة بالقدر ... لحين لعمرى لا يزيد ولا يحرى
فسبق إليه وهو فى ذلك بعض الخيل، فضرب رأسه، فإذا هو فى جفنته، وأخذنا بناته وقتلنا بنيه.
وأصاب جرير بن عبد الله بالمصيخ عبد العزى بن أبى رهم من النمر، وإنما حضر جرير مما كان بالعراق ما كان بعد الحيرة، وذلك أنه كان ممن خرج مع خالد بن سعيد ابن العاص إلى الشام، فاستأذن جرير فى القدوم على أبى بكر ليكلمه فى قومه بجيلة، وكانوا أوزاعا فى العرب، ليجمعهم ويتخلصهم، فأذن له، فقدم على أبى بكر فذكر له عدة من النبى صلى الله عليه وسلم وأتاه عليها بشهود، وسأله إنجازها، فغضب أبو بكر وقال: ترى شغلنا وما نحن فيه، من بعوث المسلمين لمن بإزائهم من الأشدين: فارس والروم ثم أنت تكلفنى التشاغل بما لا يغنى عنى عما هو أرضى لله ولرسوله، دعنى وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله فى هذين الوجهين. فسار جرير حتى قدم على خالد وهو بالحيرة، فشهد معه ما كان بعدها من الأيام، وأصاب يوم المصيخ، كما ذكرنا، عبد العزى بن أبى رهم، وكان معه ومع رجل آخر من قومه يقال له لبيد بن جرير كتاب من أبى بكر، رضى الله عنه، بإسلامهم، وسمى عبد العزى عبد الله، وبلغ أبا بكر مع ذلك أن عبد العزى قال ليلة الغارة:
وأقول إذ طرق الصباح بغارة ... سبحانك اللهم رب محمد
سبحان ربى لا إله غيره ... رب العباد ورب من يتودد
فوداه أبو بكر لما بلغه هذا، وودى لبيدا، وقال: أما إن ذلك ليس على إذ نازلا أهل حرب. وأوصى بأولادهما.
وكان عمر، رضى الله عنه، يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك بن نويرة، فيقول أبو بكر، رضى الله عنه: كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب فى ديارهم.
وقد كان ربيعة بن بجير التغلبى نزل الثنى والبشر غضبا لعقة، وواعد لذلك روزبه وزرمهر والهذيل قبل أن يصيبهم ما أصابهم بالمصيخ، فلما أصاب خالد أهل المصيخ بما أصابهم به، تقدم إلى القعقاع وإلى أبى ليلى، بأن يرتحلا أمامه، وواعدهما ليلة ليفترقوا

(2/396)


فيها للغارة على ربيعة ومن معه من ثلاثة أوجه، كما فعل بأهل المصيخ، ثم خرج خالد من المصيخ فنزل حوران «1» ، ثم الرنق، ثم الحماة «2» ، ثم الزميل»
، وهو البشر «4» والثنى معه، وهما شرقى الرصافة، فبدأ بالثنى، واجتمع هو وأصحابه، فبيت من ثلاثة أوجه ربيعة بن بجير ومن اجتمع له وإليه، ومن ناشب لذلك من الشبان لذلك من الشبان، فجرد خالد فيهم السيوف بياتا، فلم يفلت من ذلك الجيش مخبر، واستبقى الشيوخ، وبعث بخمس الله، عز وجل، إلى أبى بكر، رضى الله عنه، مع النعمان بن عوف الشيبانى، وقسم النهب والسبايا، فاشترى على بن أبى طالب، رضى الله، من ذلك السبى ابنة ربيعة التغلبى، فاتخذها، فولدت له عمر ورقية.
وقال أبو مقرز فى ذلك:
لعمر بنى بجير حيث صاروا ... ومن آذاهم يوم الثنى
لقد لاقت سراتهم فضاحا ... وفينا بالنساء على المطى
وكان الهذيل حيث نجا من المصيخ أوى إلى الزميل، إلى عتاب بن فلان، وهو بالبشر فى عسكر ضخم، فبيتهم خالد بمثلها غارة شعواء من ثلاثة أوجه، سبقت إليهم الخبر عن ربيعة، وكانت على خالد يمين: ليبغتن تغلب فى دارها، فقتل فيهم مقتلة لم يقتلوا قبلها مثلها، وأصابوا منهم ما شاؤا، وقسم خالد فى الناس فيئهم، وبعث الأخماس إلى أبى بكر، رضى الله عنه، مع الصباح بن فلان المزنى، ثم عطف خالد من البشر إلى الرضاب «5» وبها هلال بن عقة وقد أرفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد، فانقشع عنها هلال ولم يلق كيدا، ثم قصد خالد بعدها إلى الفراض، والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة، فأفطر فيها فى رمضان فى تلك السفرة التى اتصلت له فيها هذه الغزوات والأيام، ونظمن نظما إلى ما كان قبل ذلك منه.
__________
(1) حوران: كانت كورة واسعة من أعمال دمشق من جهة القبلة ومزارع وحرار. انظر: معجم البلدان (2/ 317) .
(2) من المدن المشهورة بالشام، كانت مدينة عظيمة وكبيرة. انظر: معجم البلدان (2/ 317، 318) .
(3) الزميل: موضع شرقى الرصافة. انظر معجم البلدان (3/ 151) .
(4) البشر: اسم جبل يمتد من عرض إلى الفرات من أرض الشام من جهة البادية. انظر: معجم البلدان (1/ 426- 428) .
(5) الرضاب: موضع الرصافة قبل بناء هاشم إياه. انظر: معجم البلدان (3/ 50) .

(2/397)


قالوا: ولما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت، واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر، فأمدوهم بأجمعهم، واجتمعوا كلهم على كلمة واحدة، ثم ناهدوا خالدا حتى إذا صار الفرات بينه وبينهم قالوا: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم قال خالد: اعبروا إلينا، قالوا: فتنحوا حتى نعبر، قال خالد: لا نفعل، ولكن اعبروا أسفل منا. فقال الروم وفارس بعضهم لبعض:
احتسبوا ملككم، هذا رجل يقاتل عن دين، وله عقل وعلم، وو الله لينصرن ولتخذلن، ثم لم ينتفعوا بذلك، فعبروا أسفل من خالد، فلما تتاموا قالت الروم: امتازوا حتى يعرف اليوم ما كان من حسن أو قبح، من أينا يجىء ففعلوا، ثم اقتتلوا قتالا شديدا طويلا، ثم هزمهم الله تعالى.
وقال خالد للمسلمين: ألحوا عليهم، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوهم، فقتل يوم الفراض فى المعركة وفى الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشرا، ثم أذن فى القفل إلى الحيرة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم.
وأظهر خالد أنه فى الساقة، وخرج من الفراض حاجا لخمس بقين من ذى القعدة مكتتما بحجه، ومعه عدة من أصحابه، يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت، فقضى حجه، ثم أتى الحيرة، فوافاه بها كتاب أبى بكر، رضى الله عنه، يأمره فيه بالمسير إلى الشام ويعاتبه على ما فعل، إذ لم يعلم أبو بكر بحجته هذه إلا بعد انصرافه إلى الحيرة.
وقد تقدم هذا كله فيما رسم قبل من فتوح الشام مستوفى فى بيانه، وكيف كان مسيره إلى الشام وتركه المثنى بن حارثة بعده على العراق، ومشاطرته إياه فى الناس، كل ذلك بأمر أبى بكر، رضى الله عنه، حسب ما تقدم ذكره.
حديث المثنى بعد خالد «1»
ولما انفصل خالد، رحمه الله، إلى الشام شيعه المثنى إلى قراقر، ورجع من تشييعه إلى الحيرة، فأقام بها فى سلطانه، ووضع فى المسلحة التى كان فيها على السيب أخاه، وسد أماكن كل من خرج مع خالد من الأمراء برجال أمثالهم من أهل الغناء، ووضع مذعور ابن عدى فى بعض تلك الأماكن.
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 411- 415) ، الكامل لابن الأثير (2/ 284- 286) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 87- 91) .

(2/398)


واستقام أهل فارس على رأس سنة من مقدم خالد على الحيرة، بعد خروجه إلى الشام بقليل، وذلك سنة ثلاث عشرة، على شهربراز بن أردشير بن شهريار ممن يناسب إلى كسرى، ثم إلى سابور. فوجه إلى المثنى جندا عظيما عليهم هرمز جاذويه فى عشرة آلاف، ومعه فيل، وكتبت المسالح إلى المثنى بإقباله، فخرج المثنى من الحيرة نحوه، وضم إليه أصحاب المسالح، وجعل على مجنبتيه أخويه: المعنّى ومسعودا، وأقام له ببابل، وأقبل هرمز جاذويه، وقد كتب شهر براز إلى المثنى بن حارثة: «من شهربراز إلى المثنى: إنى قد بعثت إليك جندا من وخش أهل فارس، إنما رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقاتلك إلا بهم» .
فكتب إليه المثنى: «من المثنى إلى شهربراز، إنما أنت أحد رجلين. إما صادق، فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب، فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وفى الناس الملوك، وأما الذى يدلنا عليه الرأى، فإنكم إنما اضطرتم إليهم، فالحمد لله الذى رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير» .
فجزع أهل فارس من كتابه، وقالوا: إنما أتى شهربراز من شؤم مولده ولؤم منشئه، وكان يسكن ميسان «1» ، وأن بعض البلدان شين على من يسكنه. وقالوا له: جرأت عدونا بالذى كتبت إليهم، فإذا كاتبت أحدا فاستشر. ثم التقوا ببابل، فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا، على الطريق الأول، قتالا شديدا.
ثم إن المثنى وفرسان من المسلمين اعتمدوا الفيل، وكان يفرق بين الصفوف والكراديس، فأصابوا مقتله، فقتلوه وهزموا أهل فارس، واتبعهم المسلمون يقتلونهم، حتى جازوا بهم مسالحهم، فأقاموا فيها، وتتبع الطلب الفالة، حتى انتهوا إلى المدائن، ومات شهربراز منهزم هرمز جاذويه، واختلف أهل فارس، وبقى ما دون دجلة وبرس من السواد فى يد المثنى وأيدى المسلمين.
ثم إن أهل فارس اجتمعوا بعد شهربراز على دخت زنان ابنة كسرى، فلم ينفذ لها أمر، وخلعت، وملك سابور بن شهربراز، وقام بأمره الفرخزاد بن البندوان، فقاتلا جميعا، وملكت آرز ميدخت، وتشاغلوا بذلك، وأبطأ خبر أبى بكر، رضى الله عنه، على المسلمين، فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية، ووضع مكانه فى المسالح سعيد بن مرة العجلى، وخرج المثنى نحو أبى بكر ليخبره خبر المسلمين والمشركين،
__________
(1) ميسان: كورة واسعة كثيرة القرى والنخيل بين البصرة وواسط. انظر: معجم البلدان (5/ 242) .

(2/399)


ولكى يستأذنه فى الاستعانة بمن قد ظهرت توبته من أهل الردة ممن يستطعمه الغزو، وليخبره أنه لم يخلف أحدا أنشط إلى قتال فارس وحربها ومعونة المهاجرين منهم، إذ كان أبو بكر، رضى الله عنه، قد منع من الاستعانة بهم رأسا، وقال لأمرائه: لا تستعينوا فى حربكم بأحد ممن ارتد، فإنى لم أكن لأستنصر بجيش فيهم أحد ممن ارتد، وبالجزاء إن فعلت أن لا تنصروا.
وقال عروة بن الزبير: أمران يعرف بهما حال من شهد الفتوح، من ذكر أن أبا بكر، رضى الله عنه، استعان فى حربه بأحد ممن ارتد فقد كذب، وذكر من قول أبى بكر فى ذلك ما بدأنا به.
قال: ومن زعم أن عمر، رضى الله عنه، حين أذن لمن ارتد فى الجهاد أمر أحدا منهم فقد كذب، وإنما تألف من تألف بالإمارة منهم عثمان بن عفان، رضى الله عنه، رجاء ما رجاه منهم عمر حين استعان بهم، فمن قبلهم ابتدأت الفتنة، وعلق عثمان، رضى الله عنه، عند الذى بدا منهم يتمثل بقول الأول:
وكنت وعمرا كالمسمّن كلبه ... فخدشه أنيابه وأظافره
فقدم المثنى بن حارثة المدينة، وأبو بكر مريض مرضه الذى توفاه الله تعالى، منه، وذلك بعد مخرج خالد إلى الشام، وقد تقدم ذكر وفاة أبى بكر واستخلافه عمر، رضى الله عنهما، فى أول موضع احتيج إلى ذكر ذلك فيه من فتح الشام، وتوفى أبو بكر وأحد شقى السواد فى سلطانه، والجمهور من جند أهل العراق بالحيرة، والمسالح بالسيب، والغارات تنتهى بهم إلى شاطئ دجلة، ودجلة حجاز بين العرب والعجم.
فهذا حديث العراق فى خلافة أبى بكر، رضى الله عنه، من مبتدئه إلى منتهاه.
ذكر ما كان من خبر العراق فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وما كان من أمر المثنى بن حارثة معه، وذكر أبى عبيد بن مسعود، على ما فى ذلك كله من الاختلاف بين رواة الآثار «1»
ذكر سيف عن شيوخه قالوا: أول ما عمل به عمر، رحمه الله، أن ندب الناس مع
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 444- 454) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص 113) ، الكامل لابن الأثير (2/ 297- 301) ، كنز الدرر للدوادارى (3/ 193، 194) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 26، 27) .

