سيرة ابن إسحاق

أعلام النبوة
نا يونس عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن يعلى بن مرة عن أبيه قال:
سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً، فرأيت منه شيئاً عجباً، نزلنا منزلاً فقال:
انطلق إلى هاتين الأشاءتين «1» فقل: إن رسول الله يقول لكما أن تجتمعا، فانطلقت فقلت لهما ذلك، فانتزعت كل واحدة منهما من أصلها فمرت كل واحدة إلى صاحبتها فالتقتا جميعاً، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته من ورائهما ثم قال إنطلق فقل لهما لتعود كل واحدة منهما إلى مكانها، فأتيتهما فقلت ذلك لهما، فمرت كل واحدة حتى عادت إلى مكانها.
وأتته امرأة فقالت: إن ابني هذا به لمم «2» منذ سبع سنين يأخذه كل يوم مرتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدنيه، فأدنته منه، فتفل في فيه وقال: اخرج عدو الله، أنا رسول الله، ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رجعنا فاعلمينا ما صنع، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبلته (138) ومعها كبشان وأقط «3» وسمن، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ هذا الكبش، فأخذ منه ما أراد، فقالت: والذي أكرمك ما رأينا به شيئاً منذ فارقنا.
ثم أتاه بعير فقام بين يديه فرأى عينيه تدمعان، فبعث إلى أصحابه فقال:
ما لبعيركم هذا يشكو كم؟ فقالوا: كنا نعمل عليه، فلما كبر وذهب عمله تواعدنا لنحره غداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تنحروه، واجعلوه في الأبل يكون فيها.
__________
(1) صغار النخل.
(2) به طرف من الجنون أو أصابته من الجن مس.
(3) لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به.

(1/277)


نا يونس عن الأعمش عن شمر بن عطية عن بعض أشياخه قال:
جاءت امرأة بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تخرس فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا لم يتكلم منذ ولد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدنيه، فأدنته منه، فقال: من أنا فقال: أنت رسول الله.
نا يونس عن اسماعيل بن عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد البراز تباعد حتى لا يراه أحد، فنزلنا منزلاً بفلاة من الأرض ليس فيها علم ولا شجر، فقال لي:
يا جابر خذ هذه الأداوة وانطلق بنا، فملأت الأداوة ماء وانطلقنا فمشينا حتى لا نكاد نرى فإذا شجرتان بينهما أذرع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جابر انطلق فقل لهذه الشجرة: يقول لك رسول الله الحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما ففعلت، فرجعت حتى لحقت بصاحبتها، فجلس خلفها حتى قضى حاجته، ثم رجعنا فركبنا رواحلنا وسرنا كأنما علينا الطير تظلنا، فإذا نحن بامرأة قد عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم معها صبي تحمله فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرات لا يدعه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناوله فجعله بينه وبين مقدمة الرحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخس «1» عدو الله أنا رسول الله، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، ثم ناولها إياه فلما رجعنا وكنا بذلك الماء عرضت لنا المرأة معها كبشان تقودهما، والصبي تحمله، فقالت:
يا رسول الله اقبل هديتي، فو الذي بعثك بالحق أن عاد إليه بعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا أحدهما منها وذروا الآخر، ثم سرنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا، فجاء جمل باد «2» ، فلما كان بين السماطين خر ساجداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من صاحب هذا الجمل؟ فقال فتية من الأنصار: هو لنا يا رسول الله، قال: فما شأنه؟ قال: قالوا: سنونا عليه (139) منذ عشرين سنة، فلما كبرت سنه
__________
(1) في ع: اخسأ.
(2) نسبة الى البادية وهو عكس الحاضر.

(1/278)


