الاكتفاء
بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة
الخلفاء ذكر الخبر عن إحرام عمر بن الخطاب، رضى
الله عنه إلى حين مقتله
لم يزل عمر، رضى الله عنه، قائما على أمر الله، مجتهدا فيه، مجاهدا لأعدائه
متعرفا منه سبحانه، من المعونة والتأييد وجميل الكفاية والعناية والصنع ما
وطأ له البلاد ودوخ الممالك، وألقى إليه مقاليد الأمم من الفرس والروم
والترك والأكراد وغيرهم من الأمم والأجيال الذين تقدم ذكرهم، وأنجز الله فى
مدة خلافته معظم ما وعد به رسوله صلى الله عليه وسلم من الفتوح، وجمع إليه
أكثر ما زواه له من الأرض، وتغلغلت جنوده فى الآفاق عند ما أذن لها فى
الانسياح، حتى أمرهم آخر إمارته بالإقصار، والكف احتياطا على المسلمين
ونظرا للإسلام، وأقبل عند ما أذن لهم فى ذلك على الدعاء، وتتبع آثار العمال
بالعيون والنصحاء فى السر والعلانية، وتفقد الناس فى الشرق والغرب، إلى أن
أتته منيته المحتومة، بالشهادة المقدرة له فى مصلاه، على ما يأتى الذكر له
إن شاء الله تعالى.
وقد ورد فى غير موضع من الآثار ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستشهاده
مخبرا وداعيا، وهو الداعى المجاب، والصادق المصدوق، صلوات الله وبركاته
عليه.
وروى عن عوف بن مالك الأشجعى أنه رأى فى المنام على عهد أبى بكر، رحمه الله
تعالى، كأن الناس جمعوا، فإذا فيهم رجل قد علاهم، فهو فوقهم بثلاثة أذرع،
قال:
فقلت: من هذا؟ قالوا: عمر، قلت: ولم؟ قالوا: لأن فيه ثلاث خصال: لا يخاف فى
الله لومة لائم، وإنه خليفة مستخلف، وشهيد مستشهد، قال: فأتى أبا بكر فقصها
عليه، فأرسل أبو بكر إلى عمر ليبشره، قال: فجاء، فقال لى أبو بكر: اقصص
رؤياك، فلما بلغت: خليفة مستخلف، زبرنى عمر وانتهرنى، وقال: اسكت، تقول هذا
وأبو بكر حى.
قال: فلما كان بعد وولى عمر، مررت بالشام وهو على المنبر، فدعانى فقال:
اقصص
(2/601)
رؤياك، فقصصتها، فلما قلت: إنه لا يخاف فى
الله لومة لائم، قال: إنى لأرجو أن يجعلنى الله منهم، فلما قلت: خليفة
مستخلف، قال: قد استخلفنى، فأسأله أن يعيننى على ما ولانى، فلما ذكرت: شهيد
مستشهد، قال: أنّى لى الشهادة وأنا بين أظهركم تغزون ولا أغزو؟ ثم قال:
بلى، يأتى الله بها أنّى شاء، يأتى الله بها أنّى شاء.
وكان عمر، رحمه الله، ملازما للحج فى سنى خلافته كلها، وكان من سيرته أن
يأخذ عماله بموافاته كل سنة فى موسم الحج ليحجزهم بذلك عن الرعية، ويحجر
عليهم الظلم، ويتعرف أحوالهم فى قرب، وليكون للرعية وقت معلوم ينهون إليه
شكاويهم فيه. فلما كانت السنة التى قتل منسلخها، رضى الله عنه، خرج إلى
الحج على عادته، وأذن لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم فخرجن معه، فلما وقف
عمر، رحمه الله، يرمى الجمرة أتاه حجر فوقع على صلعته فأدماه، وثم رجل من
بنى لهب، قبيلة من الأزد، تعرف فيها العيافة والزجر، وإياها عنى القائل:
تيممت لهبا أبتغى العلم عندهم ... وقد رد علم العالمين إلى لهب
فقال اللهبى عند ما أدمى عمر، رحمه الله: أشعر أمير المؤمنين لا يحج بعدها.
