الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء

ذكر الخبر عن أصبهان «1»
فأما أصبهان، فإن عبد الله بن عبد الله بن عتبان خرج إليها بأمر عمر، رضى الله عنه، وعلى مقدمته عبد الله بن ورقاء الرياحى، وعلى مجنبتيه عبد الله بن بديل بن ورقاء
__________
(1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 139- 141) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (3/ 8، 9) .

(2/574)


الأسدى، وليس الخزاعى، وعصمة بن عبد الله، وسار عبد الله فى الناس نحو جىّ وقد اجتمع أهل أصبهان عليهم الأستندار، وعلى مقدمته شهربراز جاذويه، شيخ كبير فى جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برستاق من رساتيق أصبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ودعا الشيخ إلى البراز، فبرز له عبد الله بن ورقاء، فقتله وانهزم أهل أصبهان، وسمى المسلمون ذلك الرستاق رستاق الشيخ، فما زال ذلك اسمه بعد.
ودعى عبد الله من يليه فسارع الأستندار إلى الصلح، فصالحه عبد الله، ثم سار من رستاق الشيخ نحو جىّ فانتهى إليها، وبها يومئذ ملك أصبهان الفاذوسفان فى جمعه، فحاصرهم عبد الله، وخرجوا إليه، فلما التقوا، قال له ملكهم: لا تقتل أصحابى ولا أقتل أصحابك، ولكن ابرز إلىّ، فإن قتلتك رجع أصحابك، وإن قتلتنى سالمك أصحابى، وإن كان أصحابى لا تقع لهم نشابة إلا فى رجل، فبرز له عبد الله، وقال: إما أن تحمل علىّ، وإما أن أحمل عليك، فقال: أحمل عليك، فوقف له عبد الله، فحمل عليه الفاذوسفان، فطعنه، فأصاب قربوس السرج فكسره، وقطع اللبد والحزام، وزال اللبد والسرج، فوقع عبد الله قائما، ثم استوى على الفرس عريا، وقال له: اثبت، فحاجزه وقال: ما أحب أن أقاتلك، فإنى قد رأيتك رجلا كاملا، ولكن ارجع معك إلى عسكرك فأصالحك وأدفع المدينة إليك على أن من شاء أقام وأدى الجزية وقام على ماله، وعلى أن تجرى مجراهم من أخذتم ماله عنوة ويتراجعون، ومن أبى أن يدخل فيما دخلنا فيه ذهب حيث شاء ولكم أرضه.
فقال له عبد الله: لكم ذلك، فرجع القوم إلى جىّ، إلا ثلاثين رجلا من أصبهان خالفوا قومهم، فخرجوا فلحقوا بكرمان، ودخل عبد الله وأبو موسى حيا، مدينة أصبهان، وإنما وصل إليه أبو موسى من ناحية الأهواز بعد الصلح، واغتبط من أقام، وندم من شخص.
وكتب عبد الله بالفتح إلى عمر، فأمره أن يلحق بسهيل بن عدى فيجتمع معه على قتال من بكرمان، وأن يستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع، ففعل عبد الله ما أمره به، وخرج فى جريدة خيل فلحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان، وسيأتى ذكر فتحها بعد إن شاء الله.
والكتاب الذى كتبه عبد الله لأهل أصبهان:
بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من عبد الله للفاذوسفان وأهل أصبهان وما حواليها،

(2/575)


إنكم آمنون ما أديتم الجزية، وعليكم من الجزية على قدر طاقتكم كل سنة تؤدونها إلى الذى يلى بلادكم عن كل حالم، ودلالة المسلم وإصلاح طريقه وقراه يوما وليلة، وحملان الراجل إلى مرحلة، ولا تسلطوا على مسلم، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليكم، ولكم الأمان ما فعلتم، فإذا غيرتم شيئا أو غيره مغير منكم ولم تسلموه فلا أمان لكم، ومن سب مسلما بلغ منه، فإن ضربه قتلناه. وكتب وشهد عبد الله بن قيس، وعبد الله بن ورقاء، وعصمة بن عبد الله.
ذكر فتح همذان ثانية وقتال الديلم «1»
وقد كان حذيفة اتبع فالة نهاوند نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو، فبلغا همذان فصالحهم خشروشنوم على همذان ودستبى، فرجعوا عنه، ثم إن أهل همذان كفروا بعد ونقضوا ذلك الصلح، فكتب عمر، رحمه الله، إلى نعيم بن مقرن: أن سر حتى تأتى همذان، وابعث على مقدمتك سويد بن مقرن، وعلى مجنبتيك ربعى بن عامر ومهلهل بن زيد، هذا طائى، وذاك تميمى، فخرج نعيم فى تعبئته فسار حتى نزل مدينة همذان وقد تحصنوا، فحاصرهم وأخذ ما بينها وبين جرميذان، واستولى على بلاد همذان كلها.
فلما رأى ذلك أهل المدينة سألوا الصلح، على أن يجريهم ومن استجاب له مجرى واحدا، ففعل، وقبل منهم الجزاء على المنعة، وفرق دستبى بين النفر من أهل الكوفة، بين عصمة بن عبد الله الضبى، ومهلهل بن زيد الطائى، وسماك بن عبيد العبسى، وسماك ابن مخرمة الأسدى، وسماك بن خرشة الأنصارى، فكان هؤلاء أول من ولى مسالح دستبى وقاتل الديلم.
فبينا نعيم فى مدينة همذان فى توطئتها فى اثنى عشر ألفا من الجند تكاتب الديلم وأهل الرى وأهل أذربيجان، ثم خرج موثا فى الديلم حتى ينزل بواج الروذ، وأقبل أبو الفرخان فى أهل الرى، حتى انضم إليه، وأقبل أخو رستم فى أهل أذربيجان حتى انضم إليه، وتحصن أمراء مسلح دستبى وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس، وخرج إليهم فى الناس حتى نزل عليهم بواج الروذ، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، وقتل القوم مقتلة عظيمة لم تكن دون وقعة نهاوند، ولا قصرت ملحمتهم عن الملاحم الكبار، وقد
__________
(1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 146- 149) ، الكامل لابن الأثير (3/ 7، 8) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 120- 122) .

