الاكتفاء
بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة
الخلفاء فتح توج
قالوا «1» : وخرج أهل البصرة الذين وجهوا أمراء على فارس، ومعهم سارية بن
زنيم ومن بعث معهم إلى ما وراء ذلك، وأهل فارس مجتمعون بتوج، فلم يصمدوا
بجمعهم، ولكن قصد كل أمير منهم قصد إمارته وكورته التى أمر بها، وبلغ ذلك
أهل فارس، فتفرقوا إلى بلدانهم ليمنعوها كما تفرق المسلمون فى القصد إليها،
فكانت تلك هزيمة أهل فارس، تشتت أمورهم وتفرقت جموعهم، فتطيروا من ذلك
كأنما ينظرون إلى ما صاروا إليه، فقصد مجاشع بن مسعود فيمن معه من المسلمين
لسابور وأردشير خره، فالتقوا بتوج مع أهل فارس، فاقتتلوا ما شاء الله عز
وجل، ثم إن الله عز وجل سلط المسلمين على أهل توج فهزموهم وقتلوهم كل قتلة،
وبلغوا منهم ما شاؤا، وغنمهم ما فى عسكرهم فحووه.
وهذه توج الآخرة، لم يكن لها بعدها شوكة، والأولى التى تنقذ فيها جنود
العلاء بن الحضرمى أيام طاووس، والوقعتان متساجلتان.
ثم دعوا بعد هزيمتهم هذه الآخرة إلى الجزية والذمة، فتراجعوا وأقروا وخمس
مجاشع
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 174، 175) .
(2/590)
الغنائم، وبعث بخمسها، ووفد وفدا، وقد كانت
البشرى والوفود يجازون وتقضى لهم حوائجهم، لسنة جرت بذلك من رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
وحدث عاصم بن كليب، عن أبيه قال: خرجنا مع مجاشع غازين توج، فحاصرناها
وقاتلناهم ما شاء الله، فلما افتتحناها حوينا نهبا كثيرا، وقتلنا قتلى
عظيمة، فكان علىّ قميص قد تخرق، فأخذت إبرة وسلكا، فجعلت أخيط قميصى بها،
ثم إنى نظرت إلى رجل من القتلى عليه قميص فنزعته، فأتيت به الماء، فجعلت
أضربه بين حجرين حتى ذهب ما فيه، فلبسته، فلما جمعت الرثة، قام مجاشع
خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس لا تغلوا، فإنه من غل جاء
بما غل يوم القيامة، ردوا ولو المخيط، فلما سمعت ذلك نزعت القميص فألقيته
فى الأخماس.
وفى ذلك يقول مجاشع «1» :
ونحن ولينا مرة بعد مرة ... بتوج أبناء الملوك الأكابر
لقينا جنود الماهيان بسحرة ... على ساعة تلوى بأيدى الخطائر
فما فتئت خيلى تكر عليهم ... ويلحق منها لاحق غير جائر
لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم ... وقد عولجوا بالمرهفات البواتر
وكان كذاك الدأب فى كل كورة ... أجابت لإحدى المنكرات الكبائر
حديث اصطخر
قالوا «2» : وقصد عثمان بن أبى العاص لاصطخر، فالتقى هو وأهلها بجور
فاقتتلوا ما شاء الله، ثم فتح الله على المسلمين جور واصطخر، فقتلوا ما شاء
الله، وتفرق من تفرق، ثم إن عثمان دعا الناس إلى الجزاء والذمة، فراسلوه
وراسلهم، فأجابه الهربذ وكل من هرب أو تنحى، فتراجعوا وباحوا بالجزاء، وجمع
عثمان حين هزمهم ما أفاء الله عليهم فخمسه وبعث بالخمس إلى عمر، رحمه الله،
وقسم الباقى فى الناس، وعف الجند عن النهاب، وأدوا الأمانة، واستدقوا
الدنيا، فجمعهم عثمان ثم قام فيهم، وقال: إن هذا الأمر لا يزال مقبلا وأهله
معافون مما يكرهون ما لم يغلوا، فإذا غلوا رأوا ما ينكرون ولم يسد الكثير
مسد القليل اليوم.
