الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء

ذكر الخبر عن وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وما كان من عهده إلى عمر بن الخطاب، جزاهما الله عن دينه الحق أفضل الجزاء
«1» قد تقدم فى بدء الردة، وذكر خلافة أبى بكر رضى الله عنه، من هذا الكتاب ما دل على ولاية عمر بعده، من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذى يروى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبى بكر، ونيط عثمان بعمر، قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما ما ذكر من نوط بعضهم ببعض، فهم ولاة هذا الأمر الذى بعث الله به نبيه.
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا نائم رأيتنى على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبى قحافة، فنزع منها ذنوبا، أو ذنوبين، وفى نزعه والله يغفر له ضعف، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب، حتى ضرب الناس بعطن» «2» .
واختلف أهل العلم فى السبب الذى توفى منه أبو بكر، فذكر الواقدى أنه اغتسل فى يوم بارد فحم ومرض خمسة عشر يوما. وقال الزبير بن بكار: كان به طرف من السل.
وقال غيره: أن أصل ابتداء ذلك السل به الوجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبضه الله إليه، فما زال ذلك به حتى قضى منه.
وروى عن سلام بن أبى مطيع أنه رضى الله عنه، سم. وبعض من ذكر ذلك يقول:
أن اليهود سمته فى أرزة، وقيل فى حريرة، فمات بعد سنة. وقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب، فقال: قد رآنى، قالوا: فما قال لك؟ قال: قال: إنى أفعل ما أريد «3» .
__________
(1) راجع الخبر فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 129) ، تاريخ الطبرى (3/ 419) ، طبقات ابن سعد (3/ 1/ 140) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 7، 9/ 45، 49، 171) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (17) ، السنن الكبرى للبيهقى (8/ 153) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 19، 12/ 414) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (6031) ، شرح السنة للبغوى (14/ 89) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 226) ، كنز العمال للمتقى الهندى (3273) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 344) ، السنة لابن أبى عاصم (14/ 89) .
(3) راجع ما ذكره ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 129) .

(2/208)


وكذلك اختلفوا فى حين وفاته، فقال ابن إسحاق: توفى يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. وقال غيره من أهل السير: إنه مات عشى يوم الاثنين، وقيل ليلة الثلاثاء وقيل: عشى الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة، وهذا هو الأكثر فى وفاته «1» .
وأوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس، فغسلته، وصلى عليه عمر بن الخطاب فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل على السرير الذى حمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فى قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبد الرحمن بن أبى بكر، ودفن ليلا فى بيت عائشة مع النبى صلى الله عليه وسلم، وجعل رأسه عند كتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقوا لحده بلحده، وجعل قبره مسطحا مثل قبر النبى صلى الله عليه وسلم ورش عليه بالماء.
ولا يختلفون فى أنه توفى ابن ثلاث وستين سنة، وأنه استوفى بخلافته بعد الرسول صلوات الله عليه، سن رسول الله صلى الله عليه وسلم التى توفاه الله لها «2» .
ويروى أنه رضى الله عنه، لما احتضر، وابنته عائشة حاضرة، فأنشدت رضى الله عنها «3» :
لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
رفع إليها رأسه وقال: لا تقولى هذا يا بنية، أو: ليس هكذا يا بنية، ولكن قولى:
«وجاءت سكرة [الحق بالموت] ذلك ما كنت منه تحيد» «4» ، هكذا قرأها أبو بكر رضى الله عنه.
وقالوا: كان آخر ما تكلم به: رب توفنى مسلما، وألحقنى بالصالحين.
وقال أبو بكر رضى الله عنه، لعائشة رضى الله عنها، وهو مريض: فى كم كفن
__________
(1) راجع المنتظم لابن الجوزى (4/ 130) ، تاريخ الطبرى (3/ 421) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 421) .
(3) انظر الأبيات فى: العقد الفريد (5/ 19) ، وهذا البيت لحاتم الطائى، راجع ديوانه ص (51) .
(4) ما بين المعقوفتين ورد فى بعض الأصول: «الموت بالحق» وهذا هو المشهور فى القراآت السبع، وقول المصنف هكذا قرأها أبو بكر، يوضح أن أبا بكر قرأها باختلاف عن المشهور، وكذلك أيضا قرأ بها سعيد بن جبير وطلحة وعبد الله بن مسعود، وشعبة، وأبى عمران. انظر: الطبرى (26/ 100) ، الفراء (3/ 78) ، الكشاف (4/ 7) ، القرطبى (17/ 12) ، النحاس (3/ 217) ، مجمع البيان (9/ 143) ، زاد المسير (7/ 194) ، المحتسب (5/ 337- 338) .