(2/576)


كانوا كتبوا إلى عمر، رحمه الله، باجتماعهم، ففزع عمر واهتم لحربهم، وتوقع ما يأتيه عنهم، فلم يفجأه إلا البريد بالبشارة، فقال: أبشير؟ فقال: بل عروة، فلما ثنى عليه:
أبشير؟ فهم عنه ما أراد، فقال: بشير، فقال عمر: رسول نعيم؟ قال: رسول نعيم، قال:
الخبر؟ قال: البشرى بالفتح والنصر، وأخبره الخبر، فحمد الله، وأمر بالكتاب فقرئ على الناس، فحمد الله تعالى، ثم قدم عليه بالأخماس سماك بن مخرمة، وسماك بن عبيد، وسماك بن خرشة فى نفر من أهل الكوفة، فنسبهم، فانتسبوا له، فقال: بارك الله فيكم، اللهم أسمك بهم الإسلام وأيدهم بالإسلام، ثم كتب إلى نعيم:
أما بعد، فاستخلف على همذان وآمد بكير بن عبد الله بن سماك بن خرشة، وسر حتى تقدم الرى فتلقى جمعهم، ثم أقم بها، فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد.
فأقر نعيم يزيد بن قيس على همذان، وسار بالناس من واج الروذ إلى الرى.
وقال نعيم يذكر قتالهم فى واج الروذ من أبيات:
صدمناهم فى واج روذ بجمعنا ... غداة رميناهم بإحدى القواصم
فما صبروا فى حومة الموت ساعة ... لجد الرماح والسيوف الصوارم
أصبنا بها موثا ومن لف جمعه ... وفيها نهاب قسمها غير عاتم
تبعناهم حتى أووا فى شعابهم ... نقتلهم قتل الكلاب الحوائم
كأنهم عند انثياب جموعهم ... جدار تشظى لبنه للهوادم
وقال سماك بن مخرمة الأسدى بعد تلك الأيام «1» :
برزت لأهل القادسية معلما ... وما كل من يلقى الكريهة يعلم
وقومى بنو عمرو بن نصر كأنهم ... أسود بتوج حين شبوا وأسلموا
ويوم بأكناف النخيلة قبلها ... لججت فلم أبرح أدمى وأكلم
وأقعص منهم فارسا بعد فارس ... وما كل من يغشى الكريهة يسلم
فنجانى الله الأجل وجرأتى ... وسيف لأطراف المآرب مخذم
وحولى بنو ذودان لا يبرحوننى ... إذا سرحت صاحوا بهم ثم صمموا
وأيقنت يوم الديلميين أنه ... متى ينصرف قومى عن الناس يهزم
محافظة إنى امرؤ ذو حفيظة ... إذا لم أجد مستأخرا أتقدم
__________
(1) انظر الأبيات فى: الطبرى (4/ 149) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 121) .

(2/577)


فتح الرى «1»
وخرج نعيم بن مقرن إلى الرى فلقيه أبو الفرخان مسالما، ومخلفا بالرى يومئذ سياوخش بن مهران بن بهرام، وكان سياوخش قد استمد أهل دنباوند وطبرستان وقرمس وجرجان، وقال: قد علمتم أن هؤلاء إن حلوا بالرى، إنه لا مقام لكم، فاحتشدوا له، فناهد بهم المسلمين، فالتقوا بسفح جبل الرى الذى إلى جانب مدينتها فاقتتلوا به.
وقد كان أبو الفرخان قال لنعيم: إن القوم كثير وأنتم فى قلة، فابعث معى خيلا أدخل مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإنهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لك. فبعث معه نعيم من الليل خيلا عليها ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم المدينة، ولا يشعر القوم، وبيتهم نعيم بياتا فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا وصبروا حتى سمعوا التكبير من ورائهم، فانهزموا، فقتلوا مقتلة عدوا فيها بالقصب، وأفاء الله على المسلمين بالرى نحوا من فىء المدائن، وصالح أبو الفرخان نعيما على أهل الرى، فلم يزل بعد شرف الرى فى آله، وسقط آل بهرام، وأخرب نعيم مدينة الرى، وهى التى يقال لها العتيقة، وأمر أبا الفرخان فبنى مدينة الرى الحدثاء، وكتب لهم نعيم كتابا أعطاهم فيه الأمان لهم ولمن كان معهم من غيرهم، على أن على كل حالم من الجزية طاقته فى كل سنة، وعلى أن ينصحوا ولا يغلوا ولا يسلوا، ويدلوا المسلم ويقروه يوما وليلة، ويفخموه، فمن سب مسلما أو استخف به نهك عقوبة، ومن ضربه قتل، ومن بدل منهم فلم يسلم برمته فقد غير جماعته.
وراسل عند ذلك نعيما مردانشاه مصمعان نهاوند فى الصلح على شىء يفتدى به من غير أن يسأله النصر والمعونة، ففعل ذلك نعيم، وكتب له به ولأهل موضعه كتابا على أن يتقى من ولى الفرج بمائتى ألف درهم فى كل سنة.
وقال أبو بجيد فى يوم الرى:
ألا هل أتاها أن بالرى معشرا ... شفوا سقما لما استجاشوا وقتلوا
لها موطنان عاينوا الهلك فيهما ... بأيد طوال لم يخنهن مفصل
وخيل تعادى لا هوادة عندها ... وزاد وكمت تمتطى ومحجل
__________
(1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 150، 151) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 121، 122) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 264- 265) .

