الكامل في التاريخ

 [ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ]
296 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
ذِكْرُ خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ وَوِلَايَةِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ الْقُوَّادُ، وَالْقُضَاةُ، وَالْكُتَّابُ، مَعَ الْوَزِيرِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ، وَالْبَيْعَةِ لِابْنِ الْمُعْتَزِّ، (وَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الْمُعْتَزِّ) فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ سَفْكُ دَمٍ، وَلَا حَرْبٌ، فَأَخْبَرُوهُ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مُنَازِعٌ وَلَا مُحَارِبٌ.
وَكَانَ الرَّأْسَ فِي ذَلِكَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَأَبُو الْمُثَنَّى أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، وَمِنَ الْقُوَّادِ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ، وَبَدْرٌ الْأَعْجَمِيُّ، وَوَصِيفُ بْنُ صُوَارِتِكِينَ.
ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ رَأَى أَمَرَهُ صَالِحًا مَعَ الْمُقْتَدِرِ، وَأَنَّهُ عَلَى مَا يُحِبُّ، فَبَدَا لَهُ فِي ذَلِكَ، فَوَثَبَ بِهِ الْآخَرُونَ فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى قَتْلَهُ مِنْهُمُ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ، وَبَدْرٌ الْأَعْجَمِيُّ، وَوَصِيفٌ، وَلَحِقُوهُ، وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى بُسْتَانٍ لَهُ، فَقَتَلُوهُ فِي طَرِيقِهِ، وَقَتَلُوا مَعَهُ فَاتِكًا الْمُعْتَضِدِيَّ، وَذَلِكَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَخُلِعَ الْمُقْتَدِرُ مِنَ الْغَدِ، وَبَايَعَ النَّاسُ لِابْنِ الْمُعْتَزِّ.
وَرَكَضَ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ إِلَى الْحَلْبَةِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْمُقْتَدِرَ يَلْعَبُ هُنَاكَ بِالْكُرَةِ، فَيَقْتُلَهُ، فَلَمْ يُصَادِفْهُ، لِأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ، فَبَلَغَهُ قَتْلُ الْوَزِيرِ وَفَاتِكٍ، فَرَكَّضَ دَابَّتَهُ فَدَخَلَ الدَّارَ، وَغُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ، فَنَدِمَ الْحُسَيْنُ حَيْثُ لَمْ يَبْدَأْ بِالْمُقْتَدِرِ.

(6/569)


وَأَحْضَرُوا ابْنَ الْمُعْتَزِّ وَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَكَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَخْذَ الْبَيْعَةِ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَزْرَقُ، وَحَضَرَ النَّاسُ، وَالْقُوَّادُ، وَأَصْحَابُ الدَّوَاوِينِ، سِوَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَخَوَاصِّ الْمُقْتَدِرِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوا.
وَلُقِّبَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ الْمُرْتَضِيَ بِاللَّهِ، وَاسْتَوْزَرَ مُحَمَّدَ بْنَ دَاوُدَ الْجَرَّاحَ، وَقَلَّدَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى الدَّوَاوِينَ، وَكُتِبَتِ الْكُتُبُ إِلَى الْبِلَادِ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُرْتَضِي بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ، وَوَجَّهَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ يَأْمُرُهُ بِالِانْتِقَالِ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ الَّتِي كَانَ مُقِيمًا فِيهَا، لِيَنْتَقِلَ هُوَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَأَجَابَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَسَأَلَ الْإِمْهَالَ إِلَى اللَّيْلِ.
وَعَادَ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ بُكَرَةَ غَدٍ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَقَاتَلَهُ الْخَدَمُ وَالْغِلْمَانُ وَالرَّجَّالَةُ مِنْ وَرَاءِ السُّتُورِ عَامَّةَ النَّهَارِ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ آخِرَ النَّهَارِ، فَلَمَّا جَنَّهُ اللَّيْلُ سَارَ عَنْ بَغْدَاذَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ وَكُلِّ مَا لَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، لَا يَدْرِي لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مَعَ الْمُقْتَدِرِ مِنَ الْقُوَّادِ غَيْرُ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَمُؤْنِسٍ الْخَازِنِ، وَغَرِيبِ الْخَالِ وَحَاشِيَةِ الدَّارِ.
فَلَمَّا هَمَّ الْمُقْتَدِرُ بِالِانْتِقَالِ عَنِ الدَّارِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا نُسَلِّمُ الْخِلَافَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نُبْلِيَ عُذْرًا، وَنَجْتَهِدَ فِي دَفْعِ مَا أَصَابَنَا، فَأُجْمِعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَصْعَدُوا فِي الْمَاءِ إِلَى الدَّارِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ الْمُعْتَزِّ بِالْحُرَمِ يُقَاتِلُونَهُ، فَأَخْرَجَ لَهُمُ الْمُقْتَدِرُ السِّلَاحَ وَالزَّرَدِيَّاتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَرَكِبُوا السُّمَيْرِيِّاتِ، وَأَصْعَدُوا فِي الْمَاءِ، فَلَمَّا رَآهُمْ مَنْ عِنْدَ ابْنِ الْمُعْتَزِّ هَالَهُمْ كَثْرَتُهُمْ، وَاضْطَرَبُوا وَهَرَبُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ حَمْدَانَ عَرَفَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَجْرِيَ فَهَرَبَ مِنَ اللَّيْلِ، وَهَذِهِ مُوَاطَأَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقْتَدِرِ، وَهَذَا كَانَ سَبَبَ هَرَبِهِ.

(6/570)


وَلَمَّا رَأَى ابْنُ الْمُعْتَزِّ ذَلِكَ رَكِبَ وَمَعَهُ وَزِيرُهُ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ وَهَرَبَا، وَغُلَامٌ لَهُ يُنَادِي بَيْنَ يَدَيْهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَامَّةِ، ادْعُوا لِخَلِيفَتِكُمُ السُّنِّيِّ الْبَرْبَهَارِيِّ، وَإِنَّمَا نُسِبَتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ لِأَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَرْبَهَارِيَّ كَانَ مُقَدَّمَ الْحَنَابِلَةِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْعَامَّةِ، وَلَهُمْ فِيهَا اعْتِقَادٌ عَظِيمٌ، فَأَرَادَ اسْتِمَالَتَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ.
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْمُعْتَزِّ وَمَنْ مَعَهُ سَارُوا نَحْوَ الصَّحْرَاءِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ مَنْ بَايَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ يَتْبَعُونَهُ، فَلَمْ يَلْحَقْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَكَانُوا عَزَمُوا أَنْ يَسِيرُوا إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى بِمَنْ يَتْبَعُهُمْ مِنَ الْجُنْدِ، فَيَشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ أَحَدٌ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ الرَّأْيِ، وَاخْتَفَى مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ (فِي دَارِهِ) وَنَزَلَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ عَنْ (دَابَّتِهِ) وَمَعَهُ غُلَامُهُ يُمْنٌ، وَانْحَدَرَ إِلَى دَارِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَصَّاصِ، فَاسْتَجَارَ بِهِ، وَاسْتَتَرَ أَكْثَرُ مَنْ بَايَعَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ، وَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ وَالنَّهْبُ وَالْقَتْلُ بِبَغْدَاذَ، وَثَارَ الْعَيَّارُونَ وَالسِّفْلُ يَنْهَبُونَ الدُّورَ.
وَكَانَ ابْنُ عَمْرَوَيْهِ، صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، مِمَّنْ بَايَعَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ، فَلَمَّا هَرَبَ جَمَعَ ابْنُ عَمْرَوَيْهِ أَصْحَابَهُ، وَنَادَى بِشِعَارِ الْمُقْتَدِرِ، يُدَلِّسُ بِذَلِكَ فَنَادَاهُ الْعَامَّةُ: يَا مُرَائِي، يَا كَذَّابُ! وَقَاتَلُوهُ، فَهَرَبَ وَاسْتَتَرَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، فَهَجَاهُ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا:
بَايَعُوهُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْأَنْ ... وُكِ إِلَّا التَّغْيِيرُ وَالتَّخْبِيطُ

(6/571)


رَافِضِيُّونَ بَايَعُوا أَنْصَبَ الْأُ
مَّةِ هَذَا لَعَمْرِيَ التَّخْلِيطُ ... ثُمَّ وَلَّى مِنْ زَعْقَةٍ وَمُحَامُو
هُ وَمَنْ خَلْفَهُمْ لَهُمْ تَضْرِيطُ
وَقَلَّدَ الْمُقْتَدِرُ، تِلْكَ السَّاعَةَ، الشُّرْطَةَ مُؤْنِسًا الْخَازِنَ، وَهُوَ غَيْرُ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَخَرَجَ بِالْعَسْكَرِ، وَقَبَضَ عَلَى وَصِيفِ بْنِ صُوَارِتِكِينَ وَغَيْرِهِ، فَقَتَلَهُمْ، وَقَبَضَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، وَعَلِيَّ بْنِ عِيسَى، وَالْقَاضِي مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ وَكِيعٍ، ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ، وَقَبَضَ عَلَى الْقَاضِي الْمُثَنَّى أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، فَقَتَلَهُ لِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: بَايِعِ الْمُقْتَدِرَ، فَقَالَ: لَا أُبَايِعُ صَبِيًّا، فَذُبِحَ.
وَأَرْسَلَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَكَانَ مُخْتَفِيًا، فَأَحْضَرَهُ، وَاسْتَوْزَرَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ.
وَكَانَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَجَائِبُ مِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ وَالْبَيْعَةِ لِابْنِ الْمُعْتَزِّ، فَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ إِرَادَتِهِمْ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.
وَمِنْهَا أَنَّ ابْنَ حَمْدَانَ، عَلَى شِدَّةِ تَشَيُّعِهِ وَمَيْلِهِ إِلَى عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ، يَسْعَى فِي الْبَيْعَةِ لِابْنِ الْمُعْتَزِّ عَلَى انْحِرَافِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَغُلُوِّهِ فِي النَّصْبِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ خَادِمًا لِابْنِ الْجَصَّاصِ، يُعْرَفُ بِسَوْسَنَ، أَخْبَرَ صَافِيًا الْحُرَمِيَّ بِأَنَّ ابْنَ الْمُعْتَزِّ عِنْدَ مَوْلَاهُ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَكُبِسَتْ دَارُ ابْنِ الْجَصَّاصِ، وَأُخِذَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ مِنْهَا، وَحُبِسَ إِلَى اللَّيْلِ، وَعُصِرَتْ خُصْيَتَاهُ حَتَّى مَاتَ، وَلُفَّ فِي كِسَاءٍ، وَسُلِّمَ إِلَى أَهْلِهِ.
وَصُودِرَ ابْنُ الْجَصَّاصِ عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ، وَأُخِذَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ وَزِيرُ ابْنِ الْمُعْتَزِّ، وَكَانَ

(6/572)


مُسْتَتِرًا، فَقُتِلِ، وَنُفِيَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى إِلَى وَاسِطَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْوَزِيرِ ابْنِ الْفُرَاتِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى مَكَّةَ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَسَارَ إِلَيْهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ وَأَقَامَ بِهَا.
وَصُودِرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسُيِّرَتِ الْعَسَاكِرُ مِنْ بَغْدَاذَ فِي طَلَبِ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ فَتَبِعُوهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، ثُمَّ إِلَى بَلَدٍ فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ فَعَادُوا إِلَى بَغْدَاذَ (فَكَتَبَ الْوَزِيرُ إِلَى أَخِيهِ أَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانَ، وَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَى الْمَوْصِلِ، يَأْمُرُهُ بِطَلَبِهِ، فَسَارَ إِلَيْهِ إِلَى بَلَدٍ، فَفَارَقَهَا الْحُسَيْنُ إِلَى سِنْجَارَ وَأَخُوهُ فِي أَثَرِهِ، فَدَخَلَ الْبَرِّيَّةَ فَتَبِعَهُ أَخُوهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَأَدْرَكَهُ فَاقْتَتَلُوا فَظَفِرَ أَبُو الْهَيْجَاءِ، وَأُسِرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَأُخِذَ مِنْهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَعَادَ عَنْهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَلَمَّا كَانَ فَوْقَ تَكْرِيتَ أَدْرَكَهُ أَخُوهُ الْحُسَيْنُ، فَبَيَّتَهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَتْلَى، وَانْحَدَرَ أَبُو الْهَيْجَاءِ إِلَى بَغْدَاذَ.
وَأَرْسَلَ الْحُسَيْنُ إِلَى ابْنِ الْفُرَاتِ، وَزِيرِ الْمُقْتَدِرِ، يَسْأَلُهُ الرِّضَى عَنْهُ، فَشَفَعَ فِيهِ إِلَى الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ لِيَرْضَى عَنْهُ، وَعَنْ) إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَيْغَلَغَ، وَابْنِ عَمْرَوَيْهِ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ وَغَيْرِهِمْ، (فَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَدَخَلَ الْحُسَيْنُ بَغْدَاذَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَخُوهُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، وَأَقَامَ الْحُسَيْنُ بِبَغْدَاذَ إِلَى أَنْ وَلِيَ قُمَّ فَسَارَ إِلَيْهَا) ، وَأَخَذَ الْجَرَائِدَ الَّتِي فِيهَا أَسْمَاءُ مَنْ أَعَانَ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، فَغَرَّقَهَا فِي دِجْلَةَ.
وَبَسَطَ ابْنُ الْفُرَاتِ الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ وَأَخْرَجَ الْإِدْرَارَاتِ لِلْعَبَّاسِيِّينَ وَالطَّالِبِيِّينَ، وَأَرْضَى الْقُوَّادَ بِالْأَمْوَالِ، فَفَرَّقَ مُعْظَمَ مَا كَانَ فِي بُيُوتِ الْأَمْوَالِ.

