الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء

ذكر بيسان «2»
ولما فرغ شرحبيل من وقعة فحل نهد بالناس إلى بيسان ومعه عمرو، فنزلوا عليها، وأبو الأعور والقواد معه على طبرية، وقد بلغ أفناء أهل الأردن ما لقيت دمشق، وما لقى سقلار والروم بفحل وفى الردغة، ومسير شرحبيل إليهم، فتحصنوا بكل مكان، وحصر شرحبيل أهل بيسان أياما. ثم خرجوا يقاتلونه، فقتل المسلمون من خرج إليهم منهم، وصالح بقية أهلها.
ذكر طبرية «3»
وبلغ أهل طبرية، فصالحوا أبا الأعور على أن يبلغهم شرحبيل، ففعل، وصالحهم
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 336- 341) .
(2) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 144) ، تاريخ الطبرى (3/ 443) .
(3) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 144) ، تاريخ الطبرى (3/ 444) .

(2/223)


شرحبيل وأهل بيسان على صلح دمشق، على أن يشاطروا المسلمين المنال فى المدائن، وما أحاط بها مما يصلها، فيدعوا لهم نصفا، ويأخذوا نصفا، وعلى كل رأس دينار كل سنة، ومن كل حرث أرض جريب بر أو شعير، أى ذلك حرث، وأشياء صالحوهم عليها. ونزلت القواد وخيولهم فيها.
وتم صلح الأردن، وتفرقت الأمداد فى مدائنها وقراها، وكتب إلى عمر بالفتح.
حديث مرج الروم من رواية سيف أيضا
قال «1» : خرج أبو عبيدة بخالد بن الوليد من فحل إلى حمص، وبمن تضيف إليهم من اليرموك، فنزلوا جميعا على ذى الكلاع، وقد بلغ الخبر هرقل، فبعث توذرا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها، فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم وجمعهم هذا به، وقد هجم الشتاء عليهم والجراح فيهم فاشية، فلما نزل على القوم بمرج الروم نازله، يوم نزل عليه شنس الرومى، فى مثل خيل توذرا، إمدادا لتوذرا وردآ لأهل حمص، فنزل فى عسكره على حدة.
فلما كان من الليل فر توذرا، فأصبحت الأرض منه بلاقع، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس، وأتى خالدا الخبر برحيل توذرا إلى جهة دمشق، فأجمع رأيه ورأى أبى عبيدة أن يتبعه خالد، فأتبعه من ليلته فى جريدة، وبلغ يزيد بن أبى سفيان ما فعل توذرا، فاستقبله، فاقتتلوا، ولحق بهم خالد وهم يقتتلون، فأخذهم من خلفهم، فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم، فلم يفلت منهم إلا الشريد، وقتل يزيد توذرا، وأصاب المسلمون ما شاؤا من ظهر وأداة وثياب، وقسم ذلك يزيد على أصحابه وأصحاب خالد، ثم انصرف يزيد إلى دمشق، وانصرف خالد إلى أبى عبيدة، وبعد خروج خالد فى أثر توذرا ناهد أبو عبيدة شنس، فاقتتلوا بمرج الروم، فقتلهم أبو عبيدة مقتلة عظيمة، حتى امتلأ المرج من قتلاهم، وأنتنت منهم الأرض. وقتل أبو عبيدة شنس، وهرب من هرب منهم، فلم يقلهم، وركب أقفاءهم إلى حمص.
فهذا ما ذكر سيف من حديث دمشق، وفحل، ومرج الروم، وسائر ما ذكر معها أوردناه مهذبا مقربا، ثم نعود إلى تتمة ما وقع فى كتب فتوح الشام مما يخالف ما ذكره سيف من بعض الوجوه ليوقف على كل ما ذكروه مما اتفقوا عليه واختلفوا فيه.
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 598- 599) .

(2/224)


قالوا «1» : إن أبا عبيدة لما ظهر على دمشق أمر عمرو بن العاص بالمسير إلى أرض الأردن وفلسطين، فيكون فيما بينهما، ولا يقدم على المدينتين وجمع الروم بهما، ولكن ينزل أطراف الرساتيق، ويغير بالخيل عليهم من كل جانب، ويصالح من صالحه.
فخرج عمرو حتى واقع أرض الأردن، فلما بلغ أهل الأردن وفلسطين فتح دمشق وتوجه الجيش إليهم هالهم ذلك ورعبهم، وأشفقوا على مدائنهم أن تفتح، فاجتمع من كان بها من الروم ونزلوا من حصونهم، ووافاهم أهل البلد، وكثير من نصارى العرب، فكثر جمعهم، وكتبوا إلى قيصر يستمدونه وهو بأنطاكية، فبعث إلى أولئك الذين كان وجههم مددا لأهل دمشق فأقاموا ببعلبك لما بلغهم خبر فتحها أن يسيروا إليهم.
وكتب عمرو إلى أبى عبيدة: أما بعد، فإن الروم قد أعظمت فتح دمشق، فاجتمعوا من نواحى الأردن وفلسطين، فعسكروا وقد تعاقدوا وتواثقوا وتحالفوا بالله: لا يرجعون إلى النساء والأولاد أو يخرجون العرب من بلادهم، والله مكذب أملهم، ومبطل قولهم، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. فاكتب إلىّ برأيك فى هذا الحديث، أرشد الله رأيك وسددك وأدام رشدك، والسلام.
وقدم بهذا الكتاب رسول عمرو، وقد استشار أبو عبيدة أصحابه فى المسير بهم إلى حمص، وقال: إن الله تعالى، قد فتح هذه المدينة، يعنى دمشق، وهى من أعظم مدائن الشام، وقد رأيت أن أسير إلى حمص، لعل الله يفتحها علينا، وهذا عمرو بن العاص من ورائنا، فلسنا نتخوف أن نؤتى من هناك.
فقال له خالد بن الوليد، ويزيد بن أبى سفيان، ومعاذ بن جبل ورؤس المسلمين:
فإنك قد أصبت ووفقت، فسر بنا إليهم.
فإنهم لكذلك فى هذا الرأى إذ قدم عليهم كتاب عمرو الذى تقدم، فلما قرأه أبو عبيدة ألقاه إلى خالد، وقال: قد حدث أمر غير ما كنا فيه، ثم قرأوا الكتاب على من حضرهم، فقال يزيد: أمدد عمرا ومره بمواقعة القوم وأقم أنت بمكانك. فقال أبو عبيدة:
ماذا ترى أنت يا خالد؟ قال: أرى أن تنظر ما يصنع هذا الجيش الذى ببعلبك، فإن هم ساروا منها إلى إخوانهم سرت إلى إخوانك فلقيتهم بجماعة المسلمين، وإن هم أقاموا أمددت عمرا، وبعثت إلى هؤلاء من يقاتلهم، وأقمت أنت بمكانك. فقال له: نعم ما رأيت، فسير أبو عبيدة شرحبيل بن حسنة إلى عمرو، وقال له: لا تخالفه. فخرج
__________
(1) انظر: فتوح الشام للأزدى (ص 106) .

(2/225)


شرحبيل فى ألفين وثمانمائة، فقدم على عمرو، وعمرو فى ألفين وخمسمائة.
وقال أبو عبيدة لخالد: ما لهذا الجيش النازل ببعلبك إلا أنا وأنت أو يزيد. فقال له خالد: لا، بل أنا أسير إليهم. فقال: أنت لهم.
فبعثه أبو عبيدة فى خمسة آلاف فارس، وخرج معه يشيعه، فسار معه قليلا، فقال له خالد: ارجع رحمك الله، إلى عسكرك، فقال له: يا خالد، أوصيك بتقوى الله، وإذا أنت لقيت القوم فلا تناظرهم ولا تطاولهم فى حصونهم، ولا تذرهم يأكلون ويشربون وينتظرون أن تأتيهم أمدادهم، وإذا لقيتهم فقاتلهم، فإنك إن هزمتهم انقطع رجاؤهم، وإن احتجت إلى مدد فأعلمنى حتى يأتيك من المدد حاجتك، وإن احتجت أن آتيك بنفسى أتيتك إن شاء الله. ثم أخذ بيده فودعه، ثم انصرف عنه.
ويجىء رسول قيصر إلى الذين ببعلبك، فأمرهم باللحاق بأولئك الذين اجتمعوا ببيسان، فخرجوا إليهم، وأخرجوا معهم ناسا كثيرا من أهل بعلبك، وأتاهم ناس كثير من أهل حمص غضبا لدينهم وشفقا من أن تفتح مدينتهم كما فتحت دمشق، فخرجوا وهم أكثر من عشرين ألفا متوجهين إلى الجمع الذى ببيسان منهم، وجاء خالد حتى انتهى إلى بعلبك، فأخبر الخبر، فأغاز على نواحى بعلبك، فقتل وسبى واستاق من المغانم شيئا كثيرا، وأقبل راجعا إلى أبى عبيدة فأخبره، واجتمع رأيهم على أن يسير أبو عبيدة بجماعة الناس إلى ذلك الجمع من الروم، فقدم خالد فى ألف وخمسمائة، فارس أمامهم، وأمرهم، وأمره بالإسراع إلى عمرو وأصحابه ليشد الله بهم ظهورهم، وليرى الروم أن المسلمين قد أتوهم، فأقبل خالد مسرعا فى آثار الروم فلحقهم وقد دخل أوائلهم عسكرهم، فحمل على أخرياتهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأصاب كثيرا من أثقالهم، وأفلت من أفلت منهم منهزمين حتى دخلوا عسكرهم، وجاء خالد فى خيله حتى نزل قريبا من عمرو، ففرح المسلمون بهم، وكان عمرو يصلى بأصحابه الذين كانوا معه، وخالد يصلى بأصحاب الخيل التى أقبل فيها.
وقعة فحل حسبما فى كتب فتوح الشام
«1» قالوا: فلما بلغ الروم أن أبا عبيدة قد أقبل إليهم تحولوا إلى فحل فنزلوا بها، وجاء المسلمون بأجمعهم حتى نزلوا بهم، وخرج علقمة بن الأرث فجمع من أطاعه من بنى
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 142) ، تاريخ الطبرى (3/ 434) .

(2/226)


القين، وجاءت لخم وجذام وعاملة وغسان، وقبائل من قضاعة، فدخلوا مع المسلمين، وأخذ أهل البلد من النصارى يراسلون المسلمين، فيقدمون رجلا ويؤخرون أخرى، ويقولون: أنتم أحب إلينا من الروم وإن كنتم على غير ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا، ولكنهم غلبونا على أمرنا، فيقول لهم المسلمون: إن هذا ليس بنافعكم عندنا ما لم تعتقدوا منا الذمة، وإنا إن ظهرنا عليكم كان لنا أن نسبيكم ونستعبدكم، وإن اعتقدتم منا الذمة سلمتم من ذلك، فكانوا يتربصون وينتظرون ما يكون من أمر قيصر، وقد بلغهم أنه بعث إلى أقاصى بلاده، وإلى كل من كان دينه ممن حوله، وأنهم فى كل يوم يقدمون عليه ويسقطون إليه، فهم ينتظرون ما يكون منه، وهم مع ذلك بموضعهم بين الثلاثين ألفا والأربعين ألفا «1» .
وكان المسلمون حيث نزلوا بهم ليس شىء أحب إليهم من معاجلتهم، وكانوا هم ليس شىء أحب إليهم من مطاولة المسلمين رجاء المدد من صاحبهم، ولأن المسلمين ليسوا فى مثل ما الروم فيه من الخصب والكفاية.
وأقبلت الروم يبثقون المياه بينهم وبين المسلمين ليطاولوهم، وأقبل المسلمون يخوضون إليهم الماء ويمشون فى الوحل، فلما رأى ذلك الروم، وأنه لا يمنعهم منهم شىء خرجوا فعسكروا وتيسروا للقتال، ووطنوا أنفسهم عليه، وكانوا كل يوم فى زيادة من الأمداد الواصلة إليهم.
فأمر أبو عبيدة المسلمين حيث بلغه ذلك أن يغيروا عليهم وعلى ما حولهم من القرى والسواد والرساتيق، ففعلوا، وقطعوا بذلك المادة والميرة.
فلما رأى ذلك ابن الجعد أتى أبا عبيدة فصالحه على سواد الأردن، وكتب له كتابا.
وكان صفوان بن المعطل، ومعن بن يزيد بن الأخنس السليمان قد خرجا فى خيل لهما فأغارا، فغنما، فلما انصرفا عرضت لهم الروم فقاتلوهم، وإنما كان المسلمون فى نحو من مائة رجل والروم فى خمسة آلاف مع درنجار عظيم منهم، فطاردوهم وصبروا لهم، واحتسبوا فى قتالهم، ثم إن الروم غلبوهم على غنيمتهم. وجاء حابس بن سعد الطائى فى نحو من مائة رجل، فحمل عليهم فزالوا غير بعيد، ثم حملوا عليه فردوه وأصحابه حتى ألحقوهم بالمسلمين، ثم انصرفوا وقد بغوا، وهم يعدون هذا ظفرا، ولم يقتلوا أحدا، ولم يهزموا جمعا، فلما انصرفوا إلى عسكرهم أرسلوا إلى أبى عبيدة: أن
__________
(1) انظر هذا الخبر وما بعده فى: تاريخ فتوح الشام للأزدى (ص 111- 130) .

(2/227)


اخرج أنت ومن معك من بلادنا التى تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب، فلستم لها بأهل، وارجعوا إلى بلادكم، بلاد البؤس والشقاء، وإلا أتيناكم فيما لا قبل لكم به، ثم لم ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف.
فرد عليهم أبو عبيدة: أما قولكم: أخرجوا من بلادنا فلستم لها بأهل، فلعمرى ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله ونزعها من أيديكم، وإنما البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، والله ملك الملوك، يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. وأما قولكم فى بلادنا أنها بلاد البؤس والشقاء، فصدقتم، إنها لكذلك، وقد أبدلنا الله بها بلادكم، بلاد العيش الرفيع والسعر الرخيص والجناب الخصيب، فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها حتى نفنيكم أو نخرجكم منها، ولكن أقيموا، فو الله لا نجشمكم أن تأتونا، ولنأتينكم إن أنتم أقمتم لنا، فلا نبرح حتى نبيد خضراءكم، ونستأصل شأفتكم إن شاء الله تعالى.
فلما جاءهم ذلك عنهم أيقنوا بجد القوم، فأرسلوا إليهم، أن ابعثوا إلينا رجلا من صالحائكم نسأله عما تريدون وما تسألون وما تدعون إليه، ونخبره بذات أنفسنا، وندعوكم إلى حظكم إن قبلتم.
فأرسل إليهم أبو عبيدة، معاذ بن جبل، فأتاهم على فرس له، فلما دنا منهم نزل عن فرسه، ثم أخذ بلجامه وأقبل إليهم يقوده، فقالوا لبعض غلمانهم: انطلق إليه فأمسك له فرسه، فجاء الغلام ليفعل، فقال له معاذ: أنا أمسك فرسى، لا أريد أن يمسكه أحد غيرى، وأقبل يمشى إليهم، فإذا هم على فرش وبسط ونمارق تكاد الأبصار تغشى منها، فلما دنا من تلك الثياب قام قائما، فقال له رجل منهم: أعطنى هذه الدابة أمسكها لك، وادن أنت فاجلس مع هذه الملوك مجالسهم، فإنه ليس كل أحد يقدر أن يجلس معهم، وقد بلغهم عنك صلاح وفضل فيمن أنت منه، فهم يكرهون أن يكلموك جلوسا وأنت قائم.
فقال لهم معاذ، والترجمان يفسر لهم ما يقول: إن نبينا صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نقوم لأحد من خلق الله، ولا يكون قيامنا إلا الله فى الصلاة والعبادة والرغبة إليه، فليس قيامى هذا لكم، ولكن قمت إعظاما للمشى على هذه البسط والجلوس على هذه النمارق التى استأثرتم بها على ضعفائكم، وإنما هى من زينة الدنيا وغرورها، وقد زهد الله فى الدنيا وذمها، ونهى عن البغى والسرف فيها، فأنا أجلس هاهنا على الأرض، وكلمونى أنتم

(2/228)


بحاجتكم من ثم، وأقيموا الترجمان بينى وبينكم، يفهمنى ما تقولون، ويفهمكم ما أقول، ثم أمسك برأس فرسه وجلس على الأرض عند طرف البساط. فقالوا له: لو دنوت فجلست معنا كان أكرم لك، إن جلوسك مع هذه الملوك على هذه المجالس مكرمة لك، وإن جلوسك على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه، فلا نراك إلا قد أزريت بنفسك.
فلما أخبره الترجمان بمقالتهم جثا على ركبتيه واستقبل القوم بوجهه، وقال للترجمان:
قل لهم: إن كانت هذه المكرمة التى تدعوننى إليها استأثرتم بها على من هو مثلكم إنما هى للدنيا، فلا حاجة لنا فى شرف الدنيا ولا فى فخرها، وإن زعمتم أن هذه المجالس والدنيا التى فى أيدى عظمائكم وهم مستأثرون بها على ضعفائكم مكرمة لمن كانت فى يده منكم عند الله، فهذا خطأ من قولكم، وجور من فعلكم، ولا يدرك ما عند الله بالخطأ، ولا بخلاف ما جاء به الأنبياء عن الله من الزهادة فى الدنيا.
وأما قولكم إن جلوسى على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه، ألا فصنيع العبد بنفسه صنعت، أنا عبد من عبيد الله جلست على بساط الله، ولا أستأثر من مال الله بشىء على إخوانى من أولياء الله، وأما قولكم أزريت بنفسى فى مجلسى، فإن كان ذلك إنما هو عندكم وليس كذلك عند الله، فلست أبالى كيف كانت منزلتى عندكم إذا كنت عند الله على غير ذلك، وإن قلتم أن ذلك عند الله فقد أخطأتم خطأ بينا، لأن أحب عباد الله إلى الله المتواضعون لله القريبون من عباد الله، الذين لا يشغلون أنفسهم بالدنيا، ولا يدعون التماس نصيبهم من الآخرة.
فلما فسر لهم الترجمان هذا الكلام نظر بعضهم إلى بعض وتعجبوا مما سمعوا منه، وقالوا لترجمانهم: قل له: أنت أفضل أصحابك؟ فلما قال له، قال: معاذ الله أن أقول ذلك، وليتنى لا أكون شرهم، فسكتوا عنه ساعة لا يكلمونه، وتكلموا فيما بينهم، فلما رأى ذلك قال لترجمانهم: إن كانت لهم حاجة فى كلامى وإلا انصرفت عنهم، فلما أخبرهم قالوا: قل له: أخبرونا ما تطلبون؟ وإلام تدعون؟ ولماذا دخلتم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد، وأهل فارس وقد هلك ملكهم وهلك ابنه، وإنما يملكهم اليوم النساء، ونحن ملكنا حى وجنودنا عظيمة، وإن أنتم افتتحتم من مدائننا مدينة أو من قرانا قرية أو من حصوننا حصنا أو هزمتم لنا جندا أظننتم أنكم ظفرتم بجماعتنا أو قطعتم عنكم حربنا وفرغتم مما وراءنا، ونحن عدد نجوم السماء وحصى الأرض؟ وأخبرونا بم تستحلون قتالنا وأنتم تؤمنون بنبينا وكتابنا؟.

(2/229)


فلما قالوا هذا القول وفسره الترجمان لمعاذ، سكتوا، فقال معاذ للترجمان: أقد فرغوا؟
قال: نعم، قال: فأفهم عنى، إن أول ما أنا ذاكر: حمدا لله الذى لا إله إلا هو، والصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وأول ما أدعوكم إليه أن تؤمنوا بالله وحده، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأن تصلوا صلاتنا، وتستقبلوا قبلتنا، وأن تستسنوا بسنة نبينا، وتكسروا الصليب، وتجتنبوا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ثم أنتم منا ونحن منكم، وأنتم إخواننا فى ديننا، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم، فأدوا الجزية فى كل عام إلينا عن يد وأنتم صاغرون، فإن أنتم أبيتم هاتين الخصلتين فليس شىء مما خلق الله نحن قابلوه منكم، فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين، فهذا ما نأمركم به وما ندعوكم إليه.
وأما قولكم: ما أدخلكم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد، وأهل فارس وقد هلك ملكهم، فإنى أخبركم عن ذلك، ما بدأنا بقتالكم أن يكونوا آثر عندنا منكم، إنكم جميعا لسواء، وما حابيناهم بالكف عنهم إذ بدأنا بكم، ولكن الله تبارك وتعالى، أنزل فى كتابه على نبينا صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 122] ، فكنتم أقرب إلينا منهم، فبدأنا بكم لذلك، ثم لقد أتتهم طائفة منا بعدنا، فإنهم اليوم ليقاتلونهم، وإنا لنرجو أن يعزهم الله ويفتح عليهم، وأما قولكم: إن ملكنا حى، وإن جنودنا عظيمة، وإنا عدد نجوم السماء وحصى الأرض وتؤيسونا من الظهور عليكم، فإن الأمر فى ذلك ليس إليكم، وإن الأمور كلها لله، وكل شىء فى قبضته وقدرته، وإذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، فإن يكن ملككم هرقل فإنما ملكنا نحن الله تبارك وتعالى، وأميرنا رجل منا، إن عمل فينا بكتاب ربنا وسنة نبينا أقررناه، وإن غير عزلناه، ولا يحتجب منا، ولا يتكبر علينا، ولا يستأثر علينا فى فيئنا الذى أفاء الله عز وجل، علينا، وهو فيه كرجل منا. وأما جنودنا، فإنها وإن عظمت وكثرت حتى تكون أكثر من نجوم السماء وحصى الأرض، فإنا لا نثق بها ولا نتكل عليها، ولكنا نتبرأ من الحول والقوة، ونتوكل على الله ونثق به، وكم من فئة قليلة قد أعزها الله ونصرها وأعانها، وكم من فئة كثيرة قد أذلها الله سبحانه، وأهانها قال الله تبارك وتعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249] .
وأما قولكم: كيف تستحلون قتالنا وأنتم مؤمنون بنبينا وكتابنا، فأنا أخبركم عن ذلك: نحن نؤمن بنبيكم، ونشهد أنه عبد من عباد الله ورسول من رسل الله، وأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، ولا نقول: إنه الله، ولا أنه

(2/230)


ثانى اثنين ولا ثالث ثلاثة، ولا أن لله عز وجل، ولدا ولا صاحبة، ولا أن مع الله آلهة أخرى، لا إله إلا هو، تعالى عما تقولون علوا كبيرا، وأنتم تقولون فى عيسى قولا عظيما، ولو أنكم قلتم فى عيسى كما نقول، وآمنتم بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم كما تجدونه فى كتابكم، وكما نؤمن نحن بنبيكم، وأقررتم بما جاء به من عند الله، ووحدتم الله، ما قاتلناكم، بل سالمناكم وواليناكم وقاتلنا عدوكم معكم.
فلما فرغ معاذ من مخاطبتهم قالوا له: ما نرى ما بيننا وبينكم إلا متباعدا، وقد بقيت خصلة ونحن عارضوها عليكم، فإن قبلتموها منا فهو خير لكم، وإن أبيتم فهو شر لكم:
نعطيكم البلقاء وما والى أرضكم من سواد الأردن، وتتحولون عن بقية أرضنا، وعن مدائننا، ونكتب عليكم كتابا نسمى فيه خياركم وصالحاءكم، ونأخذ فيه عهودكم ومواثيقكم أن لا تطلبوا من أرضنا غير ما صالحناكم عليه، وعليكم بأهل فارس فقاتلوهم ونحن نعينكم عليهم حتى تقتلوهم أو تظهروا عليهم.
فقال لهم معاذ: هذا الذى تعطوننا هو كله فى أيدينا، ولو أعطيتمونا جميع ما فى أيديكم مما لم نظهر عليه ومنعتمونا خصلة من الخصال الثلاث التى وصفت لكم ما فعلنا. فغضبوا، وقالوا: أنتقرب منكم وتتباعد منا، اذهب إلى أصحابك، فو الله إنا لنرجو أن نقرنكم غدا فى الحبال. فقال معاذ: أما فى الحبال فلا، ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا أو لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون.
ثم انصرف إلى أبى عبيدة فأخبره بما قالوا وما رد عليهم. فإنهم لكذلك إذ بعثوا إلى أبى عبيدة: إنك بعثت إلينا رجلا لا يقبل النصف، ولا يريد الصلح، فلا نرى أعن رأيك ذلك أم لا، وإنا نريد أن نبعث إليك رجلا منا يعرض عليك النصف، ويدعوك إلى الصلح، فإن قبلت ذلك منه فلعله يكون خيرا لنا ولك، وإن أبيت فلا نراه إلا شرا لك «1» .
فقال لهم أبو عبيدة: ابعثوا من شئتم. فبعثوا إليه رجلا منهم، طويلا أحمر أزرق، فلما جاء المسلمين لم يعرف أبا عبيدة من القوم، ولم يدر أفيهم هو أم لا، ولم ير هيبة مكان أمير، فقال: يا معشر العرب، أين أميركم؟ قالوا له: هو ذا، فنظر فإذا هو بأبى عبيدة جالسا على الأرض عليه الدرع، وهو متنكب القوس، وفى يده أسهم يقلبها، فقال له:
أنت أمير هؤلاء الناس؟ قال: نعم، قال: فما جلوسك على الأرض؟ أرأيت لو كنت
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى (113) وما بعدها.

(2/231)


جالسا على وسادة، أو كان تحتك بساط، أكان ذلك واضعك عند الله أو مباعدك من الإحسان؟.
فقال أبو عبيدة: إن الله لا يستحى من الحق، لأصدقنك عما قلت، ما أصبحت أملك دينارا ولا درهما، وما أملك إلا فرسى وسلاحى، ولقد احتجت أمس إلى نفقة فلم تكن عندى حتى استقرضت أخى هذا يعنى معاذا، نفقة كانت عنده، فأقرضنيها، ولو كان عندى أيضا، بساط أو وسادة ما كنت لأجلس عليه دون أصحابى وإخوانى، وأجلس على الأرض أخى المسلم الذى لا أدرى لعله عند الله خير منى، ونحن عباد الله نمشى على الأرض، ونأكل على الأرض، ونجلس عليها، ونضطجع عليها، وليس بناقصنا ذلك عند الله شيئا، بل يعظم الله به أجورنا، ويرفع به درجاتنا. هات حاجتك التى جئت لها.
فقال الرومى: إنه ليس شىء أحب إلى الله من الإصلاح، ولا أبغض إليه من البغى والفساد، وإنكم قد دخلتم بلادنا فظهر منكم فيها الفساد والبغى، وقل ما بغى قوم وأفسدوا فى الأرض إلا عمهم الله بهلاك، وإنا نعرض عليكم أمرا فيه حظ إن قبلتموه:
إن شئتم أعطيناكم دينارين دينارين، وثوبا ثوبا، وأعطيناك أنت ألف دينار، ونعطى الأمير الذى فوقك يعنون عمر بن الخطاب، ألفى دينار، وتنصرفون عنا، وإن شئتم أعطيناكم البلقاء وما إلى أرضكم من سواد الأردن، وخرجتم من مدائننا وأرضنا، وكتبنا فيما بيننا وبينكم كتابا يستوثق فيه بعضنا من بعض بالأيمان المغلظة لتقومن بما فيه ولنفين بما عاهدنا الله عليه.
فقال أبو عبيدة: إن الله تعالى، بعث فينا رسولا تنبأه، وأنزل عليه كتابا حكيما، وأمره أن يدعو الناس إلى عبادته رحمة منه للعالمين، فقال لهم: إن الله إله واحد عزيز حكيم، علىّ مجيد، وهو خالق كل شىء، وليس كمثله شىء، فوحدوا الله الذى لا إله إلا هو، ولا تتخذوا معه إلها آخر، فإن كل شىء يعبده الناس دونه فهو خلقه، وإذا أتيتم المشركين فادعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإقرار بما جاء به من ربه، فمن آمن وصدق فهو أخوكم فى دينكم، له ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليهم أن يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا أن يؤمنوا أو يؤدوا الجزية فقاتلوهم، فإن قتيلكم المحتسب بنفسه شهيد عند الله فى جنات النعيم، وقتيل عدوكم فى النار، فإن قبلتم ما سمعتم فذاكم، وإن أبيتم فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين.
قال الرومى: فقد أبيتم إلا هذا. فقال أبو عبيدة: نعم. فقال: أما والله على ذلك إنى

(2/232)


لأراكم ستتمنون أنكم قبلتم منا دون ما عرضنا عليكم. فقال أبو عبيدة: لا والله، لا نقبل هذا منك ولا من غيرك أبدا، فانصرف الرومى رافعا يديه إلى السماء يقول: اللهم إنا قد أنصفناهم فأبوا، اللهم فانصرنا عليهم. ووثب أبو عبيدة مكانه، فسار فى الناس، وقال: أصبحوا أيها الناس وأنتم تحت راياتكم وعلى مصافكم. فأصبح الناس وخرجوا على تعبئتهم ومصافهم «1» .
وكتب أبو عبيدة إلى عمر: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبى عبيدة بن الجراح.
سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد. فإن الروم قد أقبلت، فنزلت طائفة منهم فحلا مع أهلها، وقد سارع إليهم أهل البلد، ومن كان على دينهم من العرب، وقد أرسلوا إلىّ: أن اخرجوا من بلادنا، فإنكم لستم لهذه البلاد التى تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب أهلا، والحقوا ببلادكم، بلاد الشقاء والبؤس، فإن أنتم لم تفعلوا سرنا إليكم بما لا قبل لكم به، ثم أعطينا الله عهدا أن لا ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف، فأرسلت إليهم:
أما قولكم: اخرجوا من بلادنا، فلستم لما تنبت أهلا، فلعمرى ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله تعالى، ونزعها من أيديكم، وإنما البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، وهو سبحانه ملك الملوك، يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء.
وأما ما ذكرتم من بلادنا، وزعمتم أنها بلاد البؤس والشقاء، فقد صدقتم، وقد أبدلنا الله بها بلادكم، بلاد العيش الرفيع، والسعر الرخيص، والجناب الخصيب، فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها، ولكن أقيموا لنا، فو الله لا نجشمكم إتياننا ولنأتينكم إن أقمتم لنا.
وكتبت إليك حين نهضت إليهم متوكلا على الله، راضيا بقضاء الله، واثقا بنصر الله، فكفانا الله وإياك كيد كل كائد، وحسد كل حاسد، ونصر الله أهل دينه نصرا عزيزا، وفتح لهم فتحا يسيرا، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا، والسلام عليك.
ودفع أبو عبيدة هذا الكتاب إلى نبطى من أنباط الشام، وقال له: ائت به أمير المؤمنين، ثم نهض هو إلى الروم بجماعة المسلمين، فدنا منهم، وتعرضت خيل المسلمين لهم، فلم يخرجوا يومئذ، فانصرف المسلمون عنهم من غير قتال، وتأخر النبطى عن
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى (114) وما بعدها.

(2/233)


المسير حتى انصرف المسلمون، فذهب عند ذلك بالكتاب. وقد كان أبو عبيدة بعثه أول النهار، فلما قدم على عمر رحمه الله، وقرأ كتابه، قال له: ويحك، هل علمت أو بلغت ما كان من أمر المسلمين، فإن أبا عبيدة كتب إلىّ يخبرنى أنه كتب إلىّ حين نهض إلى المشركين؟ فقال له: أصلحك الله، فإنى لم أبرح يومئذ حتى رجع المسلمون عنهم، وكانوا زحفوا إليهم، وتعرضت خيلهم لهم، فلم يخرج النصارى إليهم، فانصرف المسلمون إلى عسكرهم، وهم أطيب شىء أنفسا وأحسن شىء حالا.
قال: فأنت ما حبسك يومئذ، إلى العشى لم تقبل بالكتاب وقد دفعه إليك أبو عبيدة أول النهار؟ قال: ظننت أنك ستسألنى عما سألتنى عنه الساعة، فأحببت أن يكون عندى علم ما تسألنى عنه. قال له عمر: ويحك، ما دينك؟ قال: نصرانى، قال: ويحك، أفما يدلك عقلك هذا الذى أرى على أن تسلم، ويحك أسلم فهو خير لك. قال: فقد أسلمت. فقال عمر: الحمد لله الذى يهدى من يشاء إذا يشاء، ثم كتب معه إلى أبى عبيدة بن الجراح: سلاح عليك، فإنى أحمد إليك الله لا إله إلا هو. أما بعد، فإن كتابك جاءنى بنفير الروم إليك، ومنزلهم الذى نزلوا به، ورسالتهم التى أرسلوها، وبالذى رجعت إليهم فيما سألوك، وقد سددت بحجتك، وأوتيت رشدك، فإن أتاكم كتابى هذا وأنتم الغالبون فكثيرا ما يكون من ربنا الإحسان، وإن أتاكم وقد أصابكم نكب أو قرح فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تستكينوا، وأنتم الأعلون، وإنها دار الله، وهو فاتحها عليكم فاصبروا إن الله مع الصابرين، واعلم أنك متى لقيت عدوك فاستعنت بالله عليهم وعلم منك الصدق نصرك عليهم، فقل إذا أنت لقيتهم: اللهم أنت الناصر لدينك، المعز لأوليائك، الناصر لهم قديما وحديثا، اللهم فتول نصرهم، وأظهر فلجهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، وكن أنت الصانع لهم والمدافع عنهم برحمتك، إنك أنت الولى الحميد.
فأقبل الرسول بهذا إلى أبى عبيدة، وكان أبو عبيدة بعد ذلك اليوم الذى زحف فيه إلى الروم فلم يخرجوا إليه، سرح إليهم من الغد خالدا فى الخيل، ولم يخرج أبو عبيدة يومئذ فى الرجالة، فخرجت إلى خالد خيل لهم عظيمة، فأقبلت نحوه، فقال لقيس بن هبيرة، وكان من أشد الناس بأسا، وأشده نكاية فى العدو، ومباشرة لهم بعد خالد: يا قيس، اخرج إلى هذا الخيل. فخرج إليهم قيس، فحمل عليهم مرارا، وحملوا عليه، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم أقبلت خيل أخرى عظيمة للروم، فقال خالد لميسرة بن مسروق: اخرج إليهم، فخرج ميسرة فقاتلهم قتالا شديدا، ثم خرجت إليهم من الروم

(2/234)


خيل عظيمة، هى أعظم من الخيلين جميعا، عليها بطريق عظيم من بطارقتهم، فجاء حتى إذا دنا من خالد، أمر بشطر خيله، فحملت على خالد وأصحابه، فلم يتخلخل أحد منهم، ثم إنه جمعهم جميعا، فحمل بهم، فلم يبرح أحد من المسلمين، فلما رأى ذلك الرومى انصرف.
فقال خالد لأصحابه: إنه لم يبق من جد القوم ولا حدهم ولا قوتهم إلا ما قد رأيتم، فاحملوا معى يا أهل الإسلام حملة واحدة واتبعوهم ولا تقلعوا عنهم رحمكم الله. ثم حمل عليهم خالد بمن معه، فكشف من يليه منهم، وحمل قيس بن هبيرة على الذين كانوا يلونه فهزمهم وكشفهم، وحمل ميسرة على الذين كانوا يلونه، فهزمهم، واتبعهم المسلمون يقتلونهم ويقصفون بعضهم على بعض، حتى اضطروهم إلى عسكرهم وقد رأوا ما أصابهم، فانكسروا ووهنوا وهابوا المسلمين هيبة شديدة، وانصرف المسلمون إلى عسكرهم وقد قرت أعينهم، واجتمعوا إلى أبى عبيدة وهم مسرورون بما أراهم الله فى عدوهم من عونه لهم عليهم فقال له خالد: إن هزيمتنا خيل المشركين قد دخل رعبها قلوب جماعتهم، فكلهم قلبه مرعوب متخوف لمثلها منا مرة أخرى، فناهض القوم غدا بالغداة ما دام رعب هذه الهزيمة فى قلوبهم، فإنك إن أخرت قتالهم أياما ذهب رعبها من قلوبهم واجترؤوا علينا. قال أبو عبيدة: فانهضوا على بركة الله غدا بالغداة.
قال عمرو بن مالك القيسى: ولم يكن شىء أحب إلى الروم من التطويل ودفع الحرب، انتظارا لمدد، ولا شىء أحب إلى المسلمين من المناجزة وتعجيل الفراغ.
وقال عبد الله بن قرط: لما كانت الليلة التى خرجنا فى صبيحتها إلى أهل فحل، خرج إلينا أبو عبيدة فى الثلث الباقى من الليل، فلم يزل يعبئ الناس ويحرضهم حتى إذا أصبح صلى بالناس، فكان إلى التغليس أقرب منه إلى التنوير، ثم إنه جعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة، وعلى الرجالة سعيد بن زيد، وعلى الخيل خالد بن الوليد، ثم زحف أبو عبيدة بالناس، وأخذوا يزفون زفا رويدا على رسلهم.
وركب أبو عبيدة فاستعرض الصف من أوله إلى آخره، يقف على كل راية وكل قبيلة، ويقول: عباد الله، استوجبوا من الله النصر بالصبر، فإن الله مع الصابرين، عباد الله، ليبشر من قتل منكم بالشهادة، ومن بقى بالنصر والغنيمة، ولكن وطنوا أنفسكم على القتال والطعن بالرماح، والضرب بالسيوف، والرمى بالنبل، ومعانقة الأقران، فإنه والله ما يدرك ما عند الله إلا بطاعته والصبر فى المواطن المكروهة التماس رضوانه.

(2/235)


وتقدم خالد فى الخيل حتى أطل على الروم، فلما رأوه خرجوا إليه فى الخيل والرجل جميعا، وقالوا: إن العرب أفرس على الخيل منا، وخيلنا لا تكاد تثبت لخيلهم، فاخرجوا إليهم فى الخيل والرجال، وكان خالد قد هزم خيلهم بالأمس، فكان ذلك أيضا، مما حملهم على الخروج على هذه التعبئة، خرجوا وهم خمسة صفوف، فأول صف من صفوفهم جعلوا فيه الفارس بين راجلين: رامح وناشب، وجعلوا صفا من الخيل وراء هذا الصف، وجعلوا له مجنبتين.
ثم صفوا ثلاثة صفوف أخر رجالا كلهم، ثم أقبلوا نحو المسلمين، وهم نحو خمسين ألفا. فكان أول من لقيهم خالد بن الوليد فى الخيل، فأخذ لا يجد عليهم مقدما، وأخذوا يزحفون إليه ويرشقونه بالنشاب، وجعل ينكص هو وأصحابه وراءهم، وأخذت الروم تقدم عليهم وهم يتأخرون، حتى انتهوا إلى صفهم، ودافعت أعجاز كثير من خيلهم صدور رجالهم، ثم إن خالدا بعث إلى قيس بن هبيرة: أن اخرج فى خيلك حتى تأتى ميسرتهم فتحمل عليها، وقال لميسرة بن مسروق: قف قبالة صفهم فى خيلك، وضمها إليك كتيبة واحدة، فإذا رأيتنا قد حملنا وانتقض صفهم فاحمل على من يليك منهم.
وكان خالد قسم خيله أثلاثا، فجعل للمرادى قيس بن هبيرة، ثلثها، ولميسرة بن مسروق العبسى ثلثها، وكان هو فى ثلثها، فخرج خالد فى ثلث الخيل التى معه حتى انتهى إلى ميمنتهم، فعلاها، حتى إذا ارتفع عليهم أخرجوا إليه خيلا لهم، كما تشغله وأصحابه، فلما دنت منه، قال: الله أكبر، الله أخرجهم لكم من رجالتهم، شدوا عليهم، ثم استعرضهم فشد عليهم، وشد معه أصحابه بجماعة خيلهم، فهزمهم الله، ووضعوا السلاح والسيوف فيهم حيث شاؤا، فصرعوا منهم أكثر من سبعين قبل أن ينتهوا إلى ميمنتهم، وارتفع قيس بن هبيرة إلى ميسرتهم، فأخرجوا إليه خيلا كما صنعوا بخالد، فحمل عليهم قيس، فهزمهم وضربهم حتى انتهى إلى ميسرتهم، وقتل منهم بشر كثير، وقتلى عظيمة، وكان واثلة بن الأسقع فى خيل قيس بن هبيرة، فخرج له بطريق من كبارهم، فبرز واثلة وهو يقول فى حملته:
ليث وليث فى مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف ومعك
أجول جول صارم فى العرك ... أو يكشف الله قناع الشك
مع ظفرى بحاجتى ودركى
ثم حمل على البطريق فضربه ضربة قتله بها، وحملوا بأجمعهم حتى اضطروا الروم إلى عسكرهم، ووقفوا بإزائهم.

(2/236)


قال هاشم بن عتبة رحمه الله: والله لقد كنا أشفقنا يومئذ، على خيلنا أول النهار، ثم أحسن الله، فما هو إلا أن رأينا خيلنا قد نصرها الله على خيلهم، فدعوت الناس إلىّ وأمرتهم بتقوى الله، ثم نزلت، فهززت رايتى، ثم قلت: والله لا أردها حتى أركزها فى صفهم، فمن شاء فليتبعنى، ومن شاء فليتخلف عنى، قال: فو الذى لا إله غيره، ما أعلم أن أحدا من أصحاب رايتى تخلف عنى، حتى انتهيت إلى صفهم، فنضحونا بالنشاب، فجثونا على الركب واتقيناهم بالدرق.
ثم ثرت بلوائى وقلت لأصحابى: شدوا عليهم أنا فداؤكم، فإنها غنيمة الدنيا والآخرة، فشددت وشدوا معى، فأستقبل عظيما منهم قد أقبل نحوى فأوجزه الرمح، فخر ميتا، وضاربناهم بالسيوف ساعة فى صفهم، وحمل عليهم خالد من قبل ميسرتهم فقتلهم قتلا ذريعا، وانتقضت صفوفهم من قبل خالد ومن قبلى، ونهد إليهم أبو عبيدة بالناس، وأمر الخيل التى كانت تليه من خيل خالد، فحملت عليهم، فكانت هزيمتهم «1» .
وقال عمرو بن مالك القينى عن أبيه: كان منا رجل له فينا منزلة وحال حسنة، قال:
فقلت فى نفسى: قد بلغنى أن صاحب العرب هذا، يعنى أبا عبيدة، رجل صدق، فو الله لآتينه فلأصحبنه ولأتعلمن منه. قال: فكنت آتيه وأخرج معه إذا خرج إلى عسكره، فلما كان ذلك اليوم أقبل حتى كان إلى جنب أبى عبيدة، فألظ به لا يفارقه، قال: فو الله لرأيته يقص علينا، ويقول: كونوا عباد الله أولياء الله، وارغبوا فيما عند الله أشد من رغبتكم فى الدنيا، ولا تواكلوا فتخاذلوا، وليغن كل رجل منكم قرنه، وأقدموا إقدام من يريد بإقدامه ثواب الله، ولا يكن من لقيكم من عدوكم أصبر على باطلهم منكم على حقكم، ثم نهض يمشى إليهم، ونهض المسلمون معه تحت راياتهم ببصيرة وسكينة ودعة وحسن رعة، وحمل قيس بن هبيرة على الروم من قبل ميسرتهم، فقصف بعضهم على بعض «2» .
وعن يحيى بن هانئ المرادى: أن قيسا قطع يومئذ ثلاثة أسياف، وكسر بضعة عشر رمحا، وكان يقاتل ويقول:
لا يبعدن كل فتى كرار ... ماضى الجنان شاحب صبار
حين تهم الخيل بالإدبار ... يقدم إقدام الشجاع الضارى
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى (123- 124) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (134- 135) .

(2/237)


وقال سالم بن ربيعة: حمل ميسرة بن مسروق يومئذ، ونحن معه فى الخيل، فحملنا على القلب وقد أخذ صف الروم ينتقض من قبل ميسرتهم وميمنتهم، ولم ينته الانتقاض إلى القلب بعد، فثبتوا لنا، وقاتلونا قتالا شديدا، فصرع ميسرة عن فرسه، وصرعت معه، وجرح فرسى فعار، ويعتنق ميسرة رجلا من الروم، فاعتركا ساعة، فقتله ميسرة، ثم شد عليه آخر وقد أعيى ميسرة، فاعتركا ساعة، فصرعه الرومى وجلس على صدره، وأشد عليه، فأضرب وجه الرومى بالسيف، فأطرت قحفه، فوقع ميتا، ووثب ميسرة وانبرى إلى رجل منهم، فضربنى ضربة دير بى منها، ويضربه ميسرة فيصرعه، وركبنا منهم عدد كثير، فأحاطوا بنا، وظننا والله أنه الهلاك، إذ نظرنا فإذا نحن نسمع نداء المسلمين وتكبيرهم، وإذا صفوفهم قد انتهت إلينا، وراياتهم قد غشيتنا، فكبرنا، واشتدت ظهورنا، فانقشع الروم عنا، وحمل عليهم خالد من قبل ميمنتهم، فدق بعضهم على بعض حتى دخلوا عسكرهم «1» .
وعن نوفل بن مساحق، عن أبيه: أن خالدا قاتل يومئذ، قتالا شديدا ما قاتل مثله أحد من المسلمين، وما كان إلا حديثا ومثلا لمن حضره، ولقد كان يستعرض صفوفهم وجماعتهم، فيحمل عليهم حتى يخالطهم، ثم يجالدهم حتى يفرقهم، ويهزمهم، ويكثر القتل فيهم.
قال: ولقد سمعت من يزعم أنه قتل فى ذلك اليوم أحد عشر رجلا من الروم من بطارقتهم وأشدائهم وأهل الشجاعة منهم، وكان يقاتلهم ويقول «2» :
أضربهم بصارم مهند ... ضرب صليب الدين هاد مهتد
لا واهن الحول ولا مفند
وعن سهل بن سعد قال: كان معاذ بن جبل يومئذ من أشد الناس بأسا، وكان يقول:
يا أهل الإسلام، إن هذا اليوم لما بعده من الأيام، غضوا أبصاركم رحمكم الله، وأقدموا إقدام الأسد على عدوكم، ولا تفارقوا راياتكم، ولا تزولوا عن مصافكم، وسوقوهم سوقا عنيفا، ولا تشاغلوا عنهم بغنائمهم، ولا بما فى عسكرهم، فإنى أخاف أن يكون لهم عليكم عطفة فلا تقوم لكم بعدها قائمة إن تفرقتم وشغلتكم غنائمهم، فاطلبوهم حتى لا تروا لهم جمعا ولا صفا.
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (135- 136) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (136) .