(2/400)


المثنى بن حارثة الشيبانى إلى أهل فارس قبل صلاة الصبح، من الليلة التى مات فيها أبو بكر، رضى الله عنه، ثم أصبح فبايع الناس، وعاد فندب الناس إلى فارس، وتتابع الناس على البيعة ففزعوا فى ثلاث، كل يوم يندبهم فلا ينتدب أحد، وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم، وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم وشوكتهم وعزهم وقهرهم الأمم.
قالوا: فلما كان فى اليوم الرابع عاد ينتدب الناس إلى العراق، فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود، وسعد بن عبيد القارى، حليف الأنصار، وتتابع الناس.
قال القاسم بن محمد: وتكلم المثنى بن حارثة، فقال: يا أيها الناس، لا يعظمن عليكم هذا الوجه، فإنا قد تبجحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقى السواد، وشاطرناهم ونلنا منهم، واجترأ من قبلنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها.
وقام عمر، رضى الله عنه، فى الناس، وقال: إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين المهاجرين عن موعود الله، عز وجل، سيروا فى الأرض التى وعدكم الله فى كتاب بأن يورثكموها، فإنه قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، والله مظهر دينه، ومعز ناصره، ومولى أهله مواريث الأمم. أين عابد الله الصالحون!.
فلما اجتمع ذلك البعث، وكان أولهم، كما تقدم أبو عبيد، ثم ثنى سعد بن عبيد أو سليط بن قيس، قيل لعمر، رحمه الله: أمر عليهم رجلا من السابقين من المهاجرين والأنصار. فقال: لا والله لا أفعل، إن الله تعالى إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء، فأولوا الرياسة منكم من سبق إلى الدفع وأجاب الدعاء، لا والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا.
ثم دعا أبا عبيد، ودعا سليطا وسعدا، فقال لهما: أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتكما بها إلى ما لكما من القدمة. فأمر أبا عبيد على الجيش، وقال له: اسمع من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، وأشركهم فى الأمر، ولا تجيبن مسرعا حتى تتبين، فإنها الحرب، لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذى يعرف الفرصة والكف، ثم قال له: إنه لم يمنعنى أن أؤمر سليطا إلا تسرعه إلى الحرب، وفى التسرع إليها إلا عن بيان ضياع، والله لولا ذلك لأمرته، ولكن الحرب لا يصلحها إلا المكيث.
ويروى أن عمر انتخب من أهل المدينة ومن حولها ألف رجل، أمر عليهم أبا عبيد، فقيل له: استعمل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا ها الله ذا يا أصحاب النبى، لا

(2/401)


أندبكم فتبطئون، وينتدب غيركم فأؤمركم عليهم إنما فضلتم بتسرعكم، فإن نكلتم فضلوكم.
وعجل عمر، رضى الله عنه، المثنى، وقال: النجاء حتى يقدم عليك أصحابك. فخرج المثنى، وقدم الحيرة فى عشر، ولحقه أبو عبيد بعد شهر.
وفى كتاب المدائنى أن تحرك عمر لهذا البعث إنما كان بكتاب المثنى إليه، يستمده ويحرضه على أرض فارس، فذكر بإسناد له إلى جماعة من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض: أن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، قال حين ولى: والله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه وليس ينصر إياهما، فكتب إليه المثنى وهو بالحيرة: أنا بأرض فارس، وقد عرفناهم وغازيناهم وغلبناهم على بعض ما فى أيديهم، ومعى رجال من قومى لهم صلاح ونجدة وصدق بلاء عند الناس وجرأة على البلاد، فإن رميتنا بجماعة من قبلك رجوت أن يفتح الله عليهم، قالوا: ولم تكن لعمر، رحمه الله، همة حين قام بأمر المسلمين إلا الروم وفارس، فلما أتاه كتاب المثنى بن حارثة خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وحثهم على الجهاد، ورغبهم فيه، وأنبأهم بما أعد الله للمجاهدين فى سبيله، وقال: أنتم بين فتح عاجل وذخر آجل، وقد أصبحتم بالحجاز بغير دار مقام، وقد وعدكم الله كنوز كسرى وقيصر، وأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الفتح: 28] ، وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [التوبة: 33] ، فانهضوا لجهاد عدوكم من أهل فارس، فإن لكم بها إخوانا ليسوا مثلكم فى السابقة، وقد لقوهم وقاتلوهم فاستعدوا للمسير إليهم رحمكم الله وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:
60] ، ولا تركنوا إلى الدنيا، واستعينوا بالله واصبروا.
فتثاقل الناس حين ذكر فارس. فقال عمر: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التوبة: 38] ، فقام أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفى، فقال: أنا أول من انتدب، ثم قام سليط بن قيس بن عمرو فقال: يا أمير المؤمنين، أنا ثان، ثم قام رهط من الأنصار، فسمى منهم نفرا. قال:
ثم تتابع الناس وكثروا وقالوا: يا أمير المؤمنين، أمر علينا رجلا، فقال: أؤمر عليكم أول من انتدب، فاستعمل عليهم أبا عبيد، وقال: لم يمنعنى من استعمال سليط بن قيس، وهو من أهل بدر إلا عجلة فيه، فخشيت أن يلقى المسلمين ملقى يهلكون فيه، وكان فيمن

(2/402)


انتدب سعد بن عبيد القارى، ففر يوم الجسر، فكان بعد ذلك يقول: إن الله اعتد علىّ بغرة فى أرض فارس، فعسى أن يعيد لى فيها كرة.
وفى حديث غير المدائنى: فكانت الوجوه تعرض عليه بعد ذلك فيأبى إلا العراق، ويقول: إن الله اعتد علىّ فيها بغرة، وذكر نحو ما تقدم.
واختلف ما ذكره سيف فيمن كان إليه أمر فارس عند قدوم أبى عبيد بحسب اختلاف أهل الأخبار عليه فى ذلك.
فمما ذكره أن بوران بنت كسرى كانت، كلما اختلف الناس بالمدائن، عدلا بينهم حتى يصطلحوا، فلما قتل الفرخزاد وقدم رستم فقتل أرزميدخت، كانت بوران عدلا إلى أن استخرجوا يزدجرد.
قال: فقدم أبو عبيد والعدل بوران، وصاحب الحرب رستم.
وذكر من طريق آخر: أن بوران هى التى استحثت رستم فى السير، وكان على فرج خراسان، لما قتل الفرخزاد، فأقبل رستم فى الناس حتى نزل المدائن، لا يلقى جيشا لأرزميدخت إلا هزمه، واقتتلوا بالمدائن، فهزمهم سياوخش وهو قاتل الفرخزاد، وحصر أرزميدخت ثم افتتح المدائن، فقتل سياوخش، وفقأ عين أرزميدخت، ونصب بوران، فدعته إلى القيام بأمر فارس، وشكت إليه تضعضعهم وإدبار أمرهم، على أن تملكه عشر حجج، ثم يكون الملك فى آل كسرى إن وجدوا من غلمانهم أحدا، وإلا ففى نسائهم.
فقال رستم: أما أنا فسامع مطيع، غير طالب عوضا ولا ثوابا، فإن شرفتمونى وصنعتم إلىّ شيئا فأنتم أولياء ما صنعتم، إنما أنا سهمكم وطوع أيديكم. فقالت بوران: اغد علىّ، فغدا عليها، ودعت مرازبة فارس، فكتبت له: بأنك على حرب فارس، ليس عليك إلا الله عن رضا منا وتسليم لحكمك، وحكمك جائز فيهم ما كان حكمك فى منع أرضهم وجمعهم عن فرقتهم، وتوجته وأمرت أهل فارس أن يسمعوا له ويطيعوا، ودانت له فارس بعد قدوم أبى عبيد.
فهذا ما ذكره سيف فى شأن مملكة فارس إذ ذاك.
قال: وكتب رستم إلى دهاقنة السواد أن يثوروا بالمسلمين، ودس إلى كل رستاق رجلا ليثور بأهله، فبعث جابان إلى البهقباذ الأسفل، وبعث نرسى إلى كسكر، وبعث المصادمة إلى المثنى، وبلغ المثنى ذلك، فضم إليه مسالحه وحذر، وعجل جابان فنزل

(2/403)


النمارق، وتوالوا على الخروج، فخرج نرسى، فنزل زندورد، وثار أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله، وخرج المثنى بن حارثة فى جماعة حتى ينزل خفان، لئلا يؤتى من خلفه بشىء يكرهه، فأقام حتى قدم عليه أبو عبيد.
وأما المدائنى فلم يعرض لما عرض له سيف فى شأن مملكة فارس، بل بنى على أن يزدجرد هو كان الملك عليهم حينئذ، فإنه قال بعقب ما نسب إليه قبل: وبلغ يزدجرد أن ملك العرب يسير إليه، فشاور أهل بيته ومرازبته، فقالوا له: وجه إلى أطرافك فحصنها وأخرج من فيها من العرب، فوجه جالينوس ورستم وليس بالأزدى ومردان شاه ونرسى ابن خال أبرويز، وكل واحد فى خمسة آلاف، وأمرهم أن ينزلوا متفرقين، ويكون بعضهم قريبا من بعض كل رجل فى أصحابه، ويمد بعضهم بعضا إن احتاجوا إلى ذلك، وأمرهم أن يقتلوا من قدروا عليه من العرب، فخرجوا والمثنى بالحيرة، فبلغه مسيرهم، فخرج لينزل على البلاد، فلقى على قنطرة النهرين خرزاذبه فقتله.
ومضى المثنى فنزل من وراء أليس، ونزل العجم متفرقين، فنزل نرسى كسكر، ونزل مردان شاه فيما بين سورا وقبين، ونزل رستم بابل، ونزل جالينوس بارسمى، ووجه جالينوس جابان فى ألف إلى أليس، ووجه أزاذبه إلى الحيرة فى ألف، وفصل أبو عبيد بن مسعود من المدينة فى ألف وثمانمائة من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فيهم من ثقيف أربعمائة معهم أبو محجن، كان مع خالد بن الوليد بالشام فلما.
أتتهم وفاة أبى بكر رجع إلى المدينة، فخرج مع أبى عبيد، وانضم إلى أبى عبيد فى الطريق مائة من بنى أسد، ومائتان من طيئ، ومائة من بنى ذبيان بن بغيض، ومائة من بنى عبس، معهم خمسة وعشرون فرسا، وخرج المثنى بن حارثة فى ثلاثمائة وسبعين من بكر بن وائل، وثلاثمائة من بنى تميم حنظلة وعمرو وسعد والرباب، فتلقى أبا عبيد ثم أقبل معه حتى نزل عسكره الذى كان فيه، ووضع عيونا على المسلحة التى بأليس فأتوه فأعلموه فأخبر أبا عبيد، فقال له: إن أذنت لى سرت إليهم، فأذن له وضم إليه ابنه جبر بن أبى عبيد، وقال لابنه جبر: لا تخالفه، فسار المثنى فصبح أليس وهم آمنون فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزموا، فأصاب المسلمون سلاحا ومتاعا ليس بالكثير، ورجع إلى أبى عبيد، ونزل جابان فيما بين الحيرة والقادسية، وكتب أبو عبيد إلى عمر، رضى الله عنه، بخبر أليس، فسر المسلمون ونشطوا، وخرج قوم من المدينة إلى أبى عبيد، وتقدم أبو عبيد فلقى جابان فيما بين الحيرة والقادسية، وجابان فى ألفين معه ازاذبه، فلم يطل القتال بينهم حتى انهزم المشركون.

