الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء

ذكر بدء الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان من تأييد الله لخليفة رسوله عليه السلام فيها
قالت عائشة رضى الله عنها: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجم النفاق وارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، وصار المسلمون كالغنم المطيرة فى الليلة الشاتية، لفقد نبيهم، حتى جمعهم الله على أبى بكر، فلقد نزل بأبى ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، فو الله ما اختلفوا فيه من أمر إلا طار أبى بعلائه وغنائه، وكان من رأى ابن الخطاب علم أنه خلق عونا فللإسلام، كان والله أحوذيا، نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها.
وفى الصحيح من حديث أبى هريرة، قال: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر رضى الله عنه، بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبى بكر:
كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله؟» فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال، فعرفت أنه الحق «1» .
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (1/ 13، 109، 2/ 131، 4/ 58، 9/ 19، 115، 138) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (32، 33، 35) ، سنن النسائى الصغرى (7/ 77، 78، 79، 8/ 81) ، سنن أبى داود (1556، 2640) ، سنن الترمذى (2606، 2607، 3341) ، سنن ابن ماجه (3927، 3928، 3929) ، مسند الإمام أحمد (1/ 11، 19، 35، 48، 2/ 377، 423، 475، 502، 527، 528، 3/ 300، 322، 339، 4/ 8) ، سنن البيهقى الكبرى (1/ 7، 54، 2/ 3، 92، 4/ 104، 114، 7/ 3، 4، 8، 19، 136، 176، 177، 196، 9/ 49، 182) ، مستدرك الحاكم (2/ 522) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 171) ، شرح السنة للبغوى (1/ 66، 69، 5/ 488) ، كنز العمال للمتقى الهندى (375، 379، -

(2/88)


قال عمر بن الخطاب: والله لرجح إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمة جميعا فى قتال أهل الردة.
وذكر يعقوب بن محمد الزهرى عن جماعة من شيوخه، قالوا: فكان أبو بكر أمير الشاكرين الذين ثبتوا على دينهم، وأمير الصابرين الذين صبروا على جهاد عدوهم، أهل الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبرأى أبى بكر أجمعوا على قتالهم، وذلك أن العرب افترقت فى ردتها، فقالت فرقة:
لو كان نبيا ما مات، وقال بعضهم: انقضت النبوة بموته، فلا نطيع أحدا بعده، وفى ذلك يقول قائلهم:
أطعنا رسول الله ما عاش بيننا ... فيالعباد الله ما لأبى بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده ... فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
وقال بعضهم: نؤمن بالله، ونشهد أن محمدا رسول الله، ونصلى، ولكن لا نعطيكم أموالنا، فأبى أبو بكر إلا قتالهم على حسب ما تقدم ذكره.
وجادل أبو بكر الصحابة فى جهادهم، وكان من أشدهم عليه عمر وأبو عبيدة بن الجراح «1» ، وسالم مولى أبى حذيفة «2» ، وقالوا له: احبس جيش أسامة بن زيد، فيكون عمارة وأمانة بالمدينة، وارفق بالعرب حتى ينفرج هذا الأمر، فإن هذا الأمر شديد غوره وتهتكه من غير وجهه، فلو أن طائفة من العرب ارتدت قلنا: قاتل بمن معك ممن ثبت من ارتد، وقد اتفقت العرب على الارتداد، فهم بين مرتد، ومانع صدقة، فهو مثل المرتد،
__________
- 16836، 16846) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (1/ 155) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (1790) ، البداية والنهاية لابن كثير (10/ 334) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 497، 13/ 174، 250، 339) ، نصب الراية للزيلعى (3/ 380، 480، 4/ 324، 339) ، الدر المنثور للسيوطى (5/ 274، 6/ 343) ، زاد المسير لابن الجوزى (9/ 100) ، جمع الجوامع (4411، 4414، 4418) ، المعجم الكبير للطبرانى (2/ 198، 347، 6/ 161، 8/ 382) ، التاريخ الكبير للبخارى (3/ 367، 7/ 35) ، مصنف ابن أبى شيبة (10/ 122، 123، 124، 12/ 374، 376، 377، 380) .
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3108) ، الإصابة الترجمة رقم (10233) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6084) ، تهذيب الكمال (1623) ، تقريب التهذيب (2/ 448) ، تهذيب التهذيب (12/ 159) ، المؤتلف والمختلف (840) ، التبصرة والتذكرة (3/ 27) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (886) ، الإصابة الترجمة رقم (3059) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1892) ، وهو: سالم بن معقل، مولى أبى حذيفة.

