الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء

ذكر بدء الغزو إلى الشام وما وقع فى نفس أبى بكر الصديق رضى الله عنه، من ذلك وما قوى عزمه عليه «1»
حدث سهل بن سعد الساعدى رضى الله عنه، قال: لما فرغ أبو بكر رضى الله عنه، من أهل الردة، واستقامت له العرب، حدث نفسه بغزو الروم، ولم يطلع عليه أحدا، فبينما هو كذلك إذ جاءه شرحبيل بن حسنة فجلس إليه، فقال: يا خليفة رسول الله
__________
(1) راجع المنتظم لابن الجوزى (4/ 115) ، تاريخ الطبرى (3/ 387) .

(2/166)


أحدثت نفسك أن تبعث إلى الشام جندا؟ قال: نعم، قد حدثت نفسى بذلك ولم أطلع عليه أحدا، وما سألتنى إلا لشىء. قال: أجل، إنى رأيت فيما يرى النائم كأنك تمشى فى ناس من المسلمين فوق حرشفة من الجبل، فأقبلت تمشى معهم حتى صعدت قلة فى أعاليه، فأشرفت على الناس ومعك أصحابك أولئك، ثم هبطت من تلك القلة إلى أرض سهلة دمثة، فيها الزروع والعيون والقرى والحصون، فقلت: يا للمسلمين! شنوا الغار على المشركين، فأنا ضامن لكم بالفتح والغنيمة!.
فشد المسلمون وأنا فيهم ومعى راية، فتوجهت بها إلى قرية فسألونى الأمان فأمنتهم، ثم جئت فأجدك قد انتهيت إلى حصن عظيم، ففتح لك، وألقوا إليك السلم، ووضع لك عريش فجلست عليه، ثم قال لك قائل: يفتح عليك وتنصر فاشكر ربك واعمل بطاعته، ثم قرأ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر: 1، 4] .
ثم انتهيت، فقال له أبو بكر رضى الله عنه: نامت عينك، ثم دمعت عينا أبى بكر رضى الله عنه، فقال: أما الحرشفة التى كنا نمشى عليها حتى صعدنا منها إلى القلة لعالية فأشرفنا منها على الناس فإنا نكابد من أمر هذا الجند مشقة ويكابدونها ثم نعلو بعد ويعلو أمرنا، وأما نزولنا من القلة إلى الأرض السهلة الدمثة وما فيها من الزروع والعيون والقرى والحصون فإنا ننزل إلى أمر أسهل مما كنا فيه، فيه الخصب والمعاش، وأما قولى للمسلمين: شنوا عليهم الغارة، فإنى ضامن لكم بالفتح والغنيمة، فإن ذلك توجيهى للمسلمين إلى بلاد المشركين واحتثاثى إياهم على الجهاد، وأما الراية التى كانت معك فتوجهت بها إلى قرية من قراهم فدخلتها فاستأمنوك فأمنتهم فإنك تكون أحد أمراء المسلمين ويفتح الله على يديك، وأما الحصن الذى فتح لنا فهو ذلك الوجه، يفتحه الله علىّ، وأما العريش الذى رأيتنى عليه جالسا، فإن الله يرفعنى ويضع المشركين، وأما الذى أمرنى بالعمل وبالطاعة وقرأ علىّ السورة فإنه نعى إلىّ نفسى، إن هذه السورة حين أنزلت على النبى صلى الله عليه وسلم، علم أن نفسه قد نعيت إليه، ثم سألت عينا أبى بكر، فقال: لآمرن بالمعروف ولأنهين عن المنكر ولأجاهدن من ترك أمر الله ولأجهزن الجنود إلى العادلين بالله فى مشارق الأرض ومغاربها حتى يقولوا: الله أحد، الله أحد، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، أمر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا توفانى الله لم يجدنى وانيا، ولا فى ثواب المجاهدين فيه زاهدا، ثم إنه عند ذلك أمر الأمراء، وبعث إلى الشام البعوث.
وعن عبد الله بن أبى أوفى الخزاعى، وكانت له صحبة، قال: لما أراد أبو بكر أن

(2/167)


يجهز الجنود إلى الشام دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبى وقاص وأبا عبيدة بن الجراح، ووجوه المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم، فدخلوا عليه وأنا فيهم، فقال: إن الله تبارك وتعالى، لا تحصى نعمه، ولا تبلغ جزاءها، الأعمال، فله الحمد كثيرا على ما اصطنع عندكم، قد جمع كلمتكم، وأصلح ذات بينكم، وهداكم إلى الإسلام، ونفى عنكم الشيطان، فليس يطمع أن تشركوا بالله ولا أن تتخذوا إلها غيره، فالعرب اليوم بنو أم وأب، وقد رأيت أن أستنفرهم إلى الروم بالشام، فمن هلك منهم هلك شهيدا، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش منهم عاش مدافعا عن الدين، مستوجبا على الله ثواب المجاهدين، هذا رأيى الذى رأيت، فليشر على كل امرئ بمبلغ رأيه» .
فقام عمر رضى الله عنه، فقال: الحمد لله الذى يخص بالخير من يشاء من خلقه، والله ما استبقنا إلى شىء من الخير إلا سبقتنا إليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قد والله أردت لقاءك بهذا الرأى الذى ذكرت غير مرة، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن، فقد أصبت، أصاب الله بك سبيل الرشاد، سرب إليهم الخيل فى أثر الخيل، وابعث الرجال بعد الرجال، والجنود يتبعها الجنود، فإن الله تعالى ناصر دينه، ومعز الإسلام وأهله، ومنجز ما وعده رسوله.
ثم إن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه قام، فقال: يا خليفة رسول الله، إنما الروم بنو الأصفر حد حديد، وركن شديد، والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحاما، ولكن تبعث الخيل فتغير فى أدنى أرضهم، وترجع إليك، فإذا فعلوا ذلك مرارا أضروا بهم، وغنموا من أدانى أرضهم، فقووا بذلك على قتالهم، ثم تبعث إلى أقاصى أهل اليمن، وأقاصى ربيعة ومضر، فتجمعهم إليك جميعا، فإن شئت عند ذلك غزوتهم بنفسك، وإن شئت أغزيتهم غيرك.
ثم جلس وسكت، وسكت الناس، فقال لهم أبو بكر: ماذا ترون رحمكم الله؟ فقام عثمان بن عفان رضى الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال:
نرى أنك ناصح لأهل هذا الدين، شفيق عليهم، فإذا رأيت رأيا تراه لعامتهم رشدا وصلاحا فاعزم على إمضائه، فإنك غير ضنين عليهم ولا متهم.
فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد وجميع من حضر ذلك المجلس
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى ص (1 وما بعدها) .

(2/168)


من المهاجرين والأنصار: صدق عثمان، ما رأيت من الرأى فامضه، فإنا سامعون لك، مطيعون، لا نخالف أمرك، ولا نتهم رأيك، ولا نتخلف عن دعوتك وإجابتك.
فذكروا هذا وأشباهه، وعلى رضى الله عنه، فى القوم لا يتكلم، فقال له أبو بكر رضى الله عنهما: ماذا ترى يا أبا الحسن؟ فقال: أرى أنك مبارك الأمر، ميمون النقيبة، وإنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت إن شاء الله تعالى. قال: بشرك الله بخير، ومن أين علمت هذا؟.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «لا يزال هذا الدين ظاهرا على كل من ناوأه حتى تقوم الساعة وأهله ظاهرون» «1» .
فقال أبو بكر: سبحانه الله! ما أحسن هذا الحديث، لقد سررتنى به، سرك الله فى الدنيا والآخرة.
ثم إنه قام فى الناس فذكر الله بما هو أهله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس، إن الله تعالى، قد أنعم عليكم بالإسلام، وأعزكم بالجهاد، وفضلكم بهذا الدين على أهل كل دين، فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام، فإنى مؤمر عليكم أمراء، وعاقد لهم عليكم، فأطيعوا ربكم، ولا تخالفوا أمراءكم، ولتحسن نيتكم وسريرتكم وطعمتكم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
فسكت القوم، فو الله ما أجابه أحد هيبة لغزو الروم، لما يعلمون من كثرة عددهم وشدة شوكتهم، فقام عمر رحمه الله، فقال: يا معشر المسلمين، ما لكم لا تجيبون خليفة رسول الله إذا دعاكم لما يحييكم؟ أما لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لا بتدرتموه! فقام إليه عمرو بن سعيد فقال: يا ابن الخطاب، ألنا تضرب أمثال المنافقين؟ فما يمنعك مما عتبت علينا فيه؟. فقال: الاتكال، على أنه يعلم أنى أجيبه لو يدعونى، وأغزو لو يغزينى.
فقال عمرو: ولكن نحن لا نغزو لكم إن غزونا، فإنما نغزو لله، فقال أبو بكر لعمرو:
اجلس رحمك الله، فإن عمر لم يرد بما سمعت أذى مسلم ولا تأنيبه، إنما أراد أن يبعث بما سمعت المتثاقلين إلى الأرض عن الجهاد، فقام خالد بن سعيد «2» فقال: صدق خليفة
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 87) ، المستدرك للحاكم (4/ 449) ، كنز العمال للمتقى الهندى (14172، 34558) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 18) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (617) ، الإصابة الترجمة رقم (2172) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1365) ، نسب قريش (174) ، طبقات ابن خليفة (11/ 298) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (172) ، تاريخ الإسلام (1/ 378) ، العقد الثمين (4/ 267) .

(2/169)


رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس يا أخى، فجلس أخوه، فقال خالد: الحمد لله الذى لا إله إلا هو، الذى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فالله منجز وعده، ومعز دينه، ومهلك عدوه.
ثم أقبل على أبى بكر فقال: ونحن أولا غير مخالفين لك، ولا متخلفين عنك، وأنت الوالى الناصح الشفيق، ننفر إذا استنفرتنا، ونطيعك إذا أمرتنا، ونجيبك إذا دعوتنا، ففرح بمقالته أبو بكر رضى الله عنه، وقال له: جزاك الله خيرا من أخ وخليل، فقد أسلمت مرتغبا، وهاجرت محتسبا، وهربت بدينك من الكفار لكى يطاع الله ورسوله وتعلو كلمته، فأنت أمير الناس، فتيسر رحمك الله.
ثم إنه نزل، ورجع خالد بن سعيد فتجهز، وأمر أبو بكر رضى الله عنه، بلالا فأذن فى الناس: انفروا أيها الناس إلى جهاد عدوكم: الروم بالشام، وأمير الناس خالد بن سعيد، فكان الناس لا يشكون أن خالدا أميرهم، وكان خالد بن سعيد من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، على اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء المدينة وقد استخلف الناس أبا بكر، فاحتبس عن أبى بكر ببيعته أياما، وأتى بنى هاشم وقال: أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار، فإذا رضيتم رضينا، وإذا سخطتم سخطنا، حدثونى: أبايعتم هذا الرجل؟
قالوا: نعم، قال: على بر ورضى من جماعتكم؟ قالوا: نعم، قال: فإنى أرضى إذا رضيتم، وأبايع إذا بايعتم، أما أنكم والله يا بنى هاشم فينا لطوال الشجر، طيبو الثمر، ثم بايع أبا بكر بعد ذلك.
وبلغت مقالته أبا بكر فلم يبال، واضطغن ذلك عليه عمر، فلما ولاه أبو بكر الجند الذى استنفر إلى الشام، أتى عمر، أبا بكر فقال: أتولى خالد بن سعيد وقد حبس عنك بيعته، وقال لبنى هاشم ما بلغك، وقد جاء بورق اليمن وعبيد له حبشان وبدروع ورماح؟ ما أرى أن توليه وما آمن خلافه، وكان أبو بكر لا يخالف عمر ولا يعصيه، فدعا يزيد بن أبى سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، فقال لهم: إنى باعثكم فى هذا الوجه، ومؤمركم على هذا الجند، وأنا باعث على كل رجل من الرجال ما قدرت عليه، فإذا قدمتم البلد ولقيتم العدو فاجتمعتم على قتالهم فأميركم أبو عبيدة.
وإن أبو عبيدة لم يلقكما وجمعتكما حرب فيزيد بن أبى سفيان الأمير، انطلقوا فتجهزوا.
فخرج القوم يتجهزون، وبلغ ذلك خالد بن سعيد، فتيسر وتهيأ بأحسن هيئة، ثم أقبل نحو أبى بكر وعنده المهاجرون والأنصار أجمع ما كانوا، وقد تيسر الناس، وأمروا بالعسكرة مع هؤلاء النفر الثلاثة، فسلم على أبى بكر وعلى المسلمين، ثم جلس، فقال

(2/170)


لأبى بكر: أما إنك كنت وليتنى أمر الناس، وأنت لى غير متهم، ورأيك فىّ حسن حتى خوفت منى أمرا، والله لأن أخر من رأس حالق أو تخطفنى الطير فى الهواء بين الأرض والسماء أحب إلىّ من أن يكون ما ظن، والله ما أنا فى الإمارة براغب، ولا على البقاء فى الدنيا بحريص، وإنى أشهدكم أنى وأخوتى وفتيانى ومن أطاعنى من أهلى جيش فى سبيل الله نقاتل المشركين أبدا حتى يهلكهم الله أو نموت، لا نريد به حمد الناس ولا جزاءهم، فقال له الناس خيرا، ودعوا له به، وقال أبو بكر رحمه الله: أوتيت فى نفسى وولدى ما أحب لك ولإخوتك، والله إنى لأرجو أن تكون من نصحاء الله فى عباده، وإقامة كتابه، واتباع سنة رسوله «1» .
فخرج هو وإخوته وغلمته ومن معه، فكان أول خلق الله عسكر، ثم خرج الناس إلى معسكرهم من عشرة وعشرين وثلاثين وأربعين وخمسين ومائة فى كل يوم حتى اجتمع الناس وكثروا، فخرج أبو بكر ذات يوم، ومعه من الصحابة كثير حتى انتهى إلى عسكرهم فرأى عدة حسنة، فلم يرض كثرتها للروم، فقال لأصحابه: ماذا ترون فى هؤلاء؟ أترون أن نشخصهم إلى الشام فى هذه العدة؟ فقال له عمر: ما أرضى بهذه العدة لجموع بنى الأصفر، فأقبل على أصحابه فقال: ماذا ترون؟ فقالوا: ونحن أيضا، نرى ما رأى عمر، فقال أبو بكر: أفلا نكتب كتابا إلى أهل اليمن ندعوهم إلى الجهاد ونرغبهم فى ثوابه؟ فرأى ذلك جميع أصحابه، فقالوا: نعم ما رأيت، فافعل.
فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى من قرئ عليه كتابى هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن، سلام عليكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد. فإن الله تبارك وتعالى، كتب على المسلمين الجهاد، وأمرهم أن ينفروا فيه خفافا وثقالا، فقال جل ثناؤه: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصف: 9] ، فالجهاد فريضة مفروضة، وثوابه عند الله عظيم، وقد استنفرنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام، وقد سارعوا إلى ذلك، وعسكروا وخرجوا، وحسنت نيتهم وعظمت حسبتهم، فسارعوا عباد الله إلى فريضة ربكم وسنة نبيكم، وإلى إحدى الحسنيين: إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة، إن الله جل ذكره، لم يرض من عباده بالقول دون العمل، ولا بترك الجهاد فيه أهل عداوته حتى يدينوا بالحق ويقروا بحكم الكتاب، حفظ الله لكم دينكم وهدى قلوبكم، وزكى أعمالكم، ورزقكم أجر المجاهدين الصابرين، والسلام عليكم.
__________
(1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 116) ، تاريخ الطبرى (3/ 387، 388) .