وكانت عليه شحيمة فأردنا نحره لنقسمه بين غلمتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تبيعونه؟ فقالوا: يا رسول الله هو لك، قال: فأحسنوا إليه حتى يأتيه أجله فقالوا: يا رسول الله نحن أحق أن نسجد لك من البهائم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا ينبغي لبشر، أن يسجد لبشر ولو كان ذلك، كان النساء لأزواجهن.
نا يونس عن المبارك بن فضالة عن الحسن قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض شعاب مكة، وقد دخله من الغم ما شاء الله، من تكذيب قومه، فقال:
رب أرني ما أطمأن إليه ويذهب عني هذا الغم، فأوحى الله عز وجل إليه:
ادع أي أغصان هذه الشجرة شئت، فدعا غصناً فانتزع من مكانه، ثم خد «1» في الأرض حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى مكانك، فرجع الغصن فخد في الأرض حتى استوى كما كان، فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عز وجل وطابت نفسه، وقد كان قال المشركون: أيضلل آباءك وأجدادك يا محمد، فأنزل الله عز وجل: «أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ» إلى قوله:
«وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» «2» .
نا يونس عن مالك بن مغول عن طلحة بن أبي صالح قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له إذ نفذت أزوادهم حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر بعض حمائلهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله لو أمرت ما بقي من أزودة القوم فجمعته، فدعوت الله فيه بالبركة، فجاء صاحب التمر وصاحب البر ببره- قال: وقال مجاهد وذو النوى بنواه، فقلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟
قال: كانوا يمضغونه ويشربون عليه الماء- فدعا الله تعالى فيه بالبركة، فملأ القوم أزودتهم، ثم قال عند ذلك اشهد الا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله من آمن بالله غير شاك فيهما لم يحجب عن الجنة.
نا يونس عن القاسم بن الفضل قال: حدثني أبو نضرة «3» العبدي عن أبي
__________
(1) أي شق لنفسه طريقا ومنه الأخدود.
(2) سورة الزمر: 64- 66.
(3) في الأصل: أبو بصرة، وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا. انظر الاكمال: 1/ 329- 330.

(1/279)


سعيد الخدري أنه حدثهم قال: بينما راع يرعى في الحرة «1» إذ عرض ذئب لشاة من غنمه، فحال بين الذئب وبينها، فأقعى الذئب على ذنبه فقال للراعي: أما تتقي الله، تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي، قال الراعي: عجباً من ذئب مقعى على ذنبه يكلمني كلام الآدميين! فقال له الذئب: ألا أحدثك بأعجب مني، رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث الناس بأنباء ما قد سبق فساق الراعي شياهه حتى أتى المدينة (140) فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بما قال الذئب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فقال للراعي حدثهم، فأخبرهم بما قال الذئب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الراعي، والذي نفسي بيده، إنها من أشراط الساعة كلام السباع الأنس، ولا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الأنس، ويكلمه شراك نعله، ويحدثه سوطه، ويخبره فخذه ما أحدث أهله بعده.
نا يونس عن عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال: حدثني شهر بن حوشب عن أبي سعيد أنه قال: بينا «2» رجل من أسلم في غنيمة له يهش عليها ببيداء ذي الحليفة «3» إذ غدا عليه الذئب فانتزع شاة من غنمه، فجهجاه الرجل، ورماه حتى استنقذ منه شاته، تم أقبل الذئب حتى أقعى مستقراً بذنبه مقابل الرجل فقال: أما اتقيت الله، حلت بيني وبين شاة رزقنيها الله، فقال الرجل: تالله ما سمعت كاليوم قط، فقال الذئب: مم تعجب؟ قال أعجب من مخاطبتك إياي! فقال الذئب أعجب من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين، في النخلات يحدث الناس ما خلا، ويحدثهم بما هو آت، وأنت هاهنا مع غنمك، فلما سمع الرجل قول الذئب ساق غنمه يحوزها حتى إذا أدخلها قباء، قرية الأنصار، فسأل عن رسول الله
__________
(1) الحرة: أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار، والحرات في بلاد العرب كثيرة ولعله أراد هنا حرة قباء قبلي المدينة.
(2) كتب فوقها في الأصل: «بينما» .
(3) قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة.

(1/280)


صلى الله عليه وسلم، فصادفه في بيت أبي أيوب، فاخبره بخبر الذئب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، احضر العشية فإذا رأيت الناس قد اجتمعوا فأخبرهم ذلك ففعل، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر واجتمع الناس أخبرهم الاسلمي خبر الذئب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق، صدق، صدق، تلك الأعاجيب بين يدي الساعة، فرددها ثلاثاً، أما والذي نفس محمد بيده ليوشك الرجل أن يغيب عن أهله الروحة أو الغدوة ثم يخبره سوطه أو عصاه أو نعله بما أحدث أهله من بعده «1» .
نا أحمد: نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني عبد الرحمن الأعرج عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- وحدث عن رجل ركب بقرة فاستحثها يضربها فقالت: يا عبد الله إني لم أخلق لهذا، قال القوم: سبحان الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجبتم «2» لذلك؟ قالوا:
نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنا أؤمن به، وأبو بكر، وعمر، وما هما ثم.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذئباً عدا على غنم رجل فأخذ منها شاة، فطلبها الرجل حتى نزعها [141] منه، فقال الذئب: هذا أنت منعتها اليوم مني، فمن الذي يمنعها يوم السبع إذ ليس فيها راعي غيري؟! فسبح القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ قالوا: نعم، قال: فإني أؤمن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم.
نا يونس عن يحيى بن أبي أنيسة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما راعي في غنمه، فعدا الذئب فأخذ شاة من
__________
(1) الأحاديث عن هذه العلامات كثيرة متفرقة في مختلف الكتب الاسلامية لمختلف الطوائف ولعل أكثرها كمية موجودة في كتاب الملاحم والفتن لنعيم بن حماد (ت 227 هـ) وهو مخطوط قمت بتحقيقه وسأدفعه للطباعة في أقرب فرصة وينصح القارىء بالعودة أيضا إلى كتاب تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار وكتاب دلائل النبوة لأبي نعيم.
(2) في ع: عجبت.