(2/89)


وبين واقف ينظر ما تصنع أنت وعدوك، قد قدم رجلا وأخر رجلا «1» .
وفى كتاب الواقدى من قول عمر لأبى بكر: وإنما شحت العرب على أموالها، وأنت لا تصنع بتفريق العرب عنك شيئا، فلو تركت للناس صدقة هذه السنة.
وقدم على أبى بكر عيينة بن حصن الفزارى، والأقرع بن حابس، فى رجال من أشراف العرب، فدخلوا على رجال من المهاجرين، فقالوا: إنه قد ارتد عامة من وراءنا عن الإسلام، وليس فى أنفسهم أن يؤدوا إليكم من أموالهم ما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن تجعلوا لنا جعلا نرجع فنكفيكم من وراءنا؛ فدخل المهاجرون والأنصار على أبى بكر، فعرضوا عليه الذى عرضوا عليهم، وقالوا: نرى أن تطعم الأقرع وعيينة طعمة يرضيان بها ويكفيانك من وراءهما، حتى يرجع إليك أسامة وجيشه، ويشتد أمرك، فإنا اليوم قليل فى كثير، ولا طاقة لنا بقتال العرب، قال أبو بكر: هل ترون غير ذلك؟ قالوا:
لا؛ قال أبو بكر: إنكم قد علمتم أنه كان من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيكم ولا نزل به الكتاب عليكم، وأن الله لن يجمعكم على ضلالة، وإنى سأشير عليكم، فإنما أنا رجل منكم، تنظرون فيما أشير به عليكم وفيما أشرتم به، فتجتمعون على أرشد ذلك، فإن الله يوفقكم، وأما أنا فأرى أن ننبذ إلى عدونا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وأن لا نرشو على الإسلام أحدا، وأن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجاهد عدوه كما جاهدهم، والله لو منعونى عقالا لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه، فأئتمروا يرشدكم الله، فهذا رأيى؛ وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم، فهذا أمر لم يغب عنه عيينة، هو راضه ثم جاء له ولو رأوا ذباب السيف لعادوا إلى ما خرجوا منه أو أفناهم السيف فإلى النار، قتلناهم على حق منعوه وكفر. فبان للناس وجه أمرهم، وقالوا لأبى بكر لما سمعوا رأيه: أنت أفضلنا رأيا، ورأينا لرأيك تبع. فأمر أبو بكر الناس بالتجهز، وأجمع على المسير بنفسه لقتال أهل الردة.
وكانت أسد وغطفان من أهل الضاحية قد ارتدت، ولم ترتد عبس ولا بعض أشجع، وارتدت عامة بنى تميم وطوائف من بنى سليم: عصية وعميرة وخفاف، وبنو عوف بن امرئ القيس، وذكوان، وبنو جارية، وارتد أهل اليمامة «2» كلهم، وأهل البحرين «3» ،
__________
(1) انظر: غزوات ابن حبيش (1/ 22) .
(2) راجع قصة ارتداد أهل اليمامة فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 79- 83) ، تاريخ الطبرى (3/ 280، 281) .
(3) راجع قصة أهل البحرين فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 83- 85) .

(2/90)


