البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ست وستين
ففيها وثب المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب بالكوفة ليأخذوا ثأر الحسين بن علي فيما يزعم، وأخرج عنها عاملها عبد الله بن مطيع، وكان سبب ذلك أنه لما رجع أصحاب سليمان بن
__________
(1) في الطبري 7 / 91 والكامل 4 / 208: الحريش بن هلال القريعي.
(*)

(8/289)


صرد مغلوبين إلى الكوفة وجدوا المختار بن أبي عبيد مسجونا فكتب إليهم يعزيهم في سليمان بن صرد ويقول: أنا عوضه وأنا أقتل قتلة الحسين.
فكتب إليه رفاعة بن شداد وهو الذي رجع بمن بقي من جيش التوابين نحن على ما تحب، فشرع المختار يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، وقال لهم فيما كتب به إليهم خفية: أبشروا فإني لو قد خرجت إليهم جردت فيما بين
المشرق والمغرب من أعدائكم السيف فجعلتهم باذن الله ركاما، وقتلهم أفرادا وتوأما، فرحب الله بمن قارب منهم واهتدى، ولا يبعد الله إلا من أبى وعصى، لما وصلهم الكتاب قرأوه سرا وردوا إليه: إنا كما تحب، فمتى أحببت أخرجناك من محبسك، فكره أن يخرجوه من مكانه على وجه القهر لنواب الكوفة، فتلطف فكتب إلى زوج أخته صفية، وكانت امرأة صالحة، وزوجها عبد الله بن عمر بن الخطاب، فكتب إليه أن يشفع في خروجه عند نائبي الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة، فكتب ابن عمر إليهما يشفع عندهما فيه، فلم يمكنهما رده، وكان فيما كتب إليهما ابن عمر: قد علمتما ما بيني وبينكما من الود، وما بيني وبين المختار من القرابة والصهر، وأنا أقسم عليكما لما خليتما سبيله والسلام.
فاستدعيا به فضمنه جماعة من أصحابه، واستخلفه عبد الله بن يزيد إن هو بغى للمسلمين غائلة فعليه ألف بدنة ينحرها تجاه الكعبة، وكل مملوك له عبد وأمة حر، فالتزم لهما بذلك، ولزم منزله، وجعل يقول: قاتلهما الله، أما حلفاني بالله، فإني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير، وأما إهدائي ألف بدنة فيسير، وأما عتقي مماليكي فوددت أنه قد استتم لي هذا الامر ولا أملك مملوكا واحدا، واجتمعت الشيعة عليه وكثر أصحابه وبايعوه في السر.
وكان الذي يأخذ البيعة له ويحرض الناس عليه خمسة، وهم السائب بن مالك الاشعري، ويزيد بن أنس، وأحمد بن شميط، ورفاعة بن شداد، وعبد الله بن شداد الجشمي.
ولم يزل أمره يقوى ويشتد ويستفحل ويرتفع، حتى عزل عبد الله بن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة، وبعث عبد الله بن مطيع نائبها عليها، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة نائبا على البصرة، فلما دخل عبد الله بن مطيع المخزومي إلى الكوفة في رمضان (1) سنة خمس وستين، خطب الناس وقال في خطبته: إن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير أمرني أن أسير في فيئكم بسيرة عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان (2).
فقام إليه السائب بن مالك الشيعي (3) فقال: لا نرضى إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا، ولا نريد
__________
(1) في ابن الاعثم 6 / 87: ليلة الخميس لثلاث بقين من الشهر (من رمضان) وفي الطبري 7 / 95 والكامل
4 / 212، يوم الخميس لخمس بقين من رمضان.
(2) انظر خطبته في الطبري والكامل، وذكر خطبته ابن الاعثم 6 / 87 باختلاف في أولها.
(3) في الطبري والكامل وابن الاعثم: الاشعري.
(*)

(8/290)


سيرة عثمان - وتكلم فيه - ولا سيرة عمر وإن كان لا يريد للناس إلا خيرا، وصدقه على ما قال بعض أمراء الشيعة، فسكت الامير وقال: إني سأسير فيكم بما تحبون من ذلك، وجاء صاحب الشرطة وهو إياس بن مضارب البجلي (1) إلى ابن مطيع فقال: إن هذا الذي يرد عليك من رؤوس أصحاب المختار، ولست آمن من المختار، فابعث إليه فاردده إلى السجن فإن عيوني قد أخبروني أن أمره قد استجمع له، وكأنك به وقد وثب في المصر.
فبعث إليه عبد الله بن مطيع زائدة بن قدامة وأميرا آخر معه (2)، فدخلا على المختار فقالا له: أجب الامير.
فدعا بثيابه وأمر باسراج دابته، وتهيأ للذهاب معهما، فقرأ زائدة بن قدامة: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) * الآية [ الانفال: 30 ].
فألقى المختار نفسه وأمر بقطيفة أن تلقى عليه، وأظهر أنه مريض، وقال: أخبرا الامير بحالي، فرجعا إلى ابن مطيع فاعتذرا عنه، فصدقهما ولها عنه، فلما كان شهر المحرم من هذه السنة عزم المختار على الخروج لطلب الاخذ بثأر الحسين فيما يزعم، فلما صمم على ذلك اجتمعت عليه الشيعة وثبطوه عن الخروج الآن إلى وقت آخر، ثم أنفذوا طائفة منهم إلى محمد بن الحنفية يسألونه عن أمر المختار وما دعا إليه (3)، فلما اجتمعوا به كان ملخص ما قال لهم: إنا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه، وقد كان المختار بلغه مخرجهم إلى محمد بن الحنفية، فكره ذلك وخشي أن يكذبه فيما أخبر به عنه، فإنه لم يكن باذن محمد بن الحنفية، وهم بالخروج قبل رجوع أولئك، وجعل يسجع لهم سجعا من سجع الكهان بذلك، ثم كان الامر على ما سجع به، فلما رجعوا أخبروه بما قال ابن الحنفية، فعند ذلك قوي أمر الشيعة على الخروج مع المختار بن أبي عبيد.
وقد روى أبو مخنف أن أمراء الشيعة قالوا للمختار: اعلم أن جميع أمراء الكوفة مع
عبد الله بن مطيع وهم إلب علينا، وإنه إن بايعك إبراهيم بن الاشتر النخعي وحده أغنانا عن جميع من سواه.
فبعث إليه المختار جماعة (4) يدعونه إلى الدخول معهم في الاخذ بثأر الحسين، وذكروه سابقة أبيه مع علي رضي الله عنه، فقال: قد أجبتكم إلى ما سألتم، على أن أكون أنا ولي أمركم، فقالوا: إن هذا لا يمكن، لان المهدي قد بعث لنا المختار وزيرا له وداعيا إليه، فسكت
__________
(1) في ابن الاعثم: العجلي.
(2) في الطبري والكامل: حسين بن عبد الله البرسمي من همدان، وفي ابن الاعثم: الحسين بن عبد الله الهمداني.
(3) ذكر الطبري وابن الاثير: أن عبد الرحمن بن شريح وسعيد بن منقذ الثوري وسعر بن أبي سعر الحنفي والاسود بن جراد الكندي وقدامة بن مالك الجشمي نهضوا إلى ابن الحنفية يسألونه خبر المختار (وانظر ابن الاعثم 6 / 91).
(4) في الطبري 7 / 98: يزيد بن أنس وعامر الشعبي وأبوه شراحيل وانظر الكامل 4 / 215، وفي ابن الاعثم 6 / 94: خرج جماعة من أهل الكوفة من أوجههم وفيهم يومئذ أبو عثمان النهدي وعامر الشعبي ومن أشبههما.
(*)

(8/291)