(2/404)


وفيما ذكره سيف من الأحاديث أن أبا عبيد لما نزل خفان مع المثنى أقام بها أياما ليستجم أصحابه، وقد اجتمع إلى جابان بشر كثير، وخرج أبو عبيد بعد ما جم الناس وطهرهم، وجعل المثنى على الخيل، فنزلوا على جابان بالنمارق فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم الله أهل فارس، وأسر جابان، أسره مطر بن فضة أحد بنى تيم الله، وأسر مردان شاه، أسره أكتل بن شماخ العكلى، فأما أكتل فإنه ضرب عنق مردان شاه، وذلك أنه سأله: ما اسمك؟، فيما ذكره المدائنى، فقال له: مردان شاه. قال: وما مردان شاه؟ قال:
ملك الرجال. قال: لا جرم والله لأقتلنك، فقتله. وأما مطر بن فضة فإن جابان خدعه وهو لا يعرفه، وكان جابان شيخا كبيرا، فقال لمطر: إنكم معشر العرب أهل وفاء، فهل لك أن تؤمننى وأعطيك غلامين أمردين خفيفين فى عملك وكذا وكذا، قال: نعم، قال:
فأدخلنى على ملككم حتى يكون ذلك بمشهد منه، فأدخله على أبى عبيد، فتم له على ذلك وأجاز ذلك أبو عبيد، فعرفه ناس فقالوا لأبى عبيد: هذا الملك جابان، وهو الذى لقينا بهذا الجمع، فقال أبو عبيد: فما تأمروننى، أيؤمنه صاحبكم وأقتله أنا، معاذ الله من ذلك.
وفى رواية: إنى أخاف الله إن قتلته، وقد أمنه رجل من المسلمين فى الذمة والتود والتناصر كالجسد، ما لزم بعضهم لزم كلهم. فقالوا: إنه الملك، قال: وإن كان لا أعذر به، فتركه، وقال له: اذهب حيث شئت.
وهرب أصحاب جابان حين أسر إلى كسكر ونرسى بأسفلها. وكانت كسكر قطيعة له، وكان النرسيان له، يحميه لا يأكله بشر، إلا ملك فارس، أو من أكرموه فيه بشىء، ولا يغرسه غيرهم، فكان ذلك مذكورا من فعلهم فى الناس، وأن ثمرهم هذا حمى، فقال رستم وبوران لنرسى: أشخص إلىّ قطيعتك فأحمها من عدوك وعدونا وكونن رجلا، فلما انهزم الناس يوم النمارق، ووجهت الفالة نحو نرسى، ونرسى فى عسكره، نادى أبو عبيد بالرحيل، وقال للمجردة: اتبعوهم حتى تدخلوهم عسكر نرسى، أو تبيدوهم فيما بين النمارق إلى بارق درونى «1» .
ومضى أبو عبيد حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسى بكسكر، والمثنى فى تعبئته التى قاتل فيها جابان، وقد أتى الخبر رستم وبوران بهزيمة جابان، فبعثوا إليه الجالينوس، وبلغ ذلك نرسى وأهل كسكر وباروسما ونهر جوبر والزوابى، فرجوا أن يلحق قبل الوقعة، وعالجهم أبو عبيد، فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية،
__________
(1) بارق: ماء بالعراق من أعمال الكوفة. انظر: معجم البلدان (1/ 319) .

(2/405)


فاقتتلوا فى صحار ملس هناك قتالا شديدا، ثم إن الله، عز وجل، هزم فارس، وهرب نرسى، وغلب المسلمون على عسكره وأرضه، وأخذ أبو عبيد ما حوى معسكرهم، وجمع الغنائم، فرأى من الأطعمة شيئا عظيما، فبعث فيمن يليه من العرب فانتفلوا ما شاؤا، لا يؤثرون فيه، وأخذت خزائن نرسى، فلم يكونوا بشىء مما خزن أفرح منهم بالنرسيان؛ لأنه كان يحميه ويمالئه عليه ملوكهم، فاقتسمه المسلمون، فجعلوا يطعمونه الفلاحين.
قال المدائنى: وسار أبو عبيد إلى الجالينوس فلقيه بباروسما فهزمه، فلحق بالمدائن، وبلغ الذين كانوا ببابل هزيمة نرسى وجالينوس، فرجعوا إلى المدائن، ودخل أبو عبيد باروسما، فصالحه ابن الأنذرزعر عن كل رأس بأربعة دراهم، وهيئوا له طعاما فأتوه به، فقال: لا آكل إلا ما يأكل مثله المسلمون. فقالوا: كل، فكل أصحابك يأكل مثل ما تؤتون به، فأكل، فلما راح المسلمون سألهم عن طعامهم فأخبروه، فإذا الذى أكلوا مثل طعامه.
وفى بعض ما أورده سيف من الأخبار أن ابن الأنذرزعر لما أعلم أبا عبيد بالطعام الذى صنعوا له، وأتوا به قال لهم: هل أكرمتم الجند بمثله وقريتموهم؟ قالوا: لا، قال:
فردوه فلا حاجة لنا فيه، بئس المرء أبو عبيد إن صحب قوما من بلادهم اهراقوا دماءهم دونه، أو لم يهريقوها فاستأثر عليهم بشىء يصيبه! لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم!.
قال المدائنى: وبعث أبو عبيد من باروسما المثنى بن حارثة إلى زندورد، وعاصم بن عمرو الأسدى إلى نهر جوير، وعروة بن زيد الخيل إلى الزوابى، فأما المثنى فإن أهل زندورد حاربوه فظفر بهم فقتل وسبى، وأما أهل الزوابى ونهر جوبر فصالحوا على صلح باروسما، فبعث أبو عبيد بخمس ما أصاب من أليس وخفان وكسكر وزندورد، وما صالح عليه إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ونزل أبو عبيد والمسلمون الحيرة.
وذكر سيف، أيضا، أنهم بعثوا بخمس ما أصابوا من النرسيان إلى عمر، رحمه الله، وكتبوا إليه: إن الله، عز وجل، أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها الناس، فأحبننا أن تروها لتذكروا أنعم الله وأفضاله.
وقال فى ذلك عاصم بن عمرو:
ضربنا حماة النرسيان بكسكر ... غداة لقيناهم ببيض بواتر

(2/406)


وفزنا على الأيام والحرب لاقح ... بجرد حسان أو برود غرائر
وظلت فلال النرسيان وتمره ... مباحا لمن بين الدبا والأصافر
أبحنا حمى قوم وكان حماهم ... حراما على من رامه بالعساكر
وقال، أيضا، يذكر ملتقى القوم بالنمارق:
لعمرى وما عمرى علىّ بهين ... لقد صبحت بالخزى أهل النمارق
نجوسهم ما بين أليس غدوة ... وبين قديس فى طريق البرارق
بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم ... يجوسونهم ما بين درتا وبارق
وبين الرواة فيما تقدم من الأخبار اختلاف فى أسماء الأعاجم والأماكن، وفى التقديم والتأخير لم أر لذكر أكثر ذلك وجها إلا ما كان منه زائدا فى الإمتاع ومحسنا انتظام الحديث.
ومما ذكروا أن عمرا، رضى الله عنه، تقدم به إلى أبى عبيد حين بعثه فى هذا الوجه وأوصاه بجنده، أن قال له: إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية، وتقدم على قوم جرؤا على الشر فعلموه، وتناسوا الخير فجهلوه، فانظر كيف تكون! واخزن لسانك، ولا يفشون لك سر؛ فإن صاحب السر ما ضبطه متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه، وإذا ضيعه كان بمضيعة.
حديث وقعة الجسر «1»
ويقال لها: وقعة القس، قس الناطف، ويقال لها: المروحة.
وقد جمعت الذى أوردت هنا من الحديث عن هذه الوقعة من أحاديث متفرقة أوردها الخطيب أبو القاسم، رحمه الله، فى كتابه عن سيف بن عمر وغيره، يزيد بعضها على بعض ومما وقع إلىّ، أيضا، عن أبى الحسن المدائنى فى فتوح العراق، وحديثه أطول افتضاضا وأشد اتصالا، وقد جعلت هذه الأحاديث كلها على اختلافها حديثا واحدا، إلا أن يعرض فيها ما يتناقض، فإما أن أسقط، حينئذ، أحد النقيضين بعد الاجتهاد فيه وفى الذى أوثر إثباته منهما، وإما أن أذكرهما معا وأبين ذلك، وأنسبه إلى من وقع ذكره فى حديثه، وكثيرا ما مضى عملى فى هذا الكتاب على هذا النحو، وعليه يستمر، إن
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 454- 459) ، الكامل لابن الأثير (2/ 301- 303) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 27- 29) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 182- 184) .

(2/407)


شاء الله، قصدا للتهذيب وحرصا على الجمع بين الإمتاع والإيجاز بحول الله سبحانه.
وأفتتح بما افتتح به المدائنى هذه القصة للذى ذكرته من حسن اتصال حديثه.
قال: ولما فتح أبو عبيد ما فتح، وهزم تلك الجنود، ونزل الحيرة، ورجعت المرازبة إلى يزدجرد منهزمين، شمتهم، وأقصاهم، ودعا بهمن ذا الحاجب فعقد له على اثنى عشر ألفا، وقال له: قدم هؤلاء الذين انهزموا، فإن انهزموا فاضرب أعناقهم، ودفع إليه درفش كايبان، راية كانت لكسرى فكانوا يتيمنون بها، وكانت من جلود النمور، عرضها ثمانية أذرع فى طول اثنى عشر ذراعا، وأعطاه سلاحا كثيرا، وحمل معه من أداة القتال وآله الحرب أوقارا من الإبل، ودفع إليه الفيل الأبيض، فخرج فى عدة لم ير مثلها.
وفى كتاب سيف أن رستم هو صاحب ذلك، وأنه الذى رجع إليه الجالينوس ومن أفلت من جنده بناء على ما قدمنا من الاختلاف فى ملك فارس إلى من كان حينئذ.
قال: فقال رستم: أى العجم أشد على العرب فيما ترون؟ قالوا: بهمن جاذويه، وهو ذو الحاجب، فوجهه ومعه الفيلة، ورد جالينوس معه. وذكر بعض ما تقدم.
وبلغ المسلمون مسيرهم، فقال المثنى لأبى عبيد: إنك لم تلق مثل هذا الجمع ولا مثل هذه العدة، ولمثل ما أتوك به روعة لا تثبت لها القلوب، فارتحل من منزلك هذا حتى نعبر الفرات ونقطع الجسر وتصير الفرات بينك وبينهم فتراهم، فإن عبروا إليك قاتلتهم، واستعنت الله، قال: إنى لأرى هذا وهنا، ثم أخذ برأى المثنى فعبر الفرات ونزل المروحة وقطع الجسر، وأقبل بهمن فنزل قس الناطف، بينه وبين أبى عبيد الفرات، وأرسل إلى أبى عبيد: إما أن تعبر إلينا، وإما أن نعبر إليك. فقال أبو عبيد: نعبر إليكم. فقال المثنى أذكرك الله والإسلام أن لا تعبر إليهم، فحلف ليعبرن إليهم، ودعا ابن صلوبا فعقد له الجسر فقال سليط بن قيس الأنصارى: يا أبا عبيد أذكرك الله ألا تركت للمسلمين مجالا، فإن العرب من شأنها أن تفر ثم تكر، فاقطع هذا الجسر وتحول عن منزلك وانزل أدنى منزل من البر وتكتب إلى أمير المؤمنين فتعلمه ما قد أجلبوا به علينا، ونقيم فإذا كثر عددنا وجاء مددنا رجعنا إليهم وبنا قوة، وأرجو أن يظهرنا الله عليهم. قال: جبنت والله يا سليط. قال: والله إنى لأشد منك بأسا، وأشجع منك قلبا، ثم تقدم فعبر، فقال المثنى لأبى عبيد: والله ما جبن، ولكن أشار بالرأى، وأنا أعلم بقتال هؤلاء منك، لئن عبرت إليهم فى ضيق هذا المطرد ليجزرن المسلمين هذا العدو. وقال: والله لأعبرن إليهم، وكان رسول بهمن قد قال: إن أهل فارس قد عيروهم، يعنى المسلمين، بالجبن

(2/408)