__________
(1) انظر الأبيات فى: الروض المعطار (ص 143) .
(2) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 175- 177) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير
(3/ 20، 21) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 122، 123) .
(2/591)
وعن الحسن قال: قال عثمان بن أبى العاص يوم
اصطخر: إن الله عز وجل إذا أراد بقوم خيرا كفهم ووفر أمانتهم، فاحفظوها،
فإن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، فإذا فقدتموها جدد لكم فى كل يوم
فقدان شىء من أموركم.
ثم إن شهرك خلع فى آخر إمارة عمر أو أول إمارة عثمان، رحمهما الله، ونشط
فارس ودعاهم إلى النقض، فوجه إليه عثمان بن أبى العاص ثانية، وبعث معه
جنودا أمد بهم عليهم عبيد الله بن معمر، وشبل بن معبد، فالتقوا بفارس، فقال
شهرك لابنه وهو فى المعركة، وبينهم وبين قرية لهم تدعى ريشهر ثلاثة فراسخ،
وكان بينهم وبين قرارهم اثنا عشر فرسخا: يا بنى، أين ترى أن يكون غداؤنا
هنا أو بريشهر؟ فقال: يا أبت، إن تركونا فلا يكون غداؤنا هنا ولا بريشهر،
ولا يكون إلا فى المنزل، ولكن والله ما أراهم يتركوننا. فما فرغا من
كلامهما حتى أنشب المسلمون القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل فيه شهرك
وابنه وقتل من المشركين مقتلة عظيمة، وولى قتل شهرك الحكم بن أبى العاص أخو
عثمان بن أبى العاص.
وذكر الطبرى عن أبى معشر: أن اصطخر الآخرة كانت سنة ثمان وعشرين، وذلك فى
وسط إمارة عثمان بن عفان، رضى الله عنه.
وذكر أيضا بسنده إلى عبيد الله بن سليمان قال: كان عثمان بن أبى العاص أرسل
إلى البحرين، فأرسل أخاه الحكم فى ألفين إلى توج، وكان كسرى قد فر عن
المدائن، ولحق بجور من أرض فارس.
قال الحكم: فقصد إلى شهرك، وكان كسرى أرسله، فهبطوا من عقبة، عليهم الحديد،
فخشيت أن تغشى أبصار الناس، فأمرت مناديا فنادى: أن من كانت له عمامة
فليلقها على عينه، ومن لم يكن له عمامة فليغمض بصره، وناديت: أن حطوا عن
دوابكم. فلما رأى شهرك ذلك حط أيضا، ثم ناديت: أن اركبوا، وصففنا لهم،
وركبوا، فجعلت الجارود العبدى على الميمنة، وأبا صفرة، يعنى أبا المهلب،
على الميسرة، فحملوا على المسلمين فهزموهم حتى ما أسمع لهم صوتا، فقال لى
الجارود: أيها الأمير، الجند! فقلت: إنك سترى أمرك، فما لبثنا أن رجعت
خيلهم، ليس عليهم فرسانهم، والمسلمون يتبعونهم يقتلونهم، فنثرت الرؤس بين
يدى، وأتيت برأس ضخم، وكان معى بعض ملوكهم فارق كسرى ولحق بى، فقال: هذا
رأس الأزدهاق، يعنون شهرك، فحوصروا فى مدينة سابور، فصالحهم الحكم، وكان
ملكهم آذربيجان، فاستعان به الحكم على قتال أهل اصطخر.