(2/578)


ودهم وشقر تنشر البلق بينها ... إذا ناهبت قوما تولوا وأوهلوا
قتلناهم بالسفح مثنى وموحدا ... وصار لنا فيها مداد ومأكل
قتلنا سيا وخشا ومن مال ميله ... ولم ينج منهم بالسفوح مؤمل
جزى الله خيرا معشر عصبوهم ... وأعطاهم خير العطاء الذى ولوا
وقال أيضا:
وبالرى إن سألت بنا أم جعفر ... فمنا صدور الخيل والخيل تنفر
إذا حذر الأقرام منهن قارح ... تفخمه فى الموت أغيد أزهر
أخو الهيج والروعات إن زفرت به ... أناخ إليها صابرا حين يزفر
فتسفر عنها الحرب بعد انصبابها ... وفينا البقايا والفعال المسهر
قتلنا بنى بهرام لما تتابعوا ... على أمر غاويهم وغاب المسور
وبالسفح موتى لا تطير نسورها ... لها فى سواء السفح مثوى ومغبر
ولولا اتقاء القوم بالسلم أقفرت ... بلادهم أو يهربون فيعذروا
خلفناهم بالرى والرى منزل ... له جانب صعب هناك معور
ذكر فتح قومس وجرجان
فأما قومس، فإن عمر، رحمه الله، كان كتب إلى نعيم بن مقرن حين أعلمه بفتح الرى: أن قدم سويد بن مقرن إلى قومس، ففصل إليها سويد من الرى فى تعبئته، فلم يقم له أحد، فأخذها سلما، وعسكر بها، وكاتب الذين لجأوا إلى طبرستان منهم، والذين أخذوا المفاوز يدعوهم إلى الصلح والجزاء، وكتب لهم بذلك كتابا» .
وأما جرجان، فإن سويدا سار إليها فكاتبه ملكها، وبدأه بالصلح على أن يؤدى له الجزاء ويكفيه حرب جرجان، فإن غلب أعانه، فقبل سويد ذلك منه، ثم تلقاه قبل أن يدخل جرجان، فدخلها معه، وعسكر سويد بها حتى جبى إليه خراجها، وسمى فروجها، فسدها بترك دهستان، ورفع الجزاء عمن أقام بمنعها، وأخذ الخراج من سائر أهلها، وكتب سويد بذلك كتابا لملكها رزبان صول وأهل دهستان وسائر أهل جرجان «2» .
__________
(1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 151، 152) ، الروض المعطار (ص 485) .
(2) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 152، 152) ، تاريخ جرجان (ص 44) .

(2/579)


ذكر فتح طبرستان
وراسل الأصبهبذ سويدا فى الصلح على أن يتوادعا، ويجعل له شيئا على غير نصرة ولا معونة على أحد، فقبل ذلك منه، وكتب له:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من سويد بن مقرن للفرخان اصبهبذ خراسان على طبرستان وجبل جيلان، إنك آمن بأمان الله على أن تكف نصرتك وأهل حواشى أرضك، ولا تؤوى لنا بغية وتتقى من ولى فرج أرضك بخمسمائة ألف درهم من دراهم أرضك، فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك، ولا أن يتطوف أرضك، ولا يدخل عليك إلا بإذنك، سبيلنا عليكم بالإذن آمنة، وكذلك سبيلكم، ولا تسألون لنا إلى عدو ولا تغلون، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم «1» .
فتح أذربيجان
ولما «2» افتتح نعيم همذان ثانية، وسار إلى الرى كتب إلى عمر: أن يبعث سماك بن خرشة الأنصارى، وليس بأبى دجانة، ممدا لبكير بن عبد الله بأذربيجان، وكان عمر قد فرق أذربيجان بين بكير وبين عتبة بن فرقد، وأمر كل واحد منهما بطريق غير طريق صاحبه، فسار بكير حين بعث إليها حتى إذا طلع بحيال جرميذان، طلع عليه اسفندياذ بن الفرخزاد مهزوما من واج روز، فكان أول قتال لقيه بكير بأذربيجان، فاقتتلوا، فهزم الله جند اسفندياذ وأخذه بكير أسيرا، فقال له: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ فقال بكير:
بل الصلح، قال: فأمسكنى عندك، فإن أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم وأراضى لم يقيموا لك، وجلوا إلى الجبال التى حولها من القبج والروم ومن كان فى حصن تحصن إلى يوم ما، فأمسكه عنده، وصارت البلاد إليه إلا ما كان من حصن، وقدم سماك على بكير واسفندياذ فى إساره، وقد افتتح ما يليه، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه.
وتشوفت نفس بكير إلى المضى قدما، فقال لسماك: إن شئت كنت معى، وإن شئت أتيت عتبة، فإنى لا أرانى إلا تارككما وطالبا وجها هو أكره من هذا. فاستأذن عمر، فكتب إليه بالإذن على أن يتقدم نحو الباب، وأمره أن يستخلف على عمله، فاستخلف
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 153) .
(2) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 153- 155) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 122) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 119، 120) .

