البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة سبع وستين
ففيها كان مقتل عبيد الله بن زياد على يدي إبراهيم بن الاشتر النخعي،
وذلك أن إبراهيم بن الاشتر خرج من الكوفة يوم السبت لثمان بقين من ذي
الحجة في السنة الماضية، ثم استهلت هذه السنة وهو سائر لقصد ابن زياد
في أرض الموصل، فكان اجتماعهما بمكان يقال له الخازر، بينه وبين الموصل
خمسة فراسخ، فبات ابن الاشتر تلك الليلة ساهرا لا يستطيع النوم، فلما
كان قريب الصبح نهض فعبى جيشه وكتب كتائبه، وصلى بأصحابه الفجر في أول
وقت، ثم ركب فناهض جيش ابن زياد، وزحف بجيشه رويدا وهو ماش في الرجالة
حتى أشرف من فوق تل على جيش ابن زياد، فإذا هم لم يتحرك منهم أحد، فلما
رأوهم نهضوا إلى خيلهم وسلاحهم مدهوشين، فركب ابن الاشتر فرسه وجعل يقف
على رايات القبائل فيحرضهم على قتال ابن زياد ويقول: هذا قاتل ابن بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جاءكم الله به وأمكنكم الله منه
اليوم، فعليكم به فإنه قد فعل في ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما لم يفعله فرعون في بني إسرائيل هذا ابن زياد قاتل الحسين الذي حال
بينه وبين ماء الفرات أن يشرب منه هو وأولاده ونساؤه، ومنعه أن ينصرف
إلى بلده أو يأتي يزيد بن معاوية حتى قتله، ويحكم ! ! اشفوا صدروكم
منه، وارووا رماحكم وسيوفكم من دمه، هذا الذي فعل في آل نبيكم ما فعل،
قد جاءكم الله به، ثم أكثر من هذا القول وأمثاله، ثم نزل تحت رايته،
وأقبل ابن زياد في خيله ورجله في جيش كثيف (2) قد جعل على ميمنته حصين
بن نمير وعلى الميسرة، عمير بن الحباب السلمي - وكان قد اجتمع بابن
الاشتر ووعده أنه معه وأنه سينهزم بالناس غدا - وعلى خيل ابن زياد
شرحبيل بن الكلاع (3)، وابن زياد في الرجالة يمشي معهم.
فما كان إلا أن تواقفا الفريقان حتى حمل حصين بن نمير بالميمنة على
ميسرة أهل العراق فهزمها، وقتل أميرها علي بن مالك الجشمي فأخذ رايته
من بعده ولده محمد (4) بن علي فقتل أيضا، واستمرت الميسرة ذاهبة فجعل
الاشتر يناديهم إلي يا شرطة الله، أنا ابن الاشتر، وقد كشف عن رأسه
ليعرفوه، فالتاثوا به وانعطفوا عليه، واجتمعوا إليه، ثم حملت ميمنة أهل
الكوفة
__________
(1) في الاصل ستة عشر وهو خطأ.
(2) في ابن الاعثم 6 / 173: " في ثلاثة وثمانين ألفا، وابراهيم يومئذ
في أقل من عشرين ألفا.
(3) كذا بالاصل والطبري 7 / 143 وابن الاثير 4 / 262، وفي ابن الاعثم 6
/ 176: فعباهم عبيد الله بن زياد فجعل على ميمنته شرحبيل بن ذي الكلاع،
وعلى ميسرته ربيعة بن مخارق الغنوي، وعلى جناح ميسرته عبد الله بن حملة
الخثعمي، وفي القلب يومئذ الحصين بن نمير السكوني ".
وقد تقدم أن ربيعة قتل في الموصل في لقائه مع يزيد بن أنس قائد جيوش
المختار وذلك يوم عرفة سنة 66 ه.
وفي مروج الذهب 3 / 116: أن عمير بن حباب السلمي كان على مينة ابن
زياد.
(4) في الطبري: قرة بن علي.
(وانظر ابن الاثير 4 / 263).
(*)
(8/310)
على ميسرة أهل
الشام.
وقيل بل انهزمت ميسرة أهل الشام وانحازت إلى ابن الاشتر، ثم حمل ابن
الاشتر بمن معه وجعل يقول لصاحب رايته: ادخل برايتك فيهم، وقاتل ابن
الاشتر يومئذ قتالا عظيما، وكان لا يضرب بسيفه رجلا إلا صرعه، وكثرت
القتلى بينهم، وقيل إن ميسرة أهل الشام ثبتوا وقاتلوا قتالا شديدا
بالرماح ثم بالسيوف، ثم أردف الحملة ابن الاشتر فانهزم جيش الشام بين
يديه، فجعل يقتلهم كما يقتل الحملان، واتبعهم بنفسه ومن معه من
الشجعان: وثبت عبيد الله بن زياد في موقفه حتى اجتاز به ابن الاشتر
فقتله وهو لا يعرفه، لكن قال لاصحابه: التمسوا في القتلى رجلا ضربته
بالسيف فنفحتني منه ريح المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، وهو واقف عند
راية منفردة على شاطئ نهر خازر: فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد،
وإذا هو قد ضربه ابن الاشتر فقطعه نصفين، فاحتزوا رأسه وبعثوه إلى
المختار إلى الكوفة مع البشارة بالنصر والظفر بأهل الشام، وقتل من رؤس
أهل الشام أيضا حصين بن نمير وشرحبيل بن ذي الكلاع، واتبع الكوفيون أهل
الشام فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم أكثر ممن قتل، واحتازوا ما في
معسكرهم من الاموال والخيول.
وقد كان المختار بشر أصحابه بالنصر قبل أن يجئ الخبر، فما ندري أكان
ذلك تفاؤلا منه أو اتفاقا وقع له، أو كهانة.