(2/592)
وقال يزيد بن الحكم بن أبى العاص يذكر
اصطخر الآخرة:
أنا ابن عظيم القريتين كليهما ... نمتنى إلى العليا الفروع الفوارع
لنا مجد بطحاوى ثقيف وغالب ... إذا عد بطحاواهما والد سائع
لنا الحسب العود الذى لا تناله ... عيون العدى والحاسدات الدواسع
أبى سلب الجبار بيضة ملكه ... فخر وأطراف الرماح شوارع
بمعترك ضنك به قصد القنى ... وهام وأيد تختليها القواطع
بأيدى سراة كلهم باع نفسه ... فأوفوا بما باعوا وأوفى المبايع
هم المؤمنون الواردو الموت فى الوغى ... كما ترد الماء العطاش النوائع
نجاهد فى نصر لخير شريعة ... إذا ذكرت يوم الحساب الشرائع
سمونا لزحف المشركين بوقعة ... بها رد مال الجزية المتتابع
تركنا من القتلى نثارا تعودها ... نسور تراماها الضباع الجوامع
جثى من عظام المشركين كأنها ... تلوح من الرأى البعيد صوامع
تركنا سباع الأرض والطير منهم ... شباعا وما فيها إلى الحول جائع
حديث فسا ودارابجرد «1»
قالوا «2» : وقصد سارية بن زنيم لفسا ودارابجرد حتى أفضى إلى عسكرهم، فنزل
عليهم وحاصرهم ما شاء الله، ثم إنهم استمدوا، فتجمعوا وتجمعت إليهم أكراد
فارس، فدهم المسلمين أمر عظيم وجمع كثير، فرأى عمر، رضى الله عنه، فى تلك
الليلة معركتهم وعددهم فى ساعة من النهار، فنادى من الغد، الصلاة جامعة،
حتى إذا كان فى الساعة التى رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان أريهم
والمسلمين بصحراء، وإن أقاموا فيها أحيط بهم وإن أرزوا إلى جبل من خلفهم لم
يؤتوا إلا من وجه واحد، ثم قام فقال: أيها الناس، إنى رأيت هذين الجمعين،
وأخبر بحالهما، ثم قال: يا سارية، الجبل الجبل، ثم أقبل عليهم، فقال: إن
لله عز وجل جنودا، ولعل بعضها أن يبلغهم، ولما كان تلك الساعة من ذلك اليوم
أجمع سارية والمسلمون على الإسناد إلى الجبل، ففعلوا وقاتلوا القوم من وجه
واحد، فهزمهم الله لهم، وكتبوا بذلك إلى عمر، رحمه الله، وباستيلائهم على
البلد ودعاء أهله وتسكينهم.
__________
(1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 178، 179) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/
130- 132) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (3/ 21، 22) .
(2) انظر: الطبرى (4/ 178، 179) .
(2/593)
وعن رجل من بنى مازن قال: كان عمر، رحمه
الله، قد بعث سارية بن زنيم الدؤلى إلى فسا ودارابجرد فحاصرهم، ثم إنهم
تداعوا فأصحروا له، وكثروه وأتوه من كل جانب، فقال عمر، رضى الله عنه، وهو
يخطب فى يوم جمعة: يا سارية بن زنيم، الجبل الجبل.
وفى غير هذا الحديث: ثم عاد عمر فى خطبته فعجب الناس لندائه سارية على
بعده، فقضى الله سبحانه أن كان سارية وأصحابه فى ذلك الوقت موافقين
للمشركين، وقد ضايقهم المشركون من كل جانب، وإلى جانب المسلمين جبل، إن
لجأوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فسمعوا صوتا يقول: يا سارية بن زنيم،
الجبل الجبل، كما قال عمر، رضى الله عنه، وفى ذلك الوقت بعينه، فلجأوا إلى
الجبل، فنجوا وهزموا عدوهم وأصابوا مغانم كثيرة.
قال المازنى فى حديثه: إن سارية أصاب فى المغانم سفطا فيه جوهر، فاستوهبه
المسلمون لعمر، فوهبوه له، فبعث به وبالفتح رجلا، وقال له: استقرض ما تبلغ
به وما تخلفه فى أهلك على جائزتك، وكان الرسل والوفد يجازون، فقدم الرجل
البصرة ففعل، ثم خرج فقدم على عمر، رحمه الله، فوجده يطعم الناس، ومعه عصاه
التى يزجر بها بعيره، فقصده، فأقبل عليه بها، فقال: اجلس، فجلس حتى إذا أكل
انصرف عمر، وقام الرجل فاتبعه، فظن عمر أنه رجل لم يشبع، فقال حين انتهى
إلى باب داره: ادخل، فلما جلس فى البيت أتى بغذائه، خبز وزيت وملح وجريش،
فوضع له، ثم قال للرجل: ادن فكل، فأكلا.
