سيرة ابن إسحاق

صورة نزول الوحي على النبي.
نا يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل الحارث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف ينزل عليك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ذلك يأتيني الملك أحياناً في مثل صلصلة الجرس، وهو أشقه «3»
__________
(1) اللهد: داء يصيب الناس في أرجلهم وأفخادهم: وهو الضرب والصدمة الشديد في الصدر ولهده لهدا أي دفعه.
(2) سقطت من ع.
(3) في حاشية الأصل: وأشد.

(1/146)


علي، فيفصم عني قد وعيته، ويتمثل لي الملك أحياناً في صورة رجل فيكلمني فأعي ما يقول.
نا يونس عن عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان إذا نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ثقل عليه، وتربد له جلده، وأمسك الناس عن كلامه.
نا يونس عن عمر بن ذر عن مجاهد قال: كان إذا نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأه على الرجال ثم على النساء.
نا يونس عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بني عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، يا صفية عمة رسول الله اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم، واعلموا أن أول آت «1» يوم القيامة المتقون، فإن تكونوا يوم القيامة مع قرابتكم فذاك وإياي لا يأتون الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على أعناقكم فأصد وجهي عنكم، فتقولون: يا محمد، فأقول هكذا- فصرف وجهه-، فتقولون يا محمد فأقول هكذا- وصرف وجهه إلى الشق الآخر.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب، واستخفوا بصلاتهم عن قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، واقتتلوا، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً من المشركين بلحى بعير فشجه، فكان أول دم اهريق في الإسلام، فلما رأت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب
__________
(1) في ع: أمه.

(1/147)


فيهم: عتبة بن ربيعة، وشيبة، وأبو سفيان، وأبو البختري، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل، والعاصي بن وائل، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، أو من مشى فيهم، فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه فنكفيكه وإنك على مثل ما نحن عليه من [56] خلافه، فقال أبو طالب قولاً رفيقاً، ورد رداً جميلاً، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله، ويدعو إليه، ثم إن قريشا تآمروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله منهم رسوله بعمه أبي طالب، وقد قال أبو طالب، حين رأى قريشاً تصنع ما تصنع في بني هاشم وبني المطلب، دعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوا إلى ما دعاهم إليه من دفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من أبي لهب، وهو يحرض بني هاشم، وإنما كانت بنو المطلب تدعى لهاشم إذا دعوا بالحلف الذي كان بين بني هاشم وبين بني المطلب دون بني عبد مناف، فقال:
حتى متى نحن على فتنة ... يا هاشم والقوم في محفل
يدعون بالخيل على رقبة «1» ... منا لدى الخوف وفي معزل
كالرحبة السوداء يعلو بها ... سرعانها في سبسب مجفل
عليهم النزك على رعله ... مثل القطا الشارب المهمل
يا قوم ذودوا عن جماهيركم ... بكل مفضال على مسبل
وقد شهدت الحرب في فتية ... عند الوغا في عثير القسطل
فلما اجتمعت بنو هاشم وبنو المطلب معه ورأى أن قد امتنع بهم وأن
__________
(1) في ع: رقفة.

(1/148)