(2/209)


رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: فى ثلاثة أثواب بيض سحولية. فقال أبو بكر: خذوا هذا الثوب، لثوب عليه قد أصابه مشق أو زعفران فاغسلوه، ثم كفنونى فيه مع ثوبين آخرين. فقالت عائشة: وما هذا؟ فقال أبو بكر: الحى أحوج إلى الجديد من الميت، وإنما هذا للمهلة.
ولما توفى أبو بكر رحمه الله، ارتجت المدينة بالبكاء، ودهش القوم كيوم قبض النبى صلى الله عليه وسلم فأقبل على بن أبى طالب رضى الله عنه، مسرعا باكيا مسترجعا، حتى وقف على باب البيت الذى فيه أبو بكر، وقد سجى بثوب، فقال: رحمك الله يا أبا بكر، كنت أول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأخوفهم لله عز وجل، وأعظمهم غناء، وأحدبهم على الإسلام، وأيمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبة وأفضلهم مناقب، وأكثرهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عند الله، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله والمسلمين خيرا، صدقت رسول الله حين كذبه الناس، فسماك الله فى كتابه صديقا.
فقال: والذى جاء بالصدق محمد، وصدق به أبو بكر، وآسيته حين بخلوا، وقمت معه حين عنه قعدوا، وصحبته فى الشدة أكرم الصحبة، ثانى اثنين، وصاحبه فى الغار، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه فى الهجرة ومواطن الكريهة، ثم خلفته فى أمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس، وقمت بدين الله قياما لم يقم به خليفة نبى قط، قويت حين ضعف أصحابك، وبدرت حين استكانوا، ونهضت حين وهنوا، ولزمت منهاج رسوله إذ هم أصحابه، كنت خليفته حقا، لم تنازع ولم تضرع برغم المنافقين وصغر الفاسقين وغيظ الكافرين وكره الحاسدين، فقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تتعتعوا، ومضيت بنور الله إذ وقفوا، فاتبعوك، فهدوا، وكنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم فوقا، وأقلهم كلاما، وأصوبهم منطقا، وأطولهم صمتا، وأبلغهم قولا، وكنت أكبرهم رأيا، وأشجعهم قلبا، وأحسنهم عملا، وأعرفهم بالأمور، كنت والله للدين يعسوبا أولا حين تفرق عنه الناس، وآخرا حين أقبلوا، كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا، وحفظت ما ضيعوا، ورعيت ما أهملوا، وشمرت إذ خنعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، فأدركت أوتار ما طلبوا ونالوا بك ما لم يحتسبوا، كنت على الكافرين عذابا صبا، وكنت للمسلمين غيثا وخصبا، فطرت والله بغنائها، وفزت بحبابها، وذهبت بفضائلها، وأحرزت سوابقها، لم تفلل حجتك، ولم

(2/210)


يزغ قلبك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، ولم تخن، كنت كالجبل الذى لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن الناس عليه فى صحبتك وذات يدك، وكما قال: ضعيفا فى بدنك قويا فى أمر الله تعالى متواضعا فى نفسك، عظيما عند الله، جليلا فى الأرض، كبيرا عند المؤمنين، لم يكن لأحد فيك مهمز، ولا لقائل فيك مغمز، ولا لأحد فيك مطمع، ولا عندك هوادة لأحد، الضعيف الذليل عندك قوى عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوى العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد عندك فى ذلك سواء، شأنك الحق والصدق والرفق، وقولك حكم وحتم، ورأيك علم وعرف، فأقلعت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفئت النيران، واعتدل بك الدين، وقوى الإيمان، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، فسبقت والله سبقا بعيدا، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا، وفزت بالحق فوزا مبينا، فجللت عن البكاء، وعظمت رزيتك فى السماء، وهدت مصيبتك الأنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا لله أمره، ولن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلك أبدا، كنت للدين عزا وكهفا، وللمؤمنين حصنا وفئة وأنسا، وعلى المنافقين غلظة وغيظا وكظما، فألحقك الله بميتة نبيك صلى الله عليه وسلم ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك، فإنا لله، وإنا إليه راجعون «1» .
وأنصت الناس حتى قضى كلامه، ثم بكى وبكوا، قوالوا: صدقت يابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر الخطبة فى: العقد الفريد (5/ 19- 20) .

(2/211)


استخلاف عمر بن الخطاب
«1» وتقلد أمر الأمة وخلافة المسلمين بعد أبى بكر صاحبه ورفيقه وظهيره ووزيره عمر ابن الخطاب رضى الله عنهما، بعهد أبى بكر إليه بذلك، واستخلافه إياه عليه، نظرا للدين، ونصيحة لله وللأمة، وذلك لما استعز بأبى بكر رضى الله عنه، وجعه، وثقل، أرسل إلى عثمان وعلى ورجال من أهل السابقة والفضل من المهاجرين والأنصار، فقال:
قد حضر ما ترون، ولا بد من قائم بأمركم يجمع فئتكم ويمنع ظالمكم من الظلم، ويرد على الضعيف حقه، فإن شئتم اخترتم لأنفسكم، وإن شئتم جعلتم ذلك إلىّ، فو الله لا آلوكم ونفسى خيرا. قالوا: قد رضينا من اخترت لنا، قال: فقد اخترت عمر، وقال لعثمان: اكتب: هذا ما عهد أبو بكر فى آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حين يتوب الفاجر ويؤمن الكافر ويصدق الكاذب، عهد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن وعد الله حق وصدق المرسلون، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى أنبيائه ورسله، وقد استخلفت.
ولما انتهى أبو بكر إلى هذا الموضع ضعف ورهقته غشية، فكتب عثمان: وقد استخلفت عمر بن الخطاب، وأمسك، حتى أفاق أبو بكر فقال: أكتبت شيئا؟ قال: نعم، كتبت عمر بن الخطاب، فقال: رحمك الله، أما لو كتبت نفسك لكنت لها أهلا، فاكتب: قد استخلفت عمر بن الخطاب بعدى عليكم، ورضيته لكم، فإن عدل فذلك ظنى به، ورأيى فيه، وذلك أردت، وما توفيقى إلا بالله، وإن بدل فلكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.
والتوى عمر رضى الله عنه، على أبى بكر رحمه الله، فى قبول عهده، وقال: لا أطيق القيام بأمر الناس، فقال أبو بكر لابنه عبد الرحمن: ارفعنى وناولنى السيف، فقال عمر:
أو تعفينى؟ قال: لا، فعند ذلك قبل.
ذكر هذا كله أبو الحسن المدائنى، وذكر بإسناد له عن أبى هريرة وغيره أنه لما عهد أبو بكر إلى عمر عهده قال له: يا عمر، إن لله حقا فى الليل لا يقبله فى النهار، وحقا فى النهار لا يقبله فى الليل، ولا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنه يا عمر إنما ثقلت
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 131) .