حتى إذا فرغ قال له الرجل: رسول سارية بن زنيم يا أمير المؤمنين، فقال:
مرحبا وأهلا، ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته، ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله
عن سارية، فأخبره، ثم أخبره بقصة الدرج، فنظر إليه ثم صاح به وقال: لا ولا
كرامة حتى تقدم على ذلك الجيش فتقسمه بينهم، وطرده، فقال: يا أمير
المؤمنين، إنى قد أنضبت إبلى واستقرضت على جائزتى، فأعطنى ما أتبلغ به، فما
زال عنه حتى أبدله بعيرا ببعيره من إبل الصدقة، وأخذ بعيره فأدخله فى إبل
الصدقة، ورجع الرجل مغضوبا عليه محروما حتى قدم البصرة، فنفذ لما أمره به
عمر، رحمه الله، وقد كان أهل المدينة سألوه عن سارية وعن الفتح، وهل سمعوا
شيئا يوم الوقعة؟ فقال: نعم سمعنا: يا سارية، الجبل الجبل. وقد كدنا نهلك،
فلجأنا إليه ففتح الله علينا.
(2/594)
حديث فتح كرمان
قالوا «1» : وقصد سهيل بن عدى إلى كرمان، ولحقه عبد الله بن عبد الله بن
عتبان، وعلى مقدمته سهيل بن عدى النسير بن عمرو العجلى، وقد حشد له أهل
كرمان، واستعانوا بالقفس، فاقتتلوا فى أدنى أرضهم، ففضهم الله تعالى،
فأخذوا عليهم بالطريق، وقتل النسير مرزبانها، ودخل سهيل من قبل طريق القرى
إلى جيرفت، وعبد الله بن عبد الله من مفازة شير، فأصابوا ما شاؤا من بعير
أو شاة، فقدموا الإبل والغنم فتحاصوها وأخروا البخت لعظم البخت على العرب،
وكرهوا أن يزيدوا. وكتبوا إلى عمر، فأجابهم: إن البعير العربى إنما قوم
ببعير اللحم، وذلك مثله، فإذا رأيتم أن للبخت فضلا فزيدوا.
وذكر المدائنى أن الذى فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعى فى
خلافة عمر بن الخطاب، ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر، رضى الله
عنه، فقال:
يا أمير المؤمنين، إنى افتتحت الطبسين فاقطعنيهما، فأراد أن يفعل، فقيل
لعمر: إنهما رستاقان عظيمان، فلم يقطعه إياهما، وهما بابا خراسان.
فتح سجستان
قالوا «2» : وقصد عاصم بن عمرو لسجستان، ولحقه عبد الله بن عمير، فالتقوا
هم وأهل سجستان فى أدنى أرضهم، فهزموهم ثم اتبعوهم، حتى حصروهم بزرنج ومخر
المسلمون أرض سجستان ما شاء الله، ثم إنهم طلبوا الصلح على زرنج وما
احتازوا من الأرضين، فأعطاهم ذلك المسلمون، وكان فيما اشترطوا من صلحهم أن
فدافدها حمى، فكان المسلمون إذا خرجوا تناذروها خشية أن يصيبوا منها
فيخفروا. فتم أهل سجستان على الخراج، فكانت سجستان أعظم من خراسان شأنا،
وأبعد فروجا، يقاتلون القندهار والترك وأمما كثيرة، وكانت فيما بين السند
إلى نهر بلخ.
فلم تزل أعظم البلدين وأصعب الفرجين، وأكثرها عددا وجندا حتى كان زمن
معاوية، فهرب الشاه من أخيه، رتبيل، إلى بلد فيها يدعى آمل، ودانوا لسلم بن
زياد وهو يومئذ على سجستان، ففرح بذلك وعقد لهم، وأنزلهم تلك البلاد، وكتب
إلى
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 180) .