وبكر بن وائل، وأهل دبى من أزد عمان «1» ، والنمر بن قاسط، وكلب، ومن قاربهم من قضاعة، وعامة بنى عامر بن صعصعة، وفيهم علقمة بن علاثة، وقيل: إنها تربصت مع قادتها وسادتها ينظرون لمن تكون الدبرة، وقدموا رجلا وأخروا أخرى، وارتدت فزارة، وجمعها عيينة بن حصن، وتمسك بالإسلام من بين المسجدين، وأسلم وغفار وجهينة ومزينة وكعب وثقيف، قام فيهم عثمان بن أبى العاص فى بنى مالك، وقام فى الأحلاف رجل منهم، فقال: يا معشر ثقيف، نشدتكم الله أن تكونوا أول العرب ارتدادا وآخرهم إسلاما؛ وأقامت طئ كلها على الإسلام، وهذيل، وأهل السراة وبجيلة وخثعم ومن قارب تهامة من هوازن نصر وجشم وسعد بن بكر وعبد القيس، قام فيهم الجارود فثبتوا على الإسلام، وارتدت كندة وحضرموت وعنس.
وقال أبو هريرة: لم يرجع رجل واحد من دوس ولا من أهل السراة كلها. وقال أبو مرزوق التجيبى: لم يرجع رجل واحد من تجيب ولا من همدان، ولا من الأبناء بصنعاء، ولقد جاء الأبناء وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق نساؤهم الجيوب وضربن الخدود، وفيهم المرزبانة، فشقت درعها من بين يديها ومن خلفها.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما صدر من الحج سنة عشر، وقدم المدينة فأقام حتى رأى هلال المحرم سنة إحدى عشرة، وبعث المصدقين فى العرب، فبعث على عجز هوازن عكرمة بن أبى جهل «2» ، وبعث حامية بن سبيع الأسدى على صدقات قومه، وعلى بنى كلاب الضحاك بن سفيان «3» ، وعلى أسد وطئ عدى بن حاتم «4» ، وعلى بنى يربوع
__________
(1) راجع قصة أهل عمان فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 85- 86) ، تاريخ الطبرى (3/ 314) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1857) ، الإصابة الترجمة رقم (5654) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3741) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (174) ، طبقات خليفة (20/ 299) ، تاريخ خليفة (92) ، الجرح والتعديل (7/ 6، 7) ، العقد الثمين، (6/ 119، 123) ، شذرات الذهب (1/ 27، 28) ، سير أعلام النبلاء (1/ 323) ، العبر (1/ 18) ، تهذيب الكمال (950) ، تهذيب التهذيب (7/ 257) ، خلاصة تذهيب الكمال (270) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1255) ، الإصابة الترجمة رقم (4186) أسد الغابة الترجمة رقم (2556) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 270) ، الوافى بالوفيات (16/ 352) ، الأعلام (3/ 214) ، تهذيب الكمال (1/ 615) ، تهذيب التهذيب (4/ 444) ، خلاصة تذهيب الكمال (2/ 3) ، المعرفة والتاريخ (3/ 369) ، التحفة اللطيفة (2/ 250) ، الجرح والتعديل (4/ 2018) ، دائرة معارف الأعلمى (20/ 255) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1800) ، الإصابة الترجمة رقم (5491) ، أسد-

(2/91)


مالك بن نويرة «1» ، وعلى بنى دارم وقبائل بنى حنظلة الأقرع بن حابس «2» ، وبعث الزبرقان بن بدر «3» على صدقات قومه، وقيس بن عاصم المنقرى «4» على صدقات قومه.
فلما بلغتهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا، فمنهم من رجع، ومنهم من أدى إلى أبى بكر، وكان الذين حبسوا صدقات قومهم وفرقوها بين قومهم مالك بن نويرة، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس التميمى، وأما بنو كلاب فتربصوا، ولم يمنعوا منعا بينا، ولم يعطوا، كانوا بين ذلك.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، على فزارة نوفل بن معاوية الديلى»
، فلقيه خارجة بن حصن ابن حذيفة بن بدر الفزارى بالشربة، فقال: أما ترضى أن تغنم نفسك؟ فرجع نوفل بن
__________
- الغابة الترجمة رقم (3610) ، الجرح والتعديل (7/ 2) ، مروج الذهب (3/ 190) ، جمهرة أنساب العرب (402) ، تاريخ بغداد (1/ 189) ، تهذيب الكمال (925) ، تذهيب التهذيب (3/ 36) ، خلاصة تذهيب الكمال (223) ، تهذيب التهذيب (7/ 166) ، شذرات الذهب (1/ 74) ، سير أعلام النبلاء (3/ 162) .
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2331) ، الإصابة الترجمة رقم (7712) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4656) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (69) ، الإصابة الترجمة رقم (231) ، أسد الغابة الترجمة رقم (208) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 26) ، الوافى بالوفيات (9/ 307) ، التحفة اللطيفة (1/ 337) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (1/ 531) ، التاريخ الصغير (59) ، الجامع فى الرجال (281) ، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 124) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (870) ، الإصابة الترجمة رقم (2789) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1728) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 188) ، تقريب التهذيب (1/ 257) ، الطبقات الكبرى (7/ 36) ، الثقات (3/ 142) ، الأعلام (3/ 41) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2164) ، الإصابة الترجمة رقم (7209) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4370) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 22) ، تقريب التهذيب (2/ 129) ، تهذيب التهذيب (8/ 399) ، خلاصة تهذيب الكمال (2/ 357) ، الأنساب لابن السمعانى (7/ 141) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (816) ، الثقات (3/ 338) .
(5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2673) ، الإصابة الترجمة رقم (8854) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5322) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 115) ، تتهذيب التهذيب (10/ 492) ، تقريب التهذيب (2/ 309) ، خلاصة تذهيب الكمال (3/ 103) ، الجرح والتعديل (1/ 487) ، العقد الثمين (7/ 353) ، الأنساب لابن للسمعانى (5/ 449) ، الأعلام (8/ 55) ، الطبقات الكبرى (1/ 87) .

