سيرة ابن إسحاق

حديث الفيل
حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: نا يونس عن ابن اسحق قال:
وإن رجلا من بني ملكان بن كنانة، وهو من الحمس «1» ، خرج حتى قدم أرض اليمن، فدخلها «2» ، فنظر إليها، ثم قعد فخري فيها؛ فدخلها أبرهة، فوجد تلك العذرة فيها، فقال: من اجترأ علي بهذا؟ فقال له أصحابه: هذا رجل من أهل ذلك البيت الذي يحجه العرب، قال: فعلي اجترأ بهذا، ونصرانيتي، لأهد من ذلك البيت ولأخربنه حتى لا يحجه حاج أبداً، فدعا بالفيل، وأذن في قومه بالخروج، ومن اتبعه من أهل اليمن، وكان أكثر من تبعه من عك، والأشعريون، وخثعم، فخرجوا وهم يرتجزون:
إن البلد لبلد مأكول ... يأكله عك والأشعريون والفيل
فخرج يسير، حتى إذا كان ببعض طريقه، بعث رجلاً من بني سليم، ليدعو الناس إلى حج بيته الذي بناه، فتلقاه أيضاً رجل من الحمس، من بني كنانة، فقتله، فازداد بذلك- لما بلغه- حنقاً وحردا، وأحث السير
__________
(1) الحمس غير الحل، وأهل الحل غير اهل الحرم هم من قريش الذين ميزوا أنفسهم عن سواهم خاصة بالنسبة لمراسم الحج قبل انتصار الاسلام، لكن يظن أن هذا التقسيم حدث بعد عام الفيل ونتيجة له لا قبل ذلك انظر ما سيأتي ص- 98- 102.
(2) أي دخل كعبة اليمن، والمقصود بها الكنيسة التي بناها أبرهة، وتعلل هذه القصة سبب حملة أبرهة على مكة، وهو تعليل ليس له قيمة تاريخية، فالحملة استهدفت نشر النصرانية في جميع أنحاء شبه الجزيرة، وأراد الأحباش السيطرة على ثروات وتجارة مكة، ومن جهة أخرى الضغط على الامبراطورية الساسانية التي كانت في صراع شديد مع الامبراطورية البيزنطية، إلى غير ذلك من الاسباب.

(1/61)


والانطلاق، حتى إذا أشرف على وادي وج من الطائف، خرجت إليه ثقيف، فقالوا: أيها الملك، إنما نحن عبيدك، وليست ربتنا هذه بالتي تريد- يعنون اللات، صنمهم، وليست بالتي تحج إليها العرب، وإنما ذلك بيت قريش، الذي تجىء إليه العرب، قال: فابغوني دليلاً يدلني عليه، فبعثوا معه رجلا من هذيل، يقال له نفيل «1» ، فخرج بهم يهديهم، حتى إذا كانوا بالمغمس، نزلوا المغمس من مكة على ستة أميال، فبعثوا مقدماتهم إلى مكة، فخرجت مكة عباديد في رؤوس الجبال، وقالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء القوم، فلم يبق بمكة أحد إلا عبد المطلب بن هاشم، أقام على سقايته؛ وغير شيبة بن عثمان ابن عبد الدار، أقام على حجابة البيت، فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي الباب، ثم يقول:
اللهم إن المرء يمن ... ع حله فامنع حلالك
لا يغلبوا بصليبهم ... ومحالهم غدرا محالك
أن يدخلوا البلد الحرام ... غدا فأمر ما بدا لك
يقول: أي شى ما، بدا لك، لم تكن تفعله بنا، ثم إن مقدمات أبرهة، أصابت نعماً لقريش، فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، فلما بلغه ذلك، خرج حتى أنتهى إلى القوم، وكان حاجب أبرهة رجلاً من الأشعريين، وكانت له بعبد المطلب معرفة قبل ذلك، فلما انتهى إليه عبد المطلب، قال له الأشعري: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أن تستأذن لي على الملك، فدخل عليه حاجبه، فقال له: أيها الملك، جاءك سيد قريش الذي يطعم أنيسها في السهل، ووحوشها في الجبل، فقال: ائذن له، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً جميلاً، فأذن له، فدخل عليه، فلما أن رآه أبو يكسوم، أعظمه أن يجلسه تحته، وكره أن يجلسه معه على سريره، فنزل من سريره، فجلس على الأرض، وأجلس عبد المطلب معه، ثم قال: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي مائتا بعير، أصابتها
__________
(1) اسمه لدى بعض الرواة: أبو رغال.

(1/62)