وأما على ما كان يزعم أصحابه أنه أوحى إليه بذلك فلا، فإن من اعتقد
ذلك كفر ومن أقرهم على ذلك كفر، لكن: قال إن الوقعة كانت بنصيبين فأخطأ
مكانها، فإنها إنما كانت بأرض الموصل، وهذا مما انتقده عامر الشعبي على
أصحاب المختار حين جاءه الخبر، وقد خرج المختار من الكوفة ليتلقى
البشارة، فأتى المدائن فصعد منبرها فبينما هو يخطب إذ جاءته البشارة
وهو هنالك.
قال الشعبي: فقال لي بعض أصحابه: أما سمعته بالامس يخبرنا بهذا ؟ فقلت
له: زعم أن الوقعة كانت بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما قال البشير:
إنهم كانوا بالخازر من أرض الموصل، فقال: والله لا تؤمن يا شعبي حتى
ترى العذاب الاليم.
ثم رجع المختار إلى الكوفة.
وفي غيبته هذه تمكن جماعة ممن كان قاتله يوم جبانة السبيع والكناسة من
الخروج إلى مصعب بن الزبير إلى البصرة، وكان منهم شبث بن ربعي، وأما
ابن الاشتر فإنه بعث بالبشارة وبرأس ابن زياد وبعث رجلا على نيابة
نصيبين واستمر مقيما في تلك البلاد، وبعث عمالا إلى الموصل وأخذ سنجار
ودارا وما ولاها من الجزيرة.
وقال أبو أحمد الحاكم: كان مقتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة ست
وستين، والصواب سنة سبع وستين.
وقد قال سراقة بن مرداس البارقي يمدح ابن الاشتر على قتله ابن زياد:
أتاكم غلام من عرانين مذحج * جرئ على الاعداء غير نكول
(8/311)
فيا بن زياد بؤ
بأعظم هالك (1) * وذق حد ماضي الشفرتين صقيل ضربناك بالعضب الحسام بحده
* إذا ما أتانا قتيلا (2) بقتيل جزى الله خيرا شرطة الله إنهم * شفوا
من عبيد الله أمس غليلي
وهذه ترجمة ابن زياد
هو عبيد الله بن زياد بن عبيد، المعروف بابن زياد بن أبي سفيان، ويقال
له زياد بن أبيه، وابن سمية، أمير العراق بعد أبيه زياد، وقال ابن
معين: ويقال له عبيد الله بن مرجانة وهي أمه،
وقال غيره: وكانت مجوسية، وكنيته أبو حفص، وقد سكن دمشق بعد يزيد بن
معاوية، وكانت له دار عند الديماس تعرف بعده بدار ابن عجلان، وكان
مولده في سنة تسع وثلاثين فيما حكاه ابن عساكر عن أبي العباس أحمد بن
يونس الضبي، قال ابن عساكر: وروى الحديث عن معاوية وسعد بن أبي وقاص
ومعقل بن يسار.
وحدث عنه الحسن البصري وأبو المليح بن أسامة.
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: ذكروا أن عبيد الله بن زياد حين قتل
الحسين كان عمره ثمانيا وعشرين سنة، قلت: فعلى هذا يكون مولده سنة ثلاث
وثلاثين فالله أعلم.
وقد روى ابن عساكر أن معاوية كتب إلى زياد: أن أوفد إلي ابنك، فلما قدم
عليه لم يسأله معاوية عن شئ إلا نفد منه، حتى سأله عن الشعر فلم يعرف
منه شيئا، فقال له: ما منعك من تعلم الشعر ؟ فقال: يا أمير المؤمنين
إني كرهت أن أجمع في صدري مع كلام الرحمن كلام الشيطان، فقال معاوية:
اغرب فوالله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا قول ابن الاطنابة حيث
يقول: أبت لي عفتي وأبى بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإعطائي على
الاعدام مالي * وإقدامي على البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت *
مكانك تحمدي أو تستريح لادفع عن مآثر صالحات * وأحمي بعد عن إنف صحيح
ثم كتب إلى أبيه: أن روه من الشعر، فرواه حتى كان لا يسقط عنه منه شئ
بعد ذلك، ومن شعره بعد ذلك: سيعلم مروان بن نسوة أنني * إذا التقت
الخيلان أطعنها شزرا وإني إذا حل الضيوف ولم أجد * سوى فرسي أو سعته
لهم نحرا
__________
(1) في الطبري وابن الاثير: مالك.
(2) في الطبري: قاتلا، وليس البيت في ابن الاثير.
(*)
(8/312)
وقد سأل معاوية
يوما أهل البصرة عن ابن زياد فقالوا: إنه لظريف ولكنه يلحن، فقال: أو
ليس اللحن أظرف له ؟ قال ابن قتيبة وغيره: إنما أرادوا أنه يلحن في
كلامه، أي يلغز، وهو ألحن بحجته كما قال الشاعر في ذلك: منطق رائع
ويلحن أحيانا * وخير الحديث ما كان لحنا وقيل إنهم أرادوا أنه يلحن في
قوله لحنا وهو ضد الاعراب، وقيل أرادوا اللحن الذي هو ضد الصواب وهو
الاشبه والله أعلم.
فاستحسن معاوية منه السهولة في الكلام وأنه لم يكن ممن يتعمق في كلامه
ويفخمه، ويتشدق فيه، وقيل أرادوا أنه كانت فيه لكنة من كلام العجم، فإن
أمه مرجانة كانت سيروية وكانت بنت بعض ملوك الاعاجم يزدجرد أو غيره،
قالوا: وكان في كلامه شئ من كلام العجم، قال يوما لبعض الخوارج: أهروري
أنت ؟ يعني أحروري أنت ؟ وقال يوما من كاتلنا كاتلناه، أي من قاتلنا
قاتلناه، وقول معاوية ذاك أظرف له، أي أجود له حيث نزع إلى أخواله، وقد
كانوا يوصفون بحسن السياسة وجودة الرعاية ومحاسن الشيم.