(2/171)


وبعث بالكتاب مع أنس بن مالك. قال أنس: أتيت اليمن فبدأت بهم حيا حيا «1» ، وقبيلة قبيلة، أقرأ عليهم كتاب أبى بكر الصديق، فإذا فرغت من قراءته قلت: الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد، فإنى رسول خليفة رسول الله إليكم، ورسول المسلمين، ألا وإنى قد تركتهم معسكرين، ليس يمنعهم عن الشخوص إلى عدوهم إلا انتظاركم، فعجلوا إلى إخوانكم بالنفر، رحمكم الله أيها المسلمون.
قال: فكان كل من أقرأ عليه ذلك الكتاب ويسمع منى هذا القول يحسن الرد ويقول:
نحن سائرون، وكأن قد فعلنا حتى انتهيت إلى ذى الكلاع «2» ، فلما قرأت عليه الكتاب، وقلت له هذا المقال دعا بفرسه وسلاحه ونهض فى قومه، وأمر بالعسكرة، فما برحنا حتى عسكر وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن، وسارعوا، فلما اجتمعوا إليه قام فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال:
أيها الناس، إن من رحمة الله إياكم ونعمته عليكم أن بعث فيكم نبيا أنزل عليه الكتاب فأحسن عنه البلاغ، فعلمكم ما يرشدكم، ونهاكم عما يفسدكم، حتى علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ورغبكم من الخير فما لم تكونوا فيه ترغبون، وقد دعاكم إخوتكم الصالحون إلى جهاد المشركين، واكتساب الأجر العظيم، فلينفر من أراد النفر معى الساعة.
قال: فنفر بعدد من الناس كثير، وأقبل بهم إلى أبى بكر رحمه الله، فرجعنا نحن فسبقناه بأيام فوجدنا أبا بكر بالمدينة ووجدنا ذلك العسكر على حاله، وأبو عبيدة يصلى بأهل ذلك العسكر.
فلما قدمت حمير معها أولادها ونساؤها، فرح بهم أبو بكر وقام فقال: عباد الله، ألم نكن نتحدث فنقول إذا مرت حمير معها نساؤها تحمل أولادها: نصر الله المسلمين وخذل المشركين؟ فأبشروا أيها المسلمون، قد جاءكم النصر.
قال: وجاء قيس بن هبيرة بن مكشوح المرادى معه جمع كثير حتى أتى أبا بكر فسلم
__________
(1) فى تاريخ فتوح الشام: «.... أتيت أهل اليمن جناحا جناحا، وقبيلة قبيلة، أقرأ عليهم..» .
(2) ذى الكلاع: هو: «أيفع بن يزيد بن النعمان» ، وسمى بذلك لأن حمير تلكعوا، أى اتحدوا وتحالفوا على يديه وهو الذى خطب الناس وحرضهم على القتال. انظر ترجمته فى: شذرات الذهب (1/ 214) .

(2/172)


عليه ثم جلس، فقال له: ما تنتظر ببعثة هذه الجنود؟ قال: ما كنا ننتظر إلا قدومكم، قال: فقد قدمنا، فابعث الناس الأول فالأول، فإن هذه البلدة ليست ببلدة خف ولا كراع «1» .
قال: فعند ذلك خرج أبو بكر رضى الله عنه، يمشى، فدعا يزيد بن أبى سفيان فعقد له، ودعا ربيعة بن عامر من بنى عامر بن لؤى فعقد له، ثم قال له: أنت مع يزيد بن أبى سفيان لا تعصه ولا تخالفه، ثم قال ليزيد: إن رأيت أن توليه مقدمتك فافعل، فإنه من فرسان العرب وصالحاء قومك، وأرجو أن يكون من عباد الله الصالحين، فقال يزيد: لقد زاده إلىّ حبا حسن ظنك به ورجاؤك فيه، ثم إنه خرج معه يمشى، فقال له يزيد: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب، وإما أن تأذن لى فأمشى معك، فإنى أكره أن أركب وأنت تمشى، فقال أبو بكر رضى الله عنه: ما أنا براكب، وما أنت بنازل، إنى أحتسب خطاى هذه فى سبيل الله، ثم أوصاه فقال:
يا يزيد، إنى أوصيك بتقوى الله وطاعته، والإيثار له، والخوف منه، وإذا لقيتم العدو فأظفركم الله به فلا تغلل ولا تمثل ولا تغدر ولا تجبن، ولا تقتلن وليدا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تعقروا بهيمة إلا لمأكل، وستمرون بقوم فى هذه الصوامع يزعمون أنهم حبسوا أنفسهم لله، فدعهم وما حبسوا أنفسهم له، وستجدون آخرين فحص الشيطان أوساط رؤسهم كأن أوساطها أفاحيص «2» القطا، فأضربوا بالسيف ما فحصوا عنه من رؤسهم حتى ينيبوا إلى الإسلام أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ولينصرن الله من ينصره ورسله بالغيب. وأقرأ عليك السلام، وأستودعك الله.
ثم أخذ بيده فودعه، ثم قال: إنك أول امرئ وليته على رجال من المسلمين أشراف غير أوضاع فى الناس، ولا ضعفاء ولا أدنياء ولا جفاة فى الدين، فأحسن صحبتهم، وألن لهم كتفك، واخفض لهم جناحك، وشاورهم فى الأمر، أحسن أحسن الله لك الصحابة، وعلينا الخلافة.
فخرج يزيد فى جيشه قبل الشام، وكان أبو بكر رحمه الله، كل غدوة وعشية يدعو فى دبر صلاة الغداة، ويدعو بعد صلاة العصر، فيقول: اللهم إنك خلقتنا ولم نك شيئا،
__________
(1) الخف: الإبل. والكراع: الخيل.
(2) أفاحيص: جمع أفحوص، وهو التراب، تتخذ فيه طيور القطا مساكن لها.

(2/173)


ثم بعثت إلينا رسولا رحمة منك وفضلا علينا، فهديتنا وكنا ضلالا، وحببت إلينا الايمان وكنا كفارا، وكثرتنا وكنا قليلا، وجمعتنا وكنا أشتاتا، وقويتنا وكنا ضعفاء، ثم فرضت علينا الجهاد وأمرتنا بقتال المشركين حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، اللهم إنا أصبحنا نطلب رضاك، بجهاد من عاداك، ثم عدل بك وعبد معك آلهة غيرك، لا إله إلا أنت تعاليت عما يقول الظالمون علوا كبيرا، اللهم فانصر عبادك المسلمين على عدوك من المشركين، اللهم افتح لهم فتحا يسيرا، وانصرهم نصرا عزيزا، وشجع جبنهم، وثبت أقدامهم وزلزل بعدوهم، وأدخل الرعب قلوبهم، واستأصل شأفتهم، واقطع دابرهم، وأبد خضراءهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم وآثارهم، وكن لنا وليا، وبنا حفيا، وأصلح لنا شأننا، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة، إنه بالمؤمنين رؤف رحيم.
وعن أنس قال: لما بعث أبو بكر رحمه الله، يزيد بن أبى سفيان إلى الشام لم يسر من المدينة حتى جاء شرحبيل بن حسنة إلى أبى بكر، فقال: يا خليفة رسول الله، إنى قد رأيت فيما يرى النائم كأنك فى جماعة من المسلمين كثيرة، وكأنك بالشام ونحن معك، إذ استقبلك النصارى بصلبها، والبطارقة بكتبها، وانحطوا عليك من كل شرف وحدب، وكأنهم السيل، فاعتصمنا بلا إله إلا الله، وقلنا: حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم نظرنا فإذا نحن بالقرى والحصون من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم، فإذا نحن بآت قد أتى، فنزل بأعلى شاهقة فى الجبل حتى استوى بالحضيض، ثم أخرج كفه وأصابعه فإذا هى نار، ثم إنه أهوى بها إلى ما قابله من القرى والحصون، فصارت نارا تأجج، ثم إنها خبت فصارت رمادا، ثم نظرنا إلى ما استقبلنا من نصاراهم وبطارقتهم وجموعهم فإذا الأرض قد ساخت بهم، فرفع الناس رؤسهم وأيديهم إلى ربهم يحمدونه ويمجدونه ويشكرونه، فهذا ما رأيت، ثم انتبهت.
فقال أبو بكر رضى الله عنه: نامت عينك، هذه بشرى، وهو الفتح إن شاء الله لا شك فيه، وأنت أحد أمرائى، فإذا سار يزيد بن أبى سفيان فأقم ثلاثا ثم تيسر للسير، ففعل، فلما مضى اليوم الثالث أتاه من الغد يودعه، فقال له: يا شرحبيل، ألم تسمع وصيتى يزيد بن أبى سفيان؟ قال: بلى، قال: فإنى أوصيك بمثلها، وأوصيك بخصال أغفلت ذكرهن لابن أبى سفيان، أوصيك بالصلاة لوقتها، وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل، وبعيادة المرضى وحضور الجنائز، وبذكر الله كثيرا على كل حال، فقال له أبو

(2/174)


سفيان: إن هذه الخصال كان يزيد بهن مستوصيا، وعليهن مواظبا قبل أن يسير إلى الشام، فهو الآن لهن ألزم إن شاء الله تعالى. فقال شرحبيل: الله المستعان، وما شاء الله أن يكون كان، ثم ودع أبا بكر وخرج فى جيشه قبل الشام، وبقى عظم الناس مع أبى عبيدة فى العسكر يصلى بهم، وأبو عبيدة ينتظر كل يوم أن يدعوه أبو بكر، فيسرحه، وأبو بكر ينتظر به قدوم العرب عليه من كل مكان، يريد أن يشحن أرض الشام من المسلمين، ويريد إن زحفت إليهم الروم أن يكونوا مجتمعين، فقدمت عليه حمير فيها ذو الكلاع، واسمه أيقع، وجاءت مذحج فيها قيس بن هبيرة المرادى معه جمع عظيم من قومه، وفيهم الحجاج بن عبد يغوث الزبيدى، وجاء حابس بن سعد الطائى فى عدد كثير من طيئ، وجاءت الأزد فيهم جندب بن عمرو بن حممة الدوسى، وفيهم أبو هريرة، وجاءت جماعة من قبائل قيس، فعقد أبو بكر رضى الله عنه، لميسرة بن مسروق العبسى عليهم، وجاء قباث بن أشيم فى بنى كنانة، فأما ربيعة وأسد وتميم فإنهم كانوا بالعراق.
وعن سهل بن سعد أن أبا بكر، رحمه الله، لما أراد أن يبعث أبا عبيدة دعاه، فأتاه فسلم عليه، ثم جلس، فمكث أبو بكر مليا لا يكلمه، فظن أبو عبيدة أنه هم بعزله كما عزل خالد بن سعيد وهو يستحى أن يستقبله به، فقال: يا خليفة رسول الله، إن كنا لا نصلح لكم ولا نحبكم ولا ننصحكم إلا بأن تولونا فلسنا بإخوان فى الله، وإن كنا لا نجاهد فى سبيل الله ولا نقاتل أعداء الله إلا أن نكون أمراء رؤساء فلسنا الله نريد بجهادنا، وإنما ننوى به إذا الفخر فى الدنيا، إنى أطلب إليك أن تعزلنى عن هذا الجند وتولى عليه من أحببت وأنا أخرج معه، فأشير عليه برأيى وأنصحه جهدى، وأواسى المسلمين بنفسى. فقال أبو بكر: سبحان الله، يا أبا عبيدة أظننت أنك ممن نتهمه أو ممن نبتغى به بدلا أو ممن نتخوف أن يأتى المسلمين من قبله وهن أو خلاف أو فساد؟ معاذ الله أن نكون من أولئك، ثم قال له:
اسمع سماع من يريد أن يفهم ما قيل له ثم يعمل بما أمر به، إنك تخرج فى أشراف العرب وبيوتات الناس وصالحاء المسلمين وفرسان الجاهلية، كانوا إذ ذاك يقاتلون حمية، وهم اليوم يقاتلون على النية الحسنة والحسبة، أحسن صحبة من صحبك، وليكونوا عندك فى الحق سواء، فاستعن بالله، وكفى به معينا، وتوكل عليه وكفى بالله وكيلا.
اخرج من غد إن شاء الله، فخرج من عنده، فلما ولى قال: يا أبا عبيدة، فانصرف إليه، فقال له: إنى أحب أن تعلم كرامتك علىّ، ومنزلتك منى، والذى نفسى بيده، ما على

(2/175)


الأرض من المهاجرين ولا غيرهم من أعدله بك، ولا بهذا، يعنى عمر، رحمه الله، ولا له عندى فى المنزلة إلا دون ما لك. فقال أبو عبيدة: رحمك ربك يا خليفة رسول الله، هذا كان ظنى بك.
قال: فانصرف، فلما كان من الغد خرج أبو بكر فى رجال من المسلمين على رواحلهم، حتى أتى أبا عبيدة، فسار معه حتى بلغ ثنية الوداع، ثم قال حين أراد أن يفارقه: يا أبا عبيدة، اعمل صالحا، وعش مجاهدا، ولتتوف شهيدا، وليعطك الله كتابك بيمينك، ويقر عينك فى دنياك وآخرتك، فو الله إنى لأرجو أن تكون من التوابين الأوابين الزاهدين فى الدنيا الراغبين فى الآخرة، إن الله تبارك وتعالى قد صنع بك خيرا وساقه إليك إذ جعلك تسير فى جيش من المسلمين تقاتل به من كفر بالله وعبد غيره.
فقال أبو عبيدة: رحمك الله يا خليفة رسول الله، فنشهد بفضلك فى إسلامك، ومناصحتك الله، ومجاهدتك بعد رسول الله من تولى عن دين الله حتى ردهم الله بك إلى الدين وهم صاغرون، ونشهد أنك رحيم بالمؤمنين، ذو غلظة على الكافرين، فبورك لك فيما عملت، وسددت فيما حملت، إن أكن صالحا فلربى المنة علىّ بصلاحى، وإن أكن فاسدا فهو ولى إصلاحى، وأما أنت فنرى أن نجيبك إذا دعوت، وأن نطيعك إذا أمرت.
ثم إنه تأخر، وتقدم إليه معاذ بن جبل فقال: يا خليفة رسول الله، إنى أردت أن يكون ما أكلمك به الآن بالمدينة قبل شخوصنا عنها، ثم بدا لى أن أؤخر ما أردت من ذلك حتى يكون عند وداعى، فيكون ذلك آخر ما أفارقك عليه، قال: هات يا معاذ، فو الله إنك ما علمت لسديد القول، موفق الرأى، رشيد الأمر، فأدنى راحلته، ومقود فرسه فى يده، وهو متنكب القوس ومتقلد السيف، فقال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، برسالته إلى خلقه، فبلغ ما أحب أن يبلغ، وكان كما أحب ربه أن يكون، فقبضه الله إليه وهو محمود مبرور صلوات الله عليه وبركاته، إنه حميد مجيد، جزاه الله عن أمته كأحسن ما يجزى النبيين، ثم إن الله تعالى استخلفك أيها الصديق عن ملأ من المسلمين، ورضى منهم بك، فارتد مرتدون، وأرجف مرجفون، ورجعت راجعة عن هذا الدين، فأدهن بعضنا، وحار جلنا، وأحب المهادنة والموادعة طائفة منا، واجتمع رأى الملأ الأكابر منا أن يتمسكوا بدينهم ويعبدوا الله حتى يأتيهم اليقين، ويدعوا الناس وما ذهبوا إليه، فلم ترض منهم بشىء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرده عليهم، فنهضت بالمسلمين، وشمرت للمجرمين، وشددت بالمطيع المقبل على العاصى المدبر، حتى أجاب إلى الحق من كان عند عنه،

(2/176)