(2/238)


فمضى المسلمون كما وصف لهم على راياتهم وصفوفهم يقدمون عليهم، وجعلت صفوف الروم تنتقض وتدبر، وخيل المسلمين تكردهم وتقتلهم، وتحمل عليهم، ولا تقلع عنهم، فقتلوا منهم فى المعركة نحوا من خمسة آلاف، وقتلوا فى عسكرهم حيث دخلوا نحوا من ألفين، وخرجوا عباديد منهزمين، وخيل المسلمين تتبعهم وتقتلهم حتى اقتحموا فى فحل، وفحل مطلة على أهوية تحتها الماء، فتحصنوا فيها، وأصاب المسلمون منهم نحوا من ألفى أسير، فقتلهم المسلمون، وأقبل أبو عبيدة حتى دخل عسكرهم وحوى ما فيه.
وقال عبد الله بن قرط الثمالى: مررت يومئذ بعمرو بن سعيد بن العاص قبل هزيمة المشركين، ومعه رجال من المسلمين، سبعة أو ثمانية، وإنه لأمامهم نحو العدو، وإنه ليقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال: 15، 16] ، ثم يقول: لكن الجنة والله نعم المصير، ولمن؟ هى هى والله لمن شرى نفسه اليوم لله، وقاتل فى سبيل الله، ثم يقول: إلىّ يا أهل الإسلام، أنا عمرو بن سعيد بن العاص، لا تفروا، فإن الله يراكم، ومن يره الله يفر عن نصر دينه يمقته، فاستحيوا من الله ربكم أن يراكم تطيعون أبغض خلقه إليه، وهو الشيطان الرجيم، وتعصونه وهو الرحمن الرحيم «1» .
قال عبد الله بن قرط: وقد كان العدو حمل علينا حملة منكرة، فرقت بينى وبين أصحابى، فانتهيت إلى عمرو وهو يقول هذا القول، فقلت فى نفسى: والله ما أنا بواجد اليوم فى هذا العسكر رجلا أقدم صحبة ولا أقرب قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل، فدنوت منه ومعى الرمح، وقد أحاطت به من الروم جماعة، فحملت عليهم، فأصرع أحدهم، ثم أقبلت إليه، فوقفت معه، ثم قلت: يا ابن أبى أحيحة، أتعرفنى؟ فقال لى: نعم يا أخا ثقيف، فقلت له: لم تبعد، هم الإخوان والجيران والحلفاء، ولكنى أخو ثمالة، عبد الله بن قرط. فقال لى: مرحبا بك أخى فى الإسلام، وهو أقرب النسب، أما والله لئن استشهدت وكفى بالله شهيدا لأشهدن لك، ولئن شفعت لأشفعن لك. قال:
فنظرت إلى وجهه، فإذا هو مضروب على حاجبه بالسيف، وإذا الدم قد ملأ عينيه، وإذا هو لا يستطيع أن يطرف ولا يفتح عينيه من الدم، فقلت له: أبشر بخير، فإن الله معافيك من هذه الضربة، ومنزل النصر على الإسلام. قال: أما النصر لأهل الإسلام، فأنزل الله
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (137- 138) .

(2/239)


فعجل، وأما أنا، فجعل الله لى هذه الضربة شهادة وأهدى إلىّ أخرى مثلها، فو الله ما أحب أنها بعرض أبى قبيس، وو الله لولا أن يقتل بعض من حولى لأقدمت على هذا العدو حتى ألحق بربى، يا أخى إن ثواب الشهادة عظيم، وإن الدنيا قل ما يسلم منها أهلها.
قال: فما كان بأسرع من أن شد علينا منهم جماعة، فمشى إليهم بسيفه، فضاربهم ساعة وهو أمام الناس، وثار بينهم الغبار، فشددنا عليهم، فصرنا منهم عدة، وإذا نحن بعمرو بن سعيد صريعا، وإذا هو قد بضع وبه أكثر من ثلاثين ضربة، وكانوا حنقوا عليه وحردوا لما رأوا من شدة قتاله، فقطعوه بأسيافهم يرحمه الله.
وقتل أيضا هناك من قريش من بنى سهم: سعيد بن عمرو، وسعيد بن الحارث بن قيس، والحارث بن الحارث، وغلب المسلمون على الأرض واحتووها، وصار من بقى من العدو فى الحصن، وقد قتل الله منهم مقتلة عظيمة، فأقام المسلمون على الحصن وقد غلبوا على سواد الأردن وأرضها وكل ما فيها، وطلبوها بالنزول إليهم، على أن يؤمنوهم، فأبوا، وذلك أنه بلغهم أن ملك الروم بعث إليهم رجلا من غسان يقال له:
المنذر بن عمرو، فجاء فى جمع عظيم من الروم يمد أهل فحل، فلم يبلغهم حتى هزمهم الله وأذلهم، فكان أراد أن يجىء حتى يدخل معهم حصنهم.
وكان طائفة قد جاؤا بعد وقعة فحل بيوم، فقال خالد: ما أظن هؤلاء ينبغى لنا أن نعطيهم قوم قاتلوا على هذا الفىء وغلبوا عليه. فقال علقمة بن الأرث القيسى: لم أصلحك الله لا تجعلهم شركاءنا وقد جاؤا بعيالهم يسيرون ويغدون ويروحون لينصروا الإسلام ويجاهدوا فى سبيل الله؟ أفإن المسلمون سبقوهم بساعة من النهار لا يشركونهم وهم إخوانهم وأنصارهم؟ فقال خالد: ننظر، قال أبو عبيدة: ما نرى إلا أن نشركهم.
فلما بلغ قضاعة أن المنذر بن عمرو قد دخل بطن الأردن، جاء علقمة بن الأرث إلى أبى عبيدة، فقال: إن المنذر بن عمرو قد نزل بطن الأردن، أفلا تبعث إليه المسلمين؟
فقال: دعه حتى يدنو. فقال: أصلحك الله، ابعث معى خيلا فأنا أكفيكه. فقال: لا، لا تقربنه، لست آذن لك، دعه حتى يدنو، فخرج إلى أصحابه فقال لمن لم يشهد الوقعة منهم، ولمن شهدها، ولهم خيل وقوة: اخرجوا بنا حتى نلقى المنذر بن عمرو، فإنى أرجو أن نصادمه مغترا فنقتله، فنذهب إن شاء الله بأجرها وشرف ذكرها، فتابعوه، فأقبل حتى إذا دنا من عسكر المنذر بن عمرو، حمل الخيل عليهم من جانب العسكر وهم

(2/240)


غازون، فهزمهم، وأتبعهم الخيل تثفنهم وتقتلهم فى كل جانب، وأغار رجالته فى العسكر فاحتووا ما فيه، ولحق علقمة بالمنذر فجاراه ساعة حتى دنا منه، فطعنه وقتله، وأخذ فرسه ورجع إلى أبى عبيدة وقد جاءه خبره، فقال له أبو عبيدة: إنى لأكره أن لا ألومك وقد عصيتنى، وإنى لأكره أن ألومك وقد فتح الله عليك، ورأى أبو عبيدة أن يسهم لهم مع المسلمين، فقاسموهم ما كان فى عسكر المنذر، فلم يصيبوا منها إلا اليسير.
وكتب أبو عبيدة إلى عمر رحمهما الله «1» : بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد: فالحمد لله الذى أنزل على المسلمين نصره، وعلى الكافرين رجزه، أخبر أمير المؤمنين أصلحه الله، أنا لقينا الروم وقد جمعوا لنا الجموع العظام، فجاؤنا من رؤس الجبال وأسياف البحار، يرون أن لا غالب لهم من الناس، فبرزوا إلينا، وبغوا علينا، وتوكلنا على الله تعالى، ورفعنا رغبتنا إلى الله، وقلنا حسبنا الله ونعم الوكيل، فنهضنا إليهم بخيلنا ورجلنا، وكان القتال بين الفريقين مليا من النهار، أهدى الله فيه الشهادة لرجال من المسلمين رحمهم الله، منهم: عمرو بن سعيد بن العاص، وضرب الله وجوه المشركين، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، حتى اعتصموا بحصنهم، وانتهب المسلمون عسكرهم، وغلبوا على بلادهم، وأنزلهم الله من صياصيهم، وقذف الرعب فى قلوبهم فاحمد الله يا أمير المؤمنين أنت ومن قبلك من المسلمين على إعزاز الدين وإظهار الفلج على المشركين، وادع الله لنا بتمام النعمة، والسلام عليك.
ولما رأى أهل فحل أن أرض الأردن قد غلب عليها المسلمون سألوا الصلح على أن يعفى لهم عن أنفسهم، وأن يؤدوا الجزية، ومن كان فيهم من الروم إن أحب لحق بالروم وخلى بلاد الأردن، وإن أحب أن يقيم ويؤدى الجزية أقام، فصالحهم المسلمون وكتبوا لهم كتابا. وخرج منهم من كان أقبل من الروم فى تلك السنة، وتبقى معهم من كان تبنبك قبل ذلك بالبلد، واتخذ الضياع، وتزوج بها، وولد له فيها، فأقاموا على أن يؤدوا الجزية هم وسائر من كان معهم فى الحصن.
وأما من عداهم من أهل الأردن أهل الأرض والقرى، فاختلف فيهم المسلمون، لأخذهم ذلك عنوة، وغلبتهم عليه بغير صلح، فقالت طائفة: نقتسمهم، وقالت طائفة:
نتركهم، فكتب أبو عبيدة إلى عمر:
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (139- 140) .

(2/241)


بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الله جل ثناؤه ذا المن والفضل والنعم العظام فتح على المسلمين أرض الأردن، فرأت طائفة من المسلمين أن يقروا أهلها، على أن يؤدوا الجزية إليهم، ويكونوا عمار الأرض، ورأت طائفة أن يقتسموهم، فاكتب إلينا يا أمير المؤمنين برأيك فى ذلك، أدام الله لك التوفيق فى جميع الأمور، والسلام.
فكتب إليه عمر: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد: فقد بلغنى كتابك تذكر إعزاز الله أهل دينه، وخذلانه أهل عدوانه، وكفايته إيانا مؤنة من عادانا، فالحمد لله على إحسانه فيما مضى، وحسن صنيعه فيما غبر، الذى عافى جماعة المسلمين، وأكرم بالشهادة فريقا من المؤمنين، فهنيئا لهم رضا ربهم، وكرامته إياهم، ونسأل الله أن لا يحرمنا أجرهم، ولا يفتنا بعدهم، فقد نصحوا الله وقضوا ما عليهم، ولربهم كانوا يحفدون، ولأنفسهم كانوا يمهدون، وقد فهمت ما ذكرت من أمر الأرض التى ظهر عليها وعلى أهلها المسلمون، فقالت طائفة: نقر أهلها، على أن يؤدوا الجزية للمسلمين، ويكونوا للأرض عمارا.
ورأت طائفة أن يقتسموهم، وإنى نظرت فيما كتبت فيه، ففرق لى من الرأى فيما سألتنى عنه أنى رأيت أن تقرهم، وتجعل الجزية عليهم، وتقسمها بين المسلمين، ويكونوا للأرض عمارا، فهم أعلم بها وأقوى عليها، أرأيتم لو أنا أخذنا أهلها فاقتسمناهم، من كان يكون لمن يأتى بعدنا من المسلمين؟ والله ما كانوا ليجدوا إنسانا يكلمونه، ولا ينتفعون بشىء من ذات يده، وإن هؤلاء يأكلهم المسلمون ما داموا أحياء، فإذا هلكنا وهلكوا أكل أبناؤنا أبناءهم أبدا ما بقوا، وكانوا عبيدا لأهل الإسلام ما دام دين الإسلام ظاهرا، فضع عليهم الجزية، وكف عنهم السباء، وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحقها، والسلام عليك.
فلما جاء أبا عبيدة هذا الرأى من عمر عمل به، وكان رأيه ورأى عمر فى ذلك واحدا «1» .
وقال علقمة بن الأرث القينى فى يوم فحل:
ونحن قتلنا كل واف سباله ... من الروم معروف النجار منطق
نطلق بالبيض الرقاق نساءهم ... وأبنا إلى أزواجنا لم تطلق
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (139- 142) .

(2/242)


نصرعهم فى كل فج وغائط ... كأنهم بالقاع معزى المحلق
فكم من قتيل أوهطته سيوفنا ... كفاحا وكف قد أطارت وأسوق
فتح حمص فيما حكاه أصحاب فتوح الشام «1»
عن محرز بن أسد الباهلى قال: دعا أبو عبيدة رؤس المسلمين وفرسان العرب الذين معه، فجمعنا بعدما ظهرنا على فحل وفرغنا من الأردن وأرضها، وقد تحصن منا أهل إيلياء، واجتمعت بقيسارية جموع عظام مع أهلها، وأهلها لم يزالوا كثيرا، فقال أبو عبيدة: يا أهل الإسلام، إن الله قد أحسن إليكم وألبسكم عافية مجللة وأمنا واسعا، وأظهركم على بطارقة الروم، وفتح لكم الحصون والقلاع والقرى والمدائن، وجعلكم لهذه الدار دار الملوك، أربابا، وجعلها لكم منزلا، وقد كنت أردت النهوض بكم إلى أهل إيلياء وأهل قيسارية، فكرهت أن آتيهم وهم فى جوف مدينتهم متحرزون متحصنون، ولم آمن أن يأتيهم مدد من جندهم، وأنا نازل عليهم قد حبست نفسى لهم عن افتتاح الأرض، ولم أدر لعل من طاعتى إذا رأونى قد شغلت نفسى بهم أن يرجعوا إليهم، وأن ينقضوا العهد الذى بينى وبينهم، فرأيت أن أسير إلى دمشق، ثم أسير فى أرضها إلى من لم يدخل طاعتى منهم، ثم أسير إلى حمص، فإن قدرنا عليها، وإلا تركناها ولا نقيم عليها أكثر من يوم الأربعاء والخميس والجمعة، ثم ندنو من ملك الروم وننظر ما يريد بمكانه الذى هو به، فإن الله نفاه عن مكانه ذلك لم تبق بالشام قرية ولا مدينة إلا سالمت وصالحت وأعطت الجزية ودخلت فى الطاعة «2» .
فقال المسلمون جميعا: فنعم الرأى رأيك، فأمضه وسر بنا إذا بدا لك، فدعا خالدا وكان لكل ملمة ولكل شدة، فقال له: سر رحمك الله، فى الخيل. فخرج فيها، وخلف عمرو بن العاص فى أرض الأردن، وفى طائفة من أرض فلسطين مما يلى أرض العرب، وجاء خالد حتى تولى أرض دمشق، فاستقبله الذين كانوا صالحوا المسلمين.
ثم إن أبا عبيدة جاء من الغد، فخرجوا أيضا، فاستقبلوه بما يحب، فلبث يومين أو ثلاثة، ثم أمر خالدا فسار حتى بلغ بعلبك وأرض البقاع، فغلب على أرض البقاع، وأقبل قبل بعلبك حتى نزل عليها، فخرج إليه منها رجل، فأرسل إليهم فرسانا من المسلمين نحوا من خمسين، فيهم ملحان بن زياد الطائى، وقنان بن دارم العبسى، فحملوا عليهم
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 190) ، تاريخ الطبرى (3/ 598) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (143- 144) .

(2/243)


حتى أقحموهم الحصن. فلما رأوا ذلك بعثوا فى طلب الصلح، فأعطاهم ذلك أبو عبيدة، وكتب لهم كتابا.
ثم إنه خرج نحو حمص، فجمع له أهلها جمعا عظيما، ثم استقبلوه بجوسية «1» ، فرماهم بخالد بن الوليد، فلما نظر إليهم خالد قال: يا أهل الإسلام، الشدة، الشدة. ثم حمل عليهم خالد، وحمل المسلمون معه، فولوا منهزمين حتى دخلوا مدينتهم، وبعث خالد ميسرة بن مسروق فاستقبل خيلا لهم عظيمة عند نهير قريب من حمص، فطاردهم قليلا ثم حمل عليهم، فهزمهم، وأقبل رجل من المسلمين من حمير يقال له شرحبيل، فعرض له منهم فوارس، فحمل عليهم وحده، فقتل منهم سبعة، ثم جاء إلى نهر دون حمص مما يلى دير مسحل فنزل عن فرسه فسقاه، وجاء نحو من ثلاثين فارسا من أهل حمص فنظروا إلى رجل واحد، فأقبلوا نحوه، فلما رأى ذلك أقحم فرسه وعبر الماء إليهم، ثم ضرب فرسه فحمل عليهم، فقتل أول فارس، ثم الثانى، ثم الثالث، ثم الرابع، ثم الخامس، ثم انهزموا وتبعهم وحده، فلم يزل يقتل واحدا واحدا حتى انتهوا إلى دير مسحل وقد صرع منهم أحد عشر رجلا، فاقتحموا جوف الدير واقتحم معهم، فرماه أهل الدير بالحجارة حتى قتلوه، رحمه الله.
وجاء ملحان بن زياد وعبد الله بن قرط وصفوان بن المعطل إلى المدينة، فأخذوا يطيفون بها يريدون أن يخرج إليهم أهلها، فلم يخرجوا. وجاء المسلمون حتى نزلوا على باب الرستن «2» ، فزعم النضر بن شفى أن رجلا من آل ذى الكلاع كان أول من دخل مدينة حمص، وذلك أنه حمل من جهة باب الشرقى فلم يرد وجهه شىء، فإذا هو فى جوف المدينة، فلما رأى ذلك ضرب فرسه فخرج كما هو على وجهه ولا يرى إلا أنه قد هلك، حتى خرج من باب الرستن، فإذا هو فى عسكر المسلمين.
وحاصر المسلمون أهل حمص حصارا شديدا، فأخذوا يقولون للمسلمين: اذهبوا نحو الملك، فإن ظفرتم به فنحن كلنا لكم عبيد. فأقام أبو عبيدة على باب الرستن بالناس، وبث الخيل فى نواحى أرضهم، فأصابوا غنائم كثيرة وقطعوا عنهم المادة والميرة، واشتد عليهم الحصار، وخشوا السباء فأرسلوا إلى المسلمين يطلبون الصلح، فصالحهم المسلمون
__________
(1) جوسية: بالضم ثم السكون وكسر السين المهملة وياء خفيفة، قرية من قرى حمص على ستة فراسخ منها من جهة دمشق. انظر: معجم البلدان (2/ 158) .
(2) الرستن: بفتح أوله وسكون ثانيه، بليدة قديمة كانت على نهر الميماس، بين حماة وحمص، فى نصف الطريق. انظر: معجم البلدان (3/ 43) .

(2/244)


وكتبوا لهم كتابا بالأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وعلى أن يضيفوا المسلمين يوما وليلة، وعلى أن على أرض حمص مائة ألف دينار وسبعين ألف دينار، وفرغوا من الصلح، وفتحوا باب المدينة للمسلمين، فدخلوها وأمن بعضهم بعضا.
وكتب أبو عبيدة إلى عمر رضى الله عنهما: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فأحمد الله الذى أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين أفضل كورة بالشام، أكثرها أهلا وقلاعا وجمعا وخراجا، وأكبتهم للمشركين كبتا، وأيسره على المسلمين فتحا. أخبرك يا أمير المؤمنين أصلحك الله، أنا قدمنا بلاد حمص وبها من المشركين عدد كثير، والمسلمون يزفون إليهم ببأس شديد، فلما دخلنا بلادهم ألقى الله الرعب فى قلوبهم، ووهن كيدهم، وقلم أظفارهم، فسألونا الصلح وأذعنوا بأداء الخراج، فقبلنا منهم وكففنا عنهم، ففتحوا لنا الحصون واكتتبوا منا الأمان، وقد وجهنا الخيول إلى الناحية التى بها ملكهم وجنوده.
نسأل الله ملك الملوك وناصر الجنود أن يعز المسلمين بنصره، وأن يسلم المشرك الخاطئ بذنبه، والسلام عليك.
فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد بلغنى كتابك تأمرنى فيه بحمد الله على ما أفاء علينا من الأرض وفتح علينا من القلاع ومكن لنا فى البلاد وصنع لنا ولكم وأبلانا وإياكم من حسن البلاء، فالحمد لله على ذلك حمدا كثيرا ليس له نفاد ولا يحصى له تعداد، وذكرت أنك وجهت الخيول نحو البلاد التى فيها ملك الروم وجموعهم، فلا تفعل، ابعث إلى خيلك فأضممها إليك وأقم حتى يمضى هذا الحول ونرى من رأينا. ونستعين الله ذا الجلال والإكرام على جميع أمرنا، والسلام عليك.
فلما أتى أبا عبيدة الكتاب دعا رؤس المسلمين، فقال لهم: إنى قد كنت قدمت ميسرة بن مسروق إلى ناحية حلب وأنا أريد الإقدام والغارة على ما دون الدرب من أرض الروم، وكتبت بذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب إلىّ: أن أصرف إلى خيلى، وأن أتربص بهم الحول حتى يرى من رأيه. فقالوا: لم يألك أمير المؤمنين والمسلمين نظرا وخيرا. فسرح إلى ميسرة، وقد كان أشرف على حلب ودنا منها، فيجامعه كتاب إلى ميسرة: أما بعد، فإذا لقيت رسولى فأقبل معه ودع ما كنت وجهتك إليه حتى نرى من رأينا وننظر ما يأمرنا به خليفتنا، والسلام.

(2/245)


فأقبل ميسرة فى أصحابه حتى انتهى إلى أبى عبيدة بحمص، فنزل معه، وخرج أبو عبيدة فعسكر بالناس، ودعا خالد بن الوليد، فقال له: اخرج إلى دمشق فانزلها فى ألف رجل من المسلمين وأقيم أنا هاهنا، ويقيم عمرو بن العاص فى مكانه الذى هو فيه، فيكون بكل جانب من الشام طائفة من المسلمين، فهو أقوى لنا عليها وأحرى أن نضبطها، فخرج خالد فى ألف رجل حتى أتى دمشق وبها سويد بن كلثوم بن قيس القرشى، من بنى محارب بن فهر، وكان أبو عبيدة خلفه بها فى خمسمائة رجل، فقدم خالد فعسكر على باب من أبوابها، ونزل سويد فى جوفها.
وعن أدهم بن محرز بن أسد الباهلى قال: أول راية دخلت أرض حمص ودارت حول مدينتها راية ميسرة بن مسروق، ولقد كانت لأبى أمامة راية ولأبى راية، وإن أول رجل من المسلمين قتل رجلا من المشركين لأبى، إلا أن يكون رجل من حمير، فإنه حل هو وأبى جميعا فكل واحد منهما قتل فى حملته رجلا، فكان أبى يقول: أنا أول رجل من المسلمين قتل رجلا من المشركين بحمص، لا أدرى ما الحميرى، فإنى حملت أنا وهو فقتل كل رجل منا فى حملته رجلا، ولا أخال إلا أنى قتلت قتيلى قبل قتيله «1» .
وقال أدهم: إنى لأول مولود بحمص، وأول مولود فرض له بها، وأول من رئى فيها بيده كتف يختلف إلى الكتاب، ولقد شهدت صفين وقاتلت «2» .
وقال عبد الله بن قرط: عسكر أبو عبيدة ونحن معه حول حمص نحوا من ثمان عشرة ليلة، وبث عماله فى نواحى أرضها، واطمأن فى عسكره، وذهبت منهزمة الروم من فحل حتى قدمت على ملك الروم بأنطاكية، وخرجت فرسان من فرسان الروم ورجال من عظمائهم وذوى الأموال والغنى والقوة منهم ممن كان أوطن بالشام فدخلوا قيسارية، وتحصن أهل فلسطين بإيلياء.
ولما قدمت المنهزمة على هرقل دعا رجالا منهم، فقال لهم: أخبرونى ويلكم عن هؤلاء القوم الذين تلقونهم، أليسوا بشرا مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم؟
قالوا: نحن أكثر منهم أضعافا، وما لقيناهم فى موطن إلا ونحن أكثر منهم. قال: ويلكم فما بالكم تنهزمون إذا لقيتموهم؟ فسكتوا. فقام شيخ منهم، فقال: أنا أخبرك أيها الملك من أين يؤتون، قال: فأخبرنى، قال: إنهم إذا حمل عليهم صبروا، وإذا حملوا لم يكذبوا،
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (148- 149) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (149) .

(2/246)


ونحن نحمل فنكذب ويحمل علينا فلا نصبر. قال: وما بالكم كما تصفون، وهم كما تزعمون؟ قال الشيخ: ما أرانى إلا قد علمت من أين هذا. قال له: ومن أين هذا؟ قال:
من أجل أن القوم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإنا نشرب الخمر، ونرتكب المحارم، وننقض العهد ونأمر بما يسخط الله وننهى عما يرضيه ونفسد فى الأرض. قال: صدقتنى، لأخرجن من هذه القرية، ولأدعن هذه البلدة، وما لى فى صحبتكم من خير وأنتم هكذا. قال: نشدتك الله أيها الملك أن تفعل، تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولما تقاتل وتجهد؟ قال: قد قاتلتموهم غير مرة بأجنادين، وفحل، ودمشق، والأردن، وفلسطين، وحمص، وفى غير موطن، كل ذلك تنهزمون وتفرون وتغلبون. قال الشيخ: حولك من الروم عدد الحصى والثرى والذر، لم يلقهم منهم إنسان، ثم تريد أن تخرج منها وترجع بهؤلاء جميعا من قبل أن يقاتلوا؟ «1» .
فإن هذا الشيخ ليكلمه إذ قدم عليه وفد قيسارية وإيلياء، وسيأتى خبرهم بعد إن شاء الله.
وذكر الطبرى «2» عن سيف: أن هرقل لما بلغه الخبر بمقتل أهل المرج أمر أمير حمص بالمضى إليها، وقال له: إنه بلغنى يعنى عن المسلمين، أن طعامهم لحوم الإبل، وشرابهم ألبانها، وهذا الشتاء، فلا تقاتلوهم إلا فى كل يوم بارد، فإنه لا يبقى إلى الصيف منهم أحد هذا جل طعامه، وشرابه، وارتحل فى عسكره ذلك حتى أتى الرها.
وأقبل أبو عبيدة حتى نزل على حمص، وأقبل خالد بعده حتى ينزل عليها، فكان أهلها يغادون المسلمين ويراوحونهم فى كل يوم بارد، ولقى المسلمون بها بردا شديدا والروم حصارا طويلا. فأما المسلمون فصبروا ورابطوا، وأفرغ الله عليهم الصبر وأعقبهم النصر، حتى انصرم الشتاء، وإنما تمسك الروم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء. فكانوا يتواصون فيما بينهم ويقولون: تمسكوا فإنهم جفاة، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون، فكانت الروم ترجع وقد سقطت أقدام بعضهم فى خفافهم، وإن المسلمين لفى النعال ما أصيب إصبع أحد منهم، حتى إذا انخمس الشتاء، قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين، قالوا: كيف والملك فى عزه وملكه ليس بيننا وبينهم شىء؟ فتركهم، وقام فيهم آخر وقال: ذهب الشتاء وانقطع الرجاء فما تنتظرون؟
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (149- 151) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 599- 600) .

(2/247)


قالوا: البرسام، فإنما يسكن فى الشتاء ويثور فى الصيف، قال: إن هؤلاء قوم يعانون ولأن تأتوهم بعهد وميثاق خير من أن تؤخذوا عنوة، أجيبونى محمودين قبل أن تجيبونى مذمومين. فقالوا: شيخ خرف ولا علم له بالحرب. وأثاب الله المسلمين على صبرهم أيام حمص. فيما حكى عن بعض أشياخ من غسان وبلقين «1» : أن زلزل بأهل حمص، وذلك أن المسلمين ناهدوهم، فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم فى المدينة، وتصدعت الحيطان، ففزعوا إلى رؤسائهم وذوى رأيهم ممن كان يدعوهم إلى المسالمة فلم يجيبوهم وأذلوهم بذلك، ثم كبروا الثانية فتهافتت دور كثيرة وحيطان، وفزعوا إلى رؤسائهم وذوى رأيهم، فقالوا: ألا ترون إلى عذاب الله؟ فأجابوهم: لا يطلب الصلح غيركم، فأشرفوا ينادوى، الصلح الصلح، ولا يشعر المسلمون بما حدث فيهم، فأجابوهم وقبلوا منهم على أنصاف دورهم، وعلى أن يترك المسلمون أموال ملوك الروم وبنيانهم لا ينزلونه عليهم، فتركوه لهم، فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام على كل جريب أبدا أيسروا أو أعسروا، وصالح بعضهم على قدر طاقته إن زاد ماله زيد عليه وإن نقص نقص، وعلى هذين الوجهين كان صلح دمشق والأردن، وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه.
حديث حمص آخر
قالوا: وغزى هرقل أهل حمص فى البحر، واستمد أهل الجزيرة، واستثار أهل حمص، فأرسلوا إليه: بأنا قد عاهدنا، فنخاف أن لا ننصر.
واستمد أبو عبيدة خالدا، فأمده بمن معه جميعا، لم يخلف أحدا، فكفر أهل قنسرين بعده وتابعوا هرقل، وكان أكثر من هنالك تنوخ الحاضر.
ودنا هرقل من حمص وعسكر وبعث البعوث إلى حمص، فأجمع المسلمون على الخندقة والكتاب إلى عمر، إلا ما كان من خالد، فإن المناجزة كانت رأيه، فخندقوا على حمص، وكتبوا إلى عمر واستصرخوه.
وجاء الروم ومن أمدهم حتى نزلوا عليهم فحصروهم، وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفا سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم، فبلغوا من المسلمين كل مبلغ.
وجاء الكتاب إلى عمر وهو موجه إلى مكة للحج، فمضى لحجه، وكتب إلى سعد بن
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 600) .

(2/248)


أبى وقاص: إن أبا عبيدة قد أحيط به ولزم حصنه، فبث المسلمين بالجزيرة، واشغلهم بالخيول عن أهل حمص، وأمد أبا عبيدة بالقعقاع بن عمرو.
فخرج القعقاع ممدا لأبى عبيدة، وخرجت الخيول نحو الرقة ونصيبين وحران، فلما وصلوا الجزيرة وبلغ ذلك الروم الذين كانوا منها وهم بحمص تقوضوا إلى مدائنهم، وبادروا المسلمين إليها، فتحصنوا، ونزل عليهم المسلمون فيها، ولما دنا القعقاع من حمص راسلت طائفة من تنوخ خالدا ودلوه وأخبروه بما عندهم من الخبر، فأرسل إليهم خالد:
والله لولا أنى فى سلطان غيرى ما باليت قللتم أم كثرتم أو أقمتم أو ذهبتم، فإن كنتم صادقين فانفشوا كما انفش أهل الجزيرة، فساموا تنوخ ذلك، فأجابوهم، وراسلوا خالدا: إن ذلك إليك، فإن شئت فعلنا، وإن شئت أن تخرج علينا فننهزم بالروم، وأوثقوا له، فقال: بل أقيموا، فإذا خرجنا فانهزموا بهم.
فقال المسلمون لأبى عبيدة: قد أنفش أهل الجزيرة، وقد ندم أهل قنسرين وواعدوا من أنفسهم، وهم العرب، فاخرج بنا وخالد ساكت، فقال: يا خالد، ما لك لا تتكلم؟
فقال: قد عرفت الذى كان من رأيى فلم تسمع من كلامى. قال: فتكلم فإنى أسمع منك وأطيعك، قال: فاخرج بالمسلمين، فإن الله تعالى قد نقص من عدتهم، وبالعدد يقاتلون، ونحن إنما نقاتل منذ أسلمنا بالنصر، فلا تجفلك كثرتهم.
قالوا: فجمع أبو عبيدة الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:
أيها الناس، إن هذا يوم له ما بعده، أما من حكى منكم فإنه يصفو له ملكه وقراره، وأما من مات منكم فإنها الشهادة، فأحسنوا بالله الظن ولا يكرهن إليكم الموت أمر اقترفه أحدكم دون الشرك، توبوا إلى الله وتعرضوا للشهادة، فإنى أشهد وليس أوان الكذب، أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة.
فكأنما كانت بالناس عقل تنشطت، فخرج بهم وخالد على الميمنة، وقيس على الميسرة، وأبو عبيدة فى القلب وعلى باب المدينة معاذ بن جبل، فاجتلدوا بها، فإنهم كذلك إذ قدم القعقاع متعجلا فى مائة، فانهزم أهل قنسرين بالروم، فاجتمع القلب والميمنة على قلبهم وقد انكسر أحد جناحيه، فما أفلت منهم مخبر، وذهبت الميسرة على وجهها، وآخر من أصيب منهم بمرج الديباج انتهوا إليه فكسروا سلاحهم وألقوا بلامهم تخففا، فأصيبوا وتغنموا.

(2/249)


ولما ظفر المسلمون جمعهم أبو عبيدة فخطبهم، وقال لهم: لا تتكلوا ولا تزهدوا فى الدرجات.
فتح قنسرين»
وبعث بعد فتح حمص خالد بن الوليد إلى قنسرين، فلما نزل بالحاضر زحف إليه الروم وعليهم ميناس، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل، فالتقوا بالحاضر، فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها. فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد، وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب، وأنهم إنما حشدوا ولم يكن من رأيهم حربه، فقبل منهم وتركهم.
ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: أمر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم بالرجال منى، وكان قد عزله والمثنى بن حارثة عند قيامه، بالأمر، وقال: إنى لم أعزلهما عن ريبة، ولكن الناس عظموهما، فخشيت أن يوكلوا إليهما.
ويروى أنه قال حين ولى: والله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه لا إياهما. فلما كان من أمر خالد فى قنسرين ما كان، رجع عن رأيه.
وسار خالد حتى نزل على قنسرين، فتحصنوا منه، فقال: إنكم لو كنتم فى السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلنكم إلينا. فنظروا فى أمرهم، وذكروا ما لقى أهل حمص وقنسرين، فسألوه الصلح على مثل صلحها، فأبى إلا على إخراب المدينة، فأخربها.
واتطأت حمص وقنسرين، فعند ذلك خنس هرقل وخرج نحو القسطنطينية. وأفلت رجل من الروم كان أسيرا فى أيدى المسلمين فلحق بهرقل، فقال له: أخبرنى عن هؤلاء القوم. فقال: أحدثك كأنك تنظر إليهم، فرسان بالنهار، ورهبان بالليل، ما يأكلون فى ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه. فقال:
لئن كنت صدقتنى ليرثن ما تحت قدمى هاتين «2» .
وكان هرقل كلما حج بيت المقدس فخلف سورية، وظعن فى أرض الروم التفت فقال: السلام عليك يا سورية، تسليم مودع لم يقض منك وطره، وهو عائد. فلما توجه
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 191) ، تاريخ الطبرى (3/ 601) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 602- 603) .

(2/250)


المسلمون نحو حمص عبر الماء فنزل الرها، فلم يزل بها حتى إذا فتحت قنسرين، وقتل ميناس خنس عند ذلك إلى سميساط «1» حتى إذا فصل منها نحو أرض الروم على شرف، فالتفت نحو سورية وقال: عليك السلام يا سورية، سلاما لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومى أبدا إلا خائفا، حتى يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد، ما أحلى فعله، وما أمر عاقبته على الروم. ثم مضى حتى نزل قسطنطينية.
وهذا مقتضب من أحاديث متفرقة ذكرها سيف فى كتابه.
جمع الروم للمسلمين
ثم نعود إلى صلة ما قطعنا قبل من الحديث عن وفد أهل إيلياء وقيسارية القادم على هرقل، إذ قد وعدنا بذكره حسب ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام فى كتبهم.
وذلك أن أهل قيسارية وأهل إيلياء تواطأوا بعد يوم فحل وتآمروا، أن يبعثوا وفدا منهم إلى هرقل بأنطاكية، فيخبروه بتمسكهم بأمره وإقامتهم على طاعته وخلافهم العرب، ويسألونه المدد والنصر. فلما جاءه وفدهم هذا رأى أن يبعث الجنود ويقيم هو بأنطاكية، فأرسل إلى رومية والقسطنطينية، وإلى من كان من جنوده وعلى دينه من أهل الجزيرة وأرمينية، وكتب إلى عماله أن يحشروا إليه كل من أدرك الحلم من أهل مملكته فما فوق ذلك إلى الشيخ الفانى، فأقبلوا إليه، وجاء منهم ما لا تحمله الأرض، وجاءه جرجير صاحب أرمينية فى ثلاثين ألفا، وآتاه أهل الجزيرة، ونزع إليه أهل دينه وجميع من كان فى طاعته، فدعا باهان، وكان من عظمائهم وأشرافهم، فعقد له على مائة ألف، ودعا ابن قماطر فعقد له على مائة ألف فيهم جرجير ومن معه من أهل أرمينية، ودعا الدرنجار فعقد له على مائة ألف، ثم أعطى الأمراء مائة ألف، مائة ألف، وأعطى باهان مائتى ألف، وقال لهم: إذا اجتمعتم فأميركم باهان، ثم قال: يا معشر الروم، إن العرب قد ظهروا على سورية، ولم يرضوا بها حتى تعاطوا أقصى بلادكم، وهم لا يرضون بالبلاد والمدائن والبر والشعير والذهب والفضة حتى يسبوا الأمهات والبنات والأخوات والأزواج، ويتخذوا الأحرار وأبناء الملوك عبيدا، فامنعوا حرمتكم وسلطانكم ودار ملككم «2» .
__________
(1) سميساط: بلد من بلد العجم، منها السميساطى رجل من العجم كان موصوفا بالورع والزهد. انظر الروض المعطار (323) .
(2) انظر هذا الخبر وما بعده فى: تاريخ فتوح الشام (151- 159) .

(2/251)


قال عبد الله بن قرط، والحديث له: ثم وجههم إلينا، فقدمت عيوننا من قبلهم، فخبرونا بمقالة ملكهم وبمسيرهم إلينا وجمعهم لنا، ومن أجلب معهم من غيرهم علينا ممن كان على دينهم وفى طاعتهم.
فلما جاء أبا عبيدة الخبر عن عددهم وكثرتهم، رأى أن لا يكتم ذلك المسلمين، وأن يستشيرهم فيه لينظر ما يؤول إليه رأى جماعتهم، فدعا رؤس المسلمين وأهل الصلاح منهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد. فإن الله عز وجل، قد أبلاكم أيها المؤمنون فأحسن البلاء، وصدقكم الوعد، وأعزكم بالنصر، وأراكم فى كل موطن ما تسرون به، وقد سار إليكم عدوكم من المشركين بعدد كثير، ونفروا إليكم فيما حدثنى عيونى نفير الروم الأعظم، فجاؤكم برا وبحرا حتى خرجوا إلى صاحبهم بأنطاكية، ثم قد وجه إليكم ثلاثة عساكر فى كل عسكر منها ما لا يحصيه إلا الله من البشر، وقد أحببت أن لا أغركم من أنفسكم، ولا أطوى عنكم خبر عدوكم، ثم تشيرون علىّ برأيكم، وأشير عليكم برأيى، فإنما أنا كأحدكم.
فقام يزيد بن أبى سفيان، فقال: نعم ما رأيت رحمك الله، إذ لم تكتم عنا ما أتاك من عدونا، وأنا مشير عليكم، فإن كان صوابا فذاك ما نويت، وإن يكن الرأى غير ما أشير به، فإنى لا أتعمد غير ما يصلح المسلمين. أرى أن نعسكر على باب مدينة حمص بجماعة المسلمين، وندخل النساء والأبناء داخل المدينة، ثم نجعل المدينة فى ظهورنا، ثم نبعث إلى خالد فيقدم عليك من دمشق، وإلى عمرو بن العاص فيقدم عليك من الأردن، فتلقاهم بجماعة من معك من المسلمين.
وقام شرحبيل بن حسنة فقال: إن هذا مقام لا بد فيه من النصيحة للمسلمين وإن خالف الرجل منا أخاه، وإنما على كل رجل منا أن يجتهد رأيه، وأنا الآن فقد رأيت غير ما رأى يزيد، وهو والله عندى من الناصحين لجماعة المسلمين، ولكن لا أجد بدا من أن أشير عليكم بما أظنه خيرا للمسلمين.
إنى لا أرى أن ندخل ذرارى المسلمين مع أهل حمص وهم على دين عدونا هذا الذى قد أقبل إلينا، ولا آمن إن وقع بيننا وبينهم من الحرب ما نتشاغل به أن ينقضوا عهدنا وأن يثبوا على ذرارينا فيتقربوا بهم إلى عدونا.
فقال له أبو عبيدة: إن الله قد أذلهم لكم، وسلطانكم أحب إليهم من سلطان عدوكم، وأما إذ ذكرت ما ذكرت، وخوفتنا ما خوفت، فإنى أخرج أهل المدينة منها

(2/252)


وأنزلها عيالنا، وأدخل رجالا من المسلمين يقومون على سورها وأبوابها، ونقيم نحن بمكاننا هذا حتى يقدم علينا إخواننا.
فقال له شرحبيل: إنه ليس لك ولا لنا معك أن نخرجهم من ديارهم وقد صالحناهم على ألا نخرجهم منها.
فأقبل أبو عبيدة على جماعة من عنده فقال: ماذا ترون، رحمكم الله؟ فقالوا: نرى أن نقيم، ونكتب إلى أمير المؤمنين فنعلمه نفير الروم إلينا، وتبعث إلى من بالشام من إخوانك المسلمين فيقدموا عليك.
فقال أبو عبيدة: إن الأمر أجل وأعظم مما تحسبون، ولا أحسب القوم إلا سيعاجلونكم قبل وصول خبركم إلى أمير المؤمنين.
فقام إليه ميسرة بن مسروق، فقال: أصلحك الله، إنا لسنا بأصحاب القلاع ولا الحصون ولا المدائن، وإنما نحن أصحاب البر والبلد القفر، فأخرجنا من بلاد الروم ومدائنها إلى بلادنا أو إلى بلاد من بلادهم تشبه بلادنا إن كانوا قد جاشوا علينا كما ذكرت، ثم اضمم إليك قواصيك، وابعث إلى أمير المؤمنين فليمددك.
فقال كل من حضر ذلك المجلس: الرأى ما رأى ميسرة، فقال لهم أبو عبيدة: فتهيأوا وتيسروا حتى أرى من رأى، وكان رأى أبى عبيدة أن يقيموا ولا يبرحوا، ولكنه كره خلافهم، ورجا أن يكون فى اجتماع رأيهم الخير والبركة.
ثم بعث إلى حبيب بن مسلمة، وكان استعمله على الخراج، فقال: انظر ما كنت جبيت من حمص فاحتفظ به حتى آمرك فيه، ولا تجبين أحدا ممن بقى حتى أحدث إليك فى ذلك، ففعل، فلما أراد أبو عبيدة أن يشخص دعا حبيبا فقال له: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم، وقل لهم: نحن على ما كان بيننا وبينكم من الصلح، لا نرجع عنه إلا أن ترجعوا، وإنما رددنا عليكم أموالكم كراهية أن نأخذها ولا نمنع بلادكم، ولكنا نتنحى إلى بعض الأرض ونبعث إلى إخواننا فيقدموا علينا، ثم نلقى عدونا، فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم، إلا ألا تطلبوا ذلك.
ثم أخذ الناس فى الرحيل إلى دمشق، ورد حبيب بن مسلمة إلى أهل البلد ما كان أخذ منهم، وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، فقالوا: ردكم الله إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، لكنهم والله لو كانوا هم ما ردوا علينا، بل غصبونا وأخذوا مع هذا

(2/253)


ما قدروا عليه من أموالنا. وأعلم أبو عبيدة عمر بن الخطاب بكل ما قبله.
قال سفيان بن عوف بن معقل: بعثنى أبو عبيدة ليلة غدا من حمص إلى دمشق، فقال:
ائت أمير المؤمنين فأبلغه منى السلام وأخبره بما قد رأيت وعاينت، وبما جاءتنا به العيون، وبما استقر من كثرة العدو، وبالذى رأى المسلمون من التنحى عنهم. وكتب إليه معه:
أما بعد، فإن عيونى قدمت علىّ من أرض قنسرين ومن القرية التى فيها ملك الروم، فحدثونى بأن الروم قد توجهوا إلينا وجمعوا لنا من الجموع ما لم يجمعوه قط لأمه كانت قبلنا، وقد دعوت المسلمين فأخبرتهم الخبر واستشرتهم فى الرأى، فاجتمع رأيهم على أن يتنحوا عنهم حتى يأتينا رأيك، وقد بعثت إليك رجلا عنده علم ما قبلنا، فاسأله عما بدا لك، فإنه بذلك عليم، وهو عندنا أمين، ونستعين الله العزيز الحكيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والسلام عليك.
قال سفيان: فلما قدمت على أمير المؤمنين سلمت عليه، فقال: أخبرنى عن الناس، فأخبرته بصلاحهم، ودفاع الله عنهم، ثم أخذ الكتاب فقرأه، فقال لى: ويحك ما فعل المسلمون؟ فقلت: أصلحك الله، خرجت من عندهم ليلا من حمص وتركتهم يقولون:
نصلى الغداة ثم نرحل إلى دمشق. قال: فكأنه كرهه حتى عرفت الكراهة فى وجهه، ثم قال: لله أبوك، ما رجوعهم عن عدوهم وقد أظفرهم الله بهم فى غير موطن؟ وما تركهم أرضا قد فتحها الله عليهم وصارت فى أيديهم؟ إنى لأخاف أن يكونوا قد أساؤا الرأى وجاؤا بالعجز وجرأوا عدوهم عليهم. فقلت: أصلحك الله، إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، إن صاحب الروم قد جمع لنا جموعا لم يجمعها هو ولا أحد كان قبله لأحد كان قبلنا، ولقد أخبرنا بعض عيوننا أن عسكرا واحدا من عساكرهم أمر بالعسكرة فى أصل جبل، فهبطوا من الثنية نصف النهار إلى معسكرهم فما تكاملوا فيه حتى أمسوا، ثم ما تكاملوا فيه إلى نصف الليل، فهذا عسكر واحد من عساكرهم، فما ظنك أصلحك الله بما بقى؟.
فقال: لولا أنى ربما كرهت الشىء من أمرهم يضيعونه، فأرى الله تعالى، يخير لهم فى عواقبه لكان هذا رأيا أنا له كاره. أخبرنى: اجتمع رأى جميعهم على التحول؟ قلت:
نعم. قال: فالحمد لله، إنى لأرجو إن شاء الله أن لا يكون جمع الله رأيهم إلا على ما هو خير لهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، اشدد أعضاد المسلمين بمدد يأتيهم من قبلك قبل الوقعة، فإن هذه الوقعة هى الفيصل فيما بيننا وبينهم. فقال لى: أبشر بما يسرك ويسر المسلمين، واحمل كتابى هذا إلى أبى عبيدة وإلى المسلمين، وأعلمهم أن سعيد بن عامر بن

(2/254)


حذيم قادم عليهم بالمدد، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبى عبيدة بن الجراح وإلى الذين معه من المهاجرين والأنصار، والتابعين بإحسان، والمجاهدين فى سبيل الله، سلام عليكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد فإنه قد بلغنى توجهكم من أرض حمص إلى أرض دمشق، وترككم بلادا فتحها الله عليكم، وخليتموها لعدوكم وخرجتم منها طائعين، فكرهت هذا من رأيكم وفعلكم، ثم إنى سألت رسولكم عن رأى من جميعكم كان ذلك، فزعم أن ذلك كان رأيا من أماثلكم وأولى النهى منكم، فعلمت أن الله لم يكن يجمع رأيكم إلا على توفيق وصواب ورشد فى العاجلة والعاقبة، فهون ذلك علىّ ما كان داخلنى من الكراهية قبل ذلك لتحولكم، وقد سألنى رسولكم المدد، وأنا ممدكم، لن يقرأ عليكم كتابى حتى يشخص إليكم المدد من قبلى إن شاء الله، واعلموا أنه ليس بالجمع الكثير تهزم الجموع وينزل الله النصر، ولربما خذل الله الجموع الكثيرة فوهنت وقلت وفشلت، ولم تغن عنهم فئتهم شيئا، ولربما نصر الله العصابة القليل عددها على الكثير عددها من أعداء الله، فأنزل الله عليكم نصره، وبعدو المسلمين بأسه ورجزه، والسلام عليكم.
فجاء سفيان بالكتاب إلى أبى عبيدة فقرأه على الناس وسروا به.
وعن عبد الله بن قرط، فى حديثه المتقدم عما اجتمع عليه رأى المسلمين مع أبى عبيدة من الرحيل عن حمص، قال: فلما صلينا صلاة الغداة بحمص خرجنا مع أبى عبيدة نسير حتى قدمنا دمشق وبها خالد بن الوليد، وتركنا أرض حمص ليس فيها منا ديار بعدما كنا قد افتتحناها، وأمنا أهلها، وصالحناهم عليها، وخلا أبو عبيدة بخالد بن الوليد فأخبره الخبر، وذكر له مشورة الناس عليه بالرحلة، ومقالة العبسى فى ذلك، فقال له خالد: أما أنه لم يكن الرأى إلا الإقامة بحمص حتى نناجزهم، فأما إذا اجتمع رأيكم على أمر واحد، فو الله إنى لأرجو أن لا يكون الله قد جمع رأيكم إلا على ما هو خير «1» .
فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين، وأمر سويد بن كلثوم أن يرد على أهل دمشق الذين كانوا أمنوا وصولحوا ما كان جبى منهم، ففعل، وقال لهم المسلمون: نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم. ثم إن أبا عبيدة جمع أصحابه، فقال لهم: ماذا ترون؟ أشيروا علىّ.
فقال يزيد بن أبى سفيان: أرى أن تخرج حتى تنزل الجابية، ثم تبعث إلى عمرو بن
__________
(1) انظر الخبر فى: تاريخ فتوح الشام (160- 169) .

