الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء

ذكر انتقاض الإسكندرية فى خلافة عثمان رضى الله عنه
«1» قال عبد الرحمن بن عبد الحكم: وفى سنة خمس وعشرين عزل عثمان بن عفان عمرو ابن العاص عن مصر، وولى عبد الله بن سعد «2» . وقد كانت الإسكندرية انتقضت، وجاءت الروم عليهم منويل الخصى فى المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية، فأجابهم من بها من الروم، ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث، فلما نزلت الروم بالإسكندرية سأل أهل مصر عثمان، رضى الله عنه، أن يقر عمرا حتى يفرغ من قتال الروم، فإن له معرفة فى الحرب وهيبة فى العدو، ففعل.
فخرج إليهم عمرو فى البر والبحر، وضوى إلى المقوقس من أطاعه من القبط. فأما الروم فلم يطعه منهم أحد. فقال خارجة بن حذافة لعمرو: ناهضهم قبل أن يكثر مددهم ولا آمن أن تنتقض مصر كلها. قال عمرو: لا، ولكن دعهم حتى يسيروا إلىّ، فإنهم يصيبون من مروا به فيجزى الله بعضهم ببعض، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورها، ويأكلون أطعمتها،
__________
(1) الخبر منقول عن ابن عبد الحكم فى فتوح مصر وأخبارها (ص 174- 191) .
(2) هو: عبد الله بن سعد العامرى. انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 213) ، التاريخ الصغير (1/ 84) ، البداية والنهاية (5/ 350) ، الإصابة ترجمة رقم (4729) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2976) .

(2/356)


وينتهبون ما مروا به، فلم يعرض لهم عمرو حتى بلغوا نقيوس «1» ، فلقوهم فى البر والبحر، فبدأت الروم والقبط فرموا بالنشاب فى الماء رميا شديدا، حتى أصاب النشاب يومئذ فرس عمرو فى لبته وهو فى البر، فعقر فنزل عنه، ثم خرجوا من البحر، فاجتمعوا هم والذين فى البر فنصحوا المسلمين بالنشاب، فاستأخر المسلمون عنهم شيئا، وحملوا حملة ولى المسلمون منها، وانهزم شريك بن سمى فى خيله.
وكانت الروم قد جعلت صفوفا خلف صفوف، وبرز يومئذ بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب، فدعا إلى البراز، فبرز إليه رجل من زبيد يقال له: حومل ويكنى أبا مذحج، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان، ثم ألقى البطريق الرمح وأخذ السيف، وألقى حومل رمحه وأخذ سيفه وكان يعرف بالنجدة، وجعل عمرو يصيح: أبا مذحج فيجيبه: لبيك، والناس على شاطئ النيل فى البر على تعبئتهم وصفوفهم، فتجاولا ساعة بالسيفين، ثم حمل عليه البطريق فاحتمله وكان نحيفا، ويخترط حومل خنجرا كان فى منطقته أو فى ذراعه فيضرب به نحر العلج أو ترقوته، فأثبته ووقع عليه فأخذ سلبه، ثم مات حومل بعد ذلك بأيام، رحمة الله عليه، فرئى عمرو يحمل سريره بين عمودى نعشه حتى دفنه بالمقطم.
قال: ثم شد المسلمون عليهم فكانت هزيمتهم، وطلبهم المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية، ففتح الله عليهم وقتل منويل الخصى.
قال الهيثم بن زياد: وقتلهم عمرو بن العاص حتى أمعن فى مدينتهم، فكلم فى ذلك فأمر برفع السيف عنهم، وبنى فى ذلك الموضع مسجد، وهو الذى يقال له بالإسكندرية مسجد الرحمة، سمى بذلك لرفع عمرو السيف هنالك.
وكان عمرو حلف: لئن أظفره الله عليهم ليهدمن سورها حتى تكون مثل بيت الزانية يؤتى من كل مكان، فلما أظفره الله هدم سورها كله.
وجمع عمرو ما أصاب منهم، فجاءه من أهل تلك القرى من لم يكن نقض، فقالوا:
قد كنا على صلحنا، ومرّ علينا هؤلاء اللصوص فأخذوا متاعنا ودوابنا وهو قائم فى يديك، فرد عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه وأقاموا عليه البينة.
وقال بعضهم لعمرو: ما حل لك ما صنعت بنا، وكان لنا عليك أن تقاتل عنا لأنا فى ذمتك ولم ننقض، فأما من نقض فأبعده الله. فندم عمرو وقال: يا لتنى كنت لقيتهم حين خرجوا من الإسكندرية.
__________
(1) نقيوس: قرية كانت بين الفسطاط والإسكندرية. انظر: معجم البلدان (5/ 303) .