قريشا لن يعادوه معهم قال أبو طالب، وبادى «1» قومه بالعداوة، ونصب لهم الحرب «2» فقال:
منعنا الرسول رسول المليك ... ببيض تلألأ كلمع البروق
بضرب بزبر دون التهاب ... حذار البوادر كالخنفقيق «3»
أذب وأحمي رسول المليك ... حماية حام «4» عليه شفيق
وما أن أدب لأعدائه ... دبيب البكار «5» حذار الفنيق «6»
ولكن أزئر لهم سامياً ... كما زأر ليث بغيل مضيق
فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم معه، وحدبهم عليه جعل يمدحهم ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيهم، ومكانه منهم، ليشتد لهم رأيهم فيه، وليحدبوا معه على أمرهم، فقال أبو طالب:
إذا اجتمعت يوماً قريشاً لفخر ... فعبد مناف سرها وصميمها [57]
وإن حصلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوماً فإن محمداً ... هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها ... علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنا قديماً لا نقر ظلامة ... إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يوم كريهة ... ونضرب عن أحجارها من يرومها «7»
__________
(1) في الأصل: «بادوا» وفي ع «تادوا» وهو تصحيف لعل الصحيح ما أثبتناه.
(2) في ع: الحارث.
(3) في الأصل «الجنفقيق» ، وفي ع: الجنففيق» ولم أعثر لأي منهما على معنى أو ذكر في معاجم وكتب العربية مثل اللسان والقاموس والمخصص والمعرب، ولعلهما تصحيف لكلمة «الخنفقيق» أي الداهية كما جاء في اللسان.
(4) في ع: دام.
(5) جمع بكرة، أي اناث الجمال.
(6) الجمل الفحل.
(7) انظر الأبيات وشروحها في الروض: 2/ 10.

(1/149)


نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: ثم أقبل أبو طالب على أبي لهب حين ظافر عليه قومه، ونصب لعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من نصب له، وكان أبو لهب للخزاعية، وكان أبو طالب وعبد الله أبو رسول الله والزبير لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فغمزه أبو طالب بأم له يقال له اسماحيج، وأغلظ له في القول:
مستعرض الأقوام يخبرهم ... عذري وما إن جئت من عذر
فاجعل فلانة وابنها عوضاً ... لكرائم الأكفاء والصهر
واسمع نوادر من حديث صادق ... تهوين مثل جنادل الصخر
إنا بنو أم الزبير وفحلها ... حملت بنا للطيب والطهر
فحرمت منا صاحباً ومؤازراً ... وأخاً على السراء والضر
قال: فلما مضى أبو طالب على أمره من خلاف قومه فيما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعت قريش على عدوانه وخلافه، قال أبو طالب في ذلك:
ما إن جنينا من قريش عظيمة ... سوى أن منعنا خير من وطىء التربا
أخاثقة للنائبات موراً «1» كريماً ... ثناه لا لئيماً ولا ذربا
فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا ... فإياكما أن تسعرا بيننا حربا
وإن تصبحوا من بعد ود وإلفة ... أحابيش فيها كلكم يشتكي النكبا
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس ... ورهط أبي يكسوم إذ ملأ والشعبا
فو الله لولا الله لا شيء غيره ... لأصبحتم لا تملكون لنا سربا «2»

الوليد بن المغيرة وما نزل فيه
نا أحمد نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال: يا معشر إنه قد حضر الموسم،
__________
(1) أي سريع الاجابة.
(2) وردت أشطر من هذه الأبيات في قصيدة أثبتها ابن هشام وشرحها السهيلي في الروض: 2/ 18- 19.

(1/150)


وإن وفود العرب ستقدم عليكم (58) وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قول بعضكم بعضا، فقالوا: فأنت يا (أبا) «1» عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقوم به، فقال: بل أنتم؛ قولوا أسمع، فقالوا: نقول: كاهن، فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسجعه فقالوا: نقول مجنون، فقال:
ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو تخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته، فقالوا: نقول: شاعر، فقال ما هو بشاعر قد عرفنا «2» الشعر برجزه «3» وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول:
ساحر، قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، ما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول [يا أبا عبد «4» ] شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، إن أصله لغدق، وإن فرعه لجناً، فما أنتم بقائلين من هذا «5» شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحر، فقولوا ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وبين أخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون يسألون الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره، فانزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة، وفي ذلك من قوله: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً» إلى قوله: «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» ، «6» وأنزل الله عز وجل في النفر الذين كانوا معه يصنفون «7» له القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به من عند الله
__________
(1) زيد ما بين الحاصرتين من ابن هشام، الروض: 2/ 11.
(2) في ع: وعرفنا.
(3) كتب في الحاشية «هزجه» ولم توضع أية اشارة لا دخالها في النص، هذا وجاء في ابن هشام، الروض: 2/ 11 «برجزه وهزجه وقريضه» .
(4) زيد ما بين الحاصرتين من ابن هشام، الروض: 2/ 12، ذلك أن مكانه جاء مطموسا في الأصل، وفراغا في ع.
(5) في ع: هنا.
(6) سورة المدثر: 11- 26.
(7) في ع: يصنعون.