عنهم إبراهيم بن الاشتر فرجعوا إلى المختار فأخبروه، فمكث ثلاثا ثم خرج في جماعة من رؤس أصحابه إليه، فدخل على ابن الاشتر فقام إليه واحترمه وأكرمه وجلس إليه، فدعاه إلى الدخول معهم، وأخرج له كتابا على لسان ابن الحنفية يدعوه إلى الدخول مع أصحابه من الشيعة فيما قاموا فيه من نصرة آل البيت النبي صلى الله عليه وسلم، والاخذ بثأرهم.
فقال ابن الاشتر: إنه قد جائتني كتب محمد بن الحنفية بغير هذا النظام، فقال المختار: إن هذا زمان وهذا زمان، فقال ابن الاشتر: فمن يشهد أن هذا كتابه ؟ فتقدم جماعة من أصحاب المختار فشهدوا بذلك، فقام ابن الاشتر من مجلسه وأجلس المختار فيه وبايعه، ودعا لهم بفاكهة وشراب من عسل.
قال الشعبي: وكنت حاضرا أنا وأبي أمر إبراهيم بن الاشتر.
ذلك المجلس، فلما انصرف المختار قال إبراهيم بن الاشتر: يا شعبي ما ترى فيما شهد به هؤلاء ؟ فقلت: إنهم قراه وأمراء ووجوه الناس، ولا أراهم يشهدون إلا بما يعلمون، قال: وكتمته ما في نفسي من اتهامهم، ولكني كنت أحب أن يخرجوا للاخذ بثأر
الحسين، وكنت على رأي القوم.
ثم جعل إبراهيم يختلف إلى المختار في منزله هو ومن أطاعه من قومه، ثم اتفق رأي الشيعة على أن يكون خروجهم ليلة الخمس لاربع عشرة ليلة خلت [ من ربيع الاول ] (1) من هذه السنة - سنة ست وستين.
وقد بلغ ابن مطيع أمر القوم وما اشتوروا عليه، فبعث الشرط في كل جانب من جوانب الكوفة وألزم كل أمير أن يحفظ ناحيته من أن يخرج منها أحد، فلما كان ليلة الثلاثاء خرج إبراهيم بن الاشتر قاصدا إلى دار المختار في مائة رجل من قومه، وعليهم الدروع تحت الاقبية، فلقيه إياس بن مضارب (2) فقال له: أين تريد يا بن الاشتر في هذه الساعة ؟ إن أمرك لمريب، فوالله لا أدعك حتى أحضرك إلى الامير فيرى فيك رأيه، فتناول ابن الاشتر رمحا من يد رجل فطعنه في ثغرة نحره فسقط، وأمر رجلا فاحتز رأسه، وذهب به إلى المختار فألقاه بين يديه، فقال له المختار: بشرك الله بخير، فهذا طائر صالح.
ثم طلب إبراهيم من المختار أن يخرج في هذه الليلة، فأمر المختار بالنار أن ترفع وأن ينادي شعار أصحابه: يا منصور أمت، يا ثارات الحسين.
ثم نهض المختار فجعل يلبس درعه وسلاحه وهو يقول: قد علمت بيضاء حسناء الطلل * واضحة الخدين عجزاء الكفل * أني غداة الروع مقدام بطل * وخرج بين يديه إبراهيم بن الاشتر فجعل يتقصد الامراء الموكلين بنواحي البلد فيطردهم عن أماكنهم واحدا واحدا.
وينادي شعار المختار، وبعث المختار أبا عثمان النهدي فنادى بشعار المختار، يا
__________
(1) ما بين معكوفتين سقط من الاصل واستدرك من الطبري 6 / 100 والكامل 4 / 216، وفي ابن الاعثم 6 / 98: ربيع الآخر.
(2) في الاخبار الطوال ص 290: إياس بن نضار العجلي.
(*)

(8/292)


ثارت الحسين.
فاجتمع الناس إليه من ههنا وههنا، وجاء شبث بن ربعي فاقتتل هو والمختار عند داره وحصره حتى جاء ابن الاشتر فطرده عنه، فرجع شبث إلى ابن مطيع وأشار عليه بأن يجمع الامراء
إليه، وأن ينهض بنفسه، فإن أمر المختار قد قوي واستفحل، وجاءت الشيعة من كل فج عميق إلى المختار، فاجتمع إليه في أثناء الليل قريب من أربعة آلاف، فأصبح وقد عبى جيشه وصلى بهم الصبح، فقرأ فيها: * (والنازعات غرقا) * و * (عبس وتولى) * في الثانية قال بعض من سمعه: فما سمعت إماما أفصح لهجة منه، وقد جهز ابن مطيع جيشه (1) ثلاثة آلاف عليهم شبث بن ربعي، وأربعة آلاف أخرى مع راشد بن إياس بن مضارب، فوجه المختار ابن الاشتر في ستمائة فارس وستمائة راجل إلى راشد بن إياس، وبعث نعيم بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل إلى شبث بن ربعي، فأما ابن الاشتر فإنه هزم قرنه راشد بن إياس وقتله وأرسل إلى المختار يبشره، وأما نعيم بن هبيرة فإنه لقي شبث بن ربعي فهزمه شبث وقتله وجاء فأحاط بالمختار وحصره.
وأقبل إبراهيم بن الاشتر نحوه فاعترض له حسان بن فائد بن العبسي في نحو من ألفي فارس من جهة ابن مطيع، فاقتتلوا ساعة.
فهزمه إبراهيم، ثم أقبل نحو المختار فوجد شبث بن ربعي قد حصر المختار وجيشه، فما زال حتى طردهم فكروا راجعين، وخلص إبراهيم إلى المختار، وارتحلوا من مكانهم ذلك إلى غيره في ظاهر الكوفة، فقال له إبراهيم بن الاشتر اعمد بنا إلى قصر الامارة فليس دونه أحد يرد عنه، فوضعوا ما معهم من الاثقال، وأجلسوا هنالك ضعفة المشايخ والرجال، واستخلف على من هنالك أبا عثمان النهدي، وبعث بين يديه ابن الاشتر، وعبأ المختار جيشه كما كان، وسار نحو القصر، فبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل، فبعث إليه المختار يزيد بن أنس وسار هو وابن الاشتر أمامه حتى دخل الكوفة من باب الكناسة، وأرسل ابن مطيع شمر بن ذي الجوشن الذي قتل الحسين في ألفين آخرين، فبعث إليه المختار سعد بن منقذ الهمداني، وسار المختار حتى انتهى إلى سكة شبث.
وإذا نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في خمسة آلاف وخرج ابن مطيع من القصر في الناس، واستخلف عليه شبث بن ربعي، فتقدم ابن الاشتر إلى الجيش الذي مع ابن مساحق، فكان بينهم قتال شديد، قتل فيه رفاعة بن شداد أمير جيش التوابين الذين قدم بهم، وعبد الله بن سعد وجماعة غيرهم، ثم انتصر عليهم ابن الاشتر فهزمهم، وأخذ بلجام دابة ابن مساحق فمت إليه بالقرابة،
__________
(1) في ابن الاعثم 6 / 106: " وجعل عبد الله بن مطيع يوجه إليه بالكراديس كردوسا بعد كردوس، فأول كردوس زحف إلى المختار شبث بن ربعي الرياحي في أربعة آلاف، وراشد بن إياس بن مضارب العجلي في ثلاثة آلاف وحجار بن أبجر العجلي في ثلاثة آلاف، والغضبان بن القبثري [ وهو من بني همام بن مرة مشهور، ولم نجده لا في الطبري ولا في ابن الاثير ] في ثلاثة آلاف، والشمر بن ذي الجوشن في ثلاثة آلاف، وعكرمة بن ربعي في ألف، وشداد بن المنذر في ألف وسويد بن عبد الرحمن في ألف قال: فزحفت الخيل نحو المختار في عشرين ألف فارس أو يزيدون ".
(*)

(8/293)