(2/357)


وكان سبب نقض الإسكندرية، فيما ذكر ابن عبد الحكم، أن صاحب أخناء قدم على عمرو بن العاص فقال: أخبرنا ما علينا من الجزية فنصبر لها، فقال له عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة: لو أعطيتنى من الركن إلى السقف ما أخبرتك، إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم، فغضب صاحب أخناء، فخرج إلى الروم فقدم بهم، فهزمهم الله،، وأسر ذلك النبطى، فأتى به إلى عمرو، فقال له الناس: اقتله، فقال: لا، بل انطلق فجئنا بجيش آخر.
وقيل: إنه لما أتى به سوره وتوجه وكساه برنسين أرجوان، وقال له: ايتنا بمثل هؤلاء، فرضى بأداء الجزية.
فقيل له: لو أتيت ملك الروم؟ فقال: لو أتيته لقتلنى وقال: قتلت أصحابى.
وذكر ابن عبد الحكم، أيضا، أن الروم مشت إلى قسطنطين بن هرقل فى سنة خمس وثلاثين فقالوا: تترك الإسكندرية فى أيدى العرب وهى مدينتنا الكبرى؟ فقال: ما أصنع بكم وما تقدرون أن تتماسكوا ساعة إذا لقيتم العرب؟ قالوا: فاخرج على أن نموت، فتبايعوا على ذلك، وخرج فى ألف مركب يريد الإسكندرية، فبعث الله عليهم ريحا عاتية فأغرقتهم، إلا قسطنطين نجا بمركبه فألقته الريح بصقلية، فسألوه عن أمره فأخبرهم، فقالوا: شأمت النصرانية وأفنيت رجالها، فلو دخل العرب علينا لم نجد من يردهم، ثم صنعوا له الحمام ودخلوا عليه ليقتلوه، فقال: ويلكم تذهب رجالكم وتقتلون ملككم؟
قالوا: كأنه غرق معهم، ثم قتلوه وخلوا من كان معه فى المركب.
ذكر غزو أفريقية وفتحها
«1» قال ابن عبد الحكم «2» : ولما عزل عثمان، عمرو بن العاص عن مصر وأمّر عبد الله بن سعد بن أبى سرح، كان يبعث المسلمين فى جرائد الخيل كما كانوا يفعلون فى إمرة عمرو بن العاص، فيصيبون من أطراف أفريقية ويغنمون، فكتب عبد الله بن سعد فى ذلك إلى عثمان، وأخبره بقربها من حوز المسلمين، واستأذنه فى غزوها، فندب عثمان الناس إلى ذلك بعد المشورة فيه، فلما اجتمع الناس أمّر عليهم الحارث بن الحكم إلى أن يقدموا مصر على عبد الله بن سعد، فيكون إليه الأمر، فخرج عبد الله إليها، وكان
__________
(1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 343- 345) .
(2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 183) .

(2/358)