وزجل عن الباطل من كان مرتكسا فيه، فلما تمت نعمة الله عليك وعلى المسلمين فى ذلك قدت المسلمين إلى هذا الوجه الذى يضاعف الله لهم فيه الأجر، ويعظم لهم الفتح والمغنم، فأمرك مبارك، ورأيك محمود ورشيد، ونحن وصالحو المؤمنين نسأل الله لك المغفرة والرحمة الواسعة والقوة فى العمل بطاعة الله فى عافية، وإن هذا الذى تسمع من دعائى وثنائى ومقالتى لتزداد فى فعل الخير رغبة، وتحمد الله تعالى على النعمة، وأنا معيد هذا على المؤمنين ليحمدوا الله على ما أبلاهم واصطنع عندهم بولايتك عليهم.
ثم أخذ كل واحد منهما بيد صاحبه فودعه، ودعا له، ثم تفرقا، وانصرف أبو بكر رحمه الله، ومضى ذلك الجيش، وقال رجل من المسلمين لخالد بن سعيد وقد تهيأ للخروج مع أبى عبيدة: لو كنت خرجت مع ابن عمك يزيد بن أبى سفيان كان أمثل من خروجك مع غيره. فقال: ابن عمى أحب إلىّ من هذا فى قرابته، وهذا أحب إلىّ من ابن عمى فى دينه، هذا كان أخى فى دينى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وولىّ وناصرى على ابن عمى قبل اليوم، فأنا به أشد استئناسا وإليه أشد طمأنينة.
فلما أراد أن يغدو سائرا إلى الشام لبس سلاحه، وأمر إخوته فلبسوا أسلحتهم: عمرا، وإبانا، والحكم، وعلقمة ومواليه، ثم أقبل إلى أبى بكر، رحمه الله، عند صلاة الغداة فصلبى معه، فلما انصرفوا قام إليه هو وإخوته، فجلسوا إليه، فحمد الله خالد وأثنى عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أبا بكر، إن الله تبارك وتعالى، قد أكرمنا وإياك والمسلمين عامة بهذا الدين، فأحق من أقام السنة وأمات البدعة وعدل فى السيرة الوالى على الرعية، وكل امرئ من أهل هذا الدين محفوف بالإحسان، ومعدلة الوالى أعم نفعا، فاتق الله يا أبا بكر فيمن ولاك أمره، وارحم الأرملة واليتيم، وأعن الضعيف والمظلوم، ولا يكن رجل من المسلمين إذا رضيت عنه آثر عندك فى الحق منه إذا سخطت عليه، ولا تغضب ما قدرت على ذلك، فإن الغضب يجر الجور، ولا تحقد على مسلم وأنت تستطيع، فإن حقدك على المسلم يجعلك له عدوا، وإن اطلع على ذلك منك عاداك، وإذا عادى الوالى الرعية وعادت الرعية الوالى كان ذلك قمنا أن يكون إلى هلاكهم داعيا، ولن للمحسن واشتد على المريب، ولا تأخذك فى الله لومة لائم.
ثم قال: هات يدك يا أبا بكر، فإنى لا أدرى أنلتقى فى الدنيا أم لا، فإن قضى الله لنا فى الدنيا البقاء، فنسأل الله عفوه وغفرانه، وإن كانت هى الفرقة التى ليس بعدها لقاء، فعرفنا الله وإياك وجه النبى صلى الله عليه وسلم، فى جنات النعيم.

(2/177)


فأخذ أبو بكر رضى الله عنه، بيده فبكى، وبكى خالد، وبكى المسلمون وظنوا أنه يريد الشهادة، وطال بكاؤهم، ثم إن أبا بكر رضى الله عنه، قال: انتظر نمشى معك، قال: ما أريد أن تفعل، قال: لكنى أريد ذلك، ومن أراده من المسلمين، فقام، وقام الناس معه حتى خرج من بيوت المدينة، فما رأيت مشيعا من المسلمين شيعه أكثر ممن شيع خالد بن سعيد يومئذ وإخوته، فلما خرج من المدينة قال أبو بكر: إنك قد أوصيتنى برشدى وقد وعيت، وأنا موصيك فاسمع وصاتى وعها، إنك امرؤ قد جعل الله لك سابقة فى الإسلام وفضيلة عظيمة، والناس ناظرون إليك ومستمعون منك، وقد خرجت فى هذا الوجه العظيم الأجر وأنا أرجو أن يكون خروجك فيه بحسبة ونية صادقة إن شاء الله تعالى، فثبت العالم، وعلم الجاهل، وعاتب السفيه المسرف، وانصح لعامة المسلمين، واخصص الوالى على الجهد من نصيحتك ومشورتك بما يحق لله وللمسلمين عليك، واعمل لله كأنك تراه، واعدد نفسك فى الموتى وأعلم أنا عما قليل ميتون ثم مبعثون ثم مسئولون ومحاسبون، جعلنا الله وإياك لأنعمه من الشاكرين، ولنقمه من الخائفين.
ثم أخذ بيده فودعه، وأخذ بأيدى إخوته بعد ذلك فودعهم واحدا واحدا، ثم ودعهم المسلمون، ثم إنهم دعوا بإبلهم فركبوها، وكانوا قبل ذلك يمشون مع أبى بكر رضى الله عنهم أجمعين، ثم قيدت معهم خيلهم، فخرجوا بهيئة حسنة، فلما أدبروا قال أبو بكر:
اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، واحطط أوزارهم وأعظم أجورهم. ثم انصرف أبو بكر ومن معه من المسلمين.
وقد قيل: إن أبا بكر رحمه الله، جعل خالدا ردآ بتيماء لما عزله عن الجند وأطاع عمر رحمه الله «1» ، فى بعض أمره وعصاه فى بعض، وسيأتى ذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله.
وعن محمد بن خليفة أن ملحان بن زياد الطائى، أخا عدى بن حاتم لأمه أتى أبا بكر رحمه الله، فى جماعة من قومه من طيئ نحو ستمائة، فقال له: إنا أتيناك رغبة فى الجهاد وحرصا على الخير، ونحن القوم الذين تعرف الذين قاتلنا معكم من ارتد منا حتى أقر بمعرفة ما كان ينكر، وقاتلنا معكم من ارتد منكم حتى أسلموا طوعا وكرها، فسرحنا فى أثر الناس، واختر لنا وليا صالحا نكن معه.
__________
(1) انظر خبر عزل خالد بن سعيد فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 116) ، تاريخ الطبرى (3/ 387، 388) .

(2/178)


وكان قدومهم على أبى بكر بعد مسير الأمراء كلهم إلى الشام، فقال أبو بكر: قد اخترت لك أفضل أمرائنا أميرا، وأقدم المهاجرين هجرة، الحق بأبى عبيدة بن الجراح، فقد رضيت لك صحبته، وحمدت لك أدبه، فنعم الرفيق فى السفر، ونعم الصاحب فى الحضر.
قال: فقلت لأبى بكر: فقد رضيت لخيرتك التى اخترت لى. فاتبعته حتى لحقته بالشام فشهدت معه مواطنه كلها، لم أغب عن يوم منها.
وعن أبى سعيد المقبرى قال: قدم ابن ذى السهم الخثعمى على أبى بكر وجماعة من خثعم فوق تسعمائة ودون ألف، فقال لأبى بكر: إنا تركنا الديار والأصول، والعشائر والأموال، وأقبلنا بنسائنا وأبنائنا، ونحن نريد جهاد المشركين، فماذا ترى لنا فى أولادنا ونسائنا؟ أنخلفهم عندك ونمضى؟ فإذا جاء الله بالفتح بعثنا إليهم فأقدمناهم علينا؟ أم ترى لنا أن نخرجهم معنا ونتوكل على الله ربنا؟.
فقال أبو بكر: سبحان الله، يا معشر المسلمين، هل سمعتم أحدا ممن سار من المسلمين إلى أرض الروم وأرض الشام ذكر من الأولاد والنساء مثل ما ذكر أخو خثعم؟
أما إنى أقسم لك يا أخا خثعم، لو سمعت هذا القول منك والناس مجتمعون عندى قبل أن يشخصوا لأحببت أن أحبس عيالاتهم عندى وأسرحهم ليس معهم من النساء والأبناء ما يشغلهم ويهمهم حتى يفتح الله عليهم ومعهم ذراريهم، ولك بجماعة المسلمين إسوة، وأنا أرجو أن يدفع الله بعزته عن حرمة الإسلام وأهله، فسر فى حفظ الله وكنفه، فإن بالشام أمراء قد وجهناهم إليها، فأيهم أحببت أن تصحبه، فسار حتى لقى يزيد بن أبى سفيان فصحبه.
وعن يحيى بن هانئ بن عروة أن أبا بكر كان أوصى أبا عبيدة بقيس بن مكشوح وقال له: إنه قد صحبك رجل عظيم الشرف، فارس من فرسان العرب، لا أظن له عظيم حسبة ولا كبير نية فى الجهاد، وليس بالمسلمين غنى عن مشورته ورأيه وبأسه فى الحرب، فأدنه والطفه وأره أنك غير مستغن عنه ولا مستهين بأمره، فإنك تستخرج منه بذلك نصيحة لك، وجهده وجده على عدوك، ودعا أبو بكر قيسا فقال له: إنى قد بعثتك مع أبى عبيدة الأمين، الذى إذا ظلم كظم، وإذا أسىء إليه غفر، وإذا قطع وصل، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، فلا تعصين له أمرا، ولا تخالفن له رأيا، فإنه لن يأمرك إلا بخير، وقد أمرته أن يسمع منك، فلا تأمره إلا بتقوى الله، فقد كنا نسمع أنك

(2/179)


شريف بئيس مجرب، وذلك فى زمان الشرك والجاهلية الجهلاء، فاجعل بأسك وشدتك ونجدتك اليوم فى الإسلام على من كفر بالله وعبد غيره، فقد جعل الله فيه الأجر العظيم، والعز للمسلمين. فقال: إن بقيت فسيبلغك من حيطتى على المسلم، وجهدى على الكافر ما يسرك ويرضيك، فقال أبو بكر رحمه الله: فافعل ذلك، فلما بلغته مبارزته البطريقين بالجابية وقتله إياهما، قال: صدق قيس ووفى وبر.
وعن هاشم بن عتبة بن أبى وقاص قال «1» : لما مضت جنود أبى بكر إلى الشام بلغ ذلك هرقل ملك الروم، وهو بفلسطين، وقيل له: قد أتتك العرب وجمعت لك جموعا عظيمة، وهم يزعمون أن نبيهم الذى بعث إليهم أخبرهم أنهم يظهرون على أهل هذه البلاد، وقد جاؤك وهم لا يشكون أن هذا يكون، وجاؤك بأبنائهم ونسائهم تصديقا لمقالة نبيهم، يقولون: لو دخلناها وافتتحناها نزلناها بأولادنا ونسائنا. فقال هرقل: ذلك أشد لشوكتهم، إذا قاتل القوم على تصديق ويقين فما أشد على من كابدهم أن يزيلهم أو يصدهم.
قال: فجمع إليه أهل البلاد وأشراف الروم، ومن كان على دينه من العرب، فقال: يا أهل هذا الدين، إن الله قد كان إليكم محسنا، وكان لدينكم هذا معزا، وله ناصرا على الأمم الخالية، وعلى كسرى والمجوس، وعلى الترك الذين لا يعلمون، وعلى من سواهم من الأمم كلها، وذلك أنكم كنتم تعملون بكتاب ربكم وسنة نبيكم الذى كان أمره رشدا وفعله هدى، فلما بدلتم وغيرتم أطمع ذلك فيكم قوما، والله ما كنا نعبأ بهم ولا نخاف أن نبتلى بهم، وقد ساروا إليكم حفاة عراة جياعا، اضطرهم إلى بلادكم قحط المطر وجدوبة الأرض وسوء الحال، فسيروا إليهم، فقاتلوهم عن دينكم وعن بلادكم وعن أبنائكم ونسائكم، وأنا شاخص عنكم وممدكم بالخيول والرجال، وقد أمرت عليكم أمراء، فاسمعوا لهم وأطيعوا، ثم خرج حتى أتى دمشق فقام مثل هذا المقام، وقال فيها مثل هذا المقال، ثم خرج حتى أتى حمص، ففعل مثل ذلك، ثم أتى أنطاكية، فأقام بها وبعث إلى الروم، فحشدهم إليه، فجاءه منهم ما لا يحصى عدده، ونفر إليه مقاتلتهم وشبابهم وأتباعهم، وأعظموا دخول العرب عليهم، وخافوا أن يسلبوا ملكهم.
وأقبل أبو عبيدة حتى مروا بوادى القرى «2» ، ثم أخذ على الحجر أرض صالح النبى
__________
(1) راجع: ما ذكره ابن الجوزى فى المنتظم فى هذا الخبر (4/ 117) ، والطبرى فى تاريخه 3/ 392) .
(2) وادى القرى: من أعمال المدينة. انظر: الروض المعطار (602) ، المغانم المطابة (423) ، رحلة الناصرى (310) ، صبح الأعشى (4/ 292) .

(2/180)


صلى الله عليه وسلم، ثم على ذات المنار «1» ، ثم على زبرا «2» ، ثم ساروا إلى مؤب «3» بعمان، فخرج إليهم الروم، فلم يلبثهم المسلمون أن هزموهم حتى دخلوا مدينتهم، فحاصروهم فيها، وصالح أهل مؤب عليها، فكانت أول مدائن الشام صالح أهلها، ثم سار أبو عبيدة حتى إذا دنا من الجابية «4» أتاه آت فخبره أن هرقل بأنطاكية، وأنه قد جمع لكم من الجموع ما لم يجمعه أحد كان قبله من آبائه لأحد من الأمم قبلكم، فكتب أبو عبيدة إلى أبى بكر رضى الله عنهما:
بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله أبى بكر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإنا نسأل الله أن يعز الإسلام وأهله عزا مبينا، وأن يفتح لهم فتحا يسيرا، فإنه بلغنى أن هرقل ملك الروم، نزل قرية من قرى الشام تدعى بأنطاكية، وأنه بعث إلى أهل مملكته فحشدهم إليه، وإنهم نفروا إليه على الصعب والذلول، وقد رأيت أن أعلمك ذلك فترى فيه رأيك، والسلام عليك ورحمة الله تعالى.
فكتب إليه أبو بكر: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغنى كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر هرقل ملك الروم، فأما منزله بأنطاكية فهزيمة له ولأصحابه، وفتح من الله عليك وعلى المسلمين، وأما حشده أهل مملكته وجمعه لكم الجموع، فإن ذلك ما قد كنا وكنتم تعلمون أنه سيكون منهم، ما كان قوم ليدعوا سلطانهم ولا ليخرجوا من مملكتهم بغير قتال، ولقد علمت والحمد لله أن قد غزاهم رجال كثير من المسلمين يحبون الموت حب عدوهم الحياة، يحتسبون من الله فى قتالهم الأجر العظيم، ويحبون الجهاد فى سبيل الله أشد من حبهم أبكار نسائهم وعقائل أموالهم، الرجل منهم عند الهيج خير من ألف رجل من المشركين، فالقهم بجندك، ولا تستوحش لمن غاب من المسلمين، فإن الله تعالى ذكره معك، وأنا مع ذلك ممدك بالرجال بعد الرجال حتى تكتفى ولا تريد أن تزداد، والسلام عليك. وبعث بهذا الكتاب مع دارم العبسى.
__________
(1) ذات المنار: موضع فى أول بادية الشام مما يلى الحجاز. انظر: الروض المعطار (517) .
(2) الزبرا: المكان المرتفع من الأرض، ويقصد: أحد أماكن البلقاء فى الأردن.
(3) مؤب: من قرى الشام من أرض البلقاء، ذكرها ابن الحميرى فى الروض المعطار (517) ، وذكر قصة خروج أبى عبيدة.
(4) الجابية: بالشام، وقال البكرى: هى قنسرين، وبين الجابية ومنبج أربعة فراسخ، ومن حلب إليها ستة فراسخ. انظر: الروض المعطار (153) .