مقدمتك، لي، فقال أبو يكسوم: والله لقد رأيتك فأعجبتني، ثم تكلمت، فزهدت فيك، فقال له: ولم أيها الملك؟ قال: لأني جئت إلى بيت هو منعتكم من العرب، وفضلكم في الناس، وشرفكم عليهم، ودينكم الذي تعبدون، فجئته لأكسره، وأصيبت لك مائتا بعير، فسألتك عن حاجتك، فكلمتني في إبلك، ولم تطلب إلي في بيتكم! فقال له عبد المطلب: أيها الملك، إنما أكلمك في مالي، ولهذا البيت رب هو يمنعه، لست أنا منه في شيء، فراع ذلك أبا يكسوم، وأمر برد إبل عبد المطلب عليه، ورجع عبد المطلب.
وأمسوا في ليلتهم تلك، فأمست ليلة كالحة، نجومها كأنما تكلمهم كلاما، لاقترابها منهم، وأحست أنفسهم بالعذاب، وخرج دليلهم حتى دخل الحرم، وتركهم، وقام الأشعريون وخثعم، فكسروا رماحهم وسيوفهم، وبرئوا إلى الله تعالى أن يعينوا على هدم البيت، فباتوا كذلك باخبث ليلة، ثم أدلجوا بسحر، فبعثوا فيلهم يريدون أن يصبحوا مكة، فوجهوه إلى مكة، فربض، فضربوه فتمرغ، فلم يزالوا كذلك حتى كادوا يصبحون، ثم إنهم أقبلوا على الفيل، فقالوا: لك الله ألا نوجهك إلى مكة، فجعلوا يقسمون له، ويحرك أذنيه، يأخذ عليهم، حتى إذا أكثروا من القسم، انبعث، فوجهوه إلى اليمن راجعاً، فتوجه يهرول، فعطفوه حين رأوه منطلقاً، حتى إذا ردوه إلى مكانه الأول، ربض وتمرغ، فلما رأوا ذلك، أقسموا له، وجعل يحرك أذنيه يأخذ عليهم، حتى إذا أكثروا، انبعث، فوجهوه إلى اليمن، فتوجه يهرول، فلما رأوا ذلك ردوه، فرجع معهم حتى إذا كان في مكانه الأول، ربض فضربوه، فتمرغ، فلم يزالوا كذلك، فعالجوه، حتى كان مع طلوع الشمس، طلعت عليهم الطير معها، وطلعت عليهم طير من البحر أمثال اليحاميم سود، فجعلت ترميهم وكل طائر في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، فإذا رمت بتلك مضت، وطلعت أخرى، فلا تقع حجرة من حجارتهم تلك على بطن إلا خرقته، ولا عظم إلا أوهاه ونقبه.

(1/63)


وثار أبو يكسوم راجعاً، قد أصابته بعض الحجارة، فجعل كلما قدم أرضاً انقطع منه فيها أرب، حتى إذا انتهى إلى اليمن، ولم يبق منه شيء إلا اباده، فلما قدمها انصدع صدره، وانشق بطنه، فهلك، ولم يصب من الأشعريين وخثعم أحد.
ولما فزعوا إلى دليلهم ذلك، يسألون عنه، فجعلوا يقولون: يا نفيل، يا نفيل، وقد دخل نفيل الحرم، ففي ذلك يقول نفيل:
ألا ردي جمالك يا ردينا ... نعمناكم مع الاصباح عينا
فإنك لو رأيت، ولن تريه ... إلى جنب المحصب ما رأينا
إذا لخشيته وفزعت منه ... ولم تأسي على ما فات عينا
خشيت الله لما رأيت طيرا ... وقذف حجارة ترمي علينا
وكلهم يسائل عن نفيل ... كأن علي للحبشان دينا
وقال المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم:
أنت حبست الفيل بالمغمس ... أهلكت أبا يكسوم والمغلس
كردستهم وأنت غير مكردس ... تدعسهم وأنت غير مدعس
وقال عبد المطلب، وهو يرتجز ويدعو على الحبشة:
يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا ... إنهم لن يقهروا قواكا
وقال عبد المطلب حين انصرفوا:
منعت الأرض التي حميت ... من اللئام فلم تخلق لهم دارا
منعت مكة منهم إنني رجل ... ذو أسرة لم نكن في الحب غدارا
إذ قلت يا صاحب الحبشان إن لنا ... من دون أن يهدم المعمور أخطارا
فسار في جيشه بالفيل مقتدرا ... وسرت مستبسلا للموت صبارا
في فتية من قريش ليس ميتهم ... بمورث حيهم شينا ولا عارا

(1/64)


حدثنا أحمد، نا يونس بن بكير، عن عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن عباس في قوله: «وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ «1» » ، قال: طير لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب.
حدثنا أحمد قال: نا أبي، ويونس جميعاً، عن قيس بن الربيع، عن جابر ابن عبد الرحمن بن أسباط، عن عبيد بن عمير: «وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ» قال: طيراً أقبلت من قبل البحر كانها رجال الهند «تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ» أصغرها مثل رؤوس الرجال، وأعظمها مثل الإبل الهزل، ما رمت أصابت، ما أصابت قتلت، وزاد فيه أبي: الأبابيل المتتابعة، ما أرادت أصابت، وما أصابت قتلت.
حدثنا أحمد قال: نا يونس عن ابن إسحق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لقد رأيت قائد الفيل، وسائسه أعميين مقعدين، يستطعمان بمكة.
حدثنا أحمد، نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة ابن الأخنس قال: حدثت أنه أول ما رؤي في أرض العرب: الحصبة، والجدري، ومرائر الشجر من العشر والحرمل وأشباه ذلك، عام الفيل.

سفر أم الرسول به إلى المدينة ووفاتها.
حدثنا أحمد: نا يونس بن بكير، عن ابن إسحق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: قدمت آمنة بنت وهب، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، برسول الله صلى الله عليه وسلم على أخواله من بني عدي بن النجار بالمدينة، ثم رجعت به، حتى إذا كانت بالأبواء هلكت بها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ست سنين.
حدثنا أحمد: نا يونس، عن ابن إسحق، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب، فحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله
__________
(1) سورة الفيل: 2

(1/65)


قال: كان يوضع لعبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم فراش في ظل الكعبة، فكان لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي حتى يجلس عليه، فيذهب أعمامه يؤخرونه، فيقول جده عبد المطلب: دعوا ابني، فيمسح على ظهره، ويقول: إن لبني هذا شأنا

وفاة عبد المطلب بن هاشم.
فتوفي عبد المطلب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثماني سنين، بعد الفيل بثماني سنين.