الاكتفاء
بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة
الخلفاء ذكر مسير خالد بن الوليد رضى الله عنه، إلى
بزاخة وغيرها
قالوا: وسار خالد بن الوليد ومعه عدى بن حاتم، وقد انضم إليه من طيىء ألف
رجل، فنزل بزاخة، وكانت جديلة معرضة عن الإسلام، وهى بطن من طيىء، وكان عدى
بن حاتم من الغوث، وقد همت جديلة أن ترتد، فجاءهم مكنف بن زيد الخيل
الطائى، فقال: أتريدون أن تكونوا سبة على قومكم، لم يرجع رجل واحد من طيىء،
وهذا أبو طريف عدى بن حاتم، معه ألف رجل من طيىء، فكسرهم، فلما نزل خالد
بزاخة، قال لعدى: يا أبا طريف، ألا نسير إلى جديلة؟ فقال: يا أبا سليمان،
لا تفعل، أقاتل معك بيدين أحب إليك، أم بيد واحدة؟ فقال خالد: بل بيدين،
قال عدى: فإن جديلة إحدى يدى، فكف خالد عنهم، فجاءهم عدى فدعاهم إلى
الإسلام، فأسلموا، فحمد الله وسار بهم إلى خالد.
فلما رآهم خالد فزع منهم، وظن أنهم أتوا للقتال، فصاح فى أصحابه بالسلاح،
فقيل له: إنما هى جديلة أتت تقاتل معك، فلما جاؤا حلوا ناحية، وجاءهم خالد،
فرحب بهم، وفرح بهم، واعتذروا إليه من اعتزالهم، وقالوا: نحن لك حيث أحببت،
فجزاهم خيرا، فلم يرتد من طيىء رجل واحد، فسار خالد على تعبئته، وطلب إليه
عدى أن يجعل قومه مقدمة أصحابه، فقال: يا أبا طريف، إن الأمر قد اقترب،
وأنا أخاف أن أقدم قومك، فإذا ألحمهم القتال انكشفوا، فانكشف من معنا، ولكن
دعنى أقدم قوما صبرا، لهم سوابق ونيات، وهم من قومك.
قال عدى: الرأى ما رأيت، فقدم المهاجرين، والأنصار، ولم يزل خالد يقدم
طليعته منذ خرج من بقعاء حتى قدم اليمامة، وأمر عيونه أن يختبروا كل من
مروا به عند مواقيت الصلاة بالأذان لها، فيكون ذلك أمانا لهم، ودليلا على
إسلامهم، وانتهى خالد والمسلمون إلى عسكر طليحة، وقد ضربت لطليحة قبة من
أدم، وأصحابه حوله معسكرون، فانتهى خالد ممسيا، فضرب عسكره على ميل أو نحوه
من عسكر طليحة، وخرج يسير على فرس معه نفر من أصحاب النبى صلى الله عليه
وسلم، فوقف من عسكر طليحة غير بعيد، ثم قال: يخرج إلى طليحة، فقال أصحابه:
لا تصغر اسم نبينا، وهو طلحة. فخرج طليحة فوقف، فقال له خالد: إن من عهد
خليفتنا إلينا أن ندعوك إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله،
وأن تعود إلى ما خرجت منه، فنقبل منك، ونغمد سيوفنا عنك، فقال: يا خالد،
أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، وأنى نبى مرسل يأتينى ذو
النون، كما كان جبريل يأتى محمدا، وقد كان ادعى هذا فى عهد النبى
(2/101)
صلى الله عليه وسلم، فقال النبى صلى الله
عليه وسلم: لقد ذكر ملكا عظيما فى السماء يقال له: ذو النون، وكان عيينة بن
حصن قد قال له: لا أبا لك، هل أنت مرينا بعض نبوتك، فقد رأيت ورأينا ما كان
يأتى محمدا، قال: نعم، فبعث عيونا له حيث سار خالد بن الوليد من المدينة
مقبلا إليهم قبل أن يسمع بذكر خالد، وقال: إن بعثتم فارسين على فرسين أغرين
محجلين من بنى نصر بن قعين أتوكم من القوم بعين، فهيئوا فارسين، فبعثوهما،
فخرجا يركضان، فلقيا عينا لخالد بن الوليد، فقالا: ما وراءك؟ فقال: هذا
خالد بن الوليد فى المسلمين، قد أقبلوا، فأتوا به إليه، فزادهم فتنة، وقال:
ألم أقل لكم؟.
فلما أبى طليحة على خالد أن يقر بما دعاه إليه انصرف خالد إلى معسكره،
فاستعمل تلك الليلة على حرسه مكنف بن زيد الخيل، وعدى بن حاتم، وكان لهما
صدق نية ودين، فباتا يحرسان فى جماعة من المسلمين، فلما كان فى السحر، نهض
خالد فعبأ أصحابه، ووضع ألويته مواضعها، ودفع اللواء الأعظم إلى زيد بن
الخطاب، فتقدم به، وتقدم ثابت بن قيس بن شماس بلواء الأنصار، وطلبت طيىء
لواء يعقد لها، فعقد خالد لواء ودفعه إلى عدى بن حاتم، فلما سمع طليحة حركة
القوم عبأ أصحابه، وجعل خالد يسوى الصفوف على رجليه، وطليحة يسوى أصحابه
على راحلته، حتى إذا استوت الصفوف زحف بهم خالد حتى دنا من طليحة، فلما
انتهى إليه، خرج إليه طليحة بأربعين غلاما جلداء من جنوده، مردا، فأقامهم
فى الميمنة، فقال: اضربوا حتى تأتوا الميسرة، فتضعضع الناس ولم يقتل أحد،
ثم أقامهم فى الميسرة ففعلوا مثل ذلك، وانهزم المسلمون، فقال رجل من هوازن،
حضرهم يومئذ: إن خالدا لما كان ذلك قال: يا معشر الأنصار، الله الله،
واقتحم وسط القوم، وكر عليه أصحابه، فاختلطت الصفوف، واختلفت السيوف بينهم،
وضرس خالد فى القتال، فجعل يقحم فرسه ويقولون له: الله الله، فإنك أمير
القوم، ولا ينبغى لك أن تقدم، فيقول: والله إنى لأعرف ما تقولون، ولكنى
والله ما رأيتنى أصبر، وأخاف هزيمة المسلمين.
وفيما ذكر الكلبى عن بعض الطائيين: أنه نادى مناد من طيىء، يعنى عندما حمل
أولئك الأربعون غلاما على المسلمين: يا خالد، عليك سلمى وأجأ فقال: بل إلى
الله الملجأ، قال: ثم حمل، فو الله ما رجع حتى لم يبق من أولئك الأربعين
رجل واحد، وقاتل خالد يومئذ بسيفين، حتى قطعهما، وتراد الناس بعد الهزيمة،
واشتد القتال، وأسر حبال ابن أبى حبال، فأرادوا أن يبعثوا به إلى أبى بكر،
فقال: اضربوا عنقى ولا ترونى محمديكم هذا، فضربوا عنقه.
(2/102)
وذكر الواقدى عن ابن عمر، قال: نظرت إلى
راية طليحة يومئذ، حمراء يحملها رجل منهم لا يزول بها فترا، فنظرت إلى خالد
أتاه فحمل عليه فقتله، فكانت هزيمتهم، فنظرت إلى الراية تطؤها الإبل والخيل
والرجال حتى تقطعت.
وعنه، قال: يرحم الله خالد بن الوليد، لقد كان له غناء وجرأة، ولقد رأيته
يوم طليحة يباشر الحرب بنفسه حتى ليم فى ذلك، ولقد رأيته يوم اليمامة يقاتل
أشد القتال، إن كان مكانه ليتقى حتى يطلع إلينا منبهرا.
ولما تراجع المسلمون، وضرس القتال، تزمل طليحة بكساء له ينتظر، زعم أن ينزل
عليه الوحى، فلما طال ذلك على أصحابه وهدتهم الحرب، جعل عيينة بن حصن يقاتل
ويذمر الناس.
قال ابن إسحاق: قاتل يومئذ فى سبعمائة من فزارة قتالا شديدا، حتى إذا لج
المسلمون عليهم بالسيف وقد صبروا لهم، أتى طليحة وهو متلثم فى كسائه، فقال:
لا أبا لك، هل أتاك جبريل بعد؟ قال: يقول طليحة وهو تحت الكساء: لا والله
ما جاء بعد، فقال عيينة: تبا لك سائر اليوم، ثم رجع عيينة فقاتل، وجعل يحض
أصحابه وقد ضجوا من وقع السيوف.
فلما طال ذلك على عيينة جاء طليحة وهو مستلق متسج بكسائه فجبذه جبذة جلس
منها، وقال له: قبح الله هذه من نبوة، ما قيل لك بعد شىء؟ فقال: طليحة: قد
قيل لى:
إن لك رحا كرحاه، وأمرا لن تنساه، فقال عيينة: أظن قد علم الله أن سيكون لك
أمر لن تنساه، يا فزارة، هكذا، وأشار له تحت الشمس، هذا والله كذاب، ما
بورك له ولا لنا فيما يطالب، فانصرفت فزارة، وذهب عيينة وأخوه فى آثارها،
فيدرك عيينة فأسر، وأفلت أخوه، ويقال: أسر عيينة عروة بن مضرس بن أوس بن
حارثة بن لام الطائى، فأراد خالد قتله حتى كلمه فيه رجل من بنى مخزوم، فترك
قتله.
ولما رأى طليحة أن الناس يقتلون ويؤسرون، خرج منهزما، وأسلمه الشيطان،
فأعجزهم هو وأخوه، فجعل أصحابه يقولون له: ماذا ترى؟ وقد كان أعد فرسه وهيأ
امرأته النوار فوثب على فرسه، وحمل امرأته وراءه فنجا بها، وقال: من استطاع
منكم أن يفعل كما فعلت فليفعل، ولينج بأهله، ثم هرب حتى قدم الشام، فأقام
عند بنى جفنة الغسانيين.
وفى كتاب يعقوب الزهرى: أن طليحة قال لأصحابه لما رأى انهزامهم: ويلكم ما
(2/103)
يهزمكم؟ فقال له رجل منهم: أنا أخبرك أنه
ليس منا رجل إلا وهو يحب أن صاحبه يموت قبله، وأنا نلقى قوما كلهم يحب أن
يموت قبل صاحبه.
وذكر ابن إسحاق أن طليحة لما ولى هاربا تبعه عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم،
وقد كان طليحة أعطى الله عهدا أن لا يسأله أحد النزول إلا فعل، فلما أدبر
ناداه عكاشة: يا طليحة، فعطف عليه، فقتل عكاشة، ثم أدركه ثابت، فقتله أيضا
طليحة، ثم لحق بالشام. وقال طليحة يذكر قتله إياهما:
زعمتم بأن القوم لن يقتلوكم ... أليسوا وإن لم يسلموا برجال
عدلت لهم صدر الحمالة إنها ... معودة قيل الكماة نزال
فيوما تفى بالمشرفية خدها ... ويوما تراها فى ظلال عوال
ويوما تراها فى الجلال مصونة ... ويوما تراها غير ذات جلال
عشية غادرت ابن أقرم ثاويا ... وعكاشة الغنمى عند مجال
فإن يك أذواد أصبن ونسوة ... فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال
وقد قيل فى قتلها غير هذا، وهو ما ذكره الواقدى عن عميلة الفزارى، وكان
عالما بردتهم: أن خالد بن الوليد كان لما دنا من القوم بعث عكاشة وثابتا
طليعة أمامه، وكانا فارسين، فلقيهما طليحة وأخاه مسيلمة ابنى خويلد، طليعة
لمن وراءهما من الناس، وخلفوا عسكرهم من ورائهم، فلما التقوا، انفرد طليحة
بعكاشة، ومسلمة بثابت، فلم يلبث مسلمة أن قتل ثابتا، وصرخ طليحة بمسلمة:
أعنى على الرجل فإنه قاتلى، فكر معه على عكاشة، فقاتلاه رحمه الله، ثم كرا
راجعين إلى من وراءهما، وأقبل خالد معه المسلمون، فلم يرعهم إلا ثابت بن
أقرم قتيلا تطؤه المطى، فعظم ذلك على المسلمين، ثم لم يسيروا إلا يسيرا حتى
وطئوا عكاشة قتيلا، فثقل على المطى، كما وصف واصفهم، حتى ما تكاد المطى
ترفع أخفافها.
وفى كتاب الزهرى: ثم لحقوا أصحاب طليحة، فقتلوا وأسروا، وصاح خالد: لا
يطبخن رجل قدرا ولا يسخنن ماء إلا على أثفية رأس رجل، وتظلف رجل من بنى
أسد، فوثب على عجز راحلة خالد وهو يقول:
لن يخزى الله قوما أنت قائدهم ... يا ابن الوليد ولن تشقى بك الدبر
كفاك كف عقاب عند سطوتها ... على العدو وكف برة عقر
أنشدك الله أن يكون هلاك مضر اليوم على يديك، قال: من أنت ويحك؟ قال: أنا
(2/104)
الأباء بن قيس يا خالد، حكمك فى بنى أسد،
قال: حكمى فيهم أن يقيموا الصلاة، ثم يؤتوا الزكاة، ثم يرجعوا إلى بلادهم،
فمن كان له بها مال فليعمده، وليسلم عليه، فهو له. فأقروا بذلك، فنادى
خالد: من قام فهو آمن، فقام الناس كلهم، فآمن من قام.
وسمعت بذلك بنو عامر، فأعلنوا بالإسلام، وأمر خالد بالحظائر أن تبنى، ثم
أوقد فيها النار، ثم أمر بالأسرى، فألقيت فيها، وألقى يومئذ حامية بن سبيع
بن الحسحاس الأسدى، وهو الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعمله
على صدقات قومه فارتد عن الإسلام.
وأخذ أم طليحة، إحدى نساء بنى أسد، فعرض عليها الإسلام، فأبت، ووثبت
فاقتحمت النار وهى تقول:
يا موت عم صباحا ... كافحته كفاحا
إذا لم أجد براحا
وذكر الواقدى عن يعقوب بن يزيد بن طلحة: أن خالدا جمع الأسارى فى الحظائر،
ثم أضرمها عليهم، فاحترقوا وهم أحياء، ولم يحرق أحد من بنى فزارة، فقلت
لبعض أهل العلم: لم حرق هؤلاء من بين أهل الردة؟ فقال: بلغت عنهم مقالة
سيئة، شتموا النبى صلى الله عليه وسلم، وثبتوا على ردتهم.
وذكر عن غير يعقوب: أن خالدا أمر بالأخدود يحفر، فقيل له: ما تريد بهذا
الأخدود؟ قال: أحرقهم بالنار، فكلم فى ذلك، فقال: هذا عهد الصديق أبى بكر
إلى، اقرؤه فى كل مجمع: إن أظفرك الله بهم فاحرقهم بالنار.
وعن عبد الله بن عمر، قال: شهدت بزاخة فظفرنا الله على طليحة، فكنا كلما
أغرنا على القوم سبينا الذرارى واقتسمنا أموالهم.
ذكر رجوع بنى عامر وغيرهم إلى الإسلام
ولما أوقع الله ببنى أسد وفزارة ما أوقع ببزاخة بعث خالد بن الوليد السرايا
ليصيبوا ما قدروا عليه ممن هو على ردته، وجعلت العرب تسير إلى خالد راغبة
فى الإسلام أو خائفة من السيف، فمنهم من أصابته السرية، فيقول: جئت راغبا
فى الإسلام، وقد رجعت إلى ما خرجت منه، ومنهم من يقول: ما رجعنا ولكنا
منعنا أموالنا وشححنا
(2/105)
عليها، فقد سلمناها فليأخذ منها حقه، ومنهم
من لم تظفر به السرايا، فانتهى إلى خالد مقرا بالإسلام، ومنهم من مضى إلى
أبى بكر الصديق ولم يقرب خالدا.
قال الواقدى: فاختلفوا علينا فى قرة بن هبيرة القشيرى «1» ، فقال قائل: هرب
إلى أبى بكر وأسلم عنده، وقال قائل: أخذته خيل خالد، فأتت به إليه، ومنهم
من قال: جاء إلى خالد بن الوليد شاردا حين جاءت بنو عامر إلى خالد، وهو
أثبت عندنا.
قال بعضهم: وكانت بنو عامر تربص لمن الدبرة، وصاحب أمرهم قرة بن هبيرة،
فقام فيهم أبو حرب ربيعة بن خويلد العقيلى، وهو يومئذ، فارس عامر ورجلها،
فقال: مهلا يا بنى عامر، قد قتلتم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى
بئر معونة، وأخفرتم ذمة أبى براء، وأرداكم عامر بن الطفيل، وقد أظلكم خالد
فى المهاجرين والأنصار، فكسرهم قوله، وقد رضوه، وكان عرض لعمرو بن العاص
مقدمه من عمان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع قرة بن هبيرة ما
نذكره، وذلك أن عمرا كان عاملا للنبى صلى الله عليه وسلم، على عمان، فجاءه
يوما يهودى من يهود عمان، فقال: أرأيتك إن سألتك عن شىء أأخشى على منك؟
قال: لا، قال اليهودى: أنشدك الله، من أرسلك إلينا؟ قال: اللهم، رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال اليهودى:
الله إنك لتعلم أنه رسول الله؟ قال عمرو: اللهم نعم، فقال اليهودى: لئن كان
حقا ما تقول لقد مات اليوم.
فلما رأى عمرو ذلك جمع أصحابه وحواشيه، وكتب ذلك اليوم الذى قال له اليهودى
فيه ما قال، ثم خرج بخفراء من الأزد وعبد القيس، يأمن بهم، فجاءته وفاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجر، ووجد ذكر ذلك عند المنذر بن ساوى، فسار
حتى قدم أرض بنى حنيفة، فأخذ منهم خفيرا حتى جاء أرض بنى عامر، فنزل على
قرة بن هبيرة القشيرى، فقال له حين أراد عمرو أن يركب: إن لك عندى نصيحة،
وأنا أحب أن تسمعها، إن صاحبك قد توفى، قال عمرو: وصاحبنا هو لا أم لك،
يعنى دونك، قال له قرة: وإنكم يا معشر قريش كنتم فى حرمكم تأمنون فيه
ويأمنكم الناس، ثم خرج منكم رجل يقول ما سمعت، فلما بلغنا ذلك لم نكرهه،
وقلنا، رجل من مضر يريد يسوق الناس، وقد توفى، والناس إليكم سراع، وإنهم
غير معطيكم شيئا، فالحقوا بحرمكم تأمنون فيه، وإن كنت غير فاعل، فعدنى حيث
شئت آتك، فوقع به عمرو وقال: إنى أرد عليك نصيحتك، وموعدك حفش أمك، قال
قرة: إنى لم أرد هذا، وندم على مقالته، ويقال:
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2138) ، الإصابة الترجمة رقم
(7121) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4296) ، الجرح والتعديل (7/ 740) ،
التاريخ الكبير (7/ 181) .
(2/106)
خرج مع عمرو فى مائة من قومه خفراء له.
وأقبل عمرو بن العاص يلقى الناس مرتدين، حتى أتى على ذى القصة، فلقى عيينة
بن حصن خارجا من المدينة، وذلك حين قدم على أبى بكر يقول: إن جعلت لنا شيئا
كفيناك ما وراءنا، فقال له عمرو بن العاص: ما وراءك يا عيينة؟ من ولى الناس
أمورهم؟ قال: أبو بكر. فقال عمرو: الله أكبر، قال عيينة: يا عمرو، استوينا
نحن وأنتم، فقال عمرو: كذبت يا ابن الأخابث من مضر، وسار عيينة فجعل يقول
لكل من لقى من الناس: احبسوا عليكم أموالكم. قالوا: فأنت ما تصنع؟ قال: لا
يدفع إليه رجل من فزارة عناقا واحدة، ولحق عند ذلك بطليحة الأسدى، فكان
معه.
وقدم عمرو المدينة، فأخبر أبا بكر بما كان فى وجهه، وبمقالة قرة بن هبيرة،
وبمقالة عيينة بن حصن، وأتى عمرو خالدا حين بعثه أبو بكر إلى أهل الردة،
فجعل يقول: يا أبا سليمان، لا يفلت منك قرة بن هبيرة، فلما صنع الله بأهل
بزاخة ما صنع، عمد خالد إلى جبلى طيىء فأتته عامر وغطفان يدخلون فى
الإسلام، ويسألونه الأمان على مياههم وبلادهم، وأظهروا له التوبة، وأقاموا
الصلاة، وآتوا الزكاة، فأمنهم خالد، وأخذ عليهم العهود والمواثيق ليبايعن
على ذلك أبناءكم ونساءكم آناء الليل وآناء النهار، فقالوا: نعم نعم، ولما
اجتمعوا إليه، قال خالد: أين قرة بن هبيرة القشيرى؟ قال: ها أنا ذا، قال:
قدمه فاضرب عنقه، وقال: أنت المتكلم لعمرو بن العاص بما تكلمت به وأنت
المتربص بالمسلمين الدوائر، ولم تنصر وقلت إن كانت الدائرة على المسلمين
فمالى بيدى، وجمعت قومك على ذلك، ورأسك قومك، ولم تكن بأهل أن ترأس ولا
تطاع. قال: يا ابن المغيرة، إن لى عند عمرو بن العاص شهادة، فقال خالد:
عمرو الذى نقل عنك إلى الخليفة ما تكلمت به.
ويروى أنه قال له هذا ما قال لك عمرو: سيأتيك فى حفش أمك. فقال له قرة: يا
أبا سليمان، إنى قد أجرته فأحسنت جواره، وأنا مسلم لم أرتد، فقال: لولا ما
تذكر لضربت عنقك، ولكن لا بد أن أبعث بك فى وثاق إلى أبى بكر فيرى فيك
رأيه، فلما فرغ من بيعة بنى عامر أوثق عيينة بن حصن، وقرة بن هبيرة، وبعث
بهما إلى أبى بكر الصديق.
قال ابن عباس: فقدم بهما المدينة فى وثاق، فنظرت إلى عيينة مجموعة يداه إلى
عنقه بحبل ينخسه غلمان المدينة بالجريد، ويضربونه، ويقولون: أى عدو الله،
أكفرت بالله بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما كنت آمنت بالله.
(2/107)
قالوا: ووقف عليه عبد الله بن مسعود، فقال:
خبت وخسرت، إنك لموضع فى الباطل قديما، فقال له عيينة: اقصر أيها الرجل،
فلولا ما أنا فيه لم تكلمنى بما تكلمنى به، فانصرف ابن مسعود، وأتى بقرة بن
هبيرة، فقال: يا خليفة رسول الله، والله ما كفرت، وسل عمرو بن العاص، فإن
لى عنده شهادة، لما أقبل من عمان خرجت فى مائة من قومى خفراء له، وقبل ذلك
ما أكرمت منزله، ونحرت له، فسأل أبو بكر رضى الله عنه، عمرا، فقال: نزلت
به، فلم أر للضيف خيرا منه، لم يترك، وخرج معى فى مائة من قومه؛ ثم ذكر
عمرو ما قال له قرة، فقال قرة: انزع يا عمرو، فقال عمرو: لو نزعت نزعت، فلم
يعاقبه أبو بكر، وعفا عنه، وكتب له أمانا، وقبل منه.
وكان فيمن ارتد من بنى عامر ولم يرجع معهم علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص
بن جعفر، فبعث أبو بكر إلى ابنته وامرأته ليأخذهما، فقالت امرأته: مالى
ولأبى بكر، إن كان علقمة قد كفر فإنى لم أكفر، فتركها، ثم راجع علقمة
الإسلام زمن عمر رضى الله عنه، فرد عليه زوجته.
وأخذ خالد بن الوليد من بنى عامر وغيرهم من أهل الردة ممن جامعهم وبايعه
على الإسلام كل ما ظهر من سلاحهم، واستحلفهم على ما غيبوا عنه، فإن حلفوا
تركهم، وإن أبوا شدهم أسرا حتى أتوا بما عندهم من السلاح، فأخذ منهم سلاحا
كثيرا، فأعطاه أقواما يحتاجون إليه فى قتال عدوهم، وكتبه عليهم، فلقوا به
العدو ثم ردوه بعد، فقدم به على أبى بكر، رضى الله عنه.
وحدث يزيد بن شريك الفزارى، عن أبيه، قال: قدمت مع أسد وغطفان على أبى بكر
وافدا حين فرغ خالد من بزاخة، وجعلت أسد وغطفان تسلل، فاجتمعوا عند أبى
بكر، فمنهم من بايع خالدا، ومنهم من لم يبايعه، فجاؤا إلى أبى بكر، فقال
أبو بكر:
اختاروا بين خصلتين: حرب مجلية أو سلم مخزية، قال خارجة بن حصن: هذه الحرب
المجلية قد عرفتها، فلما السلم المخزية؟.
قال: تقرون أن قتلانا فى الجنة، وأن قتلاكم فى النار، وأن تردوا علينا ما
أخذتم منا، ولا نرد عليكم مما أخذنا منكم شيئا، وأن تدوا قتلانا دية كل
قتيل مائة بعير، منها أربعون فى بطونها أولادها، ولا ندى قتلاكم، ونأخذ
منكم الحلقة والكراع، وتلحقون بأذناب الإبل حتى يرى الله خليفة نبيه
والمؤمنين ما شاء فيكم أو يرى منكم إقبالا إلى ما خرجتم منه. فقال خارجة بن
حصن: نعم يا خليفة رسول الله، قال أبو بكر: عليكم
(2/108)
عقد الله وميثاقه أن تقوموا بالقرآن آناء
الليل وآناء النهار، وتعلموه أولادكم ونساءكم، ولا تمنعوا فرائض الله فى
أموالكم، قالوا: نعم، فقال عمر: يا خليفة رسول الله، كل ما قلت كما قلت إلا
أن يدوا من قتلوا منا، فإنهم قوم قتلوا فى سبيل الله، واستشهدوا.