(2/181)


وكتب يزيد بن أبى سفيان إلى أبى بكر رحمه الله: أما بعد، فإن هرقل ملك الروم لما بلغه مسيرنا إليه ألقى الله الرعب فى قلبه، فتحمل ونزل أنطاكية، وخلف أمراء من جنده على جند الشام، وأمرهم بقتالنا، وقد تيسروا لنا واستعدوا، وقد نبأنا مسالمة الشام أن هرقل استنفر أهل مملكته، وأنهم جاؤا يجرون الشوك والشجر، فمرنا بأمرك، وعجل علينا فى ذلك برأيك، نتبعه، نسأل الله النصر والصبر والفتح وعافية المسلمين، والسلام عليك.
وبعث بهذا الكتاب مع عبد الله بن قرط الثمالى، فقال له أبو بكر لما قدم عليه:
أخبرنى خبر الناس، قال: المسلمون بخير، قد دخلوا أدنى أرض الشام، ورعب أهلها منهم، وذكر لنا أن الروم قد جمعت لنا جموعا عظاما، ولم نلق عدونا بعد، ونحن فى كل يوم نتوكف لقاء العدو أو نتوقعه، وإن لم تأتنا جيوش من قبل هرقل، فليست الشام بشىء. فقال له أبو بكر رحمه الله: صدقتنى الخبر، فقال: وما لى لا أصدقك، ويحل لى الكذب، ويصلح لمثلى أن يكذب مثلك، ولو كذبت فى هذا لم أخن إلا أمانتى وأخن ربى وأخن المسلمين. قال أبو بكر: معاذ الله، لست من أولئك، وكتب حينئذ معه بهذا الكتاب: أما بعد، فقد بلغنى كتابك، تذكر فيه تحول ملك الروم إلى أنطاكية «1» ، وإلقاء الله الرعب فى قلبه من جموع المسلمين، فإن الله تبارك وتعالى، وله الحمد قد نصرنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالرعب، وأيدنا بملائكته الكرام، وإن ذلك الدين الذى نصرنا الله فيه بالرعب هو هذا الدين الذى ندعو الناس إليه اليوم، فو ربك لا يجعل الله المسلمين كالمجرمين، ولا من يشهد أنه لا إله غيره كمن يعبد معه آلهة أخرى ويدين بعبادة آلهة شتى، فإذا لقيتهم فانبذ إليهم بمن معك وقاتلهم، فإن الله لن يخذلك، وقد نبأنا الله أن الفئة القليلة منا تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وأنا مع ما هنالك ممدكم بالرجال فى أثر الرجال حتى تكتفوا ولا تحتاجوا إلى زيادة إنسان إن شاء الله، والسلام.
ولما رد أبو بكر رضى الله عنه، عبد الله بن قرط «2» بهذا الكتاب إلى يزيد، قال له:
__________
(1) أنطاكية: بتخفيف الياء، مدينة عظيمة على ساحل البحر، قالوا: وكل شىء عند العرب من قبل الشام فهو أنطاكية، ويقال: ليس فى أرض الإسلام ولا أرض الروم مثلها. انظر: الروض المعطار (38- 39) ، نزهة المشتاق (195) ، صبح الأعشى (4/ 129) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1652) ، الإصابة الترجمة رقم (4908) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3126) ، الجرح والتعديل (5/ 104) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 329) ، تهذيب الكمال (2/ 724) ، التاريخ الكبير (5/ 34) ، تهذيب التهذيب (5/ 361) .

(2/182)


أخبره والمسلمين أن مدد المسلمين آتيهم مع هاشم بن عتبة وسعيد بن عامر بن حذيم.
فخرج عبد الله بكتابه حتى قدم به على يزيد، وقرأه على المسلمين، فتباشروا به، وفرحوا.
ثم إن أبا بكر رضى الله عنه، دعا هاشم بن عتبة «1» ، فقال له: يا هاشم، إن من سعادة جدك ووفاء حظك أنك أصبحت ممن تستعين به الأمة على جهاد عدوها من المشركين، وممن يثق الوالى بنصيحته وصحته وعفافه، وبأسه، وقد بعث إلى المسلمون يستنصرون على عدوهم من الكفار، فسر إليهم فيمن يتبعك، فإنى نادب الناس معك، فاخرج حتى تقدم على أبى عبيدة.
ثم قام أبو بكر فى الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم من المسلمين معافون مكلوؤون، مدفوع عنهم، مصنوع لهم، قد ألقى الله جل ثناؤه الرعب منهم فى قلوب عدوهم، فقد استعصموا بحصونهم وأغلقوا أبوابها دونهم، وقد جاءتنى رسلهم يخبروننى بهرب هرقل ملك الروم من بين أيديهم حتى نزل قرية من أقصى قرى الشام، وأنه وجه إليهم جندا من مكانه ذلك، فرأيت أن أمد إخوانكم بجند منكم يشد الله بهم ظهورهم، ويكبت به عدوهم، ويلقى به الرعب فى قلوبهم، فانتدبوا رحمكم الله، مع هاشم بن عتبة بن أبى وقاص، واحتسبوا فى ذلك الأجر والخير، فإنكم إن نصرتم فهو الفتح والغنيمة، وإن هلكتم فهى الشهادة والكرامة.
ثم انصرف إلى منزله، ومال الناس على هاشم حتى كثروا عليه، فلما تموا ألفا أمره أبو بكر رحمه الله، أن يسير، فسلم عليه وودعه، وقال له أبو بكر: يا هاشم، إنما كنا ننتفع من الشيخ الكبير برأيه ومشورته وحسن تدبيره، وكنا ننتفع من الشاب بصبره وبأسه ونجدته، وإن الله تعالى قد جمع لك تلك الخصال كلها، وأنت حديث السن مستقبل الخير، فإذا لقيت عدوك فاصبر وصابر، واعلم أنك لا تخطو خطوة ولا تنفق ولا يصيبك ظمأ ولا نصب ولا مخمصة فى سبيل الله إلا كتب الله لك بذلك عملا صالحا، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. فقال: إن يرد الله بى خيرا يجعلنى كذلك، وأنا أفعل، ولا قوة إلا بالله، أما أنا فأرجو إن لم أقتل أن أقتل ثم أقتل ثم أقتل!.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2729) ، الإصابة الترجمة رقم (5328) ، طبقات الخليفة (831) ، تاريخ بغداد (1/ 196) ، مرآة الجنان (1/ 101) ، العقد الثمين (7/ 359) ، شذرات الذهب (1/ 46) ، العبر (1/ 39) .

(2/183)


فقال له عمه سعد بن أبى وقاص: يا ابن أخى لا تطعنن طعنة ولا تضربن ضربة إلا وأنت تريد بها وجه الله، واعلم أنك خارج من الدنيا وشيكا، وراجع إلى الله قريبا، ولن يصحبك من الدنيا إلى الآخرة إلا قدم صدق قدمته، وعمل صالح أسلفته، فقال: يا عم، لا تخافن هذه منى، إنى إذا لمن الخاسرين إن جعلت حلى وارتحالى وغدوى ورواحى وسعى وإجلابى، وطعنى برمحى وضربى بسيفى رياء للناس.
ثم خرج من عند أبى بكر رضى الله عنه، فلزم طريق أبى عبيدة حتى قدم عليه، فسر المسلمون بقدومه وتباشروا به.
وبلغ سعيد بن عامر بن حذيم «1» أن أبا بكر يريد أن يبعثه، فلما أبطأ ذلك عليه، ومكث أياما لا يذكر له ذلك أتاه، فقال: يا أبا بكر، والله لقد بلغنى أنك كنت أردت أن تبعثنى فى هذا الوجه، ثم رأيتك قد سكت، فما أدرى ما بدا لك فىّ، فإن كنت تريد أن تبعث غيرى فابعثنى معه، فما أرضانى بذلك، وإن كنت لا تريد أن تبعث أحدا فإنى راغب فى الجهاد، فأذن لى يرحمك الله كيما ألحق بالمسلمين، فقد ذكر لى أن الروم جمعت لهم جمعا عظيما. فقال أبو بكر: رحمك أرحم الراحمين يا سعيد بن عامر، فإنك ما علمت من المتواضعين المتواصلين المخبتين المتهجدين بالأسحار، الذاكرين الله كثيرا.
فقال له سعيد: رحمك الله، نعم الله علىّ أفضل، وله الطول والمن، وأنت والله ما علمت صدوع بالحق، قوام بالقسط، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، تحكم بالعدل، ولا تستأثر فى القسم، فقال له: حسبك يا سعيد، حسبك، اخرج رحمك الله، فتجهز، فإنى مسرح إلى المسلمين جيشا وأؤمرك عليهم، فأمر بلالا فنادى فى الناس: أن انتدبوا أيها المسلمون مع سعيد بن عامر إلى الشام، فانتدب معه سبعمائة رجل فى أيام، فلما أراد سعيد الشخوص جاء بلال فقال: يا خليفة رسول الله، إن كنت إنما أعتقتنى لله تعالى لأملك نفسى وأصطرف فيما ينفعنى فخل سبيلى حتى أجاهد فى سبيل ربى، فإن الجهاد إلىّ أحب من المقام، قال أبو بكر: فإن الله يشهد أنى لم أعتقك إلا له، وأنى لا أريد منك جزاء ولا شكورا، فهذه الأرض ذات العرض، فاسلك أى فجاجها أحببت، فقال: كأنك أيها الصديق عتبت علىّ فى مقالتى ووجدت فى نفسك منها؟ قال: لا، والله ما وجدت فى نفسى من ذلك، وإنى لأحب أن لا تدع هواك لهواى ما دعاك
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (993) ، الإصابة الترجمة رقم (3280) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2084) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 223) ، الجرح والتعديل (4/ 205) . حلية الأولياء (1/ 368) ، الوافى بالوفيات (15/ 320) .

(2/184)


هواك إلى طاعة ربك، قال: فإن شئت أقمت معك، قال: أما إذا كان هواك الجهاد فلم أكن لآمرك بالمقام، وإنما أردتك للأذان، ولأجدن لفراقك وحشة يا بلال، ولا بد من التفرق فرقة لا التقاء بعدها حتى يوم البعث، فاعمل صالحا يا بلال، وليكن زادك من الدنيا ما يذكرك الله به ما حييت، ويحسن لك به الثواب إذا توفيت. فقال له بلال:
جزاك الله من ولى نعمة وأخ فى الإسلام خيرا، فو الله ما أمرك لنا بالصبر على الحق والمداومة على العمل بالطاعة ببدع، وما كنت لأؤذن لأحد بعد النبى صلى الله عليه وسلم، ثم خرج بلال مع سعيد بن عامر.
وجاء سعيد على راحلته حتى وقف على أبى بكر والمسلمين، فقال له: إنا نؤم هذا الوجه، فجعله الله وجه بركة، اللهم فإن قضيت لنا التقاء فاجمعنا على طاعتك، وإن قضيت لنا الفرقة فإلى رحمتك، والسلام عليكم، ثم ولى يذهب. فقال أبو بكر: عباد الله، ادعوا الله كيما يصحب صاحبكم ويسلمه، ارفعوا أيديكم رحمكم الله، فرفع القوم أيديهم إلى ربهم وهم أكثر من خمسين رجلا، فقال على رضى الله عنه: ما رفع عدتكم من المسلمين أيديهم إلى ربهم يسألونه شيئا إلا استجاب لهم، ما لم يكن معصية أو قطيعة رحم، فبلغه ذلك بعدما واقع أرض الشام وقاتل العدو، فقال: رحم الله إخوانى، ليتهم لم يكونوا دعوا لى، قد كنت خرجت وإنى على الشهادة لحريص جاهد، فما هو إلا أن لقيت العدو فعصمنى الله من الهزيمة والفرار، وذهب من نفسى ما كنت أعرف من حب الشهادة، فلما خبرت أن أخوانى دعوا لى بالسلامة عرفت أنهم استجيب لهم.
وكان أبو بكر أمره أن يلحق بيزيد بن أبى سفيان، فسار حتى لحق به، وشهد معه وقعة العربة والداثنة.
وعن حمزة بن مالك الهمذانى أنه قدم فى جمع عظيم من همذان «1» على أبى بكر، رحمه الله، قال: فقدموا وهم ألفا رجل أو أكثر، فلما رأى أبو بكر عددهم وعدتهم سره ذلك، فقال: الحمد لله على صنيعه للمسلمين، ما يزال الله تعالى، يرتاج لهم بمدد من أنفسهم يشد به ظهورهم ويقصم به عدوهم، قال: ثم إن أبا بكر أمرنا فعسكرنا بالمدينة، وكنت أختلف إلى أبى بكر غدوة وعشية، وعنده رجال من المهاجرين والأنصار، فكان يلطفنى ويدنى مجلسى، ويقول لى: تعلم القرآن، وأسبغ الوضوء، وأحسن الركوع والسجود، وصل الصلاة لوقتها، وأد الزكاة فى حينها، وانصح المسلم، وفارق المشرك،
__________
(1) همذان: بالذال المعجمة، مدينة من عراق العجم من كور الجبل. انظر: الروض المعطار (596) ، نزهة المشتاق (203) ، اليعقوبى (272) .

(2/185)


واحضر البأس يوم البأس. فقلت: والله لأجهدن أن لا أدع شيئا مما أمرتنى به إلا عملته، إنى لأعلم أنك قد اجتهدت لى فى النصيحة، وأبلغت فى الموعظة، ثم إنه خرج إلى عسكرنا وأمرنا أن نتيسر ونتجهز ونشترى حوائجنا، ثم نعجل على أصحابنا، فتحثحثنا لذلك وعجلنا بالجهاز، فلما فرغنا وعلم ذلك بعث إلى فقال: يا أخا همذان، إنك شريف بئيس ذو عشيرة، فأحضرهم البأس، ولا تؤذ بهم الناس.
قال: وكان معى رجال من أهل القرى من همذان، فيهم جهل وجفاء، وكانوا قد تأذى منهم أهل المدينة، فشكوا ذلك إلى أبى بكر، فقال أبو بكر: نشدتك الله امرأ مسلما سمع نشدى لما كف عن هؤلاء القوم، ومن رأى عليه حقا فليحتمل ذرب ألسنتهم، أو عجلة يكرهها منهم ما لم يبلغ ذلك الحد، إن الله تعالى، مهلك بهؤلاء وأشباههم غدا جموع هرقل والروم، وإنما هم إخوانكم، فلو أن أخا أحدكم فى دينه عجل عليه فى شىء ألم يكن أصوب فى الرأى وخيرا فى المعاد أن يحتمل له؟ قال المسلمون: بلى، قال: فهم إخوانكم فى الدين وأنصاركم على الأعداء، ولهم عليكم حق، فاحتملوا لهم ذلك، ثم نظر إلىّ فقال: ارتحل، ما تنتظر؟ فارتحلت وقد قلت له قبل أن نرتحل: علىّ أمير دونك؟ قال: نعم، هناك ثلاثة أمراء قد أمرناهم؟. فأيهم شئت فكن معه، فلما لحقت بالمسلمين سألتهم: أى الأمراء أفضل وأيهم كان أفضل عند النبى صلى الله عليه وسلم، صحبة؟ فقيل: أبو عبيدة بن الجراح، فقلت فى نفسى: والله لا أعدل بهذا أحدا، فجئت حتى أتيت أبا عبيدة ثم قصصت عليه قصة مخرجى ومقدمى على أبى بكر، وما كان من أمرى وأمر أصحابى بالمدينة، وبمقدمى عليه واختيارى له، فقال: بارك الله لك فى إسلامك وجهادك وقدومك علينا، وبارك لنا فيك وفيمن قدمت به علينا من المسلمين.
وقال عمرو بن محصن «1» : لم يكن أبو بكر رحمه الله، يسأم توجيه الجنود إلى الشام، وإمداد الأمراء الذين بعث إليها بالرجال بعد الرجال، إرادة إعزاز أهل الإسلام وإذلال أهل الشرك.
وعن أبى سعيد المقبرى قال: لما بلغ أبا بكر رحمه الله، جمع الأعاجم لم يكن شىء أعجب إليه من قدوم المجاهدين عليه من أرض العرب، فكانوا كلما قدموا عليه سرح الأول فالأول، فقدم عليه فيمن قدم أبو الأعور السلمى، فدخل عليه فقال: إنا جئناك من غير قحمة ولا عدم، فإن شئت أقمنا معك مرابطين، وإن شئت وجهتنا إلى عدوك
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1974) ، الإصابة الترجمة رقم (5970) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4021) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 417) .