(2) انظر الخبر فى: (4/ 180، 181) ، الروض المعطار (ص 305) .
(2/595)
معاوية بذلك يرى أنه قد فتح عليه، فقال
معاوية: إن ابن أخى ليفرح بأمر إنه ليحزننى وينبغى له أن يحزنه، قالوا: ولم
يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق، وهؤلاء
قوم غدر نكر، فيضطرب الجبل غدا، فأهون ما يجىء منهم أن يغلبوا على بلاد آمل
بأسرها.
وتم لهم على عهد ابن زياد، فلما وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه، وخلت
آمل، وخافه أخوه فاعتصم منه بمكانه الذى هو به، ولم يرضه ذلك حين تشاغل
الناس عنه حتى طمع فى زرنج فغزاها، فحصرهم حتى أتتهم الأمداد من البصرة.
قالوا: وسار رتبيل والذين جاؤا معه فنزلوا تلك البلاد شجا لم ينتزع إلى
اليوم، وقد كانت البلاد مذللة إلى أن مات معاوية، رحمه الله.
فتح مكران
قالوا «1» : وقصد الحكم بن عمرو التغلبى لمكران، حتى انتهى إليها، ولحق به
شهاب بن مخارق بن شهاب، فانضم إليه، وأمده سهيل بن عدى، وعبد الله بن عتبان
بأنفسهما، فانتهوا إلى دوين النهر، وقد انفض أهل كرمان إليه حتى نزلوا على
شاطئه، فعسكروا، وعبر إليهم راسل ملكهم، ملك السند، فازدلف بهم يستقبل
المسلمين، فالتقوا فاقتتلوا بمكان من مكران من النهر على أيام، فهزم الله
راسلا وسلبه، وأباح المسلمين عسكره، وقتلوا فى المعركة من المشركين مقتلة
عظيمة، واتبعوهم يقتلونهم أياما، حتى انتهوا إلى النهر.
ثم رجعوا فأقاموا بمكران، وكتب الحكم إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس مع
صحار العبدى، واستأمره فى الفيلة، فقدم صحار على عمر، رحمه الله، فسأله عن
مكران، وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذى يجىء منه، فقال: يا أمير
المؤمنين، أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وتمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها
قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر
منها، فقال عمر، رحمه الله:
أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال: بل مخبر، فقال: لا والله، لا يغزوها لى جيش ما
أطعت، وكتب إلى الحكم وإلى سهيل: أن لا يجوزن مكران أحد من جنودكما، واقتصر
على ما دون النهر، وأمره ببيع الفيلة بأرض الإسلام وقسم أثمانها على من
أفاءها الله عليه.
__________
(1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 181، 182) ، الروض المعطار (ص 543، 544) .
(2/596)
حديث بيروذ
قالوا «1» : ولما فصلت الجنود إلى الكور اجتمع ببيروذ جمع عظيم من الأكراد
وغيرهم، وكان عمر، رحمه الله، قد عهد إلى أبى موسى حين سارت الجنود إلى
الكور أن يسير حتى ينتهى إلى حد ذمة البصرة، كى لا يؤتى المسلمون من خلفهم،
وخشى أن يستلحم بعض جنوده أو ينقطع منهم طرف أو يخلف فى أعقابهم، فكان الذى
حذر من اجتماع أهل بيروذ وقد أبطأ أبو موسى حتى تجمعوا، فخرج أبو موسى حتى
ينزل ببيروذ على الجمع الذى تجمع بها، وذلك فى رمضان، فنزل على جمع لهم
منعة، فالتقوا بين نهرى تيرى ومناذر، وقد توافى إليها أهل النجدات من أهل
فارس والأكراد ليكيدوا المسلمين، أو ليصيبوا منهم عورة، ولم يشكوا فى واحدة
من اثنتين.