وفى رواية: فتتابع الناس على قول عمر، وقبض أبو بكر رضى الله عنه، كل ما
قدر عليه من الحلقة والكراع، فلما توفى، رأى عمر رضى الله عنه، أن الإسلام
قد ضرب بجرانه، فدفعه إلى أهله، أو إلى عصبة من مات منهم.
ولما فرغ خالد من بزاخة وبنى عامر ومن يليهم، أظهر أن أبا بكر عهد إليه أن
يسير إلى أرض بنى تميم وإلى اليمامة، فقال ثابت بن قيس بن شماس، وهو على
الأنصار، وخالد على جماعة المسلمين: ما عهد إلينا ذلك، وما نحن بسائرين،
وليست بنا قوة، وقد كلّ المسلمون، وعجف كراعهم. فقال خالد: أما أنا فلست
بمستكره أحدا منكم، فإن شئتم فسيروا، وإن شئتم فأقيموا، فسار خالد ومن تبعه
من المهاجرين وأبناء العرب، عامدا لأرض بنى تميم، واليمامة، وأقامت الأنصار
يوما أو يومين، ثم تلاومت فيما بينها، وقالوا: والله ما صنعنا شيئا، والله
لئن أصيب القوم ليتولن: أخذلتموهم وأسلمتموهم، وإنها لسبة باق عارها آخر
الدهر، ولئن أصابوا خيرا وفتح الله فتحا، إنه لخير منعتموه، فابعثوا إلى
خالد يقيم لكم حتى تلحقوه، فبعثوا إليه مسعود بن سنان، ويقال: ثعلبة بن
غنمة، فلما جاءه الخبر أقام حتى لحقوه، فاستقبلهم فى كثرة من معه من
المسلمين، لما أطلوا على العسكر حتى نزلوا، وساروا جميعا حتى انتهى خالد
بهم إلى البطاح من أرض بنى تميم، فلم يجد بها جمعا، ففرق السرايا فى
نواحيها، وكان فى سرية منها أبو قتادة الأنصارى.
قال: فلقينا رجل، فقلنا: ممن أنت؟ قال: من بنى حنظلة، فقلنا: أين من يمنع
الصدقة منا الآن؟ قال: هم بمكان كذا وكذا، فقلت: كم بيننا؟ قال: مائة،
فانطلقنا سراعا حتى أتيناهم حين طلعت الشمس، ففزعوا حين رأونا، وأخذوا
السلاح، وقالوا: من أنتم؟ قلنا:
نحن عباد الله المسلمون، قالوا: ونحن عباد الله المسلمون، وكانوا اثنى عشر
رجلا، فيهم مالك بن نويرة، قلنا: فضعوا السلاح واستسلموا، ففعلوا،
فأخذناهم، فجئنا بهم خالدا.
وذكر من خبرهم ما يأتى بعد إن شاء الله تعالى.
وكان مالك بن نويرة قد بعثه النبى صلى الله عليه وسلم، مصدقا إلى قومه بنى
حنظلة، وكان سيدهم، فجمع صدقاتهم، فلما بلغته وفاة النبى صلى الله عليه
وسلم، جفل إبل الصدقة، أى ردها من حيث
(2/109)
جاءت، فلذلك سمى الجفول، وجمع قومه، فقال:
إن هذا الرجل قد هلك، فإن قام قائم من قريش بعد نجتمع عليه جميعا، إن رضى
منكم أن تدخلوا فى أمره، ولم يطلب ما مضى من هذه الصدقة أبدا، ولم تكونوا
أعطيتم الناس أموالكم، فأنتم أولى بها وأحق، فتسارع إليه جمهور قومه وفرحوا
بذلك، فقام ابن قعنب، وكان سيد بنى يربوع، فقال:
يا بنى تميم، بئس ما ظننتم، أن ترجعوا فى صدقاتكم ولا يرجع الله فى نعمه
عليكم، وأن تجردوا للبلاء ويلبسكم الله العافية، وأن تستشعروا خوف الكفر،
وأن تسكنوا فى أمن الإسلام، إنكم أعطيتم قليلا من كثير، والله مذهب الكثير
بالقليل ومسلط على أموالكم غدا من لا يأخذها على الرضى ولا يخيركم فى
الصدقة، وإن منعتموها قتلتم، فأطيعوا الله واعصوا مالكا.
فقام مالك، فقال: يا معشر بنى تميم، إنما رددت عليكم أموالكم إكراما لكم،
وبقيا عليكم، وإنه لا يزال يقوم قائم منكم يخطئنى فى ردها عليكم ويخطئكم فى
أخذها، فما أغنانى عما يضرنى ولا ينفعكم، فو الله ما أنا بأحرصكم على
المال، ولا بأجزعكم من الموت، ولا بأخفاكم شخصا إن أقمت، ولا بأخفكم رحلة
إن هربت، فترضاه عند ذلك بنو حنظلة، وأسندوا إليه أمرهم، وقالوا: حربنا
حربك وسلمنا سلمك، فأخذوا أموالهم، وأبى الله إلا أن يتم أمره فيهم، وقال
فى ذلك مالك:
وقال رجال سدد اليوم مالك ... وقال رجال مالك لم يسدد
فقلت دعونى لا أبا لأبيكم ... فلم أخط رأيا فى المعاد ولا البد
وقلت خذوا أموالكم غير خائف ... ولا ناظر فيما يجىء به غد
فدونكموها إنها صدقاتكم ... مصررة أخلافها لم تحرد
سأجعل نفسى دون ما تحذرونه ... وأرهنكم يوما بما قلته يدى
فإن قام بالأمر المخوف قائم ... أطعنا وقلنا الدين دين محمد
ولما بلغ ذلك أبا بكر والمسلمين حنقوا على مالك، وعاهد الله خالد بن الوليد
لئن أخذه ليقتلنه، ثم ليجعلن هامته أثفية للقدر، فلما أتى به أسيرا فى نفر
من قومه، أخذوا معه كما تقدم.
اختلف فيه الذين أخذوهم، فقال بعضهم: قد والله أسلموا، فما لنا عليهم من
سبيل وفيمن شهد بذلك أبو قتادة الأنصارى، وكان معهم فى تلك السرية، وقالوا:
إنا قد أذنا فأذنوا، ثم أقمنا فأقاموا، ثم صلينا فصلوا.
(2/110)
وكان من عهد أبى بكر إلى خالد أن: أيما دار
غشيتموها فسمعتم الأذان فيها بالصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ماذا
نقموا وماذا يبغون، وأيما دار غشيتموها فلم تسمعوا فيها الأذان، فشنوا
عليها الغارة، فاقتلوا وحرقوا.
وشهد بعض من كان فى تلك السرية أنهم لم يسلموا، وأنهم لم يسمعوهم كبروا ولا
أذنوا، وأن قتلهم وسبيهم حلال، وكان ذلك رأى خالد فيهم.
قال أبو قتادة: فجئته فقلت: أقاتل أنت هؤلاء القوم؟ قال: نعم، قلت: والله
ما يحل لك قتلهم، ولقد اتقونا بالإسلام، فما عليهم من سبيل، ولا أتابعك على
قتلهم، فأمر بهم خالد فقتلوا.
قال أبو قتادة: فتسرعت حتى قدمت على أبى بكر، فأخبرته الخبر، وعظمت عليه
الشأن، فاشتد فى ذلك عمر، وقال: ارجم خالدا، فإنه قد استحل ذلك، فقال أبو
بكر:
والله لا أفعل، إن كان خالد تأول أمرا فأخطأه.
وذكر يعقوب بن محمد الزهرى والواقدى فى مقتل مالك بن نويرة روايات غير ما
تقدم، أستغنى عن إيرادها بما ذكر هنا. وفى بعض ذلك أن خالدا أمر برأسه فجعل
أثفية لقدر حسب ما تقدم من نذره ذلك، وكان من أكثر الناس شعرا، فكانت القدر
على رأسه، فراحوا وإن شعره ليدخن وما خلصت النار إلى شواة رأسه.
وعاتب أبو بكر خالدا لما قدم عليه فى قتل مالك بن نويرة مع ما شهد له به
أبو قتادة وغيره، فاعتذر إليه خالد، وزعم أنه سمع منه كلاما استحل به قتله،
فعذره أبو بكر وقبل منه.
ورثا متمم بن نويرة «1» أخاه مالكا بقصائد كثيرة منها قصيدته المشهورة
المتخيرة فى مراثى العرب التى يقول فيها «2» :
وكنا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا
فلما تفرقنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله، قال لمتمم بن نويرة: لوددت أنى رثيت أخى
زيدا بمثل ما رثيت به مالكا أخاك، وكان زيد أصيب يوم اليمامة، فقال له
متمم: يا أبا
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2541) ، الإصابة الترجمة رقم
(7733) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4666) .
(2) انظر الأبيات فى ديوانه ص (11) .
(2/111)
حفص، والله لو علمت أن أخى صار حيث صار
أخوك ما رثيته، فقال عمر: ما عزانى أحد عن أخى بمثل تعزيته.
قصة مسيلمة الكذاب وردة أهل اليمامة «1»
عن رافع بن خديج قال: قدمت على النبى صلى الله عليه وسلم، وفود العرب، فلم
يقدم علينا وفد أقسى قلوبا ولا أحرى أن يكون الإسلام لم يقر فى قلوبهم من
بنى حنيفة.
وقد تقدم ذكر قدوم مسيلمة فى قومه، وأنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال: «أما أنه ليس بشركم مكانا، لما كانوا أخبروه به من أنهم تركوه
فى رحالهم حافظا لها» «2» .
ويروى من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر له مسيلمة،
قال عندما قدم فى قومه: لو جعل لى محمد الخلافة من بعده لاتبعته، فجاءه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، معه ثابت بن قيس بن شماس، وفى يد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ميتخة من نخل فوقف عليه، ثم قال: «لئن أقبلت ليفعلن
الله بك، ولئن أدبرت ليقطعن الله دابرك، وما أراك إلا الذى رأيت فيه ما
رأيت، ولئن سألتنى هذه الشظية، لشظية من الميتخة التى فى يده، ما أعطيتكها،
وهذا ثابت يجيبك» .
قال ابن عباس: فسألت أبا هريرة عن قول النبى صلى الله عليه وسلم: ما أراك
إلا الذى رأيت فيه ما رأيت، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
«بينا أنا نائم، رأيت فى يدى سوارين من ذهب، فنفختهما فطارا، فوقع أحدهما
باليمامة، والآخر باليمن، قيل: ما أولتهما يا رسول الله؟
قال: أولتهما كذابين يخرجان من بعدى» «3» .
ولما انصرف فى قومه إلى اليمامة، ارتد عدو الله، وادعى الشركة فى النبوة مع
النبى صلى الله عليه وسلم، وقال للوفد الذين كانوا معه: «ألم يقل لكم حين
ذكرتمونى له: أما أنه ليس بشركم مكانا، ما ذاك إلا لما علم أنى أشركت فى
الأمر معه» ، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله
إلى محمد رسول الله، أما بعد، فإنى قد أشركت فى الأمر معك، وإن لنا نصف
الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون.
__________
(1) راجع: المنتظم (4/ 79- 83) ، تاريخ الطبرى (3/ 280- 281) .
(2) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 691) ، الطبقات الكبرى لابن
سعد (1/ 317) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 217، 9/ 52) ، مسند الإمام أحمد (1/
263) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 50) ، فتح البارى لابن حجر (12/
420) .
(2/112)
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
بهذا الكتاب رسولان لمسيلمة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
قرآ كتابه: «فما تقولان أنتما؟» قالا: نقول كما قال، فقال: «أما والله لولا
أن الرسل ما تقتل لضربت أعناقكما» ، ثم كتب إلى مسيلمة: «بسم الله الرحمن
الرحيم، من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فإن الأرض لله
يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين «1» » .
قال ابن إسحاق: وكان ذلك فى آخر سنة عشر، وذكر غيره أن ذلك كان بعد انصراف
النبى صلى الله عليه وسلم، من حجة الوداع، ووقوعه فى المرض الذى توفاه الله
فيه، فالله تعالى أعلم.
وجد بعدو الله ضلاله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصفقت معه
حنيفة على ذلك، إلا أفدادا من ذوى عقولهم، ومن أراد الله به الخير منهم،
وكان من أعظم ما فتن به قومه شهادة الرجال بن عنفوة له بإشراك النبى صلى
الله عليه وسلم، إياه فى الأمر، وكان من قصة الرجال أنه قدم مع قومه وافدا
على النبى صلى الله عليه وسلم، فقرأ القرآن وتعلم السنن.
قال ابن عمر: وكان من أفضل الوفد عندنا، قرأ البقرة وآل عمران، وكان يأتى
أبيا يقرئه فقدم اليمامة، وشهد لمسيلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
أنه أشركه فى الأمر من بعده، فكان أعظم أهل اليمامة فتنة من غيره، لما كان
يعرف به.
وقال رافع بن خديج: كان بالرجال من الخشوع ولزوم قراءة القرآن والخير فيما
نرى شىء عجيب، خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوما وهو معنا جالس
مع نفر، فقال: «أحد هؤلاء النفر فى النار» «2» . قال رافع: فنظرت فى اليوم،
فإذا بأبى هريرة وأبى أروى الدوسى وطفيل بن عمرو الدوسى، والرجال بن عنفوة،
فجعلت أنظر وأعجب، وأقول:
من هذا الشقى؟ فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجعت بنو حنيفة،
فسألت: ما فعل الرجال؟
قالوا: افتتن، هو الذى شهد لمسيلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه
أشركه فى الأمر من بعده، فقلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو
حق.
قالوا: وسمع الرجال يقول: كبشان انتطحا، فأحبهما إلينا كبشنا. وكان ابن
عمير اليشكرى من سراة أهل اليمامة وأشرافهم، وكان مسلما يكتم إسلامه، وكان
صديقا
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (6/ 384) ، مسند أبى حنيفة
(180) .
(2) انظر الحديث فى: معجم الطبرانى الكبير (4/ 338) ، إتحاف السادة المتقين
للزبيدى (7/ 181) ، مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 290) .
(2/113)
للرجال، فقال شعرا فشا فى اليمامة حتى كانت
المرأة والوليدة والصبى ينشدونه، فقال:
يا سعاد الفؤاد بنت أثال ... طال ليلى بفتنة الرجال
إنها يا سعاد من حديث الده ... ر عليكم كفتنة الرجال
فتن القوم بالشهادة والل ... هـ عزيز ذو قوة ومحال
لا يساوى الذى يقول من الأم ... ر قبالا وما احتذى من قبال
إن دينى دين النبى وفى القو ... م رجال على الهدى أمثالى
أهلك القوم محكم بن طفيل ... ورجال ليسوا لنا برجال
بزهم أمرهم مسيلمة اليو ... م فلن يرجعوه أخرى الليالى
قلت للنفس إذ تعاظمها الصب ... ر وساءت مقالة الأقوال
ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
إن تكن ميتتى على فطرة الل ... هـ حنيفا فإننى لا أبالى
فبلغ ذلك مسيلمة، ومحكما، وأشراف أهل اليمامة، فطلبوه، ففاتهم، ولحق بخالد
بن الوليد، فأخبره بحال أهل اليمامة، ودله على عوراتهم، وقالوا: إن رجلا من
بنى حنيفة كان أسلم، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحسن إسلامه،
فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى مسيلمة ليقدم به عليه، وقال
الحنفى: إن أجاب أحدا من الناس أجابنى، وعسى أن يجيبه الله، فخرج حتى أتاه،
فقال: إن محمدا قد أحب أن تقدم عليه، فإنك لو جئته لم يفارقك إلا عن رضى،
ورفق له، وجعل يأتيه خاليا، فيلقى هذا القول إليه، فلما أكثر عليه قال:
انظر فى ذلك، فشاور الرجال بن عنفوة وأصحابه، فقالوا: لا تفعل، إن قدمت
عليه قتلك، ألم تسمع كلامه وما قال.
فأبى مسيلمة أن يقدم معه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث معه رجلين
ممن يصدق به ليكلماه ويخبراه بما قال الحنفى، فخرج الرسولان حتى قدما على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع رسوله، فتشهد أحدهما برسول الله وحده، ثم
كلمه بما بدا له، فلما قضى كلامه تشهد الآخر، فذكر رسول الله وذكر مسيلمة،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبت، خذوا هذا فاقتلوه» ، فثار
المسلمون إليه يلببونه، وأخذ صاحبه بحجزه وجعل يقول: يا رسول الله، اعف
عنه، بأبى أنت وأمى، فيجاذبه إياه المسلمون، فلما أرسلوه تشهد بذكر رسول
الله، صلى الله عليه وسلم وحده، وأسلم هو وصاحبه، فلما توفى رسول الله صلى
الله عليه وسلم خرجا فقدما على أهليهما باليمامة، وقد فتن الذى أمسك بحجزة
صاحبه ذلك، فقتل مع مسيلمة، وثبت المسمك بحجزته، وكان بعد يخبر خالد بن
الوليد بعورة بنى حنيفة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسوله
(2/114)
إلى مسيلمة كيف رفق به حتى أراد أن يقدم
لولا أن الرجال نهاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يقتله الله، ويقتل الرجال معه، ففعل الله ذلك بهما، وأنجز وعده فيهما.
واستضاف مسيلمة إلى ضلاله فى دين الله وتكذبه على الله ضلالة سجاح، وكانت
امرأة من بنى تميم، أجمع قومها أنها نبية، فادعت الوحى، واتخذت مؤذنا
وحاجبا ومنبرا، فكانت العشيرة إذا اجتمعت تقول: الملك فى أقربنا من سجاح،
وفيها يقول عطارد بن حاجب بن زرارة:
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
ثم إن سجاح رحلت تريد حرب مسيلمة، وأخرجت معها من قومها من تابعها على
قولها وهم يرون أن سجاح أولى بالنبوة من مسيلمة، فلما قدمت عليه خلا بها،
وقال لها: تعالى نتدارس النبوة، أينا أحق؟ فقالت سجاح: قد أنصفت، وفى الخبر
بعد هذا من قوله ما يحق الإعراض عن ذكره.
وقد قيل إن سجاح إنما توجهت إلى مسيلمة مستجيرة به لما وطئ خالد العرب ورأت
أنه لا أحد أعز لها منه، وقد كانت أمرت مؤذنها شبت بن ربعى أن يؤذن بنبوة
مسيلمة، فكان يفعل، فلما قدمت على مسيلمة قالت: اخترتك على من سواك ونوهت
باسمك، حتى إن مؤذنى ليؤذن بنبوتك، فخلا بها ليتدارسا النبوة.
ولما قتل مسيلمة، أخذ خالد بن الوليد سجاح، فأسلمت ورجعت إلى ما كانت عليه،
ولحقت بقومها.
وعظمت فتنة بنى حنيفة بكذابهم هذا حتى كان يدعو لمريضهم ويبرك على مولودهم،
ولا ينهاهم عن اغترارهم به ما يشاهدون من قلة غنائه عنهم. جاءه قوم بمولود،
فمسح رأسه فقرع وقرع كل مولود له، وجاءه آخر، فقال: يا أبا ثمامة، إنى ذو
مال، وليس لى مولود يبلغ سنتين حتى يموت غير هذا المولود، وهو ابن عشر
سنين، ولى مولود ولد أمس، فأحب أن تبارك فيه وتدعو أن يطيل الله عمره،
فقال: سأطلب لك الذى طلبت، فجعل عمر المولود أربعين سنة، فرجع الرجل إلى
منزله مسرورا، فوجد الأكبر قد تردى فى بئر، ووجد الصغير ينزع فى الموت، فلم
يمس من ذلك اليوم حتى ماتا جميعا، تقول أمهما: فلا والله ما لأبى ثمامة عند
إلهه مثل منزلة محمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وحفرت بنو حنيفة بئرا، فأعذبوها نتاحا، فجاؤا إلى مسيلمة، فطلبوا
إليه أن يأتيها، وأن يبارك فيها، فأتاها، فبصق فيها، فعادت أجاجا.
(2/115)
وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه، قد عاهد
خالدا إذا فرغ من أسد وغطفان والضاحية أن يقصد اليمامة، وأكد عليه فى ذلك،
فلما أظفر الله خالدا بأولئك تسلل بعضهم إلى المدينة يسألون أبا بكر أن
يبايعهم على الإسلام ويؤمنهم، فقال لهم: بيعتى إياكم وأمانى لكم أن تلحقوا
بخالد بن الوليد ومن معه من المسلمين، فمن كتب إلى خالد بأنه حضر معه
اليمامة فهو آمن، فليبلغ شاهدكم غائبكم، ولا تقدموا على، اجعلوا وجوهكم إلى
خالد.
قال أبو بكر بن أبى الجهم: أولئك الذين لحقوا خالد بن الوليد من الضاحية
الذين كانوا انهزموا بالمسلمين يوم اليمامة ثلاث مرات، وكانوا على المسلمين
بلاء.
وقال شريك الفزارى: كنت ممن حضر بزاخة مع عيينة بن حصن، فرزق الله الإنابة،
فجئت أبا بكر، فأمرنى بالمسير إلى خالد، وكتب معى إليه: أما بعد، فقد جاءنى
كتابك مع رسولك تذكر ما أظفرك الله بأهل بزاخة، وما فعلت بأسد وغطفان، وإنك
سائر إلى اليمامة، وذلك عهدى إليك، فاتق الله وحده لا شريك له، وعليك
بالرفق بمن معك من المسلمين، كن لهم كالوالد، وإياك يا خالد بن الوليد
ونخوة بنى المغيرة، فإنى قد عصيت فيك من لم أعصه فى شىء قط، فانظر بنى
حنيفة إذا لقيتهم إن شاء الله، فإنك لم تلق قوما يشبهون بنى حنيفة كلهم
عليك، ولهم بلاد واسعة، فإذا قدمت فباشر الأمر بنفسك، واجعل على ميمنتك
رجلا وعلى ميسرتك رجلا، واجعل على خيلك رجلا، واستشر من معك من الأكابر من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار، واعرف لهم
فضلهم، فإذا لقيت القوم وهم على صفوفهم، فالقهم إن شاء الله وقد أعددت
للأمور أقرانها، فالسهم للسهم، والرمح للرمح، والسيف للسيف، فإذا صرت إلى
السيف فهو الثكل، فإن أظفرك الله بهم فإياك والإبقاء عليهم، اجهز على
جريحهم، واطلب مدبرهم، واحمل أسيرهم على السيف، وهول فيهم القتل، واحرقهم
بالنار، وإياك أن تخالف أمرى، والسلام عليك.
فلما انتهى الكتاب إلى خالد اقترأه، وقال: سمع وطاعة.
ولما اتصل بأهل اليمامة مسير خالد إليهم بعد الذى صنع الله له فى أمثالهم
حيرهم ذلك وجزع له محكم بن الطفيل سيدهم، وهم أن يرجع إلى الإسلام، فبات
يتلوى على فراشه، وهو يقول:
أرى الركبان تخبر ما كرهنا ... أكل الركب يكذب ما يقول
(2/116)
ألا لا ليس كلهم كذوبا ... وقد كذبوا
وكذبهم قليل
وقد صدقوا لهم منا ومنهم ... لنا إن حاربوا يوم طويل
فقل لابن الوليد وللمنايا ... على السراء والضراء دليل
أيقطع بيننا حبلا وصال ... فليس إليهما أبدا سبيل
وما فى الحرب أعظم من جريح ... وعان خر بينهما قتيل
فلما سمع القوم كلامه، عرفوا أنه ثابت على ضلالته معهم، وفرح بذلك منه
مسيلمة، وكان محكم سيد أهل اليمامة، وكان صديقا لزياد بن لبيد بن بياضة من
الأنصار، فقال له خالد فى بعض الطريق: لو ألقيت إلى محكم شيئا تكسره به،
فإنه سيد أهل اليمامة، وطاعة القوم له، فبعث إليه مع راكب، ويقال: بل بعث
بها إليه حسان بن ثابت من المدينة:
يا محكم بن طفيل قد أتيح لكم ... لله در أبيكم حية الوادى
يا محكم بن طفيل إنكم نفر ... كالشاء أسلمها الراعى لآساد
ما فى مسيلمة الكذاب من عوض ... من دار قوم وإخوان وأولاد
فاكفف حنيفة عنه قبل نائحة ... تنعى فوارس شاخ شجوها بادى
لا تأمنوا خالدا بالبرد معتجرا ... تحت العجاجة مثل الأغضف العاد
ويل اليمامة ويلا لا فراق له ... إن جالت الخيل فيها بالقنا الصاد
والله لا تنثنى عنكم أعنتها ... حتى تكونوا كأهل الحجر أو عاد
ووردت على محكم، وقيل له: هذا خالد بن الوليد فى المسلمين، فقال: رضى خالد
أمرا ورضينا غيره، وما ينكر خالد أن يكون فى بنى حنيفة من قد أشرك فى
الأمر، فسيرى خالد إن قدم علينا يلق قوما ليسوا كمن لقى، ثم خطب أهل
اليمامة فقال: يا معشر أهل اليمامة إنكم تلقون قوما يبذلون أنفسهم دون
صاحبهم، فابذلوا أنفسكم دون صاحبكم، فإن أسدا وغطفان إنما أشار إليهم خالد
بذباب السيف، فكانوا كالنعام الشارد، وقد أظهر خالد بن الوليد بأوا حيث
أوقع ببزاخة ما أوقع، وقال: هل حنيفة إلا كمن لقينا.