(2/186)


المشركين، فقال له أبو بكر: لا، بل تجاهدون الكافرين، وتواسون المسلمين، فبعثه، فسار حتى قدم على أبى عبيدة.
ثم قدم على أبى بكر رضى الله عنه، معن بن يزيد بن الأخنس السلمى فى رجال من بنى سليم، نحو من مائة، فقال أبو بكر: لو كان هؤلاء أكثر مما هم لأمضيناهم، فقال له عمر: والله لو كانوا عشرة لرأيت لك أن تمد بهم إخوانهم، أى والله، وأرى أن تمدهم بالرجال الواحد إذا كان ذا جزاء وغناء.
فقال حبيب بن مسلمة الفهرى: عندى نحو من عدتهم رجال من أبناء القبائل ذوو رغبة فى الجهاد، فأخرجنا وهؤلاء جميعا يا خليفة رسول الله، ثم ابعثنا. فقال له: أما الآن فاخرج بهم جميعا حتى تقدم بهم على إخوانهم.
فخرج فعسكر معهم، ثم جمع أصحابه إليهم، ثم مضى بهم حتى قدم على يزيد بن أبى سفيان.
قال: واجتمعت رجال من كعب وأسلم وغفار ومزينة نحو من مائتين، فأتوا أبا بكر رضى الله عنه، فقالوا: ابعث علينا رجلا، وسرحنا إلى إخواننا، فبعث عليهم الضحاك بن قيس، فسار حتى أتى يزيد، فنزل معه.
وعن سعيد بن يزيد بن عمرو بن نفيل قال: لما رأى أهل مدائن الشام أن العرب قد جاشت عليهم من كل وجه، وكثرة جموعهم، بعثوا الرسل إلى ملكهم يعلمونه ذلك ويسألونه المدد، فكتب إليهم: إنى قد عجبت لكم حين تستمدوننى وحين تكثرون علىّ عدة من جاءكم، وأنا أعلم بكم وبمن جاءكم منهم، ولأهل مدينة واحدة من مدائنكم أكثر ممن جاءكم منهم أضعافا، فالقوهم فقاتلوهم ولا تحسبوا أنى كتبت إليكم بهذا وأنا لا أريد أن أمدكم، لأبعثن إليكم من الجنود ما تضيق به الأرض الفضاء.
وكانت مدائن أهل الشام من الروم قد أرسلوا إلى كل من كان على دينهم من العرب فأطمعهم أكثرهم فى النصر، ومنهم من حمى للعرب، فكان ظهور العرب أحب إليه، وذلك من لم يكن فى دينه راسخا منهم، وبلغ خبرهم وتراسلهم أبا عبيدة بن الجراح، فكتب إلى أبى بكر رضى الله عنهما: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فالحمد لله الذى أعزنا بالإسلام، وكرمنا بالإيمان، وهدانا لما اختلف فيه المختلفون من الحق بإذنه، إنه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم، وإن عيونى من أنباط الشام نبئونى أن أول أمداد ملك الروم قد وقعوا إليه، وأن أهل مدائن الشام بعثوا رسلهم إليه يستمدونه، وأنه كتب

(2/187)


إليهم: أن أهل مدينة من مدائنكم أكثر ممن قدم عليكم من عدوكم، فانهضوا إليهم فقاتلوهم، فإن مددى من ورائكم، فهذا ما بلغنا عنهم، وأنفس المسلمين طيبة بقتالهم، وقد خبرنا أنهم تيسروا لقتالنا، فأنزل الله على المسلمين نصره، وعلى عدوهم رجزه، إنه بما يعملون عليم، والسلام.
قال: فجمع أبو بكر رحمه الله، أشراف قريش من المهاجرين وغيرهم من أهل مكة، ثم دعا بأشراف الأنصار وذوى السابقة منهم، فقال عمر: لأى شىء دعوت بهؤلاء؟
فقال: لأستشيرهم فى هذا الأمر الذى كتب إلينا فيه أبو عبيدة. قال له: أما المهاجرين والأنصار فأهل الاستنصاح والمشورة، وأما رجال أهل مكة الذين كنا نقاتلهم لتكون كلمة الله هى العليا ويقاتلوننا ليطفئوا نور الله بأفواههم جاهدين على قتالنا، إن قلنا ليس مع الله آلهة، قالوا: مع الله آلهة أخرى، فلما أعز الله دعوتنا وصدق أحدوثتنا ونصرنا عليهم أردنا أن نقدمهم فى الأمور ونستشيرهم فيها ونستنصحهم وندنيهم دون من هو خير منهم، ما أنصفنا إذا نصحاؤنا الذين كانوا يقاتلونهم فى الله حين نقدمهم دونهم، ولا نراهم وضعهم عندنا إذا جهادهم إيانا وجهدهم علينا، لا والله لا نفعل ذلك أبدا.
فقال أبو بكر رضى الله عنه: قد كنت أردت إدناءهم وإنزالهم منا بالمنازل التى كانوا بها فى قومهم من الشرف، فأما الآن حيث ذكرت ما ذكرت، فو الله ما أرى الرأى فى هذا إلا رأيك، فبلغ ذلك أشراف قريش أولئك، فشق عليهم.
وقال الحارث بن هشام: إن عمر كان فى شدته علينا قبل أن هدانا الله للإسلام مصيبا، فأما الآن حيث هدانا الله فلا نراه فى شدته علينا إلا قاطعا.
ثم خرج هو وسهيل بن عمرو «1» مع عكرمة بن أبى جهل فى رجال من أشراف قريش حتى أتوا أبا بكر رحمه الله، وعنده عمر، فقال الحارث: يا عمر، إنك قد كنت فى شدتك علينا قبل الإسلام مصيبا، فأما الآن وقد هدانا الله لدينه فما نراك إلا قاطعا، ثم جثا سهيل بن عمرو على ركبتيه وقال: إياك يا عمر نخاطب، وعليك نعتب، فأما خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبرىء عندنا من الضغن والحقد والقطيعة، ألسنا إخوانكم فى الإسلام، وبنى أبيكم فى النسب، أفإنكم إن كان الله قدم لكم فى هذا الأمر قدما صالحا لم نؤت مثله قاطعون قرابتنا ومستهينون بحقنا، ثم قال لهم عكرمة: أما إنكم وإن كنتم
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (110) ، الإصابة الترجمة رقم (3584) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2324) .

(2/188)


تجدون فى عداوتنا قبل اليوم مقالا فلستم اليوم بأشد على من ترك هذا الدين، ولا أعدى منا. فقال لهم عمر رضى الله عن جميعهم، والله ما قلت الذى بلغكم إلا نصيحة لمن سبقكم بالإسلام، وتحريا للعدل فيما بينكم وبين من هو أفضل منكم.
قال سهيل: فإن كنتم إنما فضلتمونا بالجهاد فى سبيل الله، فو الله لنستكثرن منه، أشهدكم أنى حبيس فى سبيل الله.
وقال الحارث بن هشام: وأنا أشهدكم أنى حبيس فى سبيل الله، والله لأنفقن مكان كل نفقة أنفقتها على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفقتين فى سبيل الله، ولأنفقن مكان كل موقف وقفته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، موقفين على أعداء الله. وقال عكرمة: وأنا أشهدكم أنى حبيس فى سبيل الله.
فقال أبو بكر رضى الله عنه: اللهم أبلغ بهم أفضل ما يأملون، واجزهم بأحسن ما يعملون، فقد أصبتم فيما صنعتم، فأرشدكم الله. فلما خرجوا من عنده أقبل سهيل على أصحابه، وكان شريفا عاقلا، فقال لهم: لا تجزعوا مما ترون، فإنهم دعوا ودعينا، فأجابوا وأبطأنا، ولو ترون فضائل من سبقكم إلى الإسلام عند الله عليكم ما نفعكم عيش، وما من أعمال الله عمل أفضل من الجهاد فى سبيل الله، فانطلقوا حتى تكونوا بين المسلمين وبين عدوهم، فتجاهدوهم دونهم حتى تموتوا، فلعلنا أن نبلغ فضل المجاهدين، فخرجوا حينئذ إلى جهاد الروم. قال: فبلغنى أنهم ماتوا مقترنين بين المسلمين وبين الروم، رضى الله عنهم.
ثم دعا أبو بكر، عمرو بن العاص، فقال: يا عمرو، هؤلاء أشراف قومك يخرجون مجاهدين، فاخرج فعسكر حتى أندب الناس معك، فقال: يا خليفة رسول الله، ألست أنا الوالى على الناس؟ قال: نعم، أنت الوالى على من أبعثه معك من هاهنا، قال: لا، بل وال على من أقدم عليه من المسلمين، قال: لا، ولكنك أحد الأمراء، فإن جمعتكم حرب فأبو عبيدة أميركم، فسكت عنه، ثم خرج فعسكر، واجتمع إليه ناس كثير، وكان معه أشراف قريش أولئك، فلما حضر خروجه جاء إلى عمر، فقال: يا أبا حفص، إنك قد عرفت بصرى بالحرب، وتيمن نقيبتى فى الغزو، وقد رأيت منزلتى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن أبا بكر ليس يعصيك، فأشر عليه أن يولينى أمر هذه الجنود التى بالشام، فإنى أرجو أن يفتح الله على يدى هذه البلاد، وأن يريكم والمسلمين من ذلك ما تسرون به.

(2/189)


فقال له عمر: لا أكذبك، ما كنت لأكلمه فى ذلك، لأنه لا يوافقنى أن يبعثك على أبى عبيدة، وأبو عبيدة أفضل منزلة عندنا منك، قال: فإنه لا ينقص أبا عبيدة شيئا من فضله أن ألى عليه، فقال له: ويحك يا عمرو، إنك والله ما تطلب بهذه الرياسة إلا شرف الدنيا، فاتق الله ولا تطلب بشىء من سعيك إلا وجه الله، واخرج فى هذا الجيش، فإنك إن يكن عليك أمير فى هذه المرة فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرا ليس فوقك أحد، فقال: قد رضيت.
فخرج واستتب له المسير، فلما أراد الشخوص خرج معه أبو بكر يشيعه، وقال: يا عمرو، إنك ذو رأى وتجربة للأمور، وبصر بالحرب، وقد خرجت فى أشراف قومك، ورجال من صالحاء المسلمين، وأنت قادم على إخوانك فلا تألوهم نصيحة ولا تدخر عنهم صالح مشورة، فرب رأى لك محمود فى الحرب، مبارك فى عواقب الأمور. فقال له عمرو: ما أخلق أن أصدق ظنك ولأفنك رأيك، ثم ودعه وانصرف عنه، فقدم الشام، فعظم غناؤه وبلاؤه عند المسلمين.
وكتب أبو بكر رحمه الله، إلى أبى عبيدة: أما بعد، فقد جاءنى كتابك تذكر فيه تيسر عدوكم لمواقعتكم، وما كتب به إليهم ملكهم من عدته إياهم أن يمدهم من الجنود بما تضيق به الأرض الفضاء، ولعمر الله لقد أصبحت الأرض ضيقة عليه برحبها، وايم الله ما أنا بيائس أن تزيلوه من مكانه الذى هو به عاجلا إن شاء الله تعالى، فبث خيلك فى القرى والسواد، وضيق عليهم بقطع الميرة، ولا تحاصر المدائن حتى يأتيك أمرى، فإن ناهضوك فانهض إليهم، واستعن بالله عليهم، فإنه ليس يأتيهم مدد إلا أمددناكم بمثلهم أو ضعفهم، وليس بكم والحمد لله قلة ولا ذلة، ولأعرفن ما جبنتم عنهم، فإن الله فاتح لكم، ومظهركم على عدوكم، ومعزكم بالنصر، وملتمس منكم الشكر، لينظر كيف تعملون، وعمرو فأوصيك به خيرا، فقد أوصيته أن لا يضيع لك حقا، والسلام عليك.
وجاء عمرو بالناس حتى نزل بأبى عبيدة، وكان عمرو فى مسيره ذلك إلى الشام، فيما حدث به عمرو بن شعيب، يستنفر من مر بهم من الأعراب، قال: فتبعه منهم ناس كثير، فلما اجتمعوا هم ومن كان قدم بهم معه من المدينة، كانوا نحوا من ألفين، فلما قدم بهم على أبى عبيدة سر بهم هو والناس الذين معه، واستأنس بهم، وكان عمرو ذا رأى فى الحرب وبصر بالأشياء، فقال له أبو عبيدة: أبا عبد الله، رب يوم شهدته فبورك للمسلمين فيه برأيك ومحضرك، إنما أنا رجل منكم، لست وإن كنت الوالى عليكم بقاطع

(2/190)


أمرا دونكم، فأحضرنى رأيك فى كل يوم بما ترى، فإنه ليس بى عنكم غنى. فقال له:
أفعل، والله يوفقك لما يصلح المسلمين.
وقال سهل بن سعد: ما زال أبو بكر رحمه الله تعالى، يبعث الأمراء إلى الشام، أميرا أميرا، ويبعث القبائل، قبيلة قبيلة، حتى ظن أنهم قد اكتفوا، وأنهم لا يريدون أن يزدادوا رجلا.
وذكر أبو جعفر الطبرى «1» ، عن محمد بن إسحاق: أن تجهيز أبى بكر الجيوش إلى الشام كان بعد قفوله من الحج سنة اثنتى عشرة، وأنه حينئذ بعث عمرو بن العاص قبل فلسطين.
وذكر فى تولية أبى بكر خالد بن سعيد بن العاص جند الشام، وتأخيره عن ذلك قبل نفوذه نحوا مما تقدم.
وذكر أيضا من طريق آخر أن توليته إياه إنما كان على ربع من ذلك الجند.
وقيل: إن أبا بكر رضى الله عنه، جعله ردآ بتيماء، وأمره أن لا يبرحها، وأن يدعو من حوله بالانضمام إليه، وأن لا يقبل إلا ممن لم يرتد، ولا يقاتل إلا من قاتله حتى يأتيه أمره. فأقام، فاجتمعت إليه جموع كثيرة، وبلغ الروم عظيم ذلك العسكر، فضربوا على العرب الضاحية بالشام البعوث إليهم، فكتب خالد بن سعيد بذلك إلى أبى بكر، فكتب إليه أبو بكر، رضى الله عنه: أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله «2» .
فصار إليهم خالد، فلما دنا منهم تفرقوا وأعروا منزلهم، فنزله ودخل من كان تجمع له فى الإسلام. وكتب بذلك إلى أبى بكر، فكتب إليه أبو بكر رضى الله عنه: أقدم ولا تقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك. فسار فيمن كان خرج معه من تيماء وفيمن لحق به من طرف الرمل، فسار إليه بطريق من بطارقة الروم، يدعى باهان، فهزمه وفل جنده، وكتب بذلك إلى أبى بكر، واستمده، وقد قدم على أبى بكر أوائل مستنفرى اليمن، ومن بين مكة واليمن، فساروا فقدموا على خالد بن سعيد، وعند ذلك اهتاج أبو بكر للشام وعناه أمره.
وقد كان أبو بكر رد عمرو بن العاص على عمالته التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاه
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 387) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 388- 389) .

