عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل و السير ط. القدسي ج / 1 ص -169-
ذكر خبر أهل نجران:
قال ابن
إسحاق ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك من
النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة فوجدوه في
المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من
قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من
مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما
أرادوا، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم1
وتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
القرآن، فلما سمعوه فاضت عينهم من الدمع، ثم
استجابوا له وآمنوا به وصدقوا وعرفوا منه ما
كان يوصف لهم في كتابهم من أمره فلما قاموا
عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش،
فقال لهم: خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم
من أهل دينكم ترتادون2 لهم لتأتوهم بخبر الرجل
فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم
وصدقتموه بما قال ما نعلم راكبا أحمق منكم أو
كما قالوا فقال لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم
لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه لم نأل من
أنفسنا خيرا. ويقال إن النفر من النصارى من
أهل نجران ويقال: فيهم نزلت:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ
يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ
قَالُوا آمَنَّا بِهِ} إلى قوله:
{لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}
وقال الزهري: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن
نزلن في النجاشي وأصحابه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الظاهرية زيادة "إلى الله".
2 في نسخة "ترادون" وفى نسخة أخرى "تردادون".
ج / 1 ص -171-
ذكر وفاة خديجة وأبي طالب:
روينا عن
الدولابي ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي ثنا زهير بن العلاء
ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: توفيت خديجة بمكة قبل الهجرة
بثلاث سنين وهي أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: وثنا أحمد
بن عبد الجبار قال: حدثني يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: ثم إن خديجة
بنت خويلد وأبا طالب ماتا في عام واحد فتتابعت على رسول الله صلى الله
عليه وسلم مصيبتان هلاك خديجة وأبي طالب وكانت خديجة وزيرة صدق على
الإسلام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكن إليها قال: وقال زياد
البكائي عن ابن إسحاق: إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد وكان
هلاكهما بعد عشر سنين مضين من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك
قبل مهاجره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين. وذكر ابن قتيبة
أن خديجة توفيت بعد أبي طالب بثلاثة أيام. وذكر البيهقي نحوه. وعن
الواقدي توفيت خديجة قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة وقيل غير ذلك فلما
هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما
لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر
على رأسه ترابا فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على
رأسه فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك" ويقول بين ذلك:
"ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب". قال: ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا
ج / 1 ص -172-
ثقله
قال بعضهم لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش
كلها فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا
فإنا والله ما نأمن أن ينتبزونا أمرنا فمشوا إلى أبي طالب وكلموه وهم
أشراف قومه عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وأبو
سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد
علمت وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك
فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه ليكف عنا ونكف عنه وليدعنا وديننا وندعه
ودينه، فبعث إليه أبو طالب فجاءه، فقال: يابن أخي هؤلاء أشراف قومك وقد
اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"نعم كلمة واحدة تعطونيها وتملكون بها"، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"أما والله
لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله
عز وجل:
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "{إِنَّكَ لا
تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}".
ورواه مسلم من حديث أبى هريرة أيضا وفيه لولا أن تعيرني قريش يقولون:
إنما حمله على ذلك الخرع1 لأقررت بها عينك. وفى الصحيح من حديث أبي
سعيد الخدري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده
عمه أبو طالب فقال:
"لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح2 من
النار". وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أهون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي الضعف. وفى الأصل "الخزع" وهو خطأ، وفى نسخة " الجزع" قال في
النهاية: قال ثعلب: إنما هو بالخاء والراء. وفى الاقتباس: واختاره
جماعة وصوبه القاضي عياض وغيره.
2 الضحضاح في الأصل مارق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين
فاستعاره للنار، وقيل الضحضاح هو ما قرب من القعر.
ج / 1 ص -173-
أهل النار
في النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه". وأخبرنا عبد الرحيم1 بقراءة والدي عليه أخبركم أبو علي حنبل بن
عبد الله بن الفرج قال: أنا أبو القاسم بن الحصين قال: أنا أبو علي بن
المذهب قال: أنا أبو بكر القطيعي قال: أنا عبد الله بن أحمد ثنا أبي
ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت ناجية بن كعب يحدث
عن علي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا طالب مات، فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم:
"اذهب فواره"
فقال: إنه مات مشركا قال:
"اذهب
فواره"، فلما واريته رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي:
"اغتسل".
وأخبرنا أبو الفضل بن الموصلي قال: أخبرنا أبو علي بن سعادة الرصافي
قال: أنا هبة الله بن محمد الشيباني قال: أنا الحسن بن علي التميمي أنا
أحمد بن جعفر بن حمدان قال: أنا عبد الله بن أحمد ثنا أبي ثنا محمد بن
جعفر ثنا شعبة عن يعلي بن عطاء عن وكيع بن عدس عن أبي رزين عمه قال:
قلت: يا رسول الله أين أمي؟ قال:
"أمك في النار"
قال: قلت: أين من مضى من أهلك؟ قال:
"أما ترضى أن تكون أمك مع أمي"،
قال عبد الله: قال أبي: الصواب حدس. وذكر بعض أهل العلم في الجمع بين
هذه الروايات ما حاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل راقيا في
المقامات السنية صاعدا في الدرجات العلية إلى أن قبض الله روحه الطاهرة
إليه وأزلفه بما خصه به لديه من الكرامة حين القدوم عليه فمن الجائز أن
تكون هذه درجة حصلت له صلى الله عليه وسلم بعد أن لم تكن وأن يكون
الإحياء والإيمان متأخرا عن تلك الأحاديث فلا تعارض. وقال السهيلي
شهادة العباس لأبي طالب لو أداها بعد ما أسلم كانت مقبولة لأن العدل
إذا قال: سمعت وقال من هو أعدل منه لم أسمع أخذ بقول من أثبت السماع
ولكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم. قلت: قد أسلم العباس بعد ذلك وسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الظاهرية "عبد الرحيم المزي".