فأطلقه، وكان لا ينساها بعد لابن الاشتر.
ثم تقدم المختار بجيشه إلى الكناسة وحصروا ابن مطيع بقصره ثلاثا، ومعه أشراف الناس سوى عمرو بن حريث فانه لزم داره، فلما ضاق الحال على ابن مطيع وأصحابه استشارهم فأشار عليه شبث بن ربعي أن يأخذ له ولهم من المختار أمانا، فقال: ما كنت لافعل هذا (1) وأمير المؤمنين مطاع بالحجاز وبالبصرة، فقال له: فإن رأيت أن تذهب بنفسك مختفيا حتى تلحق بصاحبك فتخبره بما كان من الامر وبما كان منا في نصره وإقامته دولته، فلما كان الليل خرج ابن مطيع مختفيا حتى دخل دار أبي موسى الاشعري، فلما أصبح الناس أخذ الامراء إليهم أمانا من ابن الاشتر فأمنهم، فخرجوا من القصر وجاؤوا إلى المختار فبايعوه، ثم دخل المختار إلى القصر فبات فيه، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر، فخرج المختار إلى المسجد فصعد المنبر وخطب الناس خطبة بليغة ثم دعا الناس إلى البيعة وقال: فوالذي جعل السماء سقفا مكفوفا والارض فجاجا سبلا، ما بايعتم بعد بيعة علي أهدى منها.
ثم نزل فدخل الناس يبايعونه على كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بثأر أهل البيت (2) وجاء رجل إلى المختار فأخبره أن ابن مطيع في دار أبي موسى، فأراه أنه لا يسمع قوله، فكرر ذلك ثلاثا فسكت الرجل، فلما كان الليل بعث المختار إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم (3).
وقال له: اذهب فقد أخذت بمكانك - وكان له صديقا قبل ذلك - فذهب ابن مطيع إلى البصرة وكره أن يرجع إلى ابن الزبير وهو مغلوب، وشرع المختار يتحبب إلى الناس بحسن السيرة، ووجد في بيت المال تسعة
آلاف ألف، فأعطى الجيش الذي حضروا معه القتال نفقات كثيرة، واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل اليشكري (4)، وقرب أشراف الناس فكانوا جلساءه، فشق ذلك على الموالي الذين قاموا بنصره، وقالوا: لابي عمرة كيسان مولى غزينة - وكان على حرسه - قدم والله أبو إسحاق العرب وتركنا، فأنهى ذلك أبو عمرة إليه، فقال: بل هم مني وأنا منهم، ثم قال: * (إنا من المجرمين منتقمون) * [ السجدة: 22 ] فقال لهم أبو عمرة: أبشروا فإنه سيدنيكم ويقربك.
فأعجبهم ذلك وسكتوا.
ثم إن المختار بعث الامراء إلى النواحي والبلدان والرساتيق، من أرض العراق وخراسان، وعقد الالوية والرايات، وقرر الامارة والولايات (5)، وجعل يجلس للناس غدوة وعشية يحكم
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 292: سأل ابن مطيع الامامة لنفسه فأجابه المختار إلى ذلك، فأمنه.
(2) زيد في الطبري 7 / 108 والكامل 4 / 226: وجهاد المحلين والدفع عن الضعفاء وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا والوفاء ببيعتكم لا نقيلكم ولا نستقبلكم.
(وانظر الفتوح لابن الاعثم 6 / 113 - 114).
(3) في ابن الاعثم: عشرة آلاف درهم.
(4) في الطبري والكامل: الشاكري.
(5) في الطبري: 7 / 109: أول رجل عقد له المختار راية عبد الله بن الحارث أخو الاشتر على أرمينية وبعث محمد بن عمير بن عطارد على آذربيجان وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث اسحاق بن مسعود على = (*)

(8/294)


بينهم، فلما طال ذلك عليه استقضى شريحا فتكلم في شريح طائفة من الشيعة، وقالوا: إنه شهد حجر بن عدي، وإنه لم يبلغ عن هانئ بن عروة كما أرسله به، وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء.
فلما بلغ شريحا ذلك تمارض ولزم بيته، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم عزله وجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي قاضيا.
فصل ثم شرع المختار يتتبع قتلة الحسين من شريف ووضيع فيقتله، وكان سبب ذلك أن
عبيد الله بن زياد كان قد جهزه مروان من دمشق ليدخل الكوفة، فإن ظفر بها فليبحها ثلاثة أيام، فسار ابن زياد قاصدا الكوفة، فلقي جيش التوابين فكان من أمرهم ما تقدم.
ثم سار من عين وردة حتى انتهى إلى الجزيرة فوجد بها قيس غيلان، وهم من أنصار ابن الزبير، وقد كان مروان أصاب منهم قتلى كثيرة يوم مرج راهط، فهم إلب عليه، وعلى ابنه عبد الملك من بعده، فتعوق عن المسير سنة وهو في حرب قيس غيلان وبالجزيرة، ثم وصل إلى الموصل فانحاز نائبها (1) عنه إلى تكريت، وكتب إلى المختار يعلمه بذلك فندب المختار يزيد بن أنس في ثلاثة آلاف اختارها، وقال له: إني سأمدك بالرجال بعد الرجال، فقال له: لا تمدني إلا بالدعاء.
وخرج معه المختار إلى ظاهر الكوفة فودعه ودعا له وقال له: ليكن خبرك في كل يوم عندي، وإذ لقيت عدوك فناجزك فناجزه، ولا تؤخر فرصة.
ولما بلغ مخرجهم ابن زياد (2) جهز بين يديه سريتين إحداهما مع ربيعة بن مخارق ثلاثة آلاف، والاخرى مع عبد الله بن حملة (3) ثلاثة آلاف، وقال: أيكم سبق فهو الامير، وإن سبقتما معا فالامير عليكم أسنكما.
فسبق ربيعة بن مخارق إلى يزيد بن أنس فالتقيا في طرف أرض الموصل مما يلي الكوفة، فتواقفا هنالك، ويزيد بن أنس مريض مدنف، وهو مع ذلك يحرض قومه على الجهاد ويدور على الارباع وهو محمول مضني وقال للناس: إن هلكت فالامير على
__________
= المدائن وأرض جوخى وبعث قدامة بن أبي عيسى بن ربيعة النصري على بهقباذ الاعلى، وبعث محمد بن كعب بن قرظة على بهبقباذ الاوسط، وبعث حبيب بن منقذ الثوري على بهقباذ الاسفل، وبعث سعد بن حذيفة بن حلوان على حلوان.
وانظر ابن الاثير 4 / 227 وانظر الاسماء باختلاف في الاخبار الطوال (ص 292).
(1) وهو عبد الرحمن بن سعيد بن قيس (الطبري - الكامل).
(2) في ابن الاعثم 6 / 139 والاخبار الطوال ص 293: ان عبد الملك بن مروان دعا بابن زياد وضم إليه ثمانين وكلفه بمقاتلة المختار ومصعب بن الزبير ثم يسير إلى عبد الله بن الزبير بالحجاز وقال له: أنت تعلم أن أبي مروان كان قد أمرك بالمسير إلى العراق على أنك تأتي الكوفة فتقتل أهلها وتنهبها ثلاثا ثم أن الموت عاجله، والآن فإني وليتك...(3) في ابن الاثير: عبد الله بن جملة الخثعمي.
(*)

(8/295)


الناس (1) عبد الله بن ضمرة الفزاري، وهو رأس الميمنة، وإن هلك فمسعر (2) بن أبي مسعر رأس الميسرة، وكان ورقاء (3) بن خالد الاسدي على الخيل.
وهو وهؤلاء الثلاثة أمراء الارباع، وكان ذلك في يوم عرفة من سنة ست وستين عند إضاءة الصبح، فاقتتلوا هم والشاميون قتالا شديدا، واضطربت كل من الميمنتين والميسرتين، ثم حمل ورقاء على الخيل فهمزها وفر الشاميون وقتل أميرهم ربيعة بن مخارق، واحتاز جيش المختار ما في معسكر الشاميين، ورجع فرارهم فلقوا الامير الآخر عبد الله بن حملة، فقال: ما خبركم ؟ فأخبروه فرجع بهم وسار بهم نحو يزيد بن أنس فانتهى إليهم عشاء، فبات الناس متحاجزين، فلما أصبحوا تواقفوا على تعبئتهم، وذلك يوم الاضحى من سنة ست وستين، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم جيش المختار جيش الشاميين أيضا، وقتلوا أميرهم عبد الله بن حملة واحتووا على ما في معسكرهم، وأسروا منهم ثلاثمائة أسير، فجاؤوا بهم إلى يزيد بن أنس وهو على آخر رمق، فأمر بضرب أعناقهم.
ومات يزيد بن أنس من يومه ذلك وصلى عليه خليفته ورقاء بن عامر (3) ودفنه، وسقط في أيدي أصحابه وجعلوا يتسللون راجعين إلى الكوفة، فقال لهم ورقاء يا قوم ماذا ترون ؟ إنه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل في ثمانين ألفا من الشام، ولا أرى لكم بهم طاقة، وقد هلك أميرنا، وتفرق عنا طائفة من الجيش من أصحابنا فلو انصرفنا راجعين إلى بلادنا ونظهر أنا إنما انصرفنا حزنا منا على أميرنا لكان خيرا لنا من أن نلقاهم فيهزموننا ونرجع مغلوبين، فاتفق رأي الامراء على ذلك، فرجعوا إلى الكوفة.
فلما بلغ خبرهم أهل الكوفة، وأن يزيد بن أنس قد هلك، أرجف أهل الكوفة بالمختار وقالوا قتل يزيد بن أنس في المعركة وانهزم جيشه، وعما قليل يقدم عليكم ابن زياد فيستأصلكم ويشتف خضراكم، ثم تمالاوا على الخروج على المختار وقالوا: هو كذاب، واتفقوا على حربه وقتاله وإخراجه من بين أظهرهم، واعتقدوا أنه كذاب، وقالوا: قد قدم موالينا على أشرافنا، وزعم أن ابن الحنفية قد أمره بالاخذ بثأر الحسين وهو لم يأمره بشئ، وإما هو متقول
عليه، وانتظروا بخروجهم عليه أن يخرج من الكوفة إبراهيم بن الاشتر فإنه قد عينه المختار أن يخرج في سبعة آلاف للقاء ابن زياد، فلما خرج ابن الاشتر اجتمع أشراف الناس ممن كان في جيش قتلة الحسين وغيرهم في دار شبث بن ربعي وأجمعوا أمرهم على قتال المختار، ثم وثبوا فركبت كل قبيلة مع أميرها في ناحية من نواحي الكوفة، وقصدوا قصر الامارة، وبعث المختار عمرو بن ثوبة (4) بريدا إلى إبراهيم بن الاشتر ليرجع إليه سريعا وبعث المختار إلى أولئك يقول لهم: ماذا
__________
(1) في الطبري 7 / 114: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الاسدي فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة.
(وانظر أيضا الفتوح 6 / 143).
(2) في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم: سعر بن أبي سعر.
(3) في الطبري وابن الاثير: ورقاء بن عازب الاسدي.
(4) في الطبري 7 / 117 وابن الاعثم 6 / 148: توبة.
(*)