(2/580)


عتبة على ما افتتح منه، ودفع إليه اسفندياذ، فأمر عتبة سماكا على ما استخلفه عليه بكير، وجمع عمر، رحمه الله، أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد، وكان بهرام بن الفرخزاذ قد أخذ بطريق عتبة، وأقام له فى عسكره حتى لحق عتبة فاقتتلوا، فهزمهم عتبة، وهرب بهرام، فلما بلغ الخبر اسفندياذ وهو بعد فى إسار بكير قال: الآن تم الصلح، وطفئت الحرب، فصالح بكير، وأجاب إلى ذلك جميعهم، وعادت أذربيجان سلما، وكتب عتبة بينه وبين أهلها كتابا إذ جمع له عمل بكير إلى عمله:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عتبة بن فرقد، عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، أهل أذربيجان، سهلها وجبلها، وحواشيها وشعاريها، وأهل ملكها كلهم من الأمان على أنفسهم وأموالهم وملتهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس ذلك على صبى ولا على امرأة ولا زمن ليس فى يده من الدنيا شىء، ولا متعبد متخل ليس فى يديه من الدنيا شىء، لهم ذلك ولمن سكن معهم، وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يوما وليلة ودلالته، ومن حشر منهم فى سنة رفع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه.
حديث فتح الباب «1»
وبعث عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، سراقة بن عمرو إلى الباب بعد أن رد أبا موسى مكانه إلى البصرة، وكان سراقة يدعى ذا النور، وجعل عمر على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، وكان أيضا يدعى ذا النور، وجعل على إحدى مجنبتيه حذيفة بن أسيد الغفارى، وسمى للأخرى بكير بن عبد الله الليثى، وكان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة عليه، وكتب إليه: أن يلحق به، وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة، فقدم سراقة عبد الرحمن، وخرج فى الأثر، حتى إذا خرج من أذربيجان نحو الباب، قدم عليه بكير فى أدنى الباب، فاستدفأ ببكير، ودخل بلاد الباب على ما عباه عمر، رحمه الله، وكان ملك الباب يومئذ شهربراز، رجل من آل شهربراز الملك الذى أفسد بنى إسرائيل وأعرى منهم الشام.
__________
(1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 155- 160) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (3/ 14) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 122، 123) .

(2/581)


فلما أطل عليه عبد الرحمن بن ربيعة بالباب كاتبه شهربراز واستأمنه على أن يأتيه، فأمنه عبد الرحمن على ذلك، فأتاه فقال: إنى بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة، لا ينسبون إلى أحساب، وليس ينبغى لذى العقل والحسب أن يعين أمثال هؤلاء ولا يستعين بهم على ذوى الأحساب والأصول، وذو الحسب قريب ذى الحسب حيث كان، ولست من الفتح فى شىء ولا من الأرض، وإنكم قد غلبتم على بلادى وأمتى، فأنا اليوم منكم يدى مع أيديكم، وصبرى معكم، فمرحبا بكم، وبارك الله لنا ولكم، وجزيتنا إليكم، ولكم النصر والقيام بما تحبون، ولا تذلونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم.
فقال عبد الرحمن: فوقى رجل قد أظلك فسر إليه، فجوزه، فسار إلى سراقة، فلقيه بمثل ذلك، فقال له سراقة: قد قبلت ذلك فيمن كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بد من الجزاء على من يقيم ولا ينهض، فقبل ذلك شهربراز، وصارت سنة فيمن كان يحارب العدو من المشركين، وفيمن يستنفر من أهل الجزية، فتوضع عنه جزية تلك السنة التى استنفر فيها.
وكتب سراقة إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، بذلك، فأجازه وحسنه، وليس فى تلك البلاد التى فى ساحة الجبال نبك لم يقم الأرمن بها إلا على أوفاز، وإنما بها سكان ممن حولها ومن الطراء استأصلت الغارات نبكها من أهل القرار، وأرز أهل الجبال منهم إلى جبالهم، وجلوا عن قرار أرضهم، فكان لا يقيم بها إلا الجنود ومن أعانهم أو تجر إليهم.
واكتتبوا من سراقة بن عمرو كتابا بالأمان لشهربراز وسكان أرمينية والأرمن، على أنفسهم وأموالهم وملتهم، لا يضارون ولا ينتقضون، وعلى أهل أرمينية والأبواب، الطراء منهم والتناء ومن حولهم، فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة، وينفروا لكل أمر رآه الوالى صلاحا، ناب أو لم ينب، على أن توضع على من أجاب إلى ذلك الجزاء، ومن استغنى منهم فقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء والدلالة والنزول يوما كاملا، فإن حشروا وضع ذلك عنهم، وإن تركوا أخذوا به.
ثم إن سراقة بن عمرو وجه بعد ذلك بكير بن عبد الله وحبيب بن مسلمة، وكان عمر أمد به سراقة، وحذيفة بن أسيد وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجه بكيرا إلى موقان، وحبيبا إلى تفليس، وحذيفة إلى من بجبال اللان، وسلمان إلى وجه آخر.