ج / 1 ص -174-
عن حال
أبي طالب فيما أخبرنا عبد الرحيم بن يوسف بقراءة أبي عليه وقرأت على
أبي الهيجاء غازي بن أبي الفضل قال: أنا أبو حفص بن طبرزد قال: أنا ابن
الحسين قال: أنا أبو طالب بن غيلان قال: أنا أبو بكر الشافعي ثنا بشر
بن موسى ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عبد الملك بن عمير قال: سمعت عبد
الله بن الحارث بن نوفل قال: سمعت العباس يقول: قلت: يا رسول الله إن
أبا طالب كان يحفظك وينصرك فهل نفعه ذاك قال:
"نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح"1. صحيح الإسناد مشهور متفق عليه من حديث العباس في الصحيحين ولو
كانت هذه الشهادة عنده لأداها بعد إسلامه وعلم حال أبي طالب ولم يسأل،
والمعتبر حالة الأداء دون التحمل. وفيما ذكره السهيلي أن الحارث بن عبد
العزى أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة قدم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم مكة فأسلم وحسن إسلامه في خبر ذكره من طريق يونس بن
بكير عن ابن إسحاق عن أبيه عن رجال من بني سعد بن بكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الضحضاح مارق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعاره
للنار.
ج / 1 ص -175-
ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:
وذلك في
ليال بقين من شوال سنة عشر من النبوة قال ابن إسحاق: ولما هلك أبو طالب
ونالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تنال منه في
حياته خرج إلى الطائف وحده وقال ابن سعد ومعه زيد بن حارثة يلتمس
النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به
من الله فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف وهم يومئذ سادة
ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير
بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف وعند أحدهم امرأة من قريش من
بني جمح فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمهم ما جاءهم له
من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالف من قومه فقال له أحدهم
هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك وقال الآخر: أما وجد الله أحدا
يرسله غيرك وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله
كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله
ما ينبغي1 أن أكلمك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد
يئس من خير ثقيف وقد قال لهم فيما ذكر لي:
"إذ فعلتم
ما فعلتم فاكتموا علي"، وكره
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فلم يفعلوا أغروا به
سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس؛ قال موسى بن
عقبة قعدوا له صفين على طريقه فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين صفيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما2 بالحجارة حتى
أدموا رجليه. زاد سليمان التيمي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أذلقته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الظاهرية "ما ينبغي لي أن أكلمك".
2 الرضخ هو الدق والكسر.
ج / 1 ص -176-
الحجارة1 قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم
يضحكون وقال ابن سعد: وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه
شجاجا قال ابن عقبة فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط من
حوائطهم فاستظل في ظل حبلة2 يقولون بل أبو الهيثم بن التيهان، وقد تقدم
أنه البراء بن معرور. فلما انتهت البيعة صرخ الشيطان من رأس العقبة يا
أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة معه قد أجمعوا على حربكم؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هذا أزب
العقبة3
أتسمع أي
عدو الله أما والله لأفرغن لك"،
فاستأذنه العباس بن عبادة في القتال فقال:
"لم نؤمر بذلك" وتطلب
المشركون خبرهم فلم يعرفوه ثم شعروا به حين انصرفوا فاقتفوا آثارهم فلم
يدركوا إلا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو فأما سعد فكان ممن عذب في
الله وأما المنذر فأعجزهم وأفلت. ونمى خبر سعد بن عبادة إلى جبير بن
مطعم والحارث بن حرب بن أمية على يدي أبي البختري بن هشام فأنفذه الله
بهما. وقال ضرار بن الخطاب الفهري:
تداركت سعدا عنوة فأخذته
وكان شفاء لو تداركت منذرا
ولو نلته طلت هناك جراحة
وكان حريا أن يهان ويهدرا
فأجابها حسان بأبيات
ذكرها ابن إسحاق. فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام وكان عمرو بن
الجموح ممن بقي على شركه وكان له صنم يعظمه فكان فتيان ممن أسلم من بني
سلمة يدلجون بالليل على صنمه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة منكسا رأسه
في عذر الناس فإذا أصبح عمرو قال ويحكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي بلغت منه الجهد حتى قلق.
2 الحائط ههنا البستان من النخيل إذا كان عليه جدار، والحبلة هي الأصل
أو القضيب من شجر الأعناب.
3 "الجباجب" مكان سيأتي الكلام عليه، و"أزب العقبة" اسم شيطان.
ج / 1 ص -177-
ثم
يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه فإذا أمسى عدوا عليه ففعلوا
به مثل ذلك إلى أن غسله مرة وطهره ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له
ما أعلم من يصنع بك ما أرى فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك فلما
أمسى ونام عمرو غدوا عليه وأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا
فقرنوه به بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر1 من عذر
الناس وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه فخرج يتبعه حتى وجده في
تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت فلما رآه أبصر شأنه وكلمه من أسلم من
قومه فأسلم -رضي الله عنه- وحسن إسلامه2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي غائط.
2 هنا في هامش الأصل: بلغ مقابلة لله الحمد. |