(2/92)


معاوية هاربا حتى قدم على أبى بكر الصديق بسوطه، وقد كان جمع فرائض فأخذها منه خارجة، فردها على أربابها، وكذا فعلت سليم بعرباض بن سارية «1» ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه على صدقاتهم، فلما بلغتهم وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، أبوا أن يعطوه شيئا، وأخذوا منه ما كان جمع، فانصرف من عندهم بسوطه، وأما أسلم وغفار ومزينة وجهينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث إليهم كعب بن مالك الأنصارى، فسلموا إليه صدقاتهم، لما بلغتهم وفاته، وتأدت إلى أبى بكر، فاستعان بها فى قتال أهل الردة، وكذلك فعل بنو كعب مع أمير صدقاتهم بشر بن سفيان الكعبى، وأشجع مع مسعود بن رحيلة الأشجعى «2» ، فقدم بذلك كله على أبى بكر.
وكان عدى بن حاتم قد حبس إبل الصدقة، يريد أن يبعث بها إلى أبى بكر إذا وجد فرجة، والزبرقان بن بدر مثل ذلك، فجعل قومهما يكلمونهما فيأبيان، وكان أحزم رأيا وأفضل فى الإسلام رغبة ممن كان فرق الصدقة فى قومه، فقالا لقومهما: لا تعجلوا، فإنه إن قام بهذا الأمر قائم ألفاكم لم تفرقوا الصدقة، وإن كان الذى تظنون، فلعمرى إن أموالكم لبأيديكم، فلا يغلبنكم عليها أحد، فسكتوهم حتى أتاهم يقين خبر القوم، فلما اجتمع الناس على أبى بكر جاءهم أنه قد قطع البعوث، وسار بعث أسامة بن زيد إلى الشام، وأبو بكر يخرج إليهم، فكان عدى بن حاتم يأمر ابنه أن يسرح مع نعم الصدقة، فإذا كان المساء روحها، وإنه جاء بها ليلة عشاء، فضربه، وقال: ألا عجلت بها؟.
ثم راح بها الليلة الثانية فوق ذلك قليلا، فجعل يضربه، وجعلوا يكلمونه فيه، فلما كان اليوم الثالث قال: يا بنى إذا سرحتها فصح فى أدبارها وأم بها المدينة، فإن لقيك لاق من قومك أو من غيرهم فقل أريد الكلأ، تعذر علينا ما حولنا، فلما أن جاء الوقت الذى كان يروح فيه، لم يأت الغلام، فجعل أبوه يتوقعه ويقول لأصحابه: العجب لحبس ابنى، فيقول بعضهم: نخرج يا أبا طريف فنتبعه، فيقول: لا والله؛ فلما أصبح تهيأ ليغدو، فقال قومه: نغدو معك، فقال: لا يغدو معى منكم أحد، إنكم إن رأيتموه حلتم بينى
__________
(1) انظر ترجمته فى: الأستيعاب الترجمة رقم (2049) ، الإصابة الترجمة رقم (5517) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3630) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (331) ، شذرات الذهب (1/ 82) ، حلية الأولياء (2/ 13) ، سير أعلام النبلاء (3/ 419) ، تقريب التهذيب (2/ 17) ، خلاصة تذهيب التهذيب (269) ، تاريخ الإسلام (2/ 483) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2408) ، وفيه: مسعود بن «رخيلة بن عائذ الأشجعى» ، الإصابة الترجمة رقم (7961) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4883) .

(2/93)