وكان عمير بن ضابئ اليشكرى فى أصحاب خالد، وكان من سادات اليمامة، ولم يكن
من أهل حجر، كان من أهل ملمم، وهى لبنى يشكر، فقال له خالد: تقدم إلى قومك،
فاكسرهم، فأتاهم، ولم يكونوا علموا بإسلامه، وكان مجتهدا فارسا سيدا، فقال:
يا معشر أهل اليمامة، أظلكم خالد فى المهاجرين والأنصار، تركت القوم
يتتابعون
(2/117)
إلى فتح اليمامة، قد قضوا وطرا من أسد
وغطفان وعليا وهوازن، وأنتم فى أكفهم، وقولهم: لا قوة إلا بالله، إنى رأيت
أقواما إن غلبتموهم بالصبر غلبوكم بالنصر، وإن غلبتموهم على الحياة غلبوكم
على الموت، وإن غلبتموهم بالعدد غلبوكم بالمدد، لستم والقوم سواء، الإسلام
مقبل، والشرك مدبر، وصاحبهم نبى، وصاحبكم كذاب، ومعهم السرور، ومعكم
الغرور، فالآن والسيف فى غمده والنبل فى جفيره قبل أن يسل السيف ويرمى
بالسهم سرت إليكم مع القوم عشرا.
فكذبوه واتهموه، فرجع عنهم، وقام ثمامة بن أثال الحنفى «1» فى بنى حنيفة،
فقال:
اسمعوا منى وأطيعوا أمرى ترشدوا، إنه لا يجتمع نبيان بأمر واحد، وإن محمدا
صلى الله عليه وسلم، لا نبى بعده، ولا نبى مرسل معه، ثم قرأ: بسم الله
الرحمن الرحيم: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر: 1، 3] .
هذا كلام الله عز وجل، أين هذا من: يا ضفدع نقى كم تنقين، لا الشرب تمنعين،
ولا الماء تكدرين، والله إنكم لترون أن هذا الكلام ما يخرج من إل، وقد
استحق محمد صلى الله عليه وسلم، أمرا أذكره به، مر بى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وأنا على دين قومى، فأردت قتله، فحال بينى وبينه عمير، وكان
موفقا، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، دمى، ثم خرجت معتمرا، فبينا
أنا أسير قد أظللت على المدينة أخذتنى رسله فى غير عهد ولا ذمة، فعفا عن
دمى وأسلمت، فأذن لى فى الخروج إلى بيت الله، وقلت: يا رسول الله، إن بنى
قشير قتلوا أثالا فى الجاهلية، فأذن لى أغزهم، فغزوتهم، وبعثت إليه بالخمس،
فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بهذا الأمر من بعده رجل هو
أفقههم فى أنفسهم، لا تأخذه فى الله لومة لائم، ثم بعث إليكم رجلا لا يسمى
باسمه ولا اسم أبيه، يقال له: سيف الله، معه سيوف لله كثيرة، فانظروا فى
أمركم «2» ، فآذاه القوم جميعا، أو من آذاه منهم، فقال ثمامة:
مسيلمة ارجع ولا تمحك ... فإنك فى الأمر لم تشرك
كذبت على الله فى وحيه ... فكان هواك هوى الأنوك
ومناك قومك أن يمنعوك ... وإن يأتهم خالد تترك
فما لك من مصعد فى السماء ... ولا لك فى الأرض من مسلك
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (282) ، الإصابة الترجمة رقم
(963) ، الوافى بالوفيات (11/ 219) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 69) .
(2) راجع ما ذكره ابن عبد البر فى الاستيعاب فى قصة ثمامة الترجمة رقم
(282) .
(2/118)
ذكر تقديم خالد بن الوليد الطلائع أمامه من
البطاح «1»
قالوا: ولما سار خالد بن الوليد من البطاح، ووقع فى أرض بنى تميم، قدم
أمامه مائتى فارس عليهم معن بن عدى العجلانى، وبعث معه فرات بن حيان العجلى
دليلا، وقدم عينين له أمامه، مكنف بن زيد الخيل الطائى، وأخاه.
وذكر الواقدى: أن خالدا لما نزل العارض، قدم مائتى فارس، وقال: من أصبتم من
الناس فخذوه، فانطلقوا حتى أخذوا مجاعة بن مرارة الحنفى فى ثلاثة وعشرين
رجلا من قومه قد خرجوا فى طلب رجل من بنى نمير أصاب فيهم دما، فخرجوا وهم
لا يشعرون بمقبل خالد، فسألوهم: ممن أنتم؟ قالوا: من بنى حنيفة، فظن
المسلمون أنهم رسل من مسيلمة إلى خالد، فلما أصبحوا وتلاحق الناس، جاؤا بهم
إلى خالد، فلما رآهم ظن أيضا، أنهم رسل من مسيلمة، فقال: ما تقولون يا بنى
حنيفة فى صاحبكم؟ فشهدوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لمجاعة:
ما تقول أنت؟ فقال: والله ما خرجت إلا فى طلب رجل من بنى نمير أصاب فينا
دما، وما كنت أقرب مسيلمة، ولقد قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأسلمت، وما غيرت ولا بدلت، فقدم القوم، فضرب أعناقهم على دم واحد، حتى إذا
بقى سارية بن مسيلمة بن عامر قال: يا خالد، إن كنت تريد بأهل اليمامة خيرا
أو شرا فاستبق هذا، يعنى مجاعة «2» ، فإنه لك عون على حربك وسلمك.
وكان مجاعة شريفا، فلم يقتله، وأعجب بسارية وكلامه، فتركه أيضا، وأمر بهما
فأوثقا فى جوامع حديد، وكان يدعو مجاعة وهو كذلك فيتحدث معه، ومجاعة يظن أن
خالدا يقتله، فبينما هما يتحدثان، قال له: يا ابن المغيرة، إن لى إسلاما،
والله ما كفرت، ولقد قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت من عنده
مسلما، وما خرجت لقتال، وأعاد ذكر خروجه فى طلب النميرى، فقال خالد: إن بين
القتل والترك منزلة، وهى الحبس حتى يقضى الله فى حربنا ما هو قاض، ودفعه
إلى أم متمم امرأته التى تزوجها لما قتل زوجها مالك بن نويرة وأمرها أن
تحسن إساره، فظن مجاعة أن خالدا يريد حبسه لأن يشير عليه ويخبره عن عدوه،
فقال: يا خالد، إنه من خاف يومك خاف غدك، ومن
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 78- 79) ، تاريخ الطبرى (3/ 276) ،
الأغانى (15/ 229- 302) .
(2) هو: مجاعة بن مرارة اليمامى. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم
(2545) ، الإصابة الترجمة رقم (7738) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4971) ،
تهذيب الكمال (3/ 1304) ، تقريب التهذيب (2/ 229) ، تجريد أسماء الصحابة
(2/ 51) .
(2/119)
رجاك رجاهما، ولقد خفتك ورجوتك، ولقد علمت
أنى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايعته على الإسلام، ثم رجعت
إلى قومى، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يكن كذاب خرج فينا، فإن
الله يقول: لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر: 18] .
وقد عجلت فى قتل أصحابى قبل التأنى بهم، والخطأ مع العجلة، فقال خالد: يا
مجاعة، تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب، وسكوتك عنه
وأنت أعز أهل اليمامة، وقد بلغك مسيرى، إقرارا له، ورضى بما جاء به، فهلا
أبليت عذرا، فتكلمت فيمن تكلم، فقد تكلم ثمامة بن أثال فرد وأنكر، وقد تكلم
اليشكرى، فإن قلت أخاف قومى، فهلا عمدت إلىّ تريد لقائى، أو كتبت إلىّ
كتابا أو بعثت إلىّ رسولا، وأنت تعلم أنى قد أوقعت بأهل بزاخة، وزحفت
بالجيوش إليك. فقال مجاعة: إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله
فعلت. فقال خالد: قد عفوت عن دمك، ولكن فى نفسى من تركك حوجا بعد، فقال
مجاعة: أما إذا عفوت عن دمى فلا أبالى.
وكان خالد كلما نزل منزلا واستقر به دعا مجاعة فأكل معه وحدثه، فقال له ذات
يوم: أخبرنى عن صاحبك يعنى مسيلمة، ما الذى يقرأ عليكم؟ هل تحفظ منه شيئا؟
قال:
نعم، فذكر له شيئا من رجزه، قال خالد وضرب بإحدى يديه على الأخرى: يا معشر
المسلمين، اسمعوا إلى عدو الله كيف يعارض القرآن، ثم قال: ويحك يا مجاعة،
أراك رجلا سيدا عاقلا، اسمع إلى كتاب الله عز وجل، ثم انظر كيف عارضه عدو
الله، فقرأ عليه خالد: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، فقال مجاعة: أما
إن رجلا من أهل البحرين كان يكتب، أدناه مسيلمة وقربه حتى لم يكن يعد له فى
القرب عنده أحد، فكان يخرج إلينا فيقول: يا أهل اليمامة، صاحبكم والله
كذاب، وما أظنكم تتهموننى عليه، إنكم لترون منزلتى عنده، وحالى، هو والله
يكذبكم ويأتيكم بالباطل.
قال خالد: فما فعل ذلك البحرانى؟ قال: هرب منه، كان لا يزال يقول هذا القول
حتى بلغه، فخافه على نفسه، فهرب، فلحق بالبحرين، قال خالد: فما كان فى هذا
ناه ولا زاجر، ثم قال: هات زدنا من كذب الخبيث، فقال مجاعة: أخرج لكم حنطة
وزؤانا، ورطبا وتمرانا، فى رجز له، فقال خالد: وهذا كان عندكم حقا؟ وكنتم
تصدقونه؟ قال مجاعة: لو لم يكن عندنا حقا لما لقيتك غدا أكثر من عشرة آلاف
سيف يضاربونك فيه حتى يموت الأعجل، قال خالد: إذا يكفيناهم الله ويعز دينه،
فإياه تقاتلون ودينه تريدون.
(2/120)
وفى كتاب الأموى: ثم مضى خالد حتى نزل
منزله من اليمامة، ببعض أوديتها، وخرج الناس مع مسيلمة.
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: لما أشرف خالد بن الوليد وأجمع أن
ينزل عقرباء «1» ، دفع الطلائع أمامه، فرجعوا إليه، فخبروه أن مسيلمة ومن
معه قد خرجوا فنزلوا عقرباء، فشاور أصحابه أن يمضى إلى اليمامة، أو ينتهى
إلى عقرباء، فأجمعوا له أن ينتهى إلى عقرباء، فزحف خالد بالمسلمين حتى
نزلوا عقرباء، وضرب عسكره.
وقد قيل: إن خالدا هو الذى سبق إلى عقرباء، فضرب عسكره ثم جاء مسيلمة فضرب
عسكره «2» . ويقال: توافيا إليها جميعا.
قالوا: وكان المسلمون يسألون عن الرجال بن عنفوة، فإذا الرجال على مقدمة
مسيلمة، فلعنوه وشتموه، فلما فرغ خالد من ضرب عسكره، وحنيفة تسوى صفوفها،
نهض خالد إلى صفوفه فصفها، وقدم رايته مع زيد بن الخطاب، ودفع راية الأنصار
إلى ثابت بن قيس بن شماس، فتقدم بها، وجعل على ميمنته أبا حذيفة بن عتبة بن
ربيعة، وعلى ميسرته شجاع بن وهب، واستعمل على الخيل البراء بن مالك، ثم
عزله واستعمل عليها أسامة بن زيد، وأمر بسرير فوضع فى فسطاطه، واضطجع عليه
يتحدث مع مجاعة، ومعه أم متمم وأشراف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
يتحدث معهم، وأقبلت بنو حنيفة قد سلت السيوف، فلم تزل مسللة وهم يسيرون
نهارا طويلا، فقال خالد: يا معشر المسلمين، أبشروا، فقد كفاكم الله عدوكم،
ما سلوا السيوف من بعيد إلا ليرهبونا، وإن هذا منهم لجبن وفشل، فقال مجاعة
ونظر إليهم: كلا والله يا أبا سليمان، ولكنها الهندوانية، خشوا من تحطمها،
وهى غداة باردة، فأبرزوها للشمس لأن تسخن متونها.
فلما دنوا من المسلمين نادوا: إنا نعتذر من سلنا سيوفنا حين سللناها، والله
ما سللناها ترهيبا لكم ولا جبنا عنكم، ولكنها كانت الهندوانية، وكانت غداة
باردة، فخشينا تحطمها، فأردنا أن تسخن متونها إلى أن نلقاكم، فسترون.
قال: فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان جميعا صبرا طويلا، حتى كثرت
القتلى والجراح فى الفريقين، وكان أول قتيل من المسلمين مالك بن أوس من بنى
زعوراء، قتله
__________
(1) عقرباء: موضع بناحية اليمامة. انظر: الروض المعطار (419- 420) وذكر فيه
هذا الخبر.
(2) قال فى الفتوح (1/ 31) : سار خالد بن الوليد بالمسلمين حتى نزل بموضع
يقال له: عقرباء من أرض اليمامة، فضرب عسكره هناك، وسار مسيلمة فى جميع بنى
حنيفة حتى نزل حذاء خالد.
(2/121)
محكم بن الطفيل، واستلحم من المسلمين حملة
القرآن حتى فنوا إلا قليلا، وهزم كلا الفريقين حتى دخل المسلمون عسكر
المشركين، والمشركون عسكر المسلمين مرارا، وإذا أجلى المسلمون عن عسكرهم
فدخل المشركون أرادوا حمل مجاعة، فلا يستطيعون لما هو فيه من الحديد، ولأنه
لا تزال تناوشهم خيل المسلمين، فإذا رجع المسلمون وثبوا على مجاعة ليقتلوه،
وقالوا: اقتلوا عدو الله، فإنه رأسهم، وأنهم إن دخلوا عليه أخرجوه، فإذا
أشهروا عليه سيوفهم ليقتلوه، حنت عليه أم متمم امرأة خالد وردتهم عنه،
وقالت: إنى له جار، حتى أجارته منهم، وكان مجاعة أيضا، قد أجارها من
المشركين مرارا أن يقتلوها على هذا الوجه.
وقد كان مجاعة قال لها لما دفعه إليها خالد لتحسن إساره: يا أم متمم، هل لك
أن أحلفك، إن غلب أصحابى كنت لك جارا، وأنت كذلك؟ فقالت: نعم، فتحالفا على
ذلك.
وقال عكرمة: حملت حنيفة أول مرة كانت لها الحملة، وخالد على سريره حتى خلص
إليه، فجرد سيفه وجعل يسوق حنيفة سوقا، حتى ردهم، وقتل منهم قتلى كثيرة، ثم
كرت حنيفة حتى انتهوا إلى فسطاط خالد، فجعلوا يضربون الفسطاط بالسيوف.
قال الواقدى: وبلغنا أن رجلا منهم لما دخلوا الفسطاط، أراد قتل أم متمم،
ورفع السيف عليها، فاستجارت بمجاعة، فألقى عليها رداءه، وقال: إنى جار لها
فنعمت الحرة كانت، وعيرهم وسبهم «1» ، وقال: تركتم الرجال وجئتم إلى امرأة
تقتلونها، عليكم بالرجال، فانصرفوا، وجعل ثابت بن قيس يومئذ يقول، وكانت
معه راية الأنصار: بئس ما عودتم أنفسكم الفرار يا معشر المسلمين.
وقد انكشف المسلمون حتى غلبت حنيفة على الرحال، فجعل زيد بن الخطاب ينادى،
وكانت عنده راية خالد: أما الرحال فلا رحال، وأما الرجال فلا رجال، اللهم
إنى اعتذر إليك من فرار أصحابى، وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة، ومحكم بن
طفيل، وجعل يشتد بالراية، يتقدم بها فى نحر العدو، ثم ضارب بسيفه حتى قتل،
رحمه الله، فلما قتل وقعت الراية، فأخذها سالم مولى أبى حذيفة، فقال
المسلمون: يا سالم، إنا نخاف أن نؤتى من قبلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا
إذا إن أتيتم من قبلى.
قالوا: ونادت الأنصار ثابت بن قيس وهو يحمل رايتهم: الزمها، فإنما ملاك
القوم الراية.
__________
(1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 81) .
(2/122)
فتقدم سالم مولى أبى حذيفة، فحفر لرجليه
حتى بلغ أنصاف ساقيه، ومعه راية المهاجرين، وحفر ثابت لنفسه مثل ذلك «1» ،
ثم لزما رايتيهما، ولقد كان الناس يتفرقون فى كل وجه، وإن سالما وثابتا
لقائمان برايتيهما، حتى قتل سالم وقتل أبو حذيفة مولاه، رحمهما الله تعالى،
فوجد رأس أبى حذيفة عند رجلى سالم، ورأس سالم عند رجلى أبى حذيفة، لقرب
مصرع كل واحد منهما من صاحبه، فلما قتل سالم، مكثت الراية ساعة لا يرفعها
أحد، فأقبل يزيد بن قيس، وكان بدريا، فحملها حتى قتل رحمه الله، ثم حملها
الحكم بن سعيد بن العاص، فقاتل دونها نهارا طويلا، ثم قتل رحمه الله.
قال وحشى «2» : اقتتلنا قتالا شديدا، فهزموا المسلمين ثلاث مرات، وكر
المسلمون فى الرابعة، وتاب الله عليهم، وثبت أقدامهم، وصبروا لوقع السيوف،
واختلفت بينهم وبين بنى حنيفة السيوف، حتى رأيت شهب النار تخرج من خلالها،
حتى سمعت لها أصواتا كالأجراس، وأنزل الله تعالى، علينا نصره، وهزم الله
بنى حنيفة، وقتل الله مسيلمة.
قال: ولقد ضربت بسيفى يومئذ حتى غرى قائمه فى كفى من دمائهم.
وقال ابن عمر: لقد رأيت عمارا على صخرة قد أشرف، يصيح: يا معشر المسلمين،
أمن الجنة تفرون، أنا عمار بن ياسر، هلموا إلىّ، وأنا أنظر إلى أذنه تذبذب
وقد قطعت.
وقال سعد القرظ: لقد رأيته يومئذ يقاتل قتال عشرة.
وقال شريك الفزارى: لما التقينا والقوم، صبر الفريقان صبرا لم أر مثله قط،
ما تزول الأقدام فترى، واختلفت السيوف بينهم، وجعل يقبل أهل السوابق
والنيات فيتقدمون، فيقتلون، حتى فنوا، وذلقت فينا سيوفهم طويلا، فانهزمنا،
فلقد أحصيت لنا ثلاث انهزامات، وما أحصيت لحنيفة إلا انهزامة واحدة، التى
ألجأناهم فيها إلى الحديقة، يعنى حديقة الموت.
__________
(1) قال ابن عبد البر فى الاستيعاب فى ترجمة ثابت رقم (253) : لما كان يوم
اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت
وسالم مولى أبى حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ثم حفر كل واحد منهما له حفرة، فثبتا وقاتلا حتى قتلا.
(2) هو وحشى بن حرب الحبشى، انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2768)
، الإصابة الترجمة رقم (9129) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5449) ، الثقات
(3/ 430) ، الاستبصار (81) ، الإكمال (7/ 90) ، العقد الثمين (7/ 385) ،
مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (356) ، تاريخ الثقات (464) ، الأنساب
لابن السمعانى (11/ 111، 112) .
(2/123)
وقال رافع بن خديج «1» : شهدنا اليمامة،
فكنا تسعين من النبيت، فلاقينا عدوا صبرا لوقع السلاح، وجماعة الناس أربعة
آلاف، وحنيفة مثل ذلك أو نحوه، فلما التقينا أذن الله للسيوف فينا وفيهم،
فجعلت السيوف تختلى هام الرجال وأكفهم، وجراحا لم أر جراحا قط أبعد غورا
منه، فينا وفيهم، إنى لأنظر إلى عباد بن بشر قد ضرب بسيفه حتى انحنى كأنه
منجل، فيقيمه على ركبته، فيعرض له رجل من بنى حنيفة، فلما اختلفا ضربات
ضربه عباد بن بشر على العاتق مستمكنا، فو الله لرأيت سحره باديا، ومضى عنه
عباد، ومررت بالحنفى وبه رمق، فأجهزت عليه، وأنظر بعد إلى عباد وقد اختلف
السيوف عليه وهو يبضع بها ويبعج بطنه، فوقع وما أعلم به مصحا، وكانوا حنقوا
عليه لأنه أكثر القتل فيهم. قال: وحرضت على قتلته، فناديت أصحابنا من
النبيت، فقمنا عليه، وقتلنا قتلته، فرأيتهم حوله مقتلين، فقلت: بعدا لكم.
وقال ضمرة بن سعيد المازنى، وذكر ردة بنى حنيفة: لم يلق المسلمون عدوا أشد
لهم نكاية منهم، لقوهم بالموت الناقع، وبالسيوف قد أصلتوها قبل النبل، وقبل
الرماح، وقد صبر المسلمون لهم، فكان المعول يومئذ على أهل السوابق، ونادى
عباد بن بشر يومئذ وهو يضرب بالسيف، قد قطع من الجراح، وما هو إلا كالنمر
الجرف، فيلقى رجلا من بنى حنيفة كأنه جمل صئول، فقال: هلم يا أخا الخزرج،
أتحسب قتالنا مثل من لاقيت، فيعمد له عباد، ويبدره الحنفى، ويضربه ضربة
بالسيف، فانكسر سيفه ولم يصنع شيئا، وضربه عباد فقطع رجليه وجاوزه وتركه
ينؤ على ركبتيه، فناداه: يا ابن الأكارم اجهز علىّ، فكر عليه عباد، فضرب
عنقه، ثم قام آخر فى ذلك المقام، فاختلفا ضربات وتجاولا، وعباد على ذلك
كثير الجراح، فضربه عباد ضربة أبدى سحره، وقال: خذها وأنا ابن وقش، ثم
جاوزه يفرى فى بنى حنيفة ضربا فريا، فكان يقال: قتل عباد يومئذ من بنى
حنيفة بالسيف أكثر من عشرين رجلا، وأكثر فيهم الجراح.
قال ضمرة: فحدثنى رجل من بنى حنيفة قديم قال: إن حنيفة لتذكر عباد بن بشر،
فإذا رأت الجراح بالرجل منهم تقول: هذا ضرب مجرب القوم، عباد بن بشر.
وفى بعض الروايات عن حديث رافع بن خديج قال: خرجنا من المدينة ونحن أربعة
آلاف، وأصحابنا من الأنصار ما بين خمسمائة إلى أربعمائة، وعلى الأنصار ثابت
بن
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (728) ، الإصابة الترجمة رقم
(2532) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1580) ، تاريخ خليفة (271) ، طبقات خليفة
(79) ، شذرات الذهب (1/ 82) ، تاريخ الإسلام (2/ 400) ، تقريب التهذيب (1/
241) .
(2/124)
قيس، ويحمل رايتنا أبو لبابة، فانتهينا إلى
اليمامة، فننتهى إلى قوم هم الذين قال الله تعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح:
16] .
فلما صففنا صفوفنا ووضعنا الرايات مواضعها، لم يلبثوا أن حملوا علينا،
فهزمونا مرارا، فنعود إلى مصافنا وفيها خلل، وذلك أن صفوفنا كان مختلطة،
فيها حشو كثير من الأعراب فى خلال صفوفنا، فينهزم أولئك الناس فيستخفون أهل
البصائر والنيات، حتى كثر ذلك منهم، ثم إن الله بمنه وفضله رزقنا عليهم
الظفر، وذلك أن ثابت بن قيس نادى خالد بن الوليد: أخلصنا، فقال: ذلك إليك،
فناد فى أصحابك، قال: فأخذ الراية ونادى: يا للأنصار، فتسللت إليه رجلا
رجلا، فنادى خالد للمهاجرين، فأحدقوا به، ونادى عدى بن حاتم، ومكنف بن زيد
الخيل الطائى بطيئ، فثابت إليهما طيئ، وكانوا أهل بلاء حسن، وعزلت الأعراب
عنا ناحية، فقاموا من ورائنا غلوة أو أكثر، وإنما كنا نؤتى من الأعراب.
قال رافع: فانتهينا إلى جمعهم فصبروا وصبرنا صبرا لم ير مثله قط، لم تزل
الأقدام، فذكرت بيتى قيس بن الحطيم:
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر ... ولا تبرح الأقدام عند التضارب «1»
قال: واجهضهم أهل السوابق والبصائر، فهم فى نحورهم ما يجد أحد مدخلا إلا أن
يقتل رجل منهم، أو يخرج فيقع، فيخلف مقامه آخر، حتى أوجعنا فيهم وبان خلل
صفوفهم، وضجوا من السيف، ثم اقتحمنا الحديقة، فضاربوا فيها، وعلقنا
الحديقة، وأقمنا على بابها رجالا لئلا يهرب منهم أحد، فلما رأوا ذلك عرفوا
أنه الموت، فجدوا فى القتال، ودكت السيوف بيننا وبينهم، ما فيها رمى بسهم
ولا حجر ولا طعن حتى قتلنا عدو الله مسيلمة، فقيل لرافع: يا أبا عبد الله،
أى القتلى كان أكثر، قتلاكم أو قتلاهم؟ قال: قتلاهم أكثر من قتلانا وأخبث،
أحسبنا قتلنا منهم ضعف ما قتلوا منا مرتين، فقد قتل من الأنصار يومئذ زيادة
على التسعين، وجرح منهم مائتان، ولقد لقينا بنى سليم بالجواء، وأنهم
لمجروحون، فأبلوا بلاء حسنا.