فقام المهاجر بن زياد وقد تحنط واستقل فقال لأبى موسى: أقسم على كل صائم
إلا رجع فأفطر، فرجع أخوه فيمن رجع لإبرار القسم، وذلك الذى أراد المهاجر
أن يرجع أخوه لئلا يمنعه من الاستقتال، وتقدم فقاتل حتى قتل، رحمه الله،
وفرق الله عز وجل المشركين حتى تحصنوا فى قلة وذلة، وأقبل الربيع بن زياد،
أخو المهاجر، فاشتد حزنه عليه، ورق له أبو موسى للذى رآه دخله من مصاب
أخيه، فخلفه عليهم، وخرج أبو موسى حتى بلغ أصبهان، فلقى بها جنود أهل
الكوفة محاصرين جىّ، ثم انصرف إلى البصرة وقد فتح الله على الربيع بن زياد
أهل بيروذ من نهرتيرى، فهزمهم وجمع السبى والأموال، فتنقى أبو موسى ستين
غلاما من أبناء الدهاقين وعزلهم، وبعث بالفتح إلى عمر، رحمه الله، ووفد
وفدا، فجاءه رجل من عنزة يقال له: ضبة بن محصن، فقال:
اكتبنى فى الوفد، فقال: قد كتبنا من هو أحق منك، فانطلق مغاضبا مراغما،
وكتب أبو موسى إلى عمر بقصة الرجل.
فلما قدم الكتاب بالفتح والوفد على عمر قدم العنزى فأتى عمر فسلم عليه،
فقال:
من أنت؟ فأخبره، فقال: لا مرحبا ولا أهلا، فقال: أما المرحب فمن الله، وأما
الأهل فلا أهل، فاختلف إليه ثلاثا، يقول هذا ويرد عليه هذا، حتى إذا كان
اليوم الرابع فدخل عليه، فقال له: ما نقمت على أميرك؟ فقال: تنقى ستين
غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه، وله جارية تدعى عقيلة، تغذى جفنة وتعشى
جفنة، وليس منا رجل يقدر على ذلك، وله قفيزان، وله خانان، وفوض إلى زياد،
وكان زياد هو ابن أبى سفيان، يلى أمور البصرة، وأجاز الحطيئة بألف.
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 183- 185) .
(2/597)
فكتب عمر، رحمه الله، كل ما قال، وبعث إلى
أبى موسى، فلما قدم حجبه أياما، ثم دعا به، ودعا ضبة بن محصن، ودفع إليه
الكتاب، فقال: اقرأ ما كتبت، فقرأ: أخذ ستين غلاما لنفسه، فقال أبو موسى:
دللت عليهم، وكان لهم فداء ففديتهم، فأخذته فقسمته بين المسلمين، فقال ضبة:
والله ما كذب ولا كذبت، وقرأ: له قفيزان، فقال أبو موسى:
قفيز لأهلى أقوتهم به، وقفيز فى أيديهم للمسلمين، يأخذون به أرزاقهم، فقال
ضبة:
والله ما كذب ولا كذبت، فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر، وعلم أن
ضبة قد صدقه.
قال: وزياد يلى أمور الناس ولا يعرف هذا ما يلى، قال أبو موسى: وجدت له
نبلا ورأيا، فأسندت إليه عملى. قال: وأجاز الحطيئة بألف. قال: سددت فمه
بمالى أن يشتمنى، فقال: قد فعلت ما فعلت، فرده عمر، رحمه الله، وقال: إذا
قدمت فأرسل إلىّ زيادا وعقيلة، ففعل، فقدمت عقيلة قبل زياد، وقدم زياد
فأقام بالباب، فخرج عمر وزياد بالباب قائم وعليه ثياب بيض كتان، فقال: ما
هذه الثياب؟ فأخبره، فقال: كم أثمانها؟
فأخبره بشىء يسير، وصدقه، فقال له: كم عطاؤك؟ قال: ألفان، قال: ما صنعت
بأول عطاء خرج لك؟ فقال: اشتريت به والدتى فأعتقتها، واشتريت فى الثانى
ربيبى عبيدا فأعتقته، فقال: وفقت، وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن، فوجده
فقيها، فرده، وأمر أمراء البصرة أن يستعينوا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة.