(2/255)


العاص فيقدم عليك بمن معه من المسلمين، ثم نقيم للقوم حتى يقدموا علينا، فنقاتلهم ونستعين الله عليهم.
فقال شرحبيل بن حسنة: لكنى أرى إذ خلينا لهم ما خلينا من أرضهم أن ندعها كلها فى أيديهم وننزل التخوم بين أرضنا وأرضهم فندنوا من خليفتنا ومن مددنا، فإذا أتانا من المدد ما نرجو أن نكون لهم به مقرنين قاتلناهم إن أتونا، وإلا أقدمنا عليهم إن هم أقاموا عنا. فقال رجل من المسلمين لأبى عبيدة: هذا أصلحك الله رأى حسن، فاقبله واعمل به.
فقال معاذ بن جبل: وهل يلتمس هؤلاء القوم من عدوهم أمرا أضر لهم ولا أشد عليهم مما تريدون أنتم بأنفسكم، تخلون لهم عن أرض قد فتحها الله عليكم وقتل فيها صناديدهم وأهلك جنودهم، فإذا خرج المسلمون منها وتركوها لهم فكانوا فيها على مثل حالهم الأول، فما أشد على المسلمين دخولها بعد الخروج منها، وهل يصلح لكم أن تدعوها وتدعوا البلقاء والأردن وقد جبيتم خراجهم لتدفعوا عنهم؟ أما والله لئن أردتم دخولها بعد الخروج منها لتكابدن من ذلك مشقة.
فقال أبو عبيدة: صدق والله وبر، ما ينبغى أن نترك قوما قد جبينا خراجهم وعقدنا العهد لهم حتى نعذر إلى الله فى الدفع عنهم، فإن شئتم نزلنا الجابية وبعثنا إلى عمرو بن العاص يقدم علينا، ثم أقمنا للقوم حتى نلقاهم بها.
فقال له خالد: كأنك إذا كنت بالجابية كنت على أكثر مما أنت عليه فى مكانك الذى أنت فيه. فإنهم لكذلك يجيلون الرأى إذ قدم على أبى عبيدة عبد الله بن عمرو بن العاص بكتاب من أبيه يقول فيه: أما بعد، فإن أهل إيلياء وكثيرا ممن كنا صالحناهم من أهل الأردن قد نقضوا العهد فيما بيننا وبينهم، وذكروا أن الروم قد أقبلت إلى الشام بقضها وقضيضها، وأنكم قد خليتم لهم عن الأرض وأقبلتم منصرفين عنها، وقد جرأهم ذلك علىّ وعلى من قبلى من المسلمين، وقد تراسلوا وتواثقوا وتعاهدوا ليسيرون إلىّ.
فاكتب إلىّ برأيك، فإن كنت تريد القدوم علىّ أقمت لك حتى تقدم علىّ، وإن كنت تريد أن تنزل منزلا من الشام أو من غيرها وأن أقدم عليك فأعلمنى برأيك، أوافك فيه، فإنى صائر إليك أينما كنت، وإلا فابعث إلىّ مددا أقوى به على عدوى وعلى ضبط ما قبلى، فإنهم قد أرجفوا بنا واغتمزوا فينا واستعدوا لنا، ولو يجدون فينا ضعفا أو يرون فينا فرصة ما ناظرونا، والسلام عليك.

(2/256)


فكتب إليه أبو عبيدة: أما بعد، فقد قدم علينا عبد الله بن عمرو بكتابك تذكر فيه إرجاف المرجفين واستعدادهم لك، وجرأتهم عليك للذى بلغهم من انصرافنا عن الروم وما خلينا لهم من الأرض، وأن ذلك والحمد لله لم يكن من المسلمين عن ضعف من بصائرهم، ولا وهن عن عدوهم، ولكنه كان رأيا من جماعتهم كادوا به عدوهم ليخرجوهم من مدائنهم وحصونهم وقلاعهم وليجتمع بعض المسلمين إلى بعض وينتظروا قدوم أمدادهم، ثم يناهضونهم إن شاء الله، وقد اجتمعت خيلهم وتتامت فرسانهم، فعند ذلك فارتقب نصر الله أولياءه، وإنجاز موعوده، وإعزاز دينه، وإذلاله المشركين حتى لا يمنع أحد منهم أمه ولا حليلته ولا نفسه، حتى يتوقلوا فى شعف الجبال، ويعجزوا عن منع الحصون ويجنحوا للسلم، ويلتمسوا الصلح، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62] .
ثم أعلم من قبلك من المسلمين أنى قادم عليهم بجماعة أهل الإسلام إن شاء الله، فليحسنوا بالله الظن ولا يجدن عدوكم فيكم ضعفا ولا وهنا، ولا تؤبسوا منكم رعبا فيطمعوا فيكم ويجترئوا عليكم، أعزنا الله وإياكم بنصره، وعمنا بعافيته وعفوه، والسلام عليك.
وقال لعبد الله بن عمرو: اقرأ على أبيك السلام، وأخبره أنى فى أثرك، وأعلم بذلك المسلمين وكن يا عبد الله بن عمرو ممن يشد الله به ظهور المسلمين ويستأنسون به، فإنك رجل من الصحابة، وقد جعل الله للصحابة فضلا على غيرهم من المسلمين، بصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتكل على أبيك، وكن أنت فى جانب تحرض المسلمين وتمنيهم النصر، وتأمرهم بالصبر، ويكون أبوك يفعل ذلك فى جانب آخر.
فقال: إنى أرجو أن يبلغك عنى إن شاء الله من ذلك ما تسر به، ثم خرج حتى قدم على أبيه بكتاب أبى عبيدة، فقرأه أبوه على الناس، ثم قال: أما بعد، فقد برئت ذمة الله من رجل من أهل عهدنا من أهل الأردن ثقف رجلا «1» من أهل إيلياء «2» فلم يأتنا به، ألا ولا يبقين رجل من أهل عهدنا إلا تهيأ واستعد ليسير معى إلى أهل إيلياء، فإنى أريد السير إليهم والنزول بساحتهم، ثم لا أزايلهم حتى أقتل مقالتهم وأسبى ذراريهم، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
__________
(1) ثقف رجل: أى صفر به.
(2) إيلياء: ويقال أيليا بفتح الهمزة، مدينة بالشام وهى بيت المقدس، وهى مدينة قديمة جليلة على جبل يصعد إليها من كل جانب. انظر: الروض المعطار (68) ، نزهة المشتاق (216) .

(2/257)


ثم نادى فى المسلمين: أن ارتحلوا إلى إيلياء، فسار نحوا من ميلين قبل أرض إيلياء، ثم نزل وعسكر، وقال لأهل الأردن: أخرجوا إلينا الأسواق، ونادى مناديه: برئت الذمة من رجل من أهل الصلح لم يخرج بسلاحه حتى يحضر معنا معسكرنا وينتظر ما نأمر به من أمرنا، فاجتمع أهل الصلح كلهم إليه، وخرجوا بعدتهم وسلاحهم، فقدمهم مع ابنه عبد الله فى خمسمائة من المسلمين، وأمره أن يعسكر بهم، ففعل.
وإنما أراد أن يشغل أهل الأردن عن الإرجاف، وأن يبلغ أهل إيلياء أنه يريد المسير إليهم والنزول بهم، فيرعب قلوبهم ويشغلهم فى أنفسهم وحصونهم عن الغارة عليهم.
فخرج التجار من أهل الأردن ومن كان فيها من أهل إيلياء عند حميم أو ذوى قرابة فلحقوا بإيلياء فقالوا لهم: هذا عمرو بن العاص قد أقبل نحوكم بالناس، فاجتمعوا من كل مكان، وتراسلوا، وجعلوا لا يجيئهم أحد من قبل الأردن إلا أخبرهم بمعسكره، فأيقنوا أنه يريدهم، فكانوا من ذلك فى هول شديد، وزادهم خوفا ووجلا كتاب كتبه إليهم عمرو بن العاص مضمنه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عمرو بن العاص إلى بطارقة أهل إيلياء، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله الذى لا إله إلا هو، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد: فإنا نثنى على ربنا خيرا، ونحمده حمدا كثيرا، كما رحمنا بنبيه وشرفنا برسالته وأكرمنا بدينه، وأعزنا بطاعته، وأيدنا بتوحيده، فلسنا والحمد لله نجعل له ندا ولا نتخذ من دونه إلها، لقد قلنا إذا شططا، والحمد لله الذى جعلكم شيعا وجعلكم فى دينكم أحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون، فمنكم من يزعم أن لله ولدا، ومنكم من يزعم أن الله ثانى اثنين، ومنكم من يزعم أن الله ثالث ثلاثة، فبعدا لمن أشرك بالله وسحقا، وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، والحمد لله الذى قتل بطارقتكم، وسلب عزكم، وطرد من هذه البلاد ملوككم، وأورثنا أرضكم ودياركم وأموالكم، وأذلكم بكفركم بالله وشرككم به وترككم ما دعوناكم إليه من الإيمان بالله وبرسوله، فأعقبكم الله لباس الخوف والجوع ونقصا فى الأموال والأنفس، وما الله بظلام للعبيد.
فإذا بلغكم كتابى هذا، فأسلموا تسلموا، وإلا فأقبلوا إلىّ حتى أكتب لكم أمانا على دمائكم وأموالكم، وأعقد لكم عقدا على أن تؤدوا إلىّ الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإلا فو الله الذى لا إله إلا هو لأرمينكم بالخيل بعد الخيل وبالرجال بعد الرجال، ثم لا أقلع عنكم حتى أقتل المقاتلة وأسبى الذرية، وحتى تكونوا كأمة كانت فأصبحت كأنها لم تكن.

(2/258)


وأرسل بالكتاب إليهم مع فيج، نصرانى على دينهم، وقال له: عجل علىّ، فإنى إنما أنتظرك، فلما قدم عليهم قالوا له: ويحك، ما وراءك؟ قال: لا أدرى إلا أن هذا الرجل بعثنى إليكم بهذا الكتاب، وقد وجه عسكره نحوكم، وقال لى: ما يمنعنى من المسير إليهم إلا انتظار رجوعك، فقالوا: انتظرنا ساعة من النهار، فإنا ننتظر عينا لنا يقدم علينا من قبل أمير العرب الذى بدمشق، ومن قبل جند الملك الذى أقبل إلينا، فننظر ما يأتينا به، فإن ظننا أن لنا بالعرب قوة لم نصالحهم، وإن خشينا ألا نقوى عليهم صنعنا ما صنع أهل الأردن وغيرهم، فما نحن إلا كغيرنا من أهل الشام، فأقام العلج حتى أمسى، ثم إن رسول أهل إيلياء الذى بعثوه عينا لهم أتاهم فأخبرهم أن باهان قد أقبل من عند ملك الروم فى ثلاثة عساكر، فى كل عسكر منها أكثر من مائة ألف مقاتل، وأن العرب لما بلغهم ما سار إليهم من تلك الجموع علموا أنه لا قبل لهم بما جاءهم، فانصرفوا راجعين، وقد كان أوائل العرب دخلوا أرض قنسرين «1» فأخرجوهم منها، ثم أتوا أرض دمشق فأخرجوهم منها، ثم أقبلت العرب الآن نحو الأردن، نحو صاحبهم هذا الذى كتب إليكم، والروم يسوقونهم سوقا عنيفا، فتباشروا بذلك وسروا به، ودعوا العلج الذى بعث به إليهم عمرو بن العاص، وقالوا: اذهب بكتابنا هذا إلى صاحبك، وكتبوا معه: أما بعد، فإنك كتبت إلينا تزكى نفسك وتعيبنا، وقول الباطل لا ينفع قائله نفسه ولا يضر عدوه، وقد فهمنا ما دعوتنا إليه، وهؤلاء ملوكنا وأهل ديننا قد جاؤكم، فإن أظهرهم الله عليكم فذلك بلاؤه عندنا فى القديم، وإن ابتلانا بظهوركم، فلعمرى لنقرن، لكم بالصغار، وما نحن إلا كمن ظهرتم عليه من إخواننا، ثم دانوا لكم وأعطوكم ما سألتم.
فقدم الرسول بهذا الكتاب على عمرو، فقال له: ما حبسك؟ فأخبره الخبر، فلم يكن إلا يومه ذلك حتى قدم خالد بن الوليد فى مقدمة أبى عبيدة، فجاء حتى نزل اليرموك، وأقبل عمرو حتى نزل معه.
وقعة اليرموك «2» على نحو ما حكاه أصحاب كتب فتوح الشام
قالوا «3» : ولما اجتمع جمع المسلمين باليرموك استشار أبو عبيدة أهل الرأى من
__________
(1) قنسرين: مدينة بالشام، وهى الجابية، بينها وبين حلب اثنا عشر ميلا. انظر: الروض المعطار (473) .
(2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 118- 123) ، تاريخ الطبرى (3/ 396) .
(3) انظر: تاريخ فتوح الشام (169- 171) .

(2/259)


المسلمين: أين ترون أن نعسكر حتى يقدم مددنا؟ فقال يزيد بن أبى سفيان: أرى أن نسير بمن معنا إلى أيلة، فنقيم بها حتى يقدم علينا المدد. فقال عمرو: ما أيلة إلا كبعض الشام، ولكن سر بنا حتى ننزل الحجر فننتظر المدد، فقال قيس بن هبيرة: لا ردنا الله إذا إليها إن خرجنا لهم عن الشام أكثر مما خرجنا لهم عنه، أتدعون هذه العيون المتفجرة، والأنهار المطردة، والزروع والأعناب، والذهب والفضة والحرير، وترجعون إلى أكل الضباء وليس العباء والبؤس والشقاء وأنتم تعلمون أن من قتل منكم صار إلى الجنة وأصاب نعيما لا يشاكله نعيم، فأين تدعون الجنة وتهربون منها؟ وتزهدون فيها وتأتون الحجر. لا صحب الله من سار إلى الحجر ولا حفظه. فقال له خالد بن الوليد: جزاك الله خيرا يا قيس، فإن رأيك موافق لرأيى.
وفى حديث عن أبى معشر: أن الروم حين جاشت على المسلمين ودنوا منهم دعا أبو عبيدة رؤس المسلمين واستشارهم، فذكر من مشورة يزيد بن أبى سفيان عليه، وعمرو ابن العاص نحوا مما تقدم. قال: وخالد بن الوليد ساكت يسمع ما يقولون، وكان يرحمه الله إذا كانت شدة فإليه وإلى رأيه يفزعون، إذ كان لا يهوله من أمر الروم شىء، ولا يزداد بما يبلغه عنهم إلا جرأة عليهم، فقال له أبو عبيدة: ماذا ترى يا خالد؟ فقال: أرى والله أنا إن كنا إنما نقاتل بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى علينا، وإن كنا إنما نقاتلهم بالله ولله فما أرى أن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعا تغنى عنهم شيئا، ثم غضب، فقال لأبى عبيدة: أتطيعنى أنت فيما آمرك به؟ قال: نعم. قال: فولنى ما وراء بابك، وخلنى والقوم، فإنى والله لأرجو أن ينصرنا الله عليهم، قال: قد فعلت، فولاه ذلك، فكان خالد من أعظم الناس بلاء، وأحسنه غناء وأعظمه بركة، وأيمنه نقيبة، وكانوا أهون عليه من الكلاب.
وعن مالك بن قسامة بن زهير، عن رجل من الروم يدعى جرجة، كان قد أسلم فحسن إسلامه، قال: كنت فى ذلك الجيش الذى بعث قيصر من أنطاكية مع باهان، فأقبلنا ونحن لا يحصى عددنا إلا الله، ولا نرى أن لنا غالبا من الناس، فأخرجنا أوائل العرب من أرض قنسرين ثم أقبلنا فى آثارهم حتى أخرجناهم من حمص، ثم أقبلنا فى آثارهم حتى أخرجناهم من دمشق. قال: ولحق بنا كل من كان على ديننا من النصارى، حتى إن كان الراهب لينزل عن صومعته وقد كان فيها دهرا طويلا من دهره، فيتركها وينزل إلينا ليقاتل معنا غضبا لدينه ومحاماة عليه، وكان من كان من العرب بالشام ممن

(2/260)


كان على طاعة قيصر ثلاثة أصناف، فأما صنف فكانوا على دين العرب، وكانوا معهم، وأما صنف فكانوا نصارى، وكانت لهم فى النصرانية نية، فكانوا معنا، وأما صنف فكانوا نصارى ليس لهم فى النصرانية تلك النية، فقالوا: نكره أن نقاتل أهل ديننا ونكره أن ننصر العجم على قومنا، وأقبلت الروم تتبع أهل الإسلام وقد كانوا هائبين لهم مرعوبين منهم، ولكنهم لما رأوهم قد خلوا لهم البلاد وتركوا لهم ما كانوا افتتحوا جرأهم ذلك عليهم مع عددهم الذى لم يجتمع قط لأحد من قبلهم.
وعن عبد الله بن قرط قال: لما أقبلت الروم من عند ملكهم أخذوا لا يمرون بأرض قد كنا افتتحناها ثم أجلينا لهم عنها إلا أوقعوا بهم ولاموهم وشتموهم وخوفوهم، فيقولون لهم: أنتم أولى باللائمة منا، أنتم وهنتم وعجزتم وتركتمونا وذهبتم، وأتانا قوم لم تكن لنا بهم طاقة، فكانوا يعرفون صدقهم فيكفون عنهم، وأقبلوا يتبعون آثار المسلمين حتى نزلوا بمكان من اليرموك يدعى دير الجبل مما يلى المسلمين، والمسلمون قد جعلوا نساءهم وأولادهم على جبل خلف ظهورهم، فمر قيس بن هبيرة بنسوة من نساء المسلمين مجتمعات، فلما رأينه قامت إليه أميمة بنت أبى بشر بن زيد بن الأطول الأزدية، وكانت تحت عبد الله بن قرط، وكان أشبه خلق الله به فى الحرب، فرسه يشبه فرسه، وباده يشبه باده، وكل شىء منه كذلك، فظنت أنه زوجها، فقالت له: اسمع بنفسى أنت، فعلم قيس أنها شبهته بزوجها، فقال: أظنك شبهتنى بزوجك. فقالت: واسوأتاه وانصرفت، فأقبل قيس عليها، وعلى من كان معها من النساء، فقال لهن: قبح الله امرأة منكن تضطجع لزوجها وهذا عدوه قد نزل بساحته إن لم يقاتل عنها، وإذا أراد ذلك منها فلتتمنع عليه ولتحث فى وجهه التراب، ثم لتقل له: أخرج قاتل عنى، فلست لك بامرأة حتى تمنعنى، فلعمرى ما تقرب النساء على مثل هذه الحال إلا أهل الفسولة والنذالة، ثم مضى. فقالت المرأة: واسوأتاه منه، وإنما ظننت أنه ابن قرط، فإنه لم يتعش البارحة إلا عشاء خفيفا، آثر بعشائه رجلين من إخوانه تعشيا عنده، فكنت هيأت له غداءه، فأردت أن ينزل فيتغذى «1» .
قال ابن قرط: ولما نزل الروم منزلهم الذى نزلوا فيه، دسسنا إليهم رجالا من أهل البلد كانوا نصارى قد أسلموا، فأمرناهم أن يدخلوا عسكرهم فيكتموا إسلامهم ويأتونا بأخبارهم، فكانوا يفعلون ذلك، قال: فلبثوا أياما مقابلينا ثلاثا أو أربعا لا يسألوننا عن شىء ولا نسألهم، ولا يتعرضون لنا ولا نتعرض لهم، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا جلبة
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (172- 174) .

(2/261)


شديدة وأصواتا عالية، فظننا أن القوم يريدون النهوض إلينا، فتهيأنا وتيسرنا، ثم دسسنا إليهم عيونا ليأتونا بالخبر، فما لبثنا إلا قليلا حتى رجعوا إلينا فأخبرونا أن بريدا جاءهم من قبل ملك الروم فبشرهم بمال يقسم بينهم وبمدد يأتيهم، ففرحوا بذلك ورفعوا له أصواتهم، واجتمعوا إلى باهان النائب فيهم عن ملكهم، فقام فيهم فقال: إن الله لم يزل لدينكم هذا معزا وناصرا، وقد جاءكم قوم يريدون أن يفسدوا عليكم دينكم ويغلبوكم على دنياكم، وأنتم عدد الحصى والثرى والذر، والله إن فى هذا الوادى منكم لنحوا من أربعمائة ألف مقاتل سوى أتباعكم وأعوانكم، ومن اجتمع إليكم من سكان بلادكم وممن هو معكم على دينكم، فلا يهولنكم أمر هؤلاء القوم، فإن عددهم قليل، وهم أهل الشقاء والبؤس وجلهم حاسر جائع، وأنتم الملوك، وأهل الحصون والقلاع والعدة والقوة، فلا تبرحوا العرصة حتى تهلكوهم أو تهلكوا أنتم. فقام إليه بطارقتهم فقالوا له:
مرنا بأمرك، ثم انظر ما نصنع. قال: فتيسروا حتى آمركم «1» .
وعن أبى بشر، رجل من تنوخ كان مع باهان، قال: كنت نصرانيا، فنصرت النصارى على العرب، فأقبلت مع الروم، فإذا من نمر به من أهل البلد أحسن شىء ثناء على العرب فى سيرتهم وفى كل شىء من أمرهم، وأقبلت الروم فجعلوا يفسدون فى الأرض ويسيئون السيرة، ويعصون الأمراء، حتى ضج منهم الناس، وشكاهم أهل القرى، فلا تزال جماعة تجىء معها بالجارية قد افتضت، وجماعة يشكون أن أغنامهم ذبحت، وآخرون أنهم خربوا وسلبوا، فلما رأى ذلك باهان، قام فيهم خطيبا فقال: يا معشر أهل هذا الدين، إن حجة الله عليكم عظيمة، إذ بعث إليكم رسولا، وأنزل عليه كتابا، وكان رسولكم لا يريد الدنيا، ويزهدكم فيها، وأمركم أن لا تظلموا أحدا، فإن الله لا يحب الظالمين، وأنتم الآن تظلمون، فما عذركم غدا عند خالقكم وقد تركتم أمره وأمر نبيكم وما أتاكم به من كتاب ربكم؟ وهذا عدوكم قد نزل بكم، يقتل مقاتليكم، ويسبى ذراريكم، وأنتم تعملون بالمعاصى، ولا ترعون منها خشية العقاب، فإن نزع الله سلطانكم من أيديكم وأظهر عليكم عدوكم فمن الظالم إلا أنتم، فاتقوا الله وانزعوا عن ظلم الناس «2» .
فقام إليه رجل من أهل البلد من أهل الذمة يشكو مظلمة، فتكلم بلسانهم، وأنا أفقه كلامهم، فقال: أيها الملك، عشت الدهر ووقيناك بأنفسنا مكروه الأحداث، إنى امرؤ
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (174- 175) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (175- 177) .

(2/262)


من أهل البلد من أهل الذمة وكانت لى غنم أظنها مائة شاة تنقص قليلا، وكان فيها ابن لى يرعاها، فمر به عظيم من عظماء أصحابك، فضرب بناءه إلى جنبها وأخذ حاجته منها، وانتهب بقيتها أصحابه، فجاءته امرأتى تشكو إليه انتهاب أصحابه غنمى، وتقول له: أما ما أخذت أنت لنفسك فهو لك، ولكن ابعث إلى أصحابك يردوا علينا غنمنا، فلما رآها أمر بها فأدخلت بناءه، وطال مكثها عنده، فلما رأى ذلك ابنها دنا من باب البناء فاطلع فيه، فإذا هو بصاحبكم ينكح أمه وهى تبكى، فصاح الغلام، فأمر به فقتل، فأخبرونى ذلك، فأقبلت إلى ابنى، فأمر بعض أصحابه فشد علىّ بالسيف ليضربنى، فاتقيته بيدى فقطعها.
فقال له باهان: فهل تعرفه؟ قال: نعم، قال: وأين هو؟ قال: هو ذا، لعظيم حاضر عنده من عظمائهم، قال: فغضب ذلك العظيم، وغضب له ناس من أصحابه، وكان فيهم ذا شارة وشرف، فأقبل ناس من أصحابه أكثر من مائة، فشدوا على المستعدى فضربوه بأسيافهم حتى مات، ثم رجعوا، وباهان ينظر إلى ما صنعوا، فقال بلسانه: العجب كل العجب، كيف لا تنهد الجبال، وتنفجر البحار، وتتزلزل الأرض، وترعد السماء لهذه الخطيئة التى عملتموها وأنا أنظر، ولأعمالكم العظام التى تعملونها وأنا أرى وأسمع، إن كنتم تؤمنون أن لهؤلاء المستضعفين المظلومين إلها ينصف المظلوم من الظالم فأيقنوا بالقصاص، ومن الآن يعجل لكم الهلاك، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك، فأنتم والله عندى شر من الكلاب، والحمر، ولعمرى إنكم لتعملون أعمال قوم لا يؤمنون، ولقد سخط الله أعمالكم، وليكلنكم إلى أنفسكم، فأما أنا فأشهد الله أنى برىء من أعمالكم، وسترون عاقبة الظلم إلى ما تؤديكم، وإلى أى مصير تصيركم. ثم نزل.
قال التنوخى «1» : وكنا نزلنا بالمسلمين ونحن لهم هائبون، وقد كان بلغنا أن نبيهم صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنكم ستظهرون على الروم، وقد كانوا واقعوا غير مرة، كل ذلك يكون لهم الظفر علينا، غير أنا إذا نظرنا إلى عددنا وجموعنا طابت أنفسنا وظننا أن مثل جمعنا لا يفل، فأقام باهان أياما يراسل من حوله من الروم ويأمرهم أن يحملوا إلى أصحابه الأسواق، فكانوا يفعلون، ولم يكن ذلك يضر المسلمين، لأن الأردن فى أيديهم، فهم مخصبون بخير، فلما رأى باهان أن ذلك لا يضرهم، وأنهم مكتفون بالأردن بعث خيلا عظيمة لتأتيهم من وراءهم وعليها بطريق من بطارقتهم، يريد أن يكبتهم بجنوده من كل جانب، فعلم المسلمون ما يريد، فدعا أبو عبيدة خالد بن الوليد، فبعثه فى ألفى فارس
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (178- 179) .

(2/263)


وألفى راجل، فخرج حتى اعترض العلج، فلما استقبله نزل خالد فى الرجالة، وبعث قيس بن هبيرة فى الخيل، فحمل عليهم قيس، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى هزمهم الله، ومشى خالد فى الرجالة حتى إذا دنا شد برايته، وشد معه المسلمون، فضاربوهم بالسيوف حتى تبددوا، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة.
وقال قيس لرجل من بنى نمير، وقد مر به البطريق يركض: يا أخا بنى نمير، لا يفوتنك البطريق، فإنى والله لقد كددت فرسى على هذا العدو اليوم حتى ما عنده جرى، فحمل عليه النميرى فركض فى أثره ساعة ثم أدركه فلما رآه البطريق قد غشيه وأحرجه عطف عليه، فاضطربا بسيفيهما، فلم يصنع السيفان شيئا، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، فوقعا إلى الأرض، فاعتركا ساعة، ثم صرعه النميرى، فوقع على صدر البطريق، فى ساقيه، فضمه البطريق إليه، وكان مثل الأسد، فلم يستطع النميرى يتحرك، وجاء قيس حتى وقف عليهما، فقال: يا أخا بنى نمير، قتلت الرجل إن شاء الله، قال: لا والله، ما أستطيع أن أتحرك ولا أضربه بشىء، ولقد ضمنى بفخذيه، وأمسك يدى بيديه، فنزل إليه قيس فضربه، فقطع إحدى يديه، ثم تركه وانطلق، وقال للنميرى: شأنك به، وقام النميرى فضربه بسيفه حتى قتله، ومر به خالد بن الوليد، فقال: من قتل هذا؟ فقال له قيس: هذا النميرى قتله، ولم يخبره هو بما صنع.
وفى حديث عبد الله بن قرط: أن معاذ بن جبل ورجالا معه من المسلمين قالوا لأبى عبيدة حين سار من دمشق إلى اليرموك: ألا تكتب إلى أمير المؤمنين تعلمه علم هذه الجيوش التى جاءتنا وتسأله المدد؟ قال: بلى، فكتب إليه:
أما بعد، فإن الروم نفرت إلينا برا وبحرا، ولم يخلفوا وراءهم أحدا يطيق حمل السلاح إلا جاشوا به علينا، وخرجوا معهم بالقسيسين والأساقفة ونزلت إليهم الرهبان من الصوامع فاستجاشوا أهل أرمينية والجزيرة وجاؤنا وهم نحو من أربعمائة ألف رجل، وإنه لما بلغنى ذلك من أمرهم كرهت أن أغر المسلمين من أنفسهم، فكشفت لهم عن الخبر، وصرحت لهم عن الأمر، وسألتهم عن الرأى، فرأى المسلمون أن يتنحوا إلى جانب من أرض الشام، ثم نضم إلينا قواصينا وننتظر المدد، فالعجل العجل علينا يا أمير المؤمنين بالمدد بعد المدد، والرجال بعد الرجال، وإلا فاحتسب نفوس المسلمين إن هم أقاموا، أو دينهم إن هم هربوا، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به، إلا أن يمدهم الله بملائكة أو يأتيهم بغياث من عنده، والسلام عليك «1» .
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (180) .

(2/264)


قال عبد الله بن قرط «1» : وبعثنى بكتابه، فلما قدمت على عمر دعا المهاجرين والأنصار فقرأ عليهم كتاب أبى عبيدة، فبكى المسلمون بكاء شديدا، ورفعوا أيديهم ورغبتهم إلى الله عز وجل، أن ينصرهم، وأن يعافيهم ويدفع عنهم، واشتدت شفقتهم عليهم، وقالوا: يا أمير المؤمنين، ابعثنا إلى إخواننا، وأمر علينا أميرا ترضاه لنا، أو سر أنت بنا إليهم، فو الله إن أصيبوا فما فى العيش خير بعدهم، قال: ولم أر منهم أحدا كان أظهر جزعا ولا أكثر شفقا من عبد الرحمن بن عوف، ولا أكثر قولا لعمر: سر بنا يا أمير المؤمنين، فإنك لو قدمت الشام شد الله قلوب المسلمين، ورعب قلوب الكافرين.
قال: واجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقيم عمر ويبعث المدد، ويكون ردآ للمسلمين. قال: فقال لى عمر رحمه الله: كم كان بين الروم وبين المسلمين يوم خرج؟
فقلت: نحو من ثلاث ليال. فقال عمر: هيهات متى يأتى هؤلاء غياثنا.
ثم كتب معى إلى أبى عبيدة: أما بعد، فقد قدم علينا أخو ثمالة بكتابك، تخبر فيه بنفير الروم إلى المسلمين برا وبحرا، وبما جاشوا به عليكم من أساقفتهم ورهبانهم، وأن ربنا المحمود ذا الصنع العظيم والمن الدائم قد رأى مكان هؤلاء الأساقفة والرهبان حين بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق فنصره بالرعب وأعزه بالنصر، وقال وهو لا يخلف الميعاد: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 9] ، فلا يهولنك كثرة من جاءك منهم فإن الله منهم برىء، ومن برئ الله منه كان قمنا أن لا تنفعه كثرته، وأن يكله الله إلى نفسه ويخذله، ولا يوحشنك قلة المسلمين فى المشركين، فإن الله معك، وليس قليلا من كان الله معه، فأقم بمكانك الذى أنت فيه حتى تلقى عدوك وتناجزهم إن شاء الله، وستظهر بالله عليهم، وكفى بالله ظهيرا ووليا وناصرا.
وقد فهمت مقالتك: احتسب أنفس المسلمين إن أقاموا، أو دينهم إن هم هربوا، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من قبله. وايم الله، لولا استثناؤك هذا لقد كنت أسأت لعمرى، لئن أقام المسلمون وصبروا فأصيبوا، لما عند الله خير للأبرار، ولقد قال الله تعالى فيهم: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] ، فطوبى للشهداء ولمن عقل عن الله ممن معك من المسلمين أسوة بالمصرعين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مواطنه، فما عجز الذين قاتلوا فى سبيل الله ولا هابوا لقاء الموت فى جنب الله ولا وهن الذين بقوا من بعدهم ولا
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح دمشق (181- 184) .

(2/265)


استكانوا لمصيبتهم، ولكن تأسوا بهم وجاهدوا فى سبيل الله من خالفهم وفارق دينهم، ولقد أثنى الله على قوم بصبرهم، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 146] ، فأما ثواب الدنيا فالفتح والغنيمة، وأما ثواب الآخرة، فالمغفرة والجنة.
واقرأ كتابى هذا على الناس، ومرهم فليقاتلوا فى سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
وأما قولك: إنه قد جاءهم ما لا قبل لهم به، فإلا يكن لهم به قبل، فإن لله تعالى بهم قبلا، ولم يزل ربنا عليهم مقتدرا، ولو كنا إنما نقاتل عدونا بحولنا وقوتنا وكثرتنا لهيهات ما قد بدنا وهلكنا، ولكنا نتوكل على الله ربنا، ونفوض إليه أمرنا، ونبرأ إليه من الحول والقوة، ونسأله النصر والرحمة، وإنكم منصورون إن شاء الله على كل حال، فأخلصوا لله نياتكم، وارفعوا إليه رغبتكم، واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، والسلام.
قال عبد الله بن قرط: فدفع إلىّ عمر الكتاب وأمرنى أن أعجل السير، وقال لى: إذا قدمت على المسلمين فسر فى صفهم، وقف على كل صاحب راية منهم، وأخبرهم أنك رسولى إليهم، وقل لهم: إن عمر يقرئكم السلام ويقول: يا أهل الإسلام، اصدقوا وشدوا على أعدائكم شد الليوث، وأعضوا هامهم السيوف، وليكونوا أهون عليكم من الذر، لا تهلكم كثرتهم ولا تستوحشوا لمن لم يلحق بكم منكم.
قال: فركبت راحلتى وأقبلت مسرعا، أتخوف ألا آتى الناس حتى تكون الوقعة، فانتهيت إلى أبى عبيدة يوم قدم عليه سعيد بن عامر بن حذيم الجمحى فى ألف رجل مددا من قبل عمر رضى الله عنه، فسر بمقدمه المسلمون، وشجعهم ذلك على عدوهم، ودفعت إلى أبى عبيدة كتاب عمر، فقرأه على الناس، فاشتد سرورهم برأيه لهم، وبما أمرهم به من الصبر، وما رجا لهم فى ذلك من الأجر.
وكان أبو عبيدة بعث سفيان بن عوف من حمص إلى عمر يستمده حين بلغه أن الروم قد جاشوا واختلفوا فى الاجتماع للمسلمين، فعند ذلك بعث عمر رحمه الله، سعيد بن

(2/266)


عامر بالمدد، وقد كان أبو بكر رضى الله عنه، وجه سعيدا هذا إلى الشام فى جيش، فكان مع أبى عبيدة حتى شهد معه وقعة فحل، ثم أرسله أبو عبيدة إلى عمر بالفتح، فقدم به عليه، ثم حج بعد ورجع إلى المدينة، فلم يزل مقيما بها حتى بعثه عمر بهذا المدد.
قال حسان بن عطية «1» : لما عقد له عمر على من وجهه معه، قال له: يا سعيد، إنى قد وليتك على هذا الجيش، ولست بخير رجل منهم إلا أن تكون أتقى لله منه، فلا تشتم أعراضهم، ولا تضرب أبشارهم، ولا تحقر ضعيفهم، ولا تؤثر قويهم، وكن للحق تابعا، ولا تتبع هواك سادرا، فإنه إن بلغنى عنك ما أحب لم يعدمك منى ما تحب! فقال له سعيد: يا أمير المؤمنين، إنك قد أوصيتنى، فاستمعت منك، فاستمع منى أوصك. قال:
هات، فقد آتاك الله علما يا سعيد، قال: يا أمير المؤمنين، خف الله فى الناس، ولا تخف الناس فى الله، واحبب لقريب الناس وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، والزم الأمر ذا الحجة يكفك الله ما أهمك ويعنك على ما أمرك وما ولك، ولا تقضين فى أمر واحد بقضائين فيختلف قولك وفعلك، ويلتبس الحق بالباطل، ويشتبه عليك الأمر، فتزيغ عن الحق، وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته، ولا يأخذك فى الله لومة لائم.
قال: فأكب عمر طويلا وفى يده عصا له وهو واضع جبهته عليها، ثم رفع رأسه ودموعه تسيل، فقال: لله أبوك يا سعيد، ومن يستطيع هذا الذى تذكر؟ قال: من طوق ما طوقت، وحمل ما حملت من هذا الأمر، وإنما عليك أن تأمر فتطاع، أو تعصى فتبوء بالحجة، ويبوء بالمعصية.
وعن الحارث بن عبد الله الأزدى، قال «2» : لما نزل أبو عبيدة اليرموك وضم إليه قواصيه وجاءتنا جموع الروم يجرون الشوك والشجر، ومعهم القسيسون والرهبان والأساقفة، يقصون عليهم ويحرضونهم، خافهم المسلمون، فما كان شىء أحب إليهم من أن يخرجوا لهم ويتنحوا عن بلادهم حتى يأتيهم مدد، يرون أنهم يقوون به على من جاءهم من الروم، فاستشار أبو عبيدة الناس، فكلهم أشار عليه بالخروج من الشام، إلا خالد بن الوليد، فإنه أشار عليه بالمقام، وقال له: خلنى والناس ودعنى والأمر وولنى ما وراء بابك فأنا أكفيك بإذن الله أمر هذا العدو، فقال له أبو عبيدة: شأنك بالناس،
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (186- 187) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (187- 199) .

(2/267)


فخلاه وإياهم، قال: وكان قيس بن هبيرة على مثل رأى خالد، ولم يكن فى المسلمين أحد يعدلهما فى الحرب وشدة البأس. قال: فخرج خالد فى الناس وهم أحسن شىء دعة ورعة وهيئة، وأشدهم فى لقاء عدوهم بصيرة، وأطيبهم أنفسا، فصفهم خالد ثلاثة صفوف، وجعل ميمنة وميسرة، ثم أتى أبا عبيدة. قال: من كنت تجعل على ميمنتك؟
قال: معاذ بن جبل، قال: أهل ذلك هو الرضى الثقة، فولها إياه، فأمر أبو عبيدة معاذا فوقف فى الميمنة، ثم قال: من كنت تول الميسرة؟ قال: غير واحد، قال: فولها إن رأيت قباث بن أشيم، فأمره أبو عبيدة فوقف فى الميسرة، وكان فيها كنانة وقيس، وكان قباث كنانيا، وكان شجاعا بئسا. قال خالد: وأنا على الخيل، وول على الرجالة من شئت، قال: أوليها إن شاء الله من لا يخاف نكوله ولا صدوده عند البأس، أوليها هاشم بن عتبة ابن أبى وقاص، قال: أصبت ووفقت ورشدت. قال أبو عبيدة: انزل يا هاشم، فأنت على الرجالة وأنا معك، وقال خالد لأبى عبيدة: أرسل إلى أهل كل راية فمرهم أن يطيعونى، فدعا أبو عبيدة الضحاك بن قيس، فأمره بذلك، فخرج الضحاك يسير فى الناس ويقول لهم: إن أميركم أبا عبيدة يأمركم بطاعة خالد بن الوليد فيما أمركم به.
فقال الناس: سمعنا وأطعنا، وقال ذلك أيضا معاذ بن جبل لما أنهى إليه الضحاك أمر أبى عبيدة، ثم نظر معاذ إلى الناس فقال: أما إنكم إن أطعتموه لتطيعن مبارك الأمر ميمون النقيبة عظيم الغناء حسن الحسبة والنية، قال الضحاك: فحدثت خالدا بذلك، فقال:
رحم الله أخى معاذا، أما والله إن أحبنى إنى لأحبه فى الله، لقد سبقت له ولأصحابه بسوابق لا ندركها فهنيئا ما خصهم الله به من ذلك. قال الضحاك: فأخبرت معاذا بما رد علىّ خالد، فقال: إنى لأرجو أن يكون الله قد أعطاه بصيرة على جهاد المشركين، وشدة عليهم مع بصيرته وحسن نيته فى إعزاز دينه أحسن الثواب، وأن يكون من أفضلنا بذلك عملا، فقال خالد، وقد لقيته بذلك: ما شىء على الله بعزيز.
قال: ثم إن خالدا سار فى الصفوف، يقف على أهل كل راية، ويقول: يا أهل الإسلام، إن الصبر عز وإن الفشل عجز، وإن مع الصبر تنصرون، والصابرون هم الأعلون، وما زال يقف على أهل كل راية يعظهم ويحضهم، ويرغبهم حتى مر بجماعة الناس، ثم إنه جمع إليه خيل المسلمين، ودعا قيس بن هبيرة، وكان يساعده ويوافقه ويشبهه فى جلده وشدته وشجاعته وإقدامه على المشركين، فقال له خالد: أنت فارس العرب، ولقل من حضر اليوم يعدلك عندى، فاخرج معى فى هذه الخيل، وبعث إلى ميسرة بن مسروق العبسى، وكان من أشراف العرب وفرسانهم، وإلى عمرو بن الطفيل

(2/268)


ذى النور بن عمرو الدوسى، فخرجوا معه، ثم قسموا الخيل أرباعا، فبعث كل رجل منهم على ربع، وخرج خالد فى ربع منها حتى دنوا من عسكر الروم الأعظم الذى فيه باهان، فلما رأتهم الروم فزعوا لمجيئهم، وقد كانوا أخبروا أن العرب تريد الانصراف عن أرض الشام ويخلونهم وإياها، فكان ذلك قد وقع فى نفوسهم وطمعوا به، ورجوا أن لا يكون بينهم قتال، وصدق ذلك عندهم خروجهم من بين أيديهم يسوقونهم، وهم يدعون لهم الأرض والمدائن التى كانوا قد غلبوا عليها، فلما رأوا خالدا قد أقبل إليهم فى الخيل فزعهم ذلك وخرجوا على راياتهم بصلبهم، والقسيسون والرهبان والبطارقة معهم، فصفوا عشرين صفا لا ترى أطرافها، ثم أخرجوا إلى المسلمين خيلا عظيمة تكون أضعاف المسلمين مضاعفة، فلما دنت خيلهم من خيل المسلمين خرج بطريق من بطارقتهم يسأل المبارزة، ويتعرض لخيل المسلمين، فقال خالد: أما لهذا رجل يخرج إليه، ليخرجن إليه بعضكم أو لأخرجن إليه، فنفلت إليه عدة من المسلمين ليخرجوا إليه، وأراد ميسرة بن مسروق ذلك، فقال له خالد: أنت شيخ كبير وهذا الرومى شاب ولا أحب أن تخرج إليه، فإنه لا يكاد الشيخ الكبير يقوى على الشاب الحديث السن، فقف لنا يرحمك الله فى كتيبتك، فإنك ما علمت حسن البلاء عظيم الغناء، وأراد عمرو بن الطفيل الخروج إليه، فقال له خالد: يا ابن أخى أنت غلام حدث، وأخاف أن لا تقوى عليه، قال الحارث بن عبد الله: وكنت فى خيل خالد التى خرجت معه، فقلت: أنا أخرج إليه، فقال: ما شئت، قال:، فلما ذهبت لأخرج قال لى: هل بارزت رجلا قط قبله؟ قلت: لا، قال: فلا تخرج إليه، فقال قيس بن هبيرة: كأنك يا خالد علىّ تحوم؟
قال: أجل، وإنى أرجو إن خرجت إليه أن تقتله، وإن أنت لم تخرج إليه لأخرجن إليه أنا، قال قيس: بل أنا أخرج إليه، فخرج وهو يقول:
سائل نساء الحى فى حجلاتها ... ألست يوم الحرب من أبطالها
ومقعص «1» الأقران من رجالها
فخرج إليه، فلما دنا منه ضرب فرسه، ثم حمل عليه فما هلل أن ضربه بالسيف على هامته فقطع ما عليها من السلاح، وفلق هامته، فإذا الرومى بين يدى فرسه قتيلا، وكبر المسلمون فقال خالد: ما بعد ما ترون إلا الفتح، احمل عليهم يا قيس، ثم أقبل خالد على أصحابه فقال: احملوا عليهم، فو الله لا يفلحون وأولهم فارسا متغفرا فى التراب، قال:
فحملنا عليهم وعلى من يلينا منهم ومن خيلهم، وهى مستقدمة أمام صفوفهم وصفوفهم
__________
(1) مقعص: القعص هو القتل المعجل، وضربه فأقعصه: أماته مكانه. انظر: اللسان (3693) .