(1/281)


غنمه فطلبها الراعي حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم السبع، يوم ليس راع؟ فقال القوم سبحان الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر.
نا يونس عن ابن أنيسة عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا رجل يسوق بقرة لنفسه قد حمل عليها، فالتفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكن خلقت للحرث! فقال الناس: سبحان الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أؤمن به أنا وأبو بكر وعمر.
نا يونس عن السري بن اسماعيل عن الشعبي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فنزل فأتي بأداوة من ماء، فقيل له: يا رسول الله ما معنا ماء غيرها، فسكبها في ركوة، ثم وضع اصبعه في وسط الركوة، غمسها في الماء، فجعل يجيء الناس فيتوضئون، ثم يقولون صدراً «1» ، فأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب بعضهم لم يصبه الماء، فقال: اللهم اغفر لأعقابهم.
يونس عن مالك بن مغول عن طلحة عن أبي صالح إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
متى ألقى اخواني؟ فقيل: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ فقال: أنتم أصحابي، وإخواني قوم من أمتي لم يروني يؤمنون بي ويصدقوني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أي الخلق أعجب إيماناً؟ قالوا: ملائكة الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما لهم ألا يؤمنوا وهم عند ربهم! قالوا: فالنبيون، قال: وما لهم لا يؤمنون وهم موحى إليهم! قالوا: فأصحاب النبيين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما لهم لا يؤمنوا وأنبياء الله عز وجل فيهم! لكن قوم من أمتي لم يدركوني يؤمنون بكتاب من ربهم فيؤمنون به ويصدقونه.
نا يونس عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال: تذكروا فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله «2» : ما كان أبيه فضله «3» لمن رآه،
__________
(1) في ع: صدوا.
(2) أي عبد الله بن عمر بن الخطاب، انظر التاريخ الكبير للبخاري: 6/ 499.
(3) أي فضل النبي صلى الله عليه وسلم.

(1/282)


والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن قط أفضل إيماناً من مؤمن بغيب، ثم تلا عبد الله: «ألم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ» حتى بلغ «أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1» .
نا يونس عن إسماعيل بن عبد الملك عن عطاء إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً [142] لأصحابه وهم مجتمعون حوله: عجب وليس بالعجيب أن رجلاً منكم بعث إليكم فآمن به من آمن منكم، وصدقه من صدقه منكم، فهذا عجب وليس بالعجيب، وعجب وهو العجب العجيب لقوم يؤمنون بي ولم يروني.
نا يونس عن اسماعيل قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن مزيد بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل راكبان من أهل اليمن، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنديان، مذحجيان، أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعاه، فقال أحدهما حين أخذ بيده ليبايعه: يا رسول الله أرأيت من أدركك فآمن بك وصدقك وشهد أن ما جئت به هو الحق ماذا له؟
قال: طوبى له فماسحه ثم انصرف، وأقبل الآخر فقال: يا رسول الله أرأيت من لم يرك وصدقك وشهد أن ما جئت به هو الحق ماذا له؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوبى له فماسحه ثم انصرف.
نا يونس عن فائد بن عبد الرحمن العبدي قال: نا عبد الله بن أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لمشتاق إلى إخواني، فقال عمر: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ فقال: لآ أنتم أصحابي، إخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، فجاء أبو بكر فأخبره عمر بالذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ألا تحب قوما بلغهم أنك تحبني فأحبوك، فأحبهم أحبهم الله.
__________
(1) سورة البقرة: 1- 5.