(2/212)


موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنه يا عمر إنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل، وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه يوم القيامة إلا الباطل أن يكون خفيفا، ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغبا راهبا، فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيده إلى التهلكة، ألم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسئ أعمالهم، لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن، فإذا ذكرتهم قلت: إنى لأخشى أن أكون منهم.
وفى رواية: عوضا من هذا، فيقول قائل: أنا خير منهم، فيطمع، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم، لأنه تجاوز لهم عما كان من سىء، فإذا ذكرتهم قلت: إنى مقصر، أين عملى من أعمالهم، وفى رواية: عوضا من هذا، فيقول قائل: من أين أدرك درجتهم، ليجتهد، فإن حفظت وصيتى يا عمر، فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، وهو نازل بك، وإن ضيعت وصيتى فلا يكونن غائب أكره لك من الموت، ولست بمعجزه.
وعن أسماء بنت عميس قالت: لما أحس أبو بكر بنفسه أرسل إلى عمر، فقال له: يا عمر إنى قد وليتك ما وليتك، وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت عمله، وأثرته أنفسكم على نفسه، وأهلكم على أهله، حتى إن كنا لنظل نهدى إليه من فضل ما يأتينا من قبله، وصحبتنى ورأيتنى وإنما اتبعت أثر من كان قبلى، والله ما نمت فحملت، ولا شبهت فتوهمت، وإنى لعلى السبيل ما زغت، وإن أول ما أحذرك نفسك، فإن لكل نفس شهوة، فإذا أعطيتها شهوتها تمادت فيها ورغبت فى غيرها.
وفى حديث غير هذا: وخذ هذه اللقحة فإنها من إبل الصدقة، احتبستها للرسل إذا قدموا يصيبوا من رسلها، وخذ هذا البرد فإنى كنت أتجمل به للوفود، وخذ هذا السقاء وهذه العلبة فإنها من متاع إبل الصدقة، وعلىّ ثمانية آلاف درهم، ويقال: قال: ستة آلاف أخذتها للرسل، ولمن كان يغشانا، فأدها من مالى.
فخرج عمر متأبطا البرد، وقد حمل السقاء والعلبة، يقود اللحقة، يبكى ويقول: يرحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده.
ومات أبو بكر رحمه الله، ودفن ليلا، فلما أصبح عمر بعثت إليه عائشة بناضح وعبد حبشى كان يسقى لآل أبى بكر على ذلك الناضح، وقطيفة. فقبض عمر ذلك، فقال له عبد الرحمن بن عوف: سبحان الله، تسلب عيال أبى بكر ناضحا وعبدا أسود كان

(2/213)


ينفعهم، وقطيفة قيمتها خمسة دراهم؟ قال: فما ترى؟ قال: ترده عليهم، قال: لا ورب الكعبة، لا يكون ذلك وأنا حى، يخرج منه أبو بكر وأرده أنا على عياله «1» .
وعن المسور بن مخرمة أو علقمة بن أبى الفغواء الخزاعى قال: أرسل أبو بكر إلى عمر وهو مريض، فأتاه، فقال: يا عمر، إنى كنت أرى الرأى فتشير علىّ بخلافه، فأتهم نفسى لك، ألا إنى قد عصيتك فى استعمال شرحبيل بن حسنة، وقلت: أخاف ضعفه، فقلت لك: قد كان له فى الإسلام نصيب، وقد أحببت أن أبلوه، فإن رأيت ما أحب أثبته، وإن بلغنى عنه ضعف استبدلت به، فلا عليك أن تقره على عمله، وكنت تنهانى عن يزيد بن أبى سفيان، فقلت لك: إن له موضعا فى قريش، ونشأ بخير، وكان فيه، وقد أحببت أن أقيم له شرفه، فلا عليك أن تقره على عمله، ورجل لم أوصك بمثله ولا أراك فاعلا، قال: تريد خالدا؟ قال: أريده.
فقال عمر: أما شرحبيل بن حسنة فقد كنت أشير عليك أن لا تبعثه، وخفت ضعفه، وأمرتك أن تبعث مكانه عمار بن ياسر، ولم يبلغنا عنه إلا خير، ولست عازله إلا أن يبلغنى عنه ما لا أستحل معه تركه، وأما يزيد فقلت لك: غلام حديث السن لا سابقة له، ابعث مكانه سعد بن أبى وقاص، فلم يكن فى أمره إلا خير، ولا أعزله إلا أن يبلغنى عنه ما لا أستحل معه تركه. وأما خالد، فو الله ما أعدك فى أمره بما لا أفعل ولا أبدأ بأول من عزله، وما كنت أرى لك أن تجعل مع أبى عبيدة ضدا، وقد عرفت فضل أبى عبيدة.
فقال أبو بكر: أما أنى قد رأيت أبا عبيدة فى مرضى هذا آخذا بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه، ولنعم المتبع، ورأيتنى آخذا بثوب أبى عبيدة، ولنعم المتقدم، ثم سمعت خسفا ورائى، فالتفت فإذا أنت وإذا الظلمة، فاستلحقتك وما أبالى إذا لحقت بمن تخلف، فكأنى أسمع وقع نعليك، حتى أخذت بثوبى والتفت، فإذا نفر يخرجون من الظلمة يزدحمون، فالنجاء، النجاء يا عمر.
وكانت من جماعة من المهاجرين موافقة لأبى بكر فى استخلاف عمر ليس إلا، لما كانوا يعرفون من غلظته، فيقول أبو بكر: هو والله إن شاء الله خيركم. وقال لبعضهم:
إنى أرى ما لا ترون، ولو قد أفضى إليه أمركم لترك كثيرا مما ترون، إنى رمقته، فإذا أغلظت فى أمر أرانى التسهيل، وإذا لنت فى أمر تشدد فيه.
__________
(1) انظر ما ذكره ابن قتيبة فى المعارف ص (171) .