عليها ملك يقال له: جرجير، كان هرقل استخلفه فخلعه، وكان سلطانه ما بين أطرابلس إلى طنجة، ومستقر سلطانه يومئذ بمدينة يقال لها قرطاجنة، فلقى عبد الله جرجير، فقاتله فقتله الله، وولى قتله عبد الله بن الزبير، فيما يزعمون، وهرب جيش جرجير، فبعث عبد الله السرايا وفرقها، فأصابوا غنائم كثيرة، فلما رأى ذلك رؤساء أهل أفريقية سألوه أن يأخذ منهم مالا على أن يخرج من بلادهم، فقبل منهم ذلك ورجع إلى مصر، ولم يول على أفريقية أحدا، ولا اتخذ بها قيروانا.
ويروى أن جرجيرا لما نازله المسلمون القتال أبرز ابنته وكانت من أجمل النساء، فقال: من يقتل عبد الله بن سعد وله نصف ملكى وأزوجه ابنتى؟ فبلغ ذلك عبد الله فقال: أنا أصدق من العلج، وأوفى بالعهد! من يقتل جرجيرا فله ابنته، فقتله عبد الله بن الزبير، فدفع إليه عبد الله ابنته.
وذكر ابن عبد الحكم «1» ، عن أبيه وابن عفير: أن ابنة جرجير صارت لرجل من الأنصار فى سهمه، فأقبل بها منصرفا قد حملها على بعير له، فجعل يرتجز:
يا ابنة جرجير تمشى عقبتك ... إن عليك بالحجاز ربّتك
لتحملنّ من قباء قربتك
فقالت: ما تقول؟ وسبته فأخبرت بذلك، فألقت بنفسها عن البعير الذى كانت عليه، فاندقت عنقها فماتت. فالله أعلم أى ذلك كان.
وكانت غنائم المسلمين يومئذ أنه بلغ سهم الفارس بعد إخراج الخمس ثلاثة آلاف دينار: للفرس ألفا دينار، ولفارسه ألف دينار، وللراجل ألف، وقسم لرجل من الجيش توفى بذات الحمام، فدفع إلى أهله بعد موته ألف دينار.
وكان جيش عبد الله بن سعد ذلك الذى وقع له القسم عشرين ألفا.
وبعث عبد الله بالفتح إلى عثمان، رضى الله عنه، عقبة بن نافع، ويقال: بل عبد الله ابن الزبير، وهو أصح.
وسار، زعموا، عبد الله بن الزبير على راحلته من أفريقية إلى المدينة عشرين ليلة، ولما دخل على عثمان أخبره بلقائهم العدو، وبما كان فى تلك الغزوة، فأعجب عثمان فقال له: هل تستطيع أن تخبر الناس بهذا؟ قال: نعم، فأخذ بيده حتى انتهى به إلى المنبر ثم
__________
(1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 184، 185) .

(2/359)


قال: اقصص عليهم ما أخبرتنى به، فتلكأ عبد الله بدأ، ثم تكلم بكلام أعجبهم.
ويروى عن ابن شهاب «1» أن عثمان لما قال لابن الزبير أتكلم الناس بهذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا أهيب لك منى لهم، فأمر عثمان فجمع الناس، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وكان أكره شىء إليه الخطب، وأحب الأشياء إليه ما كفى، ثم قال:
أيها الناس، إن الله قد فتح عليكم أفريقية، وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم بخبرها إن شاء الله، ثم جلس على المنبر.
وقام ابن الزبير إلى جانب المنبر، وكان أول من قام إلى جانبه، فقال: الحمد لله الذى ألف بيننا بعد الفرقة، وجعلنا متحابين بعد البغضة، والحمد لله الذى لا تجحد نعماؤه، ولا يزول ملكه، له الحمد كما حمد نفسه، وكما هو أهله. ابتعث محمدا صلى الله عليه وسلم فاختاره بعلمه، وائتمنه على وحيه، فاختار له من الناس أعوانا قذف فى قلوبهم تصديقه، فآمنوا به وعزروه ووقروه ونصروه، وجاهدوا فى الله حق جهاده، فاستشهد الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح والبيع الرابح، وبقى منهم من بقى، لا يأخذهم فى الله لومة لائم.
أيها الناس، رحمكم الله، إنا خرجنا للوجه الذى قد علمتم، فكنا مع خير وال ولى فحمد، وقسم فعدل، لم يفقد من بر أمير المؤمنين شيئا، كان يسير بنا البردين يخفض بنا فى الظهائر، ويتخذ الليل حملا، يعجل الترحل من المنزل الفقير، ويطيل اللباث فى المنزل المخصب الرحب، فلم نزل على أحسن حالة يتعرفها قوم من ربهم، حتى انتهى إلى أفريقية، فنزل منها بحيث يسمع صهيل الخيل ورغاء الإبل وقعقعة السلاح، فأقام أياما يجم كراعه، ويصلح سلاحه، ثم دعاهم إلى الإسلام والدخول فيه فبعدوا منه، وسألهم الجزية عن صغار والصلح فكانت هذه أبعد، فأقام فيها ثلاث عشرة ليلة يتأتى بهم وتختلف رسله إليهم، فلما يئس منهم قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر النبى صلى الله عليه وسلم وأكثر الصلاة عليه، ثم ذكر فضل الجهاد، وما لصاحبه إذا صبر واحتسب، ثم نهد لعدوه فقاتلهم أشد القتال يومه ذلك، وصبر الفريقان جميعا، وكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة، واستشهد الله رجلا من المسلمين فبتنا وباتوا، للمسلمين بالقرآن دوى كدوى النحل، وبات المشركون فى ملاهيهم وخمورهم.
فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التى كنا عليها بالأمس، وزحف بعضنا إلى بعض، فأفرغ
__________
(1) هو: محمد بن مسلم بن عبد الله الزهرى.