(2/582)


وكتب سراقة بالفتح وبالذى وجه فيه هؤلاء إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فأتى عمر أمر لم يكن يرى أنه يستتم له على ما خرج عليه سريعا بغير مؤنة، وكان فرجا عظيما به جند عظيم، إنما ينتظر أهل فارس صنيعهم، ثم يضعون الحرب أو يبعثونها.
فلما استوثقوا واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة، رحمه الله، واستخلف عبد الرحمن بن ربعة، وقد مضى أولئك القواد الذين بعثهم سراقة، فلم يفتح أحد منهم ما وجه له إلا بكيرا فإنه فض موقان، ثم تراجع أهلها على الجزية، فقبل منهم وكتب لهم بها وبأمانهم عليها.
ولما بلغ عمر، رحمه الله، موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن أقره عمر وأمره بغزو الترك، فخرج بالناس حتى قطع الباب، فقال له شهربراز: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد بلنجر، فقال شهربراز: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من وراء الباب، فقال عبد الرحمن:
لكنا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم فى ديارهم، وبالله إن معنا لأقواما لو يأذن لنا أميرنا فى الإمعان لبلغت بهم الردم، قال: وما هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا فى هذا الأمر بنية، وكانوا أصحاب حياء وتكرم فى الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرمهم ولا يزال هذا الأمر دائما لهم، والنصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم، وحتى ينقلوا عن حالهم.
فغزا عبد الرحمن بلنجر غزاة فى زمان عمر، رضى الله عنه، لم تئم فيها امرأة ولم ييتم صبى، وبلغت خيله فى غزاته البيضاء على رأس مائتى فرسخ من بلنجر، ثم غزا فسلم، ثم غزا غزوات فى زمان عثمان، رضى الله عنه، ثم أصيب عبد الرحمن حين تبدل أهل الكوفة فى إمارة عثمان لاستعماله من كان ارتد استصلاحا لهم، فلم يصلحهم ذلك وزادهم فسادا، أن سادهم من طلب الدنيا، وعضلوا بعثمان، رضى الله عنه ورحمه، حتى جعل يتمثل:
وكنت وعمرا كالمسمن كلبه ... فخدشه أنيابه وأظافره
وقال سلمان بن ربيعة «1» : لما دخل عبد الرحمن بن ربيعة عليهم، يعنى على الترك، حال الله بينهم وبين الخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعهم الملائكة تمنعهم من الموت، فتحصنوا منه، فرجع بالغنم والظفر، وذلك فى إمارة عمر، ثم لما
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 158، 159) .

(2/583)


غزاهم غزوات فى زمان عثمان ظفر بهم كما كان يظفر، حتى إذا تبدل أهل الكوفة، وذكر بعض ما تقدم من استعمال من ارتد، وغزاهم بعد ذلك تذمرت الترك وقالوا:
انظروا، وكانوا يقولون إنهم لا يموتون. قال: فاختفوا لهم فى الغياض، فرمى رجل منهم رجلا من المسلمين على غرة فقتله، وهرب عنه أصحابه، فخرجوا عليه عند ذلك، فاقتتلوا فاشتد قتالهم، ونادى مناد من الجو: صبرا آل عبد الرحمن موعدكم الجنة فقاتل حتى قتل عبد الرحمن وانكشف المسلمون، وأخذ سلمان بن ربيعة الراية، فقاتل بها، ونادى مناد من الجو: صبرا آل سلمان، فقال سلمان: أو ترى جزعا؟ ثم خرج بالناس وخرج سلمان الفارسى وأبو هريرة الدوسى على جيلان، فقطعوها إلى جرجان، واجترأ الترك بعدها ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن، فما زالوا بعد يستسقون به.
وجعل عثمان، رحمه الله، يغزيها مع حبيب بن مسلمة.
وحدث مطر بن ثلج التيمى قال: دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهربراز عنده، فأقبل رجل عليه شحوب حتى جلس إلى شهربراز، فتساءلا، ثم إن شهربراز قال لعبد الرحمن: أيها الأمير، أتدرى من أين جاء هذا الرجل؟ إنى بعثته منذ سنتين نحو السند لينظر لى ما حاله ومن دونه، وزودته مالا عظيما، وكتبت له إلى من يلينى، وأهديت له، وسألته أن يكتب إلى من وراءه، وزودته لكل ملك هدية، ففعل ذلك بكل ملك بينى وبينه، حين انتهى إليه، حتى انتهى إلى الملك الذى السد فى ظهر أرضه، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه. فذكر أنه أحسن إلى البازيار وقال: فتكشر لى البازيار.
فلما انتهينا إذا جبلان بينهما سد مسدود، حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما، وإذا دون السد خندق أشد سوادا من الليل لبعده، فنظرت إلى ذلك وتفرست فيه، ثم ذهبت لأنصرف، فقال لى البازيار: على رسلك، أكافئك، إنه لا يلى ملك بعد ملك إلا تقرب إلى الله بأفضل ما عنده من الدنيا، فيرمى به فى هذا اللهب، فشرح بضعة لحم معه، فألقاها فى ذلك الهوى، وانقضت عليها العقاب، وقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شىء، وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شىء، فخرجت علينا العقبان باللحم فى مخالبها، وإذا فيها ياقوتة، فأعطانيها، وهى هذه. فتناولها منه شهربراز وهى حمراء فناولها عبد الرحمن، فنظر إليها ثم ردها إليه، فقال شهربراز: لهذه خير من هذه البلد، يعنى الباب، وايم الله لأنتم أحب إلىّ ملكة من آل كسرى، ولو كنت فى سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها منى، وايم الله لا يقوم لكم شىء ما وفيتم أو وفى ملككم الأكبر.