(8/296)


تنقمون ؟ فإني أجيبكم إلى جميع ما تطلبون، وإنما يريد أن يثبطهم عن مناهضته حتى يقدم إبراهيم بن الاشتر، وقال: إن كنتم لا تصدقونني في أمر محمد بن الحنفية فابعثوا من جهتكم وأبعث من جهتي من يسأله عن ذلك، ولم يزل يطاولهم حتى قدم ابن الاشتر بعد ثلاث، فانقسم هو والناس فرقتين، فتكفل المختار بأهل اليمن، وتكفل ابن الاشتر بمضر وعليهم شبث بن ربعي، وكان ذلك بإشارة المختار، حتى لا يتولى ابن الاشتر بقتال قومه من أهل اليمن فيحنو عليهم وكان المختار شديدا عليهم.
ثم اقتتل الناس في نواحي الكوفة قتال عظيما وكثرت القتلى بينهم من الفريقين، وجرت فصل وأحوال حربية يطول استقصاؤها، وقتل جماعة من الاشراف، منهم عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الكندي، وسبعمائة وثمانين رجلا من قومه (1)، وقتل من مضر بضعة عشر رجلا، ويعرف هذا اليوم بجبانة السبيع، وكان ذلك يوم الاربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، ثم كانت النصرة للمختار عليهم، وأسر منهم خمسمائة أسير، فعرضوا عليه فقال: أنظروا من كان
منهم شهد مقتل الحسين فاقتلوه، فقتل منهم مائتان وأربعون رجلا (2)، وقتل أصحابه منهم من كان يؤذيهم ويسئ إليهم بغير أمر المختار، ثم أطلق الباقين، وهرب عمرو بن الحجاج الزبيدي، وكان ممن شهد قتل الحسين فلا يدري أين ذهب من الارض.
مقتل شمر بن ذي الجوشن أمير السرية التي قتلت حسينا وهرب أشراف الكوفة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير، وكان ممن هرب لقصده شمر بن ذي الجوشن قبحه الله، فبعث المختار في أثره غلاما له يقال له زرنب (3)، فلما دنا منه قال شمر لاصحابه: تقدموا وذروني وراءكم بصفة أنكم قد هربتم وتركتموني حتى يطمع في هذا العلج، فساقوا وتأخر شمر فأدركه زرنب فعطف عليه شمر فدق ظهره فقتله، وسار شمر وتركه، وكتب كتابا إلى مصعب بن الزبير وهو بالبصرة ينذره بقدومه عليه، ووفادته إليه، وكان كل من فر من هذه الوقعة يهرب إلى مصعب بالبصرة، وبعث شمر الكتاب مع علج من علوج قرية قد نزل عندها يقال لها الكلبانية (4) عند نهر إلى جانب تل هناك، فذهب ذلك العلج فلقيه علج آخر فقال
__________
(1) في ابن الاعثم 6 / 151: فحصر من كان قتل من أصحاب المختار فكانوا مائة وخمسة وثلاثين رجلا، وأحصي من قتل من الخارجين عليه فكانوا ستمائة وأربعين رجلا، فذلك سبعمائة وخمسة وسبعون رجلا.
(2) في الطبري وابن الاثير: مائتان وثمانية وأربعين رجلا.
(3) في الطبري 7 / 121: زربيا، وفي ابن الاثير 4 / 236 زربى، وفي ابن الاعثم 6 / 155: رزين وفي تهذيب ابن عساكر 6 / 339: زريق.
(4) في ابن الاثير والطبري: الكلتانية، وانظر ابن الاعثم ومعجم البلدان.
(*)

(8/297)


له: إلى أين تذهب ؟ قال: إلى مصعب.
قال: ممن ؟ قال: من شمر، فقال: اذهب معي إلى سيدي، وإذا سيده أبو عمرة أمير حرس المختار، وهو (1) قد ركب في طلب شمر، فدله العلج على مكانه فقصده أبو عمرة، وقد أشار أصحاب شمر عليه أن يتحول من مكانه ذلك، فقال
لهم: هذا كله فرق من الكذاب، والله لا أرتحل من ههنا إلى ثلاثة أيام حتى أملا قلوبهم رعبا فلما كان الليل كابسهم أبو عمرة في الخيل فأعجلهم أن يركبوا أو يلبسوا أسلحتهم، وثار إليهم شمر بن ذي الحوشن فطاعنهم برمحه وهو عريان ثم دخل خيمته فاستخرج منها سيفا وهو يقول: نبهتم ليث عرين باسلا (2) * جهما محياه يدق الكاهلا لم ير يوما عن عدو ناكلا * إلا أكر مقاتلا أو قاتلا (3) يزعجهم (4) ضربا ويروي العاملا ثم ما زال يناضل عن نفسه حتى قتل، فلما سمع أصحابه وهم منهزمون صوت التكبير وقول أصحاب المختار الله أكبر قتل الخبيث عرفوا أنه قد قتل قبحه الله.
قال أبو مخنف: عن يونس بن أبي إسحاق قال: ولما خرج المختار من جبانة السبيع وأقبل إلى القصر - يعني منصرفه من القتال - ناداه سراقة بن مرداس بأعلا صوته وكان في الاسرى.
امنن علي اليوم يا خير معد * وخير من حل بشحر والجند وخير من لبى وصام وسجد (5) قال: فبعث إلى السجن فاعتقله ليلة ثم أطلقه من الغد، فأقبل إلى المختار وهو يقول: ألا أخبر (6) أبا إسحاق أنا * نزونا نزوة كانت علينا خرجنا لا نرى الضعفاء شيئا * وكان خروجنا بطرا وشينا (7)
__________
(1) في ابن الاعثم 6 / 156: دعا برجل يقال له عبد الرحمن بن عبيد الهمداني في عشرة رجال.
(2) في ابن الاعثم: تيمموا ليثا هزبرا باسلا.
(3) في ابن الاعثم: لم يك...إلا كذا مقاتلا أو قاتلا وفي الطبري وابن الاثير: إلا كذا مقاتلا أو قاتلا.
وزاد شطرا آخر.
(4) في الطبري وابن الاثير وابن عساكر يبرحهم، وفي ابن الاعثم، يمنحكم طعنا وموتا عاجلا.
(5) في الطبري 7 / 122: وخير من حي ولبى وسجد، وفي ابن الاثير 4 / 238: من لبى حيا وسجد.
وفي ابن الاعثم 6 / 151:
وخير من حل بقوم ووفد * وخير من لبى لجبار صمد (6) في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم: ألا أبلغ.
(7) في ابن الاعثم:...لا نرى الابطال...وحينا (كما في الطبري وابن الاثير).
(*)

(8/298)