(2/360)


الله علينا الصبر، ثم أنزل علينا النصر، ففتحناها من آخر النهار، فأصبنا غنائم كثيرة، فبلغ فيها الخمس خمسمائة ألف دينار، وتركت المسلمين قد قرت أعينهم، وقد أغناهم النفل، ووسعهم الحق، وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين وإلى المسلمين، أبشره وإياهم بما فتح الله من البلاد وأذل من المشركين. فأحمد الله على آلائه، وما أحل بأعدائه من بأسه الذى لا يرد عن القوم المجرمين «1» .
ثم صمت، ونهض إليه الزبير فقبل بين عينيه وقال: يا بنى، إذا نكحت المرأة فانكحها على شبه أبيها أو أخيها تأتك بأحدهما، والله ما زلت تنطق بلسان أبى بكر الصديق حتى صمت.
ويروى عن الزبير لما أمر عثمان، رحمه الله، ابنه عبد الله بالقيام ليخبر الناس بما شهد من فتح أفريقية أنه قال: وجدت فى نفسى على عثمان وقلت: يقيم غلاما من الغلمان لا يبلغ الذى يحق عليه والذى يجمل به! فقام فتكلم فأبلغ وأصاب، فما فرغ حتى ملأهم عجبا.
وفى كتاب سيف «2» : أن عثمان لما وجه عبد الله بن سعد إلى أفريقية قال له: إن فتح الله عليك أفريقية فلك مما أفاء الله عليك خمس الخمس، فلما انتهى إلى أفريقية فيمن معه لقيهم صاحبها، فقاتلهم فقتله الله، قتله عبد الله بن سعد، وفتح الله أفريقية سهلها وجبلها، واجتمعوا على الإسلام وحسنت طاعتهم، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم بعد أن أخرج الخمس، فعزل منه لنفسه خمسه، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان، وضرب فسطاطا فى موضع القيروان.
ووفد وفد إلى عثمان فشكوه فيما أخذ من الخمس، فقال عثمان: أنا نفلته، وإنما النفل تبصرة وتدريب للرجال. ثم كتب إلى عبد الله بن سعد باستصلاحهم.
قال: وكان عثمان قد أرسل معه عبد الله بن نافع بن عبد القيس، وعبد الله بن نافع ابن الحصين الفهريين، وأمرهما بالمسير إلى الأندلس فيمن ندبه معهما من الرجال، وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله بن سعد على صاحب أفريقية، وبعد ذلك يسيران إلى الأندلس، فلما كان الاستيلاء على صاحب أفريقية سارا من فورهما إلى الأندلس، وأتياها من قبل البحر.
__________
(1) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (420، 421) .
(2) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 254، 255) .