ثم لما مات زياد سنة ثلاث وخمسين ولى معاوية على البصرة سمرة بن جندب
سنة ونصفا ثم عزله وولى عليها عبد الله بن عمرو بن غيلان بن سلمة ستة
أشهر، ثم عزله وولى عليها ابن زياد سنة خمس وخمسين.
فلما تولى يزيد الخلافة جمع له بين البصرة والكوفة، فبنى في إمارة يزيد
البيضاء، وجعل باب القصر الابيض الذي كان لكسرى عليها.
وبنى الحمراء وهي على سكة المربد، فكان يشتي في الحمراء ويصيف في
البيضاء، قالوا: وجاء رجل إلى ابن زياد فقال: أصلح الله الامير، إن
امرأتي ماتت، وإني أريد أن أتزوج أمها، فقال له: كم عطاؤك في الديوان ؟
فقال: سبعمائة، فقال: يا غلام حط من عطائه أربعمائة، ثم قال له: يكفيك
من فقهك هذا ثلاثمائة، قالوا: وتخاصمت أم الفجيج وزوجها إليه وقد أحبت
المرأة أن تفارق زوجها، فقال أبو الفجيج: أصلح الله الامير إن خير شطري
الرجل آخره، وإن شر شطري المرأة آخرها، فقال: وكيف ذلك ؟ فقال: إن
الرجل إذا أسن اشتد عقله واستحكم رأيه وذهب جهله، وإن المرأة إذا أسنت
ساء خلقها وقل عقلها وعقم رحمها واحتد لسانها، فقال: صدقت
خذ بيدها وانصرف، وقال يحيى بن معين: أمر ابن زياد لصفوان بن محرز
بألفي درهم فسرقت، فقال: عسى أن يكون خيرا فقال أهله: كيف يكون هذا
خيرا ؟ فبلغ ذلك ابن زياد فأمر له بألفين آخرين، ثم وجد الالفين فصارت
أربعة آلاف فكان خيرا.
وقيل لهند بنت أسماء بن خارجة - وكانت قد تزوجت بعده أزواجا من نواب
العراق - من أعز أزواجك عندك وأكرمهم عليك ؟ فقالت: ما أكرم النساء أحد
إكرام بشير بن مروان، ولا هاب النساء هيبة الحجاج بن يوسف، ووددت أن
القيامة قد قامت فأرى عبيد الله بن زياد وأشتفي من حديثه والنظر إليه -
وكان أتى عذارتها - وقد تزوجت بالآخرين أيضا.
(8/313)
وقال عثمان بن
أبي شيبة عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: أول من جهر بالمعوذتين في
الصلاة المكتوبة ابن زياد، قلت: يعني والله أعلم في الكوفة، فإن ابن
مسعود كان لا يكتبهما في مصحفه وكان فقهاء الكوفة عن كبراء أصحاب ابن
مسعود يأخذون والله أعلم.
وقد كانت قي ابن زياد جرأة وإقدام ومبادرة إلى مالا يجوز، ومالا حاجة
له به، لما ثبت في الحديث الذي رواه أبو يعلى ومسلم، كلاهما عن شيبان
بن فروخ عن جرير عن الحسن أن عائذ بن عمرو دخل على عبيد الله بن زياد
فقال: أي بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن شر الرعاء
الحطمة، فإياك أن تكون منهم ".
فقال له اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: وهل كان فيهم نخالة ؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم.
وقد روى غير واحد عن الحسن أن عبيد الله بن زياد دخل على معقل بن يسار
يعوده فقال له: إني محدثك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " ما من رجل استرعاه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لهم إلا
حرم الله عليه الجنة ".
وقد ذكر غير واحد أنه لما مات معقل صلى عليه عبيد الله بن زياد ولم
يشهد دفنه، واعتذر بما ليس يجدي شيئا وركب إلى قصره، ومن جراءته إقدامه
على الامر بإحضار الحسين إلى بين يديه وإن قتل دون ذلك، وكان الواجب
عليه أن يجيبه إلى سؤاله الذي سأله فيما طلب من ذهابه إلى يزيد أو
إلى مكة أو إلى أحد الثغور، فلما أشار عليه شمر بن ذي الجوشن بأن الحزم
أن يحضر عندك وأنت تسيره بعد ذلك إلى حيث شئت من هذه الخصال أو غيرها،
فوافق شمرا على ما أشار به من إحضاره بين يديه فأبى الحسين أن يحضر
عنده ليقضي فيه بما يراه ابن مرجانة.
وقد تعس وخاب وخسر، فليس لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يحضر بين يدي ابن مرجانة الخبيث، وقد قال محمد بن سعد: أنبأنا الفضل بن
دكين ومالك بن إسماعيل قالا: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك بن
كردوس، عن حاجب عبيد الله بن زياد قال: دخلت معه القصر حين قتل الحسين
قال فاضطرم في وجهه نارا أو كلمة نحوها، فقال بكمه هكذا على وجهه وقال:
لا تحدثن بها أحدا، وقال شريك عن مغيرة قال: قالت مرجانة لابنها عبيد
الله: يا خبيث قتلت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لا ترى
الجنة أبدا.
وقد قدمنا أن يزيد بن معاوية لما مات بايع الناس في المصرين لعبيد الله
حتى يجتمع الناس على إمام، ثم خرجوا عليه فأخرجوه من بين أظهرهم، فسار
إلى الشام فاجتمع بمروان، وحسن له أن يتولى الخلافة ويدعو إلى نفسه
ففعل ذلك، وخالف الضحاك بن قيس، ثم انطلق عبيد الله إلى الضحاك بن قيس
فما زال به حتى أخرجه من دمشق إلى مرج راهط، ثم حسن له أن دعا إلى بيعة
نفسه وخلع ابن الزبير ففعل، فانحل نظامه ووقع ما وقع بمرج راهط، من قتل
الضحاك وخلق معه هنالك، فلما تولى مروان أرسل ابن زياد إلى العراق في
جيش فالتقى هو وجيش التوابين مع سليمان بن صرد فكسرهم، واستمر قاصدا
الكوفة في ذلك الجيش، فتعوق في الطريق بسبب من كان يمانعه من أهل
الجزيرة من الاعداء الذي هم من جهة ابن الزبير.