وقال عمر، رضى الله عنه: ألا إن ضبة بن محصن غضب على أبى موسى فى الحق أن
أصابه، وفارقه مراغما أن فاته أمر من أمور الدنيا، فصدق عليه وكذب، فأفسد
كذبه صدقه، فإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى النار.
وكان الحطيئة قد لقيه فى غزاة بيروذ، وكان أبو موسى ابتدأها فحاصرهم حتى
فلهم ثم جازاهم ووكل بهم الربيع، ثم رجع إليهم بعد الفتح فولى القسم.
ومن مدح الحطيئة فى أبى موسى:
وغارة كشعاع الشمس مشعلة ... تهوى بكل صبيح الوجه بسام
قب البطون من التعداء قد علمت ... أن كل عام عليها عام الجام
مستحقبات رواياها جحافلها ... يسمو بها أشعرى طرفه سامى
لا يزجر الطير إن مرت به سنحا ... ولا ياض له قسم بأزلام
جمعت من عامر فيها ومن أسد ... ومن تميم وذبيان ومن حام
(2/598)
وما رضيت لهم حتى رفدتهم ... من وائل رهط
بسطام بإصرام
فى متلف طائعا لله محتسبا ... يرجو ثواب كريم العفو رحام
غزوة سلمة بن قيس الأشجعى الأكراد
ذكر الطبرى «1» من طريقين، كلاهما ينمى إلى سليمان بن بريدة، واللفظ فى
الحديثين متقارب، وربما كان فى أحدهما زيادة على الآخر، وأحدهما عن سيف بن
عمر، وفيه: أن سليمان بن بريدة قال: لقيت رسول سلمة بن قيس الأشجعى، فقال:
كان عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، إذا اجتمع له جيش من العرب، بعث عليهم
رجلا من أهل العلم والفقه، فاجتمع إليه جيش، فبعث سلمة بن قيس، فقال: سر
باسم الله، قاتل فى سبيل الله من كفر بالله، فإذا لقيتم عدوكم من المشركين
فادعوهم إلى ثلاث خصال: ادعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا واختاروا دارهم
فعليهم فى أموالهم الزكاة، وليس لهم فى فىء المسلمين نصيب، وإن اختاروا أن
يكونوا معكم فلهم مثل الذى لكم وعليهم مثل الذى عليكم، وإن أبوا فسلوهم
الخراج، فإن أعطوكموه فقاتلوا عدوكم من ورائهم، وفرغوهم لخراجهم، ولا
تكلفوهم فوق طاقتهم، فإن أبوا فقاتلوهم، فإن الله ناصركم عليهم، وإن تحصنوا
منكم فى حصن فسألوكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله فلا تعطوهم على حكم
الله ورسوله، فإنكم لا تدرون ما حكم الله ورسوله فيهم، وإن سألوكم أن
ينزلوا على ذمة الله ورسوله فلا تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله، وأعطوهم ذمم
أنفسكم، فإن قاتلوكم فلا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا.
قال: فلقينا عدونا من المشركين من الأكراد، فدعوناهم إلى ما أمر به أمير
المؤمنين من الإسلام، فأبوا، فدعوناهم إلى الخراج فأبوا، فقاتلناهم، فنصرنا
عليهم، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية وجمعنا الرثة، فوجد فيها سلمة حقى
جوهر، فجعلهما فى سقط، ثم قال:
إن هذا لا يبلغ فيكم شيئا، فإن طابت أنفسكم به لأمير المؤمنين بعثت به
إليه، فإن له بردا ومؤونة، فقالوا: نعم، قد طابت أنفسنا، فبعثنى سلمة، يعنى
بالخبر والسفط، إلى أمير المؤمنين.