نراهم (1) في مصافهم (2) قليلا * وهم مثل الربا (3) حين التقينا برزنا إذ رأيناهم فلما * رأينا القوم قد برزوا إلينا رأينا منهم ضربا وطحنا * وطعنا صائبا حتى انثنينا (4) نصرت على عدوك كل يوم * بكل كثيبة تنعى حسينا (5) كنصر محمد في يوم بدر * ويوم الشغب إذ لاقى حنينا فاسجح إذ ملكت فلو ملكنا (6) * لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبل توبة مني فإني * سأشكر إذ جعلت العفو دينا (7) وجعل سراقة بن مرداس يحلف أنه رأى الملائكة على الخيول البلق بين السماء والارض، وأنه لم يأسره إلا واحد من أولئك الملائكة، فأمره المختار أن يصعد المنبر فيخبر الناس بذلك.
فصعد المنبر فأخبر الناس بذلك، فلما نزل خلا به المختار فقال له: إني قد عرفت أنك لم تر الملائكة، وإنما أردت بقولك هذا أني لا أقتلك، ولست أقتلك فاذهب حيث شئت لئلا تفسد على أصحابي، فذهب سراقة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير وجعل يقول: ألا أخبر (8) أبا إسحاق أني * رأيت البلق دهما مصمتات كفرت بوحيكم وجعلت نذرا * علي قتالكم (9) حتى الممات رأيت عيناي (10) ما لم تبصراه * كلانا عالم بالترهات
__________
(1) في ابن عساكر: تراهم، وليس البيت في ابن الاثير.
(2) في الطبري: مصافهم، وفي ابن عساكر: مصفهم، وفي ابن الاعثم: صفوفهم.
(3) في الطبري وابن الاعثم وابن عساكر: الدبى.
(4) في الطبري وابن الاثير: لقينا منهم ضربا طلحفا...وفي ابن الاعثم: لقينا منهم ضربا عنيدا * وطعنا مسحجا...(5) في ابن الاعثم: زففت الخيل يا مختار زفا * بكل كتيبة قتلت حسينا نصرت على عدوك كل يوم * بكل حضارم لم يلق شينا (6) في ابن الاعثم: فصفحا إذ قدرت فلو قدرنا...(7) في الاخبار الطوال ص 303 بدل الابيات المذكورة: ألا من مبلغ المختار أنا * نزونا نزوة كانت علينا خرجنا لا نرى الاشراك دينا * وكان خروجنا بطرا وحينا (8) في ابن الاثير والطبري وابن الاعثم: ألا أبلغ...وفي الاخبار الطوال ص 303: عجزه: رأيت الشهب كمتا مصمتات (9) في ابن عساكر: هجاءكم.
(10) في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم وابن عساكر: أري عيني.
(*)

(8/299)


إذا قالوا: أقول لهم (1) كذبتم * وإن خرجوا لبست لهم أداتي قالوا: ثم خطب المختار أصحابه فحرضهم في خطبته تلك على من قتل الحسين من أهل الكوفة المقيمين بها، فقالوا: ما ذنبنا نترك أقواما قتلوا حسينا يمشون في الدنيا أحياء آمنين، بئس ناصرو آل محمد إني إذا كذاب كما سميتموني أنتم، فإني والله أستعين عليهم، فالحمد لله الذي جعلني سيفا أضربهم، ورمحا أطعنهم، وطالب وترهم، وقائما بحقهم، وإنه كان حقا على الله أن يقتل من قتلهم، وأن يذل من جهل حقهم، فسموهم ثم اتبعوهم حتى تقتلوهم، فإنه لا يسيغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الارض منهم، وأنفي من في المصر منهم.
ثم جعل يتتبع من في الكوفة - وكانوا يأتون بهم حتى يوقفوا بين يديه فيأمر بقتلهم على أنواع من القتلات مما يناسب ما
فعلوا -، ومنهم من حرقه بالنار، ومنهم من قطع أطرافه وتركه حتى مات، ومنهم من يرمي بالنبال حتى يموت، فأتوه بمالك بن بشر فقال له المختار: أنت الذي نزعت برنس الحسين عنه ؟ فقال: خرجنا ونحن كارهون فامنن علينا، فقال: اقطعوا يديه ورجليه.
ففعلوا به ذلك ثم تركوه يضطرب حتى مات، وقتل عبد الله بن أسيد الجهني وغيره شر قتلة.
مقتل خولي بن يزيد الاصبحي الذي احتز رأس الحسين
بعث إليه المختار أبا عمرة صاحب حرسه، فكبس بيته فخرجت إليهم امرأته فسألوها عنه فقالت: لا أدري أين هو، وأشارت بيدها إلى المكان الذي هو مختف فيه، - وكانت تبغضه من ليلة قدم برأس الحسين معه إليها، وكانت تلومه على ذلك - واسمها العبوق (2) بنت مالك بن نهار بن عقرب الحضرمي، فدخلوا عليه فوجدوه قد وضع على رأسه قوصرة فحملوه إلى المختار فأمر بقتله قريبا من داره، وأن يحرق بعد ذلك.
وبعث المختار إلى حكيم بن فضيل (3) السنبسي - وكان قد سلب العباس بن علي بن أبي طالب يوم قتل الحسين - فأخذ فذهب أهله إلى عدي بن حاتم، فركب ليشفع فيه عند المختار، فخشي أولئك الذين أخذوه أن يسبقهم عدي إلى المختار فيشفعه فيه، فقتلوا حكيما قبل أن يصل إلى المختار، فدخل عدي فشفع فيه فشفعه فيه: فلما رجعوا وقد قتلوه شتمهم عدي وقام متغضبا عليهم وقد تقلد منة المختار.
وبعث المختار إلى يزيد بن ورقاء وكان قد قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، فلما أحاط الطلب بداره خرج فقاتلهم فرموه بالنبل والحجارة حتى سقط، ثم حرقوه وبه رمق الحياة، وطلب المختار سنان بن أنس، الذي كان يدعي أنه قتل الحسين، فوجدوه قد هرب إلى البصرة أو الجزيرة فهدمت داره، وكان
__________
(1) في ابن الاعثم: لكم، وليس البيت في ابن عساكر وابن الاثير.
(2) في الطبري 7 / 126 وابن الاثير 4 / 240: العيوف.
(3) في الطبري والكامل: حكيم بن طفيل الطائي السنبسي.
(*)

(8/300)


محمد بن الاشعث بن قيس ممن هرب إلى مصعب فأمر المختار بهدم داره وأن يبني بها دار حجر بن
عدي التي كان زياد هدمها.
مقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الذين قتلوا الحسين
قال الواقدي: كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه جالسا ذات يوم إذ جاء غلام له ودمه يسيل على عقبيه، فقال له سعد: من فعل بك هذا ؟ فقال: ابنك عمر، فقال سعد: اللهم اقتله وأسل دمه.
وكان سعد مستجاب الدعوة، فلما خرج المختار على الكوفة استجار عمر بن سعد بعبد الله بن جعدة بن هبيرة، وكان صديقا للمختار من قرابته من علي، فأتى المختار فأخذ منه لعمر بن سعد أمانا مضمونه أنه آمن على نفسه وأهله وماله ما أطاع ولزم رحله ومصره، ما لم يحدث حدثا (1).
وأراد المختار ما لم يأت الخلاء فيبول أو يغوط.
ولما بلغ عمر بن سعد أن المختار يريد قتله خرج من منزله ليلا يريد السفر نحو مصعب أو عبيد الله بن زياد، فنمى للمختار بعض مواليه ذلك، فقال المختار: وأي حدث أعظم من هذا ؟ وقيل إن مولاه قال له ذلك، وقال له: تخرج من منزلك ورحلك ؟ ارجع، فرجع.
ولما أصبح بعث إلى المختار يقول له: هل أنت مقيم على أمانك ؟ وقيل إنه أتى المختار يتعرف منه ذلك فقال له المختار: اجلس، وقيل إنه أرسل عبد الله بن جعدة إلى المختار يقول له: هل أنت مقيم على أمانك له ؟ فقال له المختار: اجلس، فلما جلس قال المختار لصاحب حرسه: اذهب فأتني برأسه فذهب إليه فقتله وأتاه برأسه.
وفي رواية أن المختار قال ليلة: لاقتلن غدا رجلا عظيم القدمين غائر العينين، مشرف الحاجبين يسر بقتله المؤمنون والملائكة المقربون، وكان الهيثم بن الاسود حاضرا فوقع في نفسه أنه أراد عمر بن سعد فبعث إليه ابنه الغرثان فأنذره، فقال: كيف يكون هذا بعد ما أعطاني من العهود والمواثيق ؟ وكان المختار حين قدم الكوفة أحسن السيرة إلى أهلها أولا وكتب لعمر بن سعد كتاب أمان إلا أن يحدث حدثا.
قال أبو مخنف: وكان أبو جعفر الباقر يقول: إنما أراد المختار إلا أن يدخل الكنيف فيحدث فيه، ثم إن عمر بن سعد قلق أيضا، ثم جعل يتنقل من محلة إلى محلة ثم صار أمره أنه رجع إلى داره، وقد بلغ المختار انتقاله من موضع إلى موضع فقال: كلا والله إن في عنقه سلسلة ترده
لوجهه، إن يطير لادركه دم الحسين فآخذ برجله.
ثم أرسل إليه أبا عمرة فأراد الفرار منه فعثر في
__________
(1) انظر نسخة العهد في ابن الاعثم 6 / 122 وانظر في قتله الطبري 7 / 126 وابن الاثير 4 / 242 وأما في الاخبار الطوال ص 301 ففيه: أن عمر بن سعد هرب مع بعض أشراف الكوفة، فأخذوا طريق البصرة فأرسل رجلا من خاصته يسمى أبا القلوص الشبامي، فلحقهم بناحية المذار...ووقع عمر بن سعد بيده فأتى به المختار...فضرب عنقه.
(*)