(8/314)
ثم اتفق خروج
ابن الاشتر إليه في سبعة آلاف، وكان مع ابن زياد أضعاف ذلك، ولكن ظفر
به ابن الاشتر فقتله شر قتلة على شاطئ نهر الخازر قريبا من الموصل بخمس
مراحل.
قال أبو أحمد الحاكم: وكان ذلك يوم عاشوراء قلت: وهو اليوم الذي قتل
فيه الحسين، ثم بعث ابن الاشتر برأسه إلى المختار ومعه رأس حصين بن
نمير وشرحبيل بن ذي الكلاع وجماعة من رؤساء أصحابهم، فسر بذلك المختار،
فقال يعقوب بن سفيان: حدثني يوسف بن موسى بن
جرير، عن يزيد بن أبي زياد قال: لما جئ برأس ابن مرجانة وأصحابه طرحت
بين يدي المختار فجاءت حية رقيقة ثم تخللت الرؤوس حتى دخلت في فم ابن
مرجانة وخرجت من منخره، ودخلت في منخره وخرجت من فمه، وجعلت تدخل وتخرج
من رأسه من بين الرؤوس.
ورواه الترمذي من وجه آخر بلفظ آخر فقال: حدثنا واصل بن عبد الاعلى بن
أبي معاوية، عن الاعمش، عن عمارة بن عمير.
قال: لما جئ برأس عبيد الله وأصحابه فنصبت في المسجد في الرحبة،
فانتهيت إليها وهم يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية قد جاءت تخلل
الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة ثم خرجت
فذهبت حتى تغيبت ثم قالوا: قد جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا.
قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح.
وقال أبو سليمان بن زيد: وفي سنة ست وستين قالوا فيها قتل ابن زياد
والحصين بن نمير، ولي قتلهما إبراهيم بن الاشتر وبعث برأسيهما إلى
المختار فبعث بهما إلى ابن الزبير، فنصبت بمكة والمدينة.
وهكذا حكى ابن عساكر عن أبي أحمد الحاكم وغيره أن ذلك كان في سنة ست
وستين، زاد أبو أحمد في يوم عاشوراء، وسكت ابن عساكر عن ذلك، والمشهور
أن ذلك كان في سنة سبع وستين كما ذكره ابن جرير وغيره، ولكن بعث الرؤوس
إلى ابن الزبير (1) في هذه السنة متعذر لان العداوة كانت قد قويت
وتحققت بين المختار وابن الزبير في هذه السنة، وعما قليل أمر ابن
الزبير أخاه مصعبا أن يسير من البصرة إلى الكوفة لحصار المختار وقتاله
والله أعلم.
مقتل المختار بن أبي عبيد على يدي مصعب بن
الزبير
كان عبد الله بن الزبير قد عزل في هذه السنة عن نيابة البصرة الحارث بن
عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع، وولاها لاخيه مصعب بن
الزبير، ليكون ردا وقرنا وكفء للمختار، فلما قدم مصعب البصرة دخلها
متلثما فيمم المنبر، فلما صعده قال الناس: أمير أمير، فلما كشف اللثام
عرفه الناس فأقبلوا إليه، وجاء القباع فجلس تحته بدرجة، فلما اجتمع
الناس قام مصعب خطيبا فاستفتح القصص حتى بلغ: * (إن فرعون علا في الارض
وجعل أهلها شيعا) *
__________
(1) تقدم أنه بعث الرؤوس إلى محمد بن الحنفية.
(*)
(8/315)
[ القصص: 4 ]
وأشار بيده نحو الشام أو الكوفة، ثم قال: * (ونريد أن نمن على الذين
استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض)
* [ القصص: 5 ] وأشار إلى الحجاز.
وقال: يا أهل البصرة إنكم تلقبون أمراءكم، وقد سميت نفسي الجزار،
فاجتمع عليه الناس وفرحوا له، ولما انهزم أهل الكوفة حين خرجوا على
المختار فقهرهم وقتل منهم من قتل، كان لا ينهزم أحد من أهلها إلا قصد
البصرة، ثم خرج المختار ليلتقي بالذي جاء بالرؤوس والبشارة، اغتنم من
بقي بالكوفة من أعداء المختار غيبته فذهبوا إلى البصرة فرارا من
المختار لقلة دينه وكفره، ودعواه أنه يأتيه الوحي وأنه قدم الموالي على
الاشراف واتفق أن ابن الاشتر حين قتل ابن زياد واستقل بتلك النواحي،
فأحرز بلادا وأقاليم ورساتيق لنفسه، واستهان بالمختار، فطمع مصعب فيه
وبعث محمد بن الاشعث بن قيس على البريد (1) إلى المهلب بن أبي صفرة،
وهو نائبهم على خراسان، فقدم في تجمل عظيم ومال ورجال وعدد وعدد، وجيش
كثيف (2)، ففرح به أهل البصرة وتقوى به مصعب، فركب في أهل البصرة ومن
اتبعهم من أهل الكوفة فركبوا في البحر والبر قاصدين الكوفة.
وقدم مصعب بين يديه عباد بن الحصين، وجعل على ميمنته عمر بن عبد الله
بن معمر، وعلى الميسرة المهلب بن أبي صفرة، ورتب الامراء على راياتها
وقبائلها، كمالك بن مسمع، والاحنف بن قيس، وزياد بن عمر (3)، وقيس بن
الهيثم وغيرهم، وخرج المختار بعسكره فنزل المذار وقد جعل على مقدمته
أبا كامل الشاكري (4)، وعلى ميمنته عبد الله بن كامل، وعلى ميسرته عبد
الله بن وهب (5) الجشمي، وعلى الخيل وزير بن عبد الله السلولي، وعلى
الموالي أبا عمرة صاحب شرطته.