ويروى عن عائشة، رضى الله عنها، وحجت مع عمر تلك الحجة: أنه لما ارتحل من
الحصبة أقبل رجل متلثم، قالت: فقال وأنا أسمع: أين كان منزل أمير المؤمنين؟
فقال قائل: هذا كان منزله، فأناخ فى منزل عمر، ثم رفع عقيرته يتغنى:
عليك السلام من أمير وباركت ... يد الله فى ذلك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحى نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق فى أكمامها لم تفتق
قالت عائشة: فقلت لبعض أهلى: اعلموا لى من هذا الرجل، فذهبوا، فلم يجدوا فى
مناخه أحدا، قالت عائشة: فو الله إنى لأحسبه من الجن، فلما قتل عمر نحل
الناس هذه الأبيات للشماخ بن ضرار أو لأخيه مزرد.
وقال سعيد بن المسيب: لما صدر عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، من منى أناخ
بالأبطح، ثم كوم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يديه إلى
السماء، فقال: اللهم كبرت سنى، وضعفت قوتى، وانتشرت رعيتى، فاقبضنى إليك
غير مضيع ولا مفرط، ثم قدم المدينة، فخطب الناس فقال: أيها الناس، قد سنت
لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، إلا أن تضلوا بالناس
يمينا وشمالا، وضرب بإحدى يديه على الأخرى.
(2/602)
قال سعيد: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل،
رحمه الله.
وروى عن عمر، رحمه الله، أنه لما انصرف من حجته هذه التى لم يحج بعدها
وانتهى إلى ضجنان، وقف فقال: الحمد لله ولا إله إلا الله، يعطى من يشاء ما
يشاء، لقد كنت بهذا الوادى أرعى إبلا للخطاب، وكان فظا غليظا يتعبنى إذا
عملت، ويضربنى إذا قصرت، وقد أصبحت وأمسيت وليس بينى وبين الله أحد أخشاه،
ثم تمثل:
لا شىء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجرى الرياح له ... والإنس والجن فيما بينها برد
أين الملوك التى كانت نوافلها ... من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا
ثم إن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، بعد أن قدم المدينة من حجه خرج يوما
يطوف بالسوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان نصرانيا، فقال:
يا أمير المؤمنين، أعدنى على المغيرة، فإن علىّ خراجا كثيرا، قال: وكم
خراجك؟ قال: درهمان فى كل يوم، قال: وإيش صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد،
قال: فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال، قال: وبلغنى أنك تقول:
لو أردت أن أعمل رحا تطحن بالريح لفعلت، قال: نعم، قال: فاعمل لى رحا، قال:
لئن سلمت لأعملن لك رحا يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف عنه، فقال
عمر: لقد توعدنى العلج آنفا، ثم انصرف عمر إلى منزله.
فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار، فقال: يا أمير المؤمنين، اعهد، فإنك
ميت فى ثلاثة أيام، قال: وما يدريك؟ قال: أجده فى كتاب الله، التوراة، فقال
عمر: آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب فى التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكن أجد
صفتك وحليتك، بأنه قد فنى أجلك، وعمر لا يحس وجعا ولا ألما، فلما كان من
الغد جاءه كعب فقال: يا أمير المؤمنين، ذهب يوم وبقى يومان، ثم جاء من بعد
الغد فقال: ذهب يومان وبقى يوم وليلة، وهى لك إلى صبحها، فلما كان الصبح
خرج عمر إلى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالا، فإذا استوت أخبروه فكبر،
ودخل أبو لؤلؤة فى الناس فى يده خنجر له رأسان نصابه فى وسطه، فضرب به عمر
ست ضربات، إحداهن تحت سرته، هى التى قتلته، فلما وجد عمر حر السلاح سقط،
وقال: دونكم الكلب فإنه قتلنى، وماج الناس وأسرعوا إليه، فجرح منهم ثلاثة
عشر رجلا، حتى جاء رجل منهم فاحتضنه من خلفه،
(2/603)
وقيل: ألقى عليه برنسا، فقيل: إنه لما أخذ
قتل نفسه. وقال عمر، رضى الله عنه، عندما سقط: أفى الناس عبد الرحمن بن
عوف؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، هو ذا، قال: تقدم فصل بالناس. قال: فصلى
عبد الرحمن بن عوف، وحمل عمر إلى منزله، فدعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: إنى
أريد أن أعهد إليك، قال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، أتشير علىّ بذلك؟
قال: اللهم لا، قال: والله لا أدخل فيه أبدا، قال: فهبنى صمتا حتى أعهد إلى
النفر الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ادع لى عليا
وعثمان والزبير وسعدا، قال: وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثا، فإن جاء وإلا
فاقضوا أمركم، أنشدك الله يا على إن وليت من أمر الناس شيئا أن تحمل بنى
هاشم على رقاب الناس، وأنشدك يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل
بنى أبى معيط على رقاب الناس، وأنشدك يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئا أن
تحمل أقاربك على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا، ثم اقضوا أمركم، وليصل بالناس
صهيب، وأمرهم أن يحضر معهم عبد الله بن عمر على أن لا يكون له فى الأمر
شىء.