(8/301)


جبته، فضربه أبو عمرة بالسيف حتى قتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار، فقال المختار، لابنه حفص - وكان جالسا عند المختار - فقال: أتعرف هذا الرأس ؟ فاسترجع وقال: نعم ولا خير في العيش بعده، فقال: صدقت، ثم أمر فضربت عنقه ووضع رأسه مع رأس أبيه، ثم قال المختار: هذا بالحسين وهذا بعلي بن الحسين الاكبر، ولا سواء، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله.
ثم بعث المختار برأسيهما إلى محمد بن الحنفية، وكتب إليه كتابا في ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد بن علي من المختار بن أبي عبيد، سلام عليك أيها المهدي فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم فهم بين قتيل وأسير وطريد وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتلكم، ونصر مؤازركم، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه وقد قتلنا ممن اشترك في دم الحسين وأهل بيته كل من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي، ولست بمنحجم عنهم حتى يبلغني أنه لم يبق على وجه الارض منهم أحد، فاكتب إلي أيها المهدي برأيك أتبعه وأكون عليه، والسلام عليك أيها المهدي ورحمة الله وبركاته.
ولم يذكر ابن جرير أن محمد بن الحنفية رد جوابه، مع أن ابن جرير قد تقصى هذا الفصل وأطال شرحه، ويظهر من غبون كلامه قوة وجده به وغرامه، ولهذا توسع في إيراده بروايات أبي مخنف لوط بن يحيى، وهو متهم فيما يرويه، ولا سيما في باب التشيع، وهذا المقام للشيعة فيه غرام وأي غرام، إذ فيه الاخذ بثأر الحسين وأهله من قتلتهم، والانتقام منهم، ولا شك أن قتل قتلته كان متحتما،
والمبادرة إليه كان مغنما، ولكن إنما قدره الله على يد المختار الكذاب الذي صار بدعواه إتيان الوحي إليه كافرا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " (1).
وقال تعالى في كتابه الذي هو أفضل ما يكتبه الكاتبون * (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) * [ الانعام: 129 ] وقال بعض الشعراء: وما من يد إلا يد الله فوقها * ولا ظالم إلا سيبلى بظالم وسيأتي في ترجمة المختار ما يدل على كذبه وافترائه، وادعائه نصرة أهل البيت، وهو في نفس الامر متستر بذلك ليجمع عليه رعاعا من الشيعة الذين بالكوفة.
ليقيم لهم دولة ويصول بهم ويجول على مخالفيه صولة.
ثم إن الله تعالى سلط عليه من انتقم منه، وهذا هو الكذاب الذي قال فيه الرسول في حديث أسماء بنت الصديق: " إنه سيكون في ثقيف كذاب ومبير " (2).
فهذا هو الكذاب وهو
__________
(1) رواه البخاري عن أبي اليمان وقال البخاري قال عقبة تابعه معمر عن الزهري عن سعيد فتح الباري 7 / 471.
(2) رواه البيهقي عن أبي داود الطيالسي في الدلائل 6 / 482 ونحوه روى مسلم في فضائل الصحابة (58) باب.
= (*)

(8/302)


ظهر التشيع وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد ولي الكوفة من جهة عبد الملك بن مروان كما سيأتي، وكان الحجاج عكس هذا، كان ناصبيا جلدا ظالما غاشما، ولكن لم يكن في طبقة هذا، متهم على دين الاسلام ودعوة النبوة، وأنه يأتيه الوحي من العلي العلام.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة بعث المختار المثنى بن مخرمة العبدي إلى البصرة يدعو إليه من استطاع من أهلها، فدخلها وابتنى بها مسجدا يجتمع فيه إليه قومه، فجعل يدعو إلى المختار، ثم أتى مدينة الورق (1) فعسكر عندها فبعث إليه الحارث بن عبد الله بن ربيعة القباع - وهو أمير البصرة قبل أن يعزل بمصعب - جيشا مع عباد بن الحصين أمير الشرطة، وقيس بن الهيثم.
فقاتلوه وأخذوا منه المدينة وأنهزم أصحابه، وكان قد قام بنصرتهم بنو عبد القيس، فبعث إليهم الجيش فبعثوا إليه فأرسل الاحنف بن قيس وعمرو (2) بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا بين الناس،
وساعدهما مالك بن مسمع، فانحجز الناس بعضهم عن بعض، ورجع إلى المختار في نفر يسير مغلولا مغلوبا مسلوبا، وأخبر المختار بما وقع من الصلح على يدي الاحنف وغيره من أولئك الامراء، وطمع المختار فيهم وكاتبهم في أن يدخلوا معه فيما هو فيه من الامر، وكان كتابه إلى الاحنف بن قيس: من المختار إلى الاحنف بن قيس ومن قبله من الامراء: أفسلم أنتم أما بعد فويل لبني ربيعة من مضر، وأن الاحنف يورد قومه سقر، حيث لا يستطيع لهم صدر، وإني لا أملك لكم ما قد خط في القدر، وقد بلغني أنكم سميتموني الكذاب، وقد كذب الانبياء من قبلي ولست بخير منهم.
وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، ثنا الحسن بن حماد، عن حماد (3) بن علي بن مجالد عن الشعبي.
قال: دخلت البصرة فقعدت إلى حلقة فيها الاحنف بن قيس، فقال بعض القوم: ممن أنت ؟ فقلت: رجل من أهل الكوفة، فقال: أنتم موال لنا، قلت: وكيف ؟ قال: أنقذناكم من أيدي عبيدكم من أصحاب المختار، قلت: أتدري ما قال شيخ من همدان فينا وفيكم ؟ فقال الاحنف: وما قال ؟ قلت: قال: أفخرتم ان قتلتم أعبدا * وهزمتهم مرة آل عدل (4)
__________
= ح (229) ص (1971) عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت للحجاج: حدثنا رسول الله أن في ثقيف كذابا ومبيرا فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه.
(1) في الطبري 7 / 130 وابن الاثير 4 / 245: الرزق.
(2) في الطبري وابن الاثير: وعمر.
(3) في الطبري: حيان.
(4) في الطبري: آل عزل.
(*)

(8/303)


فإذا فاخرتمونا فاذكروا * ما فعلنا بكم يوم الجمل بين شيخ خاضب عثبونه * وفتى البيضاء وضاحا دقل (1)
جاء يهدج في سابغة * فذبحناه ضحى ذبح الجمل وعفونا فنسيتم عفونا * وكفرتم نعمة الله الاجل وقتلتم بحسين منهم * بدلا من قومكم شر بدل قال: فغضب الاحنف وقال: يا غلام هات الصحيفة، فأتى بصحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من المختار بن أبي عبيد إلى الاحنف بن قيس، أما بعد فويل لبني ربيعة من مضر فإن الاحنف يورد قومه سقر حيث لا يقدرون على الصدر، وقد بلغني أنكم تكذبوني، فإن كذبت فقد كذبت رسل من قبلي، ولست بخير منهم، ثم قال الاحنف: هذا منا أو منكم.
فصل ولما علم المختار أن ابن الزبير لا ينام عنهم، وأن جيش الشام من قبل عبد الملك مع ابن زياد يقصدونه في جمع كثير لا يرام، شرع يصانع ابن الزبير ويعمل على خداعه والمكر به، فكتب إليه: إني كنت بايعتك على السمع والطاعة والنصح لك، فلما رأيتك قد أعرضت عني تباعدت عنك، فإن كنت على ما أعهد منك فأنا على السمع والطاعة لك، والمختار يخفي هذا كل الاخفاء عن الشيعة، فإذا ذكر له أحد شيئا من ذلك أظهر لهم أنه أبعد الناس من ذلك، فلما وصل كتابه إلى ابن الزبير أراد أن يعلم أصادق أم كاذب، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، فقال له: تجهز إلى الكوفة فقد وليتكها، فقال: وكيف وبها المختار ؟ فقال: يزعم أنه سامع لنا مطيع، وأعطاه قريبا من أربعين ألفا يتجهز بها، فسار فلما كان ببعض الطريق لقيه زائدة بن قدامة من جهة المختار في خمسمائة فارس ملبسة، ومعه سبعون ألفا من المال، وقد تقدم إليه المختار فقال: اعطه المال فإن هو انصرف وإلا فأره الرجال فقاتله حتى ينصرف، فلما رأى عمر بن عبد الرحمن الجد قبض المال وسار إلى البصرة فاجتمع هو وابن مطيع بها عند أميرها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وذلك قبل وثوب المثنى بن مخرمة كما تقدم، وقيل وصول مصعب بن الزبير إليها.
وبعث عبد الملك بن مروان ابن عمه عبد الملك بن الحارث بن الحكم في جيش إلى وادي
القرى ليأخذوا المدينة من نواب ابن الزبير، وكتب المختار إلى ابن الزبير إن أحببت أن أمدك بمدد، وإنما يريد خديعته ومكايدته، فكتب إليه ابن الزبير: إن كنت على طاعتي فلست أكره ذلك
__________
(1) في الطبري: بين...عثنونه * وفتى أبيض وضاح رفل.
والعثنون: اللحية.
(*)