(2/214)


وقال له طلحة والزبير: ما أنت قائل لربك إذ وليته مع غلظته؟ قال: ساندونى، فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفوننى، أقول: استعملت عليهم خير أهلك وحلفت، ما تركت أحدا أشد حبا له من عمر، ستعلمون إذا فارقتموه وتنافستموها.
ودخل عثمان وعلى فأخبرهما أبو بكر، فقال عثمان: علمى به أنه يخاف الله فوله، فما فينا مثله، وقال على: يا خليفة رسول الله امض لرأيك، فما نعلم إلا خيرا، وخرجنا ودخل عمر، فقال أبو بكر: كرهك كاره، وأحبك محب. قال: لا حاجة لى بها، قال:
اسكت، إنى ميت من مرضى هذا، إنى رأيت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى فقت ثلاث فوقات، فدسعت فى الآخرة طعاما، فمرضت به مرضتين، وهذه الثالثة، فأنا ميت، وإياك والأثرة على الناس، وإياك والذخيرة فإن ذخيرة الإمام تهلك دينه.
ولما توفى أبو بكر رحمه الله، كتب عمر رضى الله عنه، إلى أبى عبيدة: أما بعد، فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمة الله على أبى بكر، القائل بالحق، والآمر بالقسط، والآخذ بالعرف، البر الشيم، السهل القريب، وأنا أرغب إلى الله فى العصمة برحمته، والعمل بطاعته، والحلول فى جنته، إنه على كل شىء قدير، والسلام عليك ورحمة الله «1» .
وجاء بالكتاب يرفأ حتى أتى أبا عبيدة، فقرأه فلم يسمع من أبى عبيدة حين قرأه شىء ينتفع به مقيم ولا ظاعن، ودعا أبو عبيدة معاذ بن جبل فأقرأه الكتاب، فالتفت معاذ إلى الرسول فقال: رحمة الله على أبى بكر، ويح غيرك، ما فعل المسلمون؟ قال:
استخلف أبو بكر، عمر، فقال معاذ: الحمد لله، وفقوا وأصابوا، فقال أبو عبيدة: ما منعنى من مسألته منذ قرأت الكتاب حتى دعوتك لقراءته إلا مخافة أن يستقبلنى فيخبرنى أن الوالى غير عمر. فقال له الرسول: يا أبا عبيدة، إن عمر يقول لك: أخبرنى عن حال الناس، وأخبرنى عن خالد بن الوليد، أى رجل هو؟ وأخبرنى عن يزيد بن أبى سفيان، وعمرو بن العاص، كيف هما فى حالهما ونصيحتهما للمسلمين؟ فقال أبو عبيدة: أما خالد فخير أمير، أنصحه لأهل الإسلام، وأحسنه نظرا لهم، وأشده على عدوهم من الكفار، ويزيد وعمرو فى نصيحتهما وجدهما كما يحب عمر ونحب، قال: فأخبرنى عن أخويك: سعيد بن زيد، ومعاذ بن جبل. قال: قل له هما كما عهدت، إلا أن تكون السن زادتهما فى الدنيا زهادة، وفى الآخرة رغبة.
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى ص (98) .

(2/215)