وبين ضربه، وقد عصى أمرى كما ترون؛ فخرج على بعير له سريعا حتى لحق ابنه، ثم حدر النعم إلى المدينة، فلما كان ببطن قناة لقيته خيل لأبى بكر، عليها ابن مسعود، ويقال محمد بن مسلمة «1» وهو أثبت عندنا، فلما نظروا إليه ابتدروه، وما كان معه، وقالوا له: أين الفوارس الذين كانوا معك؟ قال: ما معى أحد، قالوا: بلى، لقد كان معك فوارس، فلما رأونا تغيبوا، فقال ابن مسعود: خلوا عنه فما كذب ولا كذبتم، جنود الله معه، ولم يرهم.
فقدم على أبى بكر بثلاثمائة بعير، وكانت أول صدقة قدم بها على أبى بكر.
وذكر بعض من ألف فى الردة: أن الزبرقان بن بدر هو الذى فعل هذا الفعل المنسوب فى هذا الحديث إلى عدى بن حاتم، فإما أن يكونا فعلاه معا توفيقا من الله لهما، وإما أن يكون هذا مما يعرض فى النقل من الاختلاف، والذى ينسب ذلك إلى الزبرقان يقول:
إنه قال فى ذلك:
لقد علمت قيس وخندف أننى ... وفيت إذا ما فارس الغدر ألجما
أتيت التى قد يعلم الله أنها ... إذا ذكرت كانت أعف وأكرما
أنفت لعوف أن يسب أبوهم ... إذا اقتسم الناس السوام المقسما
وروحتها من أهل جوفاء صبحت ... تدوس بأيديها الحصاد المحرما
حبوت بها قبر النبى وقد أبى ... فلم يجبه ساع من الناس مقسما
وقال أيضا:
وفيت بأذواد النبى ابن هاشم ... على موطن ضام الكريم المسودا
فأديتها ألفا ولو شئت ضمها ... رعاء يكون الوشيج المقصدا
وذكر ابن إسحاق: أن عدى بن حاتم كانت عنده إبل عظيمة اجتمعت له من صدقات قومه عندما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ارتد من الناس وارتجعوا صدقاتهم، وارتدت بنو أسد، وهم جيرانهم، اجتمعت طيئ إلى عدى بن حاتم، فقالوا: إن هذا الرجل قد مات، وقد انتقض الناس بعده، وقبض كل قوم ما كان فيهم من صدقاتهم، فنحن أحق بأموالنا من شذاذ الناس، فقال: ألم تعطوا من أنفسكم العهد والميثاق على الوفاء طائعين غير مكرهين.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2372) ، الإصابة الترجمة رقم (7822) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4768) ، تهذيب الكمال (1271) ، تهذيب التهذيب (9/ 454) ، خلاصة تذهيب الكمال (359) ، شذرات الذهب (1/ 45، 53) ، الجرح والتعديل (8/ 71) ، الاستبصار (241، 242) ، تاريخ الإسلام (2/ 245) .

(2/94)


قالوا: بلى، ولكن قد حدث ما ترى، وقد ترى ما صنع الناس. قال: والذى نفس عدى بيده، لا أخيس بها أبدا، ولو كنت جعلتها لرجل من الزنج، لوفيت له بها، فإن أبيتم لأقاتلنكم، يعنى على ما فى يده وما فى أيديهم، فليكونن أول قتيل يقتل على وفاء ذمته عدى بن حاتم، أو يسلمها، فلا تطمعوا أن يسب حاتما فى قبره عدى ابنه من بعده، فلا يدعونكم عذر عاذر إلى أن تعذروا، فإن للشيطان قادة عند موت كل نبى، يستخف لها أهل الجهل حتى يحملهم على قلائص الفتنة، وإنما هى عجاجة لا ثبات لها، ولا ثبات فيها، إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خليفة من بعده يلى هذا الأمر، وإن لدين الله أقواما سينهضون ويقومون به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قاموا بعهده وذو بيته فى السماء، لئن فعلتم ليقارعنكم على أموالكم ونسائكم بعد قتل عدى وغدركم، فأى قوم أنتم عند ذلك، فلما رأوا منه الجد، كفوا عنه، وسلموا له.
ويروى أن مما قال له قومه: أمسك فى يدك، فإنك إن تفعل تسد الحليفين، يعنون طيئا وأسدا.
فقال: ما كنت لأفعل حتى أدفعها إلى أبى بكر، فجاء بها حتى دفعها إليه، فلما كان زمن عمر بن الخطاب، رأى من عمر رحمه الله، جفوة، فقال له عدى: ما أراك تعرفنى؟
قال عمر: بلى، والله، والله يعرفك من السماء، أعرفك والله: أسلمت إذ كفروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا، بلى، وايم الله أعرفك.
وقدم أيضا الزبرقان بن بدر بصدقات قومه على أبى بكر، فلم يزل لعدى والزبرقان بذلك شرف وفضل على من سواهما.
وأعطى أبو بكر عديا ثلاثين بعيرا من إبل الصدقة، وذلك أن عديا لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصرانيا فأسلم وأراد الرجوع إلى بلاده أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعتذر من الزاد ويقول: «والله، ما أصبح عند آل محمد شقة من الطعام، ولكن ترجع ويكون خير» ، فلذلك أعطاه أبو بكر تلك الفرائض.
ولما كان من العرب ما كان من التوائهم عن الدين ومنع من منع منهم الصدقة جد بأبى بكر الجد فى قتالهم، وأراه الله رشده فيهم، وعزم على الخروج بنفسه إليهم، وأمر الناس بالجهاز، وخرج هو فى مائة من المهاجرين، وقيل: فى مائة من المهاجرين والأنصار، وخالد بن الوليد يحمل اللواء، حتى نزل بقعاء، وهو ذو القصة «1» ، يريد أبو
__________
(1) ذو القصة: مكان على بريد من المدينة، وهو الذى أخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضى الله عنه. انظر: الروض المعطار (477) ، معجم ما استعجم (3/ 1086) .