وكان أبو خيثمة النجارى يقول: لما انكشف المسلمون يوم اليمامة تنحيت ناحية،
__________
(1) انظر الأبيات فى: ديوانه ص (41) ، الخزانة للبغدادى (3/ 165) ، الأشباه
والنظائر للخالديين (27، 28) .
(2/125)
وكأنى أنظر إلى أبى دجانة «1» يومئذ ما
يولى ظهره منهزما، وما هو إلا فى نحور القوم، حتى قتل رحمه الله، وكان
يختال فى مشيته عند الحرب سجية، ما يستطيع غير ذلك.
قال: وكرت عليه طائفة من بنى حنيفة، فما زال يضرب بالسيف أمامه وعن يمينه
وعن شماله، فحمل على رجل فصرعه، وما ينبس بكلمة، حتى انفرجوا عنه ونكصوا
على أعقابهم، والمسلمون مولون، وقد ابيض ما بينهم وبينه، فما ترى إلا
المهاجرين والأنصار، لا والله ما أرى أحدا يخالطهم، فقاموا ناحية، وتلاحق
الناس، فدفعوا حنيفة دفعة واحدة، فانتهينا بهم إلى الحديقة، فأقحمناهم
إياها.
قال أبو دجانة: ألقونى على الترسة حتى أشغلهم، فكانوا قد أغلقوا الحديقة،
فأخذوه فألقوه على الترسة، حتى وقع فى الحديقة، وهو يقول: لا ينجيكم منا
الفرار، فضاربهم حتى فتحها، ودخلنا عليه مقتولا رحمه الله.
وقد روى أن البراء بن مالك هو المرمى به فى الحديقة، والأول أثبت.
وقال ثابت بن قيس، يومئذ: يا معشر الأنصار، الله الله ودينكم، علمنا هؤلاء
أمرا ما كنا نحسنه، ثم أقبل على المسلمين، فقال: أف لكم ولم تعملون، ثم
قال: خلوا بيننا وبينهم، أخلصونا، فأخلصت الأنصار، فلم يكن لهم ناهية حتى
انتهوا إلى محكم بن الطفيل، فقتلوه، ثم انتهوا إلى الحديقة فدخلوها،
فقاتلوا أشد القتال، حتى اختلطوا فيها، فما يعرف بعضهم بعضا إلا بالشعار،
وشعارهم: أمت أمت، ثم صاح ثابت صيحة يستجلب بها المسلمين: يا أصحاب سورة
البقرة، يقول رجل من طيئ: والله ما معى منها آية، وإنما يريد ثابت: يا أهل
القرآن.
وقال واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ: لما زحف المسلمون، انكشفوا أقبح
الانكشاف، حتى ظن ظانهم أن لا تكون لهم فئة فى ذلك اليوم، والناس أوزاع قد
هدأ حسهم. وأشرت حنيفة وأظهروا البغى، وأوفى عباد بن بشر على نشز من الأرض،
ثم صاح بأعلى صوته: أنا عباد بن بشر، يا للأنصار، يا للأنصار، ألا إلى، ألا
إلى، فأقبلوا إليه جميعا، وأجابوه: لبيك لبيك، حتى توافوا عنده، فقال:
فداكم أبى وأمى، حطموا جفون السيوف، ثم حطم جفن سيفه، فألقاه، وحطمت
الأنصار جفون سيوفهم، ثم قال: حملة صادقة، اتبعونى، فخرج أمامهم حتى ساقوا
حنيفة منهزمين، حتى انتهوا بهم
__________
(1) اسمه: سماك بن خرشة، انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2968) ،
الإصابة الترجمة رقم (9866) ، معجم رجال الحديث (21/ 151) ، تنقيح المقال
(3/ 15) .
(2/126)
إلى الحديقة، فأغلق عليهم، فأوفى عباد بن
بشر يشرف على الحديقة وهم فيها، فقال للرماة: ارموا، فرموا أهل الحديقة
بالنبل حتى ألجئوهم أن اجتمعوا فى ناحية منها لا يطلع النبل عليهم، ثم إن
الله فتح الحديقة، فاقتحم عليهم المسلمون، فضاربوهم ساعة، ثم أغلق عباد باب
الحديقة لما كلّ أصحابه، وكره أن تفر حنيفة، وجعل يقول: اللهم إنى أبرأ
إليك مما جاءت به حنيفة.
قال واقد بن عمرو: فحدثنى من رأى عباد بن بشر ألقى درعه على باب الحديقة،
ثم دخل بالسيف صلتا يجالدهم حتى قتل، رحمه الله.
وقال أبو سعيد الخدرى: سمعت عباد بن بشر يقول حين فرغنا من بزاخة: يا أبا
سعيد، رأيت الليلة كأن السماء فرجت، ثم أطبقت علىّ، فهى إن شاء الله
الشهادة، قال: قلت: خيرا والله، قال أبو سعيد: فأنظر إليه يوم اليمامة وإنه
ليصيح بالأنصار ويقول: أخلصونا، فأخلصوا أربعمائة رجل، لا يخلطهم أحد،
يقدمهم البراء بن مالك وأبو دجانة سماك بن خرشة وعباد بن بشر، حتى انتهوا
إلى باب الحديقة.
قال أبو سعيد: فرأيت بوجه عباد، يعنى بعد قتله، ضربا كثيرا، وما عرفته إلا
بعلامة كانت فى جسده.
وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه، لما انصرف إليه أسامة بن زيد من بعثه
إلى الشام، بعثه فى أربعمائة مددا لخالد بن الوليد، فأدرك خالدا قبل أن
يدخل اليمامة بثلاث، فاستعمله خالد على الخيل مكان البراء بن مالك، وأمر
البراء أن يقاتل راجلا، فاقتحم عن فرسه، وكان راجلا لا رجلة به، فلما انكشف
الناس يوم اليمامة، وانكشف أسامة بأصحاب الخيل، صاح المسلمون: يا خالد، ول
البراء بن مالك، فعزل أسامة، ورد الخيل إلى البراء، فقال له: اركب فى
الخيل، فقال البراء: وهل لنا من خيل؟ قد عزلتنى وفرقت الناس عنى، فقال له
خالد: ليس حين عتاب، اركب أيها الرجل فى خيلك، أما ترى ما لحم من الأمر،
فركب البراء فرسه، وإن الخيل لأوزاع فى كل ناحية، وما هى إلا الهزيمة، فجعل
يليح بسيفه وينادى: يا صحابة، يا للأنصار، يا للأنصار، يا خيلاه، يا خيلاه،
أنا البراء بن مالك، فثابت إليه الخيل من كل ناحية، وثابت إليه الأنصار،
فارسها وراجلها.
قال أبو سعيد الخدرى: فقال لنا: احملوا عليهم فداكم أبى وأمى، حملة صادقة،
تريدون فيها الموت، ثم أظهر التكبير، وكبرنا معه، فما كانت لنا ناهية إلا
باب الحديقة،
(2/127)
وقد غلقت دوننا، وازدحمنا عليهم، فلم نزل
حتى فتح الله، وظفرنا، فله الحمد.
وقال عبد الله بن أبى بكر بن حزم: كان البراء فارسا، وكان إذا حضرته الحرب
أخذته رعدة، وانتفض حتى يضبطه الرجال مليا، ثم يفيق فيبول بولا أحمر كأنه
نقاعة الحناء، فلما رأى ما يصنع بالناس يومئذ من الهزيمة أخذه ما كان
يأخذه، فانتفض وضبطه أصحابه وجعل يقول: طرونى إلى الأرض، فلما أفاق سرى
عنه، وهو مثل الأسد، وهو يقول:
أسعدنى ربى على الأنصار ... كانوا يدا طرا على الكفار
فى كل يوم ساطع الغبار ... فاستبدلوا النجاة بالفرار
قال: وضرب بسيفه قدما، حتى أفرجوا له، وخاض غمرتهم، وثابت إليه الأنصار
كأنها النحل تأوى إلى يعسوبها، وتلاومت الأنصار فيما صنعت.
وحدث عن خالد بن الوليد من سمعه يقول: شهدت عشرين زحفا، فلم أر قوما أصبر
لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقداما من بنى حنيفة يوم اليمامة، أنّا
لما فرغنا من طليحة الكذاب، ولم تكن له شوكة، قلت كلمة والبلاء موكل
بالقول: وما حنيفة، ما هى إلا كمن لقينا فلقينا قوما ليسوا يشبهون أحدا،
لما انتهينا إلى عسكرهم نظرت إلى قوم قد قدموا أمام عسكرهم بشرا كثيرا،
فقلت: هذه مكيدة، وإذا القوم لم يحفلوا بنا، فعسكرنا منهم بمنظر العين،
فلما أمسيت حزرت القوم بنفسى، فإذا القوم نحونا، فبتنا فى عسكرنا، وباتوا
فى عسكرهم.
فلما طلع الفجر قام القوم إلى التعبئة، وثرنا معهم فى غدوة باردة، وصففت
صفوفى، وصفوا صفوفهم، ثم أقبلوا إلينا يقطعون قطوا، قد سلوا السيوف، فكبرت،
ورأيت ذلك منهم فشلا، فلما دنوا منا نادوا: أن هذا ليس بفشل، ولكنها
الهندوانية وخفنا التحطم عليها، فما هو إلا أن واجهونا، حملوا علينا حملة
واحدة، وانهزمت الأعراب، ولا ذوا بين أضعاف الصفوف، فانهزم معهم أهل
النيات، وأوجعت حنيفة فى أدباركم بالقتل، وتقدمت أضرب بسيفى مرة يشتملون
علىّ، ومرة أنفذ منهم، وكر المسلمون كرة ثانية، فحملت بنو حنيفة أيضا، حتى
هزموا المسلمين ثلاث مرات. وإنما يهزم بالناس الأعراب.
فناديت فى المسلمين، فذكرتهم الله، وناديت فى المهاجرين والأنصار: الله
الله، الكرة على عدوكم، فنادى أهل السوابق: أخلصونا، فأخلصوا، لا يخلطهم
رجل، فأخلص قوم قد ألح السيف عليهم، وقتل من قتل منهم، ومن بقى من أهل
النيات منقطع من الجراح،
(2/128)
ولكنا لم نجد المعول إلا عليهم ولا الصبر
إلا عندهم، فصفوا جميعا فى نحر العدو، وجاءت الأعراب من خلفهم، وذهبت حنيفة
تطلب أن تهزمهم كما كانت تفعل، فثبتوا على مصافهم لا تزول فترا، واختلفت
السيوف بينهم، وصبر الفريقان جميعا، وذهب الأعراب من ورائنا، فحملنا عليهم
حملة، فما زادت حنيفة على أن رجعت القهقرى ما تولى الأدبار، حتى وقفوا على
باب الحديقة، واختلفت السيوف بيننا وبينهم حتى نظرت إلى شهب النار، وحتى
صارت القتلى منا ومنهم ركاما، وقد أغلقت الحديقة، فدخل من رحمه الله فشغلهم
عن الباب حتى دخلنا.
فإذا أهل السوابق قد وطئوا أنفسهم على الموت، فما هو إلا أن عاينتهم حنيفة
فى الحديقة، فناديت أصحابى: عضوا على النواجذ، لا أسمع شيئا إلا وقع الحديد
بعضه على بعض، فما كان شىء حتى قتل عدو الله، فما ضرب أحد بعده من بنى
حنيفة بسيف، ولقد صبروا لنا من حين طلعت الشمس إلى صلاة العصر، ولقد رأيتنى
فى الحديقة وعانقنى رجل منهم وأنا فارس وهو فارس، فوقعنا عن فرسينا، ثم
تعانقنا بالأرض، فأجؤه بخنجر فى سيفى، وجعل يجؤنى بمعول فى سيفه، فجرحنى
سبع جراحات، وقد جرحته جرحا أثبته، فاسترخى فى يدى، وما بى حركة من الجراح،
وقد نزفت من الدم إلا أنه سبقنى بالأجل، فالحمد لله على ذلك.
وحدث ضمرة بن سعيد: أنه خلص يومئذ إلى محكم بن طفيل وهو يقول: يا بنى حنيفة
قاتلوا قبل أن تستحقب الكرائم غير رضيات، وينكحن غير حظيات، وما كان عندكم
من حسب فأخرجوه، فقد لحم الأمر، واحتيج إلى ذلك منكم، وجعل يقول: يا بنى
حنيفة ادخلوا الحديقة، سأمنع دابركم، وجعل يرتجز:
لبئسما أوردنا مسيلمة ... أورثنا من بعده أغيلمة
فدخلوا الحديقة وغلقوها عليهم، ورمى عبد الرحمن بن أبى بكر محكما بسهم
فقتله، فقام مكانه المعترض ابن عمه، فقاتل ساعة حتى قتله الله.
وفى غير حديث ضمرة أن خالد بن الوليد هو الذى قتل محكما.
حدث الحارث بن الفضل، قال: لما رأى محكم بن طفيل من قتل قومه ما رأى، جعل
يصيح: ادن يا أبا سليمان، فقد جاءك الموت الناقع، قد جاءك قوم لا يحسنون
الفرار، فبلغ خالدا كلمته وهو فى مؤخر الناس، فأقبل يقول: هأنذا أبو
سليمان، وكشف المغفر عن وجهه، ثم حمل على ناحية محكم يخوف بنى حنيفة،
فاقتحم عليه خالد، فيضربه
(2/129)
ضربة أرعش منها، ثم ثنى له بأخرى وهو يقول:
خذها وأنا أبو سليمان، فوقع ميتا، وكان عبد الرحمن بن أبى بكر قد رماه بسهم
قبل ذلك، ومنهم من يقول: رماه عبد الرحمن بعد ضربة خالد، ومنهم من يقول: لم
يكن من سهم عبد الرحمن شىء.
وقاتلت حنيفة بعد قتل محكم بن طفيل أشد القتال، وهم يقولون: لا بقاء بعد
محكم، وقال قائل: يا أبا ثمامة، أين ما كنت وعدتنا؟ قال: أما الدين فلا
دين، ولكن قاتلوا عن أحسابكم، فاستيقن القوم أنهم كانوا على غير شىء.
وقال وحشى: لما اختلط الناس فى الحديقة، وأخذت السيوف بعضها بعضا، نظرت إلى
مسيلمة وما أعرفه، ورجل من الأنصار يريده، وأنا من ناحية أخرى أريده، فهززت
من حربتى حتى رضيت منها، ثم دفعتها عليه، وضربه الأنصارى، فربك أعلم أينا
قتله، إلا أنى سمعت امرأة فوق الدير تقول: قتله العبد الحبشى.
وقال أبو الحويرث: ما رأيت أحدا يشك أن عبد الله بن زيد الأنصارى «1» ضرب
مسيلمة وزرقه وحشى فقاتلاه جميعا «2» .
وذكر عمرو بن يحيى المازنى عن عبد الله بن زيد أنه كان يقول: أنا قتلته.
وكان معاوية بن أبى سفيان يقول: أنا قتلته.
وكانت أم عبد الله بن زيد، وهى أم عمارة، نسيبة بنت كعب تقول: إن ابنها عبد
الله هو الذى قتله. وكانت ممن شهد ذلك اليوم، وقطعت فيه يدها، وذلك أن
ابنها حبيب بن زيد كان مع عمرو بن العاص بعمان عندما توفى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك عمرا، أقبل من عمان، فسمع به مسيلمة، فاعترض
له، فسبقه عمرو، وكان حبيب ابن زيد وعبد الله بن وهب الأسلمى فى الساقة،
فأصابهما مسيلمة، فقال لهما:
أتشهدان أنى رسول الله، فقال الأسلمى: نعم، فأمر به فحبس فى حديد، وقال
لحبيب:
أتشهد أنى رسول الله، فقال: لا أسمع، فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله، قال:
نعم،
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1558) ، الإصابة الترجمة رقم
(4706) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2958) ، الوافى بالوفيات (17/ 47) ،
تهذيب التهذيب (5/ 223) ، تقريب التهذيب (1/ 417) ، سير أعلام النبلاء (2/
377) .
(2) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 82) : أنه اشترك فى قتل مسيلمة رجلان:
رجل من الأنصار، ووحشى مولى جبير بن مطعم: وقال: وكان وحشى يقول: وقعت فيه
حربتى وضربه الأنصارى والله يعلم أينا قتله. وكان يقول: قتلت خير الناس وشر
الناس، حمزة ومسيلمة، وكانوا يقولون: قتله العبد الأسود، فأما الأنصار فلا
شك عندهم أن أبا دجانة سماك بن خرشة قتله.
(2/130)
فأمر به فقطع. وكلما قال له: أتشهد أنى
رسول الله، قال: لا أسمع، فإذا قال له: أتشهد أن محمدا رسول الله، قال:
نعم، حتى قطعه عضوا عضوا، حتى قطع يديه من المنكبين ورجليه من الوركين، ثم
حرقه بالنار، وهو كل ذلك لا ينزع عن قوله، ولا يرجع عن ما بدأ به، حتى مات
فى النار، رحمه الله.
فلما تهيأ بعث خالد بن الوليد إلى اليمامة جاءت أم عمارة إلى أبى بكر
الصديق رضى الله عنه، فاستأذنته فى الخروج، فقال لها أبو بكر: ما مثلك يحال
بينه وبين الخروج، قد عرفناك وعرفنا جزاءك فى الحرب، فاخرجى على اسم الله.
قالت فيما حدث به عنها ابن ابنها عباد بن تميم بن زيد: فلما انتهوا إلى
اليمامة، واقتتلوا، تداعت الأنصار: أخلصونا، فأخلصوا، فلما انتهينا إلى
الحديقة ازدحمنا على الباب، وأهل النجدة من عدونا فى الحديقة، قد انحازوا،
يكونون فئة لمسيلمة، فاقتحمنا فضاربناهم ساعة، والله يا بنى ما رأيت أبذل
لمهج أنفسهم منهم، وجعلت أقصد لعدو الله مسيلمة لأن أراه، وقد عاهدت الله
لئن رأيته لا أكذب عنه أو أقتل دونه، وجعلت الرجال تختلط، والسيوف بينهم
تختلف، وخرص القوم، فلا صوت إلا وقع السيوف، حتى بصرت بعدو الله فأشد عليه،
ويعرض لى منهم رجل، فضرب يدى فقطعها، فو الله ما عرجت عليها حتى أنتهى إلى
الخبيث وهو صريع، وأجد ابنى عبد الله قد قتله.
وفى رواية: وابنى يمسح سيفه بثيابه، فقلت: أقتلته؟ قال: نعم يا أمه، فسجدت
لله شكرا، وقطع الله دابرهم، فلما انقطعت الحرب، ورجعت إلى منزلى، جاءنى
خالد بن الوليد بطبيب من العرب، فداوانى بالزيت المغلى، وكان والله أشد
علىّ من القطع، وكان خالد كثير التعاهد لى، حسن الصحبة لنا، يعرف لنا حقنا،
ويحفظ فينا وصية نبينا صلى الله عليه وسلم، قال عباد: فقلت: يا جدة، كثرت
الجراح فى المسلمين؟ فقالت: يا بنى، لقد تحاجز الناس، وقتل عدو الله، وإن
المسلمين لجرحى كلهم، لقد رأيت بنى أبى مجرحين، ما بهم حركة، ولقد رأيت بنى
مالك بن النجار بضعة عشر رجلا، لهم أنين يكمدون ليلتهم بالنار.
ولقد أقام الناس باليمامة خمس عشرة ليلة، وقد وضعت الحرب أوزارها، وما يصلى
مع خالد بن الوليد من المهاجرين والأنصار إلا نفر يسير من الجراح، وذلك أنا
أتينا من قبل العرب، انهزموا بالمسلمين، إلا أنى أعلم أن طيئا قد أبلت
يومئذ بلاء حسنا، لقد رأيت عدى بن حاتم يومئذ يصيح بهم: صبرا، فداكم أبى
وأمى لوقع الأسل، وإن ابنى زيد الخيل يومئذ ليقاتلان قتالا شديدا.
(2/131)
وعن محمد بن يحيى بن حبارة، قال: جرحت أم
عمارة يعنى يوم اليمامة، أحد عشر جرحا بين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، وقطعت
يدها سوى ذلك، فرئى أبو بكر يأتيها يسأل عنها، وهو يومئذ خليفة.
وقاتل كعب بن عجرة «1» يومئذ، وانهزم الناس الهزيمة الآخرة، وجاوزوا الرحال
منهزمين، فجعل يصيح: يا للأنصار، يا للأنصار الله ورسوله، حتى انتهى إلى
محكم بن الطفيل، فضربه محكم، فقطع شماله، فو الله ما عرج عليها كعب، وأنه
ليضرب بيمينه، وإن شماله لتهراق الدماء، حتى انتهى إلى الحديقة، فدخل.
وأقبل حاجب بن زيد بن تميم الأشهلى «2» يصيح بالأوس: يا للأشهل، فقال له
ثابت ابن هذال: ناد يا للأنصار، فإنه جماع لنا ولك، فنادى: يا للأنصار، يا
للأنصار، حتى اشتملت عليه حنيفة، فانفرجت، وتحته منهم اثنان قد قتلهما،
وقتل رحمه الله، فخلفه فى مقامه عمير بن أوس، فاشتملوا عليه حتى قتل، رحمه
الله.
وكان أبو عقيل الأزرقى، حليف الأنصار، بدرى من أول من خرج يوم اليمامة، رمى
بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده، فشطب فى غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن شقه
الأيسر، وكانت فيه، وهذا أول النهار وجرروه إلى الرحل، فلما حمى القتال
وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم، وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدى
يصيح: يا للأنصار، الله الله والكرة على عدوكم، وأعنق معن بن عدى يقدم
القوم، وذلك حين صاحت الأنصار: أخلصونا، فأخلصوا رجلا رجلا، يتميزون.
قال أبو عمرو: ونهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد يا أبا عقيل؟ ما فيك
قتال، قال: قد نوه المنادى باسمى، فقلت: إنما يقول: يا للأنصار، لا يعنى
الجرحى، قال:
فأنا رجل من الأنصار، وأنا أجيب ولو جبنوا، قال ابن عمر: فتحزم أبو عقيل،
فأخذ السيف بيده اليمنى مجردا، ثم جعل ينادى: يا للأنصار، كرة كيوم حنين،
فاجتمعوا جميعا يقدمون المسلمين دريئة دون عدوهم، حتى أقحموا عدوهم
الحديقة، فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم، فنظرت إلى أبى عقيل وقد
قطعت يده المجروحة من المنكب،
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2223) ، الإصابة الترجمة رقم
(7434) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4471) ، جمهرة أنساب العرب (442) ، تهذيب
الكمال (1146) ، تاريخ الإسلام (2/ 313) ، تهذيب التهذيب (8/ 435) ، شذرات
الذهب (1/ 58) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (391) ، الإصابة الترجمة رقم
(1365) ، أسد الغابة الترجمة رقم (840) .
(2/132)
فوقعت إلى الأرض، وبه أربعة عشر جرحا، كلها
قد خلصت إلى مقتل، وقتل عدو الله مسيلمة.
قال ابن عمر: فوقفت على أبى عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: يا أبا عقيل،
فقال لبيك بلسان ملتاث، ثم قال: لمن الدبرة، فقلت: أبشر ورفعت صوتى، قد قتل
عدو الله، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات، رحمه الله.
قال ابن عمر: فأخبرت أبى بعد أن قدمت بخبره كله، فقال: رحمه الله، مازال
يسأل الشهادة ويطلبها، وإن كان ما علمت لمن خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه
وسلم، وقديمى إسلامهم.
وذكر مجاعة بن مرارة يوما، معن بن عدى، وكان نازلا به ليالى قدم على رسول
الله صلى الله عليه وسلم، مع خلة كانت بينهما قبل ذلك قديمة، فلما قدم فى
وفد اليمامة على أبى بكر، توجه أبو بكر رضى الله عنه، يوما إلى قبور
الشهداء زائرا لهم فى نفر من أصحابه يمشون، قال: فخرجت معهم حتى أتوا قبور
الشهداء السبعين يرحمهم الله، فقلت: يا خليفة رسول الله، لم أر قوما قط،
أصبر لوقع السيوف، ولا أصدق كرة منهم، لقد رأيت رجلا منهم يرحمهم الله،
وكانت بينى وبينه خلة، فقال أبو بكر رضى الله عنه:
معن بن عدى؟ قلت: نعم، وكان عارفا بما كان بينى وبينه، فقال: رحمه الله،
ذكرت رجلا صالحا، حديثك، قلت: يا خليفة رسول الله، فأنظر إليه وأنا موثق فى
الحديد فى فسطاط ابن الوليد، وانهزم المسلمون، انهزمت بهم الضاحية انهزامة
ظننت أنهم لا يجتبرون لها، وساءنى ذلك، قال أبو بكر: الله، لساءك ذلك؟ قلت:
الله لساءنى، قال أبو بكر: الحمد لله على ذلك، قال: فأنظر إلى معن بن عدى
قد كر معلما فى رأسه بعصابة حمراء، واضعا سيفه على عاتقه، وإنه ليقطر دما،
ينادى: يا للأنصار، كرة صادقة، قال:
فكرت الأنصار عليه، فكانت الوقعة التى ثبتوا عليها حتى انتحوا وأباحوا
عدوهم، فلقد رأيتنى وأنا أطوف مع خالد بن الوليد أعرفه قتلى بنى حنيفة،
وإنى لأنظر إلى الأنصار وهم صرعى، فبكى أبو بكر رضى الله عنه، حتى بل
لحيته.