عن العبور إليهم، فازداد أبو عبيد محكا، فقال المثنى للناس: اجعلوا جبنها بى ولا تعبروا فقالوا: كيف نصنع وقد عبر أميرنا وسليط فى الأنصار وعبر الناس فقال المثنى: إنى لأرى ما تصنعون ولولا أن خذلانكم يقبح ولا أراه يحل ما صحبتكم، ثم عبر، فالتقى الناس فى موضع ضيق المطرد.
قال: وكانت دومة امرأة أبى عبيد رأت وهى بالطائف كأن رجلا نزل من السماء معه إناء فيه شراب، فشرب منه أبو عبيد ورجال من أهل بيته يأتى ذكرهم، فقصتها على أبى عبيد، فقال: هذه الشهادة إن شاء الله.
فلما التقوا قال أبو عبيد: إن قتلت فأميركم عبد الله بن مسعود بن عمرو، يعنى أخاه، فإن قتل فأميركم جبر بن أبى عبيد، يعنى ولده، فإن قتل فأميركم حبيب بن ربيعة ابن عمرو بن عمير، فإن قتل فأميركم أبو الحكم بن حبيب بن ربيعة بن عمرو بن عمير، فإن قتل فأميركم أبو قيس بن حبيب، وهؤلاء الإخوة الثلاثة بنو عمه، حتى عدّ كل من شرب الإناء، ثم قال: فإن قتل فأميركم المثنى بن حارثة، وسير على ميمنته سليط بن قيس، وعلى ميسرته المثنى.
وقدم ذو الحاجب جالينوس معه الفيل الأبيض وراية كسرى وقد أطافت به حماة المشركين، معلمين أمامهم رجال يمشون على العمد، فكانت بين الناس مشاولة، يخرج العشرة والعشرون فيقتتلون مليا من النهار، ثم حمل المشركون على المسلمين فنضحوهم بالنبل، وجثت رجالهم فاستقبلوا بالرماح، ولم يقدروا من المسلمين على شىء فانصرفوا عنهم، ثم حملوا عليهم الثانية ففعلوا مثلها، ثم انصرفوا، وحملوا عليهم الثالثة فصبروا، فلما رأوا أنهم لا يقدرون على ما يريدون من المسلمين جاؤا بالنشاب فوضعوه كأنه آكام وتفرقوا ثلاث فرق، فقصدت فرقة لأبى عبيد فى القلب، وفرقة لسليط فى الميمنة، وفرقة للمثنى فى الميسرة، ثم صاروا كراديس، فجعل الكردوس يمر بهم معرضا بالمسلمين ويرميهم حتى كثرت الجراحات فيهم، وعضلت الأرض بأهلها.
وأقبلت الفيلة عليها النخل، والخيول عليها التجافيف، والفرسان عليهم الشعر، فلما نظرت إلى ذلك خيول المسلمين رأت شيئا منكرا لم تكن ترى مثله، فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم خيولهم، وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت بين كراديسهم، لا تقوى لهم الخيل إلا على نفار، وخزقهم الفرس بالنشاب، وعض المسلمين الألم، وجعلوا لا يصلون إليهم، فنادى سليط بن قيس: يا أبا عبيد أرأيى أم رأيك أما

(2/409)


والله لتعلمن أنك قد أضررت برأيك نفسك والمسلمين، ثم قال: يا معشر المسلمين علام نستهدف لهؤلاء المشركين من أراد الجنة فليحمل معى، فحمل فى جماعة أكثرهم من الأنصار، فقتل وقتلوا، وترجل أبو عبيد وترجل الناس ومشوا إليهم، فتكافحوا وصافحوهم بالسيوف وحمى البأس حتى كثرت القتلى من الطائفتين جميعا، وجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم، فنادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة فقطعوا بطنها واقلبوا عنها أهلها؛ وواثب هو الفيل الأبيض، فتعلق ببطانه فقطعه، ووقع الذين عليه، وفعل القوم مثل ذلك؛ فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه، وقال أبو عبيد: ما لهذه الدابة من مقتل؟ قالوا: بلى، مشفرها إن قطع، فضرب مشفره فقطعه وبرك عليه فاستدبره أبو محجن فضرب عرقوبيه فاستدار وسقط لجنبه، وتعاور أبا عبيد المشركون فقتلوه، وقيل: بل اتقاه الفيل بيده لم نفح مشفره بالسيف فأصابه بيده فوقع فخبطه الفيل وقام عليه.
فلما بصر الناس بأبى عبيد تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم، وأخذ اللواء الذى كان أمره من بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبى عبيد فاجتره إلى المسلمين وأخذوا شلوه، ثم تجرثم الفيل فاتقاه الفيل بيده دأب أبى عبيد، وخبطه الفيل، وقام عليه، وتتابع أمراء أبى عبيد الذين عهد إليهم بأخذ اللواء، فيقاتل حتى يموت، وصبر الناس حتى قتلوا، وصارت الراية إلى المثنى بن حارثة، فجاش بها ساعة ثم انهزم الناس وركبهم المشركون واقتطعوا زر بن خطم أو ابن حصن بن جوين الطائى فجماعة من المسلمين، فنادى زر:
يا معشر المسلمين، أنا زر، إنه ليس بعار أن يقتل الرجل وهو مقبل على عدوه معه سيف يضرب به سبالهم وأنفهم، وإنما العار أن يقتل الرجل وهو غير مقبل على عدوه، فاثبتوا فرب قوم قد فروا ثم كروا ففتح الله عليهم، فثاب إليه ناس من أهل الحفاظ حتى صاروا نحوا من ثلاثمائة، وأحاط بهم المشركون حتى خافوا الهلاك، ونظر إليهم المثنى بن حارثة، فقال لناس من بكر بن وائل: أى إخوانكم قد أحسنوا القتال وصبروا لعدوهم، فإن أمسكتم عنهم هلكوا، وإن كررتم رجوت أن تفرجوا عنهم وأن يكشف الله لهم السبيل إلى الجسر، فحمل على المشركين فى سبعين من بكر بن وائل أصحاب خيل مقدحة، كان يعدها للطلب والغارة فى بلاد العدو فقاتلهم حتى ارتفع عنهم المشركون وانضموا إلى إخوانهم من المسلمين.
ونظر عروة بن زيد الخيل وقد أحيط به وهو فى عشرين فرسا، إلى خيل المسلمين تطارد المشركين فقال لمن معه: أرى فى المسلمين بقية، فاحملوا على من بيننا وبين

(2/410)


أصحابنا، فحملوا وأفرجوا لهم حتى وصلوا إلى المسلمين، وكان عروة يومئذ على فرس كميت أغر الذنوب، فأبلى أحسن بلاء، كان يشد عليه المنسر من مناسر العجم وهو وحده فإذا غشوه كر عليهم فيتصدعون حتى عرف مكانه، وتعجب الناس يومئذ من عروة لما رأوا من بلائه، فقال المثنى: إن البأس ليس له بمستنكر، ومضى الناس نحو الجسر، وحماهم المثنى وعروة بن زيد الخيل والكلح الضبى وعاصم بن عمرو الأسدى وعامر بن الصلت السلمى ونادى المثنى: أيها الناس، أنا دونكم فاعبروا على هيئتكم ولا تدهشوا فإنا لن نزول حتى نراكم من ذلك الجانب، ولا تفرقوا أنفسكم. فانتهى الناس إلى الجسر وقد سبق إليه عبد الله بن مرثد الثقفى أو غيره فقطعه وقال: قاتلوا عن دينكم، فخشع الناس واقتحموا الفرات فغرق من لم يصبروا، وأسرع المشركون فيمن صبروا، وأتاهم المثنى بن حارثة فأمر بالسفينة التى قطعت فوصلت بالجسر وعبر الناس، وقال المثنى للرجل الذى قطع الجسر: ما حملك على ما صنعت؟ قال: أردت أن يصبر الناس، ويقال إن سليط بن قيس كان من آخر من قتل عند الجسر.
وأصيب يومئذ من المسلمين ألف وثمانمائة منهم ثلاثمائة من ثقيف فيهم ثمانون خاضبا، واستحر القتل يومئذ ببنى عوف بن عقدة رهط أبى عبيد فابيد منهم: أبو عبيد وأمراؤه الذين أمر، وغيرهم. ويقال: قتل يومئذ معه اثنان وعشرون رجلا ممن هاجر، وقتل من المشركين ألفان.
وقتل أكثر من ذلك فيما ذكره سيف، قال: خبط الفيل أبا عبيد، وقد أسرعت السيوف فى أهل فارس، وأصيب منهم ستة آلاف فى المعركة، ولم يبق إلا الهزيمة، فلما خبط أبو عبيد، وقام عليه الفيل جال المسلمون جولة، ثم تموا عليها، وركبهم أهل فارس.
وقال عثمان النهدى: هلك يومئذ، يعنى من المسلمين، أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وهرب ألفان، وبقى ثلاثة آلاف.
ولما فرغ الناس بالعبور عبر المثنى وحمى جانبه، واضطرب عسكره ورماهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم، وقطع المسلمون الجسر بعد عبورهم، فعبره المشركون.
قالوا «1» : وخرج جابان، ومردانشاه فى ألف من الأساورة منتخبين ليسبقوا المسلمين إلى الطريق، وبلغ ذلك المثنى، فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو، وخرج يريدهما
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 458، 459) .

(2/411)


فى جريدة خيل، فاعترضاه يظنانه هاربا، فأخذهما أسيرين فضرب أعناقهما، وقال: أنتما كذبتما أميرنا واستفززتماه.
وخرج أهل أليس على أصحابها، فأخذوهم فجاؤا بهم إلى المثنى، فضرب أعناقهم، وعقد بذلك لأهل أليس ذمة ثم رجع إلى عسكره.
وقيل: بل لقيهم المثنى فقتل مردانشاه فى المعركة وأسر جابان فضرب المثنى رقبته، وقد تقدم فى ذكر ملتقى أبى عبيد بجابان بين الحيرة والقادسية أن أكتل بن شماخ العكلى أسر مردانشاه ثم ضرب عنقه، وأسر مطر بن فضة جابان فخدعه وافتدى منه، وأحد الأمرين هو الصحيح فى قتل مردانشاه، فالله أعلم.
وانهزم المشركون، ومضى المثنى إلى أليس، وتفرق بنو تميم إلى بواديهم، ومضى أهل المدينة وأسد غطفان فنزلوا الثعلبية. وكان لعروة بن زيد الخيل من حسن الغناء فى يوم الجسر ما تقدم ذكره، فقال له المثنى: يا عروة، أما والله لو أن معى مثلك ألف فارس من العرب ما تهيبت أن أصبح ابن كسرى فى مدائنه وما كنت أكره أن ألقى مثل هذا الجمع الذى فل المسلمين مصحرا ولرجوت أن يظفرنى الله بهم، فهل لك فى المقام معى لا أوثر عليك نفسى ولا أحدا من قومى؟ قال: لا، إنى كنت مع هذا الرجل، يعنى أبا عبيد، وقد أصيب، فأرجع إلى عمر فيرى رأيه.
فلما نزل الناس التعلبية سألوا عروة أن يأتى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، بكتابهم، فكتبوا إليه: إنا لقينا عدو الإسلام من أهل فارس بمكان يقال له قس الناطف فقتل أميرنا أبو عبيد وأمراء أمرهم أبو عبيد، وسليط بن قيس ورجال من المسلمين منهم من تعرف، ومنهم من تنكر، وتولى أمر الناس المثنى بن حارثة أخو بنى شيبان فحماهم فى فوارس، جزاهم الله عن الإسلام خيرا، فكتبنا إليك وقد نزلنا الثعلبية فرارا من الزحف لا نرى إلا إنّا قد هلكنا، وقد بعثنا إليك فارس المسلمين عروة يخبرك عنا ويأتينا بأمرك.
فلما قرأ عمر الكتاب فانتهى إلى قوله: منهم من تعرف ومنهم من تنكر بكى وقال:
ما ضر قوما عرفهم الله أن ينكرهم عمر، لكن الله لا يخفى عليه من عباده المحسنون، يا عروة ارجع إليهم فأعلمهم أنهم ليسوا بفرار، وإنما انحازوا إلىّ، وأنا لهم فئة، وسيفتح الله عليهم تلك البلاد إن شاء الله، يرحم الله أبا عبيد لو انحاز إلينا واعتصم بالحيف لكنا له فئة.