ثم دعا أبا طلحة الأنصارى، فقال: قم على بابهم لا تدع أحدا يدخل إليهم،
وأوصى الخليفة من بعدى بالأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان، أن يحسن إلى
محسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، وأوصى الخليفة من بعدى بالعرب، فإنها مادة
الإسلام، أن تؤخذ صدقات أغنيائهم فتوضع فى فقرائهم، وأوصى الخليفة من بعدى
بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، اللهم هل بلغت،
تركت الخليفة من بعدى على أنقى من الراحة، يا عبد الله بن عمر، اخرج فانظر
من قتلنى، فقال: يا أمير المؤمنين، قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة،
قال: الحمد لله الذى لم يجعل منيتى بيد رجل سجد لله سجدة واحدة، يحاجنى بلا
إله إلا الله، يا عبد الله، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، وإن كانوا ثلاثة
وثلاثة فاتبع الحرب الذى فيه عبد الرحمن بن عوف، يا عبد الله، ائذن للناس،
فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه، ويقول لهم: أعن ملأ منكم
كان هذا؟
فيقولون: معاذ الله، ودخل فى الناس كعب، فلما نظر إليه عمر أنشأ يقول:
وأوعدنى كعب ثلاثا أعدها ... ولا شك أن القول ما قاله كعب
وما بى حذار الموت إنى لميت ... ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب
فقيل له: لو دعوت الطبيب، فدعى له طبيب من بنى الحارث بن كعب، فسقاه نبيذا
فخرج مشكلا، فقال: اسقوه لبنا، فخرج اللبن أبيض، فقال له الطبيب: لا أرى أن
تمسى، فما كنت فاعلا فافعل. وفى رواية أنه قيل له عند ذلك: يا أمير
المؤمنين، اعهد،
(2/604)
قال: قد فرغت، وقال لعبد الله ابنه: يا عبد
الله، اذهب إلى عائشة، فاسألها أن تأذن لى أن أدفع مع النبى صلى الله عليه
وسلم وأبى بكر. وفى رواية أنه قال له: اذهب إلى عائشة فقل لها: إن عمر
يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، ولا تقل أمير المؤمنين، فإنى لست اليوم بأمير
المؤمنين، فذهب إليها عبد الله فوجدها تبكى، فذكر لها ذلك، فقالت: نعم، قد
كنت أردته لنفسى ولأوثرنه اليوم على نفسى، فرجع إليه عبد الله وهو متطلع
إليه، فقال: ما قالت لك؟ قال: أذنت، قال: الحمد لله، ما كان علىّ أمر أهم
من هذا، فإذا أنا مت فاغسلنى، ثم احملنى، وأعد عليها الاستئذان، فإذا أذنت
وإلا فاصرفنى إلى مقابر المسلمين.
فلما توفى، رحمه الله ورضى عنه، خرجوا به، فصلى عليه صهيب، ودفن فى بيت
عائشة، رضى الله عنه وعنها.
ويروى أنه لما احتضر قال ورأسه فى حجر ابنه عبد الله، رضى الله عنهما:
ظلوم لنفسى غير أنى مسلم ... أصلى الصلاة كلها وأصوم
وكان مقتله لأربع بقين من ذى الحجة من سنة ثلاث وعشرين، وقيل: لثلاث بقين
منه، وقيل: إن وفاته كانت غرة المحرم من سنة أربع وعشرين.