قال: ثم إن الرسول وثب لينصرف فقالا له: سبحان الله، انتظر نكتب معك. فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم من أبى عبيدة بن الحراج ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، فأصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها يجلس بين يديك، الشريف والوضيع، والعدو والصديق، والضعيف والشديد، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف تكون عند ذلك يا عمر، إنا نذكرك يوما تبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتنقطع فيه الحجج، وتزاح فيه العلل، وتجب فيه القلوب، وتعنو فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم بجبروته، فالناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته.
وإنا كنا نتحدث على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم أنه سيكون فى آخر الزمان ويروى: فى هذه الأمة، رجال يكونون إخوان العلانية أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا منك بغير المنزلة التى هو بها من أنفسنا، والسلام.
فمضى الرسول بهذا الكتاب، وقال أبو عبيدة لمعاذ: والله ما أمرنا عمر أن نظهر وفاة أبى بكر للناس، ولا ننعاه إليهم، فما أرى أن نذكر من ذلك شيئا دون أن يكون هو يذكره. فقال له معاذ: فإنك نعم ما رأيت. فسكتا، فلم يذكرا للناس شيئا، ولم يلبثا إلا مقدار ما قدم رسول عمر إليه حتى بعث إليهما بجواب كتابهما، وبعهد أبى عبيدة، وأمره بعظة الناس. وكان جوابه عن كتابهما: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى أبى عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، سلام عليكما، فإنى أحمد إليكما الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد. فإنى أوصيكما بتقوى الله، فإنه رضاء ربكما وحفظ أنفسكما، وغنيمة الأكياس لأنفسهم عند تفريط العجزة، وقد بلغنى كتابكما تذكران أنكما عهدتمانى وأمر نفسى إلىّ مهم، وما يدريكما؟ وكتبتما تذكران أنى وليت أمر هذه الأمة، يقعد بين يدى العدو والصديق، والقوى والضعيف، ولكل علىّ حصته من العدل، وتسألانى: كيف بى عند ذلك؟ وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وكتبتما تخوفانى بيوم هو آت، يوم تحبب فيه القلوب، وتعنوا فيه الوجوه، وتنقطع فيه الحجج، وتزيح فيه العلل، لعزة ملك قهرهم بجبروته، فالخلق له داخرون، ينتظرون قضاءه ويخافون عقابه، وكأن ذلك قد كان، هذا الليل والنهار، يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، حتى يكون الناس بأعمالهم فريقا فى الجنة وفريقا فى السعير، وكتبتما تذكران أنكما كنتما تحدثان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيكون فى آخر الزمان إخوان العلانية أعداء السريرة، وأن هذا ليس بزمان ذلك، ولا أنتم أولئك، وإنما ذلكم إذا ظهرت الرغبة

(2/216)


والرهبة، وإذا كانت رغبة الناس بعضهم إلى بعض، ورهبة بعضهم من بعض فى صلاح دنياهم، وكتبتما تعوذان بالله من أن أنزل كتابكما من قلبى سوى المكان الذى تنزلانه من قلوبكما، فإنكما كتبتما لى نظرا لى، وقد صدقتما، ولا غنى بى عن كتابكما، فتعاهدانى بكتبكما، والسلام.
وذكر المدائنى وغيره عن صالح بن كيسان، قال: أول كتاب كتبه عمر حين ولى إلى أبى عبيدة يوليه على جند خالد بن الوليد: أوصيك بتقوى الله الذى يبقى ويفنى ما سواه، الذى هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذى يحق لله عليك، لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم، وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سرية إلا فى كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين فى الهلكة، وقد أبلاك الله وأبلى بك، فغمض بصرك عن الدنيا، وأله قلبك عنها، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيت مصارعهم «1» .
وعن عباس بن سهيل بن سعد قال: قدم شداد بن أوس بعهد أبى عبيدة، فدفعه إليه، وشداد شاك، فنزل مع أبى عبيدة ومعاذ بن جبل فى منزلهما وأمرهما واحد، فكانا يقومان إليه حتى تماثل، فمكث أبو عبيدة خمس عشرة ليلة يصلى خالد بالناس ويأمر بالأمر، وما يعلم أن أبا عبيدة الأمير، حتى جاء كتاب من عمر إلى أبى عبيدة، فكره أن يخفيه، وكان فى كتابه إليه: أما بعد، فإنك فى كنف من المسلمين، وعدد يكفى حصار دمشق، فابعث سراياك فى أرض حمص ودمشق وما سواهما من الشام، ولا يبعثنك قولى هذا على أن تعرى عسكرك فيطمع فيك عدوك، ولكن نظر برأيك فما استغنيت عنه منهم فسيرهم، وما احتجت إليه منهم فاحتبسهم عندك، وليكن فيمن تحتبس عندك خالد ابن الوليد، فإنه لا غنى بك عنه، والسلام.
فلما قرأ أبو عبيدة كتابه على الناس، قال خالد: يرحم الله أبا بكر، لو كان حيا ما عزلنى. وولى عمر فولى أبا عبيدة، فعافى الله أبا عبيدة، كيف لم يعلمنى بولايته علىّ ثم أتى أبا عبيدة، فقال له: رحمك الله، أنت الأمير والوالى علىّ ولا تعلمنى؟ وأنت تصلى خلفى والسلطان سلطانك. فقال له أبو عبيدة: ما كنت لأعلمك به أبدا حتى تعلمه من عند غيرى، وما سلطان الدنيا وإمارتها؟ فإن كل ما ترى يصير إلى زوال، وإنما نحن أخوان فإننا أمة إخوة أو أمر عليه لم يضره ذلك فى دينه ولا دنياه، بل لعل الوالى أن
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 434) ، المنتظم لابن الجوزى (4/ 235- 136) .