ثم خطب الناس وحثهم على الخروج، وبعث بين يديه الجيوش، وركب هو وخلق من
أصحابه وهو يبشرهم بالنصر، فلما انتهى مصعب إلى قريب الكوفة لقيتهم
الكتائب المختارية
فحملت عليهم الفرسان الزبيرية، فما لبثت المختارية إلا يسيرا حتى هربوا
على حمية، وقد قتل
__________
(1) انظر كتاب مصعب إلى المهلب في الطبري 7 / 147 وابن الاعثم 6 / 185.
(2) في الطبري: قدم بجموع كثيرة، وفي ابن الاعثم: سار في ألف رجل من
فرسان عسكره حتى قدم البصرة وفي الاخبال الطوال ص 305: وسار المهلب بمن
معه حتى وافى البصرة.
(3) في الطبري وابن الاثير: زياد بن عمرو.
(4) في الطبري وابن الاثير وابن الاعثم: ندب المختار أصحابه للخروج مع
أحمر بن شميط [ وفي معجم البلدان: سميط البجلي وفي الاخبار الطوال ص
305: أحمر بن سليط ] فخرج وعسكر بحمام أعين وبعث معه المختار رؤوس
الارباع وعلى مقدمته ابن كامل الشاكري فوصلوا إلى المذار (والمذار في
ميسان بين واسط والبصرة - معجم البلدان).
(5) في ابن الاثير: وهيب، وفي الطبري: عبد الله بن وهب بن نضلة الجشمي
وعلى خيله رزين بن عبد السلولي.
(*)
(8/316)
منهم جماعة من
الامراء، وخلق من القراء وطائفة كثيرة من الشيعة الاغبياء، ثم انتهت
الهزيمة إلى المختار.
وقال الواقدي: لما انتهت مقدمة المختار إليه جاء مصعب فقطع الدجلة إلى
الكوفة وقد حصن المختار القصر واستعمل عليه عبد الله بن شداد وخرج
المختار بمن بقي معه فنزل حروراء فلما قرب جيش مصعب منه جهز إلى كل
قبيلة كردوسا، فبعث إلى بكر بن وائل سعيد بن منقذ، وإلى عبد القيس مالك
بن منذر (1)، وإلى العالية عبد الله بن جعدة، وإلى الازد مسافر بن
سعيد، وإلى بني تميم سليم بن يزيد الكندي، وإلى محمد بن الاشعث السائب
بن مالك، ووقف المختار في بقية أصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا إلى الليل
فقتل أعيان أصحاب المختار وقتل تلك الليلة محمد بن الاشعث وعمير (2) بن
علي بن أبي طالب، وتفرق عن المختار باقي أصحابه، فقيل له القصر القصر،
فقال: والله ما خرجت منه وأنا أريد أن أعود إليه، ولكن هذا حكم الله،
ثم ساروا إلى القصر فدخل وجاءه مصعب ففرق القبائل في نواحي الكوفة،
واقتسموا المحال، وخلصوا إلى
القصر، وقد منعوا المختار المادة والماء، وكان المختار يخرج فيقاتلهم
ثم يعود إلى القصر، ولما اشتد عليه الحصار قال لاصحابه: إن الحصار لا
يزيدنا إلا ضعفا، فانزلوا بنا حتى نقاتل حتى الليل حتى نموت كراما،
فوهنوا فقال أما فوالله لا أعطي بيدي.
ثم اغتسل وتطيب وتحنط وخرج فقاتل هو ومن معه حتى قتلوا.
وقيل بل أشار عليه جماعة من أساورته بأن يدخل القصر دار إمارته، فدخله
وهو ملوم مذموم، وعن قريب ينفذ فيه القدر المحتوم، فحاصره مصعب فيه
وجميع أصحابه حتى أصابهم من جهد العطش ما الله به عليم، وضيق عليهم
المسالك والمقاصد، وانسدت عليهم أبواب الحيل، وليس فيهم رجل رشيد ولا
حليم، ثم جعل المختار يجيل فكرته ويكرر رويته في الامر الذي قد حل به،
واستشار من عنده في هذا السبب السئ الذي قد اتصل سببه بسببه من الموالي
والعبيد، ولسان القدر والشرع يناديه: * (قد جاء الحق وما يبدئ الباطل
وما يعيد) * [ سبأ: 49 ] ثم قوى عزمه قوة الشجاعة المركبة فيه، على أن
أخرجته من بين من كان يحالفه ويواليه، ورأى أن يموت على فرسه، حتى يكون
عليها انقضاء آخر نفسه، فنزل حمية وغضبا، وشجاعة وكلبا، وهو مع ذلك لا
يجد مناصا ولا مفرا ولا مهربا، وليس معه من أصحابه سوى تسعة عشر، ولعله
إن كان قد استمر على ما عاش عليه أن لا يفارقه التسعة عشر الموكلون
بسقر، ولما خرج من القصر سأل أن
__________
(1) في الطبري 7 / 250: بعث إلى عبد القيس وكان عليهم مالك بن المنذر
عبد الرحمن بن شريح الشبامي.
وفي ابن الاثير: بعث سعيد بن منقذ على بكر وعبد القيس.
(2) في الطبري وابن الاثير ومروج الذهب 3 / 118 عبيد الله بن علي بن
أبي طالب، وفي ابن الاعثم: عبيد الله بن أبي طالب، وفي الاخبار الطوال
360: عمر بن علي بن أبي طالب.
(*)
(8/317)
يخلي سبيله
فيذهب في أرض الله فقالوا له: إلا على حكم الامير.