ذِكْرُ حَادِثَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَاطَ مِنْ مِثْلِهَا وَيُفْعَلَ فِيهَا مِثْلُ فِعْلِ صَاحِبِهَا
كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُخَلَّدٍ مُتَّصِلًا بِابْنِ الْفُرَاتِ، وَبَيْنَهُمَا مَوَدَّةٌ وَصَدَاقَةٌ، فَوَجَدَ الْوَزِيرُ كُتُبَ الْبَيْعَةِ لِابْنِ الْمُعْتَزِّ بِخَطِّ سُلَيْمَانَ لِاتِّصَالٍ كَانَ لِمُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، فَلَمْ يُظْهِرْ عَلَيْهَا الْمُقْتَدِرَ، وَأَخْفَاهَا عَنْهُ، وَأَحْسَنَ ابْنُ الْفُرَاتِ إِلَى

(6/573)


سُلَيْمَانَ، وَقَلَّدَهُ الْأَعْمَالَ، فَسَعَى سُلَيْمَانُ بِابْنِ الْفُرَاتِ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، وَكَتَبَ بِخَطِّهِ مُطَالَعَةً تَتَضَمَّنُ ذِكْرَ أَمَلَاكِ الْوَزِيرِ وَضِيَاعِهِ وَمُسْتَغَلَّاتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِهِ، وَأَخَذَ الرُّقْعَةَ لِيُوَصِّلَهَا إِلَى الْمُقْتَدِرِ، فَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ ذَلِكَ.
وَحَضَرَ دَارَ الْوَزِيرِ وَهِيَ مَعَهُ، وَسَقَطَتْ مِنْ كُمِّهِ، فَظَفِرَ بِهَا بَعْضُ الْكُتَّابِ فَأَوْصَلَهَا إِلَى الْوَزِيرِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا قَبَضَ عَلَى سُلَيْمَانَ، وَجَعَلَهُ فِي زَوْرَقٍ وَأَحْضَرَهُ إِلَى وَاسِطَ، وَوَكَّلَ بِهِ هُنَاكَ، وَصَادَرَهُ، ثُمَّ أَرَادَ الْعَفْوَ عَنْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: نَظَرْتُ - أَعَزَّكَ اللَّهُ - فِي حَقِّكَ عَلَيَّ وَجُرْمِكَ إِلَيَّ، فَرَأَيْتُ الْحَقَّ مُوفِيًا عَلَى الْجُرْمِ، وَتَذَكَّرْتُ مِنْ سَالِفِ خِدْمَتِكَ مَا عَطَّفَنِي عَلَيْكَ، وَثَنَانِي إِلَيْكَ وَأَعَادَنِي لَكَ إِلَى أَفْضَلِ مَا عَهِدْتُ، وَأَجْمَلِ مَا أَلِفْتُ، وَأَطْلَقَ لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعَفَا عَنْهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ وَأَكْرَمَهُ.

ذِكْرُ وِلَايَةِ أَبِي مُضَرَ إِفْرِيقِيَّةَ وَهَرَبِهُ إِلَى الْعِرَاقِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُسْتَهَلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلِيَ أَبُو مُضَرَ زِيَادَةُ اللَّهِ بْنُ (أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ) عَبْدِ اللَّهِ إِفْرِيقِيَّةَ، بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ، فَعَكَفَ عَلَى اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَمُلَازِمَةِ النُّدَمَاءِ وَالْمُضْحِكِينَ، وَأَهْمَلَ أُمُورَ الْمَمْلَكَةِ وَأَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ، وَأَرْسَلَ كِتَابًا، (يَوْمَ وُلِّيَ) إِلَى عَمِّهِ الْأَحْوَلِ عَلَى لِسَانِ أَبِيهِ يَسْتَعْجِلُهُ (فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ وَيَحُثُّهُ عَلَى السُّرْعَةِ، فَسَارَ مُجِدًّا وَلَمْ يَعْلَمْ بِقَتْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ) ، فَلَمَّا وَصَلَ قَتَلَهُ وَقَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَامِهِ وَإِخْوَتِهِ.
وَاشْتَدَّتْ شَوْكَةُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ فِي أَيَّامِهِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَكَانَ الْأَحْوَلُ قُبَالَتَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ صَفَتْ لَهُ الْبِلَادُ، وَدَانَتْ لَهُ الْأَمْصَارُ وَالْعِبَادُ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ زِيَادَةُ اللَّهِ جَيْشًا مَعَ

(6/574)


إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْأَغْلَبِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمِّهِ، بَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا سِوَى مَنِ انْضَافَ إِلَيْهِ، فَهَزَمَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ (آنِفًا) ، فَلَمَّا اتَّصَلَ بِزِيَادَةِ اللَّهِ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا مُقَامَ لَهُ لِأَنَّ هَذَا (الْجَمْعَ) هُوَ آخِرُ مَا انْتَهَتْ قُدْرَتُهُ إِلَيْهِ، فَجَمَعَ مَا عَزَّ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَعَزَمَ عَلَى الْهَرَبِ إِلَى بِلَادِ الشَّرْقِ، وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَهُ خَبَرُ، (هَزِيمَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ) ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ رِجَالٍ مِنَ الْحَبْسِ، فَقَتَلَهُمْ، وَأَعْلَمَ خَاصَّتَهُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ.
فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَهْلُ دَوْلَتِهِ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يَتْرُكَ مُلْكَهُ.
قَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَا يُجْسَرُ عَلَيْهِ فَشَتَمَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ رَأْيَهُ، وَقَالَ: أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ أَنْ يَأْخُذَنِي بِيَدِي.
وَانْصَرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ خَاصَّتِهِ وَأَهْلِهِ يَتَجَهَّزُ لِلْمَسِيرِ مَعَهُ، وَأَخْذِ مَا أَمْكَنَهُ حَمْلُهُ.
وَكَانَتْ دَوْلَةُ آلِ (الْأَغْلَبِ بِإِفْرِيقِيَّةَ) قَدْ طَالَتْ مُدَّتُهَا، وَكَثُرَتْ عَبِيدُهَا (وَقَوِيَ سُلْطَانُهَا) ، وَسَارَ عَنْ إِفْرِيقِيَةَ إِلَى مِصْرَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَاجْتَمَعَ مَعَهُ خَلْقٌ عَظِيمٌ، فَلَمْ يَزَلْ سَائِرًا حَتَّى وَصَلَ طَرَابُلُسَ، فَدَخَلَهَا، فَأَقَامَ بِهَا تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَرَأَى بِهَا أَبَا الْعَبَّاسِ أَخَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ، وَكَانَ مَحْبُوسًا بِالْقَيْرَوَانِ، حَبَسَهُ زِيَادَةُ اللَّهِ، فَهَرَبَ إِلَى طَرَابُلُسَ، فَلَمَّا رَآهُ أَحْضَرَهُ وَقَرَّرَهُ: هَلْ هُوَ أَخُو أَبِي عَبْدِ اللَّهِ؟ فَأَنْكَرَ وَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ تَاجِرٌ قِيلَ عَنِّي، (إِنَّنِي أَخُو أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) فَحَبَسْتَنِي.
فَقَالَ لَهُ زِيَادَةُ اللَّهِ: أَنَا أُطْلِقُكَ فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِي أَنَّكَ تَاجِرٌ فَلَا نَأْثَمُ فِيكَ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، وَأَنْتَ أَخُو

(6/575)


أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَلْيَكُنْ لِلصَّنِيعَةِ عِنْدَكَ مَوْضِعٌ، وَتَحْفَظْنَا فِيمَنْ خَلَّفْنَاهُ. وَأَطْلَقَهُ.
وَكَانَ مِنْ كِبَارِ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْأَغْلَبِ، فَأَرَادَ قَتْلَهُ وَقَتْلَ رَجُلٍ آخَرَ كَانَا قَدْ عَرَضَا أَنْفُسَهُمَا عَلَى وِلَايَةِ الْقَيْرَوَانِ، فَعَلِمَا ذَلِكَ، وَهَرَبَا إِلَى مِصْرَ، وَقَدِمَا عَلَى الْعَامِلِ بِهَا وَهُوَ عِيسَى النُّوشَرِيُّ، فَتَحَدَّثَا مَعَهُ، وَسَعَيَا بِزِيَادَةِ اللَّهِ وَقَالَا لَهُ: إِنَّهُ يُمَنِّي نَفْسَهُ بِوِلَايَةِ مِصْرَ، فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَأَرَادَ مَنْعَهُ عَنْ دُخُولِ مِصْرَ إِلَّا بِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ مِنْ بَغْدَاذَ، فَوَصَلَ زِيَادَةُ اللَّهِ لَيْلًا، وَعَبَرَ الْجِسْرَ إِلَى الْجِيزَةِ قَهْرًا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النُّوشَرِيُّ لَمْ يُمْكِنْهُ مَنْعُهُ، فَأَنْزَلَهُ بِدَارِ ابْنِ الْجَصَّاصِ، وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، فَأَقَامَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَرَحَلَ يُرِيدُ بَغْدَاذَ، فَهَرَبَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَفِيهِمْ غُلَامٌ لَهُ، (وَأُخِذَ مِنْهُ مِائَةُ) أَلْفِ دِينَارٍ فَأَقَامَ عِنْدَ النُّوشَرِيِّ، فَأَرْسَلَ النُّوشَرِيُّ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ، يُعَرِّفُهُ حَالَ زِيَادَةِ اللَّهِ وَحَالَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ بِمِصْرَ، فَأَمَرَهُ بِرَدِّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ إِلَيْهِ مَعَ الْمَالِ، فَفَعَلَ.
وَسَارَ زِيَادَةُ اللَّهِ حَتَّى بَلَغَ الرَّقَّةَ وَكَتَبَ إِلَى الْوَزِيرِ وَهُوَ ابْنُ الْفُرَاتِ يَسْأَلُهُ فِي الْإِذْنِ لَهُ لِدُخُولِ بَغْدَاذَ، فَأَمَرَهُ بِالتَّوَقُّفِ، فَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ (سَنَةً) ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا مُدْمِنٌ الْخَمْرَ، وَاسْتِمَاعَ الْمَلَاهِي، وَسُعِيَ بِهِ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، وَقِيلَ لَهُ يُرَدُّ إِلَى الْمَغْرِبِ يَطْلُبُ بِثَأْرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى النُّوشَرِيِّ بِإِنْجَادِهِ بِالرِّجَالِ وَالْعُدَدِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ مِصْرَ لِيَعُودَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَعَادَ إِلَى مِصْرَ، فَأَمَرَهُ النُّوشَرِيُّ بِالْخُرُوجِ إِلَى ذَاتِ الْحَمَّامِ لِيَكُونَ هُنَاكَ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمَالِ، فَفَعَلَ، (وَمَطَلَهُ) ، فَطَالَ مُقَامَهُ، وَتَتَابَعَتْ بِهِ الْأَمْرَاضُ.
وَقِيلَ بَلْ سَمَّهُ بَعْضُ غِلْمَانِهِ، فَسَقَطَ شَعْرُ لِحْيَتِهِ، فَعَادَ إِلَى مِصْرَ، وَقَصَدَ الْبَيْتَ

(6/576)


الْمُقَدَّسَ، فَتُوُفِّيَ بِالرَّمْلَةِ وَدُفِنَ بِهَا.
فَسُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَلَا يَزُولُ مُلْكُهُ وَلَمْ يَبْقَ بِالْمَغْرِبِ مِنْ بَنِي الْأَغْلَبِ أَحَدٌ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِمْ مِائَةَ سَنَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّنَا نَخْرُجُ إِلَى مِصْرَ وَالشَّامِ، وَنَرْبُطُ خَيْلَنَا فِي زَيْتُونِ فِلَسْطِينَ، فَكَانَ زِيَادَةُ اللَّهِ هُوَ الْخَارِجَ إِلَى فِلَسْطِينَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ لَا عَلَى مَا ظَنُّوهُ.