(2/217)


يكون أقربهما إلى الفتنة، وأوقعهما بالخطيئة، إلا من عصم الله، وقليل ما هم.
ذكر الخبر عما صار إليه أمر دمشق من الفتح والصلح بعد طول الحصار فى خلافة عمر بن الخطاب، على نحو ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام
فتح دمشق «1» : قالوا: وتولى أبو عبيدة حصار دمشق، وولى خالدا القتال على الباب الذى كان عليه، وهو باب الشرقى، وولاه الخيل إذا كان يوم يجتمع فيه المسلمون للقتال، فحاصروا دمشق بعد مهلك أبى بكر رحمه الله، وولايته حولا كاملا، وأياما.
وكان أهلها قد بعثوا إلى قيصر وهو بأنطاكية: أن العرب قد حاصرتنا وضيقت علينا، وليس لنا بهم طاقة، وقد قاتلناهم مرارا، فعجزنا عنهم، فإن كان لك فينا وفى السلطان علينا حاجة فأمددنا وأغثنا وعجل علينا، فإنا فى ضيق وجهد، وإلا فقد أعذرنا، والقوم قد أعطونا الأمان، ورضوا منا من الجزية باليسير.
فأرسل إليهم: أن تمسكوا بحصنكم، وقاتلوا عدوكم، فإنكم إن صالحتموهم وفتحتم حصنكم لهم لم يفوا لكم، وأجبروكم على ترك دينكم، واقتسموكم بينهم، وأنا مسرح إليكم الجيوش فى أثر رسولى.
فانتظروا مدده وجيشه، فلما أبطأ عليهم وألح عليهم المسلمون بالتضييق وشدة الحصار، ورأوا أن المسلمين لا يزدادون كل يوم إلا قوة وكثرة بعثوا إلى أبى عبيدة يسألونه الصلح. وكان أبو عبيدة أحب إلى الروم وسكان الشام من خالد بن الوليد، وكان أن يكون كتاب الصلح من أبى عبيدة أحب إليهم، لأنه كان ألينهما وأشدهما منهم استماعا، وأقربهما منهم قربا، وكان قد بلغهم أنه أقدمهما هجرة وإسلاما، فكانت رسل صاحب دمشق: إنما تأتى أبا عبيدة وخالد ملح على الباب الذى يليه، فأرسل صاحب دمشق إلى أبى عبيدة فصالحه، وفتح له باب الجابية، وألح خالد على باب الشرقى ففتحه عنوة، فقال لأبى عبيدة: اقتلهم واسبهم، فإنى قد فتحتها عنوة، فقال أبو عبيدة: لا، إنى قد أمنتهم «2» .
__________
(1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 142) ، تاريخ الطبرى (3/ 434) .
(2) انظر: تاريخ اليعقوبى (1/ 140) .

(2/218)


ودخل المسلمون دمشق، وتم الصلح، وجاء الجيش من قبل أنطاكية مددا لأهل دمشق، فلما قدموا بعلبك أتاهم الخبر بأن دمشق قد افتتحت، وكان عليهم در نجاران عظيمان، كل درنجار على خمسة آلاف، فكانوا عشرة آلاف، فأقاموا وبعثوا إلى ملكهم يخبرونه بالمكان الذى هم فيه، وبالخبر الذى بلغهم عن دمشق.
وذكر أبو جعفر الطبرى «1» أن شداد بن أوس هو الذى قدم الشام بوفاة أبى بكر، ومعه محمية بن جزء ويرفأ، فوجدوا المسلمين بالواقوصة يقاتلون عدوهم، فتكتموا الخبر حتى ظفر المسلمون، فعند ذلك أخبروا أبا عبيدة بوفاة أبى بكر، وبولايته حرب الشام، وعزل خالد.
وعن محمد بن إسحاق: أن المسلمين لما فرغوا من أجنادين ساروا إلى فحل من أرض الأردن، وقد اجتمعت به رافضة الروم، والمسلمين على أمرائهم، فاقتتلوا فهزمت الروم، ودخل المسلمون فحل، ولحقت رافضة الروم بدمشق، فسار المسلمون إلى دمشق، وعلى مقدمة الناس خالد بن الوليد، وقد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له باهان، فالتقى المسلمون والروم حول دمشق فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم هزم الله الروم فدخلوا دمشق، وجثم المسلمون عليها فرابطوها حتى فتحت، وقد كان الكتاب قدم على أبى عبيدة بإمارته وعزل خالد، فاستحيا أبو عبيدة أن يعلم خالدا حتى فتحت دمشق وجرى الصلح على يدى خالد، وكتب الكتاب باسمه، فبعد ذلك أظهر أبو عبيدة إمارته. فلما صالحت دمشق لحق باهان صاحب الروم بهرقل» .
وخالف سيف بن عمرو ما تقدم من المساق والتاريخ فى أمر دمشق، فذكر على ما سيأتى أن وقعة اليرموك كانت فى سنة ثلاث عشرة، وأن المسلمين ورد عليهم البريد بوفاة أبى بكر باليرموك فى اليوم الذى هزمت الروم فى آخره، وأن عمر رحمه الله، أمرهم بعد الفراغ من اليرموك بالمسير إلى دمشق. وزعم أن فحلا كانت بعد دمشق، خلافا لما ذكره ابن إسحاق من أنها كانت قبلها، وأن رافضة فحل هم الذين صاروا إلى دمشق «3» .
وأما الواقدى فزعم أن فتح دمشق كان سنة أربع عشرة، وكذا قال ابن إسحاق،
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 434) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 434- 435) .
(3) انظر: تاريخ الطبرى (4/ 435- 436) .