(2/584)


فأقبل عبد الرحمن على الرسول وقال: ما حال الردم وما شبهه؟ فقال: هذا الثوب الذى على هذا الرجل، وأشار إلى مطر بن ثلج، وكان عليه قباء برود يمنية أرضة حمراء ووشيه أسود أو وشيه أحمر وأرضه سوداء، فقال مطر: صدق والله الرجل، لقد نفذ ورأى، قال عبد الرحمن: أجل، ووصف صفة الحديد والصفر وقرأ: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ إلى آخر الآية [الكهف: 96] ، وقال عبد الرحمن لشهربراز: كم كانت هديتك؟
قال: قيمة مائة ألف فى بلادى هذه، وثلاثة آلاف ألف وأكثر فى تلك البلدان.
ذكر مسير يزدجرد إلى خراسان ودخول الأحنف إليها غازيا «1»
ذكروا أن يزدجرد لما انهزم أهل جلولاء خرج يريد الرى، وقد جعل له محمل يطيق ظهر بعيره، وكان إذا سار نام ولم يعرس بالقوم، فانتهى به إلى مخاضة وهو نائم فى محمله، فأنبهوه ليعلم، ولئلا يفزع إن هو استيقظ إذا خاض البعير به، فعنفهم على إنباهه وقال: بئس ما صنعتم، والله لو تركتمونى لعلمت ما مدة هذه الأمة، إنى رأيت أنى ومحمدا، يعنى النبى صلى الله عليه وسلم، تناجينا عند الله تعالى فقال له: أملككم مائة سنة، فقال: زدنى، فقال: عشرا ومائة، فقال: زدنى، فقال: عشرين ومائة سنة، فقال: زدنى، فقال: لك.
وأنبهتمونى، ولو تركتمونى لعلمت.
فلما انتهى إلى الرى، وثب عليه آبان جاذويه، وكان على الرى، حينئذ، فأخذه، فقال له يزدجرد: يا آبان جاذويه، تغدر بى! فقال: لا ولكن قد تركت ملكك وصار فى يدى غيرك، فأحببت أن أكتتب على ما كان لى من شىء، وما أردته من غير ذلك، وأخذ خاتم يزدجرد ووصل الأدم، واكتتب الصكاك وسجل السجلات بكل ما أعجبه، ثم ختم عليها ورد الخاتم، ثم أتى بعد سعدا فرد عليه كل شىء فى كتابه.
ولما صنع آبان جاذويه بيزدجرد ما صنع خرج يزدجرد من الرى إلى أصبهان وكره جوار آبان ولم يأمنه، ثم عزم على كرمان، فأتاها ومعه النار، فأراد أن يضعها فى كرمان، ثم عزم على خراسان، فأتى مرو فنزلها وقد نقل النار، فبنى لها بيتا واتخذ بستانا، وبنى أزجا فرسخين من مرو إلى البستان، فاطمأن فى نفسه وأمن أن يؤتى، وكاتب من مرو من بقى من الأعاجم حيث لم يفتتحه المسلمون، فدانوا له، حتى إذا ثار
__________
(1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 166- 173) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 120- 122) .

(2/585)


أهل فارس والفيرزان فنكثوا، وثار أهل الجبال والفيزران فنكثوا، وصار ذلك داعية إلى إذن عمر، رضى الله عنه، فى الانسياح، فانساح أهل البصرة وأهل الكوفة حتى أثخنوا فى الأرض، فخرج الأحنف إلى خراسان، فأخذ على مهرجان نقذف، ثم خرج على أصبهان، وأهل الكوفة محاصرو جى، فدخل خراسان من الطبسين، فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدى، ثم سار نحو مرو الشاهجان، وأرسل إلى نيسابور، وليس دونها قتال، مطرف بن عبد الله بن الشخير، وإلى سرخس الحارث بن حسان.
فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ حتى نزولها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان، وكتب يزدجرد إلى خاقان وملك الصغد وصاحب الصين يستمدهم ويستعين بهم، وخرج الأحنف من مرو الشاهجان، واستخلف عليها حارثة ابن النعمان الباهلى بعد ما لحقت به أمداد الكوفة، على أربعة أمراء: علقمة بن النضر النضرى، وربعى بن عامر التميمى، وعبد الله بن أبى عقيل الثقفى، وابن أم غزال الهمدانى، وبلغ يزدجرد خروج الأحنف سائرا نحوه فخرج إلى بلخ، ونزل الأحنف مرو الروذ، وقدم أهل الكوفة فساروا إلى بلخ، واتبعهم الأحنف، والتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فهزمه الله بهم، وتوجه فى أهل فارس إلى النهر فعبروا، ولحق الأحنف بأهل الكوفة وقد فتح الله عليهم، وتتابع أهل خراسان ممن شذ وتحصن على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ فنزلها، واستخلف على طخارستان ربعى بن عامر، وهو الذى يقول له النجاشى ونسبه إلى أمه، وكان من أشراف العرب:
ألا رب من تدعو فتى ليس بالفتى ... ألا إن ربعى بن كأس هو الفتى
طويل قعود القوم فى قعر بيته ... إذا شبعوا من ثقل جفنته سقى
وكتب الأحنف بفتح خراسان إلى عمر، رحمه الله، فقال: لوددت أنى لم أكن بعثت إليها جندا، ولوددت أنه كان بيننا وبينها بحر من نار، فقال على، رضى الله عنه: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن أهلها سينقضون ثلاث مرات، فيجتاحون فى الثالثة، فكان أن يكون ذلك بأهلها أحب إلىّ من أن يكون بالمسلمين.
وكتب عمر إلى الأحنف: أما بعد، فلا تجوزن النهر واقتصر على ما دونه، وقد عرفتم بأى شىء دخلتم خراسان، فدوموا على الذى دخلتم به يدم لكم النصر، وإياكم وإياكم أن تغيروا فتنقضوا.