ذِكْرُ ابْتِدَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَلَوِيَّةِ بِإِفْرِيقِيَّةَ
هَذِهِ دَوْلَةٌ اتَّسَعَتْ أَكْنَافُ مَمْلَكَتِهَا، وَطَالَتْ مُدَّتُهَا، فَإِنَّهَا مَلَكَتْ إِفْرِيقِيَّةَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَانْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ بِمِصْرَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَنَحْتَاجُ أَنْ نَسْتَقْصِيَ ذِكْرَهَا فَنَقُولُ:
أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَقِيلَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، (وَمَنْ يَنْسِبُ هَذَا النَّسَبَ يَجْعَلُهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْقَدَّاحِيَّةُ.
وَقِيلَ هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الثَّانِي ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ نَسَبِهِ، فَقَالَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْقَائِلُونَ بِإِمَامَتِهِ: إِنَّ نَسَبَهُ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَمْ يَرْتَابُوا فِيهِ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ الْعَالِمِينَ بِالْأَنْسَابِ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ أَيْضًا، وَيَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مَا قَالَهُ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ:

(6/577)


مَا مُقَامِي عَلَى الْهَوَانِ وَعِنْدِي ... مَقُولٌ صَارِمٌ، وَأَنْفٌ حَمِيُّ
أَلْبَسُ الذُّلَّ فِي بِلَادِ الْأَعَادِي ... وَبِمِصْرَ الْخَلِيفَةُ الْعَلَوِيُّ
مَنْ أَبُوهُ أَبِي، وَمَوْلَاهُ مَوْلَا ... يَ إِذَا ضَامَنِي الْبَعِيدُ الْقَصِيُّ
لَفَّ عِرْقِي بِعِرْقِهِ سَيِّدَا النَّا ... سِ جَمِيعًا: مُحَمَّدٌ، وَعَلِيُّ
إِنَّ ذُلِّي بِذَلِكَ الْجَوِّ عِزٌّ ... وَأُوَامِي بِذَلِكَ النَّقْعِ رِيُّ
وَإِنَّمَا لَمْ يُودِعْهَا فِي بَعْضِ دِيوَانِهِ خَوْفًا، وَلَا حُجَّةَ بِمَا كَتَبَهُ فِي الْمَحْضَرِ الْمُتَضَمِّنِ الْقَدْحَ فِي أَنْسَابِهِمْ، فَإِنَّ الْخَوْفَ يَحْمِلُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مَا يُصَدِّقُ مَا ذَكَرْتُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَادِرَ بِاللَّهِ لَمَّا بَلَغَتْهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ أَحْضَرَ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْبَاقِلَّانِيِّ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى الشَّرِيفِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوسَوِيِّ وَالِدِ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ، يَقُولُ لَهُ: قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَتَكَ مِنَّا، وَمَا لَا نَزَالُ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِدَادِ بِكَ بِصِدْقِ الْمُوَالَاةِ مِنْكَ، وَمَا تَقَدَّمَ لَكَ فِي الدَّوْلَةِ مِنْ مَوَاقِفَ مَحْمُودَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ عَلَى خَلِيفَةٍ تَرْضَاهُ، وَيَكُونَ وَلَدُكَ عَلَى مَا يُضَادُّهَا، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ قَالَ شِعْرًا، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي عَلَى أَيِّ مُقَامِ ذُلٍّ أَقَامَ، وَهُوَ نَاظِرٌ فِي النِّقَابَةِ وَالْحَجِّ، وَهُمَا مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ بِمِصْرَ لَكَانَ كَبَعْضِ الرَّعَايَا، وَأَطَالَ الْقَوْلَ، فَحَلَفَ أَبُو أَحْمَدَ أَنَّهُ مَا عَلِمَ بِذَلِكَ.
وَأَحْضَرَ وَلَدَهُ، وَقَالَ لَهُ فِي الْمَعْنَى فَأَنْكَرَ الشِّعْرَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ خَطَّكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِالِاعْتِذَارِ، وَاذْكُرْ فِيهِ أَنَّ نَسَبَ الْمِصْرِيِّ مَدْخُولٌ، وَأَنَّهُ مُدَّعٍ فِي نَسَبِهِ، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ! فَقَالَ أَبُوهُ: تُكَذِّبُنِي فِي قَوْلِي؟

(6/578)


فَقَالَ: مَا أُكَذِّبُكَ، وَلَكِنِّي أَخَافُ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَأَخَافُ مِنَ الْمِصْرِيِّ وَمِنَ الدُّعَاةِ فِي الْبِلَادِ، فَقَالَ أَبُوهُ: أَتَخَافُ مِمَّنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْكَ، وَتُرَاقِبُهُ، وَتُسْخِطُ مَنْ (هُوَ قَرِيبٌ) وَأَنْتَ بِمَرْأًى مِنْهُ وَمَسْمَعٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ؟
وَتَرَدَّدَ الْقَوْلُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَكْتُبِ الرَّضِيُّ خَطَّهُ، فَحَرَدَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَغَضِبَ وَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يُقِيمُ مَعَهُ فِي بَلَدٍ، فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ حَلَفَ الرَّضِيُّ (أَنَّهُ) مَا قَالَ هَذَا الشِّعْرَ وَانْدَرَجَتِ الْقِصَّةُ عَلَى هَذَا.
فَفِي امْتِنَاعِ الرَّضِيِّ مِنَ الِاعْتِذَارِ، وَمِنْ أَنْ يَكْتُبَ طَعْنًا فِي نَسَبِهِمْ مَعَ الْخَوْفِ، دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى صِحَّةِ نَسَبِهِمْ.
وَسَأَلْتُ أَنَا جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الْعَلَوِيِّينَ فِي نَسَبِهِ، فَلَمْ يَرْتَابُوا فِي صِحَّتِهِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ نَسَبَهُ مَدْخُولٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَعَدَا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنْ جَعَلُوا نَسَبَهُ يَهُودِيًّا، وَقَدْ كُتِبَ فِي الْأَيَّامِ الْقَادِرِيَّةِ مَحْضَرٌ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي نَسَبِهِ وَنَسَبِ أَوْلَادِهِ، وَكَتَبَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ نَسَبَهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ غَيْرُ صَحِيحٍ.
فَمِمَّنْ كَتَبَ فِيهِ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ الْمُرْتَضَى، وَأَخُوهُ الرَّضِيُّ، وَابْنُ الْبَطْحَاوِيِّ، وَابْنُ الْأَزْرَقِ الْعَلَوِيَّانِ، وَمِنْ غَيْرِهِمُ ابْنُ الْأَكْفَانِيِّ وَابْنُ الْخَرَزِيِّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْأَبِيوَرْدِيُّ، وَأَبُو حَامِدٍ، وَالْكَشْفَلِيُّ، وَالْقُدُورِيُّ، وَالصَّيْمَرِيُّ أَبُو الْفَضْلِ النَّسَوِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّسَفِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ النُّعْمَانِ، فَقِيهُ الشِّيعَةِ.

(6/579)


وَزَعَمَ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ نَسَبِهِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِمَّنْ كَتَبَ فِي الْمَحْضَرِ إِنَّمَا كَتَبُوا خَوْفًا وَتَقِيَّةً، وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِالْأَنْسَابِ فَلَا احْتِجَاجَ بِقَوْلِهِ.
وَزَعَمَ الْأَمِيرُ عَبْدُ الْعَزِيزِ، صَاحِبُ تَارِيخِ إِفْرِيقِيَّةَ وَالْمَغْرِبِ، أَنَّ نَسَبَهُ مُعْرِقٌ فِي الْيَهُودِيَّةِ، وَنَقَلَ فِيهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدِ اسْتَقْصَى، ذِكْرَ ابْتِدَاءِ دَوْلَتِهِمْ، وَبَالَغَ.
وَأَنَا أَذْكُرُ مَعْنَى مَا قَالَهُ مَعَ الْبَرَاءَةِ مِنْ عُهْدَةِ طَعْنِهِ فِي نَسَبِهِ، وَمَا عَدَاهُ فَقَدْ أَحْسَنَ فِيمَا ذَكَرَ، قَالَ:
لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى سَيِّدَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرُّومِ وَالْفُرْسِ وَقُرَيْشٍ، وَسَائِرِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُ سَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ، (وَعَابَ) أَدْيَانَهُمْ وَآلِهَتَهُمْ، وَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ، فَاجْتَمَعُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَيْهِ، فَكَفَاهُ اللَّهُ كَيْدَهُمْ، وَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجَمَ النِّفَاقُ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، وَظَنُّوا أَنَّ الصَّحَابَةَ يَضْعُفُونَ بَعْدَهُ، فَجَاهَدَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَتَلَ مُسَيْلِمَةَ، وَرَدَّ الرِّدَّةَ، وَأَذَلَّ الْكُفْرَ، وَوَطَّأَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ، وَغَزَا فَارِسَ وَالرُّومَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ظَنُّوا أَنَّ بِوَفَاتِهِ يَنْتَقِصُ الْإِسْلَامُ.
فَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَذَلَّ فَارِسَ وَالرُّومَ، وَغَلَبَ عَلَى مَمَالِكِهَا، فَدَسَّ عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ أَبَا لُؤْلُؤَةَ فَقَتَلَهُ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ بِقَتْلِهِ يَنْطَفِئُ نُورُ الْإِسْلَامِ.
فَوُلِّيَ بَعْدَهُ عُثْمَانُ، فَزَادَ فِي الْفُتُوحِ، وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَةُ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا قُتِلَ وَوُلِّيَ بَعْدَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ قَامَ بِالْأَمْرِ أَحْسَنَ قِيَامٍ.
فَلَمَّا يَئِسَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ اسْتِئْصَالِهِ بِالْقُوَّةِ أَخَذُوا فِي وَضْعِ الْأَحَادِيثِ الْكَاذِبَةِ، وَتَشْكِيكِ ضَعَفَةِ الْعُقُولِ فِي دِينِهِمْ، بِأُمُورٍ قَدْ ضَبَطَهَا الْمُحَدِّثُونَ، وَأَفْسَدُوا الصَّحِيحَ

(6/580)


بِالتَّأْوِيلِ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ.
فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْنَبَ مَوْلَى بَنِي أَسَدٍ وَأَبُو شَاكِرٍ مَيْمُونُ بْنُ دَيْصَانَ صَاحِبُ كِتَابِ " الْمِيزَانِ " فِي نُصْرَةِ الزَّنْدَقَةِ، وَغَيْرُهُمَا، فَأَلْقَوْا إِلَى مَنْ وَثِقُوا بِهِ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ بَاطِنًا وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَمَنْ عَرَفَ الْأَئِمَّةَ وَالْأَبْوَابَ، صَلَاةً وَلَا زَكَاةً، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، وَأَبَاحُوا لَهُمْ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ قُيُودٌ لِلْعَامَّةِ سَاقِطَةٌ عَنِ الْخَاصَّةِ.
وَكَانُوا يُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ لِآلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتُرُوا أَمْرَهُمْ، وَيَسْتَمِيلُوا الْعَامَّةَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَأَظْهَرُوا الزُّهْدَ وَالْعِبَادَةَ، يُغْرُونَ النَّاسَ بِذَلِكَ وَهُمْ عَلَى خِلَافِهِ، فَقُتِلَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ قَالُوا لَهُ: إِنَّا نَخَافُ الْجُنْدَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَسْلِحَتَهُمْ لَا تَعْمَلُ فِيكُمْ، فَلَمَّا ابْتَدَؤُوا فِي ضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ أَلَمْ تَقُلْ إِنَّ سُيُوفَهُمْ لَا تَعْمَلُ فِينَا؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ فَمَا حِيلَتِي؟ وَتَفَرَّقَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ فِي الْبِلَادِ وَتَعَلَّمُوا الشَّعْبَذَةَ، وَالنَّارِنْجِيَّاتِ، وَالزَّرَقَ وَالنُّجُومَ، وَالْكِمْيَاءَ، فَهُمْ يَحْتَالُونَ عَلَى كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْعَامَّةِ بِإِظْهَارِ الزُّهْدِ.
وَنَشَأَ لِابْنِ دَيْصَانَ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ الْقَدَّاحُ، عَلَّمَهُ الْحِيَلَ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى أَسْرَارِ هَذِهِ النِّحْلَةِ، فَحَذَقَ وَتَقَدَّمَ.