والمقصود أنه لما خرج من القصر تقدم إليه رجلان شقيقان أخوان، وهما
طرفة وطراف ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة (1)، فقتلاه بمكان
الزياتين من الكوفة، واحتزا رأسه وأتيا به إلى مصعب بن الزبير، وقد دخل
قصر
الامارة، فوضع بين يديه، كما وضع رأس ابن زياد بين يدي المختار، وكما
وضع رأس الحسين بين يدي ابن زياد، وكما سيوضع رأس مصعب بين يدي عبد
الملك بن مروان، فلما وضع رأس المختار بين يدي مصعب أمر لهما بثلاثين
ألفا.
وقد قتل مصعب جماعة من المختارية، وأسر منهم خمسمائة أسير (2)، فضرب
أعناقهم عن آخرهم في يوم واحد، وقد قتل من أصحاب مصعب في الوقعة محمد
بن الاشعث بن قيس (3)، وأمر مصعب بكف المختار فقطعت وسمرت إلى جانب
المسجد، فلم يزل هنالك حتى قدم الحجاج، فسأل عنها فقيل له هي كف
المختار، فأمر بها فرفعت وانتزعت من هنالك، لان المختار كان من قبيلة
الحجاج.
والمختار هو الكذاب، والمبير الحجاج، ولهذا أخذ الحجاج بثأره من ابن
الزبير فقتله وصلبه شهورا، وقد سأل مصعب أم ثابت بنت سمرة بن جندب
امرأة المختار عنه فقالت: ما عسى أن أقول فيه إلا ما تقولون أنتم فيه،
فتركها واستدعى بزوجته الاخرى وهي عمرة بنت النعمان بن بشير فقال لها:
ما تقولين فيه ؟ فقالت: رحمه الله لقد كان عبدا من عباد الله الصالحين،
فسجنها وكتب إلى أخيه إنها تقول إنه نبي فكتب إليه أن أخرجها فاقتلها،
فأخرجها إلى ظاهر البلد فضربت ضربات حتى ماتت، فقال في ذلك عمر بن أبي
رمثة المخزومي (4).
إن من أعجب العجائب (5) عندي * قتل بيضاء حرة عطبول قتلت هكذا على (6)
غير جرم * إن لله درها من قتيل كتب القتل والقتال علينا * وعلى
الغانيات (7) جر الذيول
__________
(1) في مروج الذهب: 3 / 118 قتله رجل من بني حنيفة يقال له عبد الرحمن
بن أسد واحتز رأسه.
وفي الاخبار الطوال ص 308: قتله اخوان من بني حنيفة من أصحاب المهلب.
(2) في الامامة والسياسة 2 / 25: قتل ثمانية آلاف صبرا.
وفي الاخبار الطوال ص 309: كانوا ستة آلاف.
(3) في مروج الذهب 3 / 118 زاد: وابنان له.
(4) في الطبري 7 / 158: عمر بن أبي ربيعة القرشي، وفي ابن الاثير 4 /
275: عمر بن أبي ربيعة المخزومي وفي مروج الذهب 3 / 119: ففي ذلك يقول
الشاعر، وفي ابن الاعثم 6 / 200: فقال بعضهم في ذلك.
(5) في مروج الذهب: الاعاجيب، والعطبول: المرأة الفتية الجميلة الطويلة
العنق.
(6) في مروج الذهب: قتلوها ظلما على غير جرم.
(7) في الطبري وابن الاعثم وابن الاثير: المحصنات.
(*)
(8/318)
وقال أبو مخنف:
حدثني محمد بن يوسف أن مصعبا لقي عبد الله بن عمر بن الخطاب فسلم عليه
فقال ابن عمر: من أنت ؟ فقال: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير، فقال له
ابن عمر: نعم، أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة ؟ عش
ما استطعت، فقال له مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة، فقال ابن عمر: والله
لو قتلت عدلهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا.
وهذه ترجمة المختار بن أبي عبيد الثقفي
هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عفرة بن
عميرة بن عوف بن ثقيف الثقفي، أسلم أبوه في حياة النبي صلى الله عليه
وسلم، ولم يره، فلهذا لم يذكره أكثر الناس في الصحابة، وإنما ذكره ابن
الاثير في الغابة، وقد كان عمر بعثه في جيش كثيف في قتال الفرس سنة
ثلاث عشرة، فقتل يومئذ شهيدا وقتل معه نحو من أربعة آلاف من المسلمين،
كما قدمنا، وعرف ذلك الجسر به، وهو جسر على دجلة فيقال له إلى اليوم
جسر أبي عبيد، وكان له من الولد صفية بنت أبي عبيد، وكانت من الصالحات
العابدات.