(8/304)


فابعث بجند إلى وادي القرى ليكونوا مددا لنا على قتال الشاميين.
فجهز المختار ثلاثة آلاف عليهم شرحبيل بن ورس الهمداني، ليس فيهم من العرب إلا سبعمائة، وقال له: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلت فاكتب إلي حتى يأتيك أمري، وإنما يريد أخذ المدينة من ابن الزبير، ثم يركب بعد ذلك إلى مكة ليحاصر ابن الزبير بها، وخشي ابن الزبير أن يكون المختار بعث ذلك الجيش مكرا فبعث العباس بن سهل بن سعد الساعدي في ألفين، وأمره أن يستعين بالاعراب وقال لهم: إن رأيتموهم في طاعتي وإلا فكايدوهم حتى يهلكهم الله.
فأقبل العباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم، وقد بقي ابن ورس في جيشه، فاجتمعا على ماء هنالك، فقال له العباس: ألستم في طاعة ابن الزبير ؟ فقال: بلى، قال: فإنه قد أمرني أن نذهب إلى وادي القرى فنقاتل من به من الشاميين.
فقال له ابن ورس: فإني لم أومر بطاعتك، وإنما أمرني أن أدخل المدينة ثم أكتب إلى صاحبي فإنه يأمرني بأمره، ففهم عباس مغزاه ولم يظهر له أنه فطن لذلك، فقال له: رأيك أفضل، فاعمل ما بدا لك.
ثم نهض العباس من عنده وبعث إليهم الجزر والغنم والدقيق، وقد كان عندهم حاجة شديدة إلى ذلك، وجوع كثير، فجعلوا يذبحون ويطبخون ويختبزون ويأكلون على ذلك الماء، فلما كان الليل بيتهم عباس بن سهل فقتل أميرهم وطائفة منهم نحوا من سبعين، وأسر منهم خلقا كثيرا فقتل أكثرهم، ورجع القليل منهم إلى المختار وإلى بلادهم خائبين.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف أن عباس بن سهل انتهى إليهم وهو يقول: أنا ابن سهل فارس غير وكل * أروع مقدام إذا الكبش نكل
وأعتلي رأس الطرماح البطل * بالسيف يوم الروع حتى ينجدل (1) فلما بلغ خبرهم المختار قام في أصحابه خطيبا فقال: إن الفجار الاشرار قتلوا الابرار الاخيار، ألا إنه كان أمر مأتيا، وقضاء مقضيا.
ثم كتب إلى محمد بن الحنفية مع صالح بن مسعود الخثعمي: كتابا يذكر فيه أنه بعث إلى المدينة جيشا لنصرته فغدر بهم جيش ابن الزبير، فإن رأيت أن أبعث جيشا آخر إلى المدينة وتبعث من قبلك رسلا إليهم فافعل، فكتب إليه ابن الحنفية: أما بعد فإن أحب الامور كلها إلي ما أطيع الله فيه، فأطع الله فيما أسررت وأعلنت، واعلم أني لو أردت القتال لوجدت الناس إلي سراعا، والاعوان لي كثيرة، ولكني أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.
وقال لصالح بن مسعود: قل للمختار فليتق الله وليكف عن الدماء.
فلما انتهى إليه كتاب محمد بن الحنفية قال: إني قد أمرت بجمع البر واليسر، وبطرح الكفر والغدر.
__________
(1) في الطبري 7 / 135: ينخزل.
(*)

(8/305)


وذكر ابن جرير من طريق المدائني وأبي مخنف: أن ابن الزبير عمد إلى ابن الحنفية وسبعة عشر رجلا من أشراف أهل الكوفة فحبسهم حتى يبايعوه، فكرهوا إن يبايعوا إلا من اجتمعت عليه الامة، فتهددهم وتوعدهم واعتقلهم بزمزم، فكتبوا إلى المختار بن أبي عبيد يستصرخونه ويستنصرونه، ويقولون له: إن ابن الزبير قد توعدنا بالقتل والحريق، فلا تخذلونا كما خذلتم الحسين وأهل بيته (1)، فجمع المختار الشيعة وقرأ عليهم الكتاب وقال: هذا صريخ أهل البيت يستصرخكم ويستنصركم، فقام في الناس بذلك وقال: لست أنا بأبي اسحاق إن لم أنصركم نصرا مؤزرا، وإن لم أرسل إليهم الخيل كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية الويل، ثم وجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكبا من أهل القوة، وظبيان بن عمر (2) التيمي في أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، وكتب إلى محمد بن الحنفية مع الطفيل بن عامر (3) بتوجيه الجنود إليه، فنزل أبو عبد الله الجدلي بذات عرق حتى تلاحق به نحو
من مائة وخمسين فارسا، ثم سار بهم حتل دخل المسجد الحرام نهارا جهارا وهم يقولون: يا ثارات الحسين، وقد أعد ابن الزبير الحطب لابن الحنفية وأصحابه ليحرقهم به إن لم يبايعوه، وقد بقي من الاجل يومان، فعمدوا - يعني أصحاب المختار - إلى محمد بن الحنفية فأطلقوه من سجن ابن الزبير، وقالوا: إن أذنت لنا قاتلنا ابن الزبير، فقال: إني لا أرى القتال في المسجد الحرام، فقال لهم ابن الزبير: ليس نبرح وتبرحون حتى يبايع وتبايعوا معه، فامتنعوا عليه ثم لحقهم بقية أصحابهم فجعلوا يقولون وهم داخلون الحرم: يا ثارات الحسين فلما رأى ابن الزبير ذلك منهم خافهم وكف عنهم، ثم أخذوا محمد بن الحنفية وأخذوا من الحجيج مالا كثيرا فسار بهم حتى دخل شعب علي، واجتمع معه أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال.
هكذا أورده ابن جرير وفي صحتها نظر والله أعلم (4).
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله ابن الزبير وكان نائبه بالمدينة أخاه مصعب ونائبه على البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وقد استحوذ المختار على الكوفة، وعبد الله بن خازم على بلاد خراسان، وذكر حروبا جرت فيها لعبد الله بن خازم يطول ذكرها.
فصل قال ابن جرير: وفي هذه السنة سار إبراهيم بن الاشتر إلى عبيد الله بن زياد، وذلك لثمان
__________
(1) نسخة الكتاب في ابن الاعثم 6 / 131.
(2) في الطبري: ابن عثمان أخا بني تميم، وفي ابن الاثير، ابن عمارة أخا بني تميم.
(3) نسخة الكتاب في ابن الاعثم 6 / 132.
(4) انظر الطبري 7 / 137 والكامل 4 / 251 وفتوح ابن الاعثم 6 / 135 - 136.
(*)

(8/306)