(2/412)


وكتب عمر مع عروة إلى المثنى بن حارثة: أما بعد، فإن الله كتب القتل على قوم فلم يكن مماتهم ليكون إلا قتلا، وكتب على قوم الموت فهم يموتون موتا، فطوبى لمن قتل فى سبيل الله محتسبا نفسه صابرا، وقد بلغنى عنك ما كنت أحب أن تكون عليه، فالزم مكانك الذى أنت به، وادع من حولك من العرب، ولا تعجل إلى قتال إلا أن تقاتل، أو ترى فرصة حتى تأتيك أمداد المسلمين، وكأن قد أتتك على الصعبة والذلول.
فقدم عروة بن زيد على المثنى بكتاب عمر، ورجع أهل الحجاز وأسد وغطفان إلى بلادهم، وأقام المثنى حتى قدمت الأمداد.
ويقال: إن أول خبر تحدث به عن أهل الجسر بالمدينة أن رجلا قدمها من الطائف فجلس إلى حذاء فقال: ما لى لا أسمع أهل المدينة يبكون قتلاهم؟ فقال له الحذاء: ومن قتل؟ قال:
قتل أبو عبيد بن مسعود، وسليط بن قيس، فأخذ الحذاء بتلابيبه حتى أتى به عمر فأخبره بما قال، فقال له عمر: ما تقول ويلك! قال: يا أمير المؤمنين إنّا منذ ليال بفناء من أفنية الطائف إذ سمعنا أصوات نساء من ناحية باب شهار يقلن: يا أبا عبيداه، ويا سليطاه، وسمعنا قائلا يقول:
إن بالجسر فتية سعداء ... صبرا صادقين يوم اللقاء
كم تقى مجاهد كان فيهم ... خاشع القلب مستجاب الدعاء
يجأر الليل كله بعويل ... ونجيب وزفرة وبكاء
قال: فما انقضى حديثه حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمى، وكان أول من قدم بخبر الجسر ممن شهده فمر بباب حجر عائشة، ويقال: أتى عمر وهو على المنبر فلما دخل المسجد ورآه عمر قال: ما عندك يا ابن زيد؟ قال: أتاك الخبر يا أمير المؤمنين، ثم صعد إليه فأخبره، فقالت عائشة: ما رأينا رجلا حضر أمرا فحدث عنه كان أثبت حديثا من عبد الله بن زيد ولا أخفى فزعا.
ولما قدم أهل المدينة المدينة وأخبروا عمن سار منهم إلى البادية استحياء من الهزيمة، اشتد ذلك على عمر، رحمه الله، فرق للناس ورحمهم، وقال: اللهم إن كل مسلم فى حل منى، أنا فئة كل مسلم، من لقى العدو ففزع بشىء من أمره فأنا له فئة؛ يرحم الله أبا عبيد، لو كان انحاز إلىّ لكنت له فئة.
وكان معاذ القارئ ممن شهدها وفر يومئذ، وكان يصلى بالناس فى شهر رمضان على

(2/413)


عهد عمر، فكان بعد إذا قرأ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الأنفال: 16] ، خنقته العبرة وبكى، فكان عمر يقول: أنا لكم فئة.
وكان عمر، رضى الله عنه، قد رأى فى النوم أن أبا عبيد وأصحابه انتهوا إلى ضرس من الحيرة فتحيروا ولم يجدوا مخرجا، فرجعوا فلم يجدوا طريقا، فرفعوا إلى السماء، فقال عمر: هذه شهادة، فليت شعرى ما فعل عدوهم؟ فكان يتوقع الخبر حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمى فأخبره، فبكى وقال: ما وجهت أحدا وجها أكره إلىّ من الوجه الذى توجه إليه أبو عبيد.
وقال أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عبيد يرثى أبا عبيد ومن أصيب معه، وهو ابن عم أبى عبيد وأخو بنى حبيب الثلاثة المقتولين معه من أمرائه:
أنى تهدت نحونا أم يوسف ... ومن دون مسراها فياف مجاهل
إلى فتية بالطف نيلت سراتهم ... وغرى أفراس بها ورواحل
وأضحى بنو عمرو لدى الجسر منهم ... إلى جانب الأبيات حزم ونابل
وأضحى أبو جبر خلا ببيوته ... بما كان تعدوه الضعاف الأرامل
ألا قد علت قلب الهموم الشواغل ... وراجعت النفس الأمور القواتل
سيعلم أهل الغىّ كيف عزيمتى ... ويعلم ودادى الذين أواكل
غناى وأخذى بالذى أنا أهله ... إذا نزلت بى المعضلات العضائل
فما رمت حتى خرقوا برماحهم ... ثيابى وجادت بالدماء الأباجل
وما رمت حتى كنت آخر راجع ... وصرع حولى الصالحون الأماثل
وقد غادرونى فى مكر جيادهم ... كأنى غادتنى من الراح شامل
وأمسى على سيفى نزيف ومهرتى ... لدى الفيل تدمى نحرها والشواكل
فما لمت نفسى فيهم غير أنها ... إلى أجل لم يأتها وهو عاجل
مررت على الأنصار وسط رحالهم ... فقلت لهم هل منكم اليوم قافل
ألا لعن الله الذين يسرهم ... رداى وما يدرون ما الله فاعل
وقال أبو محجن أيضا:
يا عين جودى على جبر ووالده ... إذا تحطمت الرايات والحلق
يوم بيوم أتى جبر وإخوته ... والنفس نفسان منها الهول والشفق

(2/414)


يا خل سل المنايا ما تركن لنا ... عزا ننوء به ما هدهد الورق
وقال حسان بن ثابت يرثى سليط بن قيس ومن أصيب من قومه:
لقد عظمت فينا الرزية أننا ... جلاد على ريب الحوادث والدهر
لدى الجسر يوم الجسر لهفى عليهم ... غداة إذا ما قد لقينا على الجسر
يقول رجال ما لحسان باكيا ... وحق لى التبكاء بالنحب والغزر
أبعد أبى قيس سليط تلومنى ... سفاها أبى الأيتام فى العسر واليسر
فقل للألى أمسوا أسروا شماتة ... به كنتم يوم النزال على بدر
وقالت امرأة من ثقيف:
أضحت منازل آل عمرو قفرة ... بعد الجزيل ونائل مبذول
وكأنما كانوا لموقف ساعة ... قردا زفته الريح كل سبيل
حديث البويب ووقعة مهران «1»
ولما بلغ عمر، رضى الله عنه، أمر الجسر، وأتاه كتاب المسلمين بالخبر استخلف على المدينة على بن أبى طالب وخرج فنزل بصرار يريد أرض فارس، وقدم طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص، فدخل عليه العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف فأشاروا عليه بالمقام، وقالوا: شاور الناس، فكتب إلى على وطلحة فقدما عليه، فجمع الناس فقال: إنى نزلت منزلى هذا وأنا أريد العراق فصرفنى عن ذلك قوم من ذوى الرأى منكم، وقد أحضرت هذا الأمر من خلفت ومن قدمت، فأشيرووا علىّ، فقال على بن أبى طالب، رضى الله عنه، أرى أن ترجع إلى المدينة وتكتب إلى من هناك من المسلمين أن يدعوا من حولهم ويحذروا على أنفسهم، وقد قدم قوم من العرب يريدون الهجرة فوجههم إليهم فتكون دار هجرة حتى إذا كثروا وليت أمرهم رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل السابقة والقدم فى الإسلام، فانصرف عمر إلى المدينة وكتب إلى المثنى بأن يدعو من حوله ولا يقاتل أحدا حتى يأتيه المدد، وقدم من الأسد وبارق وغامد وكنانة سبعمائة أهل بيت، فقال لهم عمر: أين تريدون؟ فقالوا: سلفنا بالشام. قال: أو غير ذلك، أرضا تبتذونها إن شاء الله ويغنمكم الله كنوزها، أخوار فارس. فقال مخنف بن سليم الغامدى: مرنا بأحب الوجهين إليك. قال: العراق. قال:
__________
(1) انظر: فتوح البلدان للبلاذرى (ص 310- 312) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 303- 306) ، الطبرى (3/ 460- 472) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 29، 30) .

(2/415)


فامضوا على بركة الله، فأمر عمر على الأزد رجلا منهم، وعلى كنانة غالب بن عبد الله الليثى فشخصوا إلى أرض الكوفة، فقدموا على المثنى بن حارثة، فأقبل بهم حتى نزلوا العذيب.
وفيما ذكره سيف «1» أن الأزد وكنانة لما سألوا الشام قال لهم عمر: ذلك وجه قد كفيتموه، العراق العراق إذروا بلدة قد فل الله شوكتها وعدوها، واستقبلوا جهاد قوم قد حووا فنون العيش، لعل الله أن يرث بكم قسطكم من ذلك فتعيشوا مع من عاش من الناس، فقال غالب الليثى وعرفطة البارقى، كل واحد منهما لقومه: يا عشيرتاه أجيبوا أمير المؤمنين إلى ما أراد، فقال كل فريق لصاحبهم: إنا قد أطعناك وأجبنا أمير المؤمنين إلى ما أراد، فدعا لهم عمر بخير، وأمر على كنانة غالبا وسرحه فيهم، وأمر على الأزد عرفجة بن هرثمة البارقى وعامتهم من بارق، وفرحوا برجوع عرفجة إليهم. فخرج هذا فى قومه وهذا فى قومه حتى قدما على المثنى، وكان عرفجة هذا حليفا فى بجيلة لأمر عرض له فى قومه أخرجه عنهم، ومن قدمته هذه رجع إلى قومه ونسبه حسب ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى.
وقدم بعدهم أربعمائة أهل بيت من كندة والسكون، فيهم الأشعث بن قيس ومعاوية بن حديج وشرحبيل بن السمط، فقالوا: يا أمير المؤمنين قدمنا نريد سلفنا بالشام، فنظر إليهم وعليهم الحلل فأعرض عنهم، فكلموه، أيضا، فلم يأمرهم بشىء، فقيل له: ما يمنعك؟ قال: إنى لمتردد فيهم منقبض عنهم، لا ينزل هؤلاء بلدا إلا فتنوا أهله، وما قدم أحد المدينة أكره إلىّ منهم، فأمضى نصفهم إلى الشام، عليهم معاوية بن حديج، ونصفهم إلى العراق عليهم شرحبيل بن السمط.
وقدم من مذحج المدينة ألف بيت فيهم ثلاثمائة أهل بيت من النخع، فقال عمر:
سيروا إلى أرض فارس، قالوا: لا، ولكنا نسير إلى الشام، فقال يزيد بن كعب النخعى:
أنا أخرج فيمن أطاعنى، فخرج فى ثلاثمائة أهل بيت من النخع، وقال هند الجملى: أنا أخرج فيمن أطاعنى، فخرج فى خمسمائة أهل بيت من مراد، فكان عمر يقول بعد ذلك: سيد أهل الكوفة سمى المرأة هند الجملى.
ثم قدم المدينة أهل ألف بيت من همدان، فقالوا لعمر: خر لنا. قال: أرض العراق.
قالوا: بل الشام، قال: بل العراق، فصرفوا ركابهم إلى العراق.
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 463) .

(2/416)


وقد كانت قدمت بجيلة فيهم جرير بن عبد الله، وسيدهم عرفجة بن هرثمة البارقى، حليف لهم، فقال عمر: اخرجوا إلى العراق، وأمر عليهم عرفجة، فقال جرير لبجيلة:
أخبروا عمر أنه ولى عليكم رجلا ليس منكم، وكانت بجيلة قد غضبت على عرفجة فى أمر عرض بينهم وبينه، فكلموا عمر فى ذلك واستعفوه منه، فقال: لا أعفيكم من أقدمكم هجرة وإسلاما، وأعظمكم بلاء وإحسانا، فلما أعلموه أنه ليس منهم، قال لعرفجة: إن هؤلاء استعفونى منك، وزعموا أنك لست منهم، فما عندك؟ قال: صدقوا، لست منهم وما يسرنى أننى منهم، أنا امرؤ من الأزد من بارق فى كثف لا يحصى عدده، وحسب غير مؤتشب. فقال عمر: نعم الحى الأزد، يأخذون نصيبهم من الخير والشر.
وقال عرفجة: إنه كان من شأنى أن الشر تفاقم فينا، ودارنا واحدة، وأصبنا الدماء، ووتر بعضنا بعضا فاعتزلتهم لما خفتهم، فكنت فى هؤلاء أسودهم وأقودهم، فحفظوا علىّ لأمر دار بينى وبين دهاقنتهم، فحسدونى وكفرونى، فقال: لا يضرك فاعتزلهم إذ كرهوك.
وقيل: إن عمر قال: اثبت على منزلتك ودافعهم، قال: لست فاعلا، ولا سائرا، فأمر عليهم جرير بن عبد الله، وقيل: إن جريرا كان إليه من بجيلة بعضها، فجمعها إليه عمر، وقال له جرير: يا أمير المؤمنين إن قومى متفرقون فى العرب، فأخرجهم وأنا أغزو بهم أرض فارس، وكانوا متفرقين فى هوزان وغطفان وتميم وفى أزد شنوءة والطائف وجرش، فكتب عمر إلى القبائل التى فيها بجيلة: أى نسب تواصل عليه الناس قبل الإسلام فهو النسب ليس لأحد أن يدعه، وليس له أن ينتقل إلى غير ما كان يعرف به، فمن كان من بجيلة لم ينتسب إلى غيرهم حتى جاء الإسلام فلا تحولوا بينهم وبين الرجوع إلى قومهم، فخرج قيس كبة وشحمة وعرينة من هوازن وغيرها من القبائل، وخرج العتيل والفتيان من بنى الحارث وخرج على وذبيان من الأزد بالسراة، ولما أعطى عمر، رضى الله عنه، جريرا حاجته فى استخراج بجيلة من الناس فأخرجهم، أمرهم بالموعد بين مكة والمدينة، ولما تتاموا قال لجرير: اخرج حتى تلحق بالمثنى، فكره ذلك جرير ومال إلى الشام، فقال له عمر: قد علمتم ما لقى إخوانكم بأرض فارس، فاخرجوا فإنى أرجو أن يورثكم الله أرضهم وديارهم، ولك الربع من كل شىء بعد الخمس، وقيل: بل جعل له ولقومه ربع الخمس مما أفاء الله عليه فى غزاتهم هذه، له ولمن اجتمع إليه ومن أخرج له من القبائل، استصلحهم عمر، رضى الله عنه، بذلك، إذ كان هواهم