وهي زوجة عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكان عبد الله لها مكرما ومحبا،
وماتت في حياته، وأما أخوها المختار هذا فإنه كان أولا ناصبيا يبغض
عليا بغضا شديدا، وكان عند عمه في المدائن، وكان عمه نائبها، فلما
دخلها الحسن بن علي خذله أهل العراق وهو سائر إلى الشام لقتال معاوية
بعد مقتل أبيه، فلما أحس الحسن منهم بالغدر فر منهم إلى المدائن في جيش
قليل، فقال المختار لعمه: لو أخذت الحسن فبعثته إلى معاوية لاتخذت عنده
اليد البيضاء أبدا، فقال له عمه: بئس ما تأمرني به يا بن أخي، فما زالت
الشيعة تبغضه حتى كان من أمر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ما كان، وكان
المختار من الامراء بالكوفة، فجعل
يقول: أما لانصرنه، فبلغ ابن زياد ذلك فحبسه بعد ضربه مائة جلدة، فأرسل
ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يتشفع فيه، فأرسل يزيد إلى ابن زياد فأطلقه
وسيره إلى الحجاز في عباءة، فصار إلى ابن الزبير بمكة فقاتل معه حين
حصره أهل الشام قتالا شديدا، ثم بلغ المختار ما قال أهل العراق فيه من
التخبيط، فسار إليهم وترك ابن الزبير، ويقال إنه سأل ابن الزبير أن
يكتب له كتابا إلى ابن مطيع نائب الكوفة ففعل، فسار إليها، وكان يظهر
مدح ابن الزبير في العلانية ويسبه في السر، ويمدح محمد بن الحنفية
ويدعو إليه، وما زال حتى استحوذ على الكوفة بطريق التشيع وإظهار الاخذ
بثأر الحسين، وبسبب ذلك التفت عليه جماعات كثيرة من الشيعة وأخرج عامل
ابن الزبير منها، واستقر ملك المختار بها، ثم كتب إلى ابن الزبير يعتذر
إليه ويخبره أن ابن مطيع كان مداهنا لبني أمية، وقد خرج من الكوفة،
وأنا ومن بها في طاعتك، فصدقه ابن الزبير لانه كان يدعو إليه على
المنبر يوم الجمعة على رؤوس الناس، ويظهر طاعته، ثم شرع في تتبع قتلة
الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد، فقتل منهم خلقا
كثيرا، وظفر برؤوس كبار منهم
(8/319)
كعمر بن سعد بن
أبي وقاص أمير الجيش الذي قتلوا الحسين وشمر بن ذي الجوشن أمير الالف
الذين ولوا قتل الحسين، وسنان بن أبي أنس، وخولى بن يزيد الاصبحي، وخلق
غير هؤلاء، وما زال حتى بعث سيف نقمته إبراهيم بن الاشتر في عشرين ألفا
إلى ابن زياد، وكان ابن زياد حين التقاه في جيش أعظم من جيشه - في
أضعاف مضاعفة - كانوا ثمانين ألفا، وقيل ستين ألفا، فقتل ابن الاشتر
ابن زياد وكسر جيشه، واحتاز ما في معسكره، ثم بعث برأس ابن زياد ورؤوس
أصحابه مع البشارة إلى المختار، ففرح بذلك فرحا شديدا، ثم إن المختار
بعث برأس ابن زياد ورأس حصين بن نمير ومن معهما إلى ابن الزبير بمكة
فأمر ابن الزبير بها فنصبت على عقبة الحجون.
وقد كانوا نصبوها بالمدينة، وطابت نفس المختار بالملك، وظن أنه لم يبق
له عدو ولا منازع، فلما تبين ابن الزبير خداعه ومكره وسوء مذهبه، بعث
أخاه مصعبا أميرا على العراق، فسارو إلى البصرة فجمع العساكر فما تم
سرور المختار حتى سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة
في جيش هائل فقتله واحتز رأسه وأمر بصلب كفه على باب المسجد، وبعث مصعب
برأس المختار مع رجل من الشرط على البريد (1)، إلى أخيه عبد الله بن
الزبير، فوصل مكة بعد العشاء فوجد عبد الله يتنفل، فما زال يصلي حتى
أسحر ولم يلتفت إلى البريد الذي جاء بالرأس، فلما كان قريب الفجر قال:
ما جاء بك ؟ فألقى إليه الكتاب فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين معي
الرأس، فقال: ألقه على باب المسجد، فألقاه ثم جاء فقال: جائزتي يا أمير
المؤمنين، فقال: جائزتك الرأس الذي جئت به تأخذه معك إلى العراق.
ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون
بزوالها، وذلك لان الرجل لم يكن في نفسه صادقا، بل كان كاذبا يزعم أن
الوحي يأتيه على يد جبريل.
قال الامام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا عيسى القارئ، أبو عمير بن
السدي، عن رفاعة القبابي قال: دخلت على المختار فألقى لي وسادة وقال:
لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لالقيتها لك، قال: فأردت أن أضرب عنقه
قال فذكرت حديثا حدثنيه أخي عمرو بن الحمق، قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " أيما مؤمن أمن مؤمنا على دمه فقتله فأنا من القاتل برئ "
(2).
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن حماد بن سلمة، حدثني
عبد الملك بن عمير، عن رفاعة بن شداد.
قال: كنت أقوم على رأس المختار فلما عرفت كذبه هممت أن أسل سيفي فأضرب
عنقه، فذكرت حديثا حدثناه عمرو بن الحمق.
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أمن رجلا على نفسه
فقتله أعطي لواء غدر يوم القيامة " (3) ورواه النسائي وابن ماجه من غير
وجه
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 308: مع عبد الله بن عبد الرحمن.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 5 / 437.
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 5 / 223، 224، 437.
وابن ماجه في الديات (33) باب.
ح (2688).
(*)
(8/320)
عن عبد الملك
بن عمير وفي لفظ لهما: " من أمن رجلا على دم فقتله فأنا برئ من القاتل،
وإن كان المقتول كافرا ".
وفي سند هذا الحديث اختلاف.
وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن
الوحي يأتيه، فقال صدق، قال تعالى: * (وإن الشياطين ليوحون إلى
أوليائهم) * [ الانعام: 121 ] وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت
على المختار فأكرمني وأنزلني عنده، وكان يتعاهد مبيتي بالليل قال فقال
لي: اخرج فحدث الناس، قال: فخرجت فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي ؟
فقلت الوحي وحيان قال الله تعالى: * (إنا أوحينا إليك هذا القرآن) * [
يوسف: 3 ] وقال تعالى: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن
يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * [ الانعام: 112 ] قال فهموا أن
يأخذوني فقلت: مالكم وذاك ! إني مفتيكم وضيفكم.
فتركوني، وإنما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذبه في ادعائه أن الوحي
ينزل عليه.
وروى الطبراني من طريق أنيسة بنت زيد بن الارقم: أن أباها دخل على
المختار بن أبي عبيد فقال له: يا أبا عامر لو شفت رأي جبريل وميكائيل،
فقال له زيد خسرت وتعست، أنت أهون على الله من ذلك، كذاب مفتر على الله
ورسوله، وقال الامام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف ثنا ابن (1) عوف الصديق
الناجي: أن الحجاج بن يوسف دخل على أسماء بنت أبي بكر الصديق، بعد ما
قتل ابنها عبد الله بن الزبير فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن
الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل به وفعل، فقالت له كذبت، كان بارا
بالوالدين، صواما قواما، والله لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم " أنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الاول، وهو مبير "
(1).