بقين من ذي الحجة.
وقال أبو مخنف عن مشايخه: ما هو إلا أن فرغ المختار من جبانة السبيع وأهل الكناسة، فما ترك ابن الاشتر إلا يومين حتى أشخصه إلى الوجه الذي كان وجهه فيه لقتال أهل الشام، فخرج يوم السبت لثمان بقين (1) من ذي الحجة سنة ست وستين، وخرج معه المختار
يودعه في وجوه أصحابه، وخرج معهم خاصة المختار، ومعهم كرسي المختار على بغل أشهب ليستنصروا به على الاعداء، وهم حافون به يدعون ويستصرخون ويستنصرون ويتضرعون، فرجع المختار بعد أن وصاه بثلاث قال: يا بن الاشتر اتق الله في سرك وعلانيتك، وأسرع السير، وعاجل عدوك بالقتال.
واستمر أصحاب الكرسي سائرين مع ابن الاشتر، فجعل ابن الاشتر يقول: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، سنة بني إسرائيل والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم، فلما جاوز القنطرة هو وأصحابه رجع أصحاب الكرسي.
قال ابن جرير: وكان سبب اتخاذ هذا الكرسي ما حدثني به عبد الله بن أحمد بن شيبويه حدثني أبي، ثنا سليمان، ثنا عبد الله بن المبارك عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، حدثني معبد بن خالد، حدثني طفيل بن جعدة بن هبيرة قال: أعدمت مرة من الورق فإني كذلك إذ مررت بباب رجل هو جار لي له كرسي قد ركبه وسخ شديد، فخطر في بالي أن لو قلت في هذا، فرجعت فأرسلت إليه أن ارسل إلي بالكرسي، فأرسل به، فأتيت المختار فقلت له: إني كنت أكتمك شيئا وقد بدا لي أن أذكره إليك، قال: وما هو ؟ قال: قلت كرسي كان جعدة بن هبيرة يجلس عليه كأنه كان يرى أن فيه أثرة من علم.
قال: سبحان الله ! ! فلم أخرت هذا إلى اليوم ؟ ابعثه إلي، قال فجئت به وقد غسل فخرج عودا ناضرا وقد شرب الزيت، فأمر لي باثني عشر ألفا، ثم نودي في الناس الصلاة جامعة، قال: فخطب المختار الناس فقال: إنه لم يكن في الامم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الامة مثله، وإنه قد كان في بني إسرائيل تابوت يستنصرون به، وإن هذا مثله، ثم أمر فكشف عنه أثوابه وقامت السبابية فرفعوا أيديهم وكبروا ثلاثا، فقام شبث بن ربعي فأنكر على الناس وكاد أن يكفر من يصنع بهذا التابوت هذا التعظيم.
وأشار بأن يكسر ويخرج من المسجد ويرمى في الخنس، فشكرها الناس لشبث بن ربعي، فلما قيل: هذا عبيد الله بن زياد قد أقبل، وبعث المختار ابن الاشتر، بعث معه بالكرسي يحمل على بغل أشهب قد غشي بأثواب الحرير، عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة، فلما تواجهوا مع الشاميين كما سيأتي وغلبوا الشاميين وقتلوا ابن زياد، ازداد تعظيمهم لهذا الكرسي حتى بلغوا به الكفر، قال الطفيل بن جعدة فقلت:
إنا لله وإنا إليه راجعون، وندمت على ما صنعت، وتكلم الناس في هذا الكرسي وكثر عيب الناس له، فغيب حتى لا يرى بعد ذلك.
وذكر ابن الكلبي أن المختار طلب من آل جعدة بن هبيرة الكرسي الذي كان علي يجلس عليه
__________
(1) في ابن الاعثم: خلون.
(*)

(8/307)


فقالوا: ما عندنا شئ مما يقول الامير، فألح عليهم حتى علموا أنهم لو جاؤوا بأي كرسي كان لقبله منهم، فحملوا إليه كرسيا من بعض الدور فقالوا: هذا هو، فخرجت شبام وشاكر وسائر رؤوس المختارية وقد عصبوه بالحرير والديباج.
وحكى أبو مخنف أن أول من سدن هذا الكرسي موسى بن أبي موسى الاشعري، ثم إن الناس عتبوا عليه في ذلك، فرفعه إلى حوشب البرسمي، وكان صاحبه حتى هلك المختار قبحه الله.
ويروى أن المختار كان يظهر أنه لا يعلم بما يعظم أصحابه هذا الكرسي، وقد قال في هذا الكرسي أعشى همدان: شهدت عليكم أنكم سبائية * وأني بكم يا شرطة الشرك عارف وأقسم ما كرسيكم بسكينة * وان كان قد لفت عليه اللفائف وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت * شبام حواليه ونهد وخارف وإني امرؤ أحببت آل محمد * وتابعت وحيا ضمنته المصاحف وتابعت عبد الله لما تتابعت * عليه قريش شمطها والغطارف وقال المتوكل الليثي: أبلغ أبا إسحاق إن جئته * أني بكرسيكم كافر تنزوا شبام حول أعواده * وتحمل الوحي له شاكر محمرة أعينهم حوله * كأنهن الحمص الحادر قلت: هذا وأمثاله مما يدل على قلة عقل المختار وأتباعه، وضعفه وقلة علمه وكثرة جهله، ورداءة فهمه، وترويجه الباطل على أتباعه وتشبهه الباطل بالحق ليضل به الطغام، ويجمع عليه
جهال العوام.
قال الواقدي: وفي هذه السنة وقع في مصر طاعون هلك فيه خلق كثير من أهلها، وفيها ضرب الدنانير عبد العزيز بن مروان بمصر، وهو أول من ضربها بها.
قال صاحب مرآت الزمان: وفيها ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الاقصى، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين، وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة، وكان يخطب في أيام منى وعرفة، ومقام الناس بمكة، وينال من عبد الملك ويذكر مساوئ بني مروان، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وما نسل، وأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه، وكان يدعو إلى نفسه، وكان فصيحا، فمال معظم أهل الشام إليه، وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا، فبنى القبة على الصخرة والجامع الاقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم، وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة.
وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم، ففتح بذلك على نفسه بأن شنع ابن الزبير عليه، وكاد

(8/308)


يشنع عليه بمكة ويقول: ضاهى بها فعل الاكاسرة في إيوان كسرى، والخضراء، كما فعل معاوية.
ولما أراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجه إليه بالاموال والعمال، ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه، وجمع الصناع من أطراف البلاد وأرسلهم إلى بيت المقدس، وأرسل إليه بالاموال الجزيلة الكثيرة، وأمر رجاء بن حيوة ويزيد أن يفرغا الاموال إفراغا ولا يتوقفا فيه، فبثوا النفقات وأكثروا، فبنوا القبة فجاءت من أحسن البناء، وفرشاها بالرخام الملون، وعملا للقبة جلالين أحدهما من اليود الاحمر للشتاء، وآخر من أدم للصيف، وحفا القبة بأنواع الستور، وأقاما لها سدنة وخداما بأنواع الطيب والمسك والعنبر والماورد والزعفران، ويعملون منه غالية ويبخرون القبة والمسجد من الليل، وجعل فيها من قناديل الذهب والفضة والسلاسل الذهب والفضة شيئا كثيرا، وجعل فيها العود القماري المغلف بالمسك وفرشاها والمسجد بأنواع البسط
الملونة، وكانوا إذا أطلقوا البخور شم من مسافة بعيدة، وكان إذا رجع الرجل من بيت المقدس إلى بلاده توجد منه رائحة المسك والطيب والبخور أياما، ويعرف أنه قد أقبل من بيت المقدس، وأنه دخل الصخرة، وكان فيه من السدنة والقوم القائمين بأمره خلق كثير، ولم يكن يومئذ على وجه الارض بناء أحسن ولا أبهى من قبة صخرة بيت المقدس، بحيث إن الناس التهوا بها عن الكعبة والحج، وبحيث كانوا لا يلتفتون في موسم الحج وغيره إلى غير المسير إلى بيت المقدس، وافتتن الناس بذلك افتتانا عظيما، وأتوه من كل مكان، وقد عملوا فيه من الاشارات والعلامات المكذوبة شيئا كثيرا مما في الآخرة، فصوروا فيه صورة الصراط وباب الجنة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووادي جهنم، وكذلك في أبوابه ومواضع منه، فاغتر الناس بذلك، وإلى زماننا، وبالجملة أن صخرة بيت المقدس لما فرغ من بنائها لم يكن لها نظير على وجه الارض بهجة ومنظرا، وقد كان فيها من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شئ كثير، وأنواع باهرة.
ولما فرغ رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام من عمارتها على أكمل الوجوه فضل من المال الذي أنفقاه على ذلك ستمائة ألف مثقال، وقيل ثلاثمائة ألف مثقال، فكتبا إلى عبد الملك يخبرانه بذلك، فكتب إليهما: قد وهبته منكما، فكتبا إليه: إنا لو استطعنا لزدنا في عمارة هذا المسجد من حلي نسائنا، فكتب إليهما إذ أبيتما أن تقبلاه فأفرغاه على القبة والابواب، فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب القديم والحديث.
فلما كان في خلافة أبي جعفر المنصور قدم بيت المقدس في سنة أربعين ومائة، فوجد المسجد خرابا، فأمر أن يقلع ذلك الذهب والصفائح التي على القبة والابواب، وأن يعمروا بها ما تشعث في المسجد، ففعلوا ذلك.
وكان المسجد طويلا فأمر أن يؤخذ من طوله ويزاد في عرضه، ولما كمل البناء كتب على القبة مما يلي الباب القبلي: أمر ببنائه بعد تشعيثه أمير المؤمنين عبد الملك سنة اثنتين وستين من الهجرة النبوية، وكان طول المسجد من القبلة إلى الشمال سبعمائة وخمسة وستون ذراعا، وعرضه أربعمائة وستون ذراعا، وكان فتوح

(8/309)


القدس سنة ست عشرة (1) والله سبحانه وتعالى أعلم.