قال: فدفعت إليه ضحى والناس يتغدون وهو متكئ على عصا كهيئة الراعى فى غنمه
يطوف فى تلك القصاع يقول: يا يرفاء، زد هؤلاء لحما، زد هؤلاء خبزا، زد
هؤلاء
__________
(1) انظر الخبر فى: الطبرى (4/ 186- 190) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/
132، 133) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (3/ 25) .
(2/599)
مرقة، فلما دفعت إليه قال: اجلس، فجلست فى
أدانى الناس، فإذا طعام فيه خشونة وغلظ، طعامى الذى معى أطيب منه، فلما فرغ
الناس قال: يا يرفاء، ارتفع قصاعك، ثم أدبر واتبعته، فدخل داره ثم دخل
حجرته، فاستأذنت وسلمت، فأذن لى، فإذا هو جالس على مسح متكئ على وسادتين من
أدم محشوتين ليفا، فنبذ إلىّ إحداهما، فجلست عليها، فقال: يا أم كلثوم،
غداءنا، فجاؤا إليه بقصعة فيها خبز وزيت فى عرضها ملح لم يدق، فقال لى: كل،
فأكلت قليلا، وأكل حتى فرغ، ما رأيت رجلا أحسن أكلا منه، ما يتليس طعامه
بيده ولا فمه، ثم قال: اسقونا، فجاؤا بغس، فقال: اشرب، فشربت قليلا، شرابى
الذى معى أطيب منه، فأخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته، وقال: إنك لضعيف
الأكل والشرب، ثم قال: الحمد لله الذى أطعمنا فأشبعنا، وسقانا فأروانا.
قال: قلت: قد أكل أمير المؤمنين فشبع، وشرب فروى، حاجتى يا أمير المؤمنين،
قال:
وما حاجتك؟ قلت: أنا رسول سلمة بن قيس، فقال: مرحبا بسلمة وبرسوله، وكأنما
خرجت من صلبه، قال: حدثنى عن المهاجرين، كيف هم؟ قلت: كما تحب من السلامة
والظفر على العدو، قال: كيف أسعارهم؟ قلت: أرخص أسعار، قال: كيف اللحم
فيهم؟ فإنه شجرة العرب ولا تصلح العرب إلا بشجرتها، قلت: البقرة بكذا،
والشاة بكذا، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، سرنا حتى لقينا عدونا من المشركين،
فدعوناهم إلى ما أمرتنا به من الإسلام فأبوا، فدعوناهم إلى الخراج فأبوا،
فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية، وجمعنا
الرثة، وخرج له عن الحديث كله حتى انتهى إلى السقط وأخرجه إليه.
قال: فلما نظر إلى تلك الفصوص من بين أحمر وأصفر وأخضر، وثب وجعل يديه فى
خاصرتيه، وقال: لا أشبع الله إذا بطن عمر! وظن النساء أنى قد اغتلته، فكشفن
الستر، فقال: يا يرفاء، جأ عنقه، فوجأ عنقى وأنا أصيح، فقال: النجاء، وأظنك
ستبطئ، أما والذى لا إله غيره لئن تفرق الناس إلى مشاتيهم قبل أن يقسم هذا
فيهم لأفعلن بك وبصاحبك فاقرة، قلت: يا أمير المؤمنين، ابدع بى فاحملنى،
قال: يا برفاء، اعطه راحلتين من الصدقة، فإذا لقيت أفقر إليهما منك
فادفعهما إليه، قلت: نعم، وارتحلت حتى أتيت سلمة، فقلت: ما بارك الله لى
فيما اختصصتنى به، اقسم هذا فى الناس قبل أن أفضح والله وتفضح. قال: فقسمه
فيهم قبل التفرق إلى مشاتيهم، والفص يباع بخمسة دراهم وستة دراهم، وهو خير
من عشرين ألفا.
(2/600)
وقد تقدم قبل فى فتح فسا ودرابجرد خبر لرسول سارية بن زنيم شبيه بهذا
الخبر، فالله تعالى أعلم.
وذكر الطبرى غزوة سلمة بن قيس هذه فى سنة ثلاث وعشرين، وهى السنة التى قتل
عمر، رضى الله عنه، فى آخرها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. |