(2/269)


كأنها أعراض الجبال، فكشفنا خيلهم حتى لحقت بالصفوف، وحمل خالد وأصحابه على من يليه منهم، فكشفوهم حتى ألحقوهم بالصفوف، وحمل عمرو بن الطفيل وميسرة بن مسروق فى أصحابهما حتى ألحقوهم بالصفوف، ثم إن خالدا أمر خيله فانصرفت عنهم ثم أقبل بها حتى لحق بجماعة المسلمين وقد أراهم الله السرور فى المشركين.
قال: وتلاومت بطارقة الروم، وقال بعضهم لبعض: جاءتكم خيل لعدوكم ليست بالكثيرة فكشفت خيولكم من كل جانب، فأقبلت منهم كتائب فى أثر كتائب، فطيفوا الأرض مثل الليل والسيل، كأنها الجراد السود، وظن المسلمون أنهم يخالطونهم، والمسلمون جراء عليهم سراع إليهم، فأقبلوا حتى إذا دنوا من جماعة المسلمين وقفوا ساعة وقد هابوا المسلمين وامتلأت صدورهم خوفا منهم، فقال خالد للناس: قد رجعنا عنهم ولنا الظفر عليهم، فاثبتوا لهم ساعة، فإن أقدموا علينا قاتلناهم، وإن رجعوا عنا كان لنا الظفر والفضل عليهم، فأخذوا يقتربون ثم يرجعون، والمسلمون فى مصافهم وتحت راياتهم سكوت لا يتكلم رجل منهم كلمة إلا أن يدعو الله فى نفسه ويستنصره على عدوه، فلما نظرت الروم إلى خيل المسلمين ورجالتهم ومصافهم وحدهم وجدهم وصبرهم وسكونهم ألقى الله عز وجل، الرعب فى قلوبهم منهم، فواقفوهم ساعة ثم انصرفوا راجعين عنهم إلى عسكرهم، فاجتمعت بطارقتهم وعظماؤهم إلى باهان وهو أصبر جماعتهم.
فقال لهم باهان: إنى قد رأيت رأيا وأنا ذاكره لكم، إن هؤلاء القوم قد نزلوا بلادكم وركبوا من مراكبكم وطعموا من طعامكم ولبسوا من ثيابكم، فعدل الموت عندهم أن يفارقوا ما تطعموه من عيشكم الرفيع ودنياكم التى لم يروا مثلها قط، وقد رأيت أن أسألهم إن رأيتم ذلك أن يبعثوا إلينا رجلا منهم له عقل فنناطقه ونشافهه ونطمعهم فى شىء يرجعون به إلى أهاليهم، لعل ذلك يسخى بأنفسهم عن بلادنا، فإن هم فعلوا ذلك كان الذى يريدون منا قليلا فيما نخاف وندفع به خطر الوقعة التى لا ندرى أعلينا تكون أم لنا، فقالوا له: قد أصبت وأحسنت النظر لجماعتنا، فاعمل برأيك.
فبعث رجلا من خيارهم وعظمائهم يقال له جرجة إلى أبى عبيدة، فقال له: إنى رسول باهان عامل ملك الروم على الشام، وعلى هذه الجنود، وهو يقول لك: أرسل إلىّ الرجل الذى كان قبلك أميرا فإنه ذكر لى أنه رجل ذو عقل وله فيكم حسب، وقد سمعنا أن عقول ذوى الأحساب أفضل من عقول غيرهم، فنخبره بما نريد ونسأله عما تريدون، فإن وقع فيما بيننا وبينكم أمر لنا ولكم فيه صلاح أو رضى أخذنا به وحمدنا الله عليه، وإن لم يتفق ذلك كان القتال من ورائنا هنالك.

(2/270)


فدعا أبو عبيدة خالدا فأخبره بالذى جاء فيه الرومى، وقال لخالد: القهم فادعهم إلى الإسلام، فإن قبلوا فهو حظهم، وكانوا قوما لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإن أبوا فاعرض عليهم الجزية، أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا فأعلمهم أنا نناجزهم ونستعين الله عليهم، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
قال: وجاء رسولهم هذا الرومى، عند غروب الشمس فلم يمكث إلا يسيرا حتى حضرت الصلاة فقام المسلمون يصلون صلاتهم، فلما قضوها قال ذلك الرومى: هذا الليل قد غشينا، ولكن إذا أصبحت غدوت إلى صاحبنا إن شاء الله، وجعل ينظر إلى رجال من المسلمين يصلون وهم يدعون الله ويتضرعون إليه، وجعل ما يفيق وما يصرف بصره عنهم، فقال عمرو: إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون، فقال أبو عبيدة: كلا والله، إنى لأرجو أن يكون الله قد قذف فى قلبه الإيمان وحببه إليه، وعرفه فضله، أو ما تنظر إلى نظره إلى المصلين؟ ولبث الرومى بذلك قليلا ثم أقبل على أبى عبيدة، فقال: أيها الرجل، أخبرنى متى دخلتم فى هذا الدين؟ ومتى دعوتم الناس إليه؟.
فقال أبو عبيدة: دعينا إليه منذ بضع وعشرين سنة، فمنا من أسلم حين أتاه الرسول، ومنا من أسلم بعد ذلك، فقال: هل كان رسولكم أخبركم أنه يأتى من بعده رسول؟
قال: لا، ولكنه أخبرنا أنه لا نبىّ بعده، وأخبرنا أن عيسى ابن مريم قد بشر به قومه، قال الرومى: وأنا على ذلك من الشاهدين، إن عيسى ابن مريم قد بشرنا براكب الجمل، وما أظنه إلا صاحبكم. ثم قال: أخبرنى عن قول صاحبكم فى عيسى، فقال له أبو عبيدة: قول صاحبنا فيه قول الله تعالى فيه، وهو أصدق القائلين وأبرهم، قال الله تعالى:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ، وقال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ إلى قوله: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النساء:
171، 172] .
فلما فسر له الترجمان ذلك وبلغ هذا المكان قال: أشهد أن هذه صفة عيسى، وأشهد أن نبيكم صادق، وأنه الذى بشر به عيسى، وأنكم قوم صدق، وقال لأبى عبيدة: ادع لى رجلين من أول أصحابك إسلاما، وهما فيما ترى أفضل من معك، فدعا أبو عبيدة، معاذ بن جبل وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فقال له: هذان من أفضل المسلمين فضلا، ومن أولهم إسلاما، فقال لهما الرومى ولأبى عبيدة: أتضمنون لى الجنة إن أنا

(2/271)


أسلمت وجاهدت معكم؟ فقالوا له: نعم، إن أنت أسلمت واستقمت ولم تغير حتى تموت وأنت على ذلك فإنك من أهل الجنة، قال: فإنى أشهدكم أنى من المسلمين، فأسلم وفرح المسلمون بإسلامه، وصافحوه ودعوا له بخير، وقالوا له: إنا إن أرسلنا رسولنا إلى صاحبكم وأنت عندنا ظنوا أنا حبسناك عنهم، فنتخوف أن يحبسوا صاحبنا، فإن شئت أن تأتيهم الليلة وتكتم إسلامك حتى نبعث إليهم رسولنا غدا وننظر علام ينصرم الأمر بيننا وبينهم، فإذا رجع رسولنا إلينا أتيتنا عند ذلك، فما أعزك علينا وأرغبنا فيك وأكرمك علينا، وما أنت الآن عند كل امرئ منا إلا بمنزلة أخيه لأبيه وأمه. قال: فإنكم نعم ما رأيتم، فخرج فبات فى أصحابه، وقال لباهان: غدا يجيئكم رسول القوم الذى سألتم، وانصرف إلى المسلمين لما رجع إليهم خالد، فأسلم وحسن إسلامه.
ولما أصبح المسلمون من تلك الليلة بعث خالد بن الوليد بقية له حمراء من أدم كان اشتراها بثلاثمائة دينار، فضربت له فى عسكر الروم، ثم خرج حتى أتاها، فأقام فيها ساعة، وكان خالد رجلا طويلا جميلا جليدا مهيبا لا ينظر إليه رجل إلا ملأ صدره وعرف أنه من جلداء الرجال وشجعانهم، وأشدائهم، وبعث باهان إلى خالد وهو فى قبته: أن القنى، وصف له فى طريقه عشرة صفوف عن يمينه، وعشرة صفوف عن شماله، مقنعين فى الحديد، عليهم الدروع والبيض والسواعد والجواشن والسيوف، لا يرى منهم إلا الحدق، وصف من وراء تلك الصفوف خيلا عظيمة، وإنما أراد أن يريه عدد الروم وعدتهم ليرعبه بذلك، وليكون أسرع له إلى ما يريد أن يعرض عليه، فأقبل خالد غير مكترث لما رأى من هيئاتهم وجماعتهم، ولكانوا أهون عليه من الكلاب، فلما دنا من باهان رحب به، ثم قال بلسانه: هاهنا عندى، اجلس معى فإنك من ذوى أحساب العرب فيما ذكر لى، ومن شجعانهم، ونحن نحب الشجاع ذا الحسب، وقد ذكر لى أن لك عقلا ووفاء، والعاقل ينفعك كلامه، والوفى يصدق قوله ويوثق بعهده، وأجلس فيما بينه وبين خالد ترجمانا له يفسر لخالد ما يقول، وخالد جالس إلى جنبه.
قال الحارث بن عبد الله الأزدى: قال لى خالد يوم غدا إلى عسكر الروم: اخرج معى، وكنت صديقا له قل ما أفارقه وكان يستشيرنى فى الأمر إذا نزل به، فكنت أشير عليه بمبلغ رأيى، فكان يقول لى: إنك ما علمت لميمون الرأى ولقل ما أشرت علىّ بمشورة إلا وجدت عاقبتها تؤدى إلى سلامة، فخرجت يومئذ معه، حتى إذا دخلنا عسكرهم وضربت قبته وبعث إليه باهان ليلقاه قال لى: انطلق معى، فقلت له: إن القوم إنما أرادوك ولا أراهم يدعوننى أدنو إليهم معك، فقال لى: امضه، فمضيت معه، فلما

(2/272)


دنونا من باهان وعلى رأسه ألوف رجال بعضهم خلف بعض وحوله، لا يرى منهم إلا أعينهم، وفى أيديهم العمد، جاءنا الترجمان فقال: أيكما خالد؟ فقال خالد: أنا، فقال:
أقبل أنت وليرجع هذا، فقام خالد وقال: هذا رجل من أصحابى ولست استغنى عن رأيه، فرجع إلى باهان فأخبره، فقال: دعوه فليأت معه، فأقبلنا نحوه، فلم يمش إلا خطا خمسا أو ستا حتى جاء نحو من عشرة، فقالوا لى: ضع سيفك، ولم يقولوا لخالد شيئا، فنظرت ما يقول لى خالد، فقال لهم: ما كان ليضع عزه من عنقه أبدا، وقد بعثتم إلينا فأتيناكم، فإن تكرمونا جلسنا إليكم وسمعنا منكم، وإن أبيتم فخلوا سبيلنا فننصرف عنكم، فرجع الترجمان إلى باهان فأخبره، فقال: دعوهما، فأقبلنا إليه، فرحب بخالد وأجلسه معه، وجلست أنا على نمارق مطروحة للناس قريبا منهما، وحيث أسمع كلامهما، فقال باهان لخالد: إنك من ذوى أحساب العرب، فيما ذكر لى، ومن شجعانهم، وقد ذكر لى أن لك عقلا ووفاء، والعاقل ينفعك كلامه، والوفى يصدق قوله يوثق بعهده.
فلما فسر له الترجمان ذلك قال خالد: إن نبينا صلى الله عليه وسلم قال لنا: إن حسب المرء دينه، ومن لم يكن له دين فلا حسب له، وقال لنا: إن أفضل الشجاعة وخيرها فى العاجلة والعاقبة ما كان منها فى طاعة الله، وأما ما ذكرت أنى أوتيت عقلا ووفاء، فإن أكن أوتيت ذلك فلله المن والفضل علينا، وهو المحمود عندنا، وقد قال لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: إن الله لما خلق العقل وفرغ من خلقه، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: وعزتى ما خلقت من خلقى شيئا هو أحب إلىّ منك، بك أحمد، وبك أعبد، وبك أعرف، وبك تنال طاعتى، وبك تدخل جنتى، ثم قال خالد: والوفاء لا يكون إلا من العقل، فمن لم يكن له عقل فلا وفاء له، ومن لا وفاء له لا عقل له. فقال له باهان: أنت أعقل أهل الأرض، ما يتكلم بكلامك ولا يبصره ولا يفطن له إلا الفائق من الرجال، ثم قال لخالد:
أخبرنى عنك، وأنت هكذا تحتاج إلى مشورة هذا الرجل؟ فقال له خالد: وأعجب من ذلك أن فى عسكرنا أكثر من ألف رجل كلهم لا يستغنى عن رأيه ولا عن مشورته، فقال باهان: ما كنا نظن ذلك عندكم، ولا نراكم به، فقال له خالد: ما كل ما تظنون ونظن يكون صوابا، فقال باهان: صدقت، ثم قال له: إن أول ما أكلمك به أنى أدعوك إلى خلتى ومصافاتى، فقال له خالد: كيف لى ولك أن يتم هذا فيما بينى وبينك وقد جمعتنى وإياك بلدة لا أريد أنا ولا تريد أنت أن نفترق حتى تصير البلدة لأحدنا، فقال له باهان: فلعل الله أن يصلح بيننا وبينك فلا يهراق دم ولا يقتل قتيل، قال خالد: إن شاء

(2/273)


الله فعل، قال باهان: فإنى أريد أن ألقى الحشمة فيما بينى وبينك وأكلمك كلام الأخ أخاه، إن قبتك هذه الحمراء قد أعجبتنى فأنا أحب أن تهبها لى، فإنى لم أر قبة من القباب أحسن منها، فخذ ما بدا لك فيها وسلنى ما أحببت فهو فى يدك، فقال له خالد:
خذها فهى لك، ولست أريد من متاعك شيئا، قال: والله ما ظننته سألها إلا لينظر إليها، فإذا هو قد أخذها، ثم قال لخالد: إن شئت بدأتك فتكلمت، وإن شئت أنت فتكلم، فقال له خالد: ما أبالى أى ذلك كان، أما أنا فلا أخالك إلا وقد بلغك وعلمت ما أسأل وأطلب، وما أدعو إليه، وقد جاءك بذلك أصحابك ومن لقينا منهم بأجنادين ومرج الصفر وفحل ومدائنكم وحصونكم، وأما أنت فلست أدرى ما تريد أن تقول، فإن شئت فتكلم، وإن شئت بدأتك فتكلمت، فقال باهان:
الحمد لله الذى جعل نبينا أفضل الأنبياء، وملكنا أفضل الملوك، وأمتنا أفضل الأمم، فلما بلغ هذا المكان، قال خالد وقطع على باهان منطقه: والحمد لله الذى جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم، وبجميع الأنبياء، وجعل الأمير الذى وليناه أمورنا رجلا كبعضنا، فلو زعم أنه ملك علينا لعزلناه عنا، ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلا إلا أن يكون أتقى منه عند الله، وأبر، والحمد لله الذى جعل أمتنا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقر بالذنب وتستغفر منه، وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا، قل الآن ما بدا لك.
فاصفر وجه باهان وسكت قليلا، ثم قال: الحمد لله الذى أبلانا فأحسن البلاء عندنا فأغنانا من الفقر، ونصرنا على الأمم، وأعزنا فلا نذل، ومنعنا من الضيم فلا تباح حرمتنا، ولسنا فيما أعزنا الله به وأعطانا من ديننا ببطرين ولا مرحين، ولا باغين على الناس، وقد كانت لنا منكم يا معشر العرب جيران كنا نحسن جوارهم، ونعظم رفدهم، ونفضل عليهم، ونفى لهم بالعهد، وخيرناهم بلادنا، ينزلون منها حيث شاؤا، فينزلون آمنين، ويرحلون آمنين، وكنا نرى أن جميع العرب ممن لا يجاورنا سيشكرون لنا ذلك الذى آتينا إلى إخوانهم، وما اصطنعنا عندهم فلم يرعنا منهم إلا وقد فاجأتمونا بالخيل والرجال، تقاتلوننا على حصوننا، وتريدون أن تغلبونا على بلادنا، وقد طلب هذا منا قبلكم من كان أكثر منكم عددا وأعظم مكيدة وأقوى جدا، فلم يرجعوا عنا إلا وهم بين أسير وقتيل، وأرادت ذلك منا فارس، فقد بلغكم كيف صنع الله بهم، وأراد ذلك منا الترك فلقيناهم بأشد مما لقينا به فارس، وأرادنا غيرهم من أهل المشرق والمغرب، من ذوى المنعة والعز والجنود العظيمة، فكلهم أظفرنا الله بهم، وصنع لنا عليهم، ولم تكن أمة من الأمم بأدق عندنا منكم شأنا ولا أصغر أخطارا، إنما جلكم رعاء الشاء والإبل

(2/274)


وأهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء، أفأنتم تطمعون أن نتخلى لكم عن بلادنا، بئس ما طمعتم فيه منا، وقد ظننا أنه لم يأت بكم إلى بلادنا ونحن ننفى كل من حولنا من الأمم العظيمة الشأن الكثيرة العدد إلا جهد نزل بكم من جدوبة الأرض وقحط المطر، فعثتم فى بلادنا وأفسدتم كل الفساد، وقد ركبتم مراكبنا، وليست كمراكبكم، ولبستم ثيابنا، وليست كثيابكم، وطعمتم من طعامنا وليس كطعامكم، وأصبتم منا وملأتم أيديكم من الذهب الأحمر والفضة البيضاء، والمتاع الفاخر، ولقد لقيناكم الآن وذلك كله لنا، وهو فى أيديكم، فنحن نسلمه لكم، فاخرجوا به وانصرفوا عن بلادنا، فإن أبت أنفسكم إلا أن تخرجوا وتشرهوا وأردتم أن نزيدكم من بيوت أموالنا ما نقوى به الضعيف منكم، ويرى الغائب أن قد رجع إلى أهله بخير فعلنا، ونأمر للأمير منكم بعشرة آلاف دينار ونأمر لك بمثلها، ونأمر لرؤسائكم بألف دينار ألف دينار، ونأمر لجميع أصحابك لكل واحد منهم بمائة دينار، على أن تحلفوا لنا بالأيمان المغلظة أن لا تعودا إلى بلادنا، ثم سكت.
فقال خالد: الحمد لله الذى لا إله إلا هو، فلما فسر ذلك الترجمان، رفع باهان يديه إلى السماء، ثم أشار إليه بيده، وقال لخالد: نعم ما قلت، قال خالد: وأشهد أن محمدا رسول الله، فلما فسرها الترجمان قال باهان: الله أعلم، ما أدرى لعله كما تقول، ثم قال خالد: أما بعد، فإن كل ما ذكرت به قومك من الغنى والعز ومنع الحريم والظفر على الأعداء والتمكن فى البلاد نحن به عارفون، وكل ما ذكرت من إنعامكم على جيرانكم منا فقد عرفناه، وذلك لأمر كنتم تصلحون به دنياكم زيادة فى ملككم وعزا لكم ألا ترون أن ثلثيهم أو شطرهم قد دخلوا فى دينكم وهم يقاتلوننا معكم، وأما ما ذكرتنا به من رعى الإبل والغنم، فما أقل ما رأيت واحدا منا يكرهه، وما لمن يكرهه منا فضل على من يفعله، وأما قولك: إنا أهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء، فحالنا والله كما وصفته وما ننتفى من ذلك ولا نتبرأ منه، وكنا على أسوأ وأشد مما ذكرت، وسأقص عليك قصتنا وأعرض عليك أمرنا وأدعوك إلى حظك إن قبلت، ألا إنا كنا معشر العرب أمة من هذه الأمم، أنزلنا الله وله الحمد منزلا من الأرض ليست به أنهار جارية ولا يكون فيه من الزرع إلا القليل، وجل أرضنا المهامة والقفار، وكنا أهل الحجر ومدر وشاة وبعير وعيش شديد وبلاء دائم لازم، نقطع أرحامنا، ونقتل خشية الإملاق أولادنا، ويأكل قوينا ضعيفنا، وكثيرنا قليلنا، ولا تأمن قبيلة منا قبيلة إلا أربعة أشهر من السنة، نعبد من دون الله أوثانا وأصناما ننحتها بأيدينا من الحجارة التى نختارها على أعيننا،

(2/275)


وهى لا تضر ولا تنفع، ونحن عليها مكبون، فبينا نحن كذلك على شفا حفرة من النار، من مات منا مات مشركا وسار إلى النار، ومن بقى منا بقى مشركا كافرا بربه قاطعا لرحمه، إذ بعث الله فينا رسولا من صميمنا وخيارنا دعانا إلى الله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع الأنداد التى يعبدها المشركون.
وقال لنا: لا تتخذوا من دون ربكم إلها، ولا وليا، ولا نصيرا، ولا تجعلوا معه صاحبة ولا ولدا، ولا تعبدوا من دونه نارا ولا حجرا ولا شمسا ولا قمرا، واكتفوا به ربا وإلها من كل شىء دونه، وكونوا أولياءه، وإليه فارغبوا، وإياه فادعوا، وقال لنا: قاتلوا من اتخذ مع الله آلهة أخرى، وكل من زعم أن لله ولدا، وأنه ثانى اثنين أو ثالث ثلاثة حتى يقولوا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويدخلوا فى الإسلام، فإن فعلوا حرمت عليكم دماؤهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها، وهم إخوانكم فى الدين، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فإن هم أبوا أن يدخلوا فى دينكم وأقاموا على دينهم فاعرضوا عليهم الجزية أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون، فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم، فإن أبوا فقاتلوهم، فإنه من قتل منكم كان شهيدا حيا عند الله، مرزوقا، وأدخله الله الجنة، ومن قتل من عدوكم قتل كافرا وصار إلى النار مخلدا فيها أبدا.
ثم قال خالد: وهذا والله الذى لا إله إلا هو هو الذى أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فعلمناه، وأمرنا به، وأمرنا أن ندعو الناس إليه، ونحن ندعوكم إلى الإسلام وإلى أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وإلى أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتقروا بما جاء به من عند الله، فإن فعلتم فأنتم إخواننا فى الدين، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، فإن أبيتم فإنا نعرض عليكم أن تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فإن فعلتم قبلنا منكم وكففنا عنكم، وإن أبيتم أن تفعلوا فقد والله جاءكم قوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة، فاخرجوا بنا على اسم الله حتى نحاكمكم إلى الله، فإنما الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، ثم سكت خالد، فقال باهان: أما أن ندخل فى دينكم فما أبعد من ترى من الناس أن يترك دينه ويدخل فى دينكم، وإما أن نؤدى الجزية، ثم تنفس الصعداء، وثقلت عليه وعظمت عنده، فسيموت من ترى جميعا قبل أن يؤدوا الجزية إلى أحد من الناس، وهم يأخذون الجزية ولا يعطونها، وأما قولك: فاخرجوا حتى يحكم الله بيننا، فلعمرى ما جاءك هؤلاء القوم وهذه الجموع إلا ليحاكموك إلى الله، وأما قولك: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فصدقت والله، ما كانت هذه الأرض التى نقاتلكم عليها وتقاتلوننا إلا لأمة من

(2/276)


الأمم كانوا قبلنا فيها، فقاتلناهم عليها فأخرجناهم منها، وقد كانت قبل ذلك لقوم آخرين فأخرجهم منها هؤلاء الذين كنا قاتلناهم عليها، فابرزوا على اسم الله، فإنا خارجون إليكم.
قال الحارث: فلما فرغ باهان من كلامه وثب خالد فقام، وقمت معه، فمر بقبته فتركها، وبعث معنا صاحب الروم رجالا حتى أخرجونا من عسكرهم وأمنا، فرجعنا إلى أبى عبيدة، فقص عليهم خالد الخبر، وأخبرهم بأن القتال سيقع بينهم، وقال للناس:
استعدوا أيها الناس استعداد قوم يرون أنهم عن ساعة مقاتلون.
وحدث «1» أبو جهضم الأزدى، عن رجل من الروم كان مع باهان فى عسكرهم ذلك وأسلم بعد فحسن إسلامه، قال: كتب باهان إلى قيصر كتابا يخبره فيه بخالد وحال أصحابه وحال المسلمين، وكان قد جمع أصحابه يوم انصرف عنهم خالد، فقال: أشيروا علىّ برأيكم فى أمر هؤلاء القوم فإنى قد هيبتهم فما أراهم يهابون، وأطمعتهم فليس يطمعون، وأردتهم على الرجوع والخروج عن بلادنا بكل وجه فليسوا براجعين، والقوم ليس يريدون إلا هلاككم واستئصالكم وسلب سلطانكم، وأكل بلادكم، وسبى أولادكم ونسائكم، وأخذ أموالكم، فإن كنتم أحرارا فقاتلوا عن سلطانكم، وامنعوا حريمكم ونساءكم وأموالكم وبلادكم وأولادكم، فقامت البطارقة رجلا بعد رجل فكلهم يخبره أنه طيب النفس بالموت دون بلاده وسلطانه، وقالوا له: إذا شئت فانهض بنا فقال لهم: فكيف ترون، نقاتلهم فإنا أكثر من عشرة أضعافهم، نحن نحو من أربعمائة ألف، وهم نحو من ثلاثين ألفا أو أقل أو أكثر.
فقال بعضهم: أخرج إليهم فى كل يوم مائة ألف يقاتلونهم وتستريح البقية، وتسرح عيالنا وأثقالنا إلى البحر، فلا يكون معنا شىء يهمنا ولا يشغلنا، ويقاتلهم كل يوم منا مائة ألف، فهم فى كل يوم فى قتل وجراحة وعناء ومشقة وشدة، ونحن لا نقاتل إلا فى كل أربعة أيام يوما فإن هم هزموا منا فى كل يوم مائة ألف بقى لهم أكثر من مائتى ألف لم ينهزموا، فقال آخرون: لا، ولكنا نرى إذا هم خرجوا إلينا أن نبعث إلى كل رجل منهم عشرة من أصحابك، فلا والله لا يجتمع عشرة على واحد إلا غلبوه، فقال باهان: هذا ما لا يكون، وكيف أقدر على عددهم حتى أبعث إلى كل رجل منهم عشرة من أصحابى، وكيف أقدر أن ينفرد الرجل منهم عن صاحبه حتى أبعث إليه عشرة من قبلى، هذا ما لا يكون.
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (207) .

(2/277)


قال: فأجمعوا رأيهم جميعا على أن يخرجوا بأجمعهم خرجة واحدة فيناجزوهم فيها ولا يرجعوا عنهم حتى يحكم الله بينهم.
وكتب باهان إلى قيصر: أما بعد، نسأل الله لك أيها الملك ولجندك وأهل مملكتك النصر ولدينك وسلطانك العز، فإنك بعثتنى فيما لا يحصيه من العدد إلا الله، فقدمت على القوم، فأرسلت إليهم فهيبتهم فلم يهابوا، وأطمعتهم فلم يطمعوا، وخوفتهم فلم يخافوا، وسألتهم الصلح فلم يقبلوا، وجعلت لهم الجعل على أن ينصرفوا فلم يفعلوا، وقد ذعر منهم جند الملك ذعرا شديدا، وخشيت أن يكون الفشل قد عمهم، والرعب قد دخل قلوبهم، إلا أن منهم رجالا قد عرفتهم ليسوا بفرارين عن عدوهم، ولا شكاك فى دينهم، ولو قد لقوهم لم يفروا حتى يظهروا أو يقتلوا، وقد جمعت أهل الرأى من أصحابى، وأهل النصيحة لملكنا وديننا، فاجتمع رأيهم على النهوض إليهم جميعا، فى يوم واحد، ولا نزايلهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
قال: وكان باهان قد رأى رؤيا، فذكرها لملك الروم فى كتابه هذا، فقال له: وقد أتانى آت فى منامى، فقال لى: لا تقاتل هؤلاء القوم، فإنهم يهلكونك ويهزمونك، فلما انتبهت عبرت أنه من الشيطان، أراد أن يحزننى، فخسأته «1» ، فإن يكن الشيطان فقد خسأته، وإن لم يكن فقد بين لى الأمر، فابعث أنت أيها الملك بثقلك وحرمك ومالك فألحقهم بأقصى بلادك، وانتظر وقعتنا هذه، فإن أظهرنا الله عليهم حمدت الله الذى أعز دينك ومنع سلطانك، وإن هم ظفروا علينا، فارض بقضاء الله، واعلم أن الدنيا زائلة عنك كما زالت عمن كان قبلك، فلا تأسف منها على ما فاتك ولا تغتبط منها بشىء مما فى يديك، والحق بمعاقلك ودار مملكتك، وأحسن إلى رعيتك وإلى الناس يحسن الله إليك، وارحم الضعفاء والمساكين ترحم، وتواضع لله يرفعك، فإن الله لا يحب المتكبرين، والسلام.
قال: ثم إن باهان خرج إلى المسلمين فى يوم ذى ضباب ورذاذ، وصف لهم عشرين صفا لا ترى أطرافها، ثم جعل على ميمنته ابن قماطر، ومعه جرجير فى أهل أرمينية، وجعل الدرنجار فى ميسرته، وكان من خيارهم ونساكهم، فأقبلوا نحو المسلمين كأنهم أعراض الجبال وقد ملأوا الأرض، فلما نظر إليهم المسلمون وقد أقبلوا كلهم، نهضوا إلى راياتهم، وجاء خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وهم الأمراء الذين كان أبو بكر رضى الله عنه، أمرهم إلى أبى عبيدة بن الجراح،
__________
(1) خسأ: طرد وأبعد ودحر. انظر: اللسان (1155) .

(2/278)


ومعه معاذ بن جبل لا يفارقه، فقالوا له: إن هؤلاء قد زحفوا لنا هذا اليوم المطير، وإنا لا نرى أن نخرج إليهم فيه حتى يطلوا «1» بعسكرنا ويضطرونا إلى ذلك، قال: أصبتم، ثم خرج هو ومعاذ فصفوا الناس وهيئوهم ووقفوهم على مراكزهم، وأقبلت الروم فى المطر، فوقفوا ساعة وتصبروا عليه، فلما رأوا أن المطر لا يقلع انصرفوا إلى عسكرهم، ودعا الدرنجار رجلا من العرب ممن كان على دين النصرانية فقال له: ادخل فى عسكر هؤلاء القوم فانظر ما حالهم وما هديهم، وما يصنعون، وكيف سيرتهم، ثم القنى بها، فخرج ذلك الرجل حتى دخل عسكر المسلمين فلم يستنكروه لأنه كان رجلا من العرب لسانه ووجهه، فمكث فى عسكرهم ليلة حتى أصبح، فوجد المسلمين يصلون الليل كله كأنهم فى النهار، ثم أصبح فأقام عامة يومه، ثم خرج إليه، فقال: جئتك من عند قوم يصومون النهار، ويقومون الليل، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، رهبان بالليل، وأسد بالنهار، لو سرق ملكهم فيهم لقطعوه، ولو زنى لرجموه، لا يثأرهم الحق واتباعهم إياه على الهوى، فقال: لئن كان هؤلاء القوم هكذا لبطن الأرض خير من ظهرها لمن يريد قتالهم.
فلما كان من الغد خرجوا أيضا، فى يوم ذى ضباب، وأتى المسلمين رجال من العرب كانوا نصارى فأسلموا، فقال لهم أبو عبيدة وخالد: ادخلوا فى عسكر الروم واكتموهم إسلامكم والقونا بأخبارهم، فإن لكم فى هذا أجرا، والله حاسبه لكم جهادا، فإنكم تدفعون بذلك عن حرمة الإسلام وتدلون على عورة أهل الشرك، فانطلقوا فدخلوا عسكر الروم، ثم جاؤا بعد ما مضى من الليل نصفه، فأتوا أبا عبيدة فقالوا له: إن القوم قد أوقدوا النيران، وهم يتبعون لكم ويتهيأون للقائكم، وهم مصبحوكم بالغداة، فما كنتم صانعين فاصنعوه الآن، فخرج أبو عبيدة ومعاذ بن جبل وخالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص، فعبأوا الناس وصفوهم، فلم يزالوا فى ذلك حتى أصبحوا.
وعن راشد بن عبد الرحمن الأزدى، قال «2» : صلى بنا أبو عبيدة يومئذ صلاة الغداة فى عسكره فى الغداة التى لقينا فيها الروم باليرموك، فقرأ فى أول ركعة بالفجر وليال عشر، فلما مر بقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ
__________
(1) يلطوا: لط الشىء يلطه لطا: ألزقه ولزمه. انظر: اللسان (4034) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (212) .

(2/279)


لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 4، 14] قلت فى نفسى: ظهرنا والله على القوم للذى أجرى الله على لسانه، وسررت بذلك سرورا شديدا، وقلت: عدونا هذا والله نظير لهذه الأمم، فى الكفر والكثرة والمعاصى، قال: ثم قرأ فى الركعة الثانية: وَالشَّمْسِ وَضُحاها، فلما مر بقول الله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها إلى آخر السورة، قلت فى نفسى:
هذه والله أخرى، إن صدق الفأل ليصبن الله عليهم سوط عذاب، وليدمدمن الله عليهم كما دمدم على هذه القرون من قبلهم، فلما قضى أبو عبيدة صلاته، أقبل على الناس بوجهه، وقال:
أيها الناس أبشروا، فإنى رأيت فى ليلتى هذه فيما يرى النائم كأن رجالا أتونى فحفوا بى وعليهم ثياب بيض، ثم دعوا إلىّ رجالا منكم أعرفهم، ثم قالوا لنا: أقدموا على عدوكم ولا تهابوهم، فإنكم الأعلون، وكأنا مضينا إلى عسكر عدونا، فلما رأونا قاصدين إليهم انفرجوا لنا، وجئنا حتى دخلنا عسكرهم، وولوا مدبرين.
فقال له الناس: أصلحك الله، نامت عينك، هذه بشرى من الله، بشرك الله بخير.
وقال أبو مرثد الخولانى: وأنا أصلحك الله قد رأيت رؤيا، إنها لبشرى من الله، رأيت فى هذه الليلة كأنا خرجنا إلى عدونا، فلما تواقعنا صب الله عليهم من السماء طيرا بيضا عظاما لها مخالب كمخالب الأسد، وهى تنقض من السماء انقضاض العقبان، فإذا حاذت بالرجل من المشركين ضربته ضربة يخر منها متقطعا.
وكان الناس يقولون: أبشروا معاشر المسلمين، فقد أيدكم الله عليهم بالملائكة. قال:
فتباشر الناس بهذه الرؤيا وسروا بها، فقال أبو عبيدة: وهذه والله بشرى من الله، فحدثوا بهذه الرؤيا الناس، فإن مثلها من الرؤيا ما يشجع المسلم ويحسن ظنه وينشطه للقاء عدوه.
قال: وانتشرت هذه الرؤيا ورؤيا أبى عبيدة فى المسلمين، واستبشروا بهما.
وعن أبى جهضم أيضا «1» : أن رجلا من الروم حدثه فى خلافة عبد الملك بن مروان أن رجلا من عظمائهم أتى باهان فى صبيحة الليلة التى خرج إلى المسلمين باليرموك، فقال له: إنى رأيت رؤيا أريد أن أحدثك بها، قال: هاتها، قال: رأيت كأن رجالا نزلوا من السماء طول أحدهم أبعد من مد بصره، فنزعوا سيوفنا من أغمادها وأسنة رماحنا من أطرافها، ثم لم يدعوا منا رجلا إلا كتفوه، ثم قالوا لنا: اهربوا وأكثركم هالك،
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (214- 216) .

(2/280)


فأخذنا نهرب، فمنا من يسقط على وجهه ومنا من يتبلد لا يستطيع أن يبرح من مكانه، ومنا من يحل كتافه ثم يسعى حتى لا نراه.
فقال له باهان: أما من رأيت يسقط على وجهه، ومن رأيته يتبلد لا يطيق أن يسعى ولا يتنحى من مكانه فهم الذى يهلكون، وأما الذين رأيت يحلون كتافهم ويسعون حتى لا نراهم، فأولئك الذين ينجون، ثم قال له باهان: أما أنت فو الله لا تسلم منى أبدا، فوجهك الذى بشر بالشر وقنط من الخير، ألست الذى كنت أشد الناس علىّ فى أمر الرجل الذى قتل رجلا من أهل الذمة، فأردت أن أقتله، فكنت أنت من أشد الناس علىّ فى أمره حتى عطلت حدا من حدود الله وتركته، وكان علىّ من الحق أن أقيمه، فحلت بينى وبينه فى جماعة من السفهاء، وتركته كراهية أن أفرق جماعتكم أو أن يضرب بعضكم بعضا، فأما الآن، فقد حدثت نفسى بالموت، وإنما ألقى القوم عن ساعة، فإن شئتم الآن فتفرقوا، وإن شئتم فاجتمعوا وأنا أتوب إلى الله من ترك ذلك الحد يومئذ، فإنه لم يك يسعنى ولا ينبغى لى إلا قتله، ولو قتلتمونى معه، ثم أمر به فضربت عنقه. قال:
وطلب الرومى الذى كان قتل الذمى فهرب منه فلم يقدر عليه، وقد تقدمت قصة هذا الرومى المقتول تعديا فيما أخرجناه قبل من الحديث عن أبى بشر التنوخى، فأغنى ذلك عن إعادتها.
وعن راشد بن عبد الرحمن الأزدى «1» : أن باهان زحف يوم اليرموك إلى المسلمين فى عشرين صفا تضم نحوا من أربعمائة ألف مقاتل، وأصبح المسلمون طيبة أنفسهم لقتال المشركين، قد شرح الله صدورهم وشجع قلوبهم على لقاء عدوهم، فأخرجهم أبو عبيدة وجعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته قباث بن أشيم، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة، وعلى الخيل خالد بن الوليد، وخرج الناس على راياتهم وفيهم أشراف العرب وفرسانهم من رجالهم وقبائلهم، وفيهم الأزد وهم ثلث الناس، وحمير، وهم عظم الناس، وفيهم همدان وخولان ومذحج وخثعم وقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغسان وكندة وحضرموت، ومعهم جماعة من كنانة، ولكن عظم الناس أهل اليمن، ولم يحضرها يومئذ أسد ولا تميم ولا ربيعة، ولم تكن دارهم هنالك، إنما كانت دارهم عراقية، فقاتلوا أهل فارس بالعراق، فلما برز المسلمون إلى عدوهم، سار أبو عبيدة فيهم، ثم قال: يا عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فإن وعد الله حق، يا معشر المسلمين، اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار، فلا تبرحوا
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (217) .

(2/281)


مصافكم ولا تخطوا إليهم بخطوة ولا تبدأوهم بقتال، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله حتى آمركم إن شاء الله.
وخرج معاذ يقص على الناس، ويقول: يا قراء القرآن ومستحفظى الكتاب وأنصار الهدى وأولياء الحق، إن رحمة الله لا تنال بالتوانى، وجنته لا تدخل بالأمانى، ولا يؤتى الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين بما وعدهم الله، ألم تسمعوا لقول الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور: 55] إلى رأس الآية، أنتم إن شاء الله منصورون، فأطيعوا الله ورسوله: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46] ، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم، وأنتم فى قبضته ورحمته، وليس لأحد منكم ملجأ ولا منجى من دونه، ولا متعزز بغير الله، وجعل يمشى فى الصفوف يحرضهم ويقص عليهم، ثم انصرف إلى موضعه.
قال سهل بن سعد «1» : ومر عمرو بن العاص يومئذ على الناس، فجعل يعظهم ويحرضهم ويقول: أيها الناس، غضوا أبصاركم، واجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، والزموا مراكزكم ومصافكم، فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا فى وجوههم وثوب الأسد فو الذى يرضى الصدق ويثيب عليه، ويمقت الكذب ويعاقب عليه، ويجزى الإحسان، لقد بلغنى أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم، فلو قد صدقتموهم الشدة لقد ابذعروا ابذعرار أولاد الحجل.
قال: وكان أبو سفيان بن حرب استأذن عمر بن الخطاب فى جهاد الروم بالشام، فقال له: إنى أحب أن تأذن لى فأخرج إلى الشام متطوعا بمالى فأنصر المسلمين، وأقاتل المشركين وأحض جماعة من هناك من المسلمين، فلا آلوهم نصيحة ولا خيرا، فقال له عمر: قد أذنت لك يا أبا سفيان، تقبل الله جهادك وبارك لك فى رأيك، وأعظم أجرك فيما نويت من ذلك، فتجهز أبو سفيان بأحسن الجهاز، وفى أحسن هيئة، ثم خرج وصحبته أناس من المسلمين كثير، خرجوا متطوعين، فأحسن أبو سفيان صحبتهم حتى قدموا على جماعة المسلمين، ولما خرج المسلمون إلى عدوهم باليرموك كان أبو سفيان يومئذ يسير فى الناس، ويقف على أهل كل راية، وعلى كل جماعة فيحض الناس
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (219) .

(2/282)


ويعظهم ويقول: إنكم يا معشر المسلمين أصبحتم فى دار العجم منقطعين عن الأهل، نائين عن أمير المؤمنين، وأمداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عددهم شديد عليكم حنقهم، وقد وترتموهم فى أنفسهم ونسائهم وأولادهم وبلادهم وأموالهم، فلا والله لا ينجيكم منهم اليوم ولا تبلغون رضوان الله إلا بصدق اللقاء والصبر فى مواطن المكروه، فتقربوا إلى خالقكم، وامتنعوا بسيوفكم، ولتكن هى الحصون التى إليها تلجون، وبها تمتنعون.
وقاتل أبو سفيان يومئذ، قتالا شديدا، وأبلى بلاء حسنا.
قال: وزحف الروم إلى المسلمين وهم يزفون زفا، ومعهم الصلبان، وأقبلوا بالأساقفة والقسيسين والرهبان والبطارقة والفرسان، ولهم دوى كدوى الرعد، وقد تبايع عظمهم على الموت، ودخل منهم ثلاثون ألفا فى السلاسل، كل عشرة فى سلسلة لئلا يفروا، فلما نظر إليهم خالد بن الوليد مقبلين، أقبل على نساء المسلمين وهن على تل مرتفع فى العسكر، فقال: يا نساء المسلمين، أيما رجل أدركتنه منهزما فاقتلنه، فأخذن العناهر، وهى عمد البيوت، ثم أقبلن نحو المسلمين فقلن: لستم بعولتنا إن لم تمنعونا اليوم، وأقبل خالد إلى أبى عبيدة، فقال: إن هؤلاء قد أقبلوا فى عدد وحد وجد، وإن لهم لشدة لا يردها شىء، وليست خيل المسلمين بكثيرة، ولا والله لأقامت خيلى لشدة حملتهم وخيلهم ورجالهم أبدا، وخيل خالد يومئذ أمام صفوف المسلمين، والمسلمون ثلاثة صفوف.
قال خالد: فقد رأيت أن أفرق خيلى، فأكون أنا فى إحدى الخيلين، ويكون قيس بن هبيرة فى الخيل الأخرى، ثم تقف خيلنا من وراء الميمنة والميسرة، فإذا حملوا على الناس فإن ثبت المسلمون فالله ثبتهم وثبت أقدامهم، وإن كانت الأخرى حملت عليهم خيولنا وهى جامة على ميمنتهم وميسرتهم، وقد انتهت شدة خيلهم وقوتها، وتفرقت جماعتهم ونقضوا صفوفهم، وصاروا نشرا «1» ، ثم تحمل عليهم وهى بتلك الحال، فأرجو عندها أن يظفر الله بهم ويجعل دائرة السوء عليهم، وقال لأبى عبيدة: قد رأيت لك أن توقف سعيد بن زيد موقفك هذا وتقف أنت بحذائه من ورائه فى جماعة حسنة، فتكون ردآ للمسلمين، فقبل أبو عبيدة مشورته، وقال: أفعل ما أراك الله وأنا فاعل ما ذكرت، فأمر أبو عبيدة سعيد بن زيد فوقف فى مكانه، وركب هو فسار فى الناس فحرضهم وأوصاهم بتقوى الله والصبر، ثم انصرف فوقف من وراء الناس ردآ لهم، وأقبلت الروم كقطع الليل حتى إذا حاذوا الميمنة نادى معاذ بن جبل الناس فقال: يا عباد الله المسلمين،
__________
(1) صاروا نشرا: أى منتشرين متفرقين متطايرين.