(2/95)


بكر أن يتلاحق الناس من خلفه، ويكون أسرع لخروجهم، ووكل بالناس محمد بن مسلمة يستحثهم، فانتهى إلى بقعاء عند غروب الشمس، فصلى بها المغرب، وأمر بنار عظيمة فأوقدت، وأقبل خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر وكان ممن ارتد، فى خيل من قومه إلى المدينة يريد أن يخذل الناس عن الخروج، أو يصيب غرة فيغير، فأغار على أبى بكر رضى الله عنه، ومن معه، وهم غافلون، فاقتتلوا شيئا من قتال، وتحيز المسلمون، ولاذ أبو بكر بشجرة، وكره أن يعرف، فأوفى طلحة بن عبيد الله على شرف فصاح بأعلى صوته لا بأس، هذه الخيل قد جاءتكم، فتراجع الناس، وجاءت الأمداد، وتلاحق المسلمون، فانكشف خارجة بن حصن وأصحابه، وتبعه طلحة بن عبيد الله فيمن خف معه، فلحقوه فى أسفل ثنايا عوسجة، وهو هارب لا يألو فيدرك أخريات أصحابه، فحمل طلحة على رجل بالرمح فدق ظهره، ووقع ميتا، وهرب من بقى، ورجع طلحة إلى أبى بكر، فأخبره أن قد ولوا منهزمين هاربين، وأقام أبو بكر ببقعاء أياما ينتظر الناس، وبعث إلى من كان حوله من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردة، والخفوف إليهم، فتحلب الناس إليهم من هذه النواحى، حتى شحنت منهم المدينة.
قال سبرة الجهنى «1» : قدمنا معشر جهينة أربعمائة معنا الظهر والخيل، وساق عمرو ابن مسرة الجهنى مائة بعير عونا للمسلمين، فوزعها أبو بكر فى الناس، وجعل عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب يكلمان أبا بكر فى الرجوع إلى المدينة لما رأيا عزمه على المسير بنفسه، وقد توافى المسلمون وحشدوا، فلم يبق أحد من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار من أهل بدر إلا خرج، وقال عمر: ارجع يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكن للمسلمين فئة وردآ، فإنك إن تقتل يرتد الناس ويعل الباطل الحق، وأبو بكر مظهر المسير بنفسه، وسألهم بمن نبدأ من أهل الردة، فاختلفوا عليه، فقال أبو بكر: نصمد لهذا الكذاب على الله وعلى كتابه، طليحة.
ولما ألحوا على أبى بكر فى الرجوع، وعزم هو عليه، أراد أن يستخلف على الناس،
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (913) ، الإصابة الترجمة رقم (3094) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1936) ، مشاهير علماء الأمصار (35) ، الوافى بالوفيات (15/ 111) ، تهذيب الكمال (10/ 203) ، تهذيب التهذيب (3/ 4503) ، تقريب التهذيب (1/ 283) ، خلاصة تذهيب التهذيب (133) ، تاريخ الإسلام (1/ 212) .

(2/96)


فدعا زيد بن الخطاب «1» لذلك، فقال: يا خليفة رسول الله، قد كنت أرجو أن أرزق الشهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أرزقها، وأنا أرجو أن أرزقها فى هذا الوجه، وإن أمير الجيش لا ينبغى أن يباشر القتال بنفسه، فدعا أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، فعرض عليه ذلك، فقال مثل ما قال زيد، فدعا سالما مولى أبى حذيفة ليستعمله، فأبى عليه، فدعا أبو بكر خالد بن الوليد فأمره على الناس، وقال لهم وقد توافى المسلمون قبله، وبعث مقدمته أمام الجيش: أيها الناس، سيروا على اسم الله تعالى وبركته، فأميركم خالد بن الوليد، إلى أن ألقاكم، فإنى خارج فيمن معى إلى ناحية خيبر حتى ألاقيكم. ويروى أنه قال للجيش: سيروا، فإن لقيتكم بعد غد فالأمر إلى، وأنا أميركم، وإلا فخالد بن الوليد عليكم، فاسمعوا له وأطيعوا.
وإنما قال ذلك أبو بكر لأن تذهب كلمته فى الناس، وتهاب العرب خروجه، ثم خلا بخالد بن الوليد، فقال: يا خالد، عليك بتقوى الله، وإيثاره على من سواه، والجهاد فى سبيله، فقد وليتك على من ترى من أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فسار خالد، ورجع أبو بكر، وعمر، وعلى، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص فى نفر من المهاجرين والأنصار من أهل بدر رضى الله عنهم جميعهم، إلى المدينة.
وصية أبى بكر الصديق رضى الله عنه، خالد بن الوليد حين بعثه فى هذا الوجه
قال حنظلة بن على الأسلمى: بعث أبو بكر رضى الله عنه، خالد بن الوليد إلى أهل الردة، وأمره أن يقاتلهم على خمس خصال، فمن ترك واحدة من الخمس قاتله: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان. زاد زيد بن أسلم: وحج البيت، وقال: كن ستا.
وعن نافع بن جبران أن أبا بكر حين بعث خالد بن الوليد عهد إليه، وكتب معه هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (851) ، الإصابة الترجمة رقم (8904) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1834) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 198) ، سير أعلام النبلاء (1/ 297) ، تهذيب التهذيب (3/ 411) ، تقريب التهذيب (1/ 274) ، خلاصة تذهيب الكمال (1/ 352) ، الأعلام (3/ 58) ، العبر (14) ، الثقات (3/ 136) ، الاستبصار (296، 297) ، صفة الصفوة (1/ 447) ، التحفة اللطيفة (1/ 99) ، الرياض المستطاب (89) .