(6/581)


وَكَانَ بِنَوَاحِي كَرْخَ وَأَصْبَهَانَ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ وَيُلَقَّبُ بِدَنْدَانَ يَتَوَلَّى تِلْكَ الْمَوَاضِعَ، وَلَهُ نِيَابَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانَ يُبْغِضُ الْعَرَبَ وَيَجْمَعُ مَسَاوِيَهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِ الْقَدَّاحُ، وَعَرَّفَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا زَادَ بِهِ مَحَلُّهُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُظْهِرَ، (مَا فِي نَفْسِهِ) ، وَإِنَّمَا يَكْتُمُهُ، وَيُظْهِرُ التَّشَيُّعَ وَالطَّعْنَ عَلَى الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ الطَّعْنَ فِيهِمْ طَعْنٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ بِطَرِيقِهِمْ وَصَلَتْ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ وَأَعْطَاهُ مَالًا عَظِيمًا يُنْفِقُهُ عَلَى الدُّعَاةِ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فَسَيَّرَهُ إِلَى كُوَرِ الْأَهْوَازِ وَالْبَصْرَةِ، وَالْكُوفَةِ، وَطَالِقَانَ، وَخُرَاسَانَ، وَسَلَمِيَّةَ، مِنْ أَرْضِ حِمْصَ، وَفَرَّقَهُ فِي دُعَاتِهِ، وَتُوُفِّيَ الْقَدَّاحُ، وَدَنْدَانُ.
وَإِنَّمَا لُقِّبَ الْقَدَّاحَ لِأَنَّهُ كَانَ يُعَالِجُ الْعُيُونَ وَيَقْدَحُهَا.
فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْقَدَّاحُ قَامَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَحْمَدُ مَقَامَهُ، وَصَحِبَهُ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ رُسْتُمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَوْشَبِ بْنِ دَاذَانَ النَّجَّارُ، مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَكَانَا يَقْصِدَانِ الْمَشَاهِدَ، وَكَانَ بِالْيَمَنِ رَجُلٌ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ كَثِيرُ الْمَالِ وَالْعَشِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَدِ، يَتَشَيَّعُ، فَجَاءَ إِلَى مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ يَزُورُهُ، فَرَآهُ أَحْمَدُ وَرُسْتُمُ يَبْكِي كَثِيرًا، فَلَمَّا خَرَجَ اجْتَمَعَ بِهِ أَحْمَدُ، وَطَمِعَ فِيهِ لِمَا رَأَى مِنْ بُكَائِهِ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ مَذْهَبَهُ فَقَبِلَهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ النَّجَّارَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَهُ بِلُزُومِ الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْمَهْدِيِّ وَأَنَّهُ خَارِجٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِالْيَمَنِ، فَسَارَ النَّجَّارُ إِلَى الْيَمَنِ، وَنَزَلَ بِعَدَنَ، بِقُرْبِ قَوْمٍ مِنَ الشِّيعَةِ يُعْرَفُونَ بِبَنِي مُوسَى، وَأَخَذَ فِي بَيْعِ مَا مَعَهُ.
وَأَتَاهُ بَنُو مُوسَى، وَقَالُوا لَهُ: فِيمَ جِئْتَ؟ قَالَ: لِلتِّجَارَةِ.

(6/582)


قَالُوا: لَسْتَ بِتَاجِرٍ، وَإِنَّمَا أَنْتَ رَسُولُ الْمَهْدِيِّ، وَقَدْ بَلَغَنَا خَبَرُكَ، وَنَحْنُ بَنُو مُوسَى، وَلَعَلَّكَ قَدْ سَمِعْتَ بِنَا، فَانْبَسِطْ وَلَا تَحْتَشِمْ، فَإِنَّا إِخْوَانُكَ، فَأَظْهَرَ أَمْرَهُ، وَقَوَّى عَزَائِمَهُمْ، وَقَرُبَ أَمْرُ الْمَهْدِيِّ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا أَوَانُ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ، وَمِنْ عِنْدِهِمْ يَظْهَرُ.
وَاتَّصَلَتْ أَخْبَارُهُ بِالشِّيعَةِ الَّذِينَ بِالْعِرَاقِ، فَسَارُوا إِلَيْهِ فَكَثُرَ جَمْعُهُمْ وَعَظُمَ بِأْسُهُمْ، وَأَغَارُوا عَلَى مَنْ جَاوَرَهُمْ، وَسَبَوْا، وَجَبَوُا الْأَمْوَالَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ بِالْكُوفَةِ مِنْ وَلِدِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَدَّاحِ هَدَايَا عَظِيمَةً، وَكَانُوا أَنْفَذُوا إِلَى الْمَغْرِبِ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُعْرَفُ بِالْحُلْوَانِيِّ، وَالْآخَرُ يُعْرَفُ بِأَبِي سُفْيَانَ، وَقَالُوا لَهُمَا: إِنَّ الْمَغْرِبَ أَرْضٌ بُورٌ، فَاذْهَبَا فَاحْرُثَا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُ الْبَدْرِ، فَسَارَا فَنَزَلَ بِأَرْضِ كُتَامَةَ بِبَلَدٍ (يُسَمَّى مَرْمَجَنَّةَ) وَالْآخَرُ بِسُوقِ حِمَارٍ، فَمَالَتْ قُلُوبُ أَهْلِ تِلْكَ النَّوَاحِي إِلَيْهِمَا، وَحَمَلُوا إِلَيْهِمَا الْأَمْوَالَ وَالتُّحَفَ، فَأَقَامَا سِنِينَ كَثِيرَةً، وَمَاتَا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا قَرِيبَ الْوَفَاةِ مِنَ الْآخَرِ.

ذِكْرُ إِرْسَالِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ إِلَى الْمَغْرِبِ
كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّاءَ الشِّيعِيُّ مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ، وَقَدْ سَارَ إِلَى ابْنِ حَوْشَبٍ النَّجَّارِ، وَصَحِبَهُ بِعَدَنَ، وَصَارَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ لَهُ عِلْمٌ وَفَهْمٌ وَدَهَاءٌ وَمَكْرٌ، فَلَمَّا أَتَى خَبَرُ وَفَاةِ الْحُلْوَانِيِّ وَأَبِي سُفْيَانَ (إِلَى ابْنِ حَوْشَبٍ) قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ: إِنَّ أَرْضَ كُتَامَةَ مِنَ الْمَغْرِبِ قَدْ حَرَثَهَا الْحُلْوَانِيُّ وَأَبُو سُفْيَانَ، وَقَدْ مَاتَا، وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُكَ، فَبَادِرْ، فَإِنَّهَا مُوَطَّأَةٌ مُمَهَّدَةٌ لَكَ.
فَخَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (إِلَى مَكَّةَ) ، وَأَعْطَاهُ ابْنُ حَوُشَبٍ مَالًا، وَسَيَّرَ مَعَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ

(6/583)


أَبِي مَلَاحِفَ، فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَكَّةَ سَأَلَ عَنْ حُجَّاجِ كُتَامَةَ فَأُرْشِدَ إِلَيْهِمْ، فَاجْتَمَعَ بِهِمْ، وَلَمْ يُعَرِّفْهُمْ قَصْدَهُ، وَجَلَسَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَسَمِعَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ بِفَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ، فَأَظْهَرَ اسْتِحْسَانَ ذَلِكَ، وَحَدَّثَهُمْ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ،
فَلَمَّا أَرَادَ الْقِيَامَ سَأَلُوهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي زِيَارَتِهِ وَالِانْبِسَاطِ مَعَهُ، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَسَأَلُوهُ أَيْنَ مَقْصِدُهُ، فَقَالَ: أُرِيدُ مِصْرَ، فَفَرِحُوا بِصُحْبَتِهِ.
وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ الْكُتَامِيِّينَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ اسْمُهُ حُرَيْثٌ الْجَمِيلِيُّ، وَآخَرُ اسْمُهُ مُوسَى بْنُ مَكَّادَ، فَرَحَلُوا، وَهُوَ لَا يُخْبِرُهُمْ بِغَرَضِهِ، وَأَظْهَرَ لَهُمُ الْعِبَادَةَ، وَالزُّهْدَ، فَازْدَادُوا فِيهِ رَغْبَةً، وَخَدَمُوهُ، وَكَانَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، وَعَنْ طَاعَتِهِمْ لِسُلْطَانِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَقَالُوا: مَا لَهُ عَلَيْنَا طَاعَةٌ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ.
قَالَ: أَفَتَحْمِلُونَ السِّلَاحَ؟ قَالُوا: هُوَ شُغْلُنَا، وَلَمْ يَزَلْ يَتَعَرَّفُ أَحْوَالَهُمْ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا أَرَادَ وَدَاعَهُمْ قَالُوا لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ تَطْلُبُ بِمِصْرَ؟ قَالَ: أَطْلُبُ التَّعْلِيمَ بِهَا، قَالُوا: إِذَا كُنْتَ تَقْصِدُ هَذَا فَبِلَادُنَا أَنْفَعُ لَكَ، وَنَحْنُ أَعْرَفُ بِحَقِّكَ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَجَابَهُمْ إِلَى الْمَسِيرِ (مَعَهُمْ) بَعْدَ الْخُضُوعِ وَالسُّؤَالِ، فَسَارَ مَعَهُمْ.
فَلَمَّا قَارَبُوا بِلَادَهُمْ لَقِيَهُمْ رِجَالٌ مِنَ الشِّيعَةِ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِخَبَرِهِ، فَرَغِبُوا فِي نُزُولِهِ عِنْدَهُمْ، وَاقْتَرَعُوا فِيمَنْ يُضَيِّفُهُ (مِنْهُمْ) ثُمَّ رَحَلُوا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى أَرْضِ كُتَامَةَ، مُنْتَصَفَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَسَأَلَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنْ يَنْزِلَ عِنْدَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوا دُونَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَيْنَ يَكُونُ فَجُّ الْأَخْيَارِ؟ فَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُونُوا ذَكَرُوهُ لَهُ، فَقَالُوا لَهُ: عِنْدَ بَنِي سُلَيَّانَ.
فَقَالَ: إِلَيْهِ نَقْصِدُ، ثُمَّ نَأْتِي قَوْمًا مِنْكُمْ فِي دِيَارِكُمْ، وَنَزُورُهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ، فَأَرْضَى بِذَلِكَ الْجَمِيعَ.