(2/283)


إن هؤلاء قد تيسروا للشدة عليكم، ولا والله لا يردهم إلا صدق اللقاء والصبر فى البأساء، ثم نزل عن فرسه وقال: من أراد أن يأخذ فرسى ويقاتل عليه فليأخذه، فوثب إليه ابنه عبد الرحمن بن معاذ، وهو غلام حين احتلم، فقال: يا أبة، إنى لأرجو أن أكون فارسا أعظم غناء عن المسلمين منى راجلا، وأنت يا أبة راجلا أعظم غناء منك فارسا، وعظم المسلمين رجالة، وإذا رأوك صابرا محتسبا صبروا إن شاء الله وحافظوا، فقال له معاذ: وفقنى الله وإياك يا بنى لما يحب ويرضى، فقاتل معاذ وابنه قتالا شديدا ما قاتل مثله كثير من المسلمين، ثم إن الروم تحاضوا وتداعوا وقصت عليهم الأساقفة والرهبان وقد دنوا من المسلمين، فإذا سمع ذلك معاذ منهم قال: اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وأنزل علينا السكينة وألزمنا كلمة التقوى وحبب إلينا اللقاء ورضنا بالقضاء.
قال: وخرج باهان صاحب الروم فجال فى أصحابه وأمرهم بالصبر والقتال دون ذراريهم وأموالهم وسلطانهم وبلادهم، ثم بعث إلى صاحب الميسرة: أن احمل عليهم، وكان على الميسرة الدرنجار، وكان متنسكا، فقال البطارقة والروم الذين معه: قد أمركم أميركم أن تحملوا، وتهيأت البطارقة ثم شدوا على الميمنة وفيها الأزد ومذحج وحمير وحضرموت وخولان، فثبتوا حين صدموا واقتتلوا قتالا شديدا، ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال، فأزالوا المسلمين عن الميمنة إلى ناحية القلب، وانكشفت طائفة من المسلمين إلى العسكر، وثبت عظم الناس فلم يزولوا، وقاتلوا تحت راياتهم فلم ينكشفوا، ولم تنكشف زبيد يومئذ، وهى فى الميمنة، وفيهم الحجاج بن عبد يغوث، والد عمرو بن الحجاج، فنادى: يا خيفان يا خيفان، فاجتمعوا إليه، ثم شدوا على الروم وهم فى نحو خمسمائة رجل شدة، فلم يتنهنهوا «1» حتى خالطوا الروم، فقاتلوهم قتالا شديدا، وشغلوهم عن اتباع من انكشف من المسلمين، وشدت عليهم حضرموت وحمير وخولان بعد ما كانوا زالوا، ثم رجعوا إلى مواقفهم حتى وقفوا فى الصف حيث كانوا، واستقبل النساء منهزمة المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم، وثبتت الأزد وقاتلت قتالا لم يقاتل مثله أحد من تلك القبائل، وقتل منهم مقتلة لم يقتل مثلها من قبيلة من القبائل، وقتل يومئذ عمرو بن الطفيل، ذو النور، وهو يقول: يا معشر الأزد، لا يؤتين المسلمون من قبلكم، وقاتل قتالا شديدا، قتل من أشدائهم تسعة، ثم قتل هو، يرحمه الله.
وقال جندب بن عمرو بن حممة ورفع رايته: يا معشر الأزد، إنه لا يبقى منكم ولا ينجو من الإثم والعار إلا من قاتل، ألا وإن المقتول شهيد، والخائب من هرب اليوم،
__________
(1) النهنهة: الكف، تقول: نهنهت فلانا فتنهنه، أى كففته فكف.

(2/284)


وقاتل حتى قتل رحمه الله، ونادى أبو هريرة: يا مبرور يا مبرور، فأطافت به الأزد، قال عبد الله بن سراقة: انتهيت إلى أبى هريرة يومئذ، وهو يقول: تزينوا للحور العين وارغبوا فى جوار ربكم، فى جنات النعيم، فما أنتم فى موطن من مواطن الخير أحب فيه منكم فى هذا الموطن، ألا وإن للصابرين فضلهم. قال: فأطافت به الأزد، ثم اضطربوا هم والروم، فو الذى لا إله إلا هو لرأيت وإنها لتدور بهم الأرض وهم فى مجال واحد كما تدور الرحاء، وما برحوا يعنى المسلمين، ولا زالوا وركبهم من الروم أمثال الجبال، فما رأيت موطنا قط أكثر قحفا ساقطا ومعصما نادرا وكفا طائحة من ذلك الموطن، وقد والله أوحلناهم شرا وأوحلونا.
وكان جل القتال فى الميمنة، وأن القلب ليلقون مثل ما نلقى، ولكن حمة القوم وجدهم وحردهم وحنقهم علينا، وكنا فى آخر الميمنة، فلقد لقينا من قتالهم ما لم يلق أحد مثله، فو الله إنا لكذلك نقاتلهم وقد دخل عسكرنا منهم نحو من عشرين ألفا من ورائنا، فعصمنا الله من أن نزول، حمل عليهم خالد بن الوليد فقصف بعضهم على بعض، وشدخ منهم فى العسكر نحوا من عشرة آلاف، ودخل سائرهم بيوت المسلمين فى العسكر مجرحين وغير مجرحين، ثم خرج خالد يكرد ويقتل كل من كان قريبا منا من الروم حتى إذا حاذانا ألف خيله بعضها إلى بعض، ثم قال: يا أهل الإسلام، إنه لم يبق عند القوم من الجد والقتال إلا ما قد رأيتم، فالشدة، فو الذى نفسى بيده ليعطينكم الله الظفر الساعة عليهم، فجعل لا يسمع هذا القول من خالد أحد من المسلمين إلا شجعه عليهم، ثم إن خالدا اعترض الروم وإلى جنبه منهم أكثر من مائة ألف، فحمل عليهم، وما هو إلا فى نحو من ألف فارس، فو الله ما بلغتهم الحملة حتى فض الله جمعهم.
قال: وشددنا على من يلينا من رجالتهم، فانكشفوا واتبعناهم نقتلهم كيف شئنا، ما يمتنعون من قتل ميمنتنا لميسرتهم، قال: ثم إن خالدا انتهى إلى الدرنجار وقد قال لأصحابه: لفونى بالثياب، فليت أنى لم أقاتل هؤلاء القوم اليوم، فلفوه بالثياب، وقال:
لوددت أن الله عافانى من حرب هؤلاء القوم فلم أرهم ولم يرونى، ولم أنصر عليهم ولم ينصروا علىّ، وهذا يوم سوء، فما شعر حتى غشيه المسلمون فقتلوه.
وقال ابن قماطر وهو فى ميمنة الروم لجرجير، صاحب أرمينية: احمل عليهم، فقال له: أنت تأمرنى أن أحمل عليهم وأنا أمير مثلك؟ فقال له ابن قماطر: أنت أمير وأنا أمير فوقك، وقد أمرت بطاعتى، فاختلفا، ثم إن ابن قماطر حمل على المسلمين حملة شديدة على الميسرة وفيها كنانة وقيس ولخم وجذام وعاملة وغسان وخثعم وقضاعة، فانكشف

(2/285)


المسلمون وزالت الميسرة عن مصافها، وثبت أهل الرايات وأهل الحفاظ، فقاتلوا قتالا شديدا، وركبت الروم أكتاف من انهزم من المسلمين حتى دخلوا معهم العسكر، فاستقبلهم نساء المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم.
وعن حنظلة بن جويه قال «1» : والله إنى لفى الميسرة إذ مر بنا رجال من الروم على خيل من خيل العرب لا يشبهون الروم وهم أشبه شىء بنا، فلا أنسى قول قائل منهم: يا معشر العرب، الحقوا بوادى القرى ويثرب، وهو يقول:
فى كل يوم خيلنا تغير ... نحن لنا البلقاء والسدير
هيهات يأبى ذلك الأمير ... والملك المتوج المحبور
قال: فحملت عليه وحمل علىّ، فاضطربنا بسيفينا فلم يغنينا شيئا ثم اعتنقنا، فخررنا جميعا فاعتركنا ساعة، ثم إننا تحاجزنا، فنظرت إلى عنقه وقد بدا منها مثل شراك النعل، فمشيت إليه فاعتمدت ذلك الموضع بسيفى، فو الله ما أخطأته، فقطعته فصرع، فضربته حتى قتلته، وأقبلت إلى فرسى وقد كان عار، وإذا فرسى قد حبسوه علىّ، فأقبلت حتى ركبته، قال: وقاتل قباث بن أشيم يومئذ، قتالا شديدا، وأخذ يقول:
إن تفقدونى تفقدوا خير فارس ... لدى الغمرات والرئيس المحاميا
وذا فخر لا يملأ الهول صدره ... ضروبا بنصل السيف أروع ماضيا
وكسر فى الروم يومئذ ثلاثة أرماح، وقطع سيفين، ويقول كلما قطع سيفا أو كسر رمحا: من يعين بسيف أو برمح فى سبيل الله رجلا قد حبس نفسه مع أولياء الله وقد عاهد الله ألا يفر ولا يبرح يقاتل المشركين حتى يظهر المسلمون أو يموت. وكان من أحسن الناس بلاء يومئذ.
ونزل أبو الأعور السلمى، فقال: يا معشر قريش، خذوا بحظكم من الصبر والأجر، فإن الصبر فى الدنيا عز ومكرمة، وفى الآخرة رحمة وفضيلة، فاصبروا وصابروا.
وعن حبيب بن مسلمة قال «2» : اضطررنا يوم اليرموك إلى سعيد بن زيد، فلله سعيد ما سعيد يومئذ إلا مثل الأسد، جثا والله على ركبتيه حتى إذا دنوا وثب فى وجوههم مثل الليث، فطعن برايته أول رجل من القوم فقتله، وأخذ والله يقاتل راجلا، فقاتل الرجل البئيس الشجاع فارسا، قال: وكان يزيد بن أبى سفيان من أعظم الناس غناء
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (227) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (228) .

(2/286)


وأحسنه بلاء هو وأبوه جميعا، وقد كان أبوه مر به وهو يحرض الناس ويعظمهم، فقال:
يا بنى، إنك تلى من أمر المسلمين طرفا، ويزيد يومئذ على ربع الناس، وإنه ليس بهذا الوادى رجل من المسلمين إلا وهو محقوق بالقتال، فكيف بأشباهك الذين ولوا أمور المسلمين، أولئك أحق الناس بالجهاد والصبر والنصيحة، فاتق الله يا بنى، واكرم فى أمرك، ولا يكونن أحد من أصحابك أرغب فى الآخرة ولا فى الصبر فى الحرب ولا أشد نكاية فى المشركين، ولا أجهد على عدو الإسلام ولا أحسن بلاء منك. فقال يزيد:
أفعل والله يا أبة، فقاتل فى الجانب الذى كان فيه قتالا شديدا.
قال: وشد على عمرو بن العاص جماعة من الروم فانكشف عنه أصحابه وثبت عمرو فجالدهم طويلا، وقاتل شديدا، ثم تراجع إليه أصحابه، قال: فسمعت أم حبيبة بنت العاص تقول: قبح الله رجلا يفر عن حليلته، وقبح الله رجلا يفر عن كريمته، وسمعت نسوة من المسلمين يقلن: قاتلوا أيها المسلمون فلستم بعولتنا إن لم تمنعونا، وأخذن العناهر، فكلما مر بهن منهزم من المسلمين حملن عليه حتى يضربن وجهه ويرددنه إلى جماعة المسلمين.
وقاتل شرحبيل بن حسنة فى ربعه الذى كان فيه قتالا شديدا، وكان إلى جنبه سعيد ابن زيد، وسطا من الناس، وجعل ينادى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ إلى آخر الآية [التوبة: 111] ثم جعل يقول: أين الشارون أنفسهم من الله بابتغاء مرضات الله؟ أين المشاؤن إلى جوار الله غدا فى داره، فاجتمع إليه ناس كثير وبقى القلب لم ينكشف، وفيه أهله الذين كانوا مع سعيد بن زيد، وكان أبو عبيدة من وراء ظهور المسلمين ردآ لهم.
فلما رأى قيس بن هبيرة أن خيل المسلمين مما يلى الميسرة قد شد عليهم الروم اعترض الروم بخيله وهى الشطر من خيل خالد، فقصف بعضهم على بعض، وحمل خالد من ميمنة المسلمين على ما يليه من الروم حتى اضطرهم إلى صفوفهم، فقصف بعضهم على بعض، وزحف إليه المسلمون جماعتهم رويدا رويدا حتى إذا دنوا منهم حملوا عليهم، فجعلت الروم ينقضون صفوفهم وينهزمون، وبعث أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد: أن احمل عليهم، فحمل عليهم، وشد المسلمون بأجمعهم، فضرب الله وجوه الروم، ومنح المسلمين أكتافهم، يقتلونهم كيف شاؤا، لا يمتنعون من أحد من المسلمين، وانتهى خالد بن الوليد إلى الدرنجار، وكان كارها لقتال المسلمين، لما كان يجد من صفتهم فى الكتب،

(2/287)


وكان يقرأها، فقال خالد: إن كنت لأحب أن أراه، فضربه المسلمون حتى قتلوه، وإنه لملفف رأسه بكساء، واتبعهم المسلمون يقتلونهم كل قتلة، وركب بعضهم بعضا حتى انتهوا إلى مكان مشرف على أهوية تحتهم، فجعلوا يتساقطون فيها ولا يبصرون، وهو يوم ذو ضباب، وهم يرتكسون فيها، لا يعلم آخرهم ما يلقى أولهم، حتى سقط فيها نحو من مائة ألف رجل، ما أحصوا إلا بالقصب.
وبعث أبو عبيدة شداد بن أوس بن ثابت فعدهم بها من الغد، فوجد من سقط أكثر من ثمانين ألفا، فسميت تلك الأهوية الواقوصة حتى اليوم، لأنهم وقصوا فيها وما فطنوا لتساقطهم حتى انكشف الضباب فأخذوا فى وجه آخر، وقتل المسلمون منهم فى المعركة بعد ما أدبروا نحوا من خمسين ألفا.
واتبعهم خالد فى الخيل، فلم يزل يقتلهم فى كل واد وكل شعب وفى كل جبل، حتى انتهى إلى دمشق، فخرج إليه أهلها، وقالوا له: نحن على عهدنا الذى كان بيننا وبينكم، فقال لهم خالد: نعم، ومضى فى اتباعهم يقتلهم فى القرى والأودية والجبال حتى انتهى إلى حمص، فخرج إليه أهلها، فقالوا له مثل ما قال أهل دمشق فى العهد، فقال لهم: نعم.
وأقبل أبو عبيدة على قتلى المسلمين، رحمهم الله وجزاهم عن الإسلام وأهله خيرا، فدفنهم، فلما فرغ من ذلك جاءه النعمان بن محمية ذو الأنف الخثعمى يسأله أن يعقد له على قومه، فعقد له عليهم، وكانت خثعم قد رأست رجلا آخر منهم من بنى عمرو يدعى ابن ذى السهم، فاختصم هو وذو الأنف إلى أبى عبيدة فى الرياسة قبل الوقعة، فأخرهم أبو عبيدة إلى أن يفرغوا من حربهم ويناجزوا عدوهم، ثم ينظر فى أمرهم، فلما التقى الناس استشهد هنالك ابن ذى السهم الخثعمى، فعقد أبو عبيدة للنعمان ذى الأنف على خثعم.
قال: وجاء الأشتر مالك بن الحارث النخعى، فقال لأبى عبيدة: اعقد لى على قومى، فعقد له، وكانت قصته مثل قصة الخثعمى، وذلك أنه أتى قومه وعليهم رجل منهم فخاصمهم الأشتر فى الرياسة إلى أبى عبيدة، فدعا أبو عبيدة النخع، فقال: أى هذين أرضى فيكم وأعجب إليكم أن يرأس عليكم؟ فقالوا: كلاهما شريف وفينا رضى وعندنا ثقة، فقال أبو عبيدة: كيف أصنع بكما؟ ثم قال للأشتر: أين كنت حين عقدت لهذا الراية؟ قال: كنت عند أمير المدينة، ثم أقبلت إليكم، قال: فقدمت على هذا وهو رأس

(2/288)


أصحابك؟ قال: نعم، قال: فإنه لا ينبغى لك أن تخاصم ابن عمك وقد رضيت به جماعة قومك قبل قدومك عليهم، قال الأشتر: فإنه رضى شريف وأهل ذلك هو، وأنا أهل الرياسة، فلتعقبنى من رياسة قومى فأليهم كما وليهم هذا، فقال أبو عبيدة: تأخروا ذلك حتى تكون هذه الوقعة، فإن استشهدتما جميعا فما عند الله خير لكما، وإن هلك أحدكما وبقى الآخر كان الباقى منكما الرأس على قومه، وإن تبقيا جميعا أعقبناك منه إن شاء الله، قال الأشتر: فقد رضيت، فلما كانت الواقعة استشهد فيها رأس النخع الأول، فعقد أبو عبيدة للأشتر عند ذلك.
وفى حديث آخر أن الأشتر كان من جلداء الرجال وأشدائهم وأهل القوة والنجدة منهم، وأنه قتل يوم اليرموك، قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلا من بطارقتهم، وقتل منهم ثلاثة مبارزة وتوجه مع خالد فى طلب الروم حين انهزموا، فلما بلغوا ثنية العقاب من أرض دمشق وعليها جماعة من الروم عظيمة، أقبلوا يرمون المسلمين من فوقهم بالصخر، فتقدم إليهم الأشتر فى رجال من المسلمين، وإذا أمام الروم رجل جسيم من عظمائهم وأشدائهم، فوثب إليه الأشتر لما دنا منه، فاستويا على صخرة مستوية، فاضطربا بسيفيهما، فضرب الأشتر كتف الرومى فأطارها، وضربه الرومى بسيفه فلم يضره شيئا، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، ثم دفعه الأشتر من فوق الصخرة فوقعا منها، ثم تدحرجا، والأشتر يقول وهما يتدحرجان: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163] ، فلم يزل يقول هذا وهو فى ذلك ملازم العلج لا يتركه، حتى انتهيا إلى موضع مستو من الجبل، فلما استقرا فيه وثب الأشتر على الرومى فقتله، ثم صاح فى الناس: أن جوزوا، فلما رأت الروم أن صاحبهم قد قتله الأشتر خلوا سبيل العقبة للناس، ثم انهزموا.
وأقبل أبو عبيدة فى أثر خالد حتى انتهى إلى حمص، فأمر خالدا أن يتقدم إلى قنسرين، ولما انتهت الهزيمة إلى ملك الروم وهو بأنطاكية، قال: قد كنت أعلم أنهم سيهزمونكم، فقال له بعض جلسائه: ومن أين علمت ذلك أيها الملك، قال من حيث أنهم تحبون الموت كما نحبون أنتم الحياة، ويرغبون فى الآخرة أشد من رغبتكم فى الدنيا، ولا يزالون ظاهرين ما كانوا هكذا، وليغيرن كما غيرتم، ولينقضن كما نقضتم.
وفى حديث عن عبد الله بن قرط «1» : أن أول من جاء ملكهم بالهزيمة رجل منهم، فقال له: ما وراءك؟ قال: خير، أيها الملك، هزمهم الله وأهلكهم، يعنى المسلمين، قال:
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (234) .

(2/289)


ففرح بذلك من حوله وسروا ورفعوا أصواتهم، فقال لهم ملكهم: ويحكم، هذا كاذب، وهل ترون هيئة هذا إلا هيئة منهزم، سلوه ما جاء به، فلعمرى ما هو ببريد، ولو لم يكن هذا منهزما ما كان ينبغى له أن يكون إلا مع أميره مقيما، فما كان بأسرع من أن جاء آخر، فقال له: ويحك، ما وراءك؟ فقال: هزم الله العدو وأهلكهم، قال له هرقل: فإن كان الله أهلكهم فما جاء بك؟.
وفرح أصحابه وقالوا: صدقك أيها الملك، فقال لهم: ويحكم، أتخادعون أنفسكم، إن هؤلاء والله لو كانوا ظهروا أو ظفروا ما جاؤكم على متون خيولهم يركضون، ولسبقهم البريد والبشرى، قال: فإنهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من العرب من تنوخ على فرس له عربية، يقال له حذيفة بن عمرو، وكان نصرانيا، فقال قيصر: ما أظن خبر السؤال إلا عند هذا، فلما دنا منه قال له: ما عندك؟ قال: الشر، قال: وجهك الذى بشرنا بالشر، ثم نظر إلى أصحابه، فقال: خبر سوء جاء به رجل سوء من قوم سوء، فإنهم لكذلك إذ جاءه رجل من عظماء الروم، فقال له الملك: ما وراءك؟ قال: الشر، هزمنا. قال: فما فعل أميركم باهان؟ قال: قتل، قال: فما فعل فلان وفلان، يسمى له عددا من أمرائه وبطارقته وفرسانه، فقال: قتلوا، فقال له: لكنك والله أنت أخبث وألأم وأكفر من أن تذب عن دين أو تقاتل على دنيا.
ثم قال لشرطه: أنزلوه، فأنزلوه، فجاؤا به، فقال له: ألست كنت أشد الناس علىّ فى أمر محمد نبى العرب حين جاءنى كتابه ورسوله، وكنت قد أردت أن أجيبه إلى ما دعانى إليه وأدخل فى دينه، فكنت أنت من أشد الناس علىّ حتى تركت ما أردت من ذلك؟ فهلا قاتلت الآن قوم محمد وأصحابه دون سلطانى، وعلى قدر ما كنت لقيت منك إذ منعتنى من الدخول فى دينه؟ اضربوا عنقه، فقدموه فضربوا عنقه، ثم نادى فى أصحابه بالرحيل راجعا إلى القسطنطينية، فلما خرج من الشام وأشرف على أرض الروم استقبل الشام، فقال: السلام عليك يا سورية، سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبدا، ثم قال: ويحك أرضا، ما أنفعك لعدوك، لكثرة ما فيك من العشب والخصب والخير.
وعن عمرو بن عبد الرحمن «1» : أن هرقل حين خرج من أنطاكية، أقبل حتى نزل الرها، ثم منها كان خروجه إلى القسطنطينية، وأقبل خالد فى طلب الروم حتى دخل أرض قنسرين، فلما انتهى إلى حلب تحصن منه أهلها، وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليهم، فطلبوا الصلح والأمان، فقبل منهم أبو عبيدة فصالحهم، وكتب لهم أمانا.
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (237) .

(2/290)


وعن الحسن بن عبد الله»
: أن الأشتر قال لأبى عبيدة: ابعث معى خيلا أتبع آثار القوم، فإن عندى جزاء وغناء، فقال له أبو عبيدة: والله إنك لخليق بكل خير، فبعثه فى ثلاثمائة فارس، وقال له: لا تتباعد فى الطلب، وكن منى قريبا، فكان يغير على مسيرة اليوم منه واليومين، ونحو ذلك.
ثم إن أبا عبيدة دعا ميسرة بن مسروق فسرحه فى ألفى فارس، فمضى فى آثار الروم حتى قطع الدروب، وبلغ ذلك الأشتر، فمضى حتى لحقه، فإذا ميسرة مواقف جمعا من الروم أكثر من ثلاثين ألفا، وكان ميسرة قد أشفق على من معه، وخاف على نفسه وعلى أصحابه، فإنهم لكذلك إذ طلع عليه الأشتر فى ثلاثمائة فارس من النخع، فلما رآهم أصحاب ميسرة كبروا وكبر الأشتر وأصحابه، وحمل عليهم من مكانه ذلك، وحمل ميسرة فهزموهم، وركبوا رؤسهم، واتبعتهم خيل المسلمين يقتلونهم، حتى انتهوا إلى موضع مرتفع من الأرض، فعلوا فوقه، وأقبل عظيم من عظمائهم معه رجالة كثيرة من رجالتهم، فجعلوا يرمون خيل المسلمين من مكانهم المشرف، فإن خيل المسلمين لمواقفتهم إذ نزل رجل من الروم أحمر عظيم جسيم، فتعرض للمسلمين ليخرج إليه أحدهم، قال: فو الله ما خرج إليه رجل منهم، فقال لهم الأشتر: أما منكم من أحد يخرج لهذا العلج؟ فلم يتكلم أحد.
قال: فنزل الأشتر، ثم خرج إليه، فمشى كل واحد منهما إلى صاحبه وعلى الأشتر الدرع والمغفر، وعلى الرومى مثل ذلك، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه شد الأشتر عليه فاضطربا بسيفيهما، فوقع سيف الرومى على هامة الأشتر، فقطع المغفر وأسرع السيف فى رأسه، حتى كاد ينشب فى العظم، ووقعت ضربة الأشتر على عاتق الرومى، فلم تقطع شيئا من الرومى، إلا أنه ضربه ضربة شديدة أو هنت الرومى وأثقلت عاتقه، ثم تحاجزا.
فلما رأى الأشتر أن سيفه لم يصنع شيئا، انصرف فمشى على هيئته حتى أتى الصف، وقد سال الدم على لحيته ووجهه، فقال: أخزى الله هذا سيفا، وجاءه أصحابه، فقال: علىّ بشىء من حناء، فأتوه به من ساعته، فوضعه على جرحه، ثم عصبه بالخرق، ثم حرك لحيته وضرب أضراسه بعضها ببعض، ثم قال: ما أشد لحيتى ورأسى وأضراسى، وقال لابن عم له: امسك سيفى هذا وأعطنى سيفك، فقال: دع لى سيفى، رحمك الله، فإنى لا أدرى لعلى احتاج إليه، فقال: أعطنيه ولك أم النعمان يعنى ابنته، فأعطاه إياه،
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (237، 239) .

(2/291)


فذهب ليعود إلى الرومى، فقال له قومه، ننشدك الله ألا تتعرض لهذا العلج، فقال: والله لأخرجن إليه فليقتلنى أو لأقتلنه، فتركوه، فخرج إليه.
فلما دنا منه شد عليه وهو شديد الحنق، فاضطربا بسيفيهما، فضربه الأشتر على عاتقه، فقطع ما عليه حتى خالط السيف رئته، ووقعت ضربة الرومى على عاتق الأشتر، فقطعت الدرع ثم انتهت ولم تضره شيئا، ووقع الرومى ميتا، وكبر المسلمون، ثم حملوا على صف رجالة الروم، فجعلوا يتنقضون ويرمون المسلمين وهم من فوق، فما زالوا كذلك حتى أمسوا وحال بينهم الليل، وباتوا ليلتهم يتحارسون.
فلما أصبحوا أصبحت الأرض من الروم بلاقع، فارتحل الأشتر منصرفا بأصحابه، ومضى ميسرة فى أثر القوم حتى بلغ مرج القبائل بناحية أنطاكية، والمصيصة، ثم انصرف راجعا، وكان أبو عبيدة حين بلغه أنهم قد أدبروا أشفق عليهم وجزع وندم على إرساله إياهم، قال: فإنه لجالس فى أصحابه مستبطئا لقدومهم متأسفا على تسريحهم، إذ أتى فبشر بقدوم الأشتر، وجاء فحدثه بما كان من أمرهم ولقائهم ذلك الجيش، وهزيمتهم إياه، وما صنع الله لهم، ولم يذكر مبارزة الرومى وقتله إياه حتى أخبره غيره، وسأله عن ميسرة وأصحابه، فأخبروه بالوجه الذى توجه فيه، وأخبره أنه لم يمنعه من التوجه إلا الشفقة على أصحابه، وألا يصابوا بعد ما ظفروا، فقال: قد أحسنت، وما أحب الآن أنك معهم، ولوددت أنهم كانوا معكم.
قال: فدعا ناسا من أهل حلب، فقال: اطلبوا إلىّ إنسانا دليلا عالما بالطريق أجعل له جعلا عن أن يتبع آثار هذه الخيل التى بعثتها فى طلب الروم حتى يلحقها، ثم يأمرها بالانصراف إلىّ ساعة يلقاها، فجاؤه بثلاثة رجال، فقالوا: هؤلاء علماء بالطريق جراء عليها أدلاء بها، وهم يخرجون فى آثار خيلك حتى يأتوها بأمرك، فكتب أبو عبيدة إلى ميسرة:
أما بعد، فإذا أتاك رسولى هذا فأقبل إلىّ حين تنظر فى كتابى، ولا تعرجن على شىء، فإن سلامة رجل واحد من المسلمين أحب إلىّ من جميع أموال المشركين، والسلام عليك.
فأخذوا كتابه، ثم خرجوا به، فاستقبلوا ميسرة حين هبط من الدروب راجعا، وقد عافاه الله وأصحابه وغنمهم وسلمهم، فدفعوا إليه كتاب أبى عبيدة، فلما قرأه قال:
جزاه الله من وال على المسلمين خيرا، ما أشفقه وأنصحه، ثم أقبل الرسل فبشروا أبا

(2/292)


عبيدة بسلامتهم وانصرافهم، فحمد الله على ذلك، وأقام حتى قدم عليه ميسرة، وكتب أمانا على الناس من أهل قنسرين، ثم أمر مناديه بالرحيل إلى إيلياء، وقدم خالدا على مقدمته بين يديه، وبعث على حمص حين انتهى إليها حبيب بن سلمة، وأرض قنسرين إذ ذاك مجموعة إلى صاحب حمص، وإنما فتحت قنسرين بعد ذلك فى خلافة يزيد بن معاوية، ثم خرج من حمص ومر بدمشق، فولاها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، ثم خرج حتى مر بالأردن، فنزلها، فعسكر بها، وبعث الرسل إلى أهل إيلياء، وقال:
اخرجوا إلىّ أكتب لكم أمانا على أنفسكم وأموالكم، ونفى لكم كما وفينا لغيركم، فتثاقلوا وأبوا، فكتب إليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم، من أبى عبيدة بن الجراح إلى بطارقة أهل إيلياء وسكانها، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله العظيم ورسله، أما بعد، فإنا ندعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من فى القبور، فإذا شهدتم بذلك حرمت علينا دماؤكم وأموالكم وكنتم إخواننا فى ديننا، وإن أبيتم فأقروا لنا بإعطاء الجزية وأنتم صاغرون، فإن أبيتم سرت إليكم بقوم، هم أشد للموت حبا منكم لشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ثم لا أرجع عنكم إن شاء الله حتى أقتل مقاتلتكم وأسبى ذراريكم.
قال: وكتب إلى عمر بن الخطاب حين أظهره الله على أهل اليرموك وخرج يطلبهم:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، أما بعد، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، والحمد لله الذى أهلك المشركين، ونصر المسلمين، وقديما تولى الله نصرهم، وأظهر فلجهم، وأعز دعوتهم، فتبارك الله رب العالمين.
أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله، أنا لقينا الروم فى جموع لم تلق العرب جموعا قط مثلها، فأتوا وهم يرون أن لا غالب لهم من الناس، فقاتلوا المسلمين قتالا شديدا، ما قوتل المسلمون مثله فى موطن قط، ورزق الله المؤمنين الصبر، وأنزل عليهم النصر، فقتلوهم فى كل قرية وكل شعب وواد وسهل وجبل، وغنم المسلمون عسكرهم، وما كان فيه من أموالهم، ومتاعهم، ثم إنى اتبعتهم بالمسلمين حتى بلغنا أقصى بلادهم، وقد بعثت إلى أهل الشام عمالا، وبعثت إلى أهل إيلياء أدعوهم إلى الإسلام، فإن قبلوا وإلا فليؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا سيرت إليهم حتى أنزل بهم، ثم لا

(2/293)


أزايلهم حتى يفتح الله على المسلمين إن شاء الله، والسلام عليك.
فكتب إليه عمر رضى الله عنه: من عبد الله بن عمر أمير المؤمنين، إلى أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فقد أتانى كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من إهلاك الله المشركين ونصره المؤمنين، وما صنع لأوليائه وأهل طاعته، فالحمد لله على صنيعه إلينا، ونستتم من الله ذلك بشكره، ثم اعلموا أنكم لم تنصروا على عدوكم بعدد ولا عدة ولا حول ولا قوة، ولكنه بعون الله ونصره ومنه تعالى وفضله، فلله المن والطول والفضل العظيم، فتبارك الله أحسن الخالقين، والحمد لله رب العالمين.
فهذه الأحاديث التى أوردها أصحاب فتوح الشام فى كتبهم عن وقعة اليرموك، وقد أوردها غيرهم على صفة تخالف أكثر ما تقدم مساقا وتاريخا، حسب ما يظهر لمن يقف على جميعها، واختلاف الأخبار من جهة النقل أمر مألوف، وإعادة أمثال هذه الآثار التى هى كيف ما وقعت من آيات الإسلام شىء غير مملول. ونحن نذكر من ذلك ما يحسن فى هذا المجموع ذكره، ويليق بالمقصود إيراده إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك أن ابن إسحاق ذكر أن التقاء المسلمين مع الروم باليرموك كان فى رجب سنة خمس عشرة، وأن الذى لقيهم من الروم هو الصقلار خصى لهرقل، بعثه فى مائة ألف مقاتل أكثرهم من الروم، وسائرهم من أهل أرمينية، ومن المستعربة من غسان وقضاعة، والمسلمون مع أبى عبيدة أربعة وعشرون ألفا، فاقتتل الناس اقتتالا شديدا حتى دخل عسكر المسلمين، وقاتل نساء من قريش بالسيوف حين دخل العسكر حتى سابقن الرجال، وقد كان انضم إلى المسلمين ناس من لخم وجذام، فلما رأوا جد القتال فروا وخذلوا المسلمين، فقال قائل من المسلمين حين رأى ذلك منهم:
القوم لخم وجذام فى الهرب ... ونحن والروم بمرج نضطرب
وإن يعودوا بعدها لا نصطحب
ثم إن الله أنزل نصره، فهزمت الروم وجموع هرقل التى جمع، فأصيب منهم سبعون ألفا، وقتل الله الصقلار وباهان، وكان هرقل قدمه مع الصقلار حين لحق به.
وفيما حكاه الطبرى «1» بسنده عن سيف عن شيوخه قالوا: أوعب القواد بالناس نحو الشام، وعكرمة ردء لهم، وبلغ الروم ذلك فكتبوا إلى هرقل، فخرج حتى نزل بحمص،
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 392- 393) .

(2/294)


فأعد لهم الجنود وعبأ العسكر، وأراد أن يشغل بعضهم ببعض لكثرة جنده وفضول رجاله، فأرسل أخاه تذارق إلى عمرو بن العاص فى تسعين ألفا، وبعث جرجة بن توذورا نحو يزيد بن أبى سفيان فعسكر بإزائه، وبعث الدراقص، فاستقبل شرحبيل بن حسنة، وبعث القيقار بن نسطوس فى ستين ألفا نحو أبى عبيدة، فهابهم المسلمون، وجميع فرق المسلمين أحد وعشرون ألفا، سوى ستة آلاف مع عكرمة، ففزعوا جميعا بالكتب والرسل إلى عمر بن الخطاب، يستدعون رأيه، فراسلهم أن الرأى الاجتماع، وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة، وإذا نحن تفرقنا لم يكن الرجل منا فى عدد يقرن به لأحد ممن استقبله، فاتعدوا اليرموك ليجتمعوا فيه، وقد كتبوا إلى أبى بكر بمثل ما كاتبوا به عمر، فطلع عليهم كتابه بمثل ما كاتبهم به عمر سواء، بأن اجتمعوا والقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين، فإنكم أعوان الله، والله ناصر من نصره وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلة، وإنما يؤتى العشرة آلاف والزيادة عليها، إذا أتوا من قبل الذنوب، فاحترسوا من الذنوب، واجتمعوا باليرموك متساندين، وليتصل كل رجل منكم بأصحابه.
وبلغ ذلك هرقل، فكتب إلى بطارقته، أن اجتمعوا لهم وانزلوا بالروم منزلا واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب، وعلى الناس التذارق، وعلى المقدمة جرجة، وعلى مجنبتيه باهان والدراقص، وعلى الحرب القيقار، وأبشروا فإن باهان فى الأثر مدد لكم، ففعلوا، فنزلوا الواقوصة، وهى على ضفة اليرموك، وصار الوادى خندقا لهم، وهو لهب «1» لا يدرك، وإنما أراد باهان أن يستبقى الروم ويأنسوا بالمسلمين، وترجع إليهم أفئدتهم، وانتقل المسلمون من معسكرهم الذى اجتمعوا به، فنزلوا عليهم بحذائهم على طريقهم، وليس للروم طريق إلا عليهم. فقال عمرو: أيها الناس، ألا أبشروا، حصرت والله الروم، وقل ما جاء محصور بخير، فأقاموا بإزائهم، وعلى طريقهم ومخرجهم، لا يقدرون من الروم على شىء، ولا يخلصون إليهم اللهب، وهو الواقوصة من ورائهم، والخندق من أمامهم، ولا يخرجون خرجة إلا أذيل المسلمون منهم، وقد استمدوا أبا بكر رحمه الله، وأعلموه الشأن فى صفر، يريد من سنة ثلاث عشرة.
وفى حديث آخر لسيف عن أشياخه «2» : أنهم لما استمدوه، قال أبو بكر: خالد لها، وبعث إليه وهو بالعراق فعزم عليه واستحثه فى السير، فنفذ خالد لذلك، وطلع عليهم
__________
(1) لهب: اللهب بالكسر، هو الفرجة بين الجبلين.
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 393- 394) .

(2/295)


ففرح به المسلمون، وطلع باهان على الروم فتيمنوا به، ووافق قدوم أحدهما قدوم الآخر، فولى خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم، فهزم خالد باهان، وتتابع الروم على الهزيمة، فاقتحموا خندقهم. وقال راجز من المسلمين فى ذلك:
دعوا هرقلا ودعونا الرحمن ... والله قد أخزى جنود باهان
بخالد اللج أبى سلميان
وحرد المسلمون وحرد المشركون وهم أربعون ومائتا ألف، منهم ثمانون ألف مقيد، ومنهم أربعون ألفا مسلسلون للموت، وأربعون ألفا مربوطون بالعمائم، وثمانون ألف فارس، والمسلمون سبعة وعشرون ألفا ممن كان مقيما إلى أن قدم عليهم خالد فى تسعة آلاف، فصاروا ستة وثلاثين ألفا، وكان قتالهم على تساند كل جند وأميره، لا يجمعهم أحد، حتى قدم عليهم خالد بن الوليد من العراق.
وكان عسكر أبى عبيدة باليرموك مجاورا لعسكر عمرو بن العاص، وعسكر شرحبيل ابن حسنة مجاوزا لعسكر يزيد بن أبى سفيان، فكان أبو عبيدة ربما صلى مع عمرو، وشرحبيل مع يزيد، وأما عمرو ويزيد فكانا لا يصليان مع أبى عبيدة وشرحبيل، وقدم خالد بن الوليد وهم على حالهم هذه، فعسكر على حدة، فصلى بأهل العراق.
ووافق خالد بن الوليد المسلمين وهم متضايقون بمدد الروم، وعليهم باهان، ووافق الروم وفيهم نشاط بمددهم، فالتقوا فهزمهم الله حتى ألجأهم وأمدادهم إلى الخندق والواقوصة أحد حدوده، فلزموا خندقهم عامة شهر، يحضضهم القسيسون والشمامسة والرهبان، وينعون لهم النصرانية، حتى استنصروا، فخرجوا للقتال الذى لم يكن بعده قتال، فلما أحس المسلمون خروجهم، وأرادوا الخروج متساندين، سار فيهم خالد بن الوليد، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:
إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغى فيه العجز ولا البغى. أخلصوا جهادكم، وأريدوا بعملكم الله، فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة وأنتم على تساند «1» وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغى، وإن من ورائكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذى ترون أنه يوافق رأى واليكم. قالوا:
فما الرأى؟ قال: إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذى كان ويكون، لقد جمعكم. إن الذى أنتم فيه أشد على المسلمين مما غشيهم، وأنفع للمشركين
__________
(1) على تساند: أى على رايات شتى متعاونين كأن كل واحد منهم يسند على الآخر ويستعين به.

(2/296)


من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله، قد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان، لا ينقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده عليه أن دانوا له، وأن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله، تهيأوا فإن هؤلاء قوم قد تهيأوا، وهذا يوم له ما بعده، فإن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها، فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر بعد غد، حتى يتأمر كلكم، ودعونى أليكم اليوم.
فأمروه، وهم يرون أنها كخرجاتهم، وأن الأمر أطول مما ساروا إليه، فخرجت الروم فى تعبئة لم ير الراؤون مثلها قط، وخرج خالد فى تعبئة لم تعبها العرب قبل ذلك، خرج فى نحو ستة وثلاثين كردوسا، وقال: إن عدوكم قد كثر وطغى وليس من التعبئة أكثر فى رأى العين من الكراديس، فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وعليها عمرو بن العاص، وفيها شرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس وعليها يزيد بن أبى سفيان، وكان خالد على كردوس، والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدى وعياض بن غنم وهاشم بن عتبة وزياد بن حنظلة وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو وعبد الرحمن بن خالد وهو يومئذ ابن ثمان عشرة سنة، وحبيب ابن مسلمة، وآخرون غيرهم من جلة الصحابة وأشراف الناس وفرسان العرب، كل واحد منهم على كردوس كردوس.
وفى حديث آخر «1» أنه شهد اليرموك ألف رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم نحو من مائة رجل من أهل بدر، وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس، فيقول:
الله الله، إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار المشركين، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.
وعن عبد الرحمن بن غنم، وكان شهدها، قال: كان أبو سفيان وأشياخ المسلمين محامية لا يجولون ولا يقاتلون، يفىء إليهم الناس، فإذا كانت على الروم قال، وقالوا:
هلك بنو الأصفر، اللهم اجعله وجههم، وإذا كانت على المسلمين قال وقالوا: يا بنى الإخوان، أين أين اللهم اردد لهم الكرة. فإذا كروا قالوا: إيه يا بنى الإخوان، وإذا حملوا قالوا: اللهم أعنهم وانصرهم.
وفى غير حديث عبد الرحمن «2» : أن رجلا قال يومئذ لخالد: ما أكثر الروم وأقل
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 397) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 398) .

(2/297)


المسلمين فقال خالد: ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر برىء من توجيه، وإنهم أضعفوا فى العدد، وكان فرسه قد حفى فى مسيره، وجعل خالد يوم اليرموك على الطلائع قباث بن أشيم، وكان القارئ يومذاك المقداد.
قالوا: ومن السنة التى سن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء، وهى سورة الأنفال، ولم يزل الناس بعد على ذلك.
ولما فرغ خالد من تعبئتهم وزحف إليه المشركون، أمر عكرمة والقعقاع وكانا على مجنبتى القلب، فأنشبا القتال، فنشب، والتحم الناس، وتطارد الفرسان، فإنهم لعلى ذلك إذ قدم البريد من المدينة، وهو محمية بن زنيم، فأخذته الخيول وسألوه الخبر، فلم يخبرهم إلا بسلامه، وأخبرهم عن أمداد تأتيهم، وإنما جاء بموت أبى بكر وتأمير أبى عبيدة، فأبلغوا خالدا، فأسر إليه الخبر، وأخبره بما قال للجند، فقال له: أحسنت، فقف، وأخذ الكتاب فجعله فى كنانته، وخاف إن هو أظهر ذلك أن ينتشر أمر الجند، فوقف الرسول مع خالد، وخرج جرجة أحد أمراء الروم يومئذ، حتى إذا كان بين الصفين نادى:
ليخرج إلى خالد، فخرج إليه خالد وأقام أبا عبيدة مكانه، فواقفه بين الصفين حتى اختلفت أعناق دابتيهما، وقد أمن أحدهما صاحبه، فقال له جرجة: يا خالد، اصدقنى ولا تكذبنى، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعنى فإن الكريم لا يخادع، بالله هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمته؟ قال: لا، قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم فدعانا، فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا باعده وكذبه، فكنت فيمن كذبه وباعده، وقاتله، ثم أخذ الله تعالى بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وتابعناه، فقال: أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين، ودعا لىّ بالنصر، فسميت سيف الله بذلك، فأنا من أشد الناس على المشركين، قال: صدقتنى.
ثم أعاد عليه جرجة: يا خالد، أخبرنى إلام تدعون؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله، قال: فمن لم يجبكم؟ قال:
الجزية، ونمنعهم قال: فإن لم يعطها؟ قال: نؤذنه بحرب، ثم نقاتله، قال: فما منزلة الذى يدخل فى دينكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا، ثم أعاد عليه جرجة: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد، مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم، وأفضل. قال: وكيف يساويكم وقد

(2/298)


سبقتموه؟ قال: إنا دخلنا فى هذا الأمر وتابعنا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حى بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالغيب ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويتابع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل فى هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا، قال جرجة: صدقتنى بالله ولم تخادعنى ولم تألنى، قال: بالله لقد صدقتك وما لى إليك ولا إلى أحد منكم حاجة، وإن الله لولى ما سألت عنه، قال: صدقتنى، وقلب الترس، ومال مع خالد، وقال: علمنى الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة ثم صلى به ركعتين، وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها حيلة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم، فركب خالد ومعه جرجة، والروم خلال المسلمين، فتنادى المسلمون، فثابوا، وتزاحفت الروم إلى مواقفهم فزحف بهم خالد حتى تصافحوا بالسيوف، فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب، ثم أصيب جرجة، ولم يصل صلاة يسجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما، وصلى مع الناس: الأولى والعصر إيماء، وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب، حتى كان بين خيلهم ورجلهم، وكان مقاتلهم واسع المطرد، ضيق المهب، فلما وجدت خيلهم مذهبا ذهبت وتركوا رحلهم فى مصافهم، وخرجت خيلهم تشتد بهم فى الصحراء وأخر الناس الصلاة حتى صلوا بعد الفتح.
ولما رأى المسلمون خيل الروم توجهت للهرب، أفرجوا لها ولم يحرجوها، فذهبت فتفرقت فى البلاد، وأقبل خالد والمسلمون على الرحل فقضوهم، فكأنما هدم بهم حائط، فاقتحموا فى خندقهم، فاقتحموه عليهم، فعمدوا إلى الواقوصة، فهوى فيها المقترنون وغيرهم، ومن صبر من المقترنين هوى به من جشأت نفسه، فهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه، كلما هوى اثنان كان البقية أضعف، حتى تهافت فى الواقوصة عشرون ومائة ألف: من المقترنين ثمانون ألفا، ومن المطلقين أربعون ألفا، سوى من قتل فى المعركة من الخيل والرجل، وتجلل القيقار وأشراف من أشراف الروم برانسهم، ثم جلسوا وقالوا: لا نحب أن نرى يوم السوء إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور، وإذ لم نستطع أن نمنع النصرانية، فأصيبوا فى تزملهم.
ولما دخل خالد الخندق، نزله وأحاطت به خيله، وقاتل الناس حتى أصبحوا، قال بعضهم: وأصبح خالد من تلك الليلة وهو فى رواق تذارق.