(2/219)


وزعم أن حصار المسلمين لها كان ستة أشهر، وأن وقعة اليرموك كانت فى سنة خمس عشرة، وبعدها فى تلك السنة بعينها جلا هرقل عن أنطاكية إلى قسطنطينية، وأنه لم يكن بعد اليرموك وقعة. وسنورد إن شاء الله مما أوردوه على اختلافه ما نبلغ به المقصود من الإمتاع وتذكير الناس بأيام الله.
فأما خبر دمشق من رواية سيف فذكر أنه: لما هزم الله جند اليرموك، وتهافت أهل الواقوصة، وفرغ من المقاسم والأنفال، وبعث بالأخماس، وسرحت الوفود، استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب بن أبى الحميرى كيلا تغتال بردة ولا تقطع الروم مواده، وخرج أبو عبيدة حتى نزل بالصفرين وهو يريد اتباع الفل، ولا يدرى أيجتمعون أو يفترقون، فأتاه الخبر بأنهم أرزوا إلى فحل، وبأن المدد قد أتى على دمشق من حمص، فهو لا يدرى أبدمشق يبدأ أم بفحل من بلاد الأردن، فكتب فى ذلك إلى عمر، وأقام بالصفرين ينتظر جوابه، وكان عمر لما جاءه فتح اليرموك أقر الأمراء على ما كان استعملهم عليه أبو بكر، إلا ما كان من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد، فإنه ضم خالد إلى أبى عبيدة، وأمر عمرا بمعونة الناس حتى تصير الحرب إلى فلسطين، ثم يتولى حربها «1» .
فلما جاء عمر كتاب أبى عبيدة، كتب إليه: أما بعد، فابدؤا بدمشق، وانهدوا لها، فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنهم أهل فحل بخيل تكون بإزائهم فى نحورهم ونحور أهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذى نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل دمشق من تمسك بها، ودعوها، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل، فإن فتح الله عليكم فانصرف أنت وخالد إلى حمص، ودع شرحبيل وعمرا وأخلهما بالأردن وفلسطين، وأمير كل بلد وجند على الناس حتى يخرجوا من إمارته «2» .
فسرح أبو عبيدة إلى فحل عشرة فيهم أبو الأعور وعمارة بن مخش، وهو قائد الناس، وكانت الرؤساء تكون من الصحابة، فساروا من الصفرين حتى نزلوا قريبا من فحل، فلما رأت الروم أن الجنود تريدهم بثقوا المياه حول فحل، فأردغت «3» الأرض، ثم وحلت، واغتنم المسلمون ذلك، فحبسوا عن المسلمين ثمانين ألف فارس. وبعث أبو
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 436) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 437- 438) .
(3) أردغت: الرداغ: الوحل الشديد.

(2/220)


عبيدة ذا الكلاع حتى كان بين دمشق وحمص ردآ. وبعث علقمة بن حكيم ومسروقا فكانا بين دمشق وفلسطين، والأمير يزيد.
وقدم خالد وأبو عبيدة وعمرو وشرحبيل على دمشق فنزلوا حواليها وحاصروا أهلها حصارا شديدا نحوا من سبعين ليلة، وقاتلوهم قتالا عظيما بالزحوف والترامى والمجانيق، وهم معتصمون بالمدينة، يرجون الغياث، وهرقل منهم قريب بحمص، ومدينة حمص بينه وبين المسلمين وذو الكلاع بين المسلمين وبين حمص على رأس ليلة من دمشق، كأنه يريد حمص.
وجاءت جنود هرقل مغيثة لأهل دمشق، فأشجتها الخيول التى مع ذى الكلاع وشغلتها، فلما أيقن أهل دمشق أن الأمداد لا تصل إليهم فشلوا ووهنوا وأبلسوا، وازداد المسلمون طمعا فيهم، وكانوا قبل يرون أنها كالغارات، وأنه إذا جاء البرد قفل الناس، فسقط النجم والمسلمون مقيمون، فعند ذلك انقطع رجاء الروم وندموا على دخول دمشق، واتفق أن ولد للبطريق الذى دخل على أهل دمشق مولود، فصنع عليه طعاما، فأكل القوم وشربوا، وغفلوا عن مواقفهم، ولا يشعر بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد، فإنه كان لا ينام ولا ينيم، ولا يخفى عليه من أمرهم شىء، عيونه ذاكية وهو معنى بما يليه، قد اتخذ حبالا كهيئة السلالم وأوهاقا «1» ، فلما أمسى من ذلك اليوم نهد هو ومن معه من جنوده الذين قدم بهم، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدى وأمثالهما.
وقالوا: إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا إلينا وانهدوا للباب وائتوا من الباب الذى كان خالد يليه، فقطعوا الخندق سبحا على ظهورهم القرب، ثم رموا بالحبال الشرف. فلما ثبت لهم وهقان تسلق القعقاع ومذعور ثم لم يدعا أحبولة إلا أثبتاها والأوهاق بالشرف، وكان المكان الذى اقتحموا منه خندقهم أحصن مكان يحيط بدمشق، أكثره ماء، وأشده مدخلا، وتوافوا لذلك، فلم يبق ممن دخل معه أحد إلا رقى أو دنا من الباب، حتى إذا استووا على السور حدر عامة أصحابه، وانحدر معهم، فكبر الذين على رأس السور، فنهد المسلمون إلى الباب، ومال إلى الحبال بشر كثير، فوثبوا فيها، وانتهى خالد إلى أول من يليه فأنامهم، وانحدر إلى الباب فقتل البوابين، وثار أهل المدينة، وفزع سائر الناس فأخذوا مواقفهم ولا يدرون من الشأن، وتشاغل أهل كل
__________
(1) الأوهاق: جمع وهق، وهو الحبل فى طرفيه أنشوطة يطرح فى عنق الدابة أو الإنسان حتى يؤخذ.