ونزل فى قبره عثمان وعلى وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبى وقاص،
وقيل: صهيب وابنه عبد الله بن عمر عوضا من الزبير وسعد.
واختلف فى مبلغ سنه يوم توفى، وأشهر ما فى ذلك أنه توفى ابن ثلاث وستين
سنة، وأنه استوفى عدة خلافته سن رسول الله صلى الله عليه وسلم التى توفى
لها، وسن أبى بكر الصديق، رضى الله عنهما.
ويروى عن عامر الشعبى أنه لما طعن عمر، رضى الله عنه، دخل عليه عبد الله بن
عباس، فقال: يا أمير المؤمنين، أبشر بالجنة، فقال: ما تقول؟ قال: اللهم
نعم، أسلمت حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
خذله الناس، ومات نبى الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، ولم يختلف فى
خلافتك رجلان، ثم قتلت شهيدا، فقال عمر: والله إن من تغرونه لمغرور، والله
لو أن لى ما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع.
وعن ابن عباس أيضا قال: لما وضع عمر فى أكفانه، اكتنفه الناس يصلون عليه
(2/605)
ويدعون، فإذا أنا برجل قد زحمنى من خلفى،
فنظرت، فإذا على بن أبى طالب، رضى الله عنه، فقام فدعا له وترحم عليه، ثم
قال: والله ما أصبح أحد أحب إلىّ من أن ألقى الله بمثل صحيفته منك، وإنى
لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأنى كثيرا ما سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: «خرجت أنا وأبو بكر وعمر» ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر،
وفعلت أنا وأبو بكر وعمر» «1» ، فإنى أرجوا أن يجعلك الله مع صاحبيك.
وذكر عبد الله بن مسعود يوما عمر، رضى الله عنه، فهملت عيناه وهو قائم حتى
بل الحصى، ثم قال: إن عمر كان حائطا كثيفا يدخله المسلمون ولا يخرجون منه،
فلما مات عمر انثلم الحائط فهم يخرجون ولا يدخلون، وما من أهل بيت من
المسلمين لم تدخل عليهم مصيبة من موت عمر إلا أهل بيت سوء، فإذا ذكر
الصالحون فحىّ هلا بعمر.
وروى أنس، عن أبى طلحة أنه قال: والله ما أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل
عليهم لموت عمر، رضى الله عنه، نقص فى دينهم وفى دنياهم.
وعن أبى وائل قال: خرج حذيفة إلى المدائن وهم يذكرون الدجال، فأخبرنا مسروق
أنه سأله عن ذلك، فقال: نجب تجىء من هاهنا تنعى عمر.
وعن حذيفة أيضا قال: كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربا، فلما
قتل عمر، رضى الله عنه، كان كالرجل المدبر، لا يزداد إلا بعدا.
وقالت عاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نفيل، امرأة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه،
ترثيه:
وفجعنى فيروز لا در دره ... بأبيض تال للكتاب منيب
رؤف على الأدنى غليظ على العدا ... أخى ثقة فى النائبات نجيب
متى ما يقل لا يكذب القول فعله ... سريع إلى الخيرات غير قطوب
ومما ينسب إلى الشماخ بن ضرار، وإلى أخيه مزرد بن ضرار أنه قال فى عرم بن
الخطاب، ويروى عن عائشة أن الجن بكت به على عمر، رحمه الله، قبل أن يقتل
بثلاث، وقد تقدم ذكر بعض هذا الشعر:
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاة بأسوق
جزى الله خيرا من إمام وباركت ... يد الله فى ذاك الأديم الممزق
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 14) .
(2/606)
وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفى سبنتى
أزرق العين مطرق
وقبل هذا البيت بيتان قد تقدما قبل، فلذلك حذفناهما الآن هنا اختصارا.