(2/417)


الشام، فأبى هو عليهم إلا العراق، وقال لهم: اتخذونا طريقا، فقدموا المدينة وهم أربعة آلاف، وقيل: ألفان، ثم فصلوا منها إلى العراق ممدين للمثنى، فقال عمر: لو ضممت إلى هؤلاء من الجبين من ابنى نزار، يعنى تميما وبكرا فوجه معهم قوما منهم، ثم تتابعت الأمداد.
وكان أول من نزل العذيب بالعيال من قبائل اليمن والحجاز الأزد ثم حضرموت وكندة ثم النخع ومراد ثم همدان ثم بجيلة، ثم جاءت قبائل الحجاز وأهل البوادى من تميم وبكر، وجاءت طيئ عليها عدى بن حاتم، وجاءت أسد، وجاءت قيس عليهم عبد الله بن المعتم العبسى، وجاءت الرباب وعلى تيم وعدى هلال بن علفة، وعلى ضبة المنذر بن حسان، وجاءت حنظلة وعمرو، وطوائف من سعد، وجاءت النمر بن قاسط عليهم أنس بن هلال بن عقة، وبعث عمر أيضا، عصمة بن عبد الله الضبى فيمن تبعه من بنى ضبة، وكان قد كتب إلى أهل الردة يأذن لهم فى الجهاد ويستنفرهم إليه، فلم يوافقه أحد منهم إلا رمى به المثنى.
وذكر المدائنى أن يزدجرد وجه مهران بعد وقعة الجسر وأمره أن يبث المسالح إلى أدانى أرض العرب، ويقتل كل عربى قدر عليه.
وفيما ذكره الطبرى عن سيف أن رستم والفيرزان هما اللذان رأيا إنفاذ مهران بعد أن طالعا برأيهما فى ذلك بوران ابنة كسرى، وذلك عند ما علما بتوافى أمداد العرب إلى المثنى، فخرج مهران فى الخيول وجاء يريد الحيرة، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباخ، ما بين القادسية وخفان، فاستبطن فرات بادقلى، وأرسل إلى جرير ومن معه: أنه جاءنا أمر لن نستطيع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب.
وكتب إلى عصمة وإلى كل قائد أظله بمثل ذلك، وقال: خذوا على الجوف، فسلكوا القادسية وسلك المثنى وسط السواد، فطلع على النهرين ثم على الخورنق، وطلع عصمة ومن سلك معه طريقه على النجف، وطلع جرير ومن سلك معه على الجوف، فانتهوا إلى المثنى وهو البويب، ومهران من وراء الفرات بإزائه، فاجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلى موضع الكوفة اليوم، وعليهم المثنى، وهم بإزاء مهران وعسكره، فقال المثنى لرجل من أهل السواد: ما يقال لهذه الرقعة التى فيها مهران وعسكره؟ فقال:
بسوسا، فقال: أكدى مهران وهلك، ونزل منزلا هو البسوس، وأقام بمكانه حتى كاتبه

(2/418)


مهران: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم، فقال المثنى: اعبروا فعبر مهران، فنزل على شاطئ الفرات معهم فى الملطاط، فقال المثنى لذلك السوادى: ما يقال لهذه الرقعة التى نزلها مهران وعسكره؟ فقال: شوميا، وذلك فى رمضان، فنادى المثنى فى الناس:
انهدوا لعدوكم، فتناهدوا، ومهران فى ثلاثة عشر ألفا معه ثلاثة فيلة، فقدموا فيلتهم واستعدوا للحرب، فأقبلوا إلى المسلمين فى ثلاثة صفوف، مع كل صف فيل، ورجلهم أما فيلهم، وجاؤا ولهم زجل. فقال المثنى للمسلمين: إن الذى تسمعون فشل، فالزموا الصمت وائتمروا همسا، والمسلمون أربعة آلاف، ألفان وثمانمائة من اليمن، وألف ومائتان من سائر الناس، ويقال: كانوا ستة آلاف، وألف ومائتان من تميم وقيس وبكر، وسائرهم من اليمن.
وتنازع جرير والمثنى الإمارة يومئذ، فقال له المثنى: إنما بعثك أمير المؤمنين مددا لى، وقال جرير: بل استعملنى، فقيل: صار الأمر بينهما إلى ما قال المثنى، فكان هو الأمير، وقيل: صار جرير أميرا على من قدم معه والمثنى أميرا على من قدم قبل ذلك، ومن قال هذا زعم أن المثنى قال لجرير عند ما نهدوا للعدو: خلنى وتعبئة الناس، ففعل جرير وعبأ المثنى الجيش فصير مضر وربيعة فى القلب، وصير اليمن ميمنة، وميسرة، وقال المثنى: يا معشر المسلمين، إنى قد قاتلت العرب والعجم، فمائة من العرب كانوا أشد علىّ من ألف من العجم، ويقال: إنه قال لهم: قاتلت العرب والعجم فى الجاهلية والإسلام والله لمائة من العجم فى الجاهلية كانوا أشد علىّ من ألف من العرب، ولمائة من العرب اليوم أشد علىّ من ألف من العجم، إن الله قد أذهب مصدوقتهم، ووهن كيدهم، فلا يهولنكم سوادهم، إن للعجم قسيّا لجا، وسهاما طوالا هى أغنى سلاحهم عندهم فلو قد لقوكم رموكم بها، وإذا أعجلوا عنها أو فقدوها، فهم كالبهائم أينما وجهتموها توجهت، فتترسوا والزموا مصافكم واصبروا لشدة أو شدتين، ثم أنتم الظاهرون إن شاء الله تعالى.
وركب يومئذ فرسا ذنوبا أدهم يدعى الشموس للين عريكته وطهارته، وكان لا يركبه إلا لقتال ويدعه ما لم يكن قتال، ومر على الرايات يحض القبائل، فقال له شرحبيل بن السمط: ما أنصفتنا يا مثنى، جعلت معدك وسطا وجعلتنا ميمنة وميسرة، قال: إذا أنصفكم، الله ما أريد لهم شيئا من الخير إلا وأنا أريد لكم مثله، وما عهدى بمعد يدرى بالناس من البأس، ثم صير تميما مع الأزد فى الميمنة، وصير ربيعة مع كندة فى الميسرة، وصفوا صفوفهم، وقال: الزموا الصمت فإنى مكبر ثلاث تكبيرات، فإذا

(2/419)


كبرت الثالثة فاحملوا، فنظر إلى سعد بن عبيد الأنصارى قد نصل من الصف، فقال: من أنت؟ قال: سعد بن عبيد، فررت يوم الجسر من الزحف، فأردت أن أجعل توبتى من فرتى أن أشرى نفسى لله. فقال له: إن خيرا مما تريد أن تقف مع المسلمين فتناضل عن دينك.
وقال جرير: يا معشر بجيلة، إن لكم فى هذه البلاد إن فتحها الله لكم حظا ليس لغيركم، فاصبروا التماس إحدى الحسنيين: الشهادة فثوابها الجنة أو النصر ففيه الغنى من العيلة، ولا تقاتلوا رياء ولا سمعة، بحسب امرئ من خساسته حظا أن يريد بجهاده وعدوه حمد أحد من الخلق.
ومر المثنى على الرايات راية راية يحرضهم ويهزهم بأحسن ما فيهم، ولكلهم يقول:
إنى لأرجو أن لا تؤتى العرب اليوم من قبلكم، والله، ما يسرنى اليوم لنفسى شىء إلا وهو يسرنى لعامتكم، فيجيبونه بمثل ذلك، وأنصفهم المثنى فى القول والفعل، وخالط الناس فى المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا، ووقف على أهل الميمنة فنظر إلى رجل من العنبر على فرس عتيق رائع، فقال: يا أخا بنى العنبر، إنك لمن قوم صدق فى اللقاء، أما والله يا بنى تميم إنكم لميامين فى الحرب، صبر عند البأس، إنى لأرجو أن يعز الله بكم دينه.
وقال للأزد: اللهم صبحهم برضوانك، وادفع عنهم عين الحاسد، أنتم والله الأنجاد الأمجاد الحسان الوجوه، وإنى لأرجو أن يأتى العرب اليوم منكم ما تقر به أعينهم، ونظر إلى فوارس من قيس فى القلب فقال: نعم فتيان الصباح أنتم، اللهم جللهم عافيتك وافرغ عليهم الصبر، يوما كبعض أيامكم، ونظر إلى ناس من طيئ فى القلب، فقال:
جزاكم الله خيرا، فنعم الحى أنتم فى اللقاء وعند العطاء، فإنه ليحضهم إذ شدت كتيبة من العجم على الميسرة وفيها بكر وكندة فصبروا لهم، ثم شدت عليهم الثانية فانكشفت بكر وكندة، فقال المثنى: إن الخيل تنكشف ثم تكر، يا معشر طيئ الزموا مصافكم وأغنوا ما يليكم، واعترض الكتيبة التى كشفتهم بخيل كانت معه فمنعهم من اتباعهم وقاتلهم، فثارت عجاجة بينهم ورجع أهل الميسرة، وأقبلت الميمنة نحو المثنى وقد انكشف العدو عنه، وسيفه بيده وقد جرح جراحات وهو يقول: اللهم عليك تمام النصر، هذا منك، فلك الحمد، فقال له مخنف بن سليم الغامدى: الحمد لله الذى عافاك، فقد كنت أشفقت عليك. قال: كم من كربة قد فرجها الله، هل منعم عليه يكافئ ربه بنعمة من نعمه!!.

(2/420)


وكانت هزيمة المشركون، فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى نهر بنى سليم، ثم كروا على المسلمين وركدت الحرب بينهم مليا، فلا يسمع إلا هرير الرجال، وقد كان أنس بن هلال النمرى قدم ممدا للمثنى فى أناس من النمر نصارى، وابن مردى الفهرى الثعلبى فى ناس من قومه كذلك، وقالوا حين رأو نزول العجم بالعرب: نقاتل مع قومنا، فلما طال القتال يومئذ واشتد عمد المثنى إلى أنس بن هلال، فقال: يا أنس، إنك امرؤ عربى، وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتنى قد حملت على مهران فاحمل معى، وقال لابن مردى الفهرى مثل ذلك، فأجاباه، فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل فى ميمنته، ثم خالطوهم، واجتمع القلبان، وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل، لا يستطيعون أن يفزعوا لنصر أميرهم، لا المسلمون ولا المشركون، وقد كان المثنى قال لهم: إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه، فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، فالزموا مصافكم وأغنوا عنا من يليكم، وأوجع قلب المسلمين قلب المشركون، ووقف المثنى حتى أسفر الغبار وقد فنى قلب المشركين، والمجنبات قد هز بعضها بعضا، فلما رآه المسلمون وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنبات المسلمين على المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المسلمون والمثنى فى القلب يدعون لهم بالنصر، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم: إن المثنى يقول لكم عادتكم فى أمثالهم، انصروا الله ينصركم، حتى هزم القوم.
وكانت راية الأزد مع عبد الله بن سليم، فجعل بتقدم بها، فقال له رجل: لو تأخرت قليلا، فقال:
أقسمت بالرحمن أن لا أبرحا ... أو يصنع الله لنا فيفتحا
وقاتل حتى قتل، وتقدم أبو أمية عبد الله بن كعب الأزدى وهو يقول: اللهم إليك أسعى لترضى، وإياك أرجو فاغفر ذنبى، ثم تقدم فقاتل حتى قتل، رحمه الله، فحمل أبو رملة بن عبد الله بن سليم، وكانت عنده الرباب ابنة عبد الله بن كعب، فقتل قاتل عبد الله بن كعب واحتز رأسه، فأتى به ابنه، وهو غلام مراهق، فقال: دونك رأس قاتل أبيك، فعض الفتى بأنفه، ومر به رجل من بكر بن وائل يقال له عجل، فقال: يا فتى ما أشجعك على الأموات فحمى الفتى واعترض العدو، فاتبعه عمه جندب وهو يقول: يا عجل، قتلت ابن أخى، فلحقه وقد قتل رجلا، فرده، وقتل حصين بن القعقاع بن معبد ابن زرارة، فأخذ الراية مولى لهم أو مولى للأزد يقال له خصفة، فقاتل حتى قتل، ودارت بينهم رحى الحرب، وأخذت جرير الرماح فنادى: وا قوماه، أنا جرير، فقاتلت عنه جماعة من قيس ليس معهم غيرهم حتى خلص، وشدت جماعة على مسعود بن

(2/421)