(2/191)


إياها من صدقات سعد وعذرة وما كان معها قبل ذهابه إلى عمان، فخرج إلى عمان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على عدة من عمله إذا هو رجع، فأنجز له ذلك أبو بكر، ثم كتب إليه أبو بكر عند اهتياجه للشام: إنى كنت قد رددتك على العمل الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاكه مرة وسماه لك أخرى إذ بعثك إلى عمان إنجازا لموعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وليته ثم وليته، وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك فى حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذى أنت فيه أحب إليك. فكتب إليه عمرو: إنى سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامى بها، والجامع لها، فانظر أسرها وأحسنها وأفضلها فارم به شيئا إن جاءك من ناحية من النواحى «1» .
وكتب أبو بكر رضى الله عنه، إلى الوليد بن عقبة بنحو ذلك، فأجابه بإيثار الجهاد.
وعن أبى أمامة الباهلى «2» ، قال: كنت ممن سرح أبو بكر رضى الله عنه، مع أبى عبيدة، وأوصانى به وأوصاه بى، فكانت أول وقعة بالشام يوم العربة، ثم يوم الداثنة، وليسا من الأيام العظام، خرج ستة قواد من الروم مع كل قائد خمسمائة، فكانوا ثلاثة آلاف، فأقبلوا حتى انتهوا إلى العربة، فبعث يزيد بن أبى سفيان إلى أبى عبيدة يعلمه، فبعثنى إليه فى خمسمائة، فلما أتيته بعث معى رجلا فى خمسمائة، فلما رأيناهم يعنى الروم وقوادهم أولئك، حملنا عليهم فهزمناهم وقتلنا قائدا من قوادهم، ثم مضوا واتبعناهم، فجمعوا لنا بالداثنة، فسرنا إليهم، فقدمنى يزيد وصاحبى فى عدتنا، فهزمناهم، فعند ذلك فزعوا واجتمعوا وأمدهم ملكهم.
وذكر ابن إسحاق عن صالح بن كيسان أن عمرو بن العاص خرج حتى نزل بعمر العربات، ونزلت الروم بثنية جلق بأعلى فلسطين فى سبعين ألفا عليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه، فكتب عمرو إلى أبى بكر يستمده، وخرج خالد بن سعيد بن العاص وهو بمرج الصفر من أرض الشام فى يوم مطير يستمطر فيه فتعادى عليه أعلاج الروم فقتلوه، وقيل أتاهم أذريجا فى أربعة آلاف وهم غازون فاستشهد خالد بن سعيد وعدة من المسلمين.
قال أبو جعفر الطبرى «3» : قيل إن المقتول فى هذه الغزوة ابن لخالد بن سعيد، وأن خالدا انحاز حين قتل ابنه.
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 389) .
(2) اسمه: صدى بن عجلان. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2882) ، الإصابة الترجمة رقم (9546) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5695) .
(3) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 391) .

(2/192)


وذكر سيف أن الوليد بن عقبة لما قدم على خالد بن سعيد فسانده، وقدمت جنود المسلمين الذين كان أبو بكر أمده بهم، وبلغه عن الأمراء، يعنى أمراء المسلمين الذين أمدهم أبو بكر، وتوجههم إليه، اقتحم على الروم طلب الحظوة، وأعرى ظهره، وبادر الأمراء لقتال الروم، واستطرد له باهان، فأرز هو ومن معه إلى دمشق، واقتحم خالد فى الجيش ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى ينزل المرج، مرج الصفر، ما بين الواقوصة ودمشق، فانطوت مسالح باهان عليه، وأخذوا عليه الطرق ولا يشعر، وزحف له باهان فوجد ابنه سعيد بن خالد يستمطر فى الناس، فقتلوهم. وأتى الخبر خالدا، فخرج هاربا فى جريدة خيل، ولم ينته بخالد الهزيمة عن ذى المروة، وأقام عكرمة فى الناس ردآ لهم، فرد عنهم باهان وجنوده أن يطلبوهم، وأقام من الشام على قريب.
وذكر ابن إسحاق مسير الأمراء ومنازلهم، وأن يزيد بن أبى سفيان نزل البلقاء، ونزل شرحبيل بن حسنة الأردن، ويقال: بصرى، ونزل أبو عبيدة الجابية.
وعن غير ابن إسحاق أنه لما نزل أبو عبيدة بالجابية كتب إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، منها: أما بعد، فإن الروم وأهل البلد، ومن كان على دينهم من العرب قد أجمعوا على حرب المسلمين، ونحن نرجو النصر، وإنجاز موعود الرب تبارك وتعالى، وعادته الحسنى، وأحببت إعلامك ذلك لترينا رأيك.
فقال أبو بكر رحمه الله: والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد. وكان خالد إذ ذاك يلى حرب العراق، فكتب إليه أبو بكر:
أما بعد، فدع العراق وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه، وامض متخفيا فى أهل القوة من أصحابك الذين قدموا معك العراق، من اليمامة، وصحبوك فى الطريق، وقدموا عليك من الحجاز، حتى تأتى الشام، فتلقى أبا عبيدة ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة، والسلام.
ويروى أنه كان فيما كتب إليه به: «أن سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع بعون الله سبحانه، أحد من الناس إشجاءك، ولم ينزع الشجاء أحد من الناس نزعك، فلتهنئك أبا سليمان النعمة والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله تعالى، له المن، وهو ولى الجزاء» «1» .
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 384- 385) .

(2/193)


ووافى خالدا كتاب أبى بكر هذا وهو بالحيرة «1» ، منصرفا من حجة حجها مكتتما بها، وذلك أنه لما فرغ من إيقاعه بالروم ومن انضوى إليهم مغيثا لهم من مسالح فارس بالفراض، والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة، أقام بالفراض عشرا، ثم أذن بالقفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذى القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم، وأظهر خالد أنه فى الساقة.
وخرج من الحيرة ومعه عدة من أصحابه يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال فسار طريقا من طريق الجزيرة، لم ير طريقا أعجب منه، فكانت غيبته عن الجند يسيرة، ما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذى وضعه، وقدما معا، وخالد وأصحابه محلقون، ولم يعلم بحجه إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة، ولم يعلم أبو بكر رحمه الله، بذلك إلا بعد، فهو الذى يعنيه بما تقدم فى كتاب إليه من معاتبته إياه «2» .
وقدم على خالد بالكتاب عبد الرحمن بن حنبل الجمحى، فقال له خالد قبل أن قرأ كتابه: ما وراءك؟ فقال: خير، تسير إلى الشام. فشق عليه ذلك وقال: هذا عمل عمر، نفس علىّ أن يفتح الله على العراق.
وكانت الفرس قد هابوه هيبة شديدة، وكان خالد إذا نزل بقوم من المشركين عذابا من عذاب الله عليهم، وليثا من الليوث.
فلما قرأ كتاب أبى بكر ورأى أنه قد ولاه على أبى عبيدة وعلى الشام، كأن ذلك سخا بنفسه. وقال: أما إذ ولانى، فإن فى الشام من العراق خلفا، فقام إليه النسير بن ديسم العجلى، وكان من أشراف بنى عجل وفرسان بكر بن وائل، ومن رؤس أصحاب المثنى بن حارثة، فقال لخالد: أصلحك الله، والله ما جعل الله فى الشام من العراق خلفا، للعراق أكثر حنطة وشعيرا وديباجا وحريرا وفضة وذهبا، وأوسع سعة، وأعرض عرضا، والله ما الشام كله إلا كجانب من العراق، فكره المثنى مشورته عليه، وكان يحب أن يخرج عن العراق ويخليه وإياها.
__________
(1) الحيرة: قال الهمدانى: سار تبع أبو كرب فى غزوته فلما أتى موضع الحيرة خلف هنالك مالك بن فهم بن غنم بن دوس على أثقاله وخلف معه من ثقل من أصحابه فى نحو اثنى عشر ألفا وقال: تحيروا هذا الموضع، فسمى الموضع الحيرة، فما لك أول ملوك الحيرة وأبوهم. وكانت الحيرة على ثلاثة أميال من الكوفة، والحيرة على النجف، والنجف كان على ساحل البحر الملح، وكان فى سالف الدهر يبلغ الحيرة. انظر: الروض المعطار (207) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 384) .

(2/194)


فقال خالد: إن بالشام أهل الإسلام، وقد تهيأت لهم الروم وتيسرت، فإنما أنا مغيث وليس لهم مترك، فكونوا أنتم هاهنا على حالكم التى كنتم عليها، فإن نفرغ مما أشخصنا إليه عاجلا عجلنا إليكم، وإن أبطأت رجوت أن لا تعجزوا ولا تهنوا، وليس خليفة رسول الله بتارك إمدادكم بالرجال حتى يفتح الله عليكم هذه البلاد إن شاء الله تعالى.
ويروى أن أبا بكر أمر خالدا بالخروج فى شطر الناس، وأن يخلف على الشطر الثانى المثنى بن حارثة، وقال له: لا تأخذ مجدا إلا خلفت لهم مجدا، فإذا فتح الله عليكم فارددهم إلى العراق معهم، ثم أنت على عملك.
وأحصى خالد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأثرهم على المثنى وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغناء ممن لم يكن له صحبة، ثم نظر فيمن بقى فاختلج من كان قدم على النبى صلى الله عليه وسلم، وافدا أو غير وافد، وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغناء، ثم قسم الجند نصفين.
فقال المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبى بكر كله فى استصحاب نصف الصحابة، وإبقاء النصف أو بعض النصف، فو الله ما أرجو النصر إلا بهم، فأنى تعرينى منهم؟ فلما رأى ذلك خالد بعدما تلكأ عليه أعاضه منهم حتى رضى، وكان فيمن أعاضه منهم فرات بن حيان العجلى وبشير بن الخصاصية والحارث بن حسان الذهليان ومعبد بن أم معبد الأسلمى وبلال بن الحارث المزنى وعاصم بن عمرو التميمى، حتى إذا رضى المثنى وأخذ حاجته انحدر خالد فمضى لوجهه، وشيعه المثنى إلى قراقر، فقال له خالد: انصرف إلى سلطانك غير مقصر ولا ملوم ولا وان «1» .
وذكر الطبرى «2» أن خالدا رحمه الله، لما أراد المسير إلى الشام دعا بالأدلة فارتحل من الحيرة سائرا إلى دومة، ثم ظعن فى البر إلى قراقر، ثم قال: كيف لى بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم؟ فإنى إن استقبلتها حبستنى عن غياث المسلمين، فكلهم قال: لا نعرف إلا طريقا لا تحمل الجيوش، فإياك أن تغرر بالمسلمين، فعزم عليه، ولم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيب شديد، فقام فيهم فقال: لا يختلفن هديكم ولا تضعفن تعبئتكم، واعلموا أن المعونة تأتى على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وأن المسلم لا ينبغى له أن يكترث لشىء يقع فيه مع معونة الله له. فقالوا له: أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك، فطابقوه ونووا واحتسبوا.
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 411) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 409) .

(2/195)


وذكر غير الطبرى أن خالدا حين أراد المسير إلى الشام قال له محرز بن حريش، وكان يتجر بالحيرة، ويسافر إلى الشام: اجعل كوكب الصبح على حاجبك الأيمن، ثم أمه حتى تصبح، فإنك لا تجور. فجرب ذلك فوجده كذلك.
ثم أخذ فى السماوة حتى انتهى إلى قراقر ففوز من قراقر إلى سوى، وهما منزلان بينهما خمس ليال، فلم يهتدوا للطريق، فدل على رافع بن عميرة الطائى، فقال: خفف الأثقال واسلك هذه المفازة إن كنت فاعلا، فكره خالد أن يخلف أحدا، فقال: قد أتانى أمر لا بد من إنفاذه، وأن نكون جميعا. قال: فو الله إن الراكب المنفرد ليخافها على نفسه، ما يسلكها إلا مغررا، فكيف أنت بمن معك؟ قال: إنه لا بد من ذلك، فقد أتتنى عزيمة، قال: فمن استطاع منكم أن يصر أذن راحلته على ماء فليفعل، فإنها المهالك إلا ما وقى الله، ثم قال لخالد: ابغنى عشرين جزورا عظاما سمانا مسان. فأتاه بهن، فظمأهن حتى إذا أجهدهن عطشا سقاهن حتى أرواهن، ثم قطع مشافرهن، ثم كعمهن»
، ثم قال لخالد: سر بالخيول والأثقال، فكلما نزل منزلا نحر من تلك الشرف أربعا فافتض ماءهن فسقاه الخيول، وشرب الناس مما تزودوا حتى إذا كان آخر ذلك قال خالد لرافع: ويحك ما عندك يا رافع؟ فقال: أدركك الرأى إن شاء الله، انظروا، هل تجدون شجرة؟ هو شج على ظهر الطريق، قالوا: لا، قال: إنا لله إذا والله هلكت وأهلكت، لا أبا لكم انظروا، فنظروا فوجدوها، فكبروا وكبر وقال: أحفروا فى أصلها، فاحتفروا، فوجدوا عينا، فشربوا وارتووا، فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة مع أبى وأنا غلام.
وقال راجز من المسلمين:
لله در رافع أنى اهتدى ... فوز من قراقر إلى سوى
أرضا إذا ما سارها الجيش بكى ... ما سارها من قبله إنس أرى
لكن بأسباب متينات الهدى ... نكبها الله بنيات الردى «2»
وعن عبد الله بن قرط الثمالى قال: لما خرج خالد من عين التمر «3» مقبلا إلى الشام كتب إلى المسلمين مع عمرو بن الطفيل بن عمرو الأزدى، وهو ابن ذى النور: أما بعد، فإن كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتانى، فأمرنى بالمسير إليكم، وقد شمرت وانكمشت، وكأن قد أظلت عليكم خيلى ورجالى، فأبشروا بإنجاز موعود الله، وحسن ثواب الله،
__________
(1) كعمهن: أى شد أفواههن.
(2) انظر الأبيات فى: تاريخ الطبرى (3/ 416) .
(3) راجع خبر عين التمر فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 107) ، تاريخ الطبرى (3/ 376) .