(6/584)


وَسَارَ إِلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ إِنْكِجَانَ، وَفِيهِ فَجُّ الْأَخْيَارِ، (فَقَالَ: هَذَا فَجُّ الْأَخْيَارِ) ، وَمَا سُمِّيَ إِلَّا بِكُمْ، وَلَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ: إِنَّ لِلْمَهْدِيِّ هِجْرَةً تَنْبُو عَنِ الْأَوْطَانِ، يَنْصُرُهُ فِيهَا الْأَخْيَارُ مِنْ (أَهْلِ) ذَلِكَ الزَّمَانِ، قَوْمٌ مُشْتَقٌّ اسْمُهُمْ مِنَ الْكِتْمَانِ، (فَإِنَّهُمْ كُتَامَةُ) ، وَبِخُرُوجِكُمْ مِنْ هَذَا الْفَجِّ يُسَمَّى فَجَّ الْأَخْيَارِ.
فَتَسَامَعَتِ الْقَبَائِلُ، وَصَنَعَ مِنَ الْحِيَلِ وَالْمَكِيدَاتِ وَالنَّارِنْجِيَّاتِ مَا أَذْهَلَ عُقُولَهُمْ، وَأَتَاهُ الْبَرْبَرُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ تَقَاتَلَتْ كُتَامَةُ عَلَيْهِ مَعَ قَبَائِلِ الْبَرْبَرِ، وَسَلِمَ مِنَ الْقَتْلِ مِرَارًا وَهُوَ (فِي كُلِّ) ذَلِكَ لَا يَذْكُرُ اسْمَ الْمَهْدِيِّ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى مُنَاظَرَتِهِ وَقَتْلِهِ، فَلَمْ يَتْرُكْهُ الْكُتَامِيُّونَ يُنَاظِرُهُمْ، وَكَانَ اسْمُهُ عِنْدَهُمْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَشْرِقِيَّ.
وَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَغْلَبِ أَمِيرِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَأَرْسَلَ عَامِلَهُ عَلَى مَدِينَةِ مِيلَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَصَغَّرَهُ وَذَكَرَ (لَهُ) أَنَّهُ يَلْبَسُ الْخَشِنَ، وَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَالْعِبَادَةِ فَسَكَتَ عَنْهُ.
ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ لِلْكُتَامِيِّينَ: أَنَا صَاحِبُ الْبَدْرِ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَالْحُلْوَانِيُّ، فَازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُمْ لَهُ، وَتَعْظِيمُهُمْ لِأَمْرِهِ، وَتَفَرَّقَتْ كَلِمَةُ الْبَرْبَرِ وَكُتَامَةَ بِسَبَبِهِ، فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ قَتْلَهُ، فَاخْتَفَى، وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ شَدِيدٌ، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِإِنْسَانٍ اسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ هَارُونَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ كُتَامَةَ، فَأَخَذَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَدَافَعَ عَنْهُ، وَمَضَيَا إِلَى مَدِينَةِ نَاصِرُونَ، فَأَتَتْهُ الْقَبَائِلُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَصَارَتِ الرِّئَاسَةُ لِلْحَسْنِ بْنِ هَارُونَ.

(6/585)


وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَعِنَّةَ الْخَيْلِ، وَظَهَرَ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَشَهَرَ الْحُرُوبَ، فَكَانَ الظَّفَرُ لَهُ فِيهَا، وَغَنِمَ الْأَمْوَالَ، وَانْتَقَلَ إِلَى مَدِينَةِ نَاصِرُونَ وَخَنْدَقَ عَلَيْهَا، فَزَحَفَتْ قَبَائِلُ الْبَرْبَرِ إِلَيْهَا، وَاقْتَتَلُوا، ثُمَّ اصْطَلَحُوا، ثُمَّ أَعَادُوا الْقِتَالَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ وَظَفِرَ بِهِمْ، وَصَارَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُمْ، فَاسْتَقَامَ لَهُ أَمْرُ الْبَرْبَرِ وَعَامَّةِ كُتَامَةَ.

ذِكْرُ مِلْكِهِ مَدِينَةَ مِيلَةَ وَانْهِزَامِهِ
فَلَمَّا تَمَّ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ذَلِكَ زَحَفَ إِلَى مَدِينَةِ مِيلَةَ، فَجَاءَهُ مِنْهَا رَجُلٌ اسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، فَأَطْلَعَهُ عَلَى غِرَّةِ الْبَلَدِ، فَقَاتَلَ أَهْلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَخَذَ الْأَرْبَاضَ، فَطَلَبُوا مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَدَخَلَ مَدِينَةَ مِيلَةَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَمِيرَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَهُوَ حِينَئِذٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، فَنَفَّذَ وَلَدَهُ الْأَحْوَلَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَتَبِعَهُمْ مِثْلُهُمْ، فَالْتَقَيَا، فَاقْتَتَلَ الْعَسْكَرَانِ، فَانْهَزَمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِهِ، وَتَبِعَهُ الْأَحْوَلُ، وَسَقَطَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ حَالَ بَيْنَهُمْ، وَسَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى جَبَلِ إِنْكِجَانَ، فَوَصَلَ الْأَحْوَلُ إِلَى مَدِينَةِ نَاصِرُونَ، فَأَحْرَقَهَا، وَأَحْرَقَ مَدِينَةَ مِيلَةَ، (وَلَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا) .
وَبَنَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِإِنْكِجَانَ دَارَ هِجْرَةٍ، فَقَصَدَهَا أَصْحَابُهُ، وَعَادَ الْأَحْوَلُ إِلَى إِفْرِيقِيَةَ، فَسَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ رَحِيلِهِمْ، فَغَنِمَ مِمَّا رَأَى مِمَّا تَخَلَّفَ عَنْهُمْ، وَأَتَاهُ (خَبَرُ) وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ، فَسُرَّ بِهِ، ثُمَّ أَتَاهُ خَبَرُ قَتْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَلَدِهِ، وَوِلَايَةِ زِيَادَةِ اللَّهِ، وَاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، فَاشْتَدَّ سُرُورُهُ،
وَكَانَ الْأَحْوَلُ قَدْ جَمَعَ جَيْشًا كَثِيرًا أَيَّامَ أَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَلَقِيَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَانْهَزَمَ الْأَحْوَلُ.
(وَبَقِيَ الْأَحْوَلُ) قَرِيبًا مِنْهُ يُقَاتِلُهُ وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّقَدُّمِ، فَلَمَّا وَلِيَ أَبُو مُضَرَ زِيَادَةُ اللَّهِ

(6/586)


إِفْرِيقِيَّةَ أَحْضَرَ الْأَحْوَلَ وَقَتَلَهُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحْوَلَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكْسِرُ عَيْنَهُ إِذَا أَدَامَ النَّظَرَ فَلُقِّبَ بِهِ، فَلَمَّا قُتِلَ انْتَشَرَتْ حِينَئِذٍ جُيُوشُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْبِلَادِ، وَصَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الْمَهْدِيُّ يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَيَمْلِكُ الْأَرْضَ، فَيَا طُوبَى لِمَنْ هَاجَرَ إِلَيَّ وَأَطَاعَنِي! وَيُغْرِي النَّاسَ بِأَبِي مُضَرَ، وَيَعِيبُهُ.
وَكَانَ كُلُّ مَنْ عِنْدَ زِيَادَةِ اللَّهِ مِنَ الْوُزَرَاءِ شِيعَةً، فَلَا يَسُوءُهُمْ أَنْ يَظْفَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا سِيَّمَا مَعَ مَا كَانَ يَذْكُرُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ الَّتِي لِلْمَهْدِيِّ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَرَدِّ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَمِلْكِهِ الْأَرْضَ بِأَسْرِهَا! وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ، وَيَسْحَرُهُمْ، وَيَعِدُهُمْ.

ذِكْرُ سَبَبِ اتِّصَالِ الْمَهْدِيِّ عُبَيْدِ اللَّهِ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ وَمَسِيرِهِ إِلَى سِجِلْمَاسَةَ
لِمَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحُ ادَّعَى وَلَدُهُ أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَسْتُرُونَ، وَيُسِرُّونَ أَمْرَهُمْ، وَيُخْفُونَ أَشْخَاصَهُمْ.
وَكَانَ وَلَدُهُ أَحْمَدُ هُوَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، فَتُوُفِّيَ وَخَلَّفَ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُكَاتِبُهُ الدُّعَاةُ فِي الْبِلَادِ، وَتُوَفِّيَ مُحَمَّدٌ وَخَلَّفَ أَحْمَدَ وَالْحُسَيْنَ، فَسَارَ الْحُسَيْنُ إِلَى سَلَمِيَّةَ مِنْ أَرْضِ حِمْصَ، وَلَهُ بِهَا وَدَائِعُ وَأَمْوَالٌ مِنْ وَدَائِعِ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَدَّاحِ، وَوُكَلَاءُ، وَغِلْمَانٌ، وَبَقِيَ بِبَغْدَاذَ مِنْ أَوْلَادِ الْقَدَّاحِ أَبُو الشَّلَغْلَغِ.
وَكَانَ الْحُسَيْنُ يَدَّعِي أَنَّهُ الْوَصِيُّ وَصَاحِبُ الْأَمْرِ، وَالدُّعَاةُ بِالْيَمَنِ وَالْمَغْرِبِ يُكَاتِبُونَهُ وَيُرَاسِلُونَهُ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ جَرَى بِحَضْرَتِهِ حَدِيثُ النِّسَاءِ بِسَلَمِيَّةَ، فَوَصَفُوا لَهُ امْرَأَةَ

(6/587)


رَجُلٍ يَهُودِيٍّ حَدَّادٍ، مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَتَزَوَّجَهَا، وَلَهَا وَلَدٌ مِنَ الْحَدَّادِ يُمَاثِلُهَا فِي الْجَمَالِ، فَأَحَبَّهَا وَحَسُنَ مَوْقِعُهَا مَعَهُ، وَأَحَبَّ وَلَدَهَا، وَأَدَّبَهُ، وَعَلَّمَهُ، فَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَصَارَتْ لَهُ نَفْسٌ عَظِيمَةٌ، وَهِمَّةٌ كَبِيرَةٌ.
فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِمَامَ الَّذِي كَانَ بِسَلَمِيَّةَ، وَهُوَ الْحُسَيْنُ، مَاتَ وَلَمْ يَكُنْ [لَهُ] وَلَدٌ، فَعَهِدَ إِلَى ابْنِ الْيَهُودِيِّ الْحَدَّادِ، وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَعَرَّفَهُ أَسْرَارَ الدَّعْوَةِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَأَيْنَ الدُّعَاةُ، وَأَعْطَاهُ الْأَمْوَالَ وَالْعَلَامَاتِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ بِطَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَأَنَّهُ الْإِمَامُ وَالْوَصِيُّ، وَزَوَّجَهُ ابْنَةَ عَمِّهِ أَبِي الشَّلَغْلَغِ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَبْيَضِ الْعَلَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ نَسَبًا، وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ (بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ) بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُونَ، وَهُمْ قَلِيلٌ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ (هَذَا مِنْ وَلَدِ الْقَدَّاحِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِيهَا مَا فِيهَا، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي حَمَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ) الشِّيعِيَّ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ قَامَ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، حَتَّى يُخْرِجُوا (هَذَا) الْأَمْرَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَيُسَلِّمُوا إِلَى وَلَدِ يَهُودِيٍّ، وَهَلْ يُسَامِحُ نَفْسَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ مَنْ يَعْتَقِدُهُ دِينًا يُثَابُ عَلَيْهِ؟
قَالَ: فَلَمَّا عَهِدَ الْحُسَيْنُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ سَتُهَاجِرُ بَعْدِي هِجْرَةً بَعِيدَةً، وَتَلْقَى مِحَنًا شَدِيدَةً، فَتُوُفِّيَ الْحُسَيْنُ، وَقَامَ بَعْدَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَانْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ، وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ خِلَافَ مَا تَقَدَّمَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رِجَالًا مِنْ كُتَامَةَ مِنَ الْمَغْرِبِ لِيُخْبِرُوهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ.
وَشَاعَ خَبَرُهُ عِنْدَ النَّاسِ أَيَّامَ الْمُكْتَفِي فَطُلِبَ، فَهَرَبَ هُوَ وَوَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ نِزَارٌ

(6/588)