حارثة وهو معلم بعصابة خضراء وهو يفرى فريا، فطعن رجلا فقتله، وطعن آخر فانكسر رمحه فاختلفا بسيفيهما ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه، فوقف عليه أخوه المثنى فقال: هكذا مصارع خياركم، وقيل: إنه ارتث يومئذ فمات بعد فى إناس من الجرحى من أعلام المسلمين ماتوا كذلك، منهم خالد بن هلال، فصلى عليهم المثنى وقدمهم على الأسنان والقرآن، وقال: والله إنه ليهون علىّ وجدى أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا، ولم يجزعوا ولم يتكلموا، وإن كان فى الشهادة لكفارة لبحور الذنوب، ولما ارتث مسعود بن حارثة يومئذ فتضعضع من معه رأى ذلك وهو دنف فقال: يا معشر كعب بن وائل، ارفعوا رايتكم رفعكم الله، لا يهولنكم مصرعى، وقتل جرير وغالب بن عبد الله الليثى وحنظلة بن ربيعة الأسدى وعروة بن زيد الخيل كل واحد منهم عشرة.
وقال ربعى بن عامر، وشهدها يومئذ مع أبيه: احصى مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة فى المعركة. وذكر أن غالبا وعروة وعرفجة فى الأزد كانوا من أصحاب التسعة، فالله أعلم.
وقال يومئذ لعروة رجل من قومه، ورآه يقدم: أهلكت قومك يا عروة، فقال:
يا قوم لا تعنفونى قومى ... لا تكثروا عدلى ولا من لومى
لا تعدونى النصر بعد اليوم
وسمع رجل يومئذ من مهران يرتجز وهو يقول:
إن تسألوا عنى فإنى مهران ... أنا لمن أنكرنى ابن باذان
فعجب من أن يتكلم بالعربية، فقيل له: إنه ولد باليمن، ويقال: إنه عربى نشأ مع أبيه باليمن، وكان أبوه عاملا لكسرى.
وأبصر جرير بن عبد الله، مهران يقاتل، فحمل عليه جرير والمنذر بن حسان فقاتلاه، طعنه المنذر فأداره عن دابته وقد وقذه فنزل إليه جرير فاحتز رأسه وتنازعا سلبه ثم أخذ جرير سلاحه، وأخذ المنذر حليته وثيابه وبرذونه، وقيل فى قتله غير هذا، وهو مما حدثت به أم ولد لزيد بن صوحان أن زيدا أخرجها معه إلى العسكر حتى لقوا مهران صاحب كسرى، فجعل الناس يحيدون عن مهران، فقال زيد: ما شأن الناس يحيدون عن هذا؟
قيل: كرهوه، فنزل زيد فمشى إليه فاختلفا ضربتين، فأطن مهران يده، فرجع فأخذ عمامتى فشقها ثم لفها على يده ثم عاوده فنسف ساقيه بالسيف فقتله، فابتدر المسلمون

(2/422)


سلبه، فلم يأخذ زيد من سلبه إلا السيف، نفله إياه الأمير، فكان زيد يقول: من يشترى سيفا وهذا أثره، ويخرج يده الجذماء فيريها، وقد قيل إن غلاما نصرانيا من بنى تغلب هو الذى قتل مهران، فالله أعلم.
وهزم المشركون فأتوا الفرات، واتبعهم المسلمون، فانتهوا إلى الجسر، وقد عبرت طائفة من المشركين الجسر، فحالوا بين الباقين وبينه، فأخذوا يمينا وشمالا، فقاتلهم المسلمون حتى أمسوا، واقتحم طائفة الفرات فغرق بعضهم ونجا بعض، ورجع المسلمون عنهم حين أمسوا، فعبر من بقى منهم الجسر، ثم قطعوه فأصبح المسلمون فعقدوه واتبعوهم حتى بلغوا بيوت ساباط، ثم انصرفوا وصلبوا مهران على الجسر.
ويقال: إن المثنى قطع الجسر أولا ليمنع أهل فارس العبور، ثم ندم على ذلك وقال:
لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتى إياهم إلى الجسر وقطعه حتى أحرجتهم، فإنى غير عائد فلا تعودوا ولا تعتدوا بى أيها الناس، فإنما كانت زلة، لا ينبغى إخراج أحد إلا من لا يقوى على الامتناع.
ولما افترق الأعاجم على شاطئ الفرات مصعدين ومصوبين واعتورتهم خيول المسلمين أكثروا القتل فيهم حتى جعلوهم جثاء، فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أقوى رمة منها.
حدث أبو روق قال: والله إن كنا لنأتى البويب، يعنى بعد ذلك بزمان، فنرى ما بين السكون وبنى سليم عظاما بيضاء تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم نعتبر بها. قال:
وحدثنى بعض من شهدها أنهم كانوا يحرزونها مائة ألف.
واقتسم المسلمون ما أفاء الله عليهم، ونفلت بجيلة وجرير ما جعل لهم عمر بن الخطاب وحمل الخمس أو باقى الخمس، وجلس المثنى للناس يحدثهم ويحدثونه لما فرغوا، وكلما جاء رجل فتحدث قال له المثنى: أخبرنى عنك، فقال قرط بن جماح العبدرى:
قتلت رجلا فوجدت منه رائحة المسك فقلت: مهران، ورجوت أن يكون إياه، فإذا هو شهريرار صاحب الخيل فو الله ما رأيته إذ لم يكن مهران شيئا. وكان قرط قد قاتل يومئذ حتى دق قنى وقطع أسيافا.
وقال ربعى وهو يحدث المثنى: لما رأيت ركود الحرب واحتدامها قلت: تترسوا بالمجان فإنهم شادّون عليكم فاصبروا لشدتين وأنا زعيم لكم بالظفر فى الثالثة، فأجابونى فولى الله كفالتى.

(2/423)


وقال ابن ذى السهمين محدثا: قلت لأصحابى إنى سمعت الأمير يقرأ ويذكر فى قراءته الزحف، فما ذكره إلا لفضل فيه، فاقتدوا برايتكم ولتحمى خيلكم رجلكم، وازحفوا فما لقول الله من خلف، فأنجز الله لهم وعده كما رجوت.
وقال عرفجة محدثا: حزنا كتيبة منهم إلى الفرات، ورجوت أن يكون الله قد أذن فى غرقهم وأن يسلينا بها عن مصيبة الجسر، فلما حصلوا فى حد الإحراج كروا علينا فقتلناهم قتالا شديدا حتى قال بعض قومى: لو أخذت رايتك، فقلت علىّ إقدامها، وحملت بها على حاميتهم فقتلته فولوا نحو الفرات فما بلغوه ومنهم أحد فيه الروح.
وقد كان المثنى قال يومئذ: من يتبع آثار المنهزمة حتى يبلغ السيب؟ فقام جرير فى قومه فقال: يا معشر بجيلة إنكم وجميع المسلمين ممن شهد هذا اليوم فى السابقة والفضيلة سواء، وليس لأحد منهم فى هذا الخمس غدا من النفل مثل الذى لكم منه، نفلا من أمير المؤمنين، فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم للذى لكم منه إلى ما ترجون، فإنما تنتظرون إحدى الحسنيين الشهادة والجنة أو الظفر والغنيمة والجنة.
ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستنثلوا بالأمس من منهزمة يوم الجسر فقال: أين المستنثل بالأمس وأصحابه؟ انتدبوا فى آثار هؤلاء القوم إلى السيب وأبلغوا من عدوكم ما تغيظونهم به فهو خير لكم وأعظم أجرا، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
وكان هذا المستنثل، أو هو إن شاء الله سعد بن عبيد الأنصارى، قد أراد الخروج بالأمس من صف المسلمين إلى العدو، فقيل للمثنى: ألا ترى إلى هذا الرجل الذى يريد أن يستنثل، فركض إليه، فقال: يا أبا عبد الله، ما تريد أن تصنع؟ قال: فررت يوم أبى عبيد، فأردت أن تكون توبتى وانتصارى أن أمشى إليهم فأقاتل حتى أقتل، قال: إذن لا تضر عدوك ولا تنفع وليك، ولكن أدلك على ما هو خير لك، تثبت على صفك وتجزى قرنك وتواسى أخاك بنفسك وتنصره وينصرك فتكون قد نفعت المسلم وضررت العدو، فأطاعه وثبت مكانه، فكان يومئذ أول منتدب.
فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر ثم أخرجهم فى أثر القوم، واتبعتهم بجيلة وخيول المسلمين بعد من كل فارس، ولم يبق فى العسكر جسرى إلا خرج فى الخيل، فانطلقوا فى طلب العدو حتى بلغوا السيب، فأصابوا من البقر والسبى وسائر الغنائم شيئا كثيرا فقسمه المثنى عليهم، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل، ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية وبعث بثلاثة أرباعه إلى عمر، رضى الله عنه، وألقى الله الرعب فى قلوب

(2/424)


أهل فارس، وكتب القواد الذين قادوا الناس فى الطلب إلى المثنى، وكتب إليه عاصم وعصمة وجرير: إن الله قد كفى رستم ووجه لنا ما رأيت، وليس دون القوم شىء، فأذن لنا فى الإقدام، فأذن لهم فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصن أهلها منهم، واستباحوا القريات دونها وراماهم أهل الحصن عن حصنهم بساباط ثم انطفئوا راجعين إلى المثنى.
قالوا: وكان المثنى وعصمة وجرير أصابوا فى أيام البويب على الظهر نزل مهران غنما ودقيقا وبقرا، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس، وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم وهن بالحيرة، وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات اللواتى بالقوادس عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة، فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل تصايحن وحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد، فقال عمرو: هكذا ينبغى لنساء هذا الجيش، وبشروهن بالفتح.
ولما أهلك الله، عز وجل، مهران استكمن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة، فمخروها لا يخافون كيدا ولا يلقون فيها مانعا، وانتفضت مسالح العجم فرجعت إليهم واعتصموا بالساباط، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة، ونزل جرير والمثنى الحيرة وبثا المسالح فيما بين الأنبار وعين التمر إلى الطف، فمن كان أقام على صلحه قبلوا ذلك منه، ومن نقض أغاروا عليه، فكان أهل الحيرة وبانيقيا وغيرهم على صلحهم.
وكانت وقعة البويب فى رمضان من سنة ثلاث عشرة.
وتنازع، أيضا، المثنى وجرير الإمارة، وكان المثنى أحب إلى نزار، وجرير أحب إلى اليمانية، فكتب إلى عمر، رحمه الله، فى ذلك، فكان من مشورته فيه وعمله ما سيأتى بعد ذكره.
وشخص المثنى عند ذلك فنزل أليس، ويقال شراف، وهو وجع من جراحات به، وارتحل معه عامة النزارية، فلما رأى ذلك جرير تحول فنزل العذيب مع العيال، ومعه أخلاط الناس وهو الأمير عليهم فى قول بعضهم، وفى هذه الإمارات كلها اضطراب من نقلة الأخبار واختلاف بين القبائل، فبنو شيبان تقول: كان جرير الأمير يوم قتل مهران المثنى، وبجيلة تقول: كان الأمير يوم ذلك وقبل وبعد، والأظهر مما تقدم من الأخبار أن المثنى كان الأمير فى تلك الحرب، إلا أن يكون جرير على من معه كما قد قيل، فالله تعالى أعلم.

(2/425)


وقد قال الأعور الشنى فلم يذكر لغير المثنى يومئذ إمارة:
هاجت عليك ديار الحرب أحزانا ... واستبدلت بعد عبد القيس همذانا
وقد أرانا بها والشمل مجتمع ... أدنى النخيلة قتلى جند مهرانا
كأن الأمير المثنى يوم راجفة ... مهران أشجع من ليث بخفانا
أزمان سار المثنى بالخيول لهم ... فقتل الزحف من رجلى وركبانا
سما لمهران والجيش الذى معه ... حتى أبادهم مثنى ووحدانا
إذ لا أمير أراه بالعراق لنا ... مثل المثنى الذى من آل شيبانا
حديث غارة المثنى على سوقى الخنافس وبغداد «1»
ذكر سيف عن شيوخه أن المثنى لما نزل أليس، قرية من قرى الأنبار، وهذه الغزاة تدعى غزاة الأنبار الآخرة، وغزاة أليس الآخرة، وقد مخر السواد وخلف بالحيرة بشير بن الخصاصية، وأرسل جريرا إلى ميسان، وهلال بن علقمة إلى دست ميسان وأذكى المسالح بعصمة بن فلان الضبى، وبالكلح الضبى، وبعرفجة البارقى وأمثالهم من قواد المسلمين، ألزّ به رجلان: أحدهما أنبارى والآخر حيرى، يدله كل واحد منهما على سوق، فأما الأنبارى فدله على سوق الخنافس، وأما الحيرى فدله على بغداد. فقال المثنى:
أيتهما قبل صاحبتهما؟ فقالوا: بينهما أيام، فقال: أيهما أعجل؟ قالوا: سوق الخنافس يتوافى إليها الناس، ويجتمع إليها ربيعة وقضاعة يخفرونهم. فاستعد لها المثنى، حتى إذا ظن أنه يوافيهم يوم سوقها ركب نحوهم، فأغار على الخنافس يوم سوقها، وبها خيلان من ربيعة وقضاعة وهم الخفراء، فانتسف السوق وما فيها، وسلب الخفراء، ثم رجع عوده على دبئه حتى تطرق دهاقين الأنبار طروقا فى أول يومه فتحصنوا منه، فلما عرفوه نزلوا إليه فأتوه بالأعلاف والزاد، وأتوا بالأدلاء على بغداد، وكان وجهه إلى سوق بغداد فصبحهم.
وقال المثنى فى غارته على خنافس:
صبحنا فى الخنافس جمع بكر ... وحيا من قضاعة غير ميل
بفتيان الوغى من كل حى ... تبارى فى الحوادث كل جيل
نسفنا سوقهم والخيل زور ... من التطواف والشد البجيل
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 472- 476) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (1/ 25- 27) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 306، 307) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 187- 189) .