(2/97)


خالد بن الوليد، حين بعثه فيمن بعثه من المهاجرين والأنصار، ومن معهم من غيرهم لقتال من رجع عن الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهد إليه وأمره أن يتقى الله ما استطاع فى أمره كله، علانيته وسره، وأمره بالجد فى أمر الله والمجاهدة لمن تولى عنه إلى غيره ورجع عن الإسلام إلى ضلالة الجاهلية وأمانى الشيطان.
وعهد إليه وأمره أن لا يقاتل قوما حتى يعذر إليهم ويدعوهم إلى الإسلام، ويبين لهم الذى لهم فى الإسلام والذى عليهم فيه، ويحرص على هداهم، فمن أجابه إلى ما دعاه إليه من الناس كلهم، أحمرهم وأسودهم، قبل منه، وليعذر إلى من دعاه بالمعروف وبالسيف، فإنما يقاتل من كفر بالله على الإيمان بالله، فإذا أجاب المدعو إلى الإيمان، وصدق إيمانه، لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فى عمله، ومن لم يجبه إلى ما دعا إليه من دعائه الإسلام، ممن رجع عن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يقاتل أولئك بمن معه من المهاجرين والأنصار، حيث كانوا، وحيث بلغ مراغمه، ثم يقتل من قدر عليه من أولئك، ولا يقبل من أحد شيئا دعاه إليه ولا أعطاه إياه الإسلام والدخول فيه والصبر به وعليه وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
وأمره أن يمضى بمن معه من المسلمين حتى يقدم اليمامة فيبدأ ببنى حنيفة ومسيلمتهم الكذاب، فيدعوهم ويدعوه إلى الإسلام، وينصح لهم فى الدين، ويحرص على هداهم، فإن أجابوا إلى ما دعاهم إليه من دعاية الإسلام قبل منهم، وكتب بذلك إلى، وأقام بين أظهرهم حتى يأتيه أمرى، وإن هم لم يجيبوا ولم يرجعوا عن كفرهم واتباع كذابهم على كذبه على الله عز وجل، قاتلهم أشد القتال بنفسه وبمن معه، فإن الله ناصر دينه ومظهره على الدين كله، كما قضى فى كتابه ولو كره الكافرون، فإن أظهره الله عليهم إن شاء الله وأمكنه منهم فليقتلهم بالسلاح، وليحرقهم بالنار، ولا يستبق منهم أحدا قدر على أن يستبقيه، وليقسم أموالهم وما أفاء الله عليه وعلى المسلمين إلا خمسه، فليرسل به إلى أضعه حيث أمر الله به أن يوضع إن شاء الله.
وعهد إليه أن لا يكون فى أصحابه فشل من رأيهم ولا عجلة عن الحق إلى غيره، ولا يدخل فيهم حشو من الناس حتى يعرفهم ويعرف ممن هم، وعلام اتبعوه وقاتلوا معه، فإنى أخشى أن يدخل معكم ناس يتعوذون بكم ليسوا منكم ولا على دينكم، فيكونون عيونا عليكم، ويتحفظون من الناس بمكانهم معكم، وأنا أخشى أن يكون ذلك فى الأعراب وجفاتهم، فلا يكونن من أولئك فى أصحابك أحد إن شاء الله تعالى، وارفق بالمسلمين فى سيرهم ومنازلهم، وتفقدهم، ولا تعجل بعض الناس عن بعض فى المسير

(2/98)