(2/607)
ذكر خلافة ذى النورين أبى عمرو عثمان بن
عفان أمير المؤمنين، رضى الله عنه ومبايعة أهل الشورى له بعد وفاة عمر، رضى
الله عنه
ولما مضى عمر، رحمه الله، لسبيله، تفاوض أهل الشورى فيما بينهم ثلاثا بعد
وفاته، وانصرف أمر جميعهم إلى عبد الرحمن بن عوف، رضى الله عنه، فباثع
لعثمان، رحمه الله، فبايعه بقية أهل الشورى، وكافة الصحابة، رضى الله عن
جميعهم، وذلك يوم السبت غرة المحرم من سنة أربع وعشرين.
وذكر سيف «1» بإسناد له، أنه لما بايع أهل الشورى عثمان، رحمه الله، خرج
وهو أشدهم كآبة، فأتى منبر النبى صلى الله عليه وسلم فخطب الناس، فحمد الله
وأثنى عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إنكم فى دار قلعة،
وفى بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبحتم أو
مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ
الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: 33] ، اعتبروا
بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم، أين أبناء الدنيا
وإخوانها الذين آيروها وعمروها ومتعوا بها طويلا، ألم تلفظهم؟ ارموا
بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة، فإن الله ضرب لها مثلها، والذى
هو خير، فقال: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ
أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ
هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
مُقْتَدِراً الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ
أَمَلًا [الكهف: 44، 45] .
وذكر سيف «2» أن أول كتاب كتبه عثمان، رضى الله عنه، إلى عماله:
أما بعد، فإن الله عز وجل أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم فى
أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة، ولم يخلقوا جباة، وليوشكن
أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء
والأمانة والوفاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا فى أمور الناس وفيما
عليهم، فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم،
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 243) .
(2) انظر: الطبرى (4/ 244، 245) .
(2/608)
ثم تثنوا بالذمة، فتعطوهم الذى لهم،
وتأخذوهم بالذى عليهم، ثم العدو الذى تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء.
قال «1» : وأول كتاب كتبه إلى أمراء الجنود فى الفروج:
أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر، رحمه الله، ما لم
يغب عنا، بل كان عن ملأ منا، فلا يبلغنى عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير
الله بكم ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون؟ فإنى أنظر فيما ألزمنى
الله النظر فيه والقيام عليه.
وكتب، رحمه الله، إلى عمال الخراج:
أما بعد، فإن الله تعالى خلق الخلق بالحق، ولا يقبل إلا الحق، خذوا الحق
وأعطوا الحق به، والأمانة الأمانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من سلبها،
فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء، لا تظلموا اليتيم
ولا المعاهد، فإن الله ورسوله خصم لمن ظلمهم.
وكان كتابه إلى العامة:
أما بعد، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالإقتداء والإتباع، فلا تلفتنكم
الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث
فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم
القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكفر فى العجمة، فإذا
استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا» .
وزاد عثمان، رضى الله عنه، الناس فى أعطياتهم مائة مائة، وهو أول خليفة زاد
الناس فى العطاء، وكان عمر، رحمه الله، يجعل لكل نفس منفوسة من أهل الفىء
فى رمضان درهما فى كل يوم، وفرض لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم درهمين
درهمين، فقيل له: لو وضعت لهم طعاما فجمعتهم عليه، فقال: أشبع الناس فى
بيوتهم، فأقر عثمان الذى صنع عمر، وزاد فوضع طعام رمضان للمتعبد الذى يبيت
فى المسجد ولابن السبيل وللمثوبين بالناس فى رمضان.
وكان فى مدة خلافته، رحمه الله، فتوح عظام فى البر والبحر، وهو أول من أغزى
فيه، وقد تقدم ذكر كثير من ذلك كأفريقية وغزوة ذات الصوارى فى البحر على
يدى
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 245) .
(2/609)
عبد الله بن سعد، وغزوة قبرس على يدى معاوية بن أبى سفيان، وغير ذلك مما
سلف فى هذا الكتاب.
ونذكر الآن من ذلك ما تيسر ذكره إن شاء الله تعالى مما لم نذكر قبل، وأكثر
من ذلك مما كان قد افتتح على عهد عمر، رحمه الله، وانتقض بعد وفاته، فوجه
إليه عثمان، رحمه الله، فاستردده، حتى استوثق الأمر، وانتظمت الفتوح. |