(2/299)


وقال عكرمة بن أبى جهل يومئذ «1» : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل موطن، وأفر منكم اليوم، ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور فى أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا وماتوا، إلا من برأ، منهم ضرار بن الأزور، وأتى خالد بعد ما أصبحوا بعكرمة جريحا، فوضع رأسه على فخذه، وبعمرو بن عكرمة، فوضع رأسه على ساقيه، وجعل يمسح عن وجوههما ويقطر الماء فى حلوقهما، ويقول: كلا، زعم ابن حنتمة أنا لا نستشهد.
وأصيبت يومئذ عين أبى سفيان بن حرب، وكان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية، فخرج يومئذ، رجل من الروم، فقال: من يبارز، فخرج إليه الأشتر، فاختلفا ضربتين، فقال للرومى: خذها وأنا الغلام النخعى، فقال الرومى: أكثر الله فى قومى مثلك، أما والله لولا أنك من قومى لذدت عن الروم، فأما الآن فلا أعينهم.
وفى حديث عبد الرحمن بن غنم، وذكر قتال المسلمين تلك الليلة، قال: حتى إذا فتح الله على المسلمين من آخر الليل، وقتلوهم حتى الصباح، أصبحوا فاقتسموا الغنائم، ودفنوا قتلى المسلمين، وبلغوا ثلاثة آلاف، وصلى كل أمير على قتلى أصحابه، ودفع خالد بن الوليد العهد إلى أبى عبيدة بعد ما فرغ من القسم، ودفن الشهداء، وتراجع الطلب، فولى أبو عبيدة، رحمه الله النفل من الأخماس، فنفل وأكثر. وكتب بالفتح.
قالوا «2» : وكان فى الثلاثة آلاف الذين أصيبوا: عكرمة وابنه عمرو، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأثبت خالد بن سعيد، فلا يدرى أين مات بعد، وقد تقدم ذكر موت خالد فى غير هذه الوقعة، وهذا مما يقع بين الناقلين من الاختلاف الذى تقدم التنبيه عليه، فالله تعالى أعلم.
وعن عمرو بن ميمون وغيره، ذكروا: أن هرقل كان حج بيت المقدس، قال: فبينا هو يقيم به أتاه الخبر بقرب الجنود منه، فجمع الروم وقال: أرى من الرأى أن لا تقاتلوا هؤلاء القوم وأن تصالحوهم، فو الله لئن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام وتأخذوا نصفا وتقر لكم جبال الروم خير لكم من أن يغلبوكم على الشام ويشاركوكم فى جبال الروم، فنخر أخوه وختنه، وتصدع عنه من كان حوله، فلما رآهم يعصونه ويردون عليه
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 401) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 402) .

(2/300)


بعث أخاه، وأمر الأمراء، ووجه إلى كل حيز جندا، فلما اجتمع المسلمون أمرهم، يعنى الروم، بمنزل جامع حصين، فنزلوا الواقوصة، وخرج هو فنزل حمص، فلما بلغه أن خالدا قد طلع على سوى وانتسف أهله وأموالهم وعمد إلى بصرى وافتتحها، قال لجلسائه: ألم أقل لكم لا تقاتلوهم، فإنه لا يقوم لهم أحد، فقالوا: قاتل عن دينك واقض الذى عليك ولا تجبن الناس، قال: وأى شىء أطلب إلا توقير دينكم.
ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك، بعثوا إلى الروم: إنا نريد كلام أميركم وملاقاته، فدعونا نأته ونكلمه، فأبلغوه، فأذن لهم. فأتاه أبو عبيدة ويزيد بن أبى سفيان كالرسل، والحارث بن هشام، وضرار بن الأزور، وأبو جندل بن سهيل، ومع أخى هرقل يومئذ ثلاثون سرادقا كلها من ديباج، فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها، وقالوا: لا نستحل الحرير، فابرز لنا، فبرز إلى فرش ممهدة، وبلغ ذلك هرقل، فقال: ألم أقل لكم، هذا أول الذل، أما الشام فلا شام، ويل للروم من الولد المشئوم، ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح، فرجع أبو عبيدة وأصحابه، واتعدوا، فكان القتال حتى جاء الفتح «1» .
قصة صلح إيلياء وقدوم عمر رضى الله عنه الشام
وكان أبو عبيدة رحمه الله، بعد انقضاء اليرموك، على ما وقع فى كتب فتوح الشام من ذلك «2» ، قد بعث الرسل إلى أهل إيلياء يطلبهم بالخروج إليه ليكتب لهم أمانا على أنفسهم وأموالهم، فتثاقلوا عليه، فكتب إليهم يعرض عليهم الإسلام أو الجزية، أو ينزل بهم حتى يحكم الله له عليهم، وقد أوردنا هذا الكتاب بنصه قبل، فلما أبوا أن يأتوه وأن يصالحوه، أقبل إليهم حتى نزل بهم، فحاصرهم حصارا شديدا، وضيق عليهم من كل جانب، فخرجوا إليه ذات يوم، فقاتلوهم ساعة، ثم شد عليهم المسلمون فانهزموا ودخلوا حصنهم، وكان الذى ولى قتالهم خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان، كل واحد منهما فى جانب فبلغ ذلك سعيد بن زيد وهو على دمشق، فكتب إلى أبى عبيدة:
أما بعد، فإنى لعمرى ما كنت لأوثرك وأصحابك بالجهاد فى سبيل الله على نفسى، وعلى ما يقربنى من مرضاة ربى، فإذا أتاك كتابى هذا فابعث إلى عملك من هو أرغب فيه منى، فليعمل لك عليه ما بدا لك، فإنى قادم عليك وشيكا إن شاء الله، والسلام عليك.
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 403) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (242- 250) .

(2/301)


فلما وصل كتابه إلى أبى عبيدة، قال: أشهد ليفعلنها، فقال ليزيد بن أبى سفيان:
اكفنى دمشق، فسار إليها يزيد فوليها.
وكان فى المسلمين رجل من بنى نمير يقال له مخيمس بن حابس بن معاوية، وكان شجاعا، وكان الناس يذكرون منه صلاحا، فقده أصحابه أياما، فكانوا يطلبونه ويسألون عنه فلا يخبرون عنه بشىء، فلما يئسوا منه ظنوا أن قد هلك، وأنه اغتيل، فبينا هم جلوس ذات يوم إذ طلع عليهم مقبلا فى يده ورقتان لم ينظر الناس إلى مثلهما قط أنضر، ولا أعرض عرضا، ولا أطول طولا، ولا أحسن منظرا، ولا أطيب رائحة، ففرح به أصحابه فرحا شديدا، وقالوا له: أين كنت؟ قال: وقعت فى جب فمضيت فيه حتى انتهيت إلى جنة معروشة، فيها من كل شىء، ولم تر عينى مثل ما فيها قط فى مكان، ولم أظن أن الله خلق مثلها، فلبثت فيها هذه الأيام التى فقدتمونى، فى نعيم ليس مثله نعيم، وفى منظر ليس مثله منظر، وفى رائحة لم يجد أحد من الناس قط، أطيب منها، فبينا أنا كذلك، أتانى آت فأخذ بيدى فأخرجنى منها إليكم، وقد كنت أخذت هاتين الورقتين من شجرة كنت تحتها جالسا، فبقيتا فى يدى، فأخذ الناس يشمونهما فيجدون لهما ريحا لم يجدوا لشىء قط أطيب منها، فأهل الشام يزعمون أنه أدخل الجنة وأن تينك الورقتين من ورقها، ويقولون: إن الخلفاء رفعتهما فى الخزانة.
ولما رأى أهل إيلياء أن أبا عبيدة غير مقلع عنهم، وظنوا أن لا طاقة لهم بحربه، قالوا:
نحن نصالحك، قال: فإنى أقبل منكم الصلح، قالوا: فأرسل إلى خليفتكم عمر، فيكون هو الذى يعطينا العهد، ويكتب لنا الأمان، فقبل ذلك أبو عبيدة، وهم بالكتاب، وكان لا يقطع أمرا دون رأى معاذ، وكان معاذ لا يكاد يفارقه، لرغبته فى الجهاد، فأرسل إليه أبو عبيدة، وكان بعثه إلى الأردن، فلما قدم عليه أخبره، فقال له معاذ: تكتب إلى أمير المؤمنين فتسأله القدوم عليك، فلعله أن يستقدم، ثم يأبى هؤلاء الصلح فيكون سيره عناء وفضلا، فلا تكتب إليه حتى تستحلفهم بأيمانهم المغلظة: لئن: أنت سألته القدوم فقدم عليهم فأعطاهم الأمان وكتب لهم الصلح ليقبلن ذلك وليصالحن عليه، فأخذ عليهم أبو عبيدة الأيمان المغلظة لئن عمر قدم فأعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وكتب لهم على ذلك كتابا ليقبلن وليؤدن الجزية وليدخلن فيما دخل فيه أهل الشام، فلما فعلوا ذلك كتب إليه أبو عبيدة:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد: فإنا أقمنا على إيلياء، وظنوا أن

(2/302)


لهم فى المطاولة فرجا ورجاء، فلم يزدهم الله بها إلا ضيقا ونقصا وهزلا وأزلا، فلما رأوا ذلك سألونا أن نعطيهم ما كانوا قبل منه ممتنعين، وله كارهين، وسألونا الصلح على أن يقدم عليهم أمير المؤمنين، فيكون هو المؤمن لهم والكاتب لهم كتابا، وإنا خشينا أن يقدم أمير المؤمنين ثم يغدر القوم ويرجعوا، فيكون مسيرك، أصلحك الله، عناء وفضلا، فأخذنا عليهم المواثيق المغلظة بأيمانهم، لئن أنت قدمت عليهم فامنتهم على أنفسهم وأموالهم ليقبلن ذلك وليؤدن الجزية، وليدخلن فيما دخل فيه أهل الذمة، ففعلوا، فإن رأيت يا أمير المؤمنين أن تقدم علينا فافعل، فإن فى مسيرك أجرا وصلاحا وعافية للمسلمين، آتاك الله رشدك، ويسر أمرك، والسلام عليك.
فلما أتى عمر رحمه الله، كتاب أبى عبيدة، جمع رؤس المسلمين، فقرأه عليهم واستشارهم فقال له عثمان: إن الله قد أذلهم وحصرهم وضيق عليهم، وأراهم ما صنع بجموعهم وملوكهم، وما قتل من صناديدهم، وفتح على المسلمين من بلادهم، فهم فى كل يوم يزدادون هزلا وأزلا وذلا ونقصا وضيقا ورغما، فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم علموا أنك بأمرهم مستخف، ولشأنهم محتقر، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى ينزلوا على الحكم، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وإلا حاصرهم المسلمون وضيقوا عليهم حتى يعطوا بأيديهم. فقال عمر: ماذا ترون؟ هل عند أحد منكم غير هذا الرأى؟. فقال على بن أبى طالب: نعم، يا أمير المؤمنين، عندى غير هذا. فقال: ما هو؟.
قال: إنهم يا أمير المؤمنين قد سألوك المنزلة التى لهم فيها الذل والصغار، وهى على المسلمين فتح ولهم عز، وهم يعطونكها الآن عاجلا فى عافية، ليس بينك وبين ذلك إلا أن تقدم عليهم، ولك يا أمير المؤمنين فى القدوم عليهم الأجر فى كل ظمأ وكل مخمصة وفى قطع كل واد وفى كل فج وشعب وفى كل نفقة تنفقها حتى تقدم عليهم، فإن قدمت عليهم كان فى قدومك عليهم الأمن والعافية والصلح، والفتح، ولست آمن لو أنهم يئسوا من قبولك الصلح ومن قدومك عليهم أن يتمسكوا بحصنهم، ولعلهم أن يأتيهم من عدونا مدد لهم فيدخلوا معهم فى حصنهم، فيدخل على المسلمين من حربهم وجهادهم بلاء ومشقة، ويطول بهم الحصار، ويقيم المسلمون عليهم، فيصيب المسلمين من الجهد والجوع نحو ما يصيبهم، ولعل المسلمين يدنون من حصنهم فيرمونهم بالنشاب ويقذفونهم بالحجارة، فإن قتل رجل من المسلمين تمنيتم أنكم فديتموه بمسيركم إلى منقطع الترب، ولكان المسلم بذلك من إخوانه أهلا.
فقال عمر: قد أحسن عثمان فى مكيدة العدو، وقد أحسن على النظر لأهل الإسلام.

(2/303)


ثم قال: سيروا على اسم الله، فإنى معسكر وسائر. ثم خرج ومعه أشراف الناس وبيوتات العرب والمهاجرون والأنصار، وأخرج معه العباس بن عبد المطلب.
وعن أبى سعيد المقبرى «1» أن عمر رحمه الله، كان فى مسيره ذلك يجلس لأصحابه إذا صلى الغداة، فيقبل عليهم بوجهه، ثم يقول: الحمد لله الذى أعزنا بالإسلام والإيمان، وأكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهدانا به من الضلالة، وجمعنا من الفرقة، وألف بين قلوبنا، ونصرنا به على الأعداء، ومكن لنا فى البلاد، وجعلنا به إخوانا متحابين، فاحمدوا الله على هذه النعم وسلوه المزيد فيها، والشكر عليها، وتمام ما أصبحتم تتقلبون فيه منها، فإن الله عز وجل، يريد الرغبة إليه، ويتم نعمته على الشاكرين.
قال: فكان عمر رضى الله عنه، لا يدع هذا القول كل غداة، فى مبتدئه ومرجعه.
وعن أبى سعيد الخدرى أن عمر رحمه الله، مضى فى وجهه ذلك حتى انتهى إلى الجابية، فقام فى الناس فقال:
الحمد لله الحميد، المستحمد الدفاع المجيد، الغفور الودود، الذى من أراد أن يهديه من عباده اهتدى، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف: 17] .
قال: وإذا رجل من القسيسين من النصارى عندهم، وعليه جبة صوف، فلما قال عمر رضى الله عنه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ قال النصرانى: وأنا أشهد، فقال عمر:
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً، فنفض النصرانى جبته عن صدره، ثم قال:
معاذ الله، لا يضل الله أحدا يريد الهدى، فقال عمر: ماذا يقول عدوه الله، هذا النصرانى؟ فأخبروه، فرفع عمر صوته، وعاد فى خطبته بمثل مقالته الأولى، ففعل النصرانى كفعله الأول، فغضب عمر رضى الله عنه، وقال: والله لئن أعادها لأضربن عنقه، ففهمها العلج فسكت، إذ عاد عمر فى خطبته وقال: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، ثم قال: أما بعد، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خيار أمتى الذين يلونكم، ثم الذين تلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولم يستشهد عليها، وحتى يحلف على اليمين ولم يسألها، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ولا يبالى بشذوذ من شذ، وذكر بقية الحديث «2» .
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (250- 251) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (151) وما بعدها.

(2/304)


قال: ثم خرج عمر رحمه الله، من الجابية إلى إيلياء، فخرج إليه المسلمون يستقبلونه، وخرج أبو عبيدة بالناس أجمعين، وأقبل هو على جمل له، وعليه رحله، وعليه صفة من جلد كبش حولى، فانتهى إلى مخاضة، فأقبلوا يبتدرونه، فقال للمسلمين: مكانكم، ثم نزل عن بعيره، فأخذ بزمانه وهو من ليف، ثم دخل الماء بين يدى جمله، حتى جاز الماء إلى أصحاب أبى عبيدة، فإذا معهم برذون يجنبونه، فقال له: يا أمير المؤمنين، اركب هذا البرذون، فإنه أجمل بك وأهون عليك فى ركوبك، ولا نحب أن يراك أهل الذمة فى مثل هذه الهيئة التى نراك فيها، واستقبلوه بثياب بيض، فنزل عمر عن جمله وركب البرذون، وترك الثياب، فلما هملج به البرذون، نزل عنه، وقال: خذوا هذا عنى، فإنه شيطان، وأخاف أن يغير على قلبى، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو لبست هذه الثياب البيض، وركبت هذا البرذون لكان أجمل فى المروءة وأحسن فى الذكر وخيرا فى الجهاد. فقال عمر رضى الله عنه: ويحكم، لا تعتزوا بغير ما أعزكم الله به فتذلوا، ثم مضى ومضى المسلمون معه حتى أتى إيلياء، فنزل بها، فأتاه رجال من المسلمين فيهم أبو الأعور السلمى، وقد لبسوا لباس الروم، وتشبهوا بهم فى هيئتهم، فقال عمر: احثوا فى وجوههم التراب، حتى يرجعوا إلى هيئتنا وسنتنا ولباسنا، وكانوا قد أظهروا شيئا من الديباج، فأمر بهم فحرق عليهم.
وفى غير هذا الحديث مما ذكره سيف «1» : أن خالد بن الوليد لقى عمر عند مقدمة الجابية فى الخيل، عليهم الديباج والحرير، فنزل، وأخذ الحجارة فرماهم بها، وقال:
سرعان ما لفتم عن رأيكم، إياى تستقبلون فى هذا الزى، وإنما شبعتم منذ سنتين، سرعان ما نزت بكم البطنة، وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنها يلامقة، وإن علينا السلاح، قال: فنعم إذا.
وفى حديث أبى سعيد الخدرى «2» ، فقال يزيد بن أبى سفيان: يا أمير المؤمنين، إن الثياب والدواب عندنا كثيرة، والعيش عندنا رفيع، والسعر رخيص، وحال المسلمين كما تحب، فلو أنك لبست من هذه الثياب البيض وركبت من هذه الدواب الفره، وأطعمت المسلمين من هذا الطعام الكثير، كان أبعد الصوت، وأزين لك فى هذا الأمر، وأعظم لك فى الأعاجم. فقال له: يا يزيد لا والله لا أدع الهيئة التى فارقت عليها صاحبى، ولا أتزين للناس بما أخاف أن يشيننى عند ربى، ولا أريد أن يعظم أمرى عند الناس ويصغر عند الله.
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 607) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (253) .

(2/305)


فلم يزل عمر رحمه الله، على الأمر الأول الذى كان عليه فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياة أبى بكر، رضى الله عنه، حتى خرج من الدنيا.
قال: فلما نزل عمر بإيلياء واطمأن الناس، بعث أبو عبيدة إلى أهل إيلياء، أن انزلوا إلى أمير المؤمنين، واستوثقوا لأنفسكم، فنزل إليه ابن الجعيد فى ناس من عظمائهم، فكتب لهم عمر كتاب الأمان والصلح، فلما قبضوا كتابهم وأمنوا، دخل الناس بعضهم فى بعض، ولم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزار عمر، فيصنع له ويسأله أن يزوره فى رحله، فيفعل ذلك عمر، إكراما لهم، غير أبى عبيدة، فإنه لم يستزره، فقال له عمر: إنه لم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزارنى غيرك، فقال: أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، إنى أخاف إن استزرتك أن تعصر عينيك، فأتاه عمر فى بيته، فإذا ليس فى بيته إلا لبد فرسه، وإذا هو فراشه وسرجه وإذا هو وسادته، وإذا كسر يابسة فى كوة بيته، فجاء بها، فوضعها على الأرض بين يديه، وأتى بملح جريش، وكوز خزف فيه ماء.
فلما نظر عمر إلى ذلك بكى، ثم التزمه وقال: أنت أخى، وما من أحد من أصحابى إلا وقد نال من الدنيا ونالت منه، غيرك؟ فقال له أبو عبيدة: ألم أخبرك أنك ستعصر فى بيتى عينيك.
قال: ثم إن عمر قام فى الناس، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أهل الإسلام، إن الله قد صدقكم الوعد، ونصركم على الأعداء، وأورثكم البلاد، ومكن لكم فى الأرض، فلا يكن جزاء ربكم إلا الشكر، وإياكم والعمل بالمعاصى، فإن العمل بالمعاصى كفر للنعم، وقل ما كفر قوم بما أنعم الله عليهم، ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم وسلط عليهم عدوهم.
ثم نزل، وحضرت الصلاة، فقال عمر رضى الله عنه: يا بلال، ألا تؤذن لنا رحمك الله، فقال بلال: يا أمير المؤمنين، أما والله ما أردت أن أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سأطيعك اليوم إذ أمرتنى فى هذه الصلاة وحدها. فلما أذن بلال وسمعت الصحابة صوته، ذكروا نبيهم صلى الله عليه وسلم فبكوا بكاء شديدا، ولم يكن يومئذ أحد أطول بكاء من أبى عبيدة ومعاذ بن جبل، حتى قال لهما عمر: حسبكما رحمكما الله، فلما قضى عمر صلاته، قام إليه بلال فقال: يا أمير المؤمنين، إن أمراء أجنادك بالشام والله ما يأكلون إلا لحوم الطير، والخبز النقى، وما يجد ذلك عامة المسلمين.
فقال لهم عمر: ما يقول بلال؟ فقال يزيد بن أبى سفيان: يا أمير المؤمنين، إن سعر

(2/306)


بلادنا رخيص، وإنا نصيب هذا الذى ذكر بلال هاهنا بمثل ما كنا نقوت به عيالنا بالحجاز، فقال عمر: والله لا أبرح العرصة أبدا حتى تضمنوا لى أرزاق المسلمين فى كل شهر، ثم قال: انظروا، كم يكفى الرجل ويسعه فى كل يوم، فقالوا: كذا وكذا، فقال:
كم يكون ذلك فى الشهر، قالوا: جريبين من قمح مع ما يصلحه من الزيت والخل عند رأس كل هلال، فضمنوا له ذلك، ثم قال: يا معشر المسلمين، هذا لكم سوى أعطياتكم، فإن وفا لكم أمراؤكم بهذا الذى فرضته لكم وأعطوكموه فى كل شهر، فذلك ما أحب، وإن هم لم يفعلوا، فأعلمونى حتى أعزلهم عنكم، وأولى أمركم غيرهم، فلم يزل ذلك جاريا دهرا حتى قطع بعد ذلك.
وعن شهر بن حوشب «1» : أن إسلام كعب الحبر وهو من اليمن من حمير، كان فى قدوم عمر الشام، وأن كعبا أخبره بأمره، وكيف كان ذلك.
قال: وكان أبوه من مؤمنى أهل التوراة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من عظمائهم وخيارهم.
قال كعب: وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة، وبكتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عنى شيئا مما كان يعلم، فلما حضرته الوفاة دعانى فقال: يا بنى قد علمت أنى لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم، إلا أنى حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبى يبعث، وقد أظل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك، فلا آمن عليك بعد وفاتى أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه، وقد قطعتهما من كتابك وجعلتهما فى هذه الكوة التى ترى، وطينت عليهما، فلا تتعرضن لهما ولا تنظر فيهما زمانك هذا، وأقرهما فى موضعهما حتى يخرج ذلك النبى، فإذا خرج فاتبعه، وانظر فيهما، فإن الله يزيدك بذلك خيرا.
فلما مات والدى لم يكن شىء أحب إلىّ من أن ينقضى المأتم حتى أنظر فى الورقتين، فلما انقضى المأتم فتحت الكوة، ثم استخرجت الورقتين، فإذا فيهما: محمد رسول الله، خاتم النبيين، لا نبى بعده، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمادون، الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال، وتذلل ألسنتهم بالتكبير، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء،
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (259- 262) .

(2/307)


ويأتزرون على أوساطهم، وأناجيلهم فى صدورهم، ويأكلون قربانهم فى بطونهم، ويؤخرون عليها، وتراحمهم بينهم تراحم بنى الأم والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون المقربون المشفعون المشفع لهم، فلما قرأت هذا قلت فى نفسى: والله ما علمنى أبى شيئا هو خير لى من هذا، فمكثت بذلك ما شاء الله، حتى بعث النبى صلى الله عليه وسلم وبينى وبينه بلاد بعيدة، منقطعة، لا أقدر على إتيانه، وبلغنى أنه خرج فى مكة، وهو يظهر مرة ويستخفى مرة، فقلت: هو هذا، وتخوفت ما كان والدى حذرنى وخوفنى من الكذابين، وجعلت أحب أتبين وأتثبت، فلم أزل بذلك حتى بلغنى أنه قد أتى المدينة، فقلت فى نفسى: إنى لأرجو أن يكون إياه، وجعلت ألتمس السبيل إليه، فلم يقدر لى حتى بلغنى أنه قد توفى صلوات الله عليه وسلامه.
فقلت فى نفسى: لعله لم يكن الذى كنت أظن، ثم بلغنى أن خليفته قام مقامه، ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده، فقلت فى نفسى: لا أدخل فى هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم وإلى ما تكون عاقبتهم، فلم أزل أدفع ذلك وأؤخر لأتبين وأتثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب، فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء، علمت أنهم هم الذين كنت أنتظر، فحدثت نفسى بالدخول فى الإسلام، فو الله إنى ذات ليلة فوق سطح لى، إذا رجل من المسلمين يتلو كتاب الله تعالى، حتى أتى على هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء: 47] .
قال: فلما سمعت هذه الآية خشيت والله ألا أصبح حتى يحول وجهى فى قفاى، فما كان شىء أحب إلىّ من الصباح، فغدوت على عمر، فأسلمت حين أصبحت.
وقال كعب لعمر عند انصرافه عن الشام: يا أمير المؤمنين، إنه مكتوب فى كتاب الله: إن هذه البلاد التى كان فيها بنو إسرائيل، وكانوا أهلها، مفتوحة على رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وعلانيته مثل سره، وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد عنده فى الحق سواء، وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار، متراحمون متواصلون متباذلون.
فقال له عمر: ثكلتك أمك، أحق ما تقول؟ قال: أى والذى أنزل التوراة على موسى، والذى يسمع ما نقول، إنه لحق.

(2/308)


فقال عمر رضى الله عنه: فالحمد لله الذى أعزنا وشرفنا وأكرمنا فرحمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبرحمته التى وسعت كل شىء.
ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه، وهو عندنا بالإسناد: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، خرج زمان الجاهلية مع أناس من قريش فى تجارة إلى الشام، قال: فإنى لفى سوق من أسواقها، إذا ببطريق قد قبض على عنقى، فذهبت أنازعه، فقيل لى: لا تفعل، فإنه لا نصف لك منه، فأدخلنى كنيسة، فإذا تراب عظيم ملقى، فجاءنى بزنبيل ومجرفة، فقال: انقل ما هاهنا، فجعلت أنظر كيف أصنع، فلما كان فى الهاجرة وافانى وعليه ثوب أرى سائر جسده منه، فقال: أئنك على ما أرى ما نقلت شيئا، ثم جمع يديه فضرب بهما دماغى، فقلت: واثكل أمك يا عمر، أبلغت ما أرى، ثم وثبت إلى المجرفة، فضربت بها هامته، فنثرت دماغه، ثم واريته فى التراب، وخرجت على وجهى، لا أدرى أين أسير، فسرت بقية يومى وليلتى ومن الغد إلى الهاجرة، فانتهيت إلى دير، فاستظللت بفنائه، فخرج إلىّ منه رجل، فقال لى: يا عبد الله، ما يقعدك هنا؟ فقلت:
أضللت أصحابى، فقال لى: ما أنت على طريق، وإنك لتنظر بعينى خائف، فادخل وأصب من الطعام، واسترح، فدخلت فأتانى بطعام وشراب، وألطفنى، ثم صعد فى النظر وصوبه، فقال: قد علم أهل الكتاب أو الكتب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب أو الكتب منى، وإنى لأرى صفتك، الصفة التى تخرجنا من هذا الدير، وتغلبنا عليه، فقلت له: يا هذا، لقد ذهبت فى غير مذهب. فقال لى: ما اسمك؟ فقلت: عمر بن الخطاب، قال: أنت والله صاحبنا، فاكتب لى على ديرى هذا وما فيه، فقلت: يا هذا، إنك قد صنعت إلىّ صنيعة فلا تكدرها، فقال: إنما هو كتاب فى رق، فإن كنت صاحبنا فذاك، وإلا لم يضرك شىء، فكتبت له على ديره وما فيه، فأتانى بثياب ودراهم، فدفعها إلىّ، ثم أوكف أتانا، فقال: أتراها؟ قلت: نعم، قال: سر عليها، فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة، فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إلىّ، قال: فركبتها، فكان كما قال، حتى لحقت أصحابى وهم متوجهون إلى الحجاز، فضربتها مدبرة وانطلقت معهم، فلما وافى عمر الشام فى خلافته، جاءه ذلك الراهب بالكتاب، وهو صاحب دير العدس، فلما رآه عرفه، ثم قال: قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه، ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه، فلما فرغ منه، أقبل على الراهب، فقال: هل عندكم من نفع للمسلمين؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فوفى له عمر رضى الله عنه.

(2/309)


وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله «1» ، قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق، فقال: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء، والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء.
وعند سيف فى أمر إيلياء أحاديث ربما خالفت بعض ما تقدم، ونحن نورد منها ما يطيل الإمتاع مضموما إلى ذلك ما ذكره من أمر قيسارية وغيره.
فمن ذلك «2» : أن عمر رحمه الله، كتب إلى يزيد بن أبى سفيان بعد مصالحة أهل الأردن، واجتماع عسكر الروم بأجنادين وبيسان وغزة: أن يسرح معاوية إلى قيسارية.
وكتب عمر إلى معاوية: أما بعد، فإنى قد وليتك قيسارية، فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا، نعم المولى ونعم النصير.
فسار معاوية فى جنده حتى نزل على أهل قيسارية، فهزمهم وحصرهم، ثم إنهم جعلوا يزاحفونه فلا يزاحفونه فى مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم، ثم زاحفوه آخر ذلك وخرجوا من صياصيهم، فاقتتلوا فى حفيظة واستماتة، فبلغ قتلاهم فى المعركة ثمانين ألفا، وكملها فى هزيمتهم مائة ألف، وبعث بالفتح مع رجلين من بنى الضبيب، ثم خاف منهما الضعف، فبعث آخرين بعدهما، فلحقاهما، فطوياهما وهما نائمان، وانتهى بريد معاوية إلى عمر بالخبر ليلا، فجمع الناس وأباتهم على الفرح، وجعل معاوية قبل الفتح وبعده يجلس الأسرى عنده ويقول: ما صنعوا بأسرانا صنعنا بأسراهم مثله، فمنع بذلك من العبث بأسرى المسلمين، حتى افتتح قيسارية.
وكان عمر لما أمر معاوية بالتوجه إلى قيسارية، أمر عمرو بن العاص بصدم الأرطبون وكان على جمع الروم بأجنادين، وأمر علقمة بن مجزز بصدم القيقار، وكان على الروم بغزة، فلما توجه معاوية إلى قيسارية صدم عمرو بن العاص، إلى الأرطبون ومن بإزائه، وخرج معه شرحبيل بن حسنة على مقدمته، وولى مجنبتيه ابنه عبد الله بن عمرو وجنادة ابن تميم من بنى مالك بن كنانة، واستخلف أبا الأعور على الأردن، وخرج حتى نزل على الروم بأجنادين، وهم فى حصونهم وخنادقهم، وعليهم الأرطبون، وكان أدهى الروم، وأبعدها غورا وأنكاها فعلا، وكان وضع بالرملة جندا عظيما، وبإيلياء جندا
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 608) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 604) .

(2/310)


عظيما، وكتب عمرو بالخبر إلى عمر، فلما جاءه كتابه قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عم تنفرج.
وأقام عمرو على أجنادين، لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه الرسل، فولى ذلك بنفسه، وتوجه فدخل عليه، كأنه رسول، فأبلغه ما يريد، وسمع كلامه حتى عرف ما أراد، وتأمل حصونه، فقال أرطبون فى نفسه: والله إن هذا لعمرو، أو إنه للذى يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله، ثم دعا حرسيا فساره، فقال: اخرج فقم بمكان كذا فإذا مر بك فاقتله، وفطن له عمرو، فقال له: قد سمعت منى وسمعت منك، وقد وقع ما قلت منى موقعا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالى لنكانفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن، فإن رأوا مثل الذى أرى فقد رآه أهل العسكر ورآه الأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك. قال: نعم، ودعا فلانا فساره، وقال: اذهب إلى فلان، يعنى ذلك الحرسى، فرده إلىّ، فرجع إليه الرجل، وقال لعمرو: انطلق فجئ بأصحابك، فخرج عمرو ورأى أن لا يعود لمثلها، وعلم الرومى أنه خدعه فقال: هذا أدهى الخلق، وبلغت عمر فقال: غلبه عمرو «1» .
ثم ناهده عمرو وقد عرف مأخذه، فالتقوا بأجنادين، فاقتتلوا قتالا شديدا كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم، ثم انهزم أرطبون فى الناس، فأوى إلى إيلياء، ونزل عمرو أجنادين وانطلق علقمة بن مجزز فحصر القيقار بغزة، وجعل يراسله فلم يشفه أحد مما يريد، فأتاه كأنه رسول علقمة، فأمر القيقار رجلا أن يقعد له بالطريق، فإذا مر قتله، ففطن علقمة، فقال: إن معى نفرا شركائى فى الرأى، فأنطلق فآتيك بهم، فبعث إلى ذلك الرجل أن لا يعرض لعلقمة، فخرج من عنده ولم يعد، كما فعل عمرو بالأرطبون.
ولما أتى أرطبون إيلياء، أفرج له المسلمون حتى دخلها، ثم أزالهم إلى أجنادين، وكتب إلى عمرو: بأنك صديقى ونظيرى، أنت فى قومك مثلى فى قومى، والله لا تفتتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين، فارجع فلا تغر فتلقى ما لقى الذين قبلك من الهزيمة، فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية، فأرسله إلى أرطبون، وأمره أن يتنكر ويقرب ويستمع ما يقول، حتى يخبره به إذا رجع، وكتب إلى أرطبون:
جاءنى كتابك، وأنت نظيرى، ومثلى فى قومك، لو أخطأتك خصلة تجاهلت
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 604- 606) .

(2/311)


فضيلتى، وقد علمت أنى صاحب فتح هذه البلاد، وأستعدى عليك فلانا وفلانا وفلانا لوزرائه، فأقرئهم كتابى، ولينظروا فيما بينى وبينك.
فخرج الرسول على ما أمره به حتى أتى أرطبون، فدفع إليه الكتاب، بمشهد من أولئك النفر، فاقترأه، فضحكوا وتعجبوا، وأقبلوا على أرطبون، فقالوا: من أين علمت أنه ليس بصاحبها؟ قال: صاحبها رجل اسمه عمر، ثلاثة أحرف، فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر. وكتب إلى عمر يستمده، ويقول: إنى أعالج حربا كئودا، وبلادا ادخرت لك، فرأيك. فلما جاء عمر الكتاب، علم أن عمرا لم يقل إلا بعلم، فنادى فى الناس، ثم خرج بهم حتى نزل الجابية.
وعن عدى بن سهل قال «1» : لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين، استخلف عليا، وخرج ممدا لهم، فقال على: أين تخرج بنفسك؟ إنك تريد عدوا كلبا، فقال: إنى أبادر بجهاد العدو موت العباس، إنكم لو فقدتم العباس لانتقض لكم الشر انتقاض الجبل.
قالوا: وجميع ما خرج عمر إلى الشام أربع مرات، أما الأولى فعلى فرس، وأما الثانية فعلى بعير، وأما الثالثة فقصر به عنها استعار الطاعون، وأما الرابعة فدخلها على حمار، فاستخلف عليها وخرج، وفتحت إيلياء وأرضها كلها فى ربيع الآخر سنة ست عشرة على يدى عمر بن الخطاب ما خلا أجنادين، على يدى عمرو، وقيسارية على يدى معاوية.
وعن سالم بن عبد الله: أن أهل إيلياء أشجوا عمر وأشجاهم، ولم يقدر عليها ولا على الرملة، قال: فبينا عمر معسكرا بالجابية، فزع الناس إلى السلاح، فقال: ما شأنكم؟
فقالوا: ألا ترى الخيل والسيوف؟ فنظر، فإذا كردوس يلمعون بالسيوف، فقال عمر:
مستأمنة فلا تراعوا وأمنوهم، وإذا هم أهل إيلياء، فصالحوه على الجزية، وفتحوا له إيلياء، واكتتبوا منه عليها، وعلى حيزها، والرملة وحيزها فصارت فلسطين نصفين، نصفا مع أهل إيلياء ونصفا مع أهل الرملة، وفلسطين تعدل الشام كله، وهى عشر كور من غير هذا الحديث المتقدم.
وهو مما ذكره سيف أيضا «2» أن عمر رضى الله عنه، فرق فلسطين على رجلين فجعل علقمة بن حكيم على نصفها وأنزله الرملة، وعلقمة بن مجزز على نصفها وأنزله إيلياء،
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 608) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 610) .

(2/312)


ونزل كل واحد منهما فى عمله فى الجنود التى كانت معه، وكان سالم بن عبد الله فى الجنود التى كانت مع عمرو، وضم عمرا وشرحبيل إليه بالجابية، فلما انتهيا إليها وافقا عمر رضى الله عنه، راكبا، فقبلا ركبته، وضم عمر كل واحد منهما واحتضنه.
وعن غير سالم «1» : أن عمر رضى الله عنه، لما بعث بأمان أهل إيلياء، وأسكنها الجند شخص إلى بيت المقدس من الجابية فرأى فرسه يتوجى فنزل عنه وأتى ببرذون فركبه فهزه، فنزل فضرب وجهه بردائه، ثم قال: قبح الله من علمك هذا، ثم دعا بفرسه بعد ما أجمه أياما يوقحه، فركب، ثم سار حتى انتهى إلى بيت المقدس، وفى رواية أنه قال للبرذون: لا علم الله من علمك هذا من الخيلاء، ولم يركب برذونا قبله ولا بعده.
وعن أبى مريم مولى سلامة قال: شهدت فتح إيلياء مع عمر رضى الله عنه، فسار من الجابية فاصلا حتى يقدم إيلياء، ثم مضى حتى يدخل المسجد، ثم مضى نحو محراب داود، ونحن معه، فدخله، ثم قرأ سجدة داود فسجد وسجدنا معه.
وقال يزيد بن حنظلة يذكر بعض ما تقدم «2» :
تذكرت حرب الروم لما تطاولت ... وإذ نحن فى عام كثير نوازله
وإذ نحن فى أرض الحجاز وبيننا ... مسيرة شهر بينهن بلابله
وإذ أرطبون الروم يحمى بلاده ... يحاوله قرم هناك يساجله
فلما رأى الفاروق أزمان فتحها ... سما بجنود الله كيما يصاوله
فلما أحسوه وخافوا صياله ... أتوه وقالوا أنت ممن نواصله
وألقت إليه الشأم أفلاذ بطنها ... وعيشا خصيبا ما تعد مآكله
أباح لنا ما بين شرق ومغرب ... مواريث أعقاب بنتها قرامله
وكم مثقل لم يضطلع باحتماله ... تحمل عبئا حين شالت شوائله
وقال أيضا:
وقد عضلت بالشأم أرض بأهلها ... تريد من الأقوام ما كان ألحدا
سما عمر لما أتته رسائل ... كأصيد يحمى صرمة الحى أغيدا
فلما أتاه ما أتاه أجابهم ... بجيش ترى منه السنابك سجدا
وأقبلت الشام العريضة بالذى ... أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 610) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 612) .

(2/313)


فقسط فيما بينهم كل جزية ... وكل رفاد كان أهنى وأحمد
قال صاحب فتوح الشام «1» : ثم إن عمر رضى الله عنه، خرج من الشام مقبلا إلى المدينة، فلما دنا منها استقبله الناس يهنئونه بالنصر والفتح، فجاء حتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين عند المنبر، ثم صعد المنبر، واجتمع الناس إليه، فقام، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبى محمد صلى الله عليه وسلم وقال: يا أيها الناس، إن الله قد اصطنع عند هذه الأمة أن يحمدوه ويشكروه، وقد أعز دعوتها وجمع كلمتها، وأظهر فلجها، ونصرها على الأعداء، وشرفها ومكن لها فى الأرض، وأورثها بلاد المشركين وديارهم وأموالهم، فأحدثوا لله عز وجل شكرا يزدكم، واحمدوه على نعمه عليكم يدمها لكم، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين. ثم نزل.
قال: فمكث المسلمون بالشام عليها أبو عبيدة بن الجراح، ومكث فيها بعد خروج عمر منها ثلاث سنين، ثم توفى رحمه الله، فى طاعون عمواس، وكان طاعونا عم أهل الشام، ومات فيه بشر كثير، وكانت وفاة أبى عبيدة بالأردن، وبها قبره، ولما طعن رحمه الله، دعا المسلمين، فدخلوا عليه، فقال لهم: إنى موصيكم بوصية، فإن قبلتموها لم تزالوا بخير ما بقيتم، وبعد ما تهلكون: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا، وتصدقوا، وحجوا واعتمروا، وتواصلوا وتحابوا، واصدقوا أمراءكم، ولا تغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مثل مصرعى هذا الذى ترون، إن الله قد كتب الموت على بنى آدم، فهم ميتون، فأكيسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده.
ثم قال لمعاذ بن جبل: يا معاذ، صل بالناس، فصلى معاذ بهم، ومات أبو عبيدة، رحمة الله عليه ومغفرته ورضوانه، فقام معاذ فى الناس فقال: يا أيها الناس، توبوا إلى الله توبة نصوحا، فإن عبدا إن يلق الله تائبا من ذنبه كان حقا على الله أن يغفر له ذنوبه، ومن كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مصارما مسلما فليلقه فيصالحه، إذا لقيه، وليصافحه، فإنه لا ينبغى لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام، والذنب فى ذلك عظيم عند الله، وإنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل، والله ما أزعم أنى رأيت منكم عبدا من عباد الله قط أقل غمرا، ولا أبرأ صدرا، ولا أبعد من الغائلة، ولا أنصح للعامة، ولا أشد عليهم تحننا وشفقة منه، فترحموا عليه، ثم احضروا الصلاة عليه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والله لا يلى عليكم مثله أبدا.
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (266- 267) .

(2/314)


فاجتمع الناس، وأخرج أبو عبيدة، فتقدم معاذ فصلى عليه، حتى إذا أتى به قبره، دخل قبره معاذ وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس، فلما سفوا عليه التراب، قال معاذ: رحمك الله أبا عبيدة، فو الله لأثنين عليه بما علمت، والله لا أقولها باطلا، وأخاف أن يلحقنى من الله مقت، كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيرا، ومن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، ومن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما، ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما، وكنت والله ما علمت من المخبتين المتواضعين، ومن الذين يرحمون اليتيم والمسكين، ويبغضون الجفاة المتكبرين.
ولم يكن أحد من الناس أشد جزعا على فقد أبى عبيدة من معاذ، ولا أطول حزنا عليه من معاذ.
قال: ثم صلى معاذ بالناس أياما، واشتد الطاعون، وكثر الموت فى الناس، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال: يا أيها الناس، إن هذا الطاعون هو الرجز الذى عذب الله به بنى إسرائيل مع الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وأمر الناس بالفرار منه.
فأخبر معاذ بقول عمرو، فقال: ما أراد إلى أن يقول ما لا علم له به، ثم جاء معاذ حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الوباء، فقال: ليس كما قال عمرو، ولكنه رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، اللهم أعط معاذا وآل معاذ منه النصيب الأوفر، ثم صلى ورجع إلى منزله، فإذا هو بابنه عبد الرحمن قد طعن، فلما رآه قال: يا أبت، الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، قال: يا بنى، ستجدنى إن شاء الله من الصابرين، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات يرحمه الله، وصلى عليه معاذ، ودفنه.
فلما رجع معاذ إلى منزله طعن، فاشتد به وجعه، وجعل أصحابه يختلفون إليه فإذا أتوه أقبل عليهم فقال لهم: اعملوا وأنتم فى مهلة وحياة وفى بقية من آجالكم، من قبل أن تمنوا العمل فلا تجدوا إليه سبيلا، وأنفقوا مما عندكم من قبل أن تهلكوا وتدعوا ذلك ميراثا لمن بعدكم، واعلموا أنه ليس لكم من أموالكم إلا ما أكلتم وشربتم ولبستم وأنفقتم فأعطيتم فأمضيتم، وما سوى ذلك فللوارثين، فلما اشتد به وجعه جعل يقول:
رب اخنقنى خنقك، فأشهد أنك تعلم أنى أحبك.
قال: وأتاه رجل فى مرضه، فقال له: يا معاذ، علمنى شيئا، ينفعنى الله به قبل أن

(2/315)


أفارقك، فلا أراك ولا ترانى، ولا أجد منك خلفا، ثم لعلى أحتاج إلى سؤال الناس عما ينفعنى بعدك فلا أجد فيهم مثلك، فقال له معاذ: كلا، إن صالحاء المسلمين والحمد لله كثير، ولن يضيع الله أهل هذا الدين، ثم قال له: خذ عنى ما آمرك به، كن من الصائمين بالنهار، ومن المصلين فى جوف الليل، ومن المستغفرين بالأسحار، ومن الذاكرين الله كثيرا على كل حال، ولا تشرب الخمر، ولا تزنى، ولا تعق والديك، ولا تأكل مال اليتيم ولا تفر من الزحف، ولا تأكل الربا، ولا تدع الصلاة المكتوبة، ولا تضيع الزكاة المفروضة، وصل رحمك، وكن بالمؤمنين رحيما، ولا تظلم مسلما، وحج واعتمر، وجاهد، ثم أنا لك زعيم بالجنة.
ولما حضر معاذا الموت قال لجاريته: ويحك، انظرى، هل أصبحنا؟ فنظرت، فقالت:
لا، ثم تركها ساعة، ثم قال لها: انظرى، فنظرت فقالت: نعم، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، ثم قال: مرحبا بالموت، مرحبا بزائر جاء على فاقة لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أنى لم أكن أحب البقاء فى الدنيا لجرى الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكننى كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل، وطول الساعات فى النهار، ولظمأ الهواجر، فى الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب فى حلق الذكر.
فلما اقترب أمره جاء عبد الله بن الديلمى، فقال له: يرحمك الله يا معاذ، لعلنا لا نلتقى نحن ولا أنت أبدا، فقال معاذ: أجلسونى، فأجلسوه، وجلس رجل خلف ظهره، ووضع معاذ ظهره فى صدر الرجل، ثم قال: بئس ساعة الكذب هذه، حدثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فكنت أكتمكموه مخافة أن تتكلوا، فأما الآن فإنى لا أكتمكموه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه لا يموت عبد من عباد الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من القبور، ويؤمن بالرسل وما جاءت به أنه حق، ويؤمن بالجنة والنار، إلا أدخله الله الجنة وحرمه على النار.
ثم مات معاذ من ساعته يرحمه الله، واستخلف عمرو بن العاص، فصلى عليه عمرو، ودخل قبره، فوضعه فى لحده، ودخل معه رجال من المسلمين، فلما خرج عمرو من قبره، قال: رحمك الله يا معاذ، فقد كنت ما علمناك من نصحاء المسلمين ومن خيارهم، وكنت مؤدبا للجاهل، شديدا على الفاجر، رحيما بالمؤمنين، وايم الله لا يستخلف من بعدك مثلك، عمرو بن العاص.