(1/151)


تعالى: «الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ» أي أصنافاً «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» «1» أولئك النفر الذين يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لقوا من الناس، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.
نا يونس عن أبي معشر عن محمد بن قيس في قوله: «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ» «2» قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ما تقول حق، فو الله إن قلوبنا لفي أكنة منه ما نعقله، وفي آذاننا وقر فما نسمعه، ومن بيننا وبينك حجاب فما ندري ما تقول.
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: ثم إن قريشا حين عرفت أن أبا طالب أبي خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك، وعدوانهم، مشوا إليه ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له فيما بلغنا: يا أبا طالب قد جئناك بفتى قريش عمارة بن الوليد جمالا، وشباباً، ونهادة، فهو لك نصره وعقله، فاتخذه ولداً لا تنازع فيه، وخل بيننا وبين ابن أخيك هذا (59) الذي فارق دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومه، وسفّه أحلامهم، فإنما رجل كرجل لنقتله، فإن ذلك أجمع للعشيرة، وأفضل في عواقب الأمور مغبة، فقال لهم أبو طالب: والله ما أنصفتموني، تعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابن أخي تقتلونه «3» ، هذا والله لا يكون أبداً، أفلا تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لم تحن إلى غيره، فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: لقد أنصفك قومك يا أبا طالب؛ وما أراك تريد أن تقبل ذلك منهم، فقال أبو طالب للمطعم بن عدي: والله ما أنصفتموني ولكنك قد أجمعت على خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك، أو كما قال أبو طالب، فحقب «4»
__________
(1) سورة الحجر: 91- 92.
(2) سورة فصلت: 5.
(3) في ع يقتلونه.
(4) أي اشتد، وفي ع: خفت.

(1/152)


الأمر عند ذلك، وجمعت «1» للحرب، وتنادى القوم، وبادى «2» بعضهم بعضا، فقال أبو طالب عند ذلك- وإنه يعرض بالمطعم- ويعم من خذله من بني عبد مناف، ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه فيما طلبوا منه وما تباعد من أمرهم.
ألا ليت حظي من حياطتكم بكر «3» ... يرش على الساقين من بوله قطر
من الخور حبحاب «4» كثير رغاؤه ... إذا ما علا الفيفاء «5» تحسبه وبر
أرى أخوينا من أبينا وأمنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
بل لهما أمر ولكن ترجما ... كما ترجمت «6» من رأس ذي الفلق الصخر
هما أغمزا للقوم في أخويهما ... وقد أصبحا منهم أكفهما صفر
أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثل ما نبذ «7» الجمر
فأقسمت لا ينفك منهم مجاور ... يجادرنا ما دام من نسلنا شفر «8»
هما أشركا في المجد من لا أخاله ... من الناس إلا أن يرش له ذكر
وليداً أبوه كان عبداً لجدنا ... إلى علجة زرقاء جاش بها البحر
وتيم ومخزوم وزهرة منهم ... وكانوا لنا مولى إذا ابتغى النصر
وقد سفهت أحلامهم وعقولهم ... وكانوا كجفر شرها ضغطت «9» جفر
__________
(1) في ع رجعت.
(2) في ع: ونادوا في، وفي ابن هشام الروض 2/ 5: وحميت الحرب، وتنابذ القوم.
(3) البكر: الفتى من الابل، وأراد بقوله: إن بكرا من الإبل أنفع لي منكم.
(4) الخور: الضعف، والحبحاب: الصغير.
(5) الفيفاء: الصحراء، وشبه البكر بالوبر لصغره.
(6) من رجم أي رمى وقذف، وفي ع وابن هشام، الروض: 2/ 9 «تجرجما كما جرجمت» .
(7) في ع وابن هشام، الروض: 2/ 9: ينبذ.
(8) في ع: شعر هذا وتباينت رواية ابن هشام، الروض: 2/ 9 عما ورد تباينا شديدا.
(9) الضغاطة: الجهل والضعف في الرأي، وفي ع: خفيطت، وفي ابن هشام، الروض 2/ 9، صنعت.