(2/361)


وكان عثمان، رحمه الله قد كتب إلى من انتدب إلى الأندلس: «أما بعد: فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن لم تفتحوها كنتم شركاء من يفتحها فى الأجر، والسلام» .
وقال كعب: يعبر البحر إلى الأندلس أقوام يفتحونها، يعرفون بنورهم يوم القيامة.
ذكر صلح النوبة
«1» قال ابن عبد الحكم «2» : ثم غزا عبد الله بن سعد بن أبى سرح الأساود وهم النوبة سنة إحدى وثلاثين، فقاتلته النوبة قتالا شديدا، وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج، وأبى شمر بن أبرهة، وحيويل بن ناشرة، فيومئذ سموا رماة الحدق، فهادنهم عبد الله بن سعد إذ لم يطقهم. وفى ذلك اليوم يقول بعض من حضره:
لم تر عينى مثل يوم دمقله ... والخيل تغدو بالدروع مثقله
قال: وكان الذى صولح عليه النوبة، فيما ذكر بعض المشايخ المصريين، ثلاثمائة رأس وستين رأسا فى كل سنة. ويقال: بل على أربعمائة فى كل سنة، منها لفىء المسلمين ثلاثمائة وستون، ولوالى البلد أربعون، منها، فيما زعم بعض المشايخ، سبعة عشر مرضعا. ثم انصرف عبد الله بن سعد عنهم.
قال: وذكر بعض المتقدمين أنه وقف بالفسطاط فى بعض الدواوين، يعنى على عهد لهم قرأه قبل أن يحرق، فإذا هو يحفظ منه:
إنا عاهدناكم وعاقدناكم أو توفونا فى كل سنة ثلاثمائة رأس وستين رأسا، وتدخلون بلادنا مجتازين غير مقيمين، وكذلك ندخل بلادكم، على أنكم إن قتلتم من المسلمين قتيلا فقد برئت منكم الهدنة، وإن آويتم للمسلمين عبدا فقد برئت منكم الهدنة، وعليكم رد أباق المسلمين ومن لجأ إليكم من أهل الذمة.
وقال يزيد بن أبى حبيب: وليس بينهم وبين أهل مصر عهد ولا ميثاق، وإنما هى هدنة أمان بعضنا من بعض.
قال ابن لهيعة: وأبو حبيب والد يزيد واسمه سويد منهم.
__________
(1) انظر: مراصد الاطلاع (2/ 534) ، تهذيب التهذيب لابن حجر (10/ 203) .
(2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 188، 189) .

(2/362)


وقال الليث بن سعد وذكر له قول مالك بن أنس: لا يشترى رقيق النوبة ولا يباعون.
فقال الليث: لا علم لمالك بهذا، نحن أعلم به منه، إنما صولحوا على أن نكف عنهم حربنا فقط، وعلى أنهم يعطونا منهم رقيقا فى كل سنة، وعلى أنا لا نمنع غزو غيرنا، فبذلك نشتريهم، إنما علينا الوفاء بأن لا نحاربهم فقط.
قال ابن عبد الحكم: ولم أر أحدا من أصحاب مالك يقول بقوله فى النوبة، وكلهم كان يشتريهم.
قال: واجتمعت لعبد الله بن سعد البجة فى انصرافه من بلاد النوبة على شاطئ النيل، فسأل عنهم، فأخبر بشأنهم، فهان عليه أمرهم، فنفذ وتركهم، ولم يكن لهم عقد ولا صلح، وأول من صالحهم عبيد الله بن أبى الحبحاب.
ذكر البحر والغزو فيه
ذكر الطبرى «1» عن سيف عن أشياخه قالوا: ألح معاوية على عمر بن الخطاب فى غزو البحر وقرب الروم من حمص، وقال: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم، حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر أحب أن يزود عنه، فكتب إلى عمرو بن العاص: صف لى البحر وراكبه، فإن نفسى تنازعنى إليه، وإنى أشتهى خلافها، فكتب إليه عمرو بن العاص: إنى رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، إن سكن خوف القلوب وإن تحرك راع العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نحا فرق.
فلما جاءه كتاب عمرو كتب إلى معاوية: لا والذى بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا لا أحمل فيه مسلما أبدا.
وفى رواية أنه كتب إليه:
إنا قد سمعنا أن بحر الشام يشرف على أطول شىء فى الأرض، يستأذن الله فى كل يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها، فكيف أحمل الجنود فى هذا البحر الكافر المستصعب؟ والله لمسلم واحد أحب إلىّ مما حوت الروم فإياك أن تتعرض لى، وقد تقدمت إليك.
__________
(1) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 258- 261) .