وعن أبى سعيد الخدرى، قال: دخلت الحديقة حين جاء وقت الظهر، واستحر القتال،
فأمر خالد بن الوليد المؤذن، فأذن على جدار الحديقة بالظهر، والقوم يضطربون
على القتل، حتى انقطعت الحرب بعد العصر، فصلى بنا خالد الظهر والعصر، ثم
بعث السقاة يطوفون على القتلى، فطفت معهم، فمررت بأبى عقيل الأنصارى
البدرى، وبه خمسة عشر جرحا، فاستسقانى، فسقيته، فخرج الماء من جراحاته
كلها، ومات رحمه
(2/133)
الله، ومررت ببشر بن عبد الله وهو قاعد فى
حشوته، فاستسقانى، فسقيته، فمات، ومررت بعامر بن ثابت العجلانى وإلى جنبه
رجل من بنى حنيفة به جراح، فسقيت عامرا فشرب وقال الحنفى: اسقنى فدى لك أبى
وأمى، قلت: لا كرامة، ولكنى أجهز عليك، قال: قد أحسنت لى مسألة ولا شىء
عليك فيها، أسألك عنها، قلت: وما هى؟
قال: أبو ثمامة، ما فعل؟ قلت: قتل والله، قال: نبى ضيعه قومه، قال أبو
سعيد: فضربت عنقه.
وعن محمود بن لبيد قال: لما قتل خالد بن الوليد من أهل اليمامة من قتل،
كانت لهم فى المسلمين أيضا مقتلة عظيمة «1» ، حتى أبيح أكثر أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لا نغمد السيوف بيننا وبينهم عين تطرف وكان
فيمن بقى من المسلمين جراحات كثيرة، فلما أمسى مجاعة بن مرارة، أرسل إلى
قومه ليلا: أن ألبسوا السلاح النساء والذرية والعبيد، ثم إذا أصبحتم فقوموا
مستقبلى الشمس على حصونكم حتى يأتيكم أمرى، وبات خالد والمسلمون يدفنون
قتلاهم، فلما فرغوا، رجعوا إلى منازلهم، فباتوا يتكمدون بالنار من الجراح.
فلما أصبح خالد، أمر بمجاعة، فسيق معه فى الحديد، فجعل يستبرئ القتلى، وهو
يريد مسيلمة، فمر برجل وسيم، فقال: يا مجاعة، أهو هذا؟ قال: لا، هذا والله
أكرم منه، هذا محكم بن الطفيل، ثم قال مجاعة: إن الذى تبتغون رجل ضخم أشعر
البطن والظهر، أبجر، بجرته مثل القدح، مطرق إحدى العينين، ويقال: هو أرجل
أصيفر أخينس، قال:
وأمر خالد بالقتلى، فكشفوا حتى وجد الخبيث، فوقف عليه خالد، فحمد الله
كثيرا، وأمر به فألقى فى البئر التى كان يشرب منها» .
قالوا: ولما أمسينا، أخذنا شعل السعف، ثم جعلنا نحفر لقتلانا حتى دفناهم
جميعا، بدمائهم وثيابهم، وما صلينا عليهم، وتركنا قتلى بنى حنيفة، فلما
صالحوا خالدا طرحوهم فى الآبار.
وكان خالد يرى أنه لم يبق من بنى حنيفة أحد إلا من لا ذكر له، ولا قتال
عنده، فقال خالد لما وقف على مسيلمة مقتولا: يا مجاعة، هذا صاحبكم الذى فعل
لكم
__________
(1) قال ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 83) : قال علماء السير: قتل من المسلمين
يوم اليمامة أكثر من ألف، وقتل من المشركين نحو عشرين ألفا.
(2) ذكر مثل هذا الخبر ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 82) .
(2/134)
الأفاعيل، ما رأيت عقولا أضعف من عقول
أصحابك، مثل هذا فعل بكم ما فعل، فقال مجاعة: قد كان ذلك يا خالد، ولا تظن
أن الحرب انقطعت بينك وبين بنى حنيفة، وإن قتلت صاحبهم، إنه والله ما جاءك
إلا سرعان الناس، وإن جماعة الناس وأهل البيوتات لفى الحصون، فانظر، فرفع
خالد بن الوليد رأسه وهو يقول: قاتلك الله، ما تقول؟ قال:
أقول والله الحق، فنظر خالد، فإذا السلاح، وإذا الخلق على الحصون، فرأى
أمرا غمه، ثم تشدد ساعتئذ وأدركته الرجولية، فقال لأصحابه: يا خيل الله
اركبى، وجعل يدعو بسلاحه، ويقول: يا صاحب الراية قدمها، قال: والمسلمون
كارهون لقتالهم، وقد ملوا الحرب، وقتل من قتل وعامة من بقى جريح.
فقال مجاعة: أيها الرجل، إنى لك ناصح، إن السيف قد أفناك وأفنى غيرك، فتعال
أصالحك عن قومى، وقد أخل بخالد مصاب أهل السابقة، ومن كان يعرف عنده
الغناء، فقد رق وأحب الموادعة مع عجف الكراع، فاصطلحا على الصفراء
والبيضاء، والحلقة والكراع، ونصف السبى، ثم قال مجاعة: آتى القوم فأعرض
عليهم ما صنعت، قال:
فانطلق، فذهب ثم رجع، فأخبره أنهم قد أجازوه، فلما بان لخالد أنه إنما هو
السبى، قال: ويلك، يا مجاعة خدعتنى فى يوم مرتين، قال مجاعة: قومى، فما
أصنع، وما وجدت من ذلك بدا، قد حضنى النساء، وأنشده قول امرأة من بنى
حنيفة:
مسيلم لم يبق إلا النساء ... سبايا لذى الخف والحافر
وطفل ترشحه أمه ... حفير متى يدع يستأخر
فأما الرجال فأودى بهم ... حوادث من دهرنا العاثر
فليت أباك مضى حيضه ... وليتك لم تك فى الغابر
سحبت علينا ذيول البلاء ... وجئت بهن سمى قاشر
فمجاعة الخير فانظر لنا ... فليس لنا اليوم من ناظر
سواك فإنا على حالة ... تروعنا مرة الطائر
فقال: مجاعة: فكنت أجد من هذا بدا «1» .
وذكر أن مجاعة لما ذهب إلى قومه ليعرض عليهم الصلح، انتهى إلى باب الحصن
ليلا، فإذا امرأة تنشد هذا الشعر، فدنا منها مجاعة، فقال: هتم الله فاك،
اسكتى، أنا مجاعة، ثم دخل الحصن وليس فيه إلا النساء والصبيان، فأمرهم بلبس
السلاح وإطالة الإشراف، والقيام فى مصاف الرجال، فقال سلمة بن عمير
لأصحابه: يا بنى حنيفة قاتلوا ولا
__________
(1) راجع ما ذكره ابن الجوزى فى صلح خالد بن الوليد مع أهل اليمامة (4/ 82-
83) .
(2/135)
تصالحوا خالدا، فإن الحصن حصين، والطعام
كثير، والقوم قد أفناهم السيف، ومن بقى منهم جريح، ولا تطيعوا مجاعة، فإنه
إنما يريد أن ينفلت من إساره، فقال مجاعة: يا بنى حنيفة، أطيعونى واعصوا
سلمة، فإنى أخاف أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن سلمة، أن تستردف النساء سبيات،
وينكحن غير حظيات، فأطاعوا مجاعة، وتم الصلح بينه وبين خالد.
وقال أسيد بن حضير «1» وأبو نائلة لخالد لما صالح: يا خالد، اتق الله، ولا
تقبل الصلح، قال خالد: إنه أفناكم السيف، قال أسيد: وإنه قد أفنى غيرنا
أيضا، قال: فمن بقى منكم جريح، قال: وكذلك من بقى من القوم جرحى، لا ندخل
فى الصلح أبدا، اغد بنا عليهم حتى يظفرنا الله بهم أو نبيد من آخرنا،
احملنا على كتاب أبى بكر: إن أظفرك الله ببنى حنيفة فلا تبق عليهم، فقد
أظفرنا الله بهم وقتلنا رأسهم، فمن بقى أكل شوكة، فبينما هم على ذلك إذ جاء
كتاب أبى بكر يقطر الدم، ويقال: إنهم لم يمسوا حتى قدم سلمة بن سلامة بن
وقش من عند أبى بكر بكتابين، فى أحدهما: بسم الله الرحمن، أما بعد فإذا
جاءك كتابى، فانظر، فإن أظفرك الله ببنى حنيفة فلا تستبق منهم رجلا جرت
عليه الموسى «2» .
فكلمت الأنصار فى ذلك، وقالوا: أمر أبى بكر فوق أمرك، فلا تستبق منهم أحدا،
فقال خالد: إنى والله ما صالحت القوم إلا لما رأيت من رقتكم، ولما نهكت
الحرب منكم، وقوم قد صالحتهم ومضى الصلح فيما بيننا وبينهم، والله لو لم
يعطونا شيئا ما قاتلتهم، وقد أسلموا.
قال أسيد بن حضير: قد قتلت مالك بن نويرة وهو مسلم، فسكت عنه خالد، فلم
يجبه، قالوا: وقال سلمة بن سلامة بن وقش: لا تخالف كتاب إمامك يا خالد،
فقال خالد: والله ما ابتغيت بذلك إلا الذى هو خير، رأيت أهل السابقة وأهل
الفضل وأهل القرآن قد قتلوا، ولم يبق معى إلا قوم خشيت أن لا يكون لهم بقاء
على السيف لو ألح عليهم، فقبلت الصلح، مع أنهم قد أظهروا الإسلام، واتقوا
بالراح.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (54) ، الإصابة الترجمة رقم
(185) ، أسد الغابة الترجمة رقم (170) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 21) ،
تهذيب الكمال (1/ 113) ، تقريب التهذيب (1/ 78) ، تهذيب التهذيب (1/ 347) ،
الوافى بالوفيات (9/ 258) ، سير أعلام النبلاء (1/ 229) ، الجرح والتعديل
(2/ 1163) ، الرياض المستطابة (29) .
(2) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 83) .
(2/136)
وكان خالد قد خطب إلى مجاعة ابنته، وكانت
أجمل أهل اليمامة، فقال له مجاعة:
مهلا، إنك قاطع ظهرى وظهرك عند صاحبك «1» ، إن القالة عليك كثيرة، وما أقول
هذا رغبة عنك، فقال له خالد: زوجنى أيها الرجل، فإنه إن كان أمرى عند صاحبى
على ما أحب فلن يفسده ما تخاف علىّ، وإن كان على ما أكره، فليس هذا بأعظم
الأمور، فقال له مجاعة: قد نصحتك، ولعل هذا الأمر لا يكون عيبة إلا عليك،
ثم زوجه.
فلما بلغ ذلك أبا بكر رضى الله عنه، غضب، وقال لعمر بن الخطاب: وأبى خالد
أنه لحريص على النساء، حين يصاهر عدوه، وينسى مصيبته، فوقع عمر فى خالد،
وعظم الأمر ما استطاع، فكتب أبو بكر إلى خالد مع سلمة بن سلامة:
يا خالد بن أم خالد، إنك لفارغ، تنكح النساء، وتعرس بهن، وببابك دماء ألف
ومائتين من المسلمين، لم تجف بعد، ثم خدعك مجاعة عن رأيك فصالحك على قومه،
ولقد أمكن الله منهم، فى كلام غير هذا ذكره وثيمة فى الردة. فلما نظر خالد
فى الكتاب قال: هذا عمل عمر «2» .
وكتب إلى أبى بكر جواب كتابه مع أبى برزة الأسلمى: أما بعد، فلعمرى ما
تزوجت النساء حتى تم لى السرور، وقرت بى الدار، وما تزوجت إلا إلى امرئ لو
أعملت إليه من المدينة خاطبا لم أبل، دع أنى استشرت خطبتى إليه من تحت
قدمى، فإن كنت كرهت لى ذلك لدين أو دنيا اعتبتك، وأما حسن عزائى على قتلى
المسلمين، فو الله لو كان الحزن يبقى حيا أو يرد ميتا لأبقى حزنى الحى ورد
الميت، ولقد أقحمت فى طلب الشهادة حتى يئست من الحياة، وأيقنت بالموت، وأما
خدعة مجاعة إياى عن رأيى، فإنى لم أخط رأى يومى، ولم يكن لى علم بالغيب،
وقد صنع الله للمسلمين خيرا، أورثهم الأرض، وجعل لهم عاقبة المتقين.
فلما قدم الكتاب على أبى بكر رضى الله عنه، رق بعض الرقة، وتم عمر على رأيه
الأول فى عيب خالد بما صنع، ووافقه على ذلك رهط من قريش، فقام أبو برزة
الأسلمى فعذر خالدا، وقال: يا خليفة رسول الله، ما يؤبن خالد بجبن ولا
خيانة، ولقد
__________
(1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 83) .
(2) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم كتاب أبى بكر رضى الله عنه إلى خالد فقال: «
... فبلغ ذلك أبا بكر فكتب إليه: لعمرى يا ابن أم خالد، إنك لفارغ حين
تتزوج النساء وحول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد، فإذا جاءك كتاب فالحق
بمن معك من جموعنا بأهل الشام، واجعل طريقك على العراق، فقال: وهو يقرأ
الكتاب: هذا عمل الأعيسر، يعنى عمر بن الخطاب.
(2/137)
أقحم حتى أعذر، وصبر حتى ظفر، وما صالح
القوم إلا على رضاه، وما أخطأ رأيه بصلح القوم، إذ هو لا يرى النساء فى
الحصون إلا رجالا، فقال أبو بكر: صدقت لكلامك هذا أولى بعذر خالد من كتابه
إلىّ.
وقد كان خالد لما وقع الصلح، خاف من عمر أن يحمل أبا بكر، رضى الله عنهما،
عليه، فكتب إلى أبى بكر كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم لأبى بكر خليفة
رسول الله من خالد بن الوليد، أما بعد، فإنى أقسم بالله أنى لم أصالحهم حتى
قتل من كنت أقوى به، وحتى عجف الكراع، وهلك الخف، ونهك المسلمون بالقتل
والجراح، حتى إنى لأفعل أمورا أرى أنى فيها معزر، أباشر القتال بنفسى حتى
ضعف المسلمون ونهكوا، حتى إن كنت لا تنكر، ثم أدخل بسيفى فرقا على المسلمين
حتى جاء بالظفر، فله الحمد.
فسر أبو بكر بذلك، فدخل عليه عمر وهو يقرأ الكتاب، فدفعه إليه، فقرأه،
فقال: إنما راقب خئونتهم وخالف أمرك، ألا ترى إلى ذكره أنه يباشر القتال
بنفسه، يمن عليك بذلك. فقال أبو بكر: لا تقل يا عمر، فإنه والى صدق ميمون
النقيبة، ناكى العدو، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقدمه ويقربه،
وقد ولاه، فقال عمر: ولاه، وخالف أمره، وقبل بدخول الجاهلية حتى كان ما
كان، فقال أبو بكر: دع هذا عنك، فقال عمر: سمعا وطاعة.
ولما فرغ خالد من الصلح، أمر بالحصون فألزمها الرجال، وحلف مجاعة بالله لا
يغيب عنه شيئا مما صالحه عليه، ولا يعلم أحدا غيبة إلا رفعه إلى خالد، ثم
فتحت الحصون، فأخرج سلاحا كثيرا، فجمعه خالد على حدة، وأخرج ما وجد فيها من
دنانير ودراهم، فجمعه على حدة، وجمع كراعهم، وترك الخف فلم يحركه ولا
الرثة، ثم أخرج السبى، فقسمه قسمين، ثم أقرع على القسمين، فخرج سهمه على
أحدهما، وفيه: مكتوب لله، ثم جزأ الذى صار له من السبى على خمسة أجزاء، ثم
كتب على كل سهم منها: لله، وجزأ الكراع، والحلقة هكذا، ووزن الذهب والفضة،
فعزل الخمس، وقسم على الناس أربعة الأخماس، وأسهم للفرس سهمين، ولصاحبه
سهما، وعزل الخمس من ذلك كله، حتى قدم به على أبى بكر الصديق، رضى الله
عنه.
ولما انقطعت الحرب بين خالد وبين أهل اليمامة، تحول من منزله الذى كان فيه
إلى منزل آخر، ينتظر كتاب أبى بكر يأمره أن ينصرف إليه بالمدينة، فبينا هو
على ذلك، إذ
(2/138)
أقبل سلمة بن عمير الحنفى، وكان من
شياطينهم، فقال لمجاعة: استأذن لى على الأمير، فإن لى إليه حاجة، فأبى
مجاعة عليه، وقال: ويحك يا سلمة، ابق على نفسك، فقد آن لك أن تبصر ما أنت
فيه، والله لكأنى أنظر إلى خالد بن الوليد قد أمر بك فضربت عنقك.
فقال سلمة: ما بينى وبين خالد من عتاب، قد قتل قومى، فلهى عنه مجاعة، يطلب
غرة من خالد، فأقبل مع الناس الذين يدخلون عليه، فلما رآه خالد التفت إلى
مجاعة، فقال: والله إنى لأعرف فى وجه هذا الشر، فقام إليه مجاعة وهو يخافه
على الذى ظن به، فإذا هو مشتمل على السيف، فقال: يا عدو الله، لعنك الله،
لقد أردت أن تستأصل حنيفة، والله لو قتلته ما بقى من حنيفة صغير ولا كبير
إلا قتل، ثم لببه بثوبه، وجعل يتله حتى أدخله بيتا، ثم أوثقه فى الحديد،
وأغلق عليه، فأفلت من الليل ومعه سيف، فوقع فى حائط من حوائط اليمامة، وعلم
شأنه وما أراد من ضرب خالد بالسيف، وكان خالد قد أمر به أن تضرب عنقه،
فكلمه فيه مجاعة، وقال: هبه لى يا أبا سليمان، فوهبه له، وقال له: أحسن
أدبه، فذلك حين حذره مجاعة، فخرج بالسيف واكتنفه أهل اليمامة، فلما رأى ذلك
أمال السيف على حلقه، فقطع أوداجه، وسقط فى بئر هناك، فانقطع ذكره.
وحدث زيد بن أسلم عن أبيه، قال: كان أبو بكر حين وجه خالدا إلى اليمامة،
رأى فى النوم كأنه أتى بتمر من تمر هجر «1» ، فأكل منها تمرة واحدة وجدها
نواة على خلقة التمرة، فلاكها ساعة ثم رمى بها، فتأولها، فقال: ليلقين خالد
من أهل اليمامة شدة، وليفتحن الله على يديه إن شاء الله، فكان أبو بكر
يستروح الخبر من اليمامة بقدر ما يجىء رسول خالد، فخرج أبو بكر يوما بالعشى
إلى ظهر الحرة، يريد أن يبلغ صرارا، ومعه عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد وطلحة
بن عبيد الله، ونفر من المهاجرين والأنصار، فلقى أبا خيثمة النجارى قد
أرسله خالد، فلما رآه أبو بكر قال له: ما وراءك يا أبا خيثمة؟ قال: خير يا
خليفة رسول الله، قد فتح الله علينا اليمامة، قال: فسجد أبو بكر، قال أبو
خيثمة: وهذا كتاب خالد إليك، فحمد الله أبو بكر وأصحابه، ثم قال:
أخبرنى عن الوقعة، كيف كانت؟.
فجعل أبو خيثمة يخبره كيف صنع خالد، وكيف صف أصحابه، وكيف انهزم المسلمون،
ومن قتل منهم، وجعل أبو بكر يسترجع ويترحم عليهم، وجعل أبو خيثمة
__________
(1) هجر: بفتح أوله وثانيه، مدينة البحرين، وهى معرفة لا تدخلها الألف
واللام، سميت بهجر بنت مكنف من العماليق. انظر: الروض المعطار (592) ، معجم
ما استعجم (4/ 1346) .
(2/139)
يقول: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، أتينا من قبل الأعراب، انهزموا بنا وعودونا ما لم نكن نحسن، حتى
أظفرنا الله بعد، ثم قال أبو بكر: كرهت رؤيا رأيتها كراهية شديدة، ووقع فى
نفسى أن خالدا سيلقى منهم شدة، وليت خالدا لم يصالحهم، وأنه حملهم على
السيف، فما بعد هؤلاء المقتولين يستبقى أهل اليمامة، ولن يزالوا من كذابهم
فى بلية إلى يوم القيامة، إلا أن يعصمهم الله، ثم قدم بعد ذلك وفد اليمامة
مع خالد على أبى بكر رضى الله عنه.
قال الواقدى: أجمع أصحابنا أن خالد بن الوليد قدم المدينة من اليمامة، وقدم
بوفد اليمامة سبعة عشر رجلا من بنى حنيفة، فيهم مجاعة بن مرارة، وإخوته،
وأن أبا بكر حبسهم، فلم يدخلهم عليه، فدخلوا على عمر بن الخطاب يكلمونه فى
أن يكلم أبا بكر أن يأذن لهم فيدخلهم أو يأذن لهم فى الرجوع إلى بلادهم،
فوجدوه يحلب شاة على رغيف فى صحفة، ومعه عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وابنه
زيد بن الخطاب، فهما ينزوان على ظهره، قالوا، أو من قال منهم: فنسبنا،
فانتسبنا، فقرب تلك الصحفة وما فيها، وقال: أصيبوا شيئا، فتحرمنا فأصبنا
شيئا، فسألته: من هذان الغلامان؟ فقال: هذان ابنا زيد بن الخطاب رحمه الله،
فوجمنا لأنا قتلنا زيدا، فلما رأى وجومنا قال: ما لكم قد سكتم؟ هذا أمر قد
ذهب، حاجتكم، قالوا: فبسطنا، فقلنا: احتبسنا ولا نقدر على الدخول على أبى
بكر، ولا السراح إلى بلادنا، فقال عمر: عليكم عهد الله وكفالته أن تناصحوا
الإسلام وأهله، قلنا: نعم، قال: ارجعوا حتى تأتوا فى هذه الساعة من غد
فأوصلكم إلى أبى بكر، فلما كان ذلك الوقت من الغد، جاؤه، فخرج معهم حتى
أوصلهم إلى أبى بكر.
وقال زيد بن أسلم عن أبيه: لما دخلوا على أبى بكر الصديق، قال: ويحكم، ما
هذا الذى استنزل منكم ما استنزل، وخدعكم، قالوا: يا خليفة رسول الله، قد
كان الذى بلغك مما أصابنا.
وذكر وثيمة أن الذى كلم أبا بكر منهم رجل من بنى سحيم، فقال: يا خليفة رسول
الله، كان رجلا مشئوما أصابته فتنة من حديث النفس، وأمانى الشيطان، دعا
إليها أقواما مثله فأجابوه فلم يبارك الله له ولا لقومه.
قال أسلم فى حديثه: ثم أقبل يعنى أبا بكر، على مجاعة، فقال: يا مجاعة، أنت
خرجت طليعة لمسيلمة حتى أخذك خالد أخذا؟ فقال: يا خليفة رسول الله، والله
ما
(2/140)
فعلت، خرجت فى طلب رجل من بنى نمير قد أصاب
فينا دما، فهجمت علينا خيل خالد، ولقد كنت قدمت على رسول الله، فلما ذكر
رسول الله، قال أبو بكر: قل صلى الله عليه وسلم، فقال: صلى الله عليه وسلم،
ثم رجعت إلى قومى، فو الله ما زلت معتزلا أمر مسيلمة حتى كان أوان قدمت
عليك مقدمى هذا، ثم لم آل لخالد فيما استشارنى إلى اليوم، وقد جئناك لترضى
عمن أساء، وتقبل ممن تاب، فإن القوم قد رجعوا وتابوا، فقال أبو بكر: أما
أنى قد كتبت إلى خالد كتابا فى أثر كتاب آمره أن لا يستبقى من بنى حنيفة
أحدا مرت عليه الموسى قال مجاعة: الذى صنع الله لك ولخالد خير، يفىء الله
بهم إلى الإسلام، قال أبو بكر: أرجو أن يكون ما صنع خالد خيرا، يا مجاعة
أنى خدعتم بمسيلمة؟ قال: يا خليفة رسول الله، لا تدخلنى فى القوم، فإن الله
يقول: لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر:
18] ، قال أبو بكر رضى الله عنه: فما كان يقول لقومه؟ قال: فكره مجاعة أن
يخبره فقال أبو بكر: عزمت عليك لتخبرنى.
وفى غير هذا الحديث أن الرجل السحيمى الذى تقدم ذكره قبل أخبره بأنه كان
يقول: يا ضفدع بنت ضفدعين، لحسن ما تنقنقين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء
تكدرين، امكثى فى الأرض حتى يأتيك الخفاش بالخبر اليقين، لنا نصف الأرض
ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فاسترجع أبو بكر، ثم قال: سبحان
الله، ويحكم، أى كلام هذا، إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر، فأين ذهب
بكم؟ الحمد لله الذى قتله، قالوا: يا خليفة رسول الله، قد أردنا الرجوع إلى
بلادنا، قال: ارجعوا، وكتب لهم كتابا آمنهم فيه.