الَّذِي وَلِيَ بَعْدَهُ، وَتَلَقَّبَ بِالْقَائِمِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ، وَخَرَجَ مَعَهُ خَاصَّتُهُ وَمَوَالِيهِ يُرِيدُ الْمَغْرِبَ، وَذَلِكَ أَيَّامَ زِيَادَةِ اللَّهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مِصْرَ أَقَامَ مُسْتَتِرًا بِزِيِّ التُّجَّارِ، وَكَانَ عَامِلَ مِصْرَ حِينَئِذٍ عِيسَى النُّوشَرِيُّ، فَأَتَتْهُ الْكُتُبُ مِنَ الْخَلِيفَةِ بِصِفَتِهِ وَحِلْيَتِهِ، وَأُمِرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ يُشْبِهُهُ.
وَكَانَ بَعْضُ خَاصَّةِ عِيسَى مُتَشَيِّعًا، فَأَخْبَرَ الْمَهْدِيَّ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالِانْصِرَافِ، فَخَرَجَ مِنْ مِصْرَ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَمَعَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، فَأَوْسَعَ النَّفَقَةَ عَلَى مَنْ صَحِبَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى النُّوشَرِيِّ فَرَّقَ الرُّسُلَ فِي طَلَبِ الْمَهْدِيِّ وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ فَلَحِقَهُ، فَلَمَّا رَآهُ لَمْ يَشُكَّ فِيهِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَنَزَلَ بِبُسْتَانٍ، وَوَكَّلَ بِهِ، فَلَمَّا حَضَرَ الطَّعَامُ دَعَاهُ لِيَأْكُلَ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ صَائِمٌ، فَرَقَّ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: أَعْلِمْنِي بِحَقِيقَةِ حَالِكَ حَتَّى أُطْلِقَكَ، فَخَوَّفَهُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْكَرَ حَالَهُ، وَلَمْ يَزَلْ يُخَوِّفُهُ وَيَتَلَطَّفُهُ فَأَطْلَقَهُ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ مَنْ يُوَصِّلُهُ إِلَى رُفْقَتِهِ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ بِي إِلَى ذَلِكَ، وَدَعَا لَهُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ أَعْطَاهُ فِي الْبَاطِنِ مَالًا حَتَّى أَطْلَقَهُ، فَرَجَعَ (بَعْضُ) أَصْحَابِ النُّوشَرِيِّ عَلَيْهِ بِاللَّوْمِ، فَنَدِمَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَأَرَادَ إِرْسَالَ الْجَيْشِ وَرَاءَهُ لِيَرُدُّوهُ، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ لَمَّا لَحِقَ أَصْحَابَهُ رَأَى ابْنَهُ أَبَا الْقَاسِمِ قَدْ ضَيَّعَ كَلْبًا كَانَ لَهُ يَصِيدُ بِهِ، وَهُوَ يُبْكِي عَلَيْهِ، فَعَرَّفَهُ عَبِيدُهُ أَنَّهُمْ تَرَكُوهُ فِي الْبُسْتَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فَرَجَعَ الْمَهْدِيُّ بِسَبَبِ الْكَلْبِ، حَتَّى دَخَلَ الْبُسْتَانَ وَمَعَهُ عَبِيدُهُ، فَرَآهُمُ النُّوشَرِيُّ فَسَأَلَ عَنْهُمْ فَقِيلَ: إِنَّهُ فُلَانٌ، وَقَدْ عَادَ بِسَبَبِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النُّوشَرِيُّ لِأَصْحَابِهِ: قَبَّحَكُمُ اللَّهُ! أَرَدْتُمْ أَنْ تَحْمِلُونِي عَلَى قَتْلِ هَذَا حَتَّى آخُذَهُ، فَلَوْ كَانَ يَطْلُبُ مَا يُقَالُ أَوْ كَانَ مُرِيبًا لَكَانَ يَطْوِي الْمَرَاحِلَ، وَيُخْفِي نَفْسَهُ، وَمَا كَانَ رَجَعَ فِي طَلَبِ كَلْبٍ، وَتَرَكَهُ.
وَجَدَّ الْمَهْدِيُّ فِي الْهَرَبِ، فَلَحِقَهُ (لُصُوصٌ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الطَّاحُونَةُ، فَأَخَذُوا

(6/589)


بَعْضَ مَتَاعِهِ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ كُتُبٌ وَمَلَاحِمُ لِآبَائِهِ، فَأُخِذَتْ) ، فَعَظُمَ أَمْرُهَا عَلَيْهِ، فَيُقَالُ إِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَخَذَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ.
وَانْتَهَى الْمَهْدِيُّ وَوَلَدُهُ إِلَى مَدِينَةِ طَرَابُلُسَ، وَتَفَرَّقَ مَنْ صَحِبَهُ مِنَ التُّجَّارِ، وَكَانَ فِي صُحْبَتِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَخُو أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ، فَقَدَّمَهُ الْمَهْدِيُّ إِلَى الْقَيْرَوَانِ بِبَعْضِ مَا مَعَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِكُتَامَةَ. فَلَمَّا وَصَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى الْقَيْرَوَانِ وَجَدَ الْخَبَرَ قَدْ سَبَقَهُ إِلَى زِيَادَةِ اللَّهِ بِخَبَرِ الْمَهْدِيِّ، فَسَأَلَ عَنْهُ رُفْقَتَهُ، فَأَخْبَرُوا أَنَّهُ تَخَلَّفَ بِطَرَابُلُسَ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بِالْقَيْرَوَانِ، فَأُخِذَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَقُرِّرَ فَأَنْكَرَ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ تَاجِرٌ صَحِبْتُ رَجُلًا فِي الْقَفْلِ، فَحَبَسَهُ.
وَسَمِعَ الْمَهْدِيُّ، فَسَارَ إِلَى قَسْطِيلَةَ، وَوَصَلَ كِتَابُ زِيَادَةِ اللَّهِ إِلَى عَامِلِ طَرَابُلُسَ بِأَخْذِهِ، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ قَدْ أَهْدَى لَهُ وَاجْتَمَعَ بِهِ، فَكَتَبَ الْعَامِلُ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ قَدْ سَارَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمَهْدِيُّ إِلَى قَسْطِيلَةَ تَرَكَ قَصْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ، لِأَنَّ أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاسِ كَانَ قَدْ أُخِذَ، فَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ أَخَاهُ تَحَقَّقُوا الْأَمْرَ وَقَتَلُوهُ، فَتَرَكَهُ وَسَارَ إِلَى سِجِلْمَاسَةَ، وَلَمَّا سَارَ مِنْ قَسْطِيلَةَ وَصَلَ الرُّسُلُ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُوجَدْ، وَوَصَلَ سِجِلْمَاسَةَ، فَأَقَامَ بِهَا، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْعُيُونُ فِي طَرِيقِهِ.
وَكَانَ صَاحِبُ سِجِلْمَاسَةَ رَجُلًا يُسَمَّى أَلْيَسَعُ بْنُ مِدْرَارٍ، فَأَهْدَى لَهُ الْمَهْدِيُّ، وَوَاصَلَهُ، فَقَرَّبَهُ أَلْيَسَعُ، وَأَحَبَّهُ، فَأَتَاهُ كِتَابُ زِيَادَةِ اللَّهِ يُعَرِّفُهُ أَنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا حَتَّى أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَهَرَبِ زِيَادَةِ اللَّهِ أَمِيرِهَا
قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّ زِيَادَةَ اللَّهِ لَمَّا رَأَى اسْتِيلَاءَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْبِلَادِ، وَأَنَّهُ قَدْ فَتَحَ مَدِينَةَ مِيلَةَ وَمَدِينَةَ سَطِيفَ، وَغَيْرَهُمَا، أَخَذَ فِي جَمْعِ

(6/590)


الْعَسَاكِرِ، وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ عَسَاكِرُ عَظِيمَةٌ، فَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ خُنَيْشٍ وَهُوَ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَكَانَ لَا يَعْرِفُ الْحَرْبَ، فَبَلَغَتْ عِدَّةُ جَيْشِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْأَمْوَالَ وَالْعُدَدَ، وَلَمْ يَتْرُكْ بِإِفْرِيقِيَّةَ شُجَاعًا إِلَّا أَخْرَجَهُ مَعَهُ، وَسَارَ إِلَيْهِ، فَانْضَافَ إِلَيْهِ مِثْلُ جَيْشِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ الْهَوَاءِ، وَهِيَ مَدِينَةٌ قَدِيمَةٌ حَصِينَةٌ، نَزَلَ بِهَا، وَأَتَاهُ كَثِيرٌ مِنْ كُتَامَةَ الَّذِينَ لَمْ يُطِيعُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَقَتَلَ فِي طَرِيقِهِ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَخَافَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْهُ، وَجَمِيعُ كُتَامَةَ، وَأَقَامَ بِقُسْطَنْطِينِيَّةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُتَحَصِّنٌ فِي الْجَبَلِ.
فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَا يَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ بَادَرَ وَزَحَفَ بِالْعَسَاكِرِ الْمُجْتَمِعَةِ إِلَى بَلَدٍ اسْمُهُ كَرْمَةُ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خَيْلًا اخْتَارَهَا (لِيَخْتَبِرَ نُزُولَهُ) ، فَوَافَاهَا بِالْمَوْضِعِ الْمَذْكُورِ، فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ الْخَيْلَ قَصَدَ إِلَيْهَا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَصْحَبْهُ (إِلَيْهَا) أَحَدٌ مِنْ جَيْشِهِ، وَكَانَتْ أَثْقَالُ الْعَسْكَرِ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ لَمْ تُحَطَّ، وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا.
وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَزَحَفَ بِالْعَسَاكِرِ، فَوَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ، فَجُرِحَ وَعُقِرَ فَرَسُهُ وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْجَيْشِ جَمِيعِهِ، وَأَسْلَمُوا الْأَثْقَالَ بِأَسْرِهَا، فَغَنِمَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَتَمَّ [أَمْرُ] إِبْرَاهِيمَ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَشَاشَتْ بِلَادُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَعَظُمَ أَمْرُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَاسْتَقَرَّتْ دَوْلَتُهُ، وَكَتَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كِتَابًا إِلَى الْمَهْدِيِّ، وَهُوَ فِي سِجْنِ سِجِلْمَاسَةَ يُبَشِّرُهُ، وَسَيَّرَ الْكِتَابَ مَعَ بَعْضِ ثِقَاتِهِ، فَدَخَلَ السِّجْنَ فِي زِيِّ قَصَّابٍ يَبِيعُ اللَّحْمَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ وَعَرَّفَهُ ذَلِكَ.
وَسَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مَدِينَةِ طُبْنَةَ فَحَصَرَهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهَا الدَّبَّابَاتِ، وَنَقَبَ بُرْجًا وَبَدَنَةً، فَسَقَطَ السُّورُ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ، وَمَلَكَ الْبَلَدَ، فَاحْتَمَى الْمُقْدِمُونَ بِحِصْنِ الْبَلَدِ، فَحَصَرَهُمْ، فَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ، وَأَمَّنَ أَهْلَ الْبَلَدِ، وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ بِلُزْمَةَ

(6/591)


وَكَانَ قَدْ حَصَرَهَا مِرَارًا كَثِيرَةً فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا فَلَمَّا حَصَرَهَا الْآنَ ضَيَّقَ عَلَيْهَا، وَجَدَّ فِي الْقِتَالِ وَنَصَبَ عَلَيْهَا الدَّبَّابَاتِ، وَرَمَاهَا بِالنَّارِ، فَأَحْرَقَهَا، وَفَتَحَهَا بِالسَّيْفِ وَقَتَلَ الرِّجَالَ، وَهَدَمَ الْأَسْوَارَ.
وَاتَّصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِزِيَادَةِ اللَّهِ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ [ذَلِكَ] ، وَأَخَذَ فِي الْجَمْعِ وَالْحَشْدِ، فَجَمَعَ عَسْكَرًا عُدَّتُهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ هَارُونَ بْنَ الطُّبْنِيِّ، فَسَارَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ دَارِ مُلُوكٍ، وَكَانَ أَهْلُهَا قَدْ أَطَاعُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَقَتَلَ هَارُونُ أَهْلَهَا، وَهَدَمَ الْحِصْنَ، وَلَقِيَهُ فِي طَرِيقِهِ خَيْلٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَانَ قَدْ أَرْسَلَهَا لِيَخْتَبِرُوا عَسْكَرَهُ، فَلَمَّا رَآهَا الْعَسْكَرُ اضْطَرَبُوا وَصَاحُوا صَيْحَةً عَظِيمَةً، وَهَرَبُوا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، فَظَنَّ أَصْحَابُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا مَكِيدَةٌ، فَلَمَّا ظَهَرَ أَنَّهَا هَزِيمَةٌ اسْتَدْرَكُوا الْأَمْرَ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ، فَمَا يُحْصَى مَنْ قُتِلُوا، وَقُتِلَ هَارُونُ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ، وَفَتَحَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَدِينَةَ تِيجِسَ صُلْحًا، فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ حِينَئِذٍ عَلَى زِيَادَةِ اللَّهِ، وَأَخْرَجَ الْأَمْوَالَ، وَجَيَّشَ الْجُيُوشَ وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ إِلَى مُحَارَبَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَوَصَلَ إِلَى الْأُرْبُسِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ وُجُوهُ دَوْلَتِهِ: إِنَّكَ تُغَرِّرُ بِنَفْسِكَ، فَإِنْ يَكُنْ عَلَيْكَ لَا يَبْقَى لَنَا مَلْجَأٌ، وَالرَّأْيُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مُسْتَقَرِّ مُلْكِكَ، وَتُرْسِلَ الْجَيْشَ مَعَ مَنْ تَثِقُ بِهِ فَإِنْ كَانَ
الْفَتْحُ لَنَا فَنَصِلُ إِلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَتَكُونُ مَلْجَأً لَنَا.
وَرَجَعَ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَ الْجَيْشَ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَمِّهِ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْأَغْلَبِ، وَكَانَ شُجَاعًا، وَبَلَغَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْخَبَرُ، وَكَانَ أَهْلُ بَاغَايَةَ قَدْ كَاتَبُوهُ بِالطَّاعَةِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا، هَرَبَ عَامِلُهَا إِلَى الْأُرْبُسِ، فَدَخَلَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَتَرَكَ بِهَا جُنْدًا، وَعَادَ إِلَى إِنْكِجَانَ وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى زِيَادَةِ اللَّهِ، فَزَادَهُ غَمًّا وَحُزْنًا، فَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ كَانَ يُضْحِكُهُ يَا مَوْلَانَا لَقَدْ عَمِلْتُ بَيْتَ شِعْرٍ، فَعَسَى تَجْعَلُ مَنْ