ولا فى الارتحال من مكان، واستوص بمن معك من الأنصار خيرا فى حسن صحبتهم، ولين القول لهم، فإن فيهم ضيقا ومرارة وزعارة، ولهم حق وفضيلة وسابقة ووصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
ويروى أن أبا بكر رحمه الله، كتب مع هذا الكتاب كتابا آخر إلى عامة الناس، وأمر خالدا أن يقرأه عليهم فى كل مجمع، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابى هذا من عامة أو خاصة، تاما على إسلامه أو راجعا عنه، سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبد ورسوله، الهادى غير المضل، أرسله بالحق من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، لينذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب بالحق من أدبر عنه حتى صاروا إلى الإسلام طوعا وكرها، ثم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند ذلك أجله الذى قضى الله عليه وعلى المؤمنين، فتوفاه الله، وقد كان بين له ذلك ولأهل الإسلام فى الكتاب الذى أنزل عليه، فقال له: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، وقال:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 34، 35] ، وقال للمؤمنين:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] ، فمن كان إنما يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، صلوات الله عليه، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له، فإن الله بالمرصاد، حى قيوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه، وإنى أوصيكم أيها الناس بتقوى الله، وأحضكم على حظكم ونصيبكم من الله وما جاءكم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تهتدوا بهدى الله، وتعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يحفظه الله ضائع، وكل من لم يصدقه الله كاذب، وكل من لم يسعده الله شقى، وكل من لم يرزقه الله محروم، وكل من لم ينصره الله مخذول، فاهتدوا بهدى الله ربكم وما جاءكم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف: 17] ، وإنه قد بلغنى رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به، اغترارا بالله وجهالة بأمر الله، وطاعة للشيطان، إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا

(2/99)


حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] ، وإنى قد بعثت خالد بن الوليد فى جيش من المهاجرين الأولين من قريش والأنصار وغيرهم، وأمرته أن لا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن دخل فى دين الله وتاب إلى الله ورجع عن معصية الله إلى ما كان يقر به من دين الله وعمل صالحا قبل ذلك منه، وأعانه عليه، ومن أبى أن يرجع إلى الإسلام بعد أن يدعوه بداعية الله ويعذر إليه بعاذرة الله، أن يقاتل من قاتله على ذلك أشد القتال بنفسه ومن معه من أنصار دين الله وأعوانه، ثم لا يبقى على أحد بعد أن يعذر إليه، وأن يحرقهم بالنار، ويسبى الذرارى والنساء، وأمرته أن لا يقبل من أحد شيئا إلا الرجوع إلى دين الله، وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرته أن يقرأ على الناس كتابى إليهم فى كل مجمع وجماعة، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فهو شر له.
وعن عروة بن الزبير، قال: جعل أبو بكر رضى الله عنه، يوصى خالد بن الوليد ويقول: يا خالد، عليك بتقوى الله، والرفق بمن معك من رعيتك، فإن معك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهل السابقة من المهاجرين والأنصار، فشاوروهم فيما نزل بك، ثم لا تخالفهم، وقدم أمامك الطلائع ترتاد لك المنازل، وسر فى أصحابك على تعبئة جيدة، فإذا لقيت أسدا وغطفان فبعضهم لك وبعضهم عليك، وبعضهم لا عليك ولا لك، متربص دائرة السوء، ينظر لمن تكون الدبرة، فيميل مع من تكون له الغلبة، ولكن الخوف عندى من أهل اليمامة، فاستعن بالله على قتالهم، فإنه بلغنى أنهم رجعوا بأسرهم، وإن كفاك الله الضاحية فامض إلى أهل اليمامة، فإنك تلقى عدوا كلهم عليك، لهم بلاد منكرة، فلا تؤتى إلا من مفازة، فارفق بجيشك فى تلك المفازة، فإن فى جيشك قوما أهل ضعف، أرجو أن تنصر بهم حتى تدخل بلادهم إن شاء الله تعالى.
فإذا دخلت بلادهم فالحذر الحذر إذا لقيت القوم فقاتلهم بالسلاح الذى يقاتلونك به، السهم للسهم، والرمح للرمح، والسيف للسيف، فإن أعطاك الله الظفر عليهم، فأقل البقيا عليهم إن شاء الله تعالى، وإياك أن تلقانى غدا بما يضيق صدرى به منك، اسمع عهدى ووصيتى، لا تغيرن على دار سمعت فيها أذانا حتى تعلم ما هم عليه، وإياك وقتل من صلى، واعلم يا خالد أن الله يعلم من سريرتك ما يعلم من علانيتك، واعلم أن رعيتك إنما تعمل بما تراك تعمل، كف عليك أطرافك، وتعاهد جيشك، وانههم عما لا يصلح لهم، فإنما تقاتلون من تقاتلون بأعمالكم، وبهذا نرجو لكم النصر على أعدائكم، سر على بركة الله تعالى.

(2/100)