وفى كتاب يعقوب الزهرى: أن وفد بنى حنيفة لما قدموا، نادى أبو بكر أن لا
يؤويهم أحد، ولا يبايعهم، ولا ينزلهم، ولا يكلمهم، فداروا فى المدينة لا
يكلمون ولا يبايعون، فضاقت عليهم، فقيل لهم: ائتوا عمر، فجاؤه، فوجدوه
معتقلا عنزا يحلبها على رغيف، فلما رآهم، حلب، فاشتد حلبه حتى دار الرغيف
فى القدح من شدة حلبه، ثم وضعه، فدعاهم فأكلوا معه، ومعه صبية صغيرة،
فقالوا: إنا نعوذ بالله أن يرد علينا من إسلامنا ما يقبل من غيرنا، وإنا
نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، الذى لا إله إلا هو، الذى
يعلم من السر ما يعلم من العلانية، قال: الله، إن ما تقولون بألسنتكم لحق
من قلوبكم، قالوا: الذى لا إله إلا هو إن ما نقول بألسنتنا لحق من قلوبنا،
قال:
الحمد لله الذى جعل لنا من الإسلام ما يعزنا ويردنا إليه. قال: أفيكم قاتل
زيد بن الخطاب؟ قلنا: ما تريد بذلك؟ قال: أفيكم قاتل زيد؟ فقام أبو مريم،
فقال: أنا قاتل زيد،
(2/141)
قال: وكيف قتلته؟ قال: اضطربت أنا وهو
بالسيفين حتى انقطعا، ثم أطعنا بالرمحين حتى انكسرا، ثم اصطرعنا، فشحطته
بالسكين شحطا، قال: يا بنية، هذا قاتل أبيك، فوضعت يدها على رأسها، وصاحت:
يا أبتاه.
قال: ثم خرج حتى جاء أبا بكر، فاستأذن لنا عليه، فدخلنا فقلنا له كما قلنا
لعمر، وناشدنا كما ناشدنا عمر، فحلفنا له، فقال: الحمد لله الذى جعل لنا من
الإسلام ما يعزنا ويردنا إليه، قال: أفيكم من رهط عامر بن مسلمة أحد؟ قال
خالد: وما تصنع بعامر وهذا مجاعة سيد أهل اليمامة، فكررها أبو بكر، فقال:
هل فيكم من رهط ثمامة ابن أثال أحد؟ قال خالد: وما تصنع بثمامة، وهذا مجاعة
سيد أهل اليمامة، قال أبو بكر رضى الله عنه: إنهم أهل بيت اصطعنهم النبى
صلى الله عليه وسلم، فأحب أن أصطنعهم، فقام مطرف بن النعمان بن سلمة، فقال:
عامر بن سلمة عمى، وثمامة بن أثال عمى، فاستعمله أبو بكر على اليمامة.
وقال أبو بكر لخالد: سم لى أهل البلاء، فقال: يا خليفة رسول الله، كان
البلاء للبراء بن مالك، والناس له تبع.
ولما قدم خالد المدينة لم يبق بها دار إلا فيها باك لكثرة من قتل معه من
الناس، فبكى أبو بكر رضى الله عنه، لما رأى ذلك، وقال ما أبعد ما رأى من
الظفر، والله لثابت بن قيس بن شماس «1» أعز على الأنصار من أسماعها
وأبصارها.
وكانت اليمامة فى ربيع الأول من سنة اثنتى عشرة «2» ، واختلف فى عدد من
استشهد فيها من المسلمين، فأكثر ما فى ما وقع فى كتاب أبى بكر إلى خالد: أن
ببابك دماء ألف ومائتين من المسلمين.
وقال سالم بن عبد الله بن عمر: قتل يوم اليمامة ستمائة من المهاجرين
والأنصار، وغير ذلك.
وقال زيد بن طلحة: قتل يوم اليمامة من قريش سبعون، ومن الأنصار ستون، ومن
سائر الناس خمسمائة.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (253) ، الإصابة الترجمة رقم
(906) ، أسد الغابة الترجمة رقم (569) .
(2) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 83) : أنها كانت سنة إحدى عشرة فى قول
جماعة منهم أبو معشر، فأما ابن إسحاق فإنه قال فتح اليمامة واليمن
والبحرين، وبعث الجنود إلى الشام سنة اثنتى عشرة.
(2/142)
وعن أبى سعيد الخدرى قال: قتلت الأنصار فى
مواطن أربعة سبعين سبعين، يوم أحد سبعين، ويوم بئر معونة سبعين، ويوم
اليمامة سبعين، ويوم جسر أبى عبيد سبعين.
وقال سعيد بن المسيب: قتلت الأنصار فى مواطن ثلاثة سبعين سبعين، فذكر ما
تقدم إلا بئر معونة.
وذكر عمر بن الخطاب رضى الله عنه، يوما وقعة اليمامة ومن قتل فيها من
المهاجرين والأنصار، فقال: أحلت السيوف على أهل السوابق من المهاجرين
والأنصار، ولم نجد المعول يومئذ إلا عليهم، خافوا على الإسلام أن يكسر
بابه، فيدخل منه إن ظهر مسيلمة، فمنع الله الإسلام بهم، حتى قتل عدوه وأظهر
كلمته، وقدموا يرحمهم الله، على ما يسرون به من ثواب جهادهم من كذب على
الله وعلى رسوله، ورجع عن الإسلام بعد الإقرار به.
وفى رواية عنه: جعل منادى المسلمين، يعنى يوم اليمامة، ينادى: يا أهل
الوجوه، لولا ما استدرك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من جمع القرآن
لخفت أن لا يلتقى المسلمون وعدوهم فى موضع إلا استحر القتل بأهل القرآن.
ولما قتل ثابت بن قيس بن شماس يوم اليمامة، ومعه كانت راية الأنصار يومئذ،
وهو خطيبهم وسيد من سادتهم، أرى رجل من المسلمين فى منامه ثابت بن قيس يقول
له:
إنى موصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إنى لما قتلت بالأمس جاء
رجل من ضاحية نجد وعلىّ درع فأخذها، فأتى بها منزله فأكفأ عليها برمة، وجعل
على البرمة رحلا، وخباؤه فى أقصى العسكر، إلى جنب خبائه فرس يستن فى طوله،
فائت خالد بن الوليد فأخبره فليبعث إلى درعى فليأخذها، وإذا قدمت على خليفة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن علىّ من الدين كذا ولى من الدين
كذا، وسعد ومبارك غلاماى حران، وإياك أن تقول هذا حلم، فتضيعه.
فلما أصبح الرجل أتى خالد بن الوليد فأخبره، فبعث خالد إلى الدرع فوجدها
كما قال، وأخبره بوصيته فأجازها، ولا نعلم أحدا من المسلمين أجيزت، وصيته
بعد موته إلا ثابت بن قيس «1» .
وقد روى أن بلال بن الحارث كان صاحب الرؤيا، رواه الواقدى، ثم قال بعقبه:
فذكرته، يعنى الحديث، لعبد الله بن سعد، فقال: حدثنى عبد الواحد بن أبى
عون، قال:
__________
(1) ذكر ابن عبد البر فى الاستيعاب هذا الخبر فى ترجمة ثابت رقم (253) .
(2/143)
قال بلال: رأيت فى منامى كأن سالما مولى
أبى حذيفة قال لى ونحن منحدرون من اليمامة إلى المدينة: إن درعى مع الرفقة
الذين معهم الفرس الأبلق، تحت قدرهم، فإذا أصبحت فخذها من تحت قدرهم، فاذهب
بها إلى أهلى، وإن علىّ شيئا من دين، فمرهم يقضونه، قال بلال: فأقبلت إلى
تلك الرفقة، وقدرهم على النار، فألفيتها وأخذت الدرع، وجئت أبا بكر فحدثته
الحديث، فقال: نصدق قولك، ونقضى دينه الذى قلت.
وقتل الله من بنى حنيفة يوم اليمامة عددا كثيرا، ففى كتاب يعقوب الزهرى أنه
قتل منهم أكثر من سبعة آلاف، وعن غيره أنه أصيب يومئذ من صليب بنى حنيفة
سبعمائة مقاتل، وكان داؤهم خبيثا، والطارئ منهم على الإسلام عظيما، فاستأصل
الله تعالى شأفتهم، ورد ألفة الإسلام على ما كانت عليه على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
ذكر ردة بنى سليم
ذكر الواقدى من حديث سفيان بن أبى العوجاء السلمى، قال: وكان عالما بردة
قومه، مع أنه كان من وعاة العلم، وممن يوثق به فى الدين، قال: أهدى ملك من
ملوك غسان إلى النبى صلى الله عليه وسلم، لطيمة فيها مسك وعنبر، وخيل،
فخرجت بها الرسل حتى إذا كانوا بأرض بنى سليم، بلغتهم وفاة النبى صلى الله
عليه وسلم، فتشجع بعض بنى سليم على أخذها والردة، وأبى بعضهم من ذلك،
وقالوا: إن كان محمد قد مات، فإن الله حى لا يموت، وكان الذين ارتدوا منهم
عصية وبنو عميرة وبنو عوف، وبعض بنى جارية، والذين انتهبوا اللطيمة
فتمزقوها، بنو الحكم بن مالك بن خالد بن الشريد.
فلما ولى أبو بكر كتب إلى معن بن حاجز «1» فاستعمله على من أسلم من بنى
سليم، وكان قد قام فى ذلك قياما حسنا، ذكر وفاة النبى صلى الله عليه وسلم،
وذكر الناس ما قال الله لنبيه عليه السلام: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ
مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية [آل عمران: 144] والتى قبلها، مع آى من كتاب
الله، فاجتمع إليه بشر كثير من بنى سليم، وانحاز أهل الردة منهم فجعلوا
يغيرون على الناس، ويقطعون السبيل، فلما بدى لأبى بكر أن يوجه خالد بن
الوليد إلى الضاحية، كتب إلى معين بن حاجز أن يلحق بخالد بن الوليد هو ومن
معه من المسلمين، ويستعمل
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2499) ، الإصابة الترجمة رقم
(8473) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2499) .
(2/144)
على عمله طريفة بن حاجز، ففعل، وأقام طريفة
يكالب من ارتد بمن معه من المسلمين، يغير عليهم ويغيرون عليه، إذ قدم
الفجاءة، وهو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عمير ابن خفاف، على أبى بكر
الصديق، فقال: يا أبا بكر، إنى مسلم، وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار،
فاحملنى وأعنى، فإنه لو كان عندى قوة لم أقدم عليك، ولكنى مضعف من الظهر
والسلاح، فسر أبو بكر بمقدمه، فحمله على ثلاثين بعيرا، وأعطاه سلاح ثلاثين
رجلا، فخرج يستعرض المسلم والكافر، فيأخذ أموالهم، ويصيب من امتنع مع قوم
من أهل الردة قد تبعوه على ذلك، لقد أغار على قوم بالأرحضية مسلمين، جاؤا
يريدون أبا بكر، فسلبهم وقتلهم، ومعه رجل من بنى الشريد، يقال له: نجبة بن
أبى المثنى.
فلما بلغ أبا بكر خبره وما صنع، كتب إلى طريفة بن حاجز: بسم الله الرحمن
الرحيم، من أبى بكر خليفة رسول الله إلى طريفة بن حاجز، سلام عليك، فإنى
أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلى على محمد صلى الله عليه
وسلم أما بعد، فإن عدو الله الفجاءة أتانى، فزعم أنه مسلم، وسألنى أن أقويه
على قتال من ارتد عن الإسلام، فقويته، وقد انتهى إلى الخبر اليقين أنه قد
استعرض المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم، ويقتل من امتنع منهم، فسر إليه بمن
معك من المسلمين حتى تقتله أو تأسره، فتأتينى به فى وثاق إن شاء الله،
والسلام عليك ورحمة الله.
فقرأ طريفة كتاب أبى بكر على قومه المسلمين، فحشدوا، وساروا معه إلى
الفجاءة، فقدم إليهم نجبة بن أبى المثنى، فناوش المسلمين، وقتل نجبة، وهرب
من كان معه إلى الفجاءة، ثم زحف طريفة إلى الفجاءة، فتصادما، وجعل المسلمون
يرمون بالنبل، ورمى أصحاب الفجاءة شيئا وهم منكسرون لما يرون من انكسار
الفجاءة وندامته، فقال: يا طريفة «1» والله ما كفرت، وإنى لمسلم، وما أنت
بأولى بأبى بكر منى، أنت أميره وأنا أميره، قال طريفة: فإن كنت صادقا، فألق
السلاح، ثم انطلق إلى أبى بكر فأخبره خبرك، فوضع الفجاءة السلاح، وأوثقه
طريفة فى جامعة، فقال طريفة: لا تفعل، فإنك إن أقدمتنى فى وثاق أشعرتنى،
فقال طريفة: هذا كتاب أبى بكر إلى: أن ابعثك إليه فى وثاق، فقال الفجاءة:
سمعا وطاعة، فبعث به فى جامعة مع عشرة من بنى سليم، فأرسل به أبو بكر رضى
الله عنه، إلى بنى جشم، فحرقه بالنار.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1308) ، الإصابة الترجمة رقم
(4263) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2605) .
(2/145)
وقدم على أبى بكر رضى الله عنه، قبيصة، أحد
بنى الضربان، من بنى خفاف، فذكر أن مسلم، وأنه قومه لم يرتدوا، فأمره أبو
بكر أن يقاتل بمن معه من سليم على الإسلام من ارتد عنه منهم، فرجع قبيصة
إلى قومه، فاجتمع إليه ناس كثير ممن ثبت على الإسلام، فخرج يتبع بهم أهل
الردة يقتلهم حيث وجدهم، حتى مر ببيت خميصة بن الحكم الشريدى، فوجده غائبا
يجمع أهل الردة، ووجد جارا له مرتدا، فقتله، واستاق ماله ومضى حتى نزل
منزلا، فذبح أصحابه شاة من غنم جار خميصة، ثم راحوا، ويقبل خميصة حتى أتى
أهله، فيخبروه خبر جاره، فخرج فى طلب القوم حتى مر بمنزلهم حيث ذبحوا
الشاة، فيجد رأسها مملولا، قد تركه القوم، فأخذه، فجعل ينهش منه، وهو
يطلبهم فأدركهم وهو ينهشه والدم يسيل على لحيته، وكان رجلا أيدا، فقال
لقبيصة: قتلت جارى؟ قال: إن جارك ارتد عن الإسلام، قال: فاردد ماله، فرد
قبيصة ماله، فقال: وفقد الشاة التى ذبحوا، فقال: أين الشاة التى ذبحت؟
فقال: لا سبيل إليها، قد أكلها القوم وهم مستحقون لذلك فى طلب قوم كفروا
بعد إسلامهم، فقال: يا قبيصة، أمن بين من كفر تعدو على جار لجأ إلى لأمنعه؟
فقال قبيصة: قد كان ذلك فاصنع ما أنت صانع، فطعن قبيصة بالرمح، فوقع فى
واسط الرحل، فدقه وانثنى سنان الرمح، وخر قبيصة عن بعيره، فقال لخميصة: إنك
قد أشويتنى، فاكفف، فعدل خميصة سنان رمحه بين حجرين ثم شد على قبيصة، وهو
يقول: أكفف بعد قتل جارى، لا والله أبدا، فطعنه بالرمح فقتله وكان قبيصة قد
فرق أصحابه، وبثهم قبل أن يلحقه خميصة.
وكتب أبو بكر رحمه الله، إلى خالد بن الوليد: أما بعد، فإن أظفرك الله ببنى
حنيفة، فأقل اللبث فيهم حتى تنحدر إلى بنى سليم فتطأهم وطأة يعرفون بها ما
منعوا، فإنه ليس بطن من العرب أنا أغيظ عليه منى عليهم، قدم قادمهم يذكر
إسلاما ويريد أن أعينه، فأعنته بالظهر والسلاح، ثم جعل يعترض الناس، فإن
أظفرك الله بهم فلا ألومك فيهم، فى أن تحرقهم بالنار، وتهول فيهم بالقتل،
حتى يكون نكالا لهم.
قالوا: فجعل خالد بن الوليد يبعث الطلائع أمامه، وسمعت بنو سليم بمقبل
خالد، فاجتمع منهم بشر كثير يعرضون لهم، وجلهم بنو عصية، واستجلبوا من بقى
من العرب مرتدا، وكان الذى جمعهم أبو شجرة بن عبد العزى، فانتهى خالد إلى
جمعهم بالجواء مع الصبح، فصاح خالد فى أصحابه، وأمرهم بلبس السلاح، ثم
صفهم، وصفت بنو سليم، وقد كل المسلمون وعجف كراعهم، وخفهم، وجعل خالد يلى
القتال بنفسه، حتى أثخن فيهم القتل، ثم حمل عليهم حملة واحدة، فهربوا، وأسر
منهم بشر كثير، فجعل
(2/146)
يضرب أحدهم على عاتقه فيجز له باثنين،
ويبدو سحره، ويضرب الآخر من وسطه.
وفى حديث سفيان بن أبى العوجاء: أن خالدا خطر لهم الخطائر، فحرقهم فيها
بالنار، وأصاب أبو شجرة يومئذ، فى المسلمين وجرح جراحات كثيرة، وقال فى ذلك
أبياتا، يقول فى آخرها:
فرويت رمحى من كتيبة خالد ... وإنى لأرجو بعدها أن أعمرا
ولما قدم خالد على أبى بكر، كان أول ما سأل عنه خبر بنى سليم، فأخبره خالد،
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قدم على أبى بكر معاوية بن الحكم، وأخوه خميصة
مسلمين، فقال أبو بكر لخميصة: أنت قتلت قبيصة، ورجعت عن الإسلام؟ قال: إنه
قتل جارى، قال: وإن قتل جارك على ردة، قتلته، لن تفلت منى حتى أقتلك، فقال
أخوه: يا خليفة رسول الله، كان يومئذ مرتدا كافرا موتورا، وقد تاب اليوم
وراجع، ولكن نديه قال أبو بكر: فأخرج ديته، فقال: أفعل يا خليفة رسول الله،
قال: فنعم الرجل كان قبيصة، ونعم السبيل مات عليه.
ثم قال لمعاوية: وعمدتم يا بنى الشريد إلى لطيمة بعث بها إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فانتهبتموها، وقلتم إن يقم بهذا الأمر رجل من قريش، فلعمرى
ليرضى أن تدخلوا فى الإسلام مع الناس، فكيف يأخذكم بأمن الطريق إلى رجل قد
مات، فإن طلب ما أخذتم فإنما يطلبها أهل بيته، فما كانوا يطلبون ذلك منكم
وأنتم أخوالهم. قال معاوية: نحن نضمنها حتى نؤديها إليك، فحمل أبو بكر،
معاوية اللطيمة التى أصابوها، ووقت لهم شهرين أو ثلاثة.
قال: فأداها إلى أبى بكر، ثم إن أبا شجرة أسلم، ودخل فيما دخل فيه الناس،
فجعل يعتذر ويجحد أن يكون قال البيت المتقدم، فلما كان زمن عمر بن الخطاب،
قدم أبو شجرة وأناخ راحلته بصعيد بنى قريظة، وجاء من حرة شوران، ثم أتى عمر
وهو يقسم بين فقراء العرب، فقال: يا أمير المؤمنين، أعطنى، فإنى ذو حاجة،
فقال: من أنت؟ قال:
أنا أبو شجرة بن عبد العزى، فقال له: يا عدو الله، ألست الذى يقول:
فرويت رمحى من كتيبة خالد ... وإنى لأرجو بعدها أن أعمرا
عمر الله سوء ما عشت لك يا خبيث، ثم جعل يعلوه بالدرة على رأسه، حتى سبقه
عدوا، وعمر فى طلبه، فرجع أبو شجرة موليا إلى راحلته، فارتحلها، ثم شد بها
فى حرة شوران راجعا إلى أرض بنى سليم، فما استطاع أبو شجرة أن يقرب عمر حتى
توفى،
(2/147)
وإن كان إسلامه لا بأس به، وكان إذا ذكر
عمر ترحم عليه، ويقول: ما رأيت أحدا أهيب من عمر بن الخطاب.
وقال أبو شجرة فيما كان من ذلك:
ضن علينا أبو حفص بنائله ... وكل مختبط يوما له ورق
ما زال يرهقنى حتى خذيت له ... وحال من دون بعض البغية الشفق
لما لقيت أبا حفص وشرطته ... والشيخ يقرع أحيانا فينحمق
ثم ارعويت إلى وجناء كاشرة ... مثل الطريرة لم يثبت لها الأفق
أقبلت الخيل من شوران صادرة ... أنى لأزرى عليها وهى تنطلق
تطير مروا خطاها عن مناسمها ... كما ينقر عند الجهبذ الورق
إذا يعارضها خرق تعارضه ... ورهاء فيها إذا استعجلتها خرق
ينوء آخرها منها وأولها ... سرح اليدين معا نهاضة فتق
وفى حديث هشام بن عروة عن أبيه: أن لقاء أبى شجرة عمر كان على غير ما تقدم،
وأن أبا شجرة قدم المدينة، فأدخل راحلته بعض دورها، ودخل المسجد متنكرا،
فاضطجع فيه، وكان عمر رضى الله عنه، قل شىء يظنه إلا كان حقا، فبينا عمر
جالسا فى أصحابه، وأبو شجرة مضطجع، قال عمر: إنى لأرى هذا أبا شجرة، فقام
حتى وقف عليه، فقال: من أنت؟ قال: رجل من بنى سليم، قال: انتسب، قال: فلان
بن عبد العزى، قال: ما كنيتك؟ قال: أبو شجرة، فعلاه بالدرة.
ثم ذكر من تقريره على قوله: فرويت رمحى البيت، نحوا مما تقدم.
ردة البحرين «1»
حدث يعقوب الزهرى عن إسحاق بن يحيى، عن عمه عيسى بن طلحة، قال: لما ارتدت
العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صاحب المدائن: من يكفينى
أمر العرب، فقد مات صاحبهم وهم الآن يختلفون بينهم، إلا أن يريد الله بقاء
ملكهم فيجتمعوا على أفضلهم، فإنهم إن فعلوا صلح أمرهم، وبقى ملكهم، وأخرجوا
العجم من أرضهم، قالوا:
نحن بذلك على أكمل الرجال، قال: من؟ قالوا: مخارق بن النعمان، ليس فى الناس
مثله، وهو من أهل بيت قد دوخوا العرب ودانت لهم، وهؤلاء جيرانك بكر بن
وائل، فأرسل
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 83- 85) ، تاريخ الطبرى (3/ 301) ،
الأغانى (15/ 255) .
(2/148)
منهم ناسا مع مخارق، فأرسل معه ستمائة من
بكر بن وائل، الأشرف فالأشرف، وارتد أهل هجر عن الإسلام.
وعن الحسن بن أبى الحسن: أن الجارود قام فى قومه، فقال: يا قوم، ألستم
تعلمون ما كنت عليه من النصرانية، وإنى لم آتكم قط إلا بخير، وإن الله
تعالى بعث نبيه فنعى له نفسه وأنفسكم؟ فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ
مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ
شَيْئاً [آلا عمران: 144] .
وفى حديث آخر، أنه قام فيهم، فقال: ما شهادتكم أيها الناس على موسى؟ قالوا:
نشهد أنه رسول الله، قال: فما شهادتكم على عيسى؟ قالوا: نشهد أنه رسول
الله، قال:
وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، عاش كما عاشوا، ومات
كما ماتوا، وأتحمل شهادة من أبى أن يشهد على ذلك، فلم يرتد من عبد القيس
أحد.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين وفدوا عليه: «عبد القيس خير
أهل المشرق، اللهم اغفر لعبد القيس ثلاثا، وبارك لهم فى ثمارهم» ، فخرجوا
مسرورين بدعوته وأهدوا له من طرائف ثمارهم، وثبتوا على الإسلام حين الردة.
وكان النبى صلى الله عليه وسلم، استعمل أبان بن سعيد بن العاص «1» على
البحرين، وعزل العلاء بن الحضرمى، فسأل أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم،
أن يحالف عبد القيس، فأذن له، فحالفهم، فلما بلغ أبان بن سعيد مسير من سار
إليه مرتدين، قال لعبد القيس: أبلغونى مأمنى، فأشهد أمر أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فليس مثلى يغيب عنهم، فأحيا بحياتهم، وأموت بمماتهم،
فقالوا: لا تفعل، فأنت أعز الناس علينا، وهذا علينا وعليك فيه مقالة، يقول
قائل: فر من القتال، فأبى وانطلق معه ثلاثمائة رجل يبلغونه المدينة، فقال
أبو بكر لأبان: ألا ثبت مع قوم لم يبدلوا ولم يرتدوا؟ فقال: ما كنت لأعمل
لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر أبان من عبد القيس خيرا، فدعا أبو بكر العلاء بن الحضرمى، فبعثه إلى
البحرين، فى ستة عشر راكبا، وقال: امض، فإن أمامك عبد القيس، فسار حتى
بلغهم، ومر بثمامة بن أثال الحنفى، فأمده برجال من قومه بنى سحيم، ولحق به
ثمامة، فخرج
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (4) ، الإصابة الترجمة رقم (2)
، أسد الغابة الترجمة رقم (2) ، نسب قريش (174، 175) ، طبقات خليفة (298) ،
الجرح والتعديل (2/ 295) ، تاريخ الإسلام (1/ 376، 378) .