(2/363)


فلما ولى عثمان بن عفان لم يزل به معاوية، حتى عزم على ذلك، وقال له: لا تنتخب الناس، ولا تقرع بينهم، خيرهم، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه.
ففعل ذلك معاوية، واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسى حليف بنى فزارة، فغزا خمسين غزاة من بين صائفة وشاتية فى البر والبحر، ولم يغرق معه أحد فى البحر ولا نكب، وكان يدعو الله أن يرزقه العافية فى جنده، ولا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل الله ذلك له، حتى إذا أراد الله أن يصيبه وحده، خرج فى قارب طليعة، فانتهى إلى البر من أرض الروم، وعليه سؤال يعبرون ذلك المكان، فتصدق عليهم، فرجعت امرأة من السؤال إلى قريتها، فقالت للرجال: هل لكم فى عبد الله بن قيس؟ قالوا: وأين هو؟
قالت: فى المرفأ، قالوا: أى عدوة الله، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس؟ فوبختهم، وقالت: أنتم أعجز منى! أو يخفى عبد الله على أحد؟ فبادروا فهجموا عليه، فقاتلوه وقاتلهم، فأصيب وحده، وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه، فجاؤا حتى أرفوا، والخليفة فيهم سفيان بن عوف الأودى، فخرج فقاتلهم، فضجر وجعل يعبث بأصحابه ويشتمهم، فقالت جارية عبد الله: واعبد الله، ما هكذا كان يقول حين تقاتل! فقال سفيان: وكيف كان يقول؟ قالت: «الغمرات ثم ينجلين» ؛ فجعل سفيان يقول ذلك وترك ما كان يقول، وأصيب فى المسلمين يومئذ. وقيل لتلك المرأة: بأى شىء عرفته؟
فقالت: بصدقته، أعطى كما يعطى الملوك، ولم يقبض قبض التجار.
غزو معاوية بن أبى سفيان قبرس
وغزا معاوية بن أبى سفيان قبرس سنة ثمان وعشرين فيما ذكر الواقدى.
قال: وهو أول من غزا الروم، وغزاها أهل مصر وعليهم عبد الله بن سعد بن أبى سرح، حتى لقوا معاوية فكان على الناس.
قال ابن عفير: ومع معاوية امرأته فاختة بنت قرظة، وكان معه، أيضا، فى غزاته أبو الدرداء، وشداد بن أوس، وأبو ذر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فى عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم حرام الأنصارية فتوفيت هناك، فقبرها يستسقى به أهل قبرس ويسمونه قبر المرأة الصالحة.
وأم حرام «1» هذه هى خالة أنس بن مالك، رضى الله، وحديثها مشهور فى نوم النبى
__________
(1) انظر ترجمتها فى: الإصابة ترجمة رقم (11971) ، الثقات (3/ 462) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 316) ، تقريب التهذيب (12/ 620) ، تهذيب التهذيب (12/ 462) .

(2/364)