(2/316)


وكان مهلكه ومهلك أبى عبيدة رحمهما الله، سنة ثمان عشرة، وقد كان معاذ لما هلك أبو عبيدة كتب إلى عمر ينعاه: أما بعد، فاحتسب امرأ كان لله أمينا، وكان الله فى نفسه عظيما، وكان علينا وعليك يا أمير المؤمنين عزيزا، أبا عبيدة بن الجراح، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله نحتسبه، وبالله نثق له، كتبت إليك وقد فشا الموت، وهذا الوباء فى الناس، ولن يخطئ أحد أجله، ومن لم يمت فسيموت، جعل الله ما عنده خيرا لنا من الدنيا وإن أبقانا أو هلكنا فجزاك الله عن جماعة المسلمين وعن خاصتنا وعامتنا رحمته ومغفرته ورضوانه وجنته، والسلام عليك ورحمة الله.
قال: فو الله ما هو إلا أن أتى عمر الكتاب فقرأه حتى بكى بكاء شديدا، ونعى أبا عبيدة إلى جلسائه، فما رأيت جماعة المسلمين جزعوا على رجل منهم جزعهم على أبى عبيدة، ثم ما مضى لذلك إلا أيام حتى جاء كتاب عمرو بن العاص ينعى فيه معاذ بن جبل يرحمه الله، فلما أتت عمر وفاة هذا على أثر أبى عبيدة جزع عليه جزعا شديدا، وبكى عمر والمسلمون، وحزنوا عليه حزنا عظيما، وقال عمر رضى الله عنه: رحم الله معاذا، والله لقد رفع الله بهلاكه من هذه الأمة علما جما، ولرب مشورة له صالحة قد قبلناها منه، ورأيناها أدت إلى خير وبركة، ورب علم أفادناه، وخير دلنا عليه، جزاه الله جزاء الصالحين.
وفرق عمر عند ذلك كور الشام، فبعث عبد الله بن قرط الثمالى على حمص، وعزل عنها حبيب بن مسلمة، واستعمل على دمشق أبا الدرداء الأنصارى، واستعمل يزيد بن أبى سفيان على الجنود التى كانت بالشام، ثم وجد عمر على عبد الله بن قرط بعد أن عمل له على حمص سنة فعزله عنها، وبعث حين عزله عبادة بن الصامت أميرا عليها، وقد كان بدريا عقبيا نقيبا، ثم رضى بعد ذلك عن عبد الله بن قرط، فرده على حمص.
ولما قدم عبادة بن الصامت على أهل حمص، قام فى الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: أما بعد، ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، ألا وإن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، ألا وإنكم معروضون على أعمالكم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:
7] ، ألا وإن للدنيا بنين، وإن للآخرة بنين، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها بنوها يوم القيامة.

(2/317)


ثم قال لشداد بن أوس: قم يا شداد، فعظ الناس، وكان شداد مفوها قد أعطى لسانا وحكمة وفضلا وبيانا، فقام شداد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، راجعوا كتاب الله وإن تركه كثير من الناس، فإنكم لم تروا من الخير إلا أسبابه، ولا من الشر إلا أسبابه، وإن الله جمع الخير كله بحذافيره، فجعله فى الجنة، وجمع الشر كله بحذافيره، فجعله فى النار، ألا وإن الجنة حفت بالكره والصبر، ألا وإن النار حفت بالهوى والشهوة، ألا فمن كشف حجاب الكره والصبر أشفى على الجنة، ومن أشفى على الجنة كان من أهلها، ألا ومن كشف حجاب الهوى والشهوة أشفى على النار، ومن أفى على النار كان من أهلها، ألا فاعملوا بالحق تنزلوا منازل أهل الحق، يوم لا يقضى إلا بالحق.
وقام أبو الدرداء فى أهل دمشق خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أما بعد، يا أهل دمشق، فاسمعوا مقالة أخ لكم ناصح، ما بالكم تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، وقد كان من قبلكم جمعوا كثيرا، وبنوا مشيدا، وأملوا بعيدا، وماتوا قريبا، فأصبحت أموالهم بورا، ومساكنهم قبورا وآمالهم غرورا، ألا وإن عادا وثمود وقد كانوا ملأوا ما بين بصرى وعدن أموالا وأولادا ونعما، فمن يشترى منى ما تركوا بدرهمين.
ذكر ما وعدنا به قبل من سياقة فتح قيسارية حيث ذكرها أصحاب فتوح الشام خلافا لما أوردناه قبل ذلك عن سيف بن عمر، مما لا يوافق هذا مساقا ولا زمانا، حسب ما يوقف عليه فى الموضعين إن شاء الله تعالى
ذكروا «1» أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، كتب إلى يزيد بن أبى سفيان بعد مهلك أبى عبيدة ومعاذ بن جبل رحمهما الله:
أما بعد، فقد وليتك أجناد الشام كله، وكتبت إليهم أن يسمعوا لك ويطيعوا، وأن لا يخالفوا لك أمرا، فاخرج، فعسكر بالمسلمين، ثم سر بهم إلى قيسارية، فانزل عليها، ثم لا تفارقها حتى يفتحها الله عليك، فإنه لا ينفعنى افتتاح ما افتتحتم من أرض الشام مع
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (276- 283) .

(2/318)


مقام أهل قيسارية فيها، وهم عدو لكم، إلى جانبكم، وإنه لا يزال قيصر طامعا فى الشام ما بقى فيها أحد من أهل طاعته ممتنعا، ولو قد افتتحتموها قطع الله رجاءه من جميع الشام، والله فاعل ذلك وصانع به للمسلمين، إن شاء الله تعالى.
فخرج يزيد، فعسكر بالمسلمين، وجاءه كتاب من عمر بنسخة واحدة إلى أمراء الأجناد:
أما بعد، فقد وليت يزيد بن أبى سفيان أجناد الشام كله، وأمرته أن يسير إلى قيسارية، فلا تعصوا له أمرا، ولا تخالفوا له رأيا، والسلام.
وكتب يزيد إلى أمراء الأجناد نسخة واحدة: أما بعد، فإنى قد ضربت على الناس بعثا، أريد أن أسير بهم إلى قيسارية، فاخرجوا من كل ثلاثة رجلا، وعجلوا إشخاصهم إلى إن شاء الله، والسلام.
فلم يمكث إلا قليلا حتى توافت عنده عساكر الأجناد كلها، فلما اجتمعوا عنده قام يزيد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد، فإن كتاب أمير المؤمنين عمر المبارك الفاروق، أتانى يحثنى على المسير إلى قيسارية، وأن أدعوهم إلى الإسلام، أو يدخلوا فيما دخل فيه أهل الكور من أهل الشام، فيؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا نزلت عليهم، فلم أزايلهم حتى أقتل مقاتلتهم، وأسبى ذراريهم، فسيروا رحمكم الله إليهم، فإنى أرجو أن يجمع الله لكم الغنيمة فى الدنيا والأجر فى الآخرة.
ثم قال للناس: ارتحلوا، ووجه إلى حبيب بن مسلمة أن سر فى المقدمة، فقد جعلتك عليها، ثم امض حتى تنزل بأهل قيسارية، فإنى أسرع شىء فى أثرك لحاقا بك.
فمضى حبيب فى جماعة عظيمة من المسلمين إلى قيسارية، وبها جموع من بطارقة الروم وفرسانهم وأشدائهم، وكل من كان كره الدخول فى دين الإسلام من النصارى، ومن كان كره الجزية، ومن بقى من أهل تلك المواطن التى كانوا يقاتلون المسلمين من الروم، فكانت بها جموع كثيرة، وحد وجد شديد، فلما أقبل حبيب فى المقدمة ودنا من الحصن، خرج إليه من قيسارية فرسان ورجال، فنضحوهم بالنشاب، وحملت خيلهم على المسلمين، فانحاز حبيب وخيله، حتى انتهى إلى يزيد، فنزل يزيد وجعل على ميمنته عبادة بن الصامت، وعلى الميسرة الضحاك بن قيس، ورد حبيبا على الخيل، ومشى يزيد

(2/319)


فى الرجال، فحمل عليهم، فاقتتلوا طويلا قتالا شديدا، ثم بعث إلى الضحاك: أن احمل على ميمنتهم، فحمل عليهم، فهزمهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وبعث إلى عبادة بن الصامت، أن أحمل على ميسرتهم، فحمل عليهم، فثبتوا له، فقاتلهم طويلا، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم تحاجزوا، وانصرف عبادة إلى موقفه، فحرض أصحابه ووعظهم، ثم قال: يا أهل الإسلام، إنى كنت أحدث النقباء سنا، وأبعدهم أجلا، وقد قضى الله أن أبقانى حتى قاتلت هذا العدو معكم، وإنى أسأل الله أن يرينى وإياكم أحسن ثواب المجاهدين، والله الذى نفسى بيده ما حملت قط فى عصابة من المؤمنين على جماعة من المشركين إلا خلوا لنا العرصة، وأعطانا الله عليهم الظفر غيركم، فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم.
وإن عمر لما بلغه شدة قتال أهل اليرموك لكم قال: سبحان الله، أو قد واقفوهم، ما أظن المسلمين إلا قد غلوا، ولو لم يغلوا ما واقفوهم، ولظفروا بغير مئونة، والله إنى خائف عليكم خصلتين: أن تكونوا قد غللتم، أو لم تناصحوا الله فى حملتكم عليهم، فشدوا عليهم يرحمكم الله معى إذا شددت، فلا والله لا أرجع إلى موقفى هذا إن شاء الله ولا أزايلهم حتى يهزمهم الله أو أموت دونهم، ثم حمل عليهم، وحملت معه الميمنة على ميسرة الروم، فصبروا لهم حتى تطاعنوا بالرماح، واضطربوا بالسيوف، واختلفت أعناق الخيل، فلما رأى ذلك عبادة ترجل، ثم نادى عمير بن سعد الأنصارى فى المسلمين: يا أهل الإسلام إن عبادة بن الصامت سيد المسلمين، وصاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل وترجل، فالكرة الكرة إلى رحمة الله والجنة، واتقوا عواقب الفرار، فإنها تقود إلى النار.
وأقبل المسلمون إلى عبادة وهو يجالدهم، وقد كانوا أحاطوا به، فحمل عليهم، فقصف بعضهم على بعض، فأزالوهم عن موقفهم، ثم شدوا عليهم، وحمل حبيب بن مسلمة على من يليه منهم، ثم حمل يزيد بن أبى سفيان بجماعة المسلمين عليهم، فانهزموا انهزاما شديدا، ووضع المسلمون سلاحهم وسيوفهم حيث أحبوا منهم، وأتبعوهم يقتلونهم كيف شاؤا، حتى حجزوهم فى حصنهم، وقد قتلوا من رؤسائهم وبطارقتهم وفرسانهم مقتلة عظيمة، ثم أقاموا عليهم فحصروهم وقطعوا عنهم المادة، وضيقوا عليهم، وحاصروهم أشد الحصار، فلما طال عليهم البلاء تلاوموا، وقال بعضهم لبعض:
اخرجوا بنا إليهم نقاتلهم حتى نظفر بهم أو نموت كراما، فاستعدوا فى مدينتهم، وخرجوا على تعبئتهم، والمسلمون غارون لا يشعرون ولا يعلمون أنه يخرجون إليهم،

(2/320)


وقد كانوا أذلوهم وأجحروهم وضيقوا عليهم حتى جهدوا، وظنوا أنهم أوهن أمرا، وأضعف من أن يخرجوا عليهم، فما راع المسلمين إلا وأهل قيسارية يضاربونهم بالسيوف بأجمعهم إلى جانب عسكرهم، فجال المسلمون جولة منكرة.
ثم إن يزيد خرج مسرعا يمشى اليهم، حتى إذا دنا منهم جالدهم طويلا، وتتامت إليه خيل المسلمين ورجالتهم، وخرج المسلمون على راياتهم وصفوفهم، فلما كثروا عنده أمر الخيل فحملت عليهم، ونهض بالرجال فى وجوههم، ثم حمل هو عليهم فانهزموا انهزاما قبيحا شديدا، وقتلهم المسلمون قتلا ذريعا، وركب بعضهم بعضا، فبعض دخل المدينة، وبعض ذهبوا على وجوههم فلم يدخلوها، وقتل الله منهم فى المعركة نحوا من خمسة آلاف، فلما رأى يزيد ما أنزل الله بهم من الخزى والقتل، وما صيرهم إليهم من الذل، قال لمعاوية: أقم عليها حتى يفتحها الله، وانصرف يزيد عنها.
فلم يلبث معاوية عليها إلا يسيرا حتى فتحها الله على يديه، وذلك سنة تسع عشرة، وكانت هى وجلولاء فى سنة واحدة، وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، لأنه لم يبق بالشام فى أقصاها وأدناها عدو حينئذ، وقد نفى الله المشركين عنها، وصار الشام كله فى أيدى المسلمين.
وكتب يزيد إلى عمر: أما بعد، فإن رأى أمير المؤمنين لأهل الشام كان رأيا أرشده الله وأرشد به من أخذ به، وبارك له ولأهل طاعته فيه، وإنى أخبر أمير المؤمنين أنا التقينا نحن وأهل قيسارية غير مرة، وكل ذلك يجعل الله جدهم الأسفل، وكدهم الأخسر، ويجعل لنا عليهم الظفر، فلما رأوا أن الله قد أذهب ريحهم، وأذلهم وأنزل عليهم الصغار والهوان، وقتل صناديدهم وفرسانهم وملوكهم لزموا حصنهم، وانحجزوا فى مدينتهم، فأطلنا حصارهم، وقطعنا موادهم، وميرتهم، وضيقنا أشد التضييق عليهم، فلما جهدوا هزلا وأزلا، فتحها الله علينا، والحمد لله رب العالمين.
فكتب إليه عمر، رحمه الله: أما بعد، فقد أتانى كتابك، وسمعت ما ذكرت فيه من الفتح على المسلمين، والحمد لله رب العالمين، فاشكروا الله يزدكم ويتم نعمته عليكم، وإن الله قد كفاكم مؤنة عدوكم، وبسط لكم فى الرزق، ومكن لكم فى البلاد، وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ، والسلام عليك.
فلما أتى يزيد هذا الكتاب، قرأه على المسلمين، فحمدوا الله على ما أنعم عليهم،

(2/321)


واصطنع عندهم، وأقبل يزيد حتى نزل دمشق، فلم يلبث إلا سنة حتى هلك رضى الله عنه، وذلك فى سنة تسع عشرة، والشام كله مستقيم أمره، ليس به عدو للمسلمين.
وكان يزيد رحمه الله، شريفا فاضلا حليما عاقلا رقيقا، حسن السيرة، محببا فى المسلمين، ولما ثقل رحمه الله وأشرف على الموت استخلف أخاه معاوية على الشام، وكتب إلى عمر، رضى الله عنه: أما بعد، فإنى كتبت إليك كتابى هذا وإنى أظن أنى فى أول يوم من الآخرة، وآخر يوم من الدنيا، فجزاك الله عنا، وعن جميع المسلمين خيرا، وجعل جناته لنا ولك مآبا ومصيرا، فابعث إلى عملك بالشام من أحببت، فأما أنا فقد استخلفت عليهم معاوية بن أبى سفيان.
فلما أتى عمر كتابه مع خبر موته، جزع عليه جزعا شديدا، وكتب إلى معاوية بولايته على الشام، ويقال: إنه لما ورد البريد بموت يزيد على عمر كان أبوه أبو سفيان عنده، فقال له عمر لما قرأ الكتاب بموت يزيد: أحسن الله عزاءك فى يزيد، ورحمه، فقال له أبو سفيان: من وليت مكانه يا أمير المؤمنين؟ قال: أخاه معاوية، قال: وصلتك رحم يا أمير المؤمنين.
فأقام معاوية على الشام أربع سنين، بقية خلافة عمر، ثم أقره عليها عثمان اثنتى عشرة سنة، مدة خلافته، ثم كان منه بعد وفاة عثمان رضى الله عنه، ما هو معلوم «1» .
ذكر فتح مصر
«2» ذكر ابن عبد الحكم «3» عمن سمى من شيوخه أنه لما قدم عمر، رضى الله عنه، الجابية «4» خلا به عمرو بن العاص، فاستأذنه فى المسير إلى مصر، وكان عمرو قد دخلها فى الجاهلية وعرف طرقها ورأى كثرة من فيها.
وكان سبب دخوله إياها أنه كان قدم بيت المقدس لتجارة فى نفر من قريش، وكانت رعية إبلهم نوبا بينهم، فبينا عمرو يرعاها فى نوبته إذ مر به شماس من شمامسة
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (276- 283) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (4/ 104- 112) ، البداية والنهاية (7/ 107- 110) ، الكامل (2/ 405- 408) .
(3) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 53- 192) .
(4) كان ذلك سنة ثمانى عشرة من الهجرة.

(2/322)


الروم، من أهل الإسكندرية، كان قدم للصلاة فى بيت المقدس وللسياحة فى جبالها، فوقف على عمرو فاستسقاه وقد أصابه عطش شديد فى يوم شديد الحر، فسقاه عمرو من قربة له، فشرب حتى روى، ونام الشماس مكانه، وكانت إلى جنبه حيث نام حفرة، فخرجت منها حية عظيمة، فبصر بها عمرو، فنزع لها بسهم فقتلها، فلما استيقظ الشماس ونظر إلى الحية سأل عمرا عنها، فأخبره أنه رماها فقتلها، فأقبل الشماس فقبل رأسه، وقال: قد أحيانى الله بك مرتين، مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية، فما أقدمك هذه البلاد؟ قال: قدمت مع أصحاب لى نطلب الفضل فى تجارتنا، فقال له الشماس: وكم تراك ترجو أن تصيب فى تجارتك؟ قال: رجائى أن أصيب ما اشترى به بعيرا، فإنى لا أملك إلا بعيرين، فأملى أن أصيب بعيرا ثالثا، فقال له الشماس: كم الدية فيكم؟ قال: مائة من الإبل، قال الشماس لسنا أصحاب إبل، إنما نحن أصحاب دنانير.
قال: تكون ألف دينار، فقال له الشماس: إنى رجل غريب فى هذه البلاد، وإنما قدمت أصلى فى كنيسة بيت المقدس، وأسيح فى هذه الجبال شهرا، جعلت ذلك نذرا على نفسى، وقد قضيت ذلك، وأنا أريد الرجوع إلى بلادى، فهل لك أن تتبعنى إلى بلادى، ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين لأن الله عز وجل، أحيانى بك مرتين؟
فقال له عمرو: وأين بلادك؟ قال: مصر، فى مدينة يقال لها: الإسكندرية، فقال له عمرو: لا أعرفها، ولم أدخلها قط، فقال له الشماس: لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها، فقال عمرو: وتفى لى بما تقول؟ فقال له الشماس: نعم، لك علىّ العهد والميثاق أن أفى لك، وأن أردك إلى أصحابك، فقال عمرو: كم يكون مكثى فى ذلك؟
قال: شهرا تنطلق معى ذاهبا عشرا، وتقيم عندنا عشرا وترجع فى عشر، ولك علىّ أن أحفظك ذاهبا، وأن أبعث معك من يحفظك راجعا، فقال له عمرو: أنظرنى حتى أشاور أصحابى.
فانطلق عمرو إلى أصحابه، فأخبرهم بما عاهده عليه الشماس، وقال لهم: أقيموا علىّ حتى أرجع إليكم ولكم علىّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك، على أن يصحبنى رجل منكم آنس به، فقالوا: نعم، وبعثوا معه رجلا منهم.
فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس إلى مصر، حتى انتهى إلى الإسكندرية، فرأى عمرو من عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال ما أعجبه، ونظر إلى الإسكندرية وعمارتها وجودة بنائها، وكثرة أهلها، وما بها من الأموال، فازداد عجبا.

(2/323)


ووافق دخول الإسكندرية عيدا فيها عظيما، يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم، ولهم أكرة من ذهب مكللة يترامى بها ملوكهم ويتلقونها بأكمامهم، وفيما اختبروا منها على ما وضعها من مضى منهم أنه من وقعت فى كمه واستقرت فيه لم يمت حتى يملكهم.
وأكرم الشماس عمرا الإكرام كله، وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه، وجلس معه فى ذلك المجلس مع الناس حيث يترامون بالأكرة وهم يتلقونها بأكمامهم، فرمى بها رجل منهم، فأقبلت تهوى حتى وقعت فى كم عمرو، فعجبوا من ذلك، وقالوا: ما كذبتنا هذه الأكرة قط إلا هذه المرة، أترى هذا الأعرابى يملكنا؟ هذا ما لا يكون أبدا.
وإن ذلك الشماس مشى فى أهل الإسكندرية، وأعلمهم بأن عمرا أحياه مرتين، وأنه ضمن له ألفى دينار، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم، ففعلوا ودفعوها إلى عمرو، فانطلق هو وصاحبه، وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا، وزودهما وأكرمهما، حتى رجعا إلى أصحابهما، فدفع إليهم عمرو فيما بينهم ألف دينار، وأمسك لنفسه ألفا.
قال: فكان أول مال اعتقدته وتأثلته.
فبذلك ما عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها، ورأى فيها ما علم به أنها أفضل البلاد وأكثره مالا.
فلما قدم عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، الجابية خلا به عمرو، وقال: يا أمير المؤمنين إيذن لى فأسير إلى أرض مصر، فإنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم، وهى أكثر الأرضين أموالا، وأعجزه عن القتال، فتخوف عمر وكره ذلك، فلم يزل عمرو بن العاص يعظم أمرها فى نفسه ويخبره بحالها، ويهون عليه فتحها، حتى ركن لذلك عمر، فعقد له على أربعة آلاف رجل، كلهم من عك، وقال: سيروا وأنا مستخير الله فى مسيرك، وسيأتيك كتابى سريعا، فإن لحقك كتابى آمرك فيه بالانصراف فانصرف، وإن دخلتها قبل أن يأتيك كتابى ثم جاءك فامض لوجهتك، واستعن بالله فاستنصره.
فمضى عمرو من جوف الليل، ولم يشعر به أحد من الناس، واستخار عمر ربه، فكأنه تخوف على المسلمين فى وجههم ذلك، فكتب إلى عمرو بن العاص: أن انصرف بمن معك من المسلمين إن أدركك كتابى قبل أن تدخل مصر، فأدرك الكتاب عمرا وهو برفح، فتخوف إن هو أخذه فقرأه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر، فلم يأخذ الكتاب من الرسول، وسار كما هو حتى مر بقرية صغيرة فيما بين رفح والعريش، فسأل

(2/324)


عنها، فقيل: إنها من مصر، فدعا بالكتاب فقرأه، فإذا فيه: أن انصرف بمن معك من المسلمين، فقال لمن حوله: ألستم تعلمون أن هذه من مصر؟ قالوا: بلى، قال: فإن أمير المؤمنين عهد إلىّ وأمرنى إن لحقنى كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقنى كتابه حتى دخلت أرض مصر، فسيروا على بركة الله.
ويقال: بل كان عمرو بن العاص بفلسطين، فتقدم فى أصحابه إلى مصر بغير إذن، فكتب إليه عمر ينكر ذلك عليه، فجاءه كتابه وهو دون العريش، عريش مصر، فلم يقرأ الكتاب حتى بلغ العريش فقرأه، فإذا فيه:
من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، أما بعد، فإنك سرت إلى مصر بمن معك، وبها جموع الروم، وإنما معك نفر يسير، ولعمرى لو كانوا ثكل أمك ما سرت بهم، فإن لم تكن بلغت مصر فارجع.
فقال عمرو: الحمد لله، أية أرض هذه؟ قالوا: من مصر، فتقدم كما هو.
ويقال: بل كان عمرو فى جنده على قيسارية مع كل من كان بها من أجناد المسلمين، وعمر بن الخطاب إذ ذاك بالجابية، فكتب سرا واستأذن إلى مصر، وأمر أصحابه فتنحوا كالقوم الذين يريدون أن يتجولوا من منزل إلى منزل قريب، ثم سار بهم ليلا، فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذى فعل، ورأوا أنه قد غرر، فرفعوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فكتب إليه عمر:
«أما بعد، فإنك قد غررت بمن معك، فإن أدركك كتابى ولم تدخل مصر فارجع، وإن أدركك كتابى وقد دخلت فامض، واعلم أنى ممدك» .
ويقال: إن عمر كتب إلى عمرو بعد ما فتح الشام: أن اندب الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به. وبعث به مع شريك بن عبدة، فندبهم عمرو، فأسرعوا إلى الخروج معه، ثم إن عثمان بن عفان دخل على عمر، فذكر له عمر ما كتب به إلى عمرو، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، إن عمرا له جرأة، وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج فى غير ثقة ولا جماعة، فيعرض المسلمين للهلكة، رجاء فرصة لا يدرى أتكون أم لا. فندم عمر على كتابه إشفاقا مما قال عثمان، فكتب إلى عمرو يأمره بنحو ما تقدم من الرجوع إن لم يكن دخل مصر، والمضى لوجهه إن كان دخلها.
فسار عمرو فى طريقه قاصدا مصر، فلما بلغ المقوقس ذلك توجه نحو الفسطاط يجهز

(2/325)


الجيوش على عمرو، فأقبل عمرو حتى إذا كان بجبال الحلال نفرت معه راشدة وقبائل من لخم، وأدركه النحر وهو بالعريش، فضحى يومئذ عن أصحابه بكبش.
وكان رجل ممن خرج معه قد أصيب بجمله، فأتاه الرجل يستحمله، فقال له عمرو:
تحمل مع أصحابك حتى نبلغ أوائل العامر، فلما بلغوا العريش جاءه، فأمر له بجملين، ثم قال: لن تزالوا بخير ما رحمتكم أئمتكم، فإذا لم يرحموكم هلكتم وهلكوا.
فتقدم عمرو، فكان أول موضع قوتل فيه الفرما، قاتلته الروم قتالا شديدا، نحوا من شهر، ثم فتح الله على يديه.
وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له: «أبو ميامين» ، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقى عمرو، فيقال: إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا.
ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى نزل القواصر، ثم تقدم لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس، فقاتلوه بها نحوا من شهر حتى فتح الله عليه، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى أتى أم دنين فقاتلوه بها قتالا شديدا، وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر يستمده، فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف، فقاتلهم.
وجاء رجل من لخم إلى عمرو بن العاص فقال: اندب معى خيلا حتى آتى من ورائهم عند القتال، فأخرج معه خمسمائة فارس، فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بنى وائل قبل الصبح.
ويقال: كان على هذا البعث خارجة بن حذافة «1» ، فلما كان فى وجه الصبح نهض القوم، فصلوا الصبح، ثم ركبوا خيلهم، وغدا عمرو بن العاص على القتال، فقاتلوهم من وجههم، وحملت الخيل التى كان وجه من ورائهم واقتحمت عليهم فانهزموا. وكانوا قد خندقوا حول الحصن، وجعلوا للخندق أبوابا، فسار عمرو بمن معه حتى نزل على
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2137) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1327) ، الثقات (3/ 111) ، تلقيح فهوم أهل الأثر (374) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 146) ، الكاشف (1/ 265) ، تهذيب التهذيب (3/ 74) ، تقريب التهذيب (1/ 210) ، التحفة اللطيفة (1/ 49) ، النجوم الزاهرة (1/ 20) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (1/ 600) ، الطبقات (23/ 291) ، التاريخ الكبير (3/ 203) ، التاريخ الصغير (1/ 93) ، الإكمال (6/ 182) ، تراجم الأخبار (1/ 390) ، الكامل (3/ 920) ، مشاهير علماء الأمصار (383) .

(2/326)


الحصن، فحاصرهم حتى سألوه أن يسير منهم بضعة عشر أهل بيت ويفتحوا له الحصن، ففعل ذلك، وفرض عليهم لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين.
فجاء النفر من القبط يستأذنونه إلى قراهم وأهليهم، وقد كان نفر منهم تحدثوا قبل ذلك ورجل من لخم يسمعهم، فقال بعضهم لبعض: ألا تعجبوا من هؤلاء القوم، يعنون المسلمين، يقدمون على جموع الروم، وإنما هم فى قلة من الناس. فجاءهم رجل منهم، فقال: إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه، حتى يقتلوا خيرهم. فأنكر عليه اللخمى قوله وأراد حمله إلى عمرو، فرغب إليه أصحابه وغيرهم حتى خلصوه، فلما استأذن أولئك النفر عمرا قال لهم: كيف رأيتم أمرنا؟ قالوا: لم نر إلا حسنا. فقال ذلك الرجل لعمرو مثل مقالته تلك: إنكم لن تزالوا تظهرون على كل من لقيتم حتى تقتلوا خيركم رجلا. فغضب عمرو وأمر به، فطلب إليه أصحابه وأخبروه أنه لا يدرى ما يقول، حتى خلصوه، فلما بلغ عمرا عمر بن الخطاب عجب من قول ذلك القبطى، وأرسل فى طلبه، فوجدوه قد هلك.
وفى حديث غيره: قال عمرو بن العاص: فلما طعن عمر بن الخطاب قلت: هو ما قال القبطى، فلما حدثت أنه إنما قتله رجل نصرانى «1» قلت: لم يعن هذا، إنما عنى من قتله المسلمون، فلما قتل عثمان، رضى الله عنه، عرفت أن ما قال الرجل حق.
قال ابن عبد الحكم: وقد سمعت فى فتح القصر وجها غير هذا، ثم ذكر عن نفر سمى منهم قال: وبعضهم يزيد على بعض فى الحديث أن عمرو بن العاص حصرهم فى القصر الذى يقال له: باب اليون حينا، وقاتلهم قتالا شديدا، يصبحهم ويمسيهم، فلما أبطأ عليه الفتح كتب إلى عمر بن الخطاب يستمده، فأمده عمر بأربعة آلاف رجل، على كل ألف منهم رجل يقوم مقام ألف: الزبير بن العوام «2» ، والمقداد بن عمرو»
، وعبادة
__________
(1) هو: أبو لؤلؤة، غلام المغيرة بن شعبة. راجع مقتل عمر بن الخطاب، رحمه الله، من هذا الجزء.
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2794) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1731) .
(3) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (3/ 1/ 144) ، طبقات خليفة (61، 67، 168) ، التاريخ الكبير (8/ 54) ، التاريخ الصغير (60، 61) ، المعارف (263) ، الجرح والتعديل (8/ 426) ، حلية الأولياء (1/ 172، 176) ، ابن عساكر (17، 66، 1) ، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 111، 112) ، معالم الإيمان (1/ 71، 76) ، دول الإسلام (1/ 927، العقد الثمين (7/ 268) ، تهذيب التهذيب (10/ 285) ، شذرات الذهب (1/ 39) ، الإصابة ترجمة رقم (8201) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5076) .

(2/327)


ابن الصامت «1» ، ومسلمة بن مخلد «2» . وقيل: بل خارجة بن حذافة مكان مسلمة. وقال عمر بن الخطاب: «اعلم أن معك اثنى عشر ألفا، ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة» .
وذكر الليث عن يزيد بن أبى حبيب: أن عمر، رحمه الله، إنما أمد عمرا حين استمده بالزبير بن العوام، وبالمقداد بن عمرو، وبخارجة بن حذافة.
قال الليث بن سعد: وبلغنى عن كسرى أنه كان له رجال إذا بعث أحدهم فى جيش وضع من عدة الجيش الذى كان سمى ألفا مكانه، وإذا احتاج إلى أحدهم وكان فى جيش فجيشه زادهم ألف رجل، فأنزلت الذى صنع عمر بن الخطاب حين أمد عمرا بالزبير والمقداد وخارجة نحو الذى صنع كسرى.
وقيل: إن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أشفق على عمرو حين بعثه، فأرسل الزبير فى أثره فى اثنى عشر ألفا، فشهد معه الفتح. وكان عمرو قدم من الشام فى عدة قليلة، وكانت الروم قد خندقوا حول حصنهم، وجعلوا للخندق أبوابا، ورموا فى أفنيتها حسك الحديد، فكان عمرو يفرق أصحابه ليرى العدو أنهم أكثر مما هم، فلما انتهى إلى الخندق نادوه: أن قد رأينا ما صنعت، وإنما معك من أصحابك كذا وكذا، فلم يخطئوا برجل واحد. فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير، فلما قدم المدد مع الزبير على عمرو ابن العاص ألح على القصر ووضع عليه المنجنيق. وقد كان عمرو دخل إلى صاحب القصر فتناظرا فى شىء مما هم فيه، فقال له عمرو: أخرج وأستشير أصحابى، فدس صاحب الحصن الوصية إلى الذى على الباب إذا مر به عمرو أن يلقى عليه صخرة فيقتله.
فأشعر بذلك عمرا رجل من العرب وهو يريد الخروج، فرجع عمرو إلى صاحب الحصن،
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4515) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2791) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8007) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4943) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 148) ، تاريخ خليفة (195) ، فتوح البلدان (270) ، أنساب الأشراف (1/ 146) ، المعرفة والتاريخ (2/ 494) ، تاريخ الطبرى (4/ 430) ، أخبار القضاة (3/ 223) ، تاريخ أبى زرعة (1/ 189) ، مروج الذهب (1621) ، فتوح مصر (67) ، جمهرة أنساب العرب (366) ، وفيات الأعيان (7/ 215) ، المراسيل (197) ، الجرح والتعديل (8/ 265) ، مشاهير علماء الأمصار (56) ، الكامل فى التاريخ (3/ 191) ، تهذيب الكمال (3/ 1330) ، مختصر التاريخ (82) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 77) ، سير أعلام النبلاء (3/ 424) ، العبر (1/ 66) ، الكاشف (3/ 128) ، المعين فى طبقات المحدثين (26) ، تقريب التهذيب (2/ 249) ، النجوم الزاهرة (1/ 132) ، خلاصة تذهيب التهذيب (377) ، الولاة والقضاء (15) ، تاريخ الإسلام (2/ 242) .

(2/328)


فقال له: إنى أريد أن آتيك بنفر من أصحابى حتى يسمعوا منك مثل الذى سمعت، فقال العلج فى نفسه: قتل جماعة أحب إلىّ من قتل واحد، فأرسل إلى الذى كان على الباب يأمره بالكف عن عمرو رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم، فخرج عمرو ولم يعد.
وفى حصار المسلمين هذا الحصن كان عبادة بن الصامت يوما فى ناحية يصلى وفرسه عنده، فرآه قوم من الروم، فخرجوا إليه وعليهم حلية وبزة، فلما دنوا منه سلم من صلاته، ووثب على فرسه، ثم حمل عليهم، فلما رأوه غير مكذب عنهم ولوا راجعين، واتبعهم، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم، ولا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن، ورمى عبادة من فوق الحصن بالحجارة، فرجع ولم يعرض لشىء مما كانوا طرحوا من متاعهم، حتى أتى موضعه الذى كان به، فاستقبل الصلاة، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه.
ولما أبطأ الفتح على عمرو بن العاص قال الزبير: إنى أهب نفسى لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلما إلى جانب الحصن ثم صعد، وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر معه السيف، وتحامل الناس على السلم حتى نهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر. ولما اقتحم الزبير وتبعه من تبعه وكبر، وكبر من معه وأجابهم المسلمون من خارج، لم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموه جميعا، فهربوا، وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه، واقتحمه المسلمون، فلما خاف المقوقس على نفسه ومن معه سأل عمرو بن العاص الصلح ودعاه إليه، على أن يفرض للعرب على القبط دينارين دينارين على كل رجل منهم، فأجابه عمرو إلى ذلك.
وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر فيما روى عن الليث.
قال ابن عبد الحكم: وقد سمعت فى فتح القصر وجها آخر مخالفا للحديثين المتقدمين، فالله أعلم.
ثم أورد بإسناد يرفعه إلى جماعة من التابعين، يزيد بعضهم على بعض، أن المسلمين لما حاصروا باب اليون وكان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم وعليهم المقوقس فقاتلوهم بها شهرا، فلما رأى القوم الجد منهم على فتحه والحرص ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط، وخرجوا من باب القصر القبلى ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة، موضع الصناعة اليوم، وأمروا بقطع الجسر، وذلك فى جرى النيل.

(2/329)


وزعم بعض مشايخ أهل مصر أن الأعيرج تخلف فى الحصن بعد المقوقس، وهو رجل من الروم كان واليا على الحصن تحت يدى المقوقس، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن، فلما خاف الأعيرج فتح الحصن ركبها هو وأهل القوة والشرف ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة.
قال أصحاب الحديث من التابعين: فأرسل المقوقس إلى عمرو: إنكم قوم قد ولجتم فى بلادنا وألححتم على قتالنا، وطال مكثكم فى أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم معهم العدة والسلاح، وأحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم.
فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس بهذا حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: أترون أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم ويستحلون ذلك فى دينهم؟ وإنما أراد عمرو أن يروا حال المسلمين، ثم رد عمرو إلى المقوقس رسله، وقال لهم: إنه ليس بينى وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما دخلتم فى الإسلام فكنتم إخواننا، وكان لكم ما لنا، وإما أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين.
فلما جاؤا إلى المقوقس قال لهم: كيف رأيتم؟ قالوا: رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليه من الرفعة، ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم، يغسلون بالماء أطرافهم، ويخشعون فى صلاتهم.
فقال عند ذلك المقوقس: والذى يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم.
فرد إليهم المقوقس رسله: أن ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.
فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت، وأمره عمرو أن يكون

(2/330)


مكلم القوم وأن لا يجيبهم إلى شىء دعوه إليه إلا إلى إحدى هذه الخصال الثلاث.
وكان عبادة أسود طويلا، يقول ابن غفير: أدرك الإسلام من العرب عشرة، طول كل رجل منهم عشرة أشبار، أحدهم عبادة بن الصامت. فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ودخلوا عليه تقدم عبادة فهابه المقوقس لسوداه، فقال: نحّوا عنى هذا الأسود، وقدموا غيره يكلمنى. فقالوا جميعا: إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به، وأمرنا أن لا نخالفه.
قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغى أن يكون دونكم؟.
قالوا: كلا، إنه وإن كان أسود كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعا، وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السواد فينا.
فقال له المقوقس: تقدم يا أسود وكلمنى برفق فإنى أهاب سوادك، وإن اشتد كلامك علىّ ازددت لذلك هيبة.
فتقدم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفت من أصحابى ألف رجل كلهم أشد سوادا منى وأفظع منظرا، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لى، وأنا قد وليت وأدبر شبابى، وإنى مع ذلك، بحمد الله، ما أهاب مائة رجل من عدوى ولو استقبلونى جميعا، وكذلك أصحابى، وذلك أنا إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد فى الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة فى دنيا، ولا طلبا للاستكثار منها، إلا أن الله، عز وجل، قد أحل لنا ذلك، وجعل ما غنمنا منه حلالا، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من الذهب أم كان لا يملك إلا درهما؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته لليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه فى طاعة الله تعالى واقتصر على هذا الذى يتبلغ به ما كان فى الدنيا؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء فى الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا، وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همته وشغله فى رضى ربه وجهاده عدوه.
فلما سمع المقوقس كلامه قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره، وإن قوله لأهيب عندى من منظره، وإن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، ما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. ثم أقبل على عبادة فقال: أيها

(2/331)


الرجل قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمرى ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا بحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم يعرفون بالنجدة والشدة، لا يبالى أحدهم من لقى ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تطيقونهم لضعفكم وقلتكم وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا وأنتم فى ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضوها وتنصرفوا إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قبل لكم به.
فقال عبادة بن الصامت: يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمرى ما هذا بالذى يخوفنا، ولا بالذى يكسرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون فى قتالكم، وأشد لحرصنا عليكم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، وإن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا فى رضوانه وجنته، وما من شىء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال لنا فى كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249] ، وما منا من رجل إلا وهو يدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشهادة وألا يرده إلى بلاده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همّ فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه فى أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا، وأما قولك: إنا فى ضيق وشدة من معاشنا وحالنا، فنحن فى أوسع السعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه، فانظر الذى تريد فبينه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيها شئت ولا تطمع نفسك بالباطل، بذلك أمرنى الأمير، وبه أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا: إما أجبتم إلى الإسلام الذى هو الدين الذى لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا، وكان أخانا فى دين الله، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم فى الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم، وإن أبيتم إلا الجزية فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم

(2/332)


صاغرون، نعاملكم على شىء نرضى به نحن وأنتم فى كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم فى شىء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم فى ذمتنا، وكان لكم به عهد علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا أو نصيب ما نريد منكم. هذا ديننا الذى ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينكم غيره، فانظروا لأنفسكم.
فقال له المقوقس: هذا ما لا يكون أبدا، ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا!.
فقال له عبادة: هو ذلك فاختر ما شئت!.
فقال له المقوقس: أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاث؟.
فرفع عبادة يديه فقال: لا ورب هذه السماء، ورب هذه الأرض، وربنا، ورب كل شىء، ما لكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.
فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه، فقال: قد فرغ القوم، فماذا ترون؟.
فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذل؟ أما ما أرادوا من دخولنا فى دينهم فهذا ما لا يكون أبدا، أن نترك دين المسيح ابن مريم وندخل فى دين غيره لا نعرفه، وأما ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا فالموت أيسر من ذلك، لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا.
فقال المقوقس لعبادة: قد أتى القوم «1» فما ترى؟ فراجع أصحابك «2» على أن نعطيكم فى مرتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفوا.
فقام عبادة وأصحابه، فقال المقوقس عند ذلك لمن حوله: أطيعونى وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين.
فقالوا: وأى خصلة نجيبهم إليها؟.
قال: أنا أخبركم، أما دخولكم فى غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالكم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة.
__________
(1) فى ابن عبد الحكم: قد أبى القوم.
(2) فى ابن عبد الحكم: صاحبك.

(2/333)


قالوا: فنكون لهم عبيدا أبدا؟.
قال: نعم، أن تكونوا عبيدا منبسطين «1» فى بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، خير لكم من أن تموتوا من آخركم، أو تكونوا عبيدا تباعون وتمزقون فى البلاد مستعبدين أبدا أنتم وأهلكم وذراريكم.
قالوا: فالموت أهون علينا، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة، وبالقصر من القبط والروم جمع كثير.
فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من فى القصر، حتى ظفروا بهم وأمكن الله منهم، فقتل منهم خلق كثير، وأسر من أسر، وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة، وصار المسلمون قد أحدق بهم الماء من كل جهة لا يقدرون على أن يتقدموا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا وأخفه عليكم؟ ما تنتظرون، فو الله لتجيبن إلى ما أرادوا طوعا أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كرها، فأطيعونى من قبل أن تندموا.
فلما رأوا منهم ما رأوا، وقال لهم المقوقس ما قال، أذعنوا بالجزية، ورضوا بها على صلح يكون بينهم يعرفونه.
فأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص: أنى لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من الخصال التى أرسلت إلىّ بها فأبى ذلك علىّ من حضرنى من الروم والقبط، فلم يكن لى أن أفتات عليهم فى أموالهم، وقد عرفوا نصحى لهم وحبى صلاحهم فرجعوا إلى قولى، فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت، أنا فى نفر من أصحابى، وأنت فى نفر من أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تم ذلك لنا جميعا، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه.
فاستشار عمرو أصحابه فى ذلك، فقالوا: لا نجيبهم إلى شىء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا، وتصير كلها لنا فيئا وغنيمة كما صار لنا القصر وما فيه.
فقال عمرو: قد علمتم ما عهد إلىّ أمير المؤمنين فى عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التى عهد إلىّ فيها أجبتم إليها وقبلت منهم، مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم.
فاجتمعوا على عهد بينهم، واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها
__________
(1) فى ابن عبد الحكم: مسلطين.

(2/334)


وأسفلها من القبط دينارين دينارين، على كل نفس، شريفهم ووضيعهم، ومن بلغ الحلم منهم، وليس على الشيخ الفانى، ولا على الصغير الذى لم يبلغ الحلم، ولا على النساء شىء. وعلى أن للمسلمين عليهم النزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم، وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يعرض لهم فى شىء منها، فشرط هذا كله على القبط خاصة.
وأحصوا عدد القبط من بلغ منهم الجزية ومن فرض عليهم الديناران. رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدة، فكان جميع من أحصى يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط أكثر من ستة آلاف ألف نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثنى عشر ألف ألف دينار فى كل سنة.
وعن يحيى بن ميمون الحضرمى قال: لما فتح عمرو بن العاص مصر صالح عن جميع ما فيها من رجال القبط، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك، ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبى، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين، فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف.
وفى الحديث المتقدم الطويل: أن المقوقس شرط للروم أن يخيروا، فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا أقام لازما له ذلك مفترضا عليه، مما أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج، وعلى أن للمقوقس الخيار فى الروم خاصة حتى يكتب إلى ملك الروم يعلمه ما فعل، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم وإلا كانوا جميعا على ما كانوا عليه.
وكتب المقوقس إلى ملك الروم يعلمه بالأمر على وجهه، فكتب إليه ملك الروم يقبح رأيه ويعجزه، ويرد عليه ما فعل ويقول فى كتابه:
إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفا، وبمصر من عدد القبط ما لا يحصى، فإن كان القبط كرهوا القتال وأحبوا أداء الجزية إلى العرب واختاروهم علينا فإن عندك بمصر من الروم وبالإسكندرية ومن معك أكثر من مائة ألف، معهم العدة والقوة، والعرب وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت، فعجزت عن قتالهم، ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم أذلاء فى حال القبط، ألا قاتلتهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت أو تظفر عليهم، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم وقوتكم وعلى قدر قلتهم وضعفهم كأكلة، فناهضهم القتال ولا يكن لك رأى غير ذلك.
وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم.