(2/149)
العلاء بمن معه حتى نزل بحصن يقال له
جواثى، وكان مخارق قد نزل بمن معه من بكر بن وائل المشقر، فسار إليهم
العلاء فيمن اجتمع إليه من المسلمين، فقاتلهم قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى
وأكثرها فى أهل الردة، والجارود بالخط يبعث البعوث إلى العلاء، وبعث مخارق
الخطم بن شريح، أحد بنى قيس بن ثعلبة إلى مرزبان الخط يستمده، فأمده
بالأساورة، فنزل الخطم ردم الفلاح، وكان حلف أن لا يشرب الخمر حتى يرى هجر،
فقالوا له: هذه هجر، وأخذ المرزبان الجارود رهينة عنده، وقال عبد الرحمن بن
أبى بكرة: أخذ الخطم الجارود، فشده فى الحديد، وسار الخطم وأبجر بن العجلى
فيمن معهما حتى حصروا العلاء بن الحضرمى بجواثى. فقال عبد الله بن حذف أحد
بنى عامر بن صعصعة:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا ... وسكان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى نفر يسير ... مقيم فى جواثى محصرينا
كأن دماءهم فى كل شمس ... شعاع الشمس يغشين العيونا
توكلنا على الرحمن إنا ... وجدنا النصر للمتوكلينا «1»
فمكثوا على ذلك محصورين، فسمع العلاء وأصحابه ذات ليلة لغطا فى عسكر
المشركين، فقالوا: والله لوددنا أن لو علمنا أمرهم، فقال عبد الله بن حذف:
أنا أعلم لكم علمهم، فدلونى بحبل، فدلوه، فأقبل حتى يدخل على أبجر بن جابر
العجلى، وأم عبد الله امرأة من بنى عدل، فلما رآه أبجر، قال: ما جاء بك، لا
أنعم الله بك علينا؟ قال:
يا خالى، الضرر والجوع وشدة الحصار، وأردت اللحاق بأهلى، فزودنى. قال أبجر:
أفعل، على أنى أظنك والله على غير ذلك، بئس ابن الأخت سائر الليلة، فزوده
وأعطاه نعلين، وأخرجه من العسكر، وخرج معه حتى برزا، فقال له: انطلق، فإنى
والله لأراك بئس ابن الأخت أنت هذه الليلة، فمض ابن حذف كأنه لا يريد
الحصن، حتى أبعد، ثم عطف فأخذ بالحبل، فصعد الحصن، فقالوا: ما وراءك؟ قال:
ورائى والله أنى تركتهم سكارى لا يعقلون، قد نزل بهم تجار من تجار الخمر،
فاشتروا منهم ثم وقعوا فيها، فإن كانت لكم حاجة بهم فالليلة، فنزل إليهم
المسلمون، فبيتوهم، ووضعوا فيهم سلاحهم حيث شاؤا «2» .
وقال إسحاق بن يحيى بن طلحة فى حديثه: كان العلاء فى ثلاثمائة وستة وعشرين
__________
(1) انظر الأبيات فى: البداية والنهاية (6/ 321) .
(2) راجع ما ذكره ابن كثير فى البداية (6/ 320- 323) .
(2/150)
من المهاجرين، فطرقوهم، فوجدوهم قد ثملوا،
فقتلوهم، فلم يفلت منهم أحد، ووثب الخطم وهو سكران، فوضع رجله فى ركاب
فرسه، ثم جعل يقول: من يحملنى، فسمعه عبد الله بن حذف، فأقبل نحوه وهو
يقول: أبا ضبيعة؟ قال: نعم، قال: أنا أحملك، فلما دنا منه ابن حذف ضربه حتى
قتله، وقطعت رجل أبجر بن جابر العجلى فمات منها وقد كان قال حين قطعت:
قاتلك الله يا ابن حذف، ما أشأمك، وقد قيل إن عفيف بن المنذر، أحد بنى عمرو
بن تميم، هو الذى سمع كلام الخطم حين رام الركوب، فلم يستطع، فقال: ألا رجل
من بنى قيس بن ثعلبة يعقلنى الليلة، فقال له عفيف وقد عرف صوته: أبا ضبيعة،
أعطنى رجلك، فأعطاه إياها، يظن أنه يعقله على فرسه، فأطنها من الفخذ وتركه،
فقال: أجهز على، فقال: إنى أحب أن لا تموت حتى أمصك، وكان مع عفيف تلك
الليلة عدة من بنى أبيه أصيبوا.
وقتل ليلتئذ مسمع بن سنان، أبو المسامعة، وانهزم الباقون، حتى صاروا فى
ناحية من البحرين فعصموا بمفروق الشيبانى.
قال إسحاق: وأصبح ما أفاء الله على المسلمين من خيولهم، وما سوى ذلك عند
العلاء فى حصن جواثى، ثم صار العلاء إلى المدينة فقاتلهم قتالا شديدا،
وهزمهم الله حتى لجئوا إلى باب المدينة، فضيق عليهم، فلما رأى ذلك مخارق
ومن معه، قالوا: إن خلوا عنا رجعنا من حيث جئنا، فشاور العلاء أصحابه،
فأشاروا عليه أن يخلى عنهم، فخرجوا فلحقوا ببلادهم، وبقى أهل المدينة،
فطلبوا الصلح والأمان، فصالحهم العلاء على ثلث ما فى أيديهم بالمدينة من
أموالهم، وما كان من شىء خارج منها، فهو له، فبعث العلاء بمال كثير إلى
المدينة.
وفى غير هذا الحديث أن عبد القيس لما أوقعوا تلك الليلة ببكر بن وائل، طفقت
بكر تنادى: يا عبد القيس، إياكم مفروق بن عمرو فى جماعة بكر بن وائل، فقال
عبد الله بن حذف فى ذلك:
لا توعدونا بمفروق وأسرته ... إن يأتنا يلق منا سنة الخطم
النخل ظاهرها خيل وباطنها ... خيل تكردس بالفرسان كالنعم
وإن ذا الحى من بكر وإن كثروا ... لأمة داخلون النار فى أمم
ثم سار العلاء بن الحضرمى إلى الخط حتى نزل على الساحل، فجاءه نصرانى، فقال
له: مالى إن دللتك على مخاضة تخوض منها الخيل إلى دارين، قال: وما تسألنى؟
قال: أهل
(2/151)
بيت بدارين، قال: هم لك، فخاض به وبالخيل
إليهم، فظفر عليهم عنوة، وسبى أهلها، ثم رجع إلى عسكره.
وقال إبراهيم بن أبى حبيبة: حبس لهم البحر حتى خاضوه إليهم، وجازه العلاء
وأصحابه مشيا على أرجلهم، وقد تجرى فيه السفن قبل، ثم جرت فيه بعد،
فقاتلهم، فأظفره الله بهم، وسلموا له ما كانوا منعوا من الجزية التى صالحهم
عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروى أنه كان للعلاء بن الحضرمى ومن كان معه جوار إلى الله تعالى فى خوض
هذا البحر، فأجاب الله دعائهم، وفى ذلك يقول عفيف بن المنذر، وكان شاهدا
معهم «1» :
ألم تر أن الله ذلل بحره ... وأنزل بالكفار إحدى الجلائل
دعونا الذى شق البحار فجاءنا ... بأعظم من غلق البحار الأوائل
وفى حديث غيره، قال: لما رأى ذلك أهل الردة من أهل البحرين سألوه الصلح على
ما صالح عليه أهل حجر.
ولما ظهر العلاء بن الحضرمى على أهل الردة والمجوس من أهل البحرين، أقام
عليها أميرا، وبعث أربعة عشر رجلا من رؤساء عبد القيس وفدا إلى أبى بكر
الصديق رضى الله عنه، فنزلوا على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام،
وأخبروهما بمسارعتهم إلى الإسلام وقيامهم فى الردة، ثم دخل القوم على أبى
بكر، وحضر الزبير وطلحة رضى الله عنهم، فقالوا: يا خليفة رسول الله، إنا
قوم أهل إسلام، وليس شىء أحب إلينا من رضاك، ونحن نحب أن تعطينا أرضا من
أرض البحرين وطواحين، فأبى أبو بكر، فكلمه فى ذلك طلحة والزبير، فأذعن،
وقال: اشهدوا أنى قد فعلت وأعطيتهم كل ما سألونى، وعرفت لهم قدر إسلامهم،
فجزوه خيرا.
فلما خرجوا من عنده، قال لهم طلحة: إن هذا الأمر لا نراه يليه بعد أبى بكر
إلا عمر، فكلموا أبا بكر يكتب لكم كتابا، ويشهد فيه عمر، فلا يكون لعمر بعد
هذا اليوم كلام، فعادوا إلى أبى بكر، فذكروا له ذلك، فدعا عبد الله بن
الأرقم، فقال: اكتب لهم بهذا الذى أعطيتهم، ففعل، وشهد فى الكتاب عشرة من
قريش والأنصار، ولم يكن عمر بن الخطاب حاضرا، فانطلقوا إليه، فأقرأوه
الكتاب، فلما قرأه فض الخاتم ثم تفل
__________
(1) انظر الأبيات فى: البداية والنهاية (6/ 323) .
(2/152)
فيه، ورده عليه، فأقبل الوفد على طلحة،
فقالوا: هذا عملك أنت، أمرتنا أن نشهد عمر، واتهموه فى أمرهم، فقال طلحة:
والله ما أردت إلا الخير، فرجعوا إلى أبى بكر غضابا، فخبروه الخبر، ودخل
طلحة والزبير، فقالا: والله ما ندرى أنت الخليفة أم عمر، فقال أبو بكر: وما
ذاك؟ فأخبروه، فقال: فما صنع عمر بالكتاب؟.
قالوا: فض الخاتم وتفل فى الكتاب ومحاه، فقال أبو بكر: لئن كان عمر كره من
ذلك شيئا، فإنى لا أفعله، فبينما هم كذلك إذ جاء عمر، فقال له أبو بكر: ما
كرهت من هذا الكتاب؟ فقال: كرهت أن تعطى الخاصة دون العامة، ولكن اجعل أمر
الناس واحدا لا يكون عندك خاصة دون عامة، وإلا فأنت تقسم على الناس فيئهم،
فتأبى أن تفضل أهل السابقة وأهل بدر وتعطى هؤلاء قيمة عشرين ألفا دون
الناس، فقال أبو بكر:
وفقك الله وجزاك خيرا، فهذا هو الحق.
وذكر وثيمة بن موسى: أن بكر بن وائل لما خفت عند ردة العرب بعد وفاة النبى
صلى الله عليه وسلم، قالوا: والله لنردن هذا الملك إلى آل النعمان بن
المنذر، فبلغ ذلك كسرى، فبعث فى وجوههم، فقدموا عليه وعنده يومئذ المخارق
بن النعمان وهو المنذر بن النعمان بن المنذر، وكان يسمى الغرور، فقال لهم:
سيروا مع المنذر بن النعمان، فإنى قد ملكته، فخذوا البحرين، فساروا، وسارت
معه الأساورة، وهم يومئذ ستة آلاف راكب، ثم إن كسرى ندم على تمليك المنذر
وتوجيه من وجه معه، وقال: غلام موبق، قتلت أباه، معه كتيبة النعمان من بكر
بن وائل يأتون إخوتهم من عبد القيس، وهو غلام فتى السن لم يختبر، هذا خطأ
من الرأى، فصرفه إليه، وانكسر المنذر للذى صنع به، ثم عاود كسرى رأيه فيه
لكلام بلغه عنه، فأمضاه وسرح معه أبجر بن جابر العجلى، ثم ذكر حديثا طويلا
تتخلله أشعار كثيرة لم أر لذكر شىء منها وجها، واستغنيت من حديثهم بما تقدم
منه.
وذكر أن المنذر لما كان من ظهور الإسلام ما تقدم ذكره هرب إلى الشام، فلحق
ببنى جفنة، وندم على ما مضى منه، ثم ألقى الله فى قلبه الإسلام، فأسلم،
فكان بعد إسلامه، يقول: لست بالغرور ولكنى المغرور، هذا ما ذكره وثيمة فى
شأن الغرور.
وذكر سيف فى فتوحه وحكاه الدارقطنى عنه، قال: الغرور بن سويد أسر يوم
البحرين، أسره عفيف بن المنذر وأجاره، فأتى به العلاء بن الحضرمى، فقال:
إنى قد أجرت هذا، قال: ومن هو؟ قال: الغرور، قال: أنت غررت هؤلاء؟ قال: إنى
لست
(2/153)
بالغرور ولكنى المغرور، قال: أسلم، فأسلم،
وبقى بهجر، وكان اسمه الغرور وليس بلقب.
ذكر ردة أهل دبا وأزد عمان «1»
وكان وفد الأزد من أهل دبا قد قدموا على النبى صلى الله عليه وسلم، مقرين
بالإسلام، فبعث عليهم مصدقا منهم، يقال له حذيفة بن اليمان الأزدى، من أهل
دبا، وكتب له فرائض صدقات أموالهم، ورسم له أخذها من أغنيائهم وردها على
فقرائهم، ففعل حذيفة ذلك، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بفرائض
فضلت من صدقاتهم لم يجد لها موضعا، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، منعوا الصدقة وارتدوا، فدعاهم حذيفة إلى التوبة، فأبوا، وأسمعوه شتم
النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: يا قوم، أسمعونى الذى فى أبى وفى أمى، ولا
تسمعونى الأذى فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا ذلك، وجعلوا
يرتجزون:
لقد أتانا خير ردى ... أمست قريش كلها نبى
ظلم لعمر الله عبقرى «2»
فكتب حذيفة إلى أبى بكر الصديق بما كان منهم، فاغتاظ أبو بكر عليهم غيظا
شديدا، وقال: من هؤلاء، ويل لهم، ثم بعث إليهم عكرمة بن أبى جهل، وكان
النبى صلى الله عليه وسلم، استعمله على سفلى بن عامر بن صعصعة مصدقا، فلما
بلغته وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، انحاز إلى تبالة فى أناس من العرب
ثبتوا على الإسلام، فكان مقيما بتبالة من أرض كعب بن ربيعة، فجاءه كتاب أبى
بكر الصديق وكان أول بعث بعثه إلى أهل الردة، أن سر فيمن قبلك من المسلمين
إلى أهل دبا، فسار عكرمة فى نحو ألفين من المسلمين، ورأس أهل الردة لقيط بن
مالك، فلما بلغه مسير عكرمة بعث ألف رجل من الأزد يلقونه، وبلغ عكرمه أنهم
فى جموع كثيرة، فبعث طليعة، وكان لأصحاب لقيط أيضا طليعة، فالتقى الطليعتان
فتناوشوا ساعة.
ثم انكشف أصحاب لقيط، وبعث أصحاب عكرمة فارسا نحو عكرمة، فلما أتاه الخبر
أسرع بأصحابه ومن معه حتى لحق طليعته، ثم زحفوا جميعا ميمنة وميسرة، وسار
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 85) ، تاريخ الطبرى (3/ 314) ، البداية
والنهاية لابن كثير (6/ 323- 325) .
(2) انظر الأبيات فى: الروض المعطار ص (232) .
(2/154)
على تعبئته حتى إذا أدرك القوم والتقوا
فاقتتلوا ساعة، ثم رزق الله عكرمة عليهم الظفر، فهزمهم وأكثر فيهم القتل،
وخرجوا منهزمين راجعين إلى لقيط بن مالك، فأخبروه أن جمع عكرمة مقبل إليهم،
وأنهم لا طاقة لهم بهم، وفقدوا من أصحابهم بشرا كثيرا، منهم من قتل ومنهم
من أسره عكرمة أسرا.
فلما انتهوا إلى لقيط مفلولين قوى حذيفة بن اليمان بمن معه من المسلمين،
فناهضهم وناوشهم، وجاء عكرمة فى أصحابه، فقاتل معهم، فأصابوا منهم مائة أو
نحوها فى المعركة، ثم انهزموا حتى دخلوا مدينة دبا «1» ، فتحصنوا فيها،
وحصرهم المسلمون فى حصنهم شهرا أو نحوه، وشق عليهم الحصار، إذ لم يكونوا
أخدوا له أهبته، فأرسلوا إلى حذيفة رجلا منهم يسألونه الصلح، فقال: لا إلا
أن أخيرهم بين حرب مجلية أو سلم مخزية، قالوا: أما الحرب المجلية فقد
عرفناها، فما السلم المخزية؟.
قال: تشهدون أن قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار، وأن ما أخذنا منكم فهو
لنا وأن ما أخذتموه منا فهو رد علينا، وأنا على حق وأنكم على باطل وكفر
ونحكم فيكم بما رأينا، فأقروا بذلك، فقال: اخرجوا عن مدينتكم عزلا لا سلاح
معكم، ففعلوا، فدخل المسلمون حصنهم، فقال حذيفة: إنى قد حكمت فيكم: أن أقتل
أشرافكم، وأسبى ذراريكم. فقتل من أشرافهم مائة رجل، وسبى ذراريهم، وقدم
حذيفة بسبيهم إلى المدينة وهم ثلاثمائة من المقاتلة، وأربعمائة من الذرية
والنساء، وأقام عكرمة بدبا عاملا عليها لأبى بكر، فلما قدم حذيفة بسبيهم
المدينة، اختلف فيهم المسلمون، فكان زيد بن ثابت يحدث أن أبا بكر أنزلهم
دار رملة بنت الحارث، وهو يريد أن يقتل من بقى من المقاتلة.
فكان من كلام عمر له: يا خليفة رسول الله، قوم مؤمنون إنما شحوا على
أموالهم، والقوم يقولون: والله ما رجعنا عن الإسلام، ولكن شححنا على
أموالنا، فيأبى أبو بكر أن يدعهم بهذا القول، ولم يزالوا موقفين فى دار
رملة بنت الحارث، حتى توفى أبو بكر رضى الله عنه، وولى عمر، فدعاهم، فقال:
قد كان من رأيى يوم قدم بكم على أبى بكر أن يطلقكم، وقد أفضى إلى الأمر،
فانطلقوا إلى أى البلاد شئتم، فأنتم قوم أحرار لا فدية عليكم، فخرجوا حتى
نزلوا البصرة، وكان فيهم أبو صفرة والد المهلب، وهو غلام يومئذ، فكان ممن
نزل البصرة.
__________
(1) دبا: مثل عصا، موضع بظهر الحيرة، ودبا فيما بين عمان والبحرين. انظر:
الروض المعطار (232) .
(2/155)
وروى عن ابن عباس: أن رأى المهاجرين فيهم
إذا استأسرهم أبو بكر، كان قتلهم، أو فداءهم بأغلى الفداء، وكان عمر يرى أن
لا قتل عليهم ولا فداء، لم يزالوا محتبسين حتى ولى عمر، فأرسلهم بغير فداء.
ويروى عن عمر بن عبد العزيز: أن عمر بن الخطاب قضى فيهم بأربعمائة درهم
فداء، ثم نظر فى ذلك، فقال: لا سباء فى الإسلام وهم أحرار، والأول أكثر.
وعن عروة قال: لما قدم أهل غزو دبا قافلين، أعطاهم أبو بكر خمسة دنانير
خمسة دنانير «1» .
ذكر ردة صنعاء
وكان الأسود بن كعب العنسى «2» قد ادعى النبوة فى عهد النبى صلى الله عليه
وسلم، واتبع على ذلك، فتزوج المرزبانة امرأة باذان الفارسى، وكانت من عظماء
فارس، وقسرها على ذلك، فأبغضته أشد البغض، وسمعت به بنو الحارث بن كعب، من
أهل نجران، وهم يومئذ مسلمون، فأرسلوا إليه يدعونه أن يأتيهم فى بلادهم،
فجاءهم، فاتبعوه وارتدوا عن الإسلام.
ويقال: دخلها يوم دخلها فى آلاف من حمير، يدعى النبوة، ويشهدون له بها،
فنزل غمدان، فلم يتبعه من النخع ولا من جعفى أحد، وتبعه ناس من زبيد ومذحج،
وعبس وبنى الحارث وأود ومسلية وحكم.
وأقام الأسود بنجران يسيرا، ثم رأى أن صنعاء خير له من نجران، فسار إليها
فى ستمائة راكب من بنى الحارث، فنزل صنعاء، فأبت الأبناء أن يصدقوه، فغلب
على صنعاء واستذل الأبناء بها، وقهرهم وأساء جوارهم لتكذيبهم إياه، فبعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلا من الأزد، وقيل من خزاعة، يقال له وبر
بن يحنس إلى الأبناء فى أمر الأسود، فدخل صنعاء مختفيا، فنزل على داذويه
الأبناوى فخبأه عنده، وتآمرت الأبناء لقتل الأسود، فتحرك فى قتله نفر منهم
قيس بن عبد يغوث المكشوح، وفيروز الديلمى، وداذويه الأبناوى، وكانت
المرزبانة كما تقدم قد أبغضت الأسود أشد البغض، فوعدتهم
__________
(1) ذكر فى الروض المعطار جميع ما فى هذه القصة (232- 234) .
(2) اسمه: عبهلة بن كعب، يقال له: ذو الخمار، لقب بذلك لأنه كان يقول:
يأتينى ذو خمار. انظر ترجمته فى المنتظم لابن الجوزى (4/ 18- 20) .
(2/156)
موعدا أتوا لميقاته، وقد سقته الخمر حتى
سكر، فسقط نائما كالميت، فدخل عليه فيروز وقيس ونفر معهما، فوجدوه على فراش
عظيم من ريش، قد غاب فيه، فأشفق فيروز أن يتعادى عليه السيف إن ضربه به،
فوضع ركبته على صدر الكذاب، ثم فتل عنقه فحولها، حتى حول وجهه من قبل ظهره،
وأمر فيروز قيسا، فاحتز رأسه، فرمى به إلى الناس، ففض الله الذين اتبعوه،
وألقى عليهم الخزى والذلة، وخطب الناس قيس بن مكشوح، وأظهر أن الكذاب قتل
بكذبه على الله، وأن محمدا رسول الله.
وبلغ الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فى مرضه الذى توفى
فيه، فقال صلى الله عليه وسلم، وذكر الأسود: «قتله الرجل الصالح فيروز
الديلمى» «1» ، ورد فيروز وداذويه الأمر إلى قيس بن المكشوح، فكان أمير
صنعاء، وبها يومئذ جماع من أصحاب الأسود الكذاب، فلما بلغتهم وفاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثبت قيس والأبناء وأهل صنعاء على الإسلام، إلا
أصحاب الأسود.
ثم إن قيسا خاف فيروز وداذويه أن يغلباه على سلطان صنعاء، فأجمع أن يفتك
بهما، فأرسل إليهما يدعوهما، فجاء داذويه فقتله، وأقبل فيروز يريده، فأخبره
بقتل داذويه، فهرب منه إلى أبى بكر رضى الله عنه، وارتد قيس بن المكشوح،
وأخرج الأبناء من صنعاء، فلم يبق بها أحد إلا فى جوار، فكان الشعبى يقول
فيما ذكر عنه: باليمن رجلان لو انبغى لأحد أن يسجد لشىء دون الله لانبغى
لأهل اليمن أن يسجدوا لهما: سيف بن ذى يزن فى الحبشة، وقيس بن مكشوح فى
الأبناء الذين بصنعاء، يعنى إخراج سيف الحبشة وإخراج قيس الأبناء.
ولما بلغ خالد بن سعيد بن العاص ردة صنعاء، سار يومها، وكان فى ناحية أرض
مراد، حتى دخلها، فاستعداه فيروز على قيس فى قتل داذويه، فبعث إليه من يأتى
به، فذهب الرسول فأخذه، ثم أقبل به حتى إذا كان قريبا من صنعاء اختدع قيس
الرسول حتى انفلت منه فدخل على خالد فقال: من جاءكم مسلما قد أصاب فى
الجاهلية أشياء ماذا عليه؟ فقال له خالد: هدم الإسلام ما قبله، فأسلم قيس،
ثم خرج مع خالد إلى الصلاة فيجد فيروز فى المسجد، فقال له: يا فيروز، هل لك
حاجة إلى الأمير؟.
فانكسر فيروز ودخل على خالد فاستعداه على قيس، فبعث أبو بكر إلى عكرمة بن
أبى جهل، وهو يومئذ بأرض عمان: أن سر فى بلاد مهرة حتى تخرج على صنعاء، فخذ
__________
(1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (37472) .
(2/157)
قيس بن مكشوح المرادى، فابعث به إلى فى
وثاق، فسار عكرمة حتى دخل أرض مهرة، فقتل فيهم وسبى، وسار كذلك لا يطأ قوما
إلا قاتلوه وقاتلهم، فقتل منهم وسبى، حتى رجعوا إلى الإسلام، وبعث بسبيهم
إلى أبى بكر بالمدينة، ثم مضى على وجهه حتى خرج إلى صنعاء، فلقيه قيس وهو
لا يدرى بالذى أمر فيه، فأمر به عكرمة، فجعل فى جامعة، وبعث به إلى أبى
بكر، فلما دخل عليه عرفه أبو بكر بقتل داذويه، فحلف له ما يدرى من أمره
شيئا، ولا يدرى من قتله، ورغب فى الجهاد فى سبيل الله، فخرج إلى قومه من
مذحج، فاستجلبهم إلى الجهاد ورغبهم فيه، فخفوا فى ذلك وخرجوا حتى توجهوا
إلى من بعث أبو بكر إلى الشام، فذلك أول نزول مذحج الشام.