(6/592)


يُلَحِّنُهُ وَتَشْرَبُ عَلَيْهِ، وَاتْرُكْ هَذَا الْحُزْنَ، فَقَالَ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ الْمُضْحِكُ، (لِلْمُغَنِّينَ: غَنُّوا شِعْرًا كَذَا) وَقُولُوا بَعْدَ فَرَاغِ كُلِّ بَيْتٍ:
اشْرَبْ وَاسْقِنَا مِنَ الْقَرْنِ يَكْفِينَا
فَلَمَّا غَنَّوْا طَرِبَ زِيَادَةُ اللَّهِ (وَشَرِبَ) ، وَانْهَمَكَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالشَّهَوَاتِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ سَاعَدُوهُ عَلَى مُرَادِهِ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَخْرَجَ خَيْلًا إِلَى مَدِينَةِ مَجَانَةَ فَافْتَتَحَهَا عَنْوَةً، وَقَتَلَ عَامِلَهَا، وَسَيَّرَ عَسْكَرًا آخَرَ إِلَى مَدِينَةِ تِيفَاشَ، فَمَلَكَهَا وَأَمَّنَ أَهْلَهَا.
وَقَصَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ وَسَارَ بِنَفْسِهِ إِلَى مِسْكِيَانَةَ ثُمَّ إِلَى تَبِسَّةَ، ثُمَّ إِلَى مُدْبِرَةَ، فَوَجَدَ فِيهَا أَهْلَ قَصْرِ الْإِفْرِيقِيِّ وَمَدِينَةِ مَرْمَجَنَّةَ، وَمَدِينَةِ مَجَانَةَ وَأَخْلَاطًا مِنَ النَّاسِ قَدِ الْتَجَئُوا إِلَيْهَا وَتُحَصَّنُوا فِيهَا، وَهِيَ حَصِينَةٌ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، وَقَاتَلَهَا، فَأَصَابَهُ عِلَّةُ الْحَصَى، وَكَانَتْ تَعْتَادُهُ، فَشُغِلَ بِنَفْسِهِ، وَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، فَفَتَحُوا الْحِصْنَ، فَدَخَلَهَا الْعَسْكَرُ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ، وَانْتَهَبُوا. وَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَرَحَلَ، فَنَزَلَ عَلَى الْقَصْرَيْنِ مِنْ قَمُّودَةَ وَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَبَلَغَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي الْأَغْلَبِ، أَمِيرَ الْجَيْشِ الَّذِي سَيَّرَهُ زِيَادَةُ اللَّهِ، أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُرِيدُ [أَنْ] يَقْصِدُ زِيَادَةَ اللَّهِ بِرَقَّادَةَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ زِيَادَةِ اللَّهِ كَبِيرُ عَسْكَرٍ، فَخَرَجَ مِنَ

(6/593)


الْأُرْبُسِ وَنَزَلَ دَرْدَمِينَ، (وَسَيَّرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَرِيَّةً إِلَى دَرْدَمِينَ) ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَصْحَابِ زِيَادَةِ اللَّهِ قِتَالٌ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَمَاعَةٌ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ.
وَاسْتَبْطَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خَبَرَهُمْ، فَسَارَ فِي جَمِيعِ عَسَاكِرِهِ، فَلَقِيَ أَصْحَابَهُ مُنْهَزِمِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وَرَجَعُوا، وَكَرُّوا عَلَى أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَحَجَزَ اللَّيْلُ بَيْنَهُمْ.
ثُمَّ سَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى قَسْطِيلَةَ، فَحَصَرَهَا، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، ثُمَّ طَلَبُوا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ (وَأَخَذَ مَا كَانَ لِزِيَادَةِ اللَّهِ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْعُدَدِ وَرَحَلَ إِلَى قَفْصَةَ، فَطَلَبَ أَهْلُهَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ) وَرَجَعَ إِلَى بَاغَايَةَ، فَتَرَكَ بِهَا جَيْشًا وَعَادَ إِلَى جَبَلِ إِنْكِجَانَ.
فَسَارَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْأَغْلَبِ (فِي جَيْشِهِ إِلَى بَاغَايَةَ) وَحَصَرَهَا، فَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَجَمَعَ عَسْكَرَهُ وَسَارَ مُجِدًّا إِلَيْهَا، وَوَجَّهَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَأَمَرَ مُقَدَّمَهُمْ أَنْ يَسِيرَ إِلَى بَاغَايَةَ، فَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ رَحَلَ عَنْهَا فَلَا يُجَاوِزْ فَجَّ الْعَرْعَارِ، فَمَضَى الْجَيْشُ وَكَانَ أَصْحَابُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الَّذِينَ فِي بَاغَايَةَ قَدْ قَاتَلُوا عَسْكَرَ إِبْرَاهِيمَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى صَبْرَهُمْ عَجِبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْهُمْ، فَأَرْعَبَ ذَلِكَ قُلُوبَهُمْ، ثُمَّ بَلَغَهُمْ قُرْبُ الْعَسْكَرِ مِنْهُمْ فَعَادَ إِبْرَاهِيمُ بِعَسَاكِرِهِ، فَوَصَلَ عَسْكَرُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَلَمْ يَرَ وَاحِدًا فَنَهَبُوا مَا وَجَدُوا وَعَادُوا.
وَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْأُرْبُسِ. وَلَمَّا دَخَلَ فَصْلُ الرَّبِيعِ، وَطَابَ الزَّمَانُ، جَمَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَسَاكِرَهُ، فَبَلَغَتْ مِائَتَيْ أَلْفَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَاجْتَمَعَ مِنْ عَسَاكِرِ زِيَادَةِ اللَّهِ بِالْأُرْبُسِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ مَا لَا يُحْصَى، وَسَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَوَّلَ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ وَطَالَ زَمَانُهُ، وَظَهَرَ أَصْحَابُ زِيَادَةِ اللَّهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ

(6/594)


اخْتَارَ مِنْ أَصْحَابِهِ سِتَّمِائَةِ رَاجِلٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا عَسْكَرَ زِيَادَةِ اللَّهِ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَمَضَوْا لِمَا أَمَرَهُمْ فِي الطَّرِيقِ (الَّذِي أَمَرَهُمْ) بِسُلُوكِهِ.
وَاتَّفَقَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَالْتَقَى الطَّائِفَتَانِ، فَاقْتَتَلُوا فِي مَضِيقٍ هُنَاكَ، (فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ إِبْرَاهِيمَ، وَوَقَعَ الصَّوْتُ فِي عَسْكَرِهِ بِكَمِينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) (وَانْهَزَمُوا، وَتَفَرَّقُوا) ، وَهَرَبَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى جِهَةِ بِلَادِهِمْ، وَهَرَبَ إِبْرَاهِيمُ وَبَعْضُ مَنْ مَعَهُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، (وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَغَنِمُوا الْأَمْوَالَ وَالْخَيْلَ وَالْعُدَدَ، وَدَخَلَ أَصْحَابُهُ مَدِينَةَ الْأُرْبُسِ فَقَتَلُوا بِهَا خَلْقًا عَظِيمًا، وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا الْجَامِعَ فَقُتِلَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَنَهَبُوا الْبَلَدَ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ أَوَاخِرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَانْصَرَفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى قَمُّودَةَ.
فَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ إِلَى زِيَادَةِ اللَّهِ هَرَبَ (إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا هَرَبَ زِيَادَةُ اللَّهِ هَرَبَ) أَهْلُ مَدِينَةِ رَقَّادَةَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، فِي اللَّيْلِ، إِلَى الْقَصْرِ الْقَدِيمِ، وَإِلَى الْقَيْرَوَانِ، وَسُوَسَةَ، وَدَخَلَ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ رَقَّادَةَ وَنَهَبُوا مَا فِيهَا، وَأَخَذَ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، وَنُهِبَتْ قُصُورُ بَنِيَ الْأَغْلَبِ، وَبَقِيَ النَّهْبُ سِتَّةَ أَيَّامٍ.
وَوَصَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْأَغْلَبِ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَقَصَدَ قَصْرَ الْإِمَارَةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ، وَنَادَى مُنَادِيهِ بِالْأَمَانِ، وَتَسْكِينِ النَّاسِ، وَذَكَرَ لَهُمْ أَحْوَالَ زِيَادَةِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ، حَتَّى أَفْسَدَ مُلْكَهُ، وَصَغَّرَ أَمْرَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْهُمْ، وَيَحْمِيَ حَرِيمَهُمْ وَبَلَدَهُمْ، وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْمُسَاعَدَةَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْأَمْوَالِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ فُقَهَاءُ، وَعَامَّةٌ، وَتُجَّارٌ، وَمَا فِي أَمْوَالِنَا مَا يَبْلُغُ غَرَضَكَ، وَلَيْسَ لَنَا بِالْقِتَالِ طَاقَةٌ، فَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ وَأَعْلَمُوا النَّاسَ بِمَا قَالَهُ صَاحُوا بِهِ: اخْرُجْ عَنَّا، فَمَا لَكَ عِنْدَنَا سَمْعٌ وَلَا طَاعَةٌ! وَشَتَمُوهُ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ وَهُمْ يَرْجُمُونَهُ.
وَلَمَّا بَلَغَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَرَبُ زِيَادَةِ اللَّهِ كَانَ بِنَاحِيَةِ سَبِيبَةَ، وَرَحَلَ فَنَزَلَ بِوَادِي

(6/595)


النَّمْلِ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَرُوبَةَ بْنَ يُوسُفَ، وَحَسَنَ بْنَ أَبِي خِنْزِيرٍ، فِي أَلْفِ فَارِسٍ إِلَى رَقَّادَةَ، فَوَجَدُوا النَّاسَ يَنْهَبُونَ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَثَاثِ، فَأَمَّنُوهُمْ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِأَحَدٍ، وَتَرَكُوا لِكُلٍّ وَاحِدٍ مَا حَمَلَهُ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى الْقَيْرَوَانِ، فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَفَرِحَ أَهْلُهَا.
وَخَرَجَ الْفُقَهَاءُ وَوُجُوهُ الْبَلَدِ إِلَى لِقَاءِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَلَقُوهُ، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَهَنَّئُوهُ بِالْفَتْحِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَدًّا حَسَنًا، وَحَدَّثَهُمْ، وَأَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ، فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ وَسَرَّهُمْ، وَذَمُّوا زِيَادَةَ اللَّهِ، وَذَكَرُوا مَسَاوِئَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا كَانَ (إِلَّا قَوِيًّا) ، وَلَهُ مَنَعَةٌ، وَدَوْلَةٌ شَامِخَةٌ، وَمَا قَصَّرَ فِي مُدَافَعَتِهِ، وَلَكِنَّ أَمْرَ اللَّهِ لَا يُعَانَدُ وَلَا يُدَافَعُ! فَأَمْسَكُوا عَنِ الْكَلَامِ، وَرَجَعُوا إِلَى الْقَيْرَوَانِ.
وَدَخَلَ رَقَّادَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، مُسْتَهَلَّ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَنَزَلَ بِبَعْضِ قُصُورِهَا، وَفَرَّقَ دُورَهَا عَلَى كُتَامَةَ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا فِيهَا، وَأَمَرَ فَنُودِيَ بِالْأَمَانِ، فَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى أَوْطَانِهِمْ، وَأَخْرَجَ الْعُمَّالَ إِلَى الْبِلَادِ، وَطَلَبَ أَهْلَ الشَّرِّ فَقَتَلَهُمْ، وَأَمَرَ أَنْ يُجْمَعَ مَا كَانَ لِزِيَادَةِ اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالسِّلَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ كَثِيرٌ مِنْهُ، وَفِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْجَوَارِي لَهُنَّ مِقْدَارٌ وَحَظٌّ مِنَ الْجَمَالِ، فَسَأَلَ عَمَّنْ كَانَ يَكْفُلُهُنَّ، فَذُكِرَ لَهُ امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ كَانَتْ لِزِيَادَةِ اللَّهِ، فَأَحْضَرَهَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ بِحِفْظِهِنَّ، وَأَمَرَ لَهُنَّ بِمَا يُصْلِحُهُنَّ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ.
وَلَمَّا حَضَرَتِ الْجُمْعَةُ أَمَرَ الْخُطَبَاءَ بِالْقَيْرَوَانِ وَرَقَّادَةَ، فَخَطَبُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا أَحَدًا، وَأَمَرَ بِضَرْبِ السِّكَّةِ، وَأَنْ لَا يُنْقَشَ عَلَيْهَا اسْمٌ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ مَكَانَ الِاسْمِ مِنْ وَجْهٍ: بَلَغَتْ حُجَّةُ اللَّهِ، وَمِنَ الْوَجْهِ الْآخَرِ: تَفَرَّقَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، وَنَقَشَ عَلَى السِّلَاحِ: عُدَّةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَوَسَمَ الْخَيْلَ عَلَى أَفْخَاذِهَا: الْمُلْكُ لِلَّهِ، وَأَقَامَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ لُبْسِ الدُّونِ الْخَشِنِ، وَالْقَلِيلِ مِنَ الطَّعَامِ الْغَلِيظِ.