صلى الله عليه وسلم فى بيتها ثم استيقظ وهو يضحك، فسألته: ما يضحكه؟ فقال: «ناس من أمتى عرضوا علىّ غزاة فى سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» ، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم! فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك، فسألته فقال: «ناس من أمتى عرضوا علىّ» «1» ، مثل مقالته الأولى. فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم. قال: «أنت من الأولين» «2» ، فكانت هذه الغزوة هى التى عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا. وخرجت أم حرام فيها، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.
قال ابن عمير: وذلك العام بالشام عام قبرس الأول.
وقيل: إن معاوية توجه إليها من حصن عكا فى مائتى مركب، قال: وظفر معاوية فى هذه الغزاة، وأخذ من الأموال والحلى ما لا يحصى.
وقال جبير بن نفير «3» : لما سبيناهم، يعنى أهل قبرس، نظرت إلى أبى الدرداء يبكى، فقلت: ما يبكيك فى يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، وأذل الكفر وأهله؟ فضرب بيده على منكبى، وقال: ثكلتك أمك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره! بينا هى أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك، إذ تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى، فسلط عليهم السباء، وإذا سلط السباء على قوم فليس لله، عز وجل، بهم حاجة.
وذكر الطبرى «4» أن معاوية لما غزا قبرس صالح أهلها على جزية سبعة آلاف دينار، يؤدونها إلى المسلمين فى كل سنة، ويؤدون إلى الروم مثلها، ليس للمسلمين أن يحولوا بينهم وبين ذلك، على أن لا يغزوهم المسلمون، ولا يقاتلوا هم من غزا من خلفهم يريد
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (1645) ، سنن ابن ماجه (2776) ، التمهيد لابن عبد البر (1/ 225) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (2/ 305) ، موطأ مالك (464) ، فتح البارى لابن حجر (11/ 71، 12/ 391) ، الأذكار النووية (185) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 19، 22، 40، 44، 8/ 78، 9/ 44) ، صحيح مسلم فى كتاب الإمارة (160، 161) ، سنن النسائى فى كتاب الجهاد، باب (37) ، سنن أبى داود فى كتاب الجهاد، باب (10) ، سنن ابن ماجه (2776) ، مسند الإمام أحمد (6/ 361- 423) ، فتح البارى لابن حجر (11/ 71) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 184) ، موطأ مالك (465) ، التمهيد لابن عبد البر (1/ 225، 241) .
(3) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 262، 263) .
(4) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 262) .

(2/365)


الخروج إلى أرض المسلمين، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم، وعلى أن يبطرق إمام المسلمين عليهم منهم.
وذكر الواقدى «1» ، أيضا، مصالحة معاوية أهل قبرس فى ولاية عثمان، رحمه الله، وأن فى العهد الذى بيننا وبينهم ألا يتزوجوا فى عدونا من الروم إلا بإذننا.
قال: وفى هذه السنة، يعنى سنة ثمان وعشرين، غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم.
غزوة ذات الصوارى
«2» ذكر الواقدى «3» أن أهل الشام خرجوا، وعليهم معاوية بن أبى سفيان، وعلى أهل البحر عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بأفريقية، فخرجوا فى جمع لم ير الروم مثله قط منذ كان الإسلام، فخرجوا فى خمسمائة مركب، فالتقوا هم وعبد الله بن سعد، فأمن بعضهم بعضا حتى قرنوا بين سفن المسلمين وأهل الشرك.
قال مالك بن أوس بن الحدثان «4» : كنت معهم، فالتقينا فى البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط، وكانت الريح علينا، فأرسينا ساعة، وأرسوا قريبا منا وسكنت الريح عنا، فقلنا: الأمن بيننا وبينكم. قالوا: ذلك لكم منا ولنا منكم. قلنا: إن أحببتم فالساحل حتى يموت الأعجل، وإن شئتم فالبحر، فنخروا نخرة واحدة، وقالوا: الماء فدنونا منهم، فربطنا السفن بعضها ببعض، حتى كنا بحيث يضرب بعضنا بعضا، فقاتلنا أشد القتال، ووثب الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف ويتواجئون بالخناجر، حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما.
وقال بعض من حضر ذلك اليوم، أيضا: رأيت الساحل وإن عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال، وإن الدم للغالب على الماء.
__________
(1) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 263) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (4/ 288) ، المنتظم لابن الجوزى (5/ 12) .
(3) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 290) .
(4) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7611) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4565) ، طبقات ابن سعد (5/ 56) ، المعارف (427) ، الجرح والتعديل (4/ 203) ، تاريخ ابن عساكر (8416) ، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 2/ 79) ، تهذيب التهذيب (10/ 10) ، شذرات الذهب (1/ 99) .