(2/586)


ولما بلغ رسول يزدجرد إلى خاقان لم يستتب له إنجاده حتى عبر إليه النهر مهزوما، وقد استتب له ذلك، والملوك ترى على أنفسها إنجاد الملوك، فأقبل فى الترك، وحشر أهل فرغانة والصغد، ثم خرج بهم، وخرج يزدجرد راجعا إلى خراسان حتى عبر النهر إلى بلخ، وعبر معه خاقان، فأرز أهل فارس إلى الأحنف بمرو الروذ، وجاء المشركون حتى نزلوا بها عليه، وكان حين بلغه عبورهم قاصدين له، خرج ليلا فى عسكره يتسمع فى ليلة مظلمة هل يسمع برأى ينتفع به؟ فمر برجلين ينقبان علفا، إما تبنا وإما شعيرا، وأحدهما يقول لصاحبه: لو أن الأمير أسندنا إلى هذا الجبل فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقا، والجبل فى ظهورنا لئلا يأتونا من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله عز وجل. فرجع الأحنف واجتزأ بها.
فلما أصبح جمع الناس وقال: إنكم قليل وإن عدوكم كثير، فلا يهولنكم، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين، ارتحلوا من مكانكم هذا فأسندوا إلى هذا الجبل، فاجعلوه فى ظهوركم، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم، وقاتلوهم من وجه واحد، ففعلوا، وقد أعدوا ما يصلحهم، والأحنف فى عشرة آلاف من أهل البصرة، وأهل الكوفة نحو منهم، وأقبلت الترك ومن اجتلبت حتى نزلوا بهم، فكانوا يغادونهم ويراوحونهم، ويتنحون عنهم بالليل ما شاء الله.
وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل حتى علم علمهم، ثم خرج ليلة طليعة لأصحابه حتى كان قريبا من عسكر خاقان فوقف، فلما كان فى وجه الصبح خرج فارس الترك بطوقه وضرب طبله، ثم وقف من العسكر موقفا مثله، فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف فقتله، وهو يرتجز:
إن على كل رئيس حقا ... أن يخضب الصعدة أو تندقا
إن لها شيخا بها ملقا ... سيف أبى حفص الذى تبقى
ثم وقف موقف التركى وأخذ طوقه، ثم خرج آخر من الترك، ففعل فعل صاحبه، ثم وقف دونه، فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز:
إن الرئيس يرتبى ويطلع ... ويمنع الخلاء إذا ما أرتعوا
ثم وقف موقف التركى الثانى، وأخذ طوقه، ثم خرج ثالث من الترك، ففعل فعل صاحبه، ووقف دون الثانى منهما، فحمل عليه الأحنف فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز:

(2/587)