(2/196)


عصمنا الله وإياكم باليقين، وأثابنا أحسن ثواب المجاهدين، والسلام عليكم.
وكتب معه إلى أبى عبيدة: أما بعد، فإنى أسأل الله تعالى لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة فى دار الدنيا من كل سوء، وقد أتانى كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمرنى بالمسير إلى الشام، وبالقيام على جندها، والتوالى لأمرها، والله ما طلبت ذلك قط، ولا أردته، إذ وليته، فأنت على حالتك التى كنت لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع أمرا دونك، فإنك سيد المسلمين، لا ننكر فضلك، ولا نستغنى عن رأيك، تمم الله ما بنا وبك من إحسان، ورحمنا وإياك من صلى النار، والسلام عليك ورحمة الله.
قال: فلما قدم علينا عمرو بن الطفيل «1» ، قرأ كتاب خالد على الناس وهم بالجابية، ودفع إلى أبى عبيدة كتابه، فقرأه، فقال: بارك الله لخليفة رسول الله فيما رأى وحيى الله خالدا.
قال: وشق على المسلمين أن ولى خالد على أبى عبيدة، ولم أره على أحد أشد منه على بنى سعيد بن العاص، وإنما كانوا متطوعين حبسوا أنفسهم فى سبيل الله حتى يظهر الله الإسلام. فأما أبو عبيدة فإنا لم نتبين فى وجهه ولا فى شىء من منطقة الكراهة لأمر خالد.
وعن سهل بن سعد أن أبا بكر كتب إلى أبى عبيدة، رضى الله عنهما: أما بعد، فإنى قد وليت خالدا قتال العدو بالشام فلا تخالفه واسمع له وأطع أمره، فإنى لم أبعثه عليك أن لا تكون عندى خيرا منه، ولكنى ظننت أن له فطنة فى الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك خيرا، والسلام.
ثم إن خالدا خرج من عين التمر حتى أغار على بنى تغلب والنمر بالبسر فقتلهم، وهزمهم، وأصاب من أموالهم طرفا. قال: وإن رجلا منهم ليشرب من شراب له فى جفنة، وهو يقول:
ألا عللانى قبل جيش أبى بكر ... لعل منايانا قريب وما ندرى
فما هو إلا أن فرغ من قوله، حتى شد عليه رجل من المسلمين فضرب عنقه، فإذا رأسه فى الجفنة.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1951) ، الإصابة الترجمة رقم (5894) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3967) .

(2/197)


وعن عدى بن حاتم قال «1» : غزونا، يعنى مع خالد، على أهل المصيخ، وإذا رجل من النمر يدعى حرقوص بن النعمان، حوله بنوه وامرأته، وبينهم جفنة من خمر، وهم عليها عكوف يقولون له: ومن يشرب هذه الساعة فى أعجاز الليل؟ فقال: اشربوا شرب وداع، فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها أبدا، هذا خالد بالعين وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا:
ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر ... وقبل انتقاض القوم بالعسكر الدثر
وقبل منايانا المصيبة بالقدر ... لحين لعمرى لا يزيد ولا يحرى
فسبق إليه وهو فى ذلك بعض الخيل، فضرب رأسه، فإذا هو فى جفنته، فأخذنا بناته وقتلنا بنيه.
وفى كتاب سيف قال «2» : ولما بلغ غسان خروج خالد على سوى وانتسافها، وإغارته على مصيخ بهراء وانتسافها، اجتمعوا بمرج راهط، وبلغ ذلك خالدا وقد خلف ثغور الشام وجنودها مما يلى العراق، فصار بينهم وبين اليرموك صمد لهم، فخرج من سوى بعدما رجع إليها بسبى بهراء فنزل علمين على الطريق، ثم نزل الكثيب، حتى سار إلى دمشق، ثم مرج الصفر، فلقى عليه غسان، وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتسف عسكرهم ونزل بالمرج أياما، وبعث إلى أبى بكر بالأخماس، ثم خرج من المرج حتى نزل مياه بصرى، فكانت أول مدينة افتتحت بالشام على يدى خالد فيمن معه من جنود العراق، وخرج منها فوافى المسلمين بالواقوصة.
وعن غير سيف أن خالدا أغار على غسان فى يوم فصحهم، فقتل وسبى، وخرج على أهل الغوطة حتى أغار عليهم، فقتل ما شاء وغنم، ثم إن العدو دخلوا دمشق فتحصنوا، وأقبل أبو عبيدة، وكان بالجابية مقيما، حتى نزل معه بالغوطة، فحاصر أهل دمشق.
وعن قيس بن أبى حازم قال: كان خرج مع خالد من بجيلة وعظمهم أحمس نحو من مائتى رجل ومن طيئ نحو من مائة وخمسين.
قال: وكان معنا المسيب بن نجيبة، فى نحو مائتى فارس من بنى ذبيان، وكان يعنى خالدا، فى نحو من ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، فكان أصحابه الذين دخلوا معه
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 382) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 410- 411) .

(2/198)


الشام ثمانمائة وخمسين رجلا كلهم ذو نية وبصيرة، لأنه كان يقحمهم أمورا يعلمون أنه لا يقوى على ذلك إلا كل قوى جلد، فأقبل بنا حتى مر بأركة، فأغار عليها، وأخذ الأموال، وتحصن منه أهلها، فلم يبارحهم حتى صالحهم.
قال: ومر بتدمر «1» ، فتحصنوا منه، فأحاط بهم من كل جانب، وأخذهم من كل مأخذ، فلم يقدر عليهم، فلما لم يطقهم ترحل عنهم، وقال لهم حين أراد أن يرتحل، فيما روى عن عبد الله بن قرط: والله لو كنتم فى السحاب لاستنزلناكم وظهرنا عليكم، ما جئناكم إلا ونحن نعلم أنكم ستفتحون علينا، وإن أنتم لم تصالحوا هذه المرة لأرجعن إليكم لو قد انصرفت من وجهى هذا ثم لا أرحل عنكم حتى أقتل مقاتلتكم وأسبى ذراريكم.
فلما فصل قال علماؤهم، واجتمعوا: إنا لا نرى هؤلاء القوم إلا الذين كنا نتحدث أنهم يظهرون علينا، فافتحوا لهم، فبعثوا إلى خالد فجاء، ففتحوا له وصالحوه.
وعن سراقة بن عبد الأعلى بن سراقة: أن خالدا فى طريقه ذلك مر على حوران فهابوه، فتحرز أكثرهم منه، وأغار عليهم، فاستاق الأموال وقتل الرجال وأقام عليهم أياما، فبعثوا إلى ما حولهم ليمدوهم، فأمدوهم من مكانين: من بعلبك، وهى أرض دمشق، ومن قبل بصرى، وبصرى مدينة حوران، وهى من أرض دمشق أيضا.
فلما رأى المددين قد أقبلا خرج فصف بالمسلمين، ثم تجرد فى مائتى فارس، فحمل على مدد بعلبك «2» وهم أكثر من ألفين فما وقفوا حتى انهزموا، فدخلوا المدينة، ثم انصرف يوجف فى أصحابه وجيفا، حتى إذا كان بحذاء بصرى، وإنهم لأكثر من ألفين، حمل عليهم فما ثبتوا له فواقا حتى هزمهم، فدخلوا المدينة، وخرج أهل المدينة فرموا المسلمين بالنشاب، فانصرف عنهم خالد وأصحابه، حتى إذا كان من الغد خرجوا إليه ليقاتلوه، فعجزوا وأظهر الله عليهم المسلمين، فصالحوهم.
وقال عمرو بن محصن: حدثنى علج من أهل حوران «3» كان يشجع، قال: والله
__________
(1) تدمر: من مدن الشام بالبرية، أولية يقال إن الجن بنتها لسليمان عليه السلام. ومن حلب إليها خمسة أيام وكذلك من دمشق إليها، وكذا من الرقة إليها، وكذا من الرحبة إليها. انظر: الروض المعطار (131) ، معجم ما استعجم (1/ 307) .
(2) بعلبك: مدينة بالشام بينها وبين دمشق فى جهة الشرق مرحلتان، وهى حصينة فى سفح جبل وعليها سور حصين بالحجارة. انظر: الروض المعطار (109) ، نزهة المشتاق (116) .
(3) حوران: جبل بالشام، وحوران أيضا من أعمال دمشق، ومدينتها بصرى، تسير فى صحراء حوران عشرة فراسخ حتى تصل إلى مدينة بصرى. انظر: الروض المعطار (206) .

(2/199)


لخرجنا إليهم بعد ما جاءنا مدد أهل بعلبك وأهل بصرى بيوم، فلخرجنا وإنا لأكثر من خالد وأصحابه بعشرة أضعافهم وأكثر، فما هو إلا أن دنونا منهم، فثاروا فى وجوهنا بالسيوف كأنهم الأسد، فانهزمنا أقبح الهزيمة، وقتلونا شر المقتلة، فما عدنا نخرج إليهم حتى صالحناهم، ولقد رأيت رجلا منا كنا نعده بألف رجل، قال: لئن رأيت أميرهم لأقتلنه، فلما رأى خالدا قيل له: هذا خالد أمير القوم، فحمل عليه، وإنا لنرجو لبأسه أن يقتله، فما هو إلا أن دنا منه، فضرب خالد فرسه، فقدمه عليه، ثم استعرض وجهه بالسيف فأطار قحف رأسه، ودخلنا مدينتنا، فما كان لنا هم إلا الصلح حتى صالحناهم.
وعن قيس بن أبى حازم قال: كنت مع خالد حين مر بالشام، فأقبل حتى نزل بقناة بصرى من أرض حوران، وهى مدينتها، فلما نزلنا واطمأننا خرج إلينا الدرنجار «1» فى خمسة آلاف فارس من الروم، فأقبل إلينا وما يظن هو وأصحابه إلا أنا فى أكفهم، فخرج خالد فصفنا، ثم جعل على ميمنتنا رافع بن عميرة الطائى، وعلى ميسرتنا ضرار بن الأزور، وعلى الرجال عبد الرحمن بن حنبل الجمحى، وقسم خيله، فجعل على شطرها المسيب بن نجية، وعلى الشطر الآخر رجلا كان معه من بكر بن وائل، ولم يسمه، وأمرهما خالد حين قسم الخيل بينهما أن يرتفعا من فوق القوم عن يمين وشمال، ثم ينصبا على القوم، ففعلا ذلك، وأمرنا خالد أن نزحف إلى القلب، فزحفنا إليهم، والله ما نحن إلا ثمانمائة وخمسون رجلا، وأربعمائة رجل من مشجعة من قضاعة، استقبلنا بهم يعبوب رجل منهم، فكنا ألفا ومائتين ونيفا.
قال: وكنا نظن أن الكثير من المشركين والقليل عند خالد سواء، لأنه كان لا يملأ صدره منهم شىء، ولا يبالى بمن لقى منهم لجرأته عليهم، فلما دنوا منا شدوا علينا شدتين، فلم نبرح، ثم إن خالدا نادى بصوت له جهورى شديد عال، فقال: يا أهل الإسلام، الشدة، الشدة، احملوا رحمكم الله، عليهم، فإنكم إن قاتلتموهم محتسبين بذلك وجه الله فليس لهم أن يواقفوكم ساعة، ثم إن خالدا شد عليهم، فشددنا معه، فو الله الذى لا إله إلا هو ما ثبتوا لنا فواقا حتى انهزموا، فقتلنا منهم فى المعركة مقتلة عظيمة، ثم اتبعناهم نكردهم «2» ونصيب الطرف منهم، ونقطعهم عن أصحابهم، ثم نقتلهم، فلم نزل كذلك حتى انتهينا إلى مدينة بصرى، فأخرج لنا أهلها الأسواق، واستقبلوا المسلمين
__________
(1) الدرنجار: أى قائد الروم البيزنطيين.
(2) نكردهم: أى نطردهم.

(2/200)


بكل ما يحبون، ثم سألوا الصلح، فصالحناهم، فخرج خالد من فوره ذلك، فأغار على غسان فى جانب من مرج راهط فى يوم فصحهم، فقتل وسبى.
وعن أبى الخزرج الغسانى قال: كانت أمى فى ذلك السبى، فلما رأت هدى المسلمين وصلاحهم وصلاتهم وقع الإسلام فى قلبها فأسلمت، فطلبها أبى فى السبى فعرفها، فجاء المسلمين فقال: يا أهل الإسلام، إنى رجل مسلم، وهذه امرأتى قد أصبتموها، فإن رأيتم أن تصلونى وتحفظوا حقى فتردوا علىّ أهلى فعلتم. فقال لها المسلمون: ما تقولين فى زوجك قد جاء يطلبك وهو مسلم؟ قالت: إن كان مسلما رجعت إليه، وإلا فلا حاجة لى فيه، ولست براجعة إليه.
وقعة أجنادين
ذكر سعيد بن الفضل وأبو إسماعيل وغيرهما أن خالد بن الوليد لما دخل الغوطة «1» كان قد مر بثنية فخرعها، ومعه راية له بيضاء تدعى العقاب، فسميت بذلك تلك الثنية:
ثنية العقاب، ثم نزل ديرا يقال له: دير خالد لنزوله به، وهو مما يلى باب الشرقى، يعنى من دمشق.
وجاء أبو عبيدة من قبل الجابية، حتى نزل باب الجابية، ثم شنا الغارات فى الغوطة وغيرها، فبينما هما كذلك أتاهما أن وردان صاحب حمص، قد جمع الجموع يريد أن يقتطع شرحبيل بن حسنة وهو ببصرى، وأن جموعا من الروم قد نزلت أجنادين «2» ، وأن أهل البلد ومن مروا به من نصارى العرب قد سارعوا إليهم، فأتاهما خبر أفظعهما وهما مقيمان على عدو يقاتلانه، فالتقيا فتشاورا فى ذلك، فقال أبو عبيدة: أرى أن نسير حتى نقدم على شرحبيل قبل أن ينتهى إليه العدو الذى قد صمد صمدة، فإذا اجتمعنا سرنا إليه حتى نلقاه، فقال له خالد: إن جمع الروم هنا بأجنادين، وإن نحن سرنا إلى شرحبيل تبعنا هؤلاء من قريب، ولكن أرى أن نصمد صمد عظمهم، وأن نبعث إلى شرحبيل فنحذره مسير العدو إليه، ونأمره فيوافينا بأجنادين، ونبعث إلى يزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص فيوافيانا بأجنادين، ثم نناهض عدونا. فقال له أبو عبيدة: هذا رأى حسن، فأمضه على بركة الله.
__________
(1) الغوطة: قيل: هى قصبة دمشق، وقيل: هو موضع متصل بدمشق من جهة باب الفراديس، وطول الغوطة مرحلتان عرض فى عرض مرحلة. انظر: الروض المعطار (431) .
(2) أجنادين: بفتح الهمزة والنون والدال، بعدها ياء ونون على لفظ التثنية، موضع بالشام من بلاد الأردن. انظر: الروض المعطار (12) .

(2/201)


وكان خالد مبارك الولاية، ميمون النقيبة، مجربا، بصيرا، بالحرب، مظفرا. فلما أراد الشخوص من أرض دمشق إلى الروم الذين اجتمعوا بأجنادين، كتب نسخة واحدة إلى الأمراء:
أما بعد، فإنه نزل بأجنادين جمع من جموع الروم، غير ذى قوة ولا عدة، والله قاصمهم وقاطع دابرهم، وجاعل دائرة السوء عليهم، وقد شخصت إليهم يوم سرحت رسولى إليكم، فإذا قدم عليكم فانهضوا إلى عدوكم بأحسن عدتكم وأصح نيتكم، ضاعف الله أجوركم وحط أوزاركم، والسلام.
ووجه بهذه النسخ مع أنباط كانوا مع المسلمين عيونا لهم، وفيوجا «1» وكان المسلمون يرضخون لهم، ودعا خالد الرسول الذى بعثه منهم إلى شرحبيل، فقال له:
كيف علمك بالطريق؟ قال: أنا أدل الناس بالطريق، قال: فادفع إليه هذا الكتاب، وحذره الجيش الذى ذكر لنا أنه يريده، وخذ به وبأصحابه طريقا تعدل به عن طريق العدو الذى شخص إليه وتأتى به حتى تقدمه علينا بأجنادين. قال: نعم، فخرج الرسول إلى شرحبيل، ورسول آخر إلى عمرو بن العاص، وآخر إلى يزيد بن أبى سفيان.
وخرج خالد وأبو عبيدة بالناس إلى أهل أجنادين، والمسلمون سراع إليهم، جراء عليهم، فلما شخصوا لم يرعهم إلا أهل دمشق فى آثارهم، فلحقوا أبا عبيدة وهو فى أخريات الناس فلما رآهم قد لحقوا به نزل، وأحاطوا به، وهو فى نحو من مائتى رجل من أصحابه، وأهل دمشق فى عدد كثير، فقاتلهم أبو عبيدة قتالا شديدا، وأتى الخبر خالدا وهو أمام الناس فى الفرسان والخيل، فعطف راجعا، ورجع الناس معه، وتعجل خالد فى الخيل وأهل القوة، وانتهوا إلى أبى عبيدة وأصحابه وهم يقاتلون الروم قتالا حسنا، فحمل الخيل على الروم فدق بعضهم على بعض، وقتلهم ثلاثة أميال حتى دخلوا دمشق، ثم انصرف، ومضى بالناس نحو الجابية، وأخذ يلتفت وينتظر قدوم أصحابه عليه.
ومضى رسول خالد إلى شرحبيل، فوافاه وليس بينه وبين الجيش الذى سار إليه من حمص «2» مع وردان إلا مسيرة يوم، وهو لا يشعر، فدفع إليه الرسول الكتاب، وأخبره الخبر، واستحثه بالشخوص، فقام شرحبيل، فى الناس، فقال: أيها الناس، اشخصوا إلى
__________
(1) فيوج: جمع فج، وهو الحارث أو العداء سريع الجرى.
(2) حمص: مدينة بالشام، ولا يجوز فيها الصرف كما لا يجوز فى هند لأنه اسم أعجمى، سميت برجل من العماليق يسمى حمص، ويقال: رجل من عاملة، هو أو من نزلها. انظر: الروض المعطار (198) .