ثم إن الأصفر العكى خرج هو وجماعة من قومه ممن ثبت على الإسلام حتى دخل
نجران «1» ، وهو يريد قتال بنى الحارث بن كعب، فلما دخل عليهم الأصفر رجعوا
إلى الإسلام من غير قتال، فأقام الأصفر فى نجران، وضبطها، وغلب عليها ثم
أمر أبو بكر المهاجر بن أبى أمية أن يستنفر من مر به من مضر ويقويهم
ويعطيهم من مال أعطاه إياه أبو بكر، فسار المهاجر يؤم صنعاء، معه سرية من
المهاجرين والأنصار، فيجد المهاجر بنجران الأصفر العكى، ثم سار المهاجر إلى
صنعاء ومعه بشر كثير، فلقى جماعة من أصحاب الأسود منفصين، فأخذ عليهم
الطريق وألجأهم إلى غيضة، فقتل منهم وأسر، ثم أقبل بالأسرى، ومضى حتى دخل
صنعاء، وقد كانت طوائف من زبيد «2» ارتدت منهم عمرو بن معدى كرب، فاجتمع
إلى خالد بن سعيد من ثبت على الإسلام من مراد وسائر مذحج، فلقى بهم بنى
زبيد، فانهزموا وظفر بهم خالد، فسبى منهم نسوة، منهن امرأة عمرو بن معدى
كرب جلالة، وكانت أحسن النساء، وكان عمرو فيما ذكروا، غائبا عن ذلك القتال،
فلما ظفر خالد، سألت منه زبيد أن يقرهم على الإسلام ويكف عنهم، فكف عنهم،
وأسلموا، وبلغ الخبر عمرا، فأقبل حتى نزل بجانب عسكر خالد، ثم خرج ليلا
فتلطف حتى لقى جلالة، فقال لها: يا جلالة، ما صنع بك خالد؟ فقالت: لم يصنع
بى إلا خيرا، ولم يعرض علىّ من أمره إلا كرما، قال: هل قربك؟ قالت: لا
والله، وما يحل له ذلك فى دينه، قال: فو رب الكعبة إن دينا منعه منك لدين
صدق.
__________
(1) نجران: من بلاد اليمن، سميت بنجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن
قحطان. انظر: الروض المعطار (573- 576) .
(2) زبيد: مدينة باليمن بقرب الجند ومعاثر، تسير فى صحراء رمال حتى تنتهى
إلى زبيد، وليس باليمن بعد صنعاء أكبر من زبيد. انظر: الروض المعطار (284)
، نزهة المشتاق (20) .
(2/158)
فلما أصبح عمرو غدا على خالد، فقال: ما
تريد يا خالد بجلالة؟ قال: قد أسلمت، فإن تسلم أردها إليك، فأسلم عمرو،
فردها إليه.
وقدم خالد المدينة، ثم قدم عمرو بن معدى كرب المدينة، فدخل على خالد داره،
فقال له: إنى والله ما وجدت شيئا أكافئك به فى جلالة إلا سيفى الصمصامة، ثم
خلعه من عنقه فناوله إياه، وقال عمرو:
وهبت لخالد سيفى ثوابا ... على الصمصامة السيف السلام
خليل لم أخنه ولم يخنى ... ولكن التواهب فى الكرام
ذكر ردة كندة وحضرموت
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قدم عليه وفد كندة مسلمين استعمل
عليهم زياد بن لبيد الأنصارى البياضى «1» ، وأمره بالمسير معهم، ففعل،
وأقام معهم فى ديارهم يأخذ صدقاتهم حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان رجلا مسلما، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولى أبو بكر،
بعث أبا هند مولى بنى بياضة، بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبى
بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى زياد بن لبيد، سلام عليك،
فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو.
أما بعد، فإن النبى صلى الله عليه وسلم توفى، فإنا لله، وإنا إليه راجعون،
فانظر ولا قوة إلا بالله أن تقوم قيام مثلك، ويبايع من عندك، فنمن أبى
وطئته بالسيف، وتستعين بمن أقبل على من أدبر، فإن الله مظهر دينه على الدين
كله ولو كره المشركون.
فلما قدم أبو هند بكتاب أبى بكر رحمه الله، على زياد بن لبيد، قدم من
الليل، وأخبره باجتماع الناس على أبى بكر، وأنه لم يكن بين المسلمين
اختلاف، فحمد الله زياد على ذلك، فلما أصبح زياد غدا يقرئ الناس كما كان
يفعل قبل ذلك، ثم دخل بيته، فلما جاءت الظهر، خرج إلى الصلاة وعليه السيف،
فقال بعض الناس: ما شأن أميركم والسيف، فصلى الظهر بالناس، ثم قال:
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (839) ، الإصابة الترجمة رقم
(2871) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1809) ، التاريخ الكبير (3/ 344) ، أنساب
الأشراف (1/ 245) ، الجرح والتعديل (3/ 543) ، تهذيب الكمال (9/ 506) ،
تهذيب التهذيب (3/ 382) ، الوافى بالوفيات (15/ 10) ، تاريخ الإسلام (1/
52) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 195) .
(2/159)
أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم توفى، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد توفى، ومن كان يعبد الله فإن
الله حى لا يموت، وقد اجتمع المسلمون على أفضلهم من أنفسهم ولم يكن بينهم
اختلاف فى أبى بكر بن أبى قحافة، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم، يأمره
فى مرضه أن يصلى بالناس، فبايعوا أيها الناس، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.
فقال الأشعث بن قيس: إذا اجتمع الناس، فما أنا إلا كأحدهم، ونكص عن التقدم
إلى البيعة، فقال امرؤ القيس بن عابس الكندى: أنشدك الله يا أشعث، ووفادتك
على النبى صلى الله عليه وسلم، وإسلامك أن تنقضه اليوم، والله ليقومن بهذا
الأمر من بعده من يقتل من خالفه، فإياك إياك، أبق على نفسك فإنك إن تقدمت
تقدم الناس معك، وإن تأخرت افترقوا واختلفوا، فأبى الأشعث، وقال: قد رجعت
العرب إلى ما كانت الآباء تعبد، ونحن أقصى العرب دارا من أبى بكر، أيبعث
أبو بكر إلينا الجيوش؟ قال: أى والله، وأحرى أن لا يدعك عامل رسول الله صلى
الله عليه وسلم ترجع إلى الكفر.
قال الأشعث: من قال زياد بن لبيد، فتضاحك، ثم قال: أما يرضى زياد أن أجيره،
فقال امرؤ القيس: سترى، ثم قام الأشعث، فخرج من المسجد إلى منزله، وقد أظهر
ما أظهره من الكلام القبيح من غير أن يكون نطق بالردة، ووقف يتربص، وقال:
نقف أموالنا بأيدينا ولا ندفعها، ونكون من آخر الناس، وبايع زياد بن لبيد
لأبى بكر من بعد الظهر إلى أن قامت العصر، فصلى بالناس العصر، ثم انصرف إلى
بيته، ثم غدا على الصدقة من الغد كما كان قبل، وهو أقوى ما كان نفسا، وأشده
لسانا، فبينا هو يصدق إلى أن أخذ قلوصا فى الصدقة من فتى من كندة، فلما أمر
بها زياد تعقل وتوسم بميسم السلطان، وكان الميسم لله، أتى الفتى، فصاح: يا
حارثة بن سراقة «1» ، يا أبا معدى كرب، عقلت البكرة، فأتى حارثة إلى زياد،
فقال: أطلق للفتى بكرته، فأبى زياد، فقال:
قد عقلتها ووسمتها بميسم السلطان، فقال حارثة: أطلقها أيها الرجل طائعا،
خير من أن تطلقها وأنت كاره، قال زياد: لا والله لا أطلقها ولا نعمت عين.
فقام حارثة فحل عقالها وضرب على جنبها، فخرجت القلوص تعدو إلى الأنهار،
وجعل حارثة يقول:
أطعنا رسول الله ما كان وسطنا ... فيا قوم ما شأنى وشأن أبى بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده ... فتلك إذا والله قاصمة الظهر
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (459) ، الإصابة الترجمة رقم
(1529) ، أسد الغابة الترجمة رقم (993) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 112) ،
الجرح والتعديل (1/ 145) ، شذرات الذهب (1/ 9) ، تصحيفات المحدثين (976) .
(2/160)
قالوا: فكان زياد يقاتلهم النهار إلى
الليل، فلما كان يوم من تلك الأيام، ضاربهم كذلك حتى أمسى، ولم يكن فيما
مضى يوم أشد منه، كانت بينهم فيه قتلى وجراح.
قال أبو هند: برز منهم يومئذ رجل يدعو إلى البراز، فبرزت إليه، فتشاولنا
بالرمحين نهارا طويلا، فلم يظفر واحد منا بصاحبه، ثم صرنا إلى السيفين، فما
قدر واحد منا على صاحبه، ونحن فارسان إلى أن عثر فرسه، فاقتحم وصار راجلا،
ويدرك فرسى فيضرب عرقوبيه، فوقعت إلى الأرض، وأفضى أحدنا إلى صاحبه،
فبدرته، فأضربه، فأقطع يده من المنكب، فوقع السيف من يده، وولى منهزما،
وألحقه، فأجهزت عليه، فما خرج أحد يدعو إلى البراز حتى صلح أمرهم.
قالوا: فلما أمسوا من ذلك اليوم، وتفرقوا، وزياد فى بيته قد بعث العيون، إذ
جاءه عين له بعد أن ذهب عامة الليل فدله على عورة من عدوه، وقال: هل لك فى
الظفر؟
فقال: ما هو؟ قال: ملوكهم الأربعة فى محجرهم قد ثملوا من الشراب، فسار من
ساعته فى مائة رجل من أصحابه حتى انتهوا إلى المحجر، فتقدم العين فاستمع
الصوت فإذا القوم قد هدوا وناموا، فأغار عليهم، فقتل الملوك الأربعة، مخرس
ومشرح وحمد وأبضعة، وأختهم العمرة ذبحهم ذبحا، وكانوا ملوك كندة وأشرافهم.
ويقال: كانت الملوك سبعة: الأشعث بن قيس، ومخرس، وحمد، ووديعة، وأبضعة،
ومشرح، ووليعة. فقتل منهم أربعة، ثم رجع زياد إلى أهله، فأصبح القوم قد
انكسر حدهم وذلوا.
وقالوا: إن العمردة لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضربت بغربال،
فقطع زياد لذلك يدها، وصلبها، فهى كانت أول امرأة قتلت فى الردة.
وبعث زياد أبا هند إلى أبى بكر وكتب معه:
بسم الله الرحمن الرحيم، لأبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من
زياد بن لبيد، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما
بعد، فإن الناس قبلنا منعوا الصدقة، أو عامتهم وأبوا أن يسلموها، وقاتلوا
دونها أشد القتال، وأظهروا الردة عن الإسلام، فبعثت عيونا فى طلب غرتهم،
فأتانى آت منهم يخبرنى بغرة منهم، فزحفت إليهم ليلا، فقتلتهم فى محجرهم،
وكانوا أربعة: مخرس ومشرح وحمد وأبضعة، وأختهم العمردة، فأصبحوا وقد ذلوا
وانكسروا، وإنى كتبت إليك والسيف على عاتقى، وبعثت إليك أبا هند بالكتاب،
وأمرته أن يجد السير، وأن يخبرك بما رأى وشهد، وإن الكتاب موجز، وعنده علم
ما كنا فيه، والسلام.
(2/161)
فيروى أن أبا هند قال: خرجت من عند زياد
بعد أن صليت الغداة على راحلتى، ومعى رجل من بنى قتيرة على راحلة خفير لى،
فبلغ بى صنعاء، ثم انصرف، فسرت من حضرموت إلى المدينة تسع عشرة، فأرخفت «1»
راحلتى، وما مسيت عنها أكثر مما ركبت، وانتهيت إلى أبى بكر، فأجده حين خرج
إلى الصلاة، فلما رآنى قال: أبا هند، ما ورائك؟ قلت: خير، والذى يسرك. قتل
الملوك الأربعة وأختهم العمردة، قال: قد كنت كتبت إلى زياد أنهى أن يقتل
الملوك من كندة، وبعثت بذلك المغيرة بن شعبة، أما لقيته؟ قلت: ما لقيته.
وقدم المغيرة خلافى، وذلك أنه أخطأ الطريق، فذلك الذى أبطأ به، وجعل أبو
بكر يسألنى، فأخبره عن كل ما يسره، ثم قال: ما فعل الأشعث بن قيس؟ قلت: يا
خليفة رسول الله، هو أول من نقض، وهو رأس من بقى، وقد ضوى إليه ناس كثير،
وقد تحصن فى النجير بمن معه ممن هو على رأيه، والله مخزيهم، وقد تركت زياد
بن لبيد يريد محاصرتهم، فقال أبو بكر: قد كتبت إلى المهاجر بن أبى أمية أن
يمد زيادا ويكون أمرهما واحدا.
وكان النبى صلى الله عليه وسلم، لما قتل الأسود العنسى «2» بعث المهاجر
واليا على صنعاء، فتوفى صلى الله عليه وسلم، والمهاجر وال عليها، فانحاز
إلى زياد بحضرموت، كما أمره أبو بكر.
وكانت قتيرة من كندة قد ثبتت على الإسلام، لم يرجع منها رجل واحد، فلما قدم
المهاجر على زياد اشتد أمرهما، وكانا يحاصران أهل النجير، وكان أهل النجير
قد غلقوه، فلما قتل الملوك الأربعة دخلوا مع الأشعث بن قيس، وجثم زياد
ومهاجر على النجير، فحاصروا أهله بالمسلمين، لا يفارقونه ليلا ولا نهارا،
وقذف الله الرعب فى أفئدتهم، فلما اشتد به الحصار، بعثوا إلى زياد بن لبيد:
أن تنح عنا حتى نكون نخرج ونخليك والحصن، فقال: لا أبرح شبرا واحدا حتى
نموت من آخرنا أو تنزلوا على حكما ورأينا، وجعل يكايدهم لما يرى من جزعهم.
فكتب كتابا، ثم بعث به فى السر مع رجل من بنى قتيرة ليلا، مسيرة يوم أو بعض
يوم، ثم يأتيه بكتابه الذى كتبه فيقرؤه على الناس:
من أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى زياد بن لبيد، سلام
عليك، فإنى أحمد إليك
__________
(1) أرخف: بالكسر أى تعب. انظر اللسان (1616) .
(2) انظر خبر قتل الأسود العنسى فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 19) ، تاريخ
الطبرى (3/ 236) .
(2/162)
الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فقد
بلغنى ردة من ارتد قبلك بعد المعرفة بالدين، غرة بالله، والله مخزيهم إن
شاء الله، فاحصرهم ولا تقبل منهم إلا ما خرجوا منه أو السيف.
فقد بعثت إليك عشرة آلاف رجل عليهم فلان بن فلان، وخمسة آلاف عليهم فلان بن
فلان، وقد أمرتهم أن يسمعوا لك ويطيعوا، فإذا جاءك كتابى هذا فإن أظفرك
الله بهم فإياك والبقيا فى أهل النجير، حرق حصنهم بالنار، واقطع معايشهم،
واقتل المقاتلة، واسب الذرية، وابعث بهم إن شاء الله.
وإنما هذا كتاب كتبه زياد بيده مكايدة لعدوه، فكانوا إذا قرئ عليهم هذا
الكتاب أيقنوا بالهلكة، واشتد عليهم الحصار، وندموا على ما صنعوا، فبينا هم
على ذلك الحصار قد جهدهم، قال الأشعث: إلى متى هذا الحصر قد غرثنا وغرث
عيالنا، وهذه البعوث تقدم علينا بما لا قبل لنا به، وقد ضعفنا عمن معنا،
فكيف بمن يأتينا من هذه الأمداد والله للموت بالسيف أحسن من الموت بالجوع،
أو يؤخذ برقبة الرجل كما يصنع بالذرية.
قالوا: وهل لنا قوة بالقوم؟ فما ترى لنا؟ فأنت سيدنا، قال: أنزل فآخذ لكم
الأمان قبل أن تدخل هذه الأمداد، بما لا قبل لنا به، فجعل أهل الحصن يقولون
للأشعث: افعل وخذ لنا أمانا، فإنه ليس أحد أجرأ على ما قبل زياد منك، قال:
فأنا أنزل.
فأرسل إلى زياد: أنزل فأكلمك وأنا آمن؟ قال: نعم، فنزل الأشعث من النجير
فخلا بزياد، فقال: يا ابن عم، قد كان هذا الأمر ولم يبارك لنا فيه، وإن لى
قرابة ورحما، وإن أوصلتنى إلى صاحبك قتلنى، يعنى المهاجر بن أمية «1» ، وأن
أبا بكر يكره قتل مثلى، وقد جاءك كتابه ينهاك عن قتل الملوك من كندة، فأنا
أحدهم، وأنا أطلب منك الأمان على أهلى ومالى، فقال زياد: لا أؤمنك أبدا على
دمك وأنت كنت رأس الردة والذى نقض علىّ كندة، فقال: أيها الرجل، دع ما مضى
واستقبل الأمور إذا أقبلت، قال زياد:
وماذا؟ قال: وأفتح لك النجير، فأمنه زياد على أهله وماله، على أن يقدم به
على أبى بكر، فيرى فيه رأيه، وفتح له النجير.
وقد كان المهاجر لما نزل الأشعث من الحصن ليكلمهم، قال لزياد: رده إلى
الحصن حتى ينزل على حكمنا فنضرب عنقه، فنكون قد استأصلنا شأفة الردة، فأبى
زياد إلا أن يؤمنه، وقال: أخشى أن يلومنى أبو بكر فى قتله وقد جاءنى كتابه
ينهانى عن قتل الملوك الأربعة، فأخاف مثل ذلك، مع أن أبا بكر إن أراد قتله
فله ذلك، إنما جعل له الأمان على
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2531) ، الإصابة الترجمة رقم
(8271) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5134) ، مؤتلف الدارقطنى (ص 163) .
(2/163)
نفسه وماله إلى أن يبلغ أبا بكر، لا أدع من
عين ماله شيئا يخف حمله معه إلا سار به، وأحول بينه وبين ما هاهنا مما لا
يطيق حمله، حتى يأتى رأى أبى بكر فيه، فأمنه زياد على أن يبعث به وبأهله
وبماله إلى أبى بكر رضى الله عنه، فيحكم فيه بما يرى.
وفتحوا له النجير، فأخرجوا المقاتلة، فعمد زياد إلى أشرافهم وهم سبعمائة
فضرب أعناقهم على دم واحد، ولام القوم الأشعث، فقالوا لزياد: غدر بنا فأخذ
الأمان لنفسه وأهله، ولم يأخذ لنا، وإنما نزل على أن يأخذ لنا جميعا،
فنزلنا ونحن آمنون، فقتلنا. فقال زياد: ما أمنتكم، فقالوا: صدقت، خدعنا
الأشعث.
قال الواقدى: وقد ذكروا فى فتح النجير وجها آخر عن أبى مغيث، قال: كنت فيمن
حضر أهل النجير، فصالح الأشعث زيادا على أن يؤمن من أهل النجير سبعين رجلا،
ففعل، فنزل سبعون رجلا ونزل معهم الأشعث، فكانوا أحدا وسبعين، فقال زياد:
أقتلك، لم يكن لك أمان، فقال الأشعث: تؤمننى على أن أقدم على أبى بكر فيرى
فىّ رأيه، فآمنه على ذلك، والقول الأول أثبت.
وبعث أبو بكر نهيك بن أوس بن [حزمة] «1» إلى زياد بن لبيد يقول: إن ظفرت
بأهل النجير فاستبقهم، فقدم عليه ليلا وقد قتل منهم فى أول النهار سبعمائة
فى صعيد واحد، قال نهيك: فما هو إلا أن رأيتهم فشبهت بهم قتلى بنى قريظة
يوم قتلهم النبى صلى الله عليه وسلم، وأبى زياد أن يوارى جثثهم، وتركهم
للسباع، فكان هذا أشد على من بقى من القتل، وهرب أهل الردة فى كل وجه، وكان
لا يؤخذ منهم إنسان إلا قتل.
ثم بعث زياد بالسبى مع نهيك، وبعث معه ثمانين رجلا من قتيرة، وبعث بالأشعث
معهم فى وثاق.
قال عبد الرحمن بن الحويرث: رأيته يوم قدم به المدينة فى حديد، مجموعة يداه
إلى عنقه.
ونزل نهيك بالسبى فى دار رملة بنت الحارث، ومعهم الأشعث بن قيس، ولما كلمه
أبو بكر جعل يقول: يا خليفة رسول الله، والله ما كفرت بعد إسلامى، ولكنى
شححت على مالى، فقال أبو بكر: ألست الذى يقول: قد رجعت العرب إلى ما كانت
الآباء تعبد، وأبو بكر يبعث إلينا الجيوش ونحن أقصى العرب دارا؟ فرد عليك
من هو
__________
(1) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل، وفى الاستيعاب الترجمة رقم (2667) :
«نهيك بن أوس بن خزمة» . وانظر ترجمته فى: الإصابة (8839) ، أسد الغابة
الترجمة رقم (5310) .
(2/164)
خير منك، فقال: لا يدعك عامله ترجع إلى
الكفر، فقلت: من، قال: زياد بن لبيد، فتضاحكت، فكيف وجدت زيادا، أذكرت به
أمه؟ قال الأشعث: نعم كل الأذكار، ثم قال فى آخر قوله: أيها الرجل، أطلق
إسارى، واستبقنى لحربك، وزوجنى أختك أم فروة بنت أبى قحافة، فإنى قد تبت
مما صنعت، ورجعت إلى ما خرجت منه من منع الصدقة، فأسعفه أبو بكر فزوجه،
فكان الأشعث مقيما بالمدينة حتى كانت ولاية عمر بن الخطاب، وثاب الناس إلى
فتح العراق، فخرج الأشعث مع سعد بن أبى وقاص.
قالوا: وقدم على أبى بكر رضى الله عنه، أربعة عشر رجلا من كندة يطلبون أن
يفادوا بينهم، وقالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رجعنا عن
الإسلام ولكن شححنا على أموالنا، وقد رجع من وراءنا إلى ما خرجوا منه
وبايعوك راضين، فقال أبو بكر: بعد ماذا؟ بعد أن وطئكم السيف؟ فقالوا: يا
خليفة رسول الله، إن الأشعث غدر بنا، كنا جميعا فى الحصن، فكان أجزعنا،
وكان أول من نقض، وأبى أن يدفع الصدقة، وأمرنا بذلك، ورأسنا، فلم يبارك لنا
فى رياسته. فقال: أنزل وآخذ لكم الأمان جميعا، فإن لم يكن رجعت إليكم فيصيا
بنى ما يصيبكم، فنزل، فأخذ الأمان لنفسه وأهله ومواليه، وقتلنا صبرا
بالسيف.
فقال أبو بكر رضى الله عنه: قد كنت كتبت إلى زياد بن مهاجر كتابا مع نهيك
بن أوس إن ظفرتما بأهل النجير فلا تقتلاهم وأنزلاهم على حكمى.
فقال المتكلم: قد والله قتل منا سبعمائة على دم واحد، وقد رجوناك يا خليفة
رسول الله.
ولما كلمه الوفد فى أن يرد عليهم السبى ويقبل منهم الفداء أجاب إلى ذلك،
وخطب الناس على المنبر، فقال: أيها الناس، ردوا على هؤلاء نساءهم وذراريهم،
لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغيب عنهم أحدا، قد جعلنا الفداء
على كل رأس منهم أربعمائة درهم.
وأمر أبو بكر زيد بن ثابت بقبض الفداء، وأمره أيضا بإخراج الخمس.
قال الواقدى: سألت معاذ بن محمد فقلت: أرأيت الأربعة الأخماس، حيث أمر أبو
بكر أن يفدوا بأربعمائة أربعمائة، ما فعل بها؟ قال: جمع أبو بكر ذلك كله
فجعله سهمانا لأهل النجير مع ما استخرج زياد بن لبيد والمهاجر مما وجدوا فى
الحصن النجير من الرثة والسلاح، ومما أصابوا من غير ذلك، فجعلوه مغنما.
(2/165)
وكان أبو بكر قد أمد زيادا والمهاجر بعكرمة بن أبى جهل وهو يومئذ بدبا،
فسار إليهم فى سبعمائة فارس، وقدم بعد فتح النجير بأربعة أيام، فأمر أبو
بكر بأن يسهم لهم فى ذلك، فأسهم لهم.
ونظرت عجوز من سبى النجير إلى الأشعث بن قيس، فقالت: قبحت من وافد قوم
ورسولهم، أخذت الأمان لأهلك ومواليك وعرضتنا للسباء، وقتلت رجالنا بغدرك،
ولم تواسهم بنفسك، وأنت شأمتهم، رأسوك فلم يبارك لهم فى رياستك، والله ما
رجعوا عن الإسلام ولكن شحوا على أموالهم، فقتلوا، ورجعت أنت عن الإسلام
فنجوت، ما كان أحد قط، أشأم على قومه منك.
ومما يحفظ من شعر الأشعث، يذكر الجماعة الذين ضرب زياد أعناقهم من أهل
النجير وهم سبعمائة كما تقدم:
فلا رزء إلا يوم أقرع بينهم ... وما الدهر عندى بعدهم بأمين
فليت جنوب الناس تحت جنوبهم ... ولم تمش أنثى بعدهم بجنين
فكنت كذات البو ضغت فأقبلت ... إلى بوها أو طربت بحنين
لغمرى وما عمرى على بهين ... لقد كنت بالقتلى أحق ضنين
ويروى أن الأشعث إنما قال هذا فى الملوك الأربعة الذين قتلوا، ومن روى هذا
أنشد الشعر هكذا:
لعمرى وما عمرىّ على بهين ... لقد كنت بالأملاك حق ضنين
فإن يك هذا الدهر فرق بينهم ... فما الدهر عندى بعدهم بأمين
فليت جنوب الناس تحت جنوبهم ... ولم يبشرونى بعدهم بجنين
وكنت كذات البو ريعت فأقبلت ... على بوها أو طربت بحنين |