جرى الشموس ناجزا بناجز ... محتفلا فى جريه مشارز
ثم انصرف الأحنف إلى عسكره، ولا يعلم بذلك أحد منهم حتى دخله واستعد.
وكان من شيمة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم كهؤلاء، كلهم يضرب بطلبه ثم يخرجوا بعد خروج الثالث، فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث، فأتوا على فرسانهم مقتلين، فتشاءم خاقان وتطير، وقال: قد طال مقامنا، وقد أصيب هؤلاء بمكان لم يصب بمثله قط أحد منا، فما لنا فى قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا، فكان وجههم راجعين، وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئا، فأتاهم الخبر بانصراف خاقان إلى بلخ، فقال المسلمون للأحنف: ما ترى فى اتباعهم؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم.
وكان يزدجرد لما نزل بمرو الروذ خرج إلى مرو الشاهجان فتحصن منه حارثة بن النعمان ومن معه، فحاصرهم واستخرج خزائنه من مواضعها، وخاقان ببلخ مقيم له، فلما جمع يزدجرد ما كان فى يديه مما وضع بمرو، فأعجل عنه وأراد أن يستقل منها، إذا أمر عظيم من خزائن أهل فارس، فقال له أهل فارس: أى شىء تريد أن تصنع؟ فقال:
أريد اللحاق بخاقان، فأكون معه أو بالصين، فقالوا له: مهلا، فإن هذا رأى سوء، إنك إنما تأتى قوما فى مملكتهم وتدع أرضك وقومك، ولكن ارجع إلى هؤلاء القوم، يعنون المسلمين، فنصالحهم، فإنهم أوفياء وأهل دين، وهم يلون بلادنا، وإن عدوا يلينا فى بلادنا أحب إلينا ملكه من عدو يلينا فى بلاده لا دين لهم ولا ندرى ما وفاؤهم، فأبى عليهم وأبوا عليه، فقالوا: فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها، ولا تخرجها من بلادنا إلى غيرها، فأبى، فقالوا: إنا لا ندعك.
فاعتزلوه وتركوه فى حاشيته، فاقتتلوا، فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها، وكتبوا إلى الأحنف بالخبر، فاعترضهم المسلمون والمشركون يثفنونه، فقاتلوه، وأصابوا فى آخر القوم، وأعجلوه عن الأثقال، ومضى مزايلا حتى يقطع النهر إلى فرغانة والترك، فلم يزل مقيما بقية زمان عمر، رضى الله عنه، يكاتبهم ويكاتبونه، أو من شاء الله منهم، إلى أن كان زمن عثمان، رضى الله عنه، فكفر أهل خراسان، فأقبل حتى نزل مرو، فكان من أمره إلى حين مقتله ما نذكره بعد فى موضعه إن شاء الله.
وأقبل أهل فارس على الأحنف فصالحوه، ودفعوا إليه تلك الخزائن والأموال، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا فى زمان الأكاسرة، فكانوا كأنهم فى ملكهم، إلا أن المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم، فاغتبطوا، وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهم الفارس يوم القادسية.

(2/588)


ولما سمع خاقان وهو والترك ببلخ ما لقى يزدجرد، وأن الأحنف خرج مع المسلمين من مرو الروذ نحوه، ترك بلخ وعبر النهر، وأقبل الأحنف حتى نزل بلخ، ونزل أهل الكوفة فى كورها الأربع، ثم رجع إلى مرو الروذ فنزل بها، وكتب بالفتح الذى صنع الله فى خاقان ويزدجرد إلى عمر، رحمه الله، وبعث إليه بالأخماس، ووفد الوفود.
ولما عبر خاقان النهر، وعبرت معه حاشية آل كسرى، أو من أخذ نحو بلخ منهم مع يزدجرد، لقوا رسول يزدجرد الذى كان بعثه إلى ملك الصين، وأهدى إليه معه، ومعه جواب كتاب يزدجرد من ملك الصين، فسألوه عما وراءه، فقال: لما قدمت عليه بالكتاب والهدايا كافأنا بما ترون، وأراهم هديته، وأجاب يزدجرد بهذا الكتاب بعد أن كان قال لى: قد عرفت أن حقا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم، فصف لى صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإنى أراك تذكر منهم قلة وكثرة منكم، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذى تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلا لخير عندهم وشر فيكم، فقلت: اسألنى عما أحببت، فقال: أيوفون بالعهد؟ قلت: نعم، قال: وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟ قلت: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة.
قال: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قلت: أطوع قوم لمرشدهم، قال: فما يحلون وما يحرمون؟ فأخبرته، فقال: أيحرمون ما حلل لهم، أو يحلون ما حرم عليهم؟ قلت: لا، قال:
فإن هؤلاء القوم لا يهلكون أبدا حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم، ثم قال: أخبرنى عن لباسهم، فأخبرته، وعن مطاياهم، فقلت: الخيل العراب، ووصفتها، فقال: نعمت الحصون هذه، ووصفت له الإبل، بركها وانبعاثها بحملها، فقال: هذه صفة دواب طوال الأعناق.
وكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعنى أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علىّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لى رسولك لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو خلى سربهم أزالونى ما داموا على ما وصف، فسالمهم وأرض منهم بالسلامة، ولا تهيجهم ما لم يهيجوك.
فأقام يزدجرد وآل كسرى بفرغانة على عهد من خاقان، ولما وقع الرسول بالفتح والوفد بالخبر ومعهم الغنائم لعمر بن الخطاب، رضى الله عنه، من قبل الأحنف، جمع الناس وخطبهم، وأمر بكتاب الفتح فقرئ عليهم، وقال فى خطبته: إن الله تبارك وتعالى

(2/589)


ذكر رسوله وما بعثه به من الهدى، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة، فقال عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] ، فالحمد لله الذى أنجز وعده، ونصر جنده، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم، لينظر كيف تعملون، ألا وإن المصرين اليوم من مسالحها كأنتم والمصرين فيما مضى من البعد وقد وغلوا فى البلاد، والله بالغ أمره، ومنجز وعده، ومتبع آخر ذلك وأوله، فقوموا فى أمره على رجل يوف لكم بعهده ويؤتكم وعده، ولا تغيروا فيستبدل الله بكم قوما غيركم، فإنى لا أخاف على هذه الأمة أن يؤتوا إلا من قبلكم.
وسيأتى بعد إن شاء الله ما كان من انتقاض خراسان وغيرها فى خلافة عثمان، رضى الله عنه.
ونذكر الآن بقية فتوح أهل البصرة الذين عقد لهم عمر، رضى الله عنه، عند الإذن لهم فى الانسياح على ما تقدم.