(2/366)


ولقد قتل يومئذ من المسلمين بشر كثير، وقتل من الكفار ما لا يحصى، وصبروا يومئذ صبرا لم يصبروا فى موطن قط مثله، ثم أنزل الله نصره على أهل الإسلام، وانهزم القسطنطين مدبرا، وأصابته يومئذ جراحات مكث فيها حينا جريحا.
وعن حنش الصنعانى «1» قال «2» : ركب الناس البحر سنة إحدى وثلاثين مع عبد الله ابن سعد، فلما بلغوا ذات الصوارى «3» لقوا جموع الروم فى خمسمائة مركب أو ستمائة، فيها القسطنطين بن هرقل، فقال: أشيروا علىّ، قالوا: انتظر الليلة فباتوا يضربون بالنواقيس، وبات المسلمون يصلون ويدعون الله، ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطين فقربوا سفنهم، وقرب المسلمون فربطوا بعضها إلى بعض، وصف عبد الله المسلمين على نواحى السفن، وأمرهم بقراءة القرآن وبالصبر، ووثبت الروم فى سفن المسلمين على صفوفهم حتى نقضوها، واقتتلوا على غير صفوف قتالا شديدا، ثم إن الله نصر المؤمنين، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلا الشريد، وأقام عبد الله بذات الصوارى أياما بعد هزيمة القوم، ثم أقبل راجعا.
وذكر ابن عبد الحكم «4» أن عبد الله بن سعد لما نزل ذات الصوارى أنزل نصف الناس مع بسر بن أبى أرطأة سرية فى البر، فلما مضوا أتى آت إلى عبد الله فقال: ما كنت فاعلا حين ينزل بك ابن هرقل فى ألف مركب فافعله الساعة.
قال: وإنما مراكب المسلمين مائتا مركب ونيف. فقام فقال: أشيروا علىّ، فما كلمه رجل من المسلمين، فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم، ثم استشارهم فما كلمه أحد ثم قال الثالثة: إنه لم يبق شىء فأشيروا علىّ، فقال رجل من أهل المدينة كان متطوعا: أيها الأمير، إن الله تعالى يقول: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249] ، فقال عبد الله: اركبوا باسم الله، فركبوا، وإنما فى كل مركب نصف شحنته، قد خرج النصف الآخر مع بسر فى البر، فلقوهم فاقتتلوا بالنبل والنشاب، وتأخر ابن هرقل لئلا تصيبه الهزيمة، وجعل تختلف القوارب إليه بالأخبار.
فقال: ما فعلوا؟.
__________
(1) هو: حنش بن عبد الله الصنعانى.
(2) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 292) .
(3) الصوارى: جمع صار، وهو الخشبة المعترضة وسط السفينة. انظر: القاموس المحيط للفيروزابادى (4/ 352) .
(4) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (190، 191) .

(2/367)


قالوا: اقتتلوا بالنبل والنشاب، قال: غلبت الروم. ثم أتوه فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد نفدت النبل والنشاب فهم يرتمون بالحجارة، قال: غلبت الروم: ثم أتوه فقال: ما فعلوا؟
قالوا: نفدت الحجارة وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف. قال: غلبت الروم.
قال يزيد بن أبى حبيب: وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال، فقرن مركب عبد الله يومئذ وهو الأمير بمركب من مراكب العدو، فكاد مركب العدو يجر مركب عبد الله إليهم، فقام علقمة بن يزيد العطيفى وكان فى المركب مع عبد الله فضرب السلسلة بسيفه فقطعها، فسأل عبد الله بعد ذلك امرأته بسيسة ابنة جمرة بن ليشرح بن عبد كلال، وكانت معه يومئذ، وكان الناس فيما خلا يغزون بنسائهم: من رأيت أشد الناس قتالا؟ قالت علقمة صاحب السلسلة. وكان عبد الله حين خطبها إلى أبيها قال: إن علقمة قد خطبها وله علىّ فيها رأى فإن يتركها أفعل. فكلم عبد الله علقمة فتركها، فتزوجها عبد الله ثم هلك عنها، فتزوجها بعده علقمة، ثم هلك عنها، فتزوجها كريب بن أبرهة.
وقال محمد بن الربيع: إنما سميت غزوة ذات الصوارى لكثرة المراكب التى اجتمعت فيها: ابن هرقل فى ألف مركب، والمسلمون فى مائتى مركب ونيف فكثرت الصوارى فى البحر فسميت ذات الصوارى.
وفى بعض ما تقدم من الأخبار ما يقتضى أن ذات الصوارى موضع يسمى هكذا، فالله تعالى أعلم.