(1/153)


باب ما نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من البلاء والجهد
ثم إن قريشا مشوا إلى أبي طالب تارة أخرى فكلموه «1» ، وقالوا: ما نحن يا أبا طالب، وإن كنت فينا ذا منزلة بسنك وشرفك وموضعك، بتاركي ابن أخيك على هذا حتى نهلكه أو يكف عنا ما قد أظهر بيننا من شتم آلهتنا، وسب آبائنا، وعيب (60) ديننا، فإن شئت فاجمع لحربنا، وإن شئت فدع، فقد أعذرنا إليك، وطلبنا التخلص من حربك وعداوتك فكل ما نظن أن ذلك مخلصاً، فانظر في أمرك، ثم اقض إلينا قضاك.
نا أحمد نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن قريشا حين قالت لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا: كذا وكذا، للذي قالوا له، وآذوني قبل، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، واكفف عن قومك ما يكرهون من قولك هذا الذي فرق بيننا وبينهم، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد قدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه؛ وضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، فلما ولى قال له- حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم-: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه، فقال: امض على أمرك وافعل ما أحببت، فو الله لا نسلمك بشيء أبداً.
__________
(1) في ع: وكلموه.

(1/154)


نا يونس عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن موسى بن طلحة قال:
أخبرني عقيل بن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا، فقال يا عقيل انطلق فائتيني بمحمد- صلى الله عليه وسلم، فانطلقت إليه، فاستخرجته من خيس «1» ، يقول بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فجعل يطلب الفيء يمشي فيه من شدة الحر الرحض «2» ، فلما أتاهم قال أبو طالب: إن بني عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن «3» أذاهم، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال أترون هذه الشمس؟ قالوا:
نعم، قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي فارجعوا.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق: ثم قال أبو طالب من شعر قاله حين أجمع لذلك من نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدفاع عنه على ما كان من عداوة قومه وفراقهم له:
والله لن يصلوا إليه بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
إمضي لأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقر بذاك منك عيوناً
ودعوتني وعلمت أنك ناصح ... فلقد صدقت وكنت قديماً «4» أمينا
وعرضت ديناً قد عرفت بأنه ... من خير أديان البر دينا (61)
لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحاً لذاك مبينا
فلما قالت قريش: لقد سفه أحلامنا، وعاب ديننا، وسب آباءنا، فو الله لا نقر بهذا أبداً، وقام أبو طالب دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحب الناس إليه، فشمر في شأنه، ونادى قومه، قال قصيدة تعوذ فيها منهم، وبأدأهم في آخرها، فقال:
__________
(1) الخيس بيت الأسد، انظر كتاب التلخيص في أسماء الأشياء: 2/ 728 وجاء في ع: جيش
(2) رحض الرجل: عرق حتى كأنه غسل جسده.
(3) في ع: على.
(4) مطموسه في ع.

(1/155)


لما رأيت القوم لا ود بينهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوماً علينا أظنة ... يعطون غيظاً خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بصفراء «1» سمحة ... وأبيض غضب من سيوف المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وأسرتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
عكوفاً معاً مستقبلين وتاره ... لدى حيث يقضي حلفه كل نافل
وحيث ينيخ الأشعريون ركابهم ... بمفضى السيول بين ساف «2» ونائل