(1/283)


إسلام أم شريك الدوسية
نا يونس عن عبد الأعلى بن المساور القرشي عن محمد بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة قال: كانت امرأة من دوس بقال لها أم شريك أسلمت في رمضان، فأقبلت تطلب من يصحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت رجلا من اليهود فقال:
ما لك يا أم شريك؟ قالت: أطلب رجلاً يصحبني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
فتعالى أنا أصحبك، قالت: فانتظرني حتى أملأ سقائي ماء، قال: معي ما لا تريدين من ماء فانطلقت معهم فساروا يومهم حتى أمسوا فنزل اليهودي ووضع سفرته فتعشى وقال: يا أم شريك تعالي إلى العشاء، فقالت إسقني من الماء فإني عطشى ولا أستطيع أن آكل حتى أشرب، فقال: لآ أسقيك حتى تهودي، قالت: لا جزاك الله خيراً غررتني ومنعتني أحمل ماء، قال: لا والله لا أسقيك منه قطرة حتى تهوّدين، فقالت: لا والله لا أتهود أبداً [143] بعد إذ هداني الله للإسلام، فأقبلت إلى بعيرها فعقلته ووضعت رأسها على ركبته فنامت، قالت:
فما أيقظني إلا برد دلو قد وضع على جبيني، فرفعت رأسي إلى دلو أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، فشربت حتى رويت، ثم نضحت على سقائي حتى ابتل، ثم ملأته ثم رفع بين يدي وأنا أنظر حتى توارى عني في السماء، فلما أصبحت جاء اليهودي فقال: يا أم شريك، فقلت: قد والله سقاني الله، قال: من أين، أنزل عليك من السماء؟ قلت: نعم والله قد أنزل الله علي من السماء، ثم رفع بين يدي حتى توارى عني في السماء؛ ثم أقبلت حتى دخلت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصت عليه القصة، فخطب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لست أرضي بنفسي لك، ولكن بضعي لك فزوجني من شئت، فزوجها زيداً، وأمر لها بثلاثين صاعاً، وقال: كلوا ولا تكيلوا، وكان معها عكة سمن هدية لرسول

(1/284)


الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لجارية لها أبلغي هذه العكة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولي: أم شريك تقرئك السلام وتقول: هذه عكة سمن أهديناها لك، فانطلقت بها، فأخذوها يفرغوها، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: علقوها ولا توكوها «1» ، فعلقوها في مكانها، فدخلت أم شريك فنظرت إليها مملوءة سمناً فقالت: يا فلانة أليس أمرتك أن تنطلقي بهذه العكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: قد والله انطلقت بها كما قلت ثم أقبلت بها أصوبها ما يقطر منها شيء، ولكنه قال: علقوها ولا توكوها، فعلقتها في مكانها، وقد أوكتها أم شريك حين راتها مملوءة، فأكلوا منها حتى فنيت، ثم كالوا الشعير فوجدوه ثلاثين صاعاً لم ينقص منه شيء.
__________
(1) أي لا تربطوا فمها.

(1/285)


إسلام أبي هريرة من دوس
نا يونس عن أبي خلدة خالد بن دينار عن أبي العالية قال: لما أسلم أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ممن أنت؟ فقال: من دوس، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على جبينه ثم نفضها، فقال: ما كنت أرى من دوس أحداً فيه خير.
نا يونس عن ابن إسحق قال: حدثني بعض أصحابي عن أبي هريرة قال: كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر، فتسميت في الإسلام عبد الرحمن، وإنما كناني «1» بأبي هريرة أني كنت أرعى غنما له فوجدت أولاد هرة وحشية فجعلتها في كمي فلما (144) أرحت عليه غنمه سمع أصواتهن في صفني «2» ، فقال: ما هذا يا عبد شمس؟ فقلت: أولاد هر وجدتها، قال: فأنت أبو هريرة فلزمتني بعد.
نا يونس قال: قال ابن إسحق: وكان وسيطاً في دوس حيث يحب أن يكون منهم.
نا يونس عن عبد الرحمن بن عبد الله عن هزان بن سعيد قال: أتيت بيت المقدس فلقيت بها علي بن عبد الله بن العباس فسلمت عليه، فقال لي: من أنت؟
قلت: رجل من أهل الرها «3» ، قال: مرحباً برجل من قوم أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بالرهاويين والدوسيين والداريين خيرا. فزعم عبد الرحمن أن هذه أسماء من قبائل العرب.
__________
(1) أي رسول الله صلى عليه وسلم- هنا وهناك خلاف شديد حول اسمه- انظر طبقات ابن سعد 4/ 325، طبقات خليفة بن خياط 1/ 252. الاصابه: 4/ 200، الاستيعاب 4/ 200.
(2) الصفن: القربة يكون فيها المتاع، وهي أيضا خريطة تكون للراعي فيها طعامه وزناده وما يحتاج إليه، وقد تكون مثل الدلو أو الركوة.
(3) مدينة أورفا حاليا في تركيه.