(2/335)


فقال المقوقس لما أتاه كتابه: والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا، إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا، وذلك أنهم قوم الموت أحب إليهم من الحياة، يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل، يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده، ولا ولده، ويرون أن لهم أجرا عظيما فيمن قتلوا منا، ويقولون إنهم إن قتلوا دخلوا الجنة، وليس لهم رغبة فى الدنيا ولا لذة إلا قدر بلغة العيش من الطعام واللباس، ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذتها، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء، وكيف صبرنا معهم، واعلموا معشر الروم أنى والله لا أخرج مما دخلت فيه وصالحت العرب عليه، وأنى لأعلم أنكم سترجعون غدا إلى قولى ورأيى، وتتمنون أن لو كنتم أطعمتونى، وذلك أنى قد عانيت ورأيت وعرفت ما لم يعاين الملك ولم يره ولم يعرفه، ويحكم أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا فى دهره على نفسه وماله وولده بدينارين فى السنة؟.
ثم أقبل المقوقس إلى عمرو بن العاص فقال له: إن الملك قد كره ما فعلت وعجزنى، وكتب إلىّ وإلى جماعة الروم أن لا نرضى بمصالحتك، أمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم، ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه، وإنما سلطانى على نفسى ومن أطاعنى، وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض وأنا متم لك على نفسى، والقبط متمون لك على الصلح الذى صالحتهم عليه وعاهدتهم، وأما الروم فأنا منهم برىء، وأنا أطلب إليك أن تعطينى ثلاث خصال.
قال عمرو: وما هن؟.
قال: لا تنقض بالقبط، وأدخلنى معهم وألزمنى ما لزمهم، فقد اجتمعت كلمتى وكلمتهم على ما عاهدتك عليه وهم متمون لك على ما تحب. وأما الثانية: إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا، فإنهم أهل لذلك؛ لأنى نصحتهم فاستغشونى، ونظرت لهم فاتهمونى. وأما الثالثة: أطلب إليك أن إذا مت أن تأمرهم يدفنونى فى أبى يحنس بالإسكندرية.
فأنعم له عمرو بن العاص بذلك وأجابه إلى ما طلب، على أن يضمنوا له الجسرين جميعا، ويقيموا لهم الأنزال والضيافة والأسواق والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية، ففعلوا.
ويقال: إن المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص على الروم وهو محاصر الإسكندرية، وبعد أن حصر أهلها ثلاثة أشهر وألح عليهم وخافوه، فسأله المقوقس الصلح عنهم، كما

(2/336)


صالحه على القبط، على أن يستنظر رأى الملك وعلى أن يسير من الروم من أراد المسير، ويقر من أراد الإقامة، فأنكر ذلك هرقل لما بلغه أشد الإنكار، وتسخط أشد التسخط، وبعث الجيوش، فأغلقوا الإسكندرية وآذنوا عمرو بن العاص بالحرب، فخرج إليه المقوقس فقال: أسألك ثلاثا، وذكر نحو ما تقدم، وزاد أن عمرا قال فى الثالثة التى هى أن يدفن فى أبى يحنس: هذه أهونهن علينا.
ثم رجع إلى الحديث الأول، قال: فخرج عمرو بن العاص بالمسلمين حين أمكنهم الخروج، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط قد أصلحوا لهم الطريق وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم، وسمعت بذلك الروم فاستعدت واستجاشت، وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الروم، فيها جمع من الروم كثير بالعدة والسلاح، فخرج إليهم عمرو بن العاص من الفسطاط متوجها نحو الإسكندرية، فلم يلق منهم أحدا حتى بلغ ترنوط «1» ، فلقى فيها طائفة من الروم فقاتلوه قتالا خفيفا فهزمهم الله، ومضى عمرو بمن معه حتى لقى جمع الروم بكوم شريك، فاقتتلوا به ثلاثة أيام ثم فتح الله للمسلمين وولى الروم أكتافهم.
ويقال: بل أرسل عمرو بن العاص، شريك بن سمى فى آثارهم، فأدركهم عند الكوم الذى يقال له كوم شريك، فقاتلهم شريك فهزمهم.
ويقال: بل لقيهم فألجأوه إلى الكوم فاعتصم به، وأحاطت به الروم، فلما رأى ذلك شريك أمر أبا ناعمة الصدفى «2» ، وهو صاحب الفرس الأشقر الذى يقال له: أشقر صدف، وكان لا يجارى، فانحط عليهم من الكوم، وطلبته الروم فلم تدركه، حتى أتى عمرا فأخبره، فأقبل عمرو نحوه. وسمعت به الروم فانصرفت، وبهذا الفرس سميت خوخة الأشقر التى بمصر، وذلك أنه نفق فدفنه صاحبه هناك، فسمى المكان به.
قال: ثم التقوا بسلطيس «3» فاقتتلوا بها قتالا شديدا، فهزمهم الله، ثم التقوا بالكريون «4» فاقتتلوا بها بضعة عشر يوما.
__________
(1) ترنوط: قرية كانت بين مصر والإسكندرية، أشار ياقوت إلى أنها قرية كبيرة جامعة على النيل، فيها أسواق ومعاصر للسكر وبساتين، وأكثر فواكه الإسكندرية منها. انظر: معجم البلدان (2/ 27) .
(2) هو: أبو ناعمة مالك بن ناعمة الصدفى.
(3) سلطيس: قرية من قرى مصر القديمة، كان أهلها أعانوا على عمرو بن العاص فسباهم. انظر: معجم البلدان (3/ 236) .
(4) كريون: موضع قرب الإسكندرية. انظر: معجم البلدان (4/ 458، 459) .

(2/337)


وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو، فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات كثيرة، فقال: يا وردان لو تقهقرت قليلا لنصيب الروح. فقال وردان: الروح أمامك وليس هو خلفك. فتقدم عبد الله، وجاء رسول أبيه يسأله عن جراحه، فأنشأ يقول:
أقول إذا ما النفس جاشت ألا أصبرى ... عليك قليلا تحمدى أو تلامى
فرجع الرسول فأخبره بما قال. فقال عمرو: هو ابنى حقا.
وصلى يومئذ عمرو صلاة الخوف، فحدث شيخ صلاها معه بالإسكندرية: أنه صلى بكل طائفة ركعة وسجدتين.
قال: ثم فتح الله على المسلمين، وقتلوا من الروم مقتلة عظيمة، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية فتحصنوا بها، وكانت عليهم حصون لا ترام، حصن دون حصن، فنزل المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس إلى ما وراء ذلك، ومعهم رؤساء القبط يمدونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة، ورسل ملك الروم تختلف إلى الإسكندرية فى المراكب بمادة الروم.
ويروى أن عمرا أقام بحلوة شهرين ثم تحول إلى المقس، فخرجت عليه الخيل من ناحية البحيرة حيث كانت مستترة بالحصن فواقعوه، فقتل من المسلمين يومئذ بكنيسة الذهب اثنا عشر رجلا، ولم يكن للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية، وإنما كان عيد الروم حين غلبت العرب على الشام بالإسكندرية، فكان ملك الروم يعظم ظهور العرب عليها ويقول: لئن غلبوا على الإسكندرية لقد هلكت الروم، وانقطع ملكها، وتجهز للخروج إليها ليباشر قتالها بنفسه إعظاما لها، وأمر أن لا يتخلف عنه أحد من الروم، وقال: ما بقاء الروم بعد الإسكندرية؟ فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته وكفى المسلمين مؤنته. وكان موته فى سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين، فكسر الله بموته شوكة الروم.
ورجع جمع كبير ممن كان قد توجه إلى الإسكندرية، واستأسدت العرب عند ذلك وألحت بالقتال على أهل الإسكندرية، فقاتلوهم قتالا شديدا، وخرج طرف من الروم من باب حصنها فحملوا على الناس وقتلوا رجلا من مهرة فاحتزوا رأسه وانطلقوا به، فجعل المهريون يتغضبون ويقولون: لا ندفنه أبدا إلا برأسه. فقال عمرو بن العاص: تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالى بغضبكم، احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا رجلا منهم

(2/338)


وارموا برأسه يرموا برأس صاحبكم، فخرجت الروم عليهم فاقتتلوا، فقتل رجل من بطارقة الروم، فاحتزوا رأسه، فرموا به إلى الروم، فرمت الروم برأس المهرى إليهم، فقال:
دونكم الآن فادفنوا صاحبكم.
وكان عمرو بن العاص يقول: ثلاث قبائل فى مصر: أما مهرة فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما غافق فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما بلى فأكثرها رجلا صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضلها فارسا.
وقاتل عمر بن العاص الروم بالإسكندرية يوما من الأيام قتالا شديدا، فلما استحر القتال بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه الرومى، وألقاه عن فرسه، وأهوى إليه بسيفه ليقتله حتى حماه رجل من أصحابه. وكان مسلمة لا يقام بسبيله ولكنها مقادير، ففرحت بذلك الروم وشق ذلك على المسلمين، وغضب عمرو بن العاص فقال:
وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن: ما بال الرجل المسبّه «1» الذى يشبه النساء يتعرض فيداخل الرجال ويتشبه بهم؟ فغضب مسلمة ولم يراجعه، ثم اشتد القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية فقاتلهم العرب فى الحصن، ثم جاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر فيهم عمرو بن العاص ومسلمة بن مخلد، أغلق الروم عليهم باب الحصن وحالوا بينهم وبين أصحابهم ولا يدرون من هم.
فلما رأى ذلك عمرو وأصحابه لجأوا إلى ديماس من حماماتهم فتحرزوا به فأمرت الروم روميا فكلمهم بالعربية فقال لهم: إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم فامتنعوا ثم قال لهم: إن فى أيدى أصحابكم منا رجالا أسروهم ونحن نعطيكم العهود أن نفادى بكم أصحابنا ولا نقتلكم، فأبوا عليهم.
فلما رأى الرومى ذلك منهم قال لهم: هل لكم إلى خصلة وهى نصف فيما بيننا وبينكم: أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله على أن يبرز منكم رجل ومنا رجل، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا، وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم. فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه، فبرز رجل من الروم قد وثقت الروم بنجدته وشدته، وقالوا لعمرو وأصحابه وهم فى الديماس ليبرز رجل منكم لصاحبنا فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال: يا هذا تخطئ مرتين، تشذ من
__________
(1) السبه: محركه، ذهاب العقل من الهرم. انظر: القاموس المحيط للفيروزابادى (4/ 284) . لسان العرب لابن منظور (3/ 1932) .

(2/339)


أصحابك وأنت أميرهم وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك لا يدرون ما أمرك، ثم لا ترضى حتى تبارز وتتعرض للقتل، فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك؟ مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله! قال عمرو: دونك فربما فرجها الله بك، فبرز مسلمة والرومى فتجاولا ساعة ثم أعانه الله عليه فقتله، فكبر مسلمة وأصحابه، ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه، ففتحوا لهم باب الحصن فخرجوا ولا تدرى الروم أن أمير القوم فيهم، حتى بلغهم ذلك فأسفوا وأكلوا أيديهم تغيظا على ما فاتهم، فلما خرجوا استحيى عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب، وسأله أن يستغفر له، ففعل مسلمة وقال عمرو: والله ما أفحشت قط إلا ثلاث مرات، مرتين فى الجاهلية وهذه الثالثة، وما منها مرة إلا وقد ندمت واستحييت وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك والله إنى لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت.
قال ابن لهيعة: وأخبرنى بعض أشياخنا أن عبد العزيز بن مروان لما قدم الإسكندرية سنة ثمانين سأل: هل بقى بالإسكندرية أحد ممن أدرك فتحها؟ فأتوه بشيخ من الروم من أكابر أهل الإسكندرية يومئذ فأعلموه أنه أدرك فتحها وهو رجل، فسأله عن أعجب ما رأى يومئذ من المسلمين. فقال: أخبرك أيها الأمير أنه كان لى صديق من أبناء بطارقة الروم يومئذ منقطع إلىّ، وأنه أتانى فسألنى أن أركب معه حتى ننظر إلى المسلمين وإلى حالهم وهيئتهم، وهم إذ ذاك محاصرون الإسكندرية، فخرجت معه وهو على برذون له كثير اللحم وأنا على برذون خفيف، فلما خرجنا من الحصن الثالث وقفنا على كوم مشرف ننظر إلى العرب، وإذا هم فى خيام لهم وعلى باب كل خيمة فرس واقف ورمح مركوز، ورأينا قوما ضعفاء فعجبنا من ضعفهم، وقلنا: كيف بلغ هؤلاء القوم ما بلغوا؟
فبينا نحن وقوف ننظر إليهم ونعجب إذ خرج رجل منهم من بعض تلك الخيام، فلما نظر إلينا اختلع رمحه ووثب على ظهر فرسه ثم أقبل نحونا، فقلت لصاحبى: والله إنه ليريدنا! فلما رأيناه مقبلا إلينا لا يريد غيرنا ولينا هاربين، فما كان بأوشك من أن أدرك صاحبى فطعنه بالرمح فصرعه، ثم تركه صريعا وأقبل فى إثرى وأنا خائف أن لا أفلت منه حتى دخلت الحصن الأول فنجوت منه، ثم صعدت الحصن لأبصر ما يفعل، فرجع وهو يتكلم بكلام يرفع به صوته، فظننت أنه يقرأ، ثم مضى حتى اعترض برذون صاحبى فأخذه ورجع إلى صاحبى وهو صريع فأخذ سيفه وترك سلبه فلم يأخذه تهاونا به، وكانت ثيابه ديباجا كلها، فلم يأخذها ولم ينزعها عنه.
فقال عبد العزيز بن مروان للشيخ الرومى: صف لى ذلك الرجل وشبهه ببعض من

(2/340)


عندى. فأشار إلى رجل مخفف كوسج «1» فقال: هو يشبه هذا. قال عبد العزيز: نخبرك أنه يمان «2» .
وأقام عمرو يحاصر الإسكندرية أشهرا، فقال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، لما بلغه ذلك: ما أبطأوا بفتحها إلا لما أحدثوا.
وقال أسلم مولى عمر: لما أبطأ على عمر فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص:
أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، أنكم تقاتلونها منذ سنين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله، تبارك وتعالى، لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غيرهم ما غير غيرهم، فإذا أتاك كتابى هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم فى الصبر والنية، وقدم أولئك النفر الأربعة فى صدور الناس، ومر الناس جميعا أن تكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة، وليضج الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم.
فلما أتى عمرا الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه النصر، ففعلوا، ففتح الله عليهم.
ويقال إن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد فقال له: أشر علىّ فى قتال هؤلاء. فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعقد له على الناس، فيكون هو الذى يباشر القتال ويكفيكه. قال عمرو: ومن ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت. فدعا عمرو عبادة، فأتاه وهو راكب على فرسه، فلما دنا منه أراد النزول، فقال له عمرو: عزمت عليك أن لا تنزل، ناولنى سنام رمحك، فناوله إياه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه القتال، فتقدم عبادة مكانه فصاف الروم وقاتلهم، ففتح الله على يديه الإسكندرية فى يومه ذلك.
ويروى أن عمرو بن العاص قال وقد أبطأ عليه الفتح، فاستلقى على ظهره ثم جلس
__________
(1) الكوسج: أى الناقص الأسنان، والبطىء من البراذين. انظر: القاموس المحيط للفيروزابادى (1/ 204) .
(2) فى ابن عبد الحكم: « ... قال عبد العزيز عند ذلك: إنه ليصف صفة رجل يمانى» .

(2/341)


فقال: إنى فكرت فى هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله، يريد الأنصار، فدعا عبادة بن الصامت فعقد له، ففتح الله الإسكندرية على يديه من يومه ذلك.
وقال جنادة بن أبى أمية «1» : دعانى عبادة بن الصامت يوم الإسكندرية وكان على قتالها، فأغار العدو على طائفة من الناس ولم يأذن بقتالهم، فبعثنى أحجز بينهم، فأتيتهم فحجزت بينهم ثم رجعت إليه، فقال: أقتل أحد من الناس؟ قلت: لا. قال: الحمد لله الذى لم يقتل أحد منهم عاصيا.
قالوا: وكان فتح الإسكندرية يوم الجمعة مستهل شهر المحرم من سنة عشرين.
ولما هزم الله الروم وفتحت الإسكندرية وهرب الروم فى البحر والبر، خلف عمرو ابن العاص بالإسكندرية من أصحابه ألف رجل، ومضى فى طلب من هرب فى البر من الروم، فرجع من كان هرب منهم فى البحر إلى الإسكندرية فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلا من هرب.
وبلغ ذلك عمرو بن العاص فكر راجعا ففتحها، وأقام بها، وكتب إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أن الله قد فتح علينا الإسكندرية عنوة بغير عقد ولا عهد، فكتب إليه عمر يقبح رأيه ويأمره ألا يجاوزها.
قال ابن لهيعة: وهذا هو فتح الإسكندرية الثانى، وكان سبب فتحها أن بوابا يقال له: ابن بسامة سأل عمرا الأمان على نفسه وأرضه وأهل بيته ويفتح له الباب، فأجابه عمرو إلى ذلك وفتح له ابن بسامة الباب، فدخل عمرو من ناحية قنطرة سليمان، وكان مدخله الأول من الباب الذى من ناحية كنيسة الذهب.
وقد روى ابن لهيعة، أيضا، عن يزيد بن أبى حبيب أن فتحها الأول كان سنة إحدى وعشرين ثم انتقضوا سنة خمس وعشرين.
وجاءت الروم عليهم منويل الخصى، بعثه هرقل فى المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (1204) ، أسد الغابة ترجمة رقم (789) ، طبقات ابن سعد (7/ 439) ، طبقات خليفة ترجمة رقم (2905) ، تاريخ البخارى (2/ 132) ، تاريخ خليفة (180) ، مقدمة مسند بقى بن مخلد (112) ، التاريخ الكبير (2/ 232) ، التاريخ الصغير (72) ، الجرح والتعديل (2/ 515) ، فتوح البلدان (278) ، تاريخ الثقات للعجلى (99) ، الثقات لابن حبان (4/ 103) ، مشتبه النسبة لعبد الغنى بن سعيد (208) .

(2/342)


فأجابهم من بها من الروم، فخرج إليهم عمرو بن العاص فى البر والبحر، فقاتلهم قتالا شديدا، فهزمهم الله وقتل منويل، ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث.
ويقال: أن هذا انتقاض ثان للإسكندرية بعد انتقاضها الذى ذكره ابن لهيعة أولا وكان ذلك فى زمان عمر، وهذا الذى ذكر يزيد بن أبى حبيب فى خلافة عثمان، رضى الله عنهما، وسيأتى ذكره فى موضعه مستوفى إن شاء الله.
وقيل: إن جميع من قتل من المسلمين من حين كان من أمر الإسكندرية ما كان إلى أن فتحت اثنان وعشرون رجلا.
وبعث عمرو بن العاص، معاوية بن حديج «1» وافدا إلى عمر بن الخطاب يبشره بالفتح، فقال له معاوية: ألا تكتب معى؟ فقال له عمرو: ما أصنع بالكتاب، ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة وما رأيت وحضرته؟.
فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية، فخر عمر ساجدا وقال: الحمد لله.
ويروى عن معاوية بن حديج أنه قال: قدمت المدينة فى الظهيرة فأنخت راحلتى بباب المسجد، ثم دخلت المسجد، فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب فرأتنى شاحبا علىّ ثياب السفر، فأتتنى فقالت: من أنت؟ فقلت: أنا معاوية بن حديج رسول عمرو بن العاص. فانصرفت عنى، ثم أقبلت تشتد، فقالت: قم فأجب أمير المؤمنين. فتبعتها، فلما دخلت إذا بعمر بن الخطاب يتناول رداءه فقال: ما عندك؟ فقلت:
خير يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية، فخرج معى إلى المسجد فقال للمؤذن: أذن فى الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس ثم قال لى: قم فأخبر أصحابك. فقمت فأخبرتهم، ثم صلى ودخل منزله واستقبل القبلة فدعا بدعوات ثم جلس فقال: يا جارية، هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت، فقال: كل، فأكلت على حياء، ثم قال: كل فإن المسافر يحب الطعام، فلو كنت آكلا لأكلت معك. فأصبت على حياء، ثم قال: يا جارية، هل من تمر؟ فأتت بتمر فى طبق، فقال: كل، فأكلت على حياء، ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال: قلت: أمير المؤمنين قائل «2» . قال: بئس ما قلت، أو بئس ما ظننت. لئن نمت بالنهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسى، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟.
__________
(1) انظر ترجمته فى: أسد الغابة ترجمة رقم (4980) .
(2) القائل: هو النائم فى وسط النهار. انظر: القاموس المحيط للفيروزابادى (4/ 42) .

(2/343)


ثم كتب عمرو بن العاص بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه: أما بعد، فإنى فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أنى أصبت فيها أربعة آلاف منية بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودى عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك.
وعن أبى قبيل أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية وجد فيها اثنى عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر.
وعن غيره «1» أنه كان فيما أحصى من الحمامات اثنا عشر ديماسا أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، كل مجلس منها يسع جماعة نفر.
قال: وترحل من الإسكندرية فى الليلة التى دخلها عمرو بن العاص أو الليلة التى خافوا دخوله سبعون ألف يهودى، وكان عدة من بالإسكندرية من الروم مائتى ألف من الرجال، فلحق بأرض الروم أهل القوة وركبوا السفن، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار يحمل فيها ثلاثون ألف بما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل، وبقى من بقى ممن يؤدى الخراج، فأحصوا يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصبيان.
واختلف الناس على عمرو فى قسمهم، وكان أكثرهم يريدون القسم، فقال عمرو:
لا أقدر على ذلك حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إليه فى ذلك، فكتب إليه عمر، رضى الله عنه: لا تقسمها، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم.
فأقرها عمرو وأحصى أهلها وفرض عليهم الخراج، فكانت مصر صالحا كلها بفريضة دينارين دينارين على كل رجل، لا يزاد على أحد منهم فى جزية رأسه على دينارين، غير أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع، إلا الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم؛ لأن الإسكندرية فتحت عنوة لغير عهد ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمة.
ويقال: إن مصر كلها فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد.
قال سفيان بن وهب الخولانى «2» : لما فتحنا مصر بغير عهد قام الزبير بن العوام فقال:
اقسمها يا عمرو. فقال: لا أقسمها. فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله
__________
(1) هو: حسين بن شفى بن عبيد.
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3343) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2129) .

(2/344)


صلى الله عليه وسلم خيبر. فقال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إليه فأجابه:
أقرها حتى يغدو «1» منها حبل الحبلة.
وفى حديث آخر: أن الزبير صولح على شىء أرضى به.
وحدث أبو قنان «2» ، عن أبيه أنه سمع عمرو بن العاص يقول، يعنى بمصر: لقد قعدت مقعدى هذا وما لأحد من قبط مصر علىّ عهد ولا عقد، إن شئت قتلت، وإن شئت حبست، وإن شئت بعت.
ويروى عن ربيعة نحو ما تقدم من فتح مصر بغير عهد، وأن عمر بن الخطاب حبس درها وصرها أن يخرج منه شىء نظيرا للإسلام وأهله.
وقال زيد بن أسلم «3» : كان لعمر بن الخطاب، رضى الله عنه، تابوت فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد.
ويروى أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال للقبط: إن من كتمنى كنزا عنده فقدرت عليه قتلته. فذكر لعمرو أن قبطيا «4» من أهل الصعيد يقال له: بطرس عنده كنز، فأرسل إليه فسأله، فأنكر، فحبسه عمرو، وسأل: هل تسمعونه يسأل عن أحد؟ فقالوا:
سمعناه يسأل عن راهب بالطور، فأخذ خاتم بطرس وكتب على لسانه بالرومية إلى ذلك الراهب: أن ابعث إلىّ بما عندك، وختم بخاتمه، فجاء الرسول من عند الراهب بقلة شامية مختومة بالرصاص، فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها: يا بنى، إن أردتم ما لكم فافتحوا تحت الفسقية الكبيرة. فأرسل عمرو إلى الفسقية فحبس عنها الماء، وقلع البلاط الذى تحتها، فوجد فيها اثنين وخمسين أردبا ذهبا مضروبة، فضرب عمرو رأس القبطى عند باب المسجد، فأخرج القبط كنوزهم خشية أن يقتلوا.
وروى يزيد بن أبى حبيب أن عمرو بن العاص استحل مال قبطى كان يظهر الروم على عورات المسلمين ويكتب إليهم بذلك، فاستخرج منه بضعة وخمسين أردبا دنانير.
وقال ابن شهاب: كان فتح مصر بعضها بعهد وذمة وبعضها عنوة. فجعل عمر بن
__________
(1) فى ابن عبد الحكم: يغزو.
(2) هو: أيوب بن أبى العالية.
(3) انظر ترجمته فى: الجرح والتعديل (3/ 2509) ، الإصابة ترجمة رقم (2883) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1821) .
(4) فى ابن عبد الحكم: نبطيا.

(2/345)


الخطاب جميعها ذمة، وحملهم على ذلك، فجرى ذلك فيهم إلى اليوم.
وفى كتاب سيف عمن سمى من أشياخه «1» فى فتح مصر مساق آخر غير ما تقدم، وذلك أن عمرو بن العاص خرج إلى مصر بعد ما رجع عمر إلى المدينة، يعنى رجوعه من الشام، فانتهى عمرو إلى باب مصر، وأتبعه الزبير فاجتمعا، فلقيهم هناك أبو مريم جاثليق «2» مصر ومعه الأسقف فى أهل النيات، بعثهم المقوقس لمنع بلادهم.
فلما نزل بهم عمرو قاتلوه، فأرسل إليهم عمرو: لا تعجلونا لنعذر إليكم، وتروا رأيكم بعد، فكفوا أصحابهم، فأرسل إليهم عمرو: إنى بارز فليبرز لى أبو مريم وأبو مريام، فأجابوه إلى ذلك وآمن بعضهم بعضا. فقال لهما عمرو: أنتما راهبا أهل هذه البلدة فاسمعا: إن الله بعث محمدا بالحق وأمره به، وأمرنا به محمد، وأدى إلينا كل الذى أمر به، ثم مضى، صلوات الله عليه، وقد قضى الذى عليه وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه قبلنا منه وكان مثلنا، ومن لم يجبنا إليه عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفظا لرحمنا فيكم، وإن لكم إن أجبتمونا إلى ذلك ذمة إلى ذمة، ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقبطيين خيرا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالقبطيين خيرا؛ لأن لهم رحما وذمة، يعنى بالرحم أن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام منهم، فقالا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء وأتباع الأنبياء، وذكرا أن هاجر معروفة عندهم شريفة.
قالا: كانت ابنة ملكنا، وكان من أهل منف والملك فيهم، فأذيل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوا ملكهم واغتربوا، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام. مرحبا بكم وأهلا أمنا حتى نرجع إليك.
فقال عمرو: إن مثلى لا يخدع ولكننى أأجلكما ثلاثا ولتناظرا قومكما، وإلا ناجرناكم.
قالا: زدنا، فزادهم يوما، فقالا: زدنا، فزادهم يوما، فرجعوا إلى المقوقس، فهم، يعنى بالإنابة إلى الجزية، فأبى أرطبون أن يجيبهما، وأمر بمناهدتهم، فقالا لأهل مصر: أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم، لا نرجع إليهم وقد بقيت أربعة أيام، فلا تصابون فيها بشىء
__________
(1) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 107، 108) .
(2) الجائليق: رئيس النصارى فى ديار الإسلام.

(2/346)


إلا رجونا أن يكون له أمان، فلم يفجأ عمرا والزبير إلا البيات من فرقب، وعمرو والزبير بعين شمس وبها جمعهم. وبعث إلى الفرما أبرهة بن الصباح، فنزل عليها، وبعث عوف ابن مالك إلى الإسكندرية فنزل عليها، فقال كل واحد منهما لأهل مدينته: إن شئتم أن تنزلوا فلكم الأمان. فقالوا: نعم، فراسلوها، وتربصوا بهم أهل عين شمس، وسبى المسلمون من بين ذلك.
وقال عوف بن مالك «1» : ما أحسن مدينتكم يا أهل الإسكندرية فقالوا: إن الإسكندر قال: إنى أبنى مدينة إلى الله فقيرة، وعن الناس غنية، فبقيت بهجتها.
وقال أبرهة لأهل الفرما: ما أخلق مدينتكم يا أهل الفرما؟ قالوا: إن الفرما قال: إنى أبنى مدينة عن الله غنية، وإلى الناس فقيرة، فذهبت بهجتها.
قال الكلبى: كان الإسكندر والفرما أخوين، ثم حدث بمثل ذلك، قال: فنسبتا إليهما، فالفرما يتهدم كل يوم فيها شىء، وأخلقت مرآتها، وبقيت جدة الإسكندرية.
قالوا: ولما نزل عمرو على القوم بعين شمس، وكان الملك بين القبط والنوب، ونزل معه الزبير عليها قال أهل مصر لملكهم: ما تريد إلى قوم فلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم، صالح القوم واعتقد منهم، ولا تعرضنا لهم، وذلك فى اليوم الرابع، فأبى، وناهدوهم فقاتلوهم، وارتقى الزبير سورها، فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوة، حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة فأجروا ما أخذوا عنوة مجرى ما صالحوا عليه، فصاروا ذمة:
وكان صلحهم:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم، وملتهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبهم، وبحرهم، وبرهم، لا يدخل عليهم فى شىء من ذلك، ولا ينتقض، ولا يساكنهم النوب. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف. وعليهم ما جنى لصوصهم، فإن أبى أحد أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدرهم، وذمتنا من أبى بريئة.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (6116) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4130) ، المعارف (315) ، الجرح والتعديل (7/ 13، 14) ، العبر (1/ 81) ، تهذيب التهذيب (8/ 168) ، شذرات الذهب (1/ 79) .

(2/347)


وإن نقص نهرهم من عادته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل فى صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى فاختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثا فى كل ثلث، يريد من السنة، جباية ثلث ما عليهم، لهم على ما فى هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين.
وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا معونة، على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.
شهد الزبير، وعبد الله ومحمد ابنا عمرو، وكتب وردان، وحضر فدخل فى ذلك أهل مصر كلهم، وقبلوا الصلح «1» .
فمصر عمرو الفسطاط، ونزله المسلمون، وظهر أبو مريم وأبو مريام، فكلموا عمرا فى السبايا التى أصيبت بعد المعركة، فقال عمرو: أولهم عهد وعقد؟ ألم نخالفكما ويغر علينا من يومكما؟ فطردهما، فرجعا وهما يقولان: كل شىء أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففى ذمة. فقال لهما عمرو: يغيرون علينا وهم فى ذمة؟ قالا: نعم. وقسم عمرو ذلك السبى على الناس، وتوزعوه ووقع فى بلاد العرب، وقدم البشير إلى عمر بعد بالأخماس، وقدم الوفود، فسألهم عمر، فما زالوا يخبرونه حتى مروا بحديث الجاثليق وصاحبه، فقال عمر: ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون من قاتلكم فلا أمان له، ومن لم يقاتلكم وأصابه منكم سبى من أهل القرى فى الأيام الخمسة فله الأمان، وكتب بذلك إلى عمرو بن العاص، فجعل يجاء بهم من اليمن ومكة حتى ردوا.
وعن عمرو بن شعيب «2» قال: لما التقى عمرو والمقوقس بعين شمس، واقتتلت خيلاهما، جعل المسلمون يجولون بعد البعد، فزمرهم عمرو، فقال رجل من أهل اليمن:
إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد. فأسكته عمرو، ثم لما تمادى ذلك نادى عمرو: أين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فحضر من شهدها منهم، فقال: تقدموا فبكم ينصر المسلمون.
فتقدموا وفيهم يومئذ أبو بردة وأبو برزة، وناهدهم الناس يتبعون الصحابة، ففتح الله على المسلمين، وظفروا أحسن الظفر، وافتتحت مصر، وقام فيها ملك الإسلام على رجل، وجعل يفيض على الأمم والملوك.
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 109) .
(2) انظر: الطبرى (4/ 111) .

(2/348)


وعن محمد بن إسحاق «1» عن رجل من أهل مصر اسمه القاسم بن قزمان: أن زياد ابن جزء الزبيدى حدثه وكان فى جند عمرو بن العاص، قال: افتتحنا الإسكندرية فى خلافة عمر، فلما افتتحنا باب اليون تدنينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية قرية، حتى انتهينا إلى بلهيب وقد بلغت سبايانا مكة والمدينة واليمن، فلما انتهينا إلى بلهيب «2» أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو بن العاص: إنى قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلىّ منكم يا معشر العرب، لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علىّ ما أصبتم من سبايا أرضى فعلت، فبعث إليه عمرو: إن ورائى أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عنى حتى أكتب إليه بالذى عرضت علىّ، فإن قبل ذلك منك قبلت، وإن أمرنى بغير ذلك مضيت لأمره.
قال: فقال: نعم. فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يذكر له الذى عرض عليه صاحب الإسكندرية. قال: وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به، ثم وقفنا ببلهيب وفى أيدينا بقايا من سبيهم، وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءه، وقرأه علينا عمرو وفيه:
«أما بعد: فإنه جاء فى كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض عليك أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصبت من سبايا أرضه، ولعمرى لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلىّ من فىء يقسم، ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية، على أن تخيروا من فى أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل ذمته، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب وبلغ مكة والمدينة واليمن فإنّا لا نقدر على ردهم، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفى له به» .
قال: فبعث عمرو بن العاص إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذى كتب به أمير المؤمنين، فقال: قد فعلت، فجمعنا ما فى أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتى بالرجل ممن فى أيدينا، ثم نخيره بين الإسلام وبين النصراينية، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة لهى أشد من تكبيرتنا حين تقتحم القرية، ثم نجوزه إلينا، وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى وحازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعا
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 105، 106) .
(2) بلهيب: قرية من قرى الريف، يقال لها: الريش. انظر: الطبرى (4/ 105) ، معجم البلدان (1/ 492) .

(2/349)


شديدا، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم، فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم.
وفيمن أتينا به أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن، قال القاسم: وقد أدركته وهو عريف بنى زبيد، قال ابن جزء الزبيدى: فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية، وأبوه وأمه وإخوته فى النصارى، فاختار الإسلام، فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا عليه، حتى شققوا ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى.
ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها، فمن زعم غير ذلك أن الإسكندرية وما حولها من القرى لم تكن لها جزية ولا لأهلها عهد فقد كذب.
قال القاسم: وإنما أهاج هذا الحديث أن ملوك بنى أمية كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أنها إنما دخلت عنوة، وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا، ونضع ما شئنا، وقد تقدم بعض ما وقع فى هذا المعنى من الاختلاف.
وكذلك اختلفوا فى وقت فتح مصر، فذكر ابن إسحاق أنها فتحت سنة عشرين، وكذلك قال أبو معشر والواقدى.
وقد روى عن أبى معشر أن الإسكندرية فتحت سنة خمس وعشرين، ولعل ذلك فتحها الأخير، إذ قد تقدم ذكر انتقاضها مرتين.
وأما سيف «1» فزعم أن مصر والإسكندرية فتحتا فى سنة ست عشرة. قال: ولما كان ذو القعدة من سنة ست عشرة وضع عمر، رحمه الله، مسالح مصر على السواحل وغيرها.
وقال سعيد بن عفير وغيره «2» : لما تم الفتح للمسلمين بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى التى حول الفسطاط، فأقامت الفيوم سنة لم يعلم المسلمون مكانها، حتى أتاهم رجل فذكرها لهم، فأرسل عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصدفى، فلما سلكوا فى المجابة لم يروا شيئا، فهموا بالانصراف، فقالوا: لا تعجلوا، سيروا فإن كان كذبا فما أقدركم على ما أردتم. فلم يسيروا إلا قليلا حتى طلع لهم سواد الفيوم فهجموا عليها، فلم يكن عندهم قتال وألقوا بأيديهم.
قال: ويقال: بل خرج مالك بن ناعمة الصدفى، وهو صاحب الأشقر، ينفض المجابة
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 111، 112) .
(2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 169) .

(2/350)


على فرسه، ولا علم له بما خلفها من الفيوم، فهجم على الفيوم فلما رأى سوادها رجع إلى عمرو فأخبره.
وقيل غير ذلك فى وجه الانتهاء إلى الفيوم مما لا كبير فائدة فى ذكره، والله تعالى أعلم «1» .
وعن يزيد بن أبى حبيب أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها وبناءها مفروغا منها همّ بسكناها، وقال: مساكن قد كفينا بناءها، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه فى ذلك، فسأل عمر الرسول: هل يحول بينى وبين المسلمين ماء؟ قال:
نعم، إذا جرى النيل. فكتب إلى عمرو:
إنى لا أحب أن ينزل المسلمون منزلا يحول الماء بينى وبينهم لا فى شتاء ولا فى صيف.
فتحول عمرو من الإسكندرية إلى الفسطاط. وإن ناسا من المسلمين حين افتتحوا مصر مع عمرو بن العاص اختطوا بالجيزة وسكنوا بها، فكتب عمرو بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر يقول: ما كنت أحب أن ينزلوا منزلا يكون الماء دونهم، فإذا فعلوا فابن عليهم حصنا. فبنى الحصن الذى خلف الجسرين.
وبنى عمرو بن العاص المسجد، وكان ما حوله حدائق وأعنابا، فنصبوا الحبال حتى استقام لهم، ووضعوا أيديهم، فلم يزل عمرو قائما حتى وضعوا القبلة، وضعها هو ومن حضر معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذ فيه منبرا. فكتب إليه عمر بن الخطاب:
«أما بعد. فإنه بلغنى أنك اتخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين، أو ما بحسبك أن تقوم قائما والمسلمون تحت عقبيك، فعزمت عليك لما كسرته» .
ولما اختط الناس المنازل بالفسطاط كتب عمرو بن العاص إلى عمر، رضى الله عنه:
إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع.
فكتب إليه عمر: أنى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر؟ وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين.
وذكر الطبرى»
أن القبط حضروا باب عمرو، فبلغه أنهم يقولون: ما أرثّ العرب
__________
(1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 91) .
(2) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 110) .

(2/351)


وأهون أنفسهم وما رأينا مثلنا دان لهم فخاف أن يستثيرهم ذلك، فأمر بجزر فنحرت، فبطحت فى الماء والملح، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا هم وأصحابهم، وجلس وأذن لأهل مصر، وجىء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين، فأكلوا أكلا عربيا، انتشلوا وحسوا وهم فى العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة، وتقدم إلى أمراء الأجناد فى الحضور بأصحابهم من الغد، وأمرهم أن يجيئوا فى ثياب أهل مصر وأحذيتهم، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك، ففعلوا، وأذن لأهل مصر، فرأوا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوم بألوان مصر، فأكلوا أكل أهل مصر، ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا.
وبعث إليهم: أن يتسلحوا غدا للعرض، وغدا على العرض، وأذن لأهل مصر فعرضهم عليهم، ثم قال: إنى قد علمت أنكم رأيتم فى أنفسكم أنكم فى شىء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أريكم حالهم، كيف كانت فى أرضهم، ثم حالهم فى أرضكم، ثم حالهم فى الحرب فظفروا بكم، وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم فى اليوم الثانى، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم فى اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثانى وراجع إلى عيش اليوم الأول.
فتفرقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم.
وبلغ عمر، رحمه الله، ذلك، فقال لجلسائه، يعنى عمرا: والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره، إن عمرا لعض، ثم أمّره عليها وأقام بها.
وذكر ابن عبد الحكم أن عمر، رضى الله عنه، كتب أن يختم فى رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف عرضا، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى، ولا يضربوا على النساء، ولا على الولدان، ولا يدعوهم يتشبهون «1» بالمسلمين فى لبوسهم «2» .
قال: ثم إن عمر بن الخطاب أمر أمراء الأجناد أن يتقدموا إلى الرعية بأن عطاءهم قائم، وأرزاق عيالهم جارية، فلا يزرعون، يعنى الأجناد، ولا يزارعون.
فأتى شريك بن سمى الغطيفى إلى عمرو بن العاص فقال: إنكم لا تعطوننا ما يحبسنا أفتأذن لى بالزرع؟ فقال له عمرو: ما أقدر على ذلك، فزرع شريك بغير إذنه، فكتب
__________
(1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 151) .
(2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 162) .

(2/352)


عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمره أن يبعث إليه شريكا، فأقرأ عمرو شريكا الكتاب، فقال له شريك: قتلتنى يا عمرو قال: ما أنا قتلتك قال: أنت صنعت هذا بنفسك قال: فإذا كان هذا من رأيك فأذن لى فى الخروج إليه من غير كتاب، ولك علىّ عهد الله أن أجعل يدى فى يده، فأذن له، فلما وقف على عمر قال: تؤمننى يا أمير المؤمنين؟ قال: ومن أى الأجناد أنت؟ قال: من جند مصر، قال: فلعلك شريك بن سمى الغطيفى؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، قال: لأجعلنك نكالا لمن خلفك، قال: أو تقبل منى ما قبل الله من العباد؟ قال: وتفعل؟ قال: نعم، فكتب إلى عمرو بن العاص: إن شريك ابن سمى جاءنى تائبا فقبلت منه.
وعن الليث بن سعد «1» قال: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك وقال: أكتب فى ذلك إلى أمير المؤمنين، فأجابه عمر عن كتابه إليه فى ذلك: سله لم أعطاك به ما أعطاك، وهى لا تزدرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها. فسأله عمرو، فقال: إنا لنجد صفتها فى الكتب أن فيها غراس الجنة، فكتب بذلك إلى عمر، فأجابه: إنا لا نعلم غراس الجنة إلا المؤمنين، فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشىء. فكان أول من دفن فيها رجل من المعافر يقال له: عامر، فقيل: عمرت.
قالوا «2» : ولما استقامت البلاد وفتح الله على المسلمين، فرض عمرو بن العاص لرباط الإسكندرية ربع الناس، يقيمون ستة أشهر ثم يعقب بعدهم ربعا آخر ستة أشهر، وربعا فى السواحل، والنصف الثانى مقيمون معه.
وقيل: كان عمر بن الخطاب يبعث كل سنة غازية من أهل المدينة ترابط بالإسكندرية وكانت الولاة لا تغفلها، ويكثفون رابطتها، ولا يأمنون الروم عليها.
وكتب عثمان بن عفان، رضى الله عنه، وهو خليفة إلى عبد الله بن سعد بن أبى سرح بعد أن استعمله على مصر:
قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين بالإسكندرية، وقد نقضت مرتين، فألزم الإسكندرية رابطتها، وأجر عليهم أرزاقهم، وأعقب بينهم فى كل ستة أشهر.
وكان عمرو بن العاص يقول: ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة، وقال: نيل مصر سيد
__________
(1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 157) .
(2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 192) .

(2/353)


الأنهار، سخر الله له كل نهر من المشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها، وفجر له الأرض عيونا، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد سبحانه أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.
ولما فتح عمرو مصر أتاه أهلها حين دخل بؤنة من أشهر العجم، فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سنة لا يجرى إلا بها. فقال: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان لاثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عهدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها فى هذا النهر. فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون فى الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله. فأقاموا ذلك الشهر والشهرين اللذين بعده لا يجرى قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب به إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر، رضى الله عنه:
قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها فى داخل النيل.
فلما قدم الكتاب على عمرو وفتح البطاقة فإذا فيها:
من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر: أما بعد، فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذى يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.
فألقى عمرو البطاقة فى النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله، عز وجل، ستة عشر ذراعا فى ليلة. وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر.
ذكر فتح أنطابلس
قال ابن عبد الحكم «1» : كان البربر بفلسطين، يعنى فى زمان داود عليه السلام، فخرجوا منها متوجهين إلى الغرب حتى انتهوا إلى لوبية ومراقية، وهما كورتان من كور مصر الغربية، مما يشرب من ماء السماء ولا ينالهما النيل، فتفرقوا هنالك، فتقدمت زناتة ومغيلة إلى الغرب وسكنوا الجبال وتقدمت لواتة فسكنت أرض أنطابلس وهى برقة، وتفرقت فى هذا الغرب وانتشروا فيه حتى بلغوا السوس، ونزلت هوارة مدينة لبدة،
__________
(1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 170، 171) .

(2/354)


ونزلت نفوسة مدينة صبرة، وجلا من كان فيها من الروم من أجل ذلك، وأقام الأفارق وكانوا خدما للروم على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم، وهم بنو أفارق بن قيصر بن حام.
فسار عمرو بن العاص فى الخيل حتى قدم برقة، فصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها إليه جزية، على أن يبيعوا من أبنائهم فى جزيتهم، ولم يكن يدخل برقة يومئذ جابى خراج، وإنما كانوا يبعثون بالجزية إذا جاء وقتها.
ووجه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة. قال الطبرى: فافتتحها بصلح، وصار ما بين برقة وزويلة سلما للمسلمين. وقال أبو العالية الحضرمى: سمعت عمرو بن العاص على المنبر يقول: لأهل أنطابلس عهد يوفى لهم به.
فتح أطرابلس
قال ابن عبد الحكم «1» : ثم سار عمرو حتى نزل أطرابلس فى سنة اثنتين وعشرين، فنزل القبة التى على الشرف من شرقيها، فحاصرها شهرا لا يقدر منهم على شىء، فخرج رجل من بنى مدلج ذات يوم من عسكر عمرو متصيدا فى سبعة نفر، فمضوا غربى المدينة حتى أمنعوا عن العسكر، ثم رجعوا فأصابهم الحر، فأخذوا على ضفة البحر، وكان البحر لاصقا بسور المدينة، ولم يكن فيما بين المدينة والبحر سور، وكانت سفن الروم شارعة فى مرساها إلى بيوتهم، فنظر المدلجى وأصحابه، فإذا البحر قد غاض من ناحية المدينة، ووجدوا مسلكا إليها من الموضع الذى حسر عنه البحر، فدخلوا منه حتى أتوا من ناحية الكنيسة وكبروا، فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم، وأبصر عمرو وأصحابه السلمة فى جوف المدينة، فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم، فلم يفلت الروم إلا بما خف لهم من مراكبهم، وغنم عمرو ما كان فى المدينة.
وكان من بصبرة متحصنين، وهى المدينة العظمى وسوقها السوق القديم، فلما بلغهم محاصرة عمرو مدينة أطرابلس، وأنه لم يصنع فيهم شيئا ولا طاقة له بهم أمنوا.
فلما ظفر عمرو بمدينة أطرابلس جرد خيلا كثيفة من ليلته، وأمرهم بسرعة السير، فصبحت خيله مدينة صبرة وهم غافلون وقد فتحوا أبوابها لتسرح ماشيتهم، فدخلوها فلم ينج منهم أحد، واحتوى أصحاب عمرو على ما فيها ورجعوا إلى عمرو.
__________
(1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 171- 173) .

(2/355)


قال: ثم أراد عمرو أن يوجه إلى المغرب، فكتب إلى عمر بن الخطاب: إن الله، عز وجل، قد فتح علينا أطرابلس، وليس بينها وبين أفريقية إلا تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن نغزوها ويفتحها الله على يديه فعل.
فكتب إليه عمر: لا، إنها ليست بأفريقية، ولكنها المفرقة، غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت.
قال: وأتى عمرو بن العاص كتاب المقوقس، يذكر له أن الروم يريدون نكث العهد ونقض ما كان بينهم وبينه، وكان عمرو قد عاهد المقوقس على أن لا يكتمه أمرا يحدث، فانصرف عمرو راجعا مبادرا لما أتاه.
قال: وقد كان عمرو يبعث الجريدة من الخيل فيصيبون الغنائم ثم يرجعون، يعنى من أطراف أفريقية.