(2/221)


ناحية مما يليهم وقطع خالد ومن معه أغلاق الباب بالسيوف، وفتحوا للمسلمين، فأقبلوا عليهم من داخل حتى ما بقى مما يلى باب خالد مقاتل إلا أنيم.
ولما شد خالد على من يليه، وبلغ منهم الذى أراد عنوة أرز من أفلت إلى أهل الأبواب التى كان يليها غير خالد، وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فأبوا وأبعدوا، فلم يفجأهم إلا وهم يبوحون لهم بالصلح، فأجابهم المسلمون وقبلوا منهم، ففتحوا لهم الأبواب، وقالوا: ادخلوا وامنعونا من أهل ذلك الباب، فدخل أهل كل باب بصلح مما يليهم، ودخل خالد مما يليه عنوة، فالتقى خالد والقواد فى أوساطها، هذا استعراضا وانتهابا، وهذا صالحا وتسكينا، فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح، فصار كل ذلك صالحا، وكان صلح دمشق على مقاسمة الديار والعقار، ودينار على كل رأس، وعلى جريب من كل حرث أرض، واقتسموا الأسلاب، فكان أصحاب خالد فيها كأصحاب سائر القواد، ووقف ما كان للملوك ومن صوب معهم فيئا، وقسموا لذى الكلاع ومن معه، ولأبى الأعور ومن معه، وبعثوا بالبشارة إلى عمر.
وقدم على أبى عبيدة كتاب عمر: أن اصرف جند العراق إلى العراق، وأمرهم بالحث إلى سعد بن مالك. فأمر عليهم أبو عبيدة هاشم بن عتبة، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، وعلى مجنبتيه عمرو بن مالك الزهرى، وربعى بن عامر، وخرج هاشم نحو العراق فى جند العراق، وكانوا عشرة آلاف إلا من أصيب منهم فأتموهم بأناس ممن لم يكن منهم، كقيس والأشطر، وخرج القواد نحو فحل، وخرج علقمة ومسروق إلى إيلياء، فنزلا على طريقها، وبقى بدمشق مع يزيد بن أبى سفيان من قواد أهل اليمن عدد، وبعث يزيد، دحية بن خليفة الكلبى فى خيل بعد فتح دمشق إلى تدمر، وأبا الزهراء القشيرى إلى البثنية وحوران، فصالحوهما على صلح دمشق، ووليا القيام على فتح ما بعثا إليه «1» .
وكان الذى سار على الناس نحو فحل شرحبيل بن حسنة، على ما ذكره سيف عن أشياخه، قالوا: وبعث خالدا على المقدمة، وأبا عبيدة وعمرا على مجنبتيه، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرجال عياض، وكرهوا أن يصمدوا لهرقل، وخلفهم من الروم ثمانون ألفا بإزاء فحل ينظرون إليهم، فلما انتهوا إلى أبى الأعور قدموه إلى طبرية، فحاصرها ونزلوا هم على فحل من أرض الأردن، وقد كان أهلها حين نزل بهم أبو الأعور تركوها وأرزوا إلى بيسان وجعلوا بينهم وبين المسلمين تلك المياه والأوحال،
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 438) .

(2/222)


وكتب المسلمون إلى عمر بالخبر، وأقاموا بفحل لا يريدون أن يريموها حتى يرجع جواب عمر، ولا يستطيعون الإقدام على العدو من مكانهم لما دونهم من الأوحال.
وأصاب المسلمون من ريف الأردن أفضل مما فيه المشركون، مادتهم متواصلة، وخصبهم رغد، ورجاء الروم أن يكون المسلمون على غرة، فقصدوهم ليلا، والمسلمون على حذر لا يأمنون مجيئهم، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة، فلما هجموا على المسلمين غافصوهم، ولم يناظروهم، فاقتتلوا بفحل كأشد قتال اقتتلوا قط ليلتهم ويومهم إلى الليل، فأظلم الليل عليهم وقد حاروا، فانهزموا، وقد أصيب رئيسهم سقلار بن مخراق، والذى يليه فيهم نسطورس، وظفر المسلمون بهم كأحسن الظفر وأهناه، وركبوهم وهم يرون أنهم على قصد، فوجدوهم حيارى لا يعرفون مأخذهم، فأسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل، فركبوه، ولحق بهم أوائل المسلمين وقد وحلوا فيه، فوخزوهم بالرماح وهم لا يمنعون يد لامس، وقتلوا فى الرداغ، فما أفلت من أولئك الثمانين ألفا إلا الشريد، وكان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون، كرهوا البثوق فكانت عونا لهم على عدوهم، وآية من الله ليزدادوا بصيرة وجدا، واقتسموا ما أفاء الله عليهم، وانصرف أبو عبيدة بخالد من فحل إلى حمص، وصرفوا بشير بن كعب معهم، ومضوا بذى الكلاع ومن معه، وخلوا شرحبيل بن حسنة ومن معه «1» .