(1/286)


إسلام عدي بن حاتم
نا يونس عن عبد الأعلى بن أبي المساور القرشي عن عامر الشعبي عن عدي بن حاتم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة وما أعلم أحدا من العرب كان أشد بغضاً ولا كراهية له مني حتى لحقت بالروم، فلما بلغني ما يدعو إليه من الأخلاق الحسنة وما قد اجتمع له من الناس ارتحلت حتى أتيته، فوقفت عليه وعنده صهيب وسلمان وبلال، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فنظر إلي فقال: يا عدي بن حاتم أسلم تسلم، فقلت أخ أخ فأنخت، ثم جئت حتى ألصقت ركبتي بركبته فضرب على فخذي وقال يا عدي بن حاتم أسلم تسلم، فقلت: وما الاسلام؟
قال: تشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها، حلوها ومرها يا عدي بن حاتم لا تقوم الساعة حتى تفتح خزائن قيصر وكسرى يا عدي بن حاتم: لا تقوم الساعة حتى تأتي الظعيمة من الحيرة- ولم يكن يومئذ كوفة- فتطوف بهذه الكعبة بغير جوار، يا عدي بن حاتم لا تقوم الساعة حتى يحمل الرجل جراب المال فيطوف به، ولا يجد أحداً يقربه فيضرب به الأرض، فيقول: ليتك لم تكن لي، ليتك كنت تراباً.
نا يونس عن سعيد بن عبد الرحمن عن محمد بن سيرين عن أبي عبيدة بن حذيفة ابن اليمان، ولم أر سنه تزيد عليه، وكان يوم رأيته ابن أربعين سنة، عن رجل كان يسمى السمير أنه دخل على عدي بن حاتم فقال: إنه بلغني عنك حديث أحببت أن أكون أنا أسمعه منك: فقال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أشد الناس له كراهية، أو من أشد الناس، فلحقت بأقصى أرض العرب (145) من قبل الروم، وكرهت مكاني أشد من كراهتي الأمر الأول، فقلت، لآتين هذا الرجل فلئن كان صادقاً لا يخفى على، ولئن كان كاذباً لا يخفى على أو لا يضرني، شك محمد. فقدمت المدينة فاستشرفني الناس، فقالوا: عدي بن حاتم، فأتيت

(1/287)


رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عدي بن حاتم أسلم تسلم، فقلت: إن لي ديناً، فقال:
أنا أعلم بدينك منك، فقلت: ما يجعلك أعلم بديني مني؟ قال: أنا أعلم بدينك منك، فقلت: ما يجعلك أعلم بديني مني؟ قال: ألست ترأس قومك ألست تأخذ المرباع «1» ؟ فقلت: بلى، قال: فإن ذلك لا يحل لك في دينك، فكان ذلك وهناً في نفسي، فقال: يمنعك أن تسلم خصاصة من ترى، وإنك ترى الناس ألبوا «2» علينا مأخذاً- أويداً واحدة، شك محمد- فقلت: أجل فقال: هل أتيت الحيرة؟ فقلت: لا، وقد علت مكانها، فقال: توشك الظعينة أن تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار، وتوشك أن تفتح كنوز كسرى بن هرمز، فقلت: كنوز كسرى بن هرمز؟! فقال: كنوز كسرى بن هرمز، مرتين، ويوشك أن يخرج الرجل الصدقة من ماله فلا يجد من يقبلها، قال: فقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار، وقد كنت في أول جيش أغار على المدائن، وإيم الله لتكونن الثالثة، إنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نا يونس عن ابراهيم بن عبد الرحمن الشيباني عن محمد بن سيرين عن عدي بن حاتم قال: نا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تقوم الساعة حتى يفتح القصر الأبيض الذي بالمدائن، ولا تقوم الساعة حتى تسير الظعينة من الحجاز إلى العراق آمنة لا تخاف شيئاً، فقد رأيتهما جميعاً، ولا تقوم الساعة حتى يكون على الناس إمام يحثى المال حثياً.
نا يونس عن عنبسة بن الأزهر عن سعيد بن مسروق قال: كلم عدي بن حاتم عمر في شيء، فقال له عدي: يا أمير المؤمنين ألا تعرفني؟ قال عمر بلى آمنت اذ كفروا، وصدقت إذ كذبوا، فأعطيت إذ منعوا.