(2/202)


أميركم، فإنه قد توجه إلى عدو المسلمين بأجنادين، وقد كتب إلىّ يأمرنى بموافاته هنالك.
ثم خرج بالناس ومضى بهم الدليل، وبلغ ذلك الجيش الذى جاء فى طلبهم، فجعل المسير فى آثارهم، وجاء وردان كتاب من الروم الذين بأجنادين: أن عجل إلينا فإنا مؤمروك علينا ومقاتلون معك العرب حتى تنفيهم من بلادنا. فأقبل فى آثار هؤلاء، رجاء أن يستأصلهم أو يصيب طرفا منهم، فيكون قد نكب طائفة من المسلمين، فأسرع السير فلم يلحقهم، وجاؤا حتى قدموا على المسلمين، وجاء وردان فيمن معه حتى وافى جمع الروم بأجنادين، فأمروه عليهم، واشتد أمرهم.
وأقبل يزيد بن أبى سفيان حتى وافى أبا عبيدة وخالدا، ثم إنهم ساروا حتى نزلوا بأجنادين، وجاء عمرو بن العاص فيمن معه، فاجتمع المسلمون جميعا بأجنادين، وتزاحف الناس غداة السبت.
فخرج خالد، فأنزل أبا عبيدة فى الرجال، وبعث معاذ بن جبل على الميمنة، وسعيد ابن عامر بن حذيم على الميسرة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل على الخيل.
وأقبل خالد يسير فى الناس، لا يقر فى مكان واحد، يحرض الناس، وقد أمر نساء المسلمين فاحتزمن وقمن وراء الناس يدعون الله ويستغثنه، وكلما مر بهن رجل من المسلمين رفعن أولادهن إليه وقلن لهم: قاتلوا دون أولادكم ونسائكم.
وأقبل خالد يقف على كل قبيلة فيقول: اتقوا الله عباد الله، وقاتلوا فى الله من كفر بالله، ولا تنكصوا على أعقابكم، ولا تهنوا من عدوكم، ولكن أقدموا كإقدام الأسد، أو ينجلى الرعب وأنتم أحرار كرام، قد أوتيتم الدنيا واستوجبتم على الله ثواب الآخرة، ولا يهولنكم ما ترون من كثرتهم، فإن الله منزل رجزه وعقابه بهم. وقال للناس: إذا حملت فاحملوا.
وقال معاذ بن جبل: يا معشر المسلمين، اشروا أنفسكم اليوم لله، فإنكم إن هزمتموهم اليوم كانت لكم دار السلام أبدا مع رضوان الله والثواب العظيم من الله.
وكان من رأى خالد مدافعتهم، وأن يؤخر القتال إلى صلاة الظهر، عند مهب الأرواح، وتلك الساعة التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستحب القتال فيها، فأعجله الروم، فحملوا على المسلمين مرتين: من قبل الميمنة على معاذ بن جبل، ومن قبل الميسرة على

(2/203)


سعيد بن عامر، فلم يتخلخل أحد منهم، ورموا المسلمين بالنشاب، فنادى سعيد بن زيد، وكان من أشد الناس: يا خالد علام تستهدف هؤلاء الأعلاج؟ وقد رشقونا بالنشاب حتى شمست الخيل، فقال خالد للمسلمين: احملوا رحمكم الله على اسم الله، فحمل خالد والناس بأجمعهم، فما واقفوهم فواقا، وهزمهم الله، فقتلهم المسلمون كيف شاؤا، وأصابوا عسكرهم وما فيه.
وأصابت إبان بن سعيد بن العاص نشابة، فنزعها وعصبها بعمامته، فحمله إخوته، فقال: لا تنزعوا عمامتى عن جرحى فلو قد نزعتموها تبعتها نفسى، أما والله ما أحب أنها بحجر من جبل الحمر، وهو جبل السماق، فمات منها، يرحمه الله.
وأبلى يومئذ بلاء حسنا، وقاتل قتالا شديدا عظم فيه غناؤه، وعرف به مكانه، وكان قد تزوج أم أبان بنت عتبة بن ربيعة، وبنى عليها، فباتت عنده الليلة التى زحفوا للعدو فى غدها، فأصيب، فقالت أم أبان هذه لما مات: ما كان أغنانى عن ليلة أبان.
وقتل اليعبوب بن عمرو بن ضريس المشجعى يومئذ، سبعة من المشركين، وكان شديدا جليدا، فطعن طعنة كان يرجى أن يبرأ منها، فمكث أربعة أيام أو خمسة ثم انتقضت به فاستأذن أبا عبيدة أن يأذن له إلى أهله، فإن يبرأ رجع إليهم، فأذن له، فرجع إلى أهله بالعمر، عمر المدائن، فمات، يرحمه الله، فدفن هنالك.
وقتل مسلمة بن هشام المخزومى، ونعيم بن عدى بن صخر العدوى، وهشام بن العاص السهمى، أخو عمرو بن العاص، وهبار بن سفيان، وعبد الله بن عمرو بن الطفيل الدوسى، وهو ابن ذى النور، وكان من فرسان المسلمين، فقتلوا يومئذ، يرحمهم الله.
وقتل المسلمون فى المعركة منهم ثلاثة آلاف، وأتبعوهم يأسرونهم ويقتلونهم، فخرج فل الروم بإيلياء وقيسارية ودمشق وحمص فتحصنوا فى المدائن العظام.
وكتب خالد إلى أبى بكر: لعبد الله أبى بكر الصديق، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خالد بن الوليد، سيف الله المصبوب على المشركين، سلام عليك، فإنى أخبرك أيها الصديق أنا التقينا نحن والمشركين وقد جمعوا لنا جموعا بأجنادين، وقد رفعوا صلبهم، ونشروا كتبهم، وتقاسموا بالله لا يفروا حتى يفنونا أو يخرجونا من بلادهم، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله، فطاعناهم بالرماح شيئا، ثم صرنا إلى السيوف فقارعناهم بها مقدار جزر جزور، ثم إن الله أنزل نصره وأنجز وعده وهزم الكافرين، فقتلناهم فى كل فج وشعب وحائط، فالحمد لله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنع لأوليائه، والسلام عليك ورحمة الله.

(2/204)


وبعث خالد بكتابه هذا مع عبد الرحمن بن حنبل الجمحى، فلما قرئ على أبى بكر وهو مريض مرضه الذى توفاه الله فيه أعجبه ذلك، وقال: الحمد لله الذى نصر المسلمين، وأقر عينى بذلك.
قال سهل بن سعد: وكانت وقعة أجنادين هذه أول وقعة عظيمة كانت بالشام، كانت سنة ثلاث عشرة، فى جمادى الأولى لليلتين بقيتا منه، يوم السبت نصف النهار، قبل وفاة أبى بكر رضى الله عنه، بأربع وعشرين ليلة.
وذكر الطبرى «1» عن ابن إسحاق أن الذى كان على الروم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه، ثم ذكر عنه، عن عروة بن الزبير، أنه قال: كان على الروم رجل منهم يقال له:
القبقلار، وكان هرقل استخلفه على أمراء الشام حين سار إلى القسطنطينية، وإليه انصرف تذارق ومن معه من الروم.
قال ابن إسحاق: فأما علماء أهل الشام فيزعمون أنه إنما كان على الروم تذارق، فالله أعلم.
وعنه قال: لما تدانى العسكران بعث القبقلار رجلا عربيا، فقال له: ادخل فى هؤلاء القوم فأقم فيهم يوما وليلة ثم ائتنى بخبرهم. فدخل فى الناس رجل عربى لا ينكر، فأقام فيهم يوما وليلة، ثم أتاه فقال له: مه ما وراءك؟ قال: بالليل رهبان وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى لرجم، لإقامة الحق فيهم، فقال له القبقلار: لئن كنت صدقتنى لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظى من الله أن يخلى بينى وبينهم، فلا ينصرنى عليهم ولا ينصرهم على.
ثم تزاحف الناس، فاقتتلوا، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتالهم قال للروم: لفوا رأسى بثوب، قالوا له: لم؟ قال: هذا يوم بئيس، ما أحب أن أراه، ما رأيت من الدنيا يوما أشد من هذا. قال: فاحتز المسلمون رأسه، وإنه لملفف.
وعن غير ابن إسحاق قال: ثم إن خالد بن الوليد أمر الناس أن يسيروا إلى دمشق، وأقبل بهم حتى نزلوها، وقصد إلى ديره الذى كان ينزل به، فنزله وهو من دمشق على ميل مما يلى باب الشرقى، وبخالد يعرف ذلك الدير إلى اليوم، وجاء أبو عبيدة حتى نزل على باب الجابية، ونزل يزيد بن أبى سفيان على جانب آخر من دمشق وأحاطوا بها، وحاصروا أهلها حصارا شديدا.
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 417) .

(2/205)


وقدم عبد الرحمن بن حنبل من عند أبى بكر بكتابه إلى خالد، وأتى يزيد بن أبى سفيان ومعه كان يكون، فقال له يزيد: هل لقيت أبى؟ قال: نعم، قال: فهل سألك عنى؟ قال: نعم، قال: فما قلت له؟ قال: قلت له إن يزيد حازم الرأى، متواضع فى ولايته، بئيس البأس، محبب فى الإخوان، يبذل ما قدر عليه من فضله. فقال أبو سفيان:
كذلك ينبغى لمثله أن يكون، وطلب إلىّ أن أكتب إليه بما يكون من أمرنا، وأن أعلمه حالنا، فوعدته ذلك.
قال: فخرج خالد بالمسلمين ذات يوم، فأحاطوا بمدينة دمشق، ودنوا من أبوابها، فرماهم أهلها بالحجارة ورشقوهم من فوق السور بالنشاب، فقال ابن حنبل:
وأبلغ أبا سفيان عنا فإننا ... على خير حال كان جيش يكونها
وأنا على بابى دمشقة نرتمى ... وقد حان من بابى دمشقة حينها
وقعة مرج الصفر
«1» قال: فإن المسلمين لكذلك يقاتلونهم ويرجون فتح مدينتهم إذ أتاهم آت فأخبرهم أن هذا جيش قد جاءكم من قبل ملك الروم، فنهض خالد بالناس على تعبئته وهيئته، فقدم الأثقال والنساء، وخرج معهن يزيد بن أبى سفيان، ووقف خالد وأبو عبيدة من وراء الناس، ثم أقبلوا نحو ذلك الجيش، فإذا هو درنجار بعثه ملك الروم فى خمسة آلاف رجل من أهل القوة والشدة ليغيث أهل دمشق، فصمد المسلمون صمدهم، وخرج إليهم أهل القوة من أهل دمشق، وناس كثير من أهل حمص، فالقوم نحو من خمسة عشر ألفا، فلما نظر إليهم خالد عبأ أصحابه كتعبئته يوم أجنادين، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة، وعلى الخيل سعيد بن زيد، وأبا عبيدة على الرجال.
وذهب خالد فوقف فى أول الصف يريد أن يحرض الناس، ثم نظر إلى الصف من أوله إلى آخره حتى حملت خيل لهم على خالد بن سعيد، وكان واقفا فى جماعة من المسلمين فى ميمنة الناس يدعون الله، ويقص عليهم، فحملت طائفة منهم عليه، فقاتلهم حتى قتل رحمه الله، وحمل عليهم معاذ بن جبل من الميمنة فهزمهم، وحمل عليهم خالد
__________
(1) مرج الصفر: بالشام، به كانت وقعة للمسلمين على نصارى الشام بعد وقعة أجنادين وكان بين الوقعتين عشرون يوما وكان ذلك قبل وفاة أبى بكر رضى الله عنه بأربعة أيام. انظر: الروض المعطار (535) .

(2/206)


ابن الوليد من الميسرة فهزم من يليه منهم، وحمل سعيد بن زيد بالخيل على عظم جمعهم، فهزمهم الله وقتلهم، واجتث عسكرهم، ورجع الناس، وقد ظفروا وقتلوهم كل قتلة، وذهب المشركون على وجههم، فمنهم من دخل مدينة دمشق مع أهلها، ومنهم من رجع إلى حمص، ومنهم من لحق بقيصر.
وعن عمرو بن محصن: أن قتلاهم يومئذ وهو يوم مرج الصفر كانت خمسمائة فى المعركة، وقد تلوا وأسروا نحوا من خمسمائة أخرى.
وقال أبو أمامة فيما رواه عنه يزيد بن يزيد بن جابر: كان بين أجنادين وبين يوم مرج الصفر عشرون يوما. قال: فحسبت ذلك فوجدته يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة، قبل وفاة أبى بكر رضى الله عنه، بأربعة أيام.
ثم إن الناس أقبلوا عودهم على بدئهم حتى نزلوا دمشق، فحاصروا أهلها وضيقوا عليهم، وعجز أهلها عن قتال المسلمين، ونزل خالد منزله الذى كان ينزل به على باب الشرقى، ونزل أبو عبيدة منزله على باب الجابية، ونزل يزيد بن أبى سفيان جانبا آخر، فكان المسلمون يغيرون، فكلما أصاب رجل نفلا جاء بنفله حتى يلقيه فى القبض، لا يستحل أن يأخذ منه قليلا ولا كثيرا، حتى إن الرجل منهم ليجىء بالكبة الغزل أو بالكبة الصوف أو الشعر أو المسلمة أو الإبرة فيلقيها فى القبض، لا يستحل أن يأخذها، فسأل صاحب دمشق بعض عيونه عن أعمالهم وسيرتهم، فوصفهم له بهذه الصفة فى الأمانة، ووصفهم بالصلاة بالليل وطول القيام، فقال: هؤلاء رهبان بالليل أسد بالنهار، لا والله ما لى بهؤلاء طاقة، وما لى فى قتالهم خير.
قال: فراود المسلمين على الصلح، فأخذ لا يعطيهم ما يرضيهم، ولا يبايعونه على ما يسأل، وهو فى ذلك لا يمنعه من الصلح والفراغ إلا أنه قد بلغه أن قيصر يجمع الجموع للمسلمين، يريد غزوهم، فكان ذلك مما يمنعه من تعجيل الصلح.
وعلى تعبئة ذلك بلغ المسلمين الخبر بوفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، واستخلافه عمر رضى الله عنهما، وما تبع ذلك من صرف خالد بأبى عبيدة، حسبما يأتى تفصيله وبيانه إن شاء الله تعالى.

(2/207)