هكذا رواه أحمد بهذا السند واللفظ.
وقد أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل عن عقبة بن مكرم العمي
البصري، عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي، عن الاسود بن شيبان، عن أبي نوفل
عن أبي عقرب واسمه معاوية بن سلم، عن أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: " إن في ثقيف كذابا ومبيرا " (2).
وفي الحديث قصة طويلة في مقتل الحجاج ولدها عبد الله في سنة ثلاث
وسبعين كما سيأتي، وقد ذكر البيهقي هذا الحديث في دلائل النبوة، وقد
ذكر العلماء أن الكذاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان يظهر التشيع ويبطن
الكهانة، وأسر إلى أخصائه أنه يوحى إليه، وكان ما أدري هلى كان يدعي
النبوة أم لا ؟ وكان قد وضع له كرسي يعظم ويحف به الرجال، ويستر
بالحرير، ويحمل على البغال، وكان يضاهي به تابوت بني إسرائيل المذكور
في القرآن، ولا شك
__________
= وفي الزوائد: إسناد صحيح ورجاله ثقات، لان رفاعة بن شداد، أخرجه
النسائي في سننه ووثقه.
وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال الاسناد على شرط مسلم.
(1) في مسند أحمد 6 / 351: ثنا عوف عن أبي الصديق الناجي.
(2) صحيح مسلم - فضائل الصحابة (58) باب.
ح (229) ص (1971).
(*)
(8/321)
أنه كان ضالا
مضلا أراح الله المسلمين منه بعد ما انتقم به من قوم آخرين من
الظالمين، كما قال تعالى: * (وكذلك نولي بعض الظالمين ببعضا بما كانوا
يكسبون) * [ الانعام: 129 ] وأما المبير فهو القتال وهو الحجاج بن يوسف
الثقفي نائب العراق لعبد الملك بن مروان، الذي انتزع العراق من يد مصعب
بن الزبير، كما سيأتي بيانه قريبا.
وذكر الواقدي أن المختار لم يزل مظهرا موافقة ابن الزبير حتى قدم مصعب
إلى البصرة في أول سنة سبع وستين وأظهر مخالفته فسار إليه مصعب فقاتله
وكان المختار في نحو من عشرين ألفا، وقد حمل عليه المختار مرة فهزمه،
ولكن لم يثبت جيش المختار حتى جعلوا ينصرفون إلى مصعب ويدعون المختار،
وينقمون عليه ما هو فيه من الكهانة والكذب، فلما رأى المختار ذلك انصرف
إلى قصر الامارة فحاصره مصعب فيه أربعة أشهر، ثم قتله في رابع عشر
رمضان سنة سبع وستين، وله من العمر سبع وستون سنة فيما قيل.
فصل ولما استقر مصعب بن الزبير بالكوفة
بعث إلى إبراهيم بن الاشتر ليقدم عليه، وبعث إليه عبد الملك بن مروان
ليقدم عليه (1)، فحار ابن الاشتر في أمره، وشاور أصحابه إلى أيهما
يذهب، ثم اتفق رأيهم على الذهاب إلى بلدهم الكوفة، فقدم ابن الاشتر على
مصعب بن الزبير فأكرمه وعظمه واحترمه كثيرا، وبعث مصعب المهلب بن أبي
صفرة على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية، وكان قد استخلف على
البصرة حين خرج منها عبيد الله بن عبد الله بن معمر، وأقام هو
بالكوفة، ثم لم تنسلخ هذه السنة حتى عزله أخوه عبد الله بن الزبير عن
البصرة وولى عليها ابنه حمزة بن عبد الله بن الزبير، وكان شجاعا جوادا
مخلطا يعطي أحيانا حتى لا يدع شيئا، ويمنع أحيانا ما لم يمنع مثله،
وظهرت خفة وطيش في عقله، وسرعة في أمره، فبعث الاحنف إلى عبد الله بن
الزبير فعزله وأعاد إلى ولايتها أخاه مصعبا مضافا إلى ما بيده من ولاية
الكوفة، قالوا: وخرج حمزة بن عبد الله بن الزبير من البصرة بمال كثير
من بيت مالها، فعرض له مالك بن مسمع، فقال: لا ندعك تذهب بأعطياتنا،
فضمن له عبيد الله بن معمر العطاء فكف عنه، فلما انصرف حمزة لم يقدم
على أبيه مكة، بل عدل إلى المدينة، فأودع ذلك المار رجالا فكلهم غل ما
أودعه وجحده، سوى رجل من أهل الكتاب، فأدى إليه أمانته.
فلما بلغ أباه ما صنع قال: أبعده الله، أردت أن أباهي به بني مروان
فنكص.
وذكر أبو مخنف أن حمزة بن عبد الله بن الزبير ولي البصرة سنة كاملة
فالله أعلم.
قال ابن جرير: وحج بالناس فيها عبد الله بن الزبير، وكان عامله على
الكوفة أخاه
__________
(1) نسخة الكتابين لابن الاشتر في الطبري 7 / 158 وابن الاعثم 6 / 200
- 201.
(*)
(8/322)
مصعبا، وعلى البصرة ابنه حمزة، وقيل بل كان رجع إليها أخوه، وعلى
خراسان وتلك البلاد عبد الله بن خازم السلمي من جهة ابن الزبير والله
سبحانه أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان الوليد
بن عقبة بن أبي معيط.
وأبو الجهم، وهو صاحب الانبجانية (1) المذكورة في الحديث الصحيح.
وفيها قتل خلق كثير يطول ذكرهم. |