(2/426)


وذكر الخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادى فى تاريخه «1» أن بغداد كانت فى أيام مملكة العجم قرية يجتمع فيها رأس كل سنة التجار، ويقوم بها للفرس سوق عظيمة، فلما توجه المسلمون إلى العراق وفتحوا أول السواد، ذكر للمثنى بن حارثة أمر سوق بغداد، ثم أورد بإسناد له عن ابن إسحاق أن أهل الحيرة قالوا للمثنى، وذكره سيف من طريق آخر أن رجلا من أهل الحيرة قال للمثنى، واللفظ فى الحديثين متقارب، وقد دخل حديث أحدهما فى حديث الآخر، قالوا: ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى وتجار السواد ويجتمع بها فى كل سنة من الناس مثل خراج العراق، وهذه أيام سوقهم التى يجتمعون فيها، فإن أنت قدرت على أن تعبر إليهم وهم لا يشعرون أصبت بها مالا يكون غناء للمسلمين وقوة على عدوهم، وبينها وبين مدائن كسرى عامة يوم، فقال لهم: فكيف لى بها؟ قالوا: إن أردتها فخذ طريق البر، حتى تنتهى إلى الأنبار، ثم تأخذ رؤس الدهاقين، فيبعثون معك الأدلاء، فتسير سواد ليلة من الأنبار حتى تأتيهم ضحى.
قال: فخرج من النخيلة ومعه أدلاء الحيرة، حتى دخل الأنبار، فنزل بصاحبها فتحصن منه، فأرسل إليه: ما يمنعك من النزول؟ فأرسل إليه: إنى أخاف، فأرسل إليه: انزل فإنك آمن على دمك وقريتك، وترجع سالما إلى حصنك، فتوثق عليه ثم نزل، فأطعمه المثنى، وخوفه واستكتمه، وقال: إنى أريد أن أعبر فابعث معى الأدلاء إلى بغداد، حتى أغير منها إلى المدائن، قال: أنا أجىء معك، قال المثنى: لا أريد أن تجىء معى، ولكن ابعث معى من يعرف الطريق، ففعل وأمر لهم بزاد وطعام وعلف، وبعث معهم دليلا، فأقبل حتى إذا بلغ المنصف قال له المثنى: كم بيننا وبين هذه القرية؟ قال: أربعة فراسخ أو خمسة، وقد بقى عليك ليل، فقال لأصحابه: من ينتدب للحرس، فانتدب له قوم، فقال لهم: اذكروا حرسكم، ثم نزل وقال للناس: أنزلوا فاقضوا واطمعوا وتوضأوا وتهيأوا وابعثوا الطلائع فلا يلقون أحدا إلا حبسوه، ثم سار بهم فصبحهم فى أسواقهم، فوضع فيهم السيف، فقتل وأخذ الأموال، وقال لأصحابه: لا تأخذوا إلا الذهب والفضة، ومن المتاع ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته، وهرب الناس، وتركوا أمتعتهم وأموالهم، وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحرّ من كل شىء.
ثم كر راجعا، ثم نزل بنهر السيلحيين من الأنبار، فقال للمسلمين: احمدوا الله الذى سلمكم وغنمكم، وانزلوا فاعلفوا خيلكم من هذا القصب، وعلقوا عليها، وأصيبوا من
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد (1/ 25- 27) .

(2/427)


أزوادكم، فسمع القوم يهمس بعضهم إلى بعض أن القوم سراع الآن فى طلبنا، فقال:
تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان، قبح الله من يتناجون به، انظروا فى الأمور وقدروها ثم تكلموا، تحسبونهم الآن فى طلبكم، فو الله لو كان الصريخ قد بلغهم الآن إنه لكبير، ولو كان الصريخ عندهم لبلغهم من رعب غارتنا عليهم إلى جنب مدائنهم ما يشغلهم عن طلبنا حتى نلحق معسكرنا وجماعتنا، إن للغارات روعات تنتشر عليها يوما إلى الليل، ولو كان بهم من القوة ما يحملهم على طلبنا ثم جهدوا وجهدهم ما أدركونا، نحن على الجياد العراب وهم على المقارف البطاء، ولو أنهم طلبونا فأدركونا لم نقاتلهم إلا التماس الثواب ورجاء النصر، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن، فقد نصركم الله عليهم وهم أكثر منكم وأعز، وسأخبركم عنى وعن انكماشى والذى أريد من ذلك، إن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا بكر أوصانا أن نقل العرجة ونسرع الكرة فى الغارات، ونسرع فى غير ذلك الأوبة، فأقبلوا ومعهم دليلهم حتى انتهوا إلى الأنبار، فاستقبلهم صاحبها بالكرامة، فوعده المثنى بالإحسان إليه لو استقام أمرهم، ورجع المثنى إلى عسكره.
حديث السرايا من الأنبار «1»
قالوا: لما رجع المثنى من بغداد إلى الأنبار، سرح المضارب العجلى وزيدا إلى الكباث، ثم خرج فى أثرهم، فقدم الرجلان الكباث، وقد ارفض عنه أهله وأخلوه، وكانوا كلهم من بنى تغلب، وكان عليهم فارس العناب التغلبى يحميهم، فركب المسلمون آثارهم يتبعونهم، فأدركوا أخرياتهم، فحماهم فارس العناب ساعة ثم هرب، وقتلوا فى أخرياتهم فأكثروا، ورجع المثنى إلى عسكره بالأنبار، فسرح فرات بن حيان، وكان خلفه فى عسكره، وسرح معه عتبة بن النهاس، وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين، ثم اتبعهما وخلف على الناس عمرو بن أبى سلمى الهجيمى.
فلما دنوا من صفين، فر أهلها فعبروا الفرات إلى الجزيرة وتحصنوا، وفارق المثنى فراتا وعتبة، فأرمل المثنى وأصحابه من الزاد، حتى نحروا رحلهم إلا ما لا بد لهم منه فأكلوها حتى أخفافها وعظامها وجلودها، ثم أدركوا عيرا من أهل دياف وحوران، فقتلوا العلوج وأصابوا ثلاثة نفر من بنى تغلب خفراء، فأخذوا العير، وكان ظهرا فاضلا، وقال
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 475، 476) ، الكامل لابن الأثير (2/ 307) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 188، 189) .

(2/428)


لهم: دلونى، فقال له أحدهم: أمنونى على أهلى ومالى، وأدلكم على حى من بنى تغلب غدوت من عندهم اليوم، فآمنه المثنى وسار معه يومه، حتى إذا كان العشى هجم عليهم، فإذا النعم صادرة عن الماء، والقوم جلوس بأفنية البيوت، فبعث غارته فقتلوا المقاتلة، وسبوا الذرية، وانتسفوا الأموال، وإذا هم بنو ذى الرويحلة، فاشترى من كان من ربيعة السبايا بنصيبهم من الفىء، فأعتقوا سبيهم، وكانت ربيعة لا تسبى، إذا العرب يتسابون فى جاهليتهم.
وأخبر المثنى أن جمهور من سلك البلاد قد انتجعوا شاطئ دجلة، فسرح فى آثارهم حذيفة بن محصن، وكان على مقدمته فى غزواته كلها بعد البويب، ثم اتبعه فأدركوهم دون تكريت يخوضون الماء، فأصابوا ما شاؤا من النعم، حتى أصاب الرجل خمسا من السبى وخمسا من النعم، وجاء المثنى بذلك حتى نزل على الناس بالأنبار، ومضى فرات وعتيبة فى وجههما، حتى أغارا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين، فأغاروا عليهم ونقبوهم، فرموا بطائفة فى الماء، فناشدوهم وجعلوا ينادون: الغرق الغرق، فلم يقلعوا عنهم، وجعل عتيبة والفرات يذمرون الناس وينادونهم: تغريق بتحريق، يذكرونهم يوما من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوما من بكر بن وائل فى غيضة من الغياض، ثم انطلق المسلمون راجعين إلى المثنى وقد غرقوهم.
فلما تراجع الناس إلى عسكرهم بالأنبار وتوافت بها البعوث والسرايا، انحدر بهم المثنى إلى الحيرة فنزل بها، وكانت لعمر، رحمه الله، فى كل جيش عيون يتعرفون الأخبار من قبلهم، فكتب إليه بما كان فى تلك الغزاة، وأبلغ الذى قال عتيبة والفرات، يوم بنى تغلب والماء، فبعث إليهما فسألهما، فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه المثل، وأنهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب بذحل فى الجاهلية، فاستحلفهما، فحلفا ما أرادا بذلك إلا المثل، وإعزاز الإسلام، فصدقهم وردهما إلى المثنى.
ذكر ما هيج حرب القادسية على ما ذكره سيف عن أشياخه «1»
قالوا: قال أهل فارس لرستم والفيزران، وهما عميدا أهل فارس: أين يذهب بكما لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوهم وإن لم يبلغ من خطركما أن تقركما فارس على هذا الرأى، وأن تعرضاها للهلكة، ما تنتظرون، والله ما
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 477- 479) ، الكامل لابن الأثير (2/ 308، 309) .

(2/429)


تنتظرون إلا أن ينزل بنا ونهلك، ما بعد ساباط وبغداد وتكريت إلا المدائن، والله ما جرأ علينا هذا غيركم، ولولا أن فى قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم.
قالوا: فقال الفيرزان ورستم لبوران ابنة كسرى: اكتبى لنا نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى وسراريهم، ففعلت، وأخرجت ذلك إليهم فى كتاب، فأرسلوا فى طلبهن فلم تبق امرأة منهن إلا أتوا بها، فوضعوا عليهن العذاب يستدلونهن على ذكر من آل كسرى، فلم يوجد عند واحدة منهن أحد منهم، وقلن، أو من قال منهن:
لم يبق منهم إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى، وأمه من أهل داريا، فأرسلوا إليها فأخذوها به، فدلتهم عليه، وكانت قد دفعته إلى أخواله فى أيام شيرى حين جمعهن فى القصر الأبيض، فقتل الذكور، واعدتهم ثم دلته إليهم فى زبيل، فأرسلوا إليه، فجاؤا به وهو ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه، واجتمعوا عليه، واطمأنت فارس واستوثقوا، وتبارى الرؤساء فى طاعته ومناصحته، فسمى الجنود لكل مسلحة كانت لكسرى، أو موضع ثغر، وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزدجرد المثنى والمسلمين، فكتبوا بذلك إلى عمر، رحمه الله، بما ينتظرون ممن بين ظهرانيهم، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد، من كان له منهم عهد ومن لم يكن له، فخرج المثنى على حاميته حتى ينزل بذى قار، وينزل الناس بذى الطف فى عسكر واحد، فكتب إليهم عمر:
أما بعد، فاخرجوا من بين ظهرانى الأعاجم، وتفرقوا فى المياه التى تليهم على حدود أرضكم وأرضهم، ولا تدعوا فى ربيعة ومضر أحدا من أهل النجدات، ولا فارسا إلا أجلبتموه، فإن جاء طائعا وإلا حشدتموه، احملوا العرب على الجد إذا جد العجم، لتلقوا جدهم بجدكم.
فنزل المثنى بذى قار، ونزل الناس بالجل وشراف إلى غضى، وغضى جبال البصرة، وكان جرير بن عبد الله بغضى وسبرة بن عمرو العنبرى ومن أخذ أخذهم فيمن معهم إلى سلمى، فكنوا فى أمواه العراق من أولها إلى آخرها مسالح ينظر بعضهم إلى بعض، ويغيث بعضهم بعضا إن كان كون، وذلك فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة.
وعادت مسالح كسرى وثغوره وهم فى ملك فارس هائبون مشفقون، والمسلمون يتدفقون قد ضروا بهم كالأسد يثأر عن فريسته، ثم يعاود الكر وأمراؤهم يكفكفونهم؛

(2/430)


لأن عمر، رحمه الله، كان أمرهم أن لا يقاتلوا إلا أن يقاتلوا حتى يأتيهم أمره وتصلهم أمداد المسلمين.