(6/596)


ذِكْرُ مَسِيرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِلَى سِجِلْمَاسَةَ وَظُهُورِ الْمَهْدِيِّ
لَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (فِي رَقَّادَةَ وَسَائِرِ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ) أَتَاهُ أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدٌ، فَفَرِحَ بِهِ، وَكَانَ هُوَ الْكَبِيرَ، فَسَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ مِنْ رَقَّادَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى إِفْرِيقِيَةَ أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاسِ، وَأَبَا زَاكِي، وَسَارَ فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ، فَاهْتَزَّ الْمَغْرِبُ لِخُرُوجِهِ، وَخَافَتْهُ زَنَاتَةُ، وَزَالَتِ الْقَبَائِلُ عَنْ طَرِيقِهِ، وَجَاءَتْ رُسُلُهُمْ وَدَخَلُوا فِي طَاعَتِهِ.
فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ سِجِلْمَاسَةَ، (وَانْتَهَى خَبَرُهُ إِلَى أَلْيَسَعَ بْنِ مِدْرَارٍ، أَمِيرِ سِجِلْمَاسَةَ) ، أَرْسَلَ إِلَى الْمَهْدِيِّ، وَهُوَ فِي حَبْسِهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، يَسْأَلُهُ عَنْ نَسَبِهِ وَحَالِهِ، وَهَلْ إِلَيْهِ قَصَدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ؟ فَحَلَفَ لَهُ الْمَهْدِيُّ أَنَّهُ مَا رَأَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، (وَلَا عَرَفَهُ) ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ تَاجِرٌ، فَاعْتُقِلَ فِي دَارٍ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِوَلَدِهِ أَبِي الْقَاسِمِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمَا الْحَرَسَ، وَقُرِّرَ وَلَدُهُ أَيْضًا، فَمَا حَالَ عَنْ كَلَامِ أَبِيهِ، وَقَرَّرَ رِجَالًا كَانُوا مَعَهُ، (وَضَرَبَهُمْ) ، فَلَمْ يُقِرُّوا بِشَيْءٍ.
وَسَمِعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ذَلِكَ، فَشَقَّ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَلْيَسَعَ يَتَلَطَّفُهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الْحَرْبَ، وَإِنَّمَا لَهُ حَاجَةٌ مُهِمَّةٌ عِنْدَهُ، وَوَعَدَهُ الْجَمِيلَ، فَرَمَى الْكِتَابَ، وَقَتَلَ الرُّسُلَ، فَعَادُوهُ بِالْمُلَاطَفَةِ خَوْفًا عَلَى الْمَهْدِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ لَهُ، فَقَتَلَ الرَّسُولَ أَيْضًا، فَأَسْرَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي السَّيْرِ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَلْيَسَعُ، وَقَاتَلَهُ يَوْمَهُ ذَلِكَ، (وَافْتَرَقُوا) ، فَلَمَّا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ هَرَبَ أَلْيَسَعُ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَهْلِهِ وَبَنِي عَمِّهِ، وَبَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ فِي غَمٍّ عَظِيمٍ لَا يَعْلَمُونَ مَا صُنِعَ بِالْمَهْدِيِّ وَوَلَدِهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَأَعْلَمُوهُ بِهَرَبِ أَلْيَسَعَ، فَدَخَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْبَلَدَ، وَأَتَوُا

(6/597)


الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ الْمَهْدِيُّ، فَاسْتَخْرَجَهُ، وَاسْتَخْرَجَ وَلَدَهُ، فَكَانَتْ فِي النَّاسِ مَسَرَّةٌ عَظِيمَةٌ كَادَتْ تَذْهَبُ بِعُقُولِهِمْ، فَأَرْكَبَهُمَا، وَمَشَى هُوَ وَرُؤَسَاءُ الْقَبَائِلِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لِلنَّاسِ: هَذَا مَوْلَاكُمْ، (وَهُوَ يَبْكِي) مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى فُسْطَاطٍ قَدْ ضُرِبَ لَهُ فَنَزَلَ فِيهِ، وَأَمَرَ بِطَلَبِ أَلْيَسَعَ (فَطُلِبَ) ، فَأُدْرِكَ، فَأُخِذَ وَضُرِبَ السِّيَاطَ ثُمَّ قُتِلَ.
فَلَمَّا ظَهَرَ الْمَهْدِيُّ أَقَامَ بِسِجِلْمَاسَةَ أَرَبَعِينَ يَوْمًا، وَسَارَ إِلَى إِفْرِيقِيَةَ، وَأَحْضَرَ الْأَمْوَالَ مِنْ إِنْكِجَانَ، فَجَعَلَهَا أَحْمَالًا وَأَخَذَهَا مَعَهُ، وَوَصَلَ إِلَى رَقَّادَةَ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ (مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ) مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَزَالَ مُلْكُ بَنِي الْأَغْلَبِ، وَمُلْكُ بَنِي مِدْرَارٍ الَّذِينَ مِنْهُمْ أَلْيَسَعَ وَكَانَ لَهُمْ ثَلَاثُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ مُنْفَرِدِينَ بِسِجِلْمَاسَةَ، وَزَالَ مُلْكُ بَنِي رُسْتُمَ مِنْ تَاهَرْتَ، وَلَهُمْ سِتُّونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ تَفَرَّدُوا بِتَاهَرْتَ، وَمَلَكَ الْمَهْدِيُّ جَمِيعَ ذَلِكَ. فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ رَقَّادَةَ تَلَقَّاهُ أَهْلُهَا، وَأَهْلُ الْقَيْرَوَانِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَرُؤَسَاءُ كُتَامَةَ مُشَاةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَوَلَدُهُ خَلْفَهُ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، فَرَدَّ [رَدًّا] جَمِيلًا، وَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، وَنَزَلَ بِقَصْرٍ مِنْ قُصُورِ رَقَّادَةَ، وَأَمَرَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ بِذِكْرِ اسْمِهِ فِي الْخُطْبَةِ فِي الْبِلَادِ، وَتَلَقَّبَ بِالْمَهْدِيِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَجَلَسَ بَعْدَ الْجُمْعَةِ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِالشَّرِيفِ، وَمَعَهُ الدُّعَاةُ، وَأَحْضَرُوا النَّاسَ بِالْعُنْفِ وَالشِّدَّةِ، وَدَعَوْهُمْ إِلَى مَذْهَبِهِمْ، (فَمَنْ أَجَابَ أُحْسِنَ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَبَى حُبِسَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي مَذْهَبِهِمْ) إِلَّا بَعْضُ النَّاسِ، وَهُمْ قَلِيلٌ، وَقُتِلَ (كَثِيرٌ مِمَّنْ) لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ.
وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَوَارِيَ زِيَادَةِ اللَّهِ، فَاخْتَارَ مِنْهُنَّ كَثِيرًا لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ أَيْضًا، وَفَرَّقَ مَا بَقِيَ عَلَى وُجُوهِ كُتَامَةَ، وَقَسَّمَ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ، وَجَبَى

(6/598)


الْأَمْوَالَ، وَاسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ، وَدَانَتْ لَهُ أَهْلُ الْبِلَادِ، وَاسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ عَلَيْهَا جَمِيعِهَا، فَاسْتَعْمَلَ عَلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ الْحَسَنَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خِنْزِيرٍ، (فَوَصَلَ إِلَى مَازَرَ عَاشِرَ) ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، (فَوَلَّى أَخَاهُ عَلَى جَرْجَنْتَ) ، وَجَعَلَ قَاضِيًا بِصِقِلِّيَةَ إِسْحَاقَ بْنَ الْمِنْهَالِ، وَهُوَ أَوَّلُ قَاضٍ تَوَلَّى بِهَا لِلْمَهْدِيِّ الْعَلَوِيَّ.
وَبَقِيَ ابْنُ أَبِي خِنْزِيرٍ إِلَى سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] ، فَسَارَ فِي عَسْكَرِهِ إِلَى دَمَنْشَ، فَغَنِمَ، وَسَبَى، وَأَحْرَقَ، وَعَادَ فَبَقِيَ مُدَّةً يَسِيرَةً، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِهَا، فَثَارُوا بِهِ، وَأَخَذُوهُ وَحَبَسُوهُ، وَكَتَبُوا إِلَى الْمَهْدِيِّ بِذَلِكَ، وَاعْتَذَرُوا، فَقَبِلَ عُذْرَهُمْ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَلِيَّ بْنَ عُمَرَ الْبَلَوِيَّ، فَوَصَلَ آخِرَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ.

ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ (وَأَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ)
فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ قُتِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ، قَتَلَهُ الْمَهْدِيُّ عُبَيْدُ اللَّهِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ لَمَّا اسْتَقَامَتْ لَهُ الْبِلَادُ، وَدَانَتْ لَهُ الْعِبَادُ، وَبَاشَرَ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، وَكَفَّ يَدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَيَدَ أَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ، دَاخَلَ أَبَا الْعَبَّاسِ الْحَسَدُ، وَعَظُمَ عَلَيْهِ الْفِطَامُ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، فَأَقْبَلَ يُزْرِي عَلَى الْمَهْدِيِّ فِي مَجْلِسِ أَخِيهِ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهِ، وَأَخُوهُ يَنْهَاهُ، وَلَا يَرْضَى فِعْلَهُ، فَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلَّا لَجَاجًا.
ثُمَّ إِنَّهُ أَظْهَرَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ لَهُ: مَلَكْتَ أَمْرًا، فَجِئْتَ بِمَنْ أَزَالَكَ عَنْهُ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُسْقِطَ حَقَّكَ.

(6/599)


وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَثَّرَ فِي قَلْبِ أَخِيهِ، فَقَالَ يَوْمًا لِلْمَهْدِيِّ: لَوْ كُنْتَ تَجْلِسُ فِي قَصْرِكَ، وَتَتْرُكُنِي مَعَ كُتَامَةَ آمُرُهُمْ وَأَنْهَاهُمْ، لِأَنِّي عَارِفٌ بِعَادَاتِهِمْ، لَكَانَ أَهْيَبَ لَكَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ.
وَكَانَ الْمَهْدِيُّ سَمِعَ شَيْئًا مِمَّا يَجْرِي بَيْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَخِيهِ، فَتَحَقَّقَ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ رَدَّ رَدًّا لَطِيفًا، فَصَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ يُشِيرُ إِلَى الْمُقَدَّمِينَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَمَنْ رَأَى مِنْهُ قَبُولًا كَشَفَ لَهُ مَا فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ: مَا جَازَاكُمْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ، وَذَكَرَ لَهُمُ الْأَمْوَالَ الَّتِي أَخَذَهَا الْمَهْدِيُّ مِنْ إِنْكِجَانَ، وَقَالَ: هَلَّا قَسَّمَهَا فِيكُمْ!
وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَّصِلُ بِالْمَهْدِيِّ، وَهُوَ يَتَغَافَلُ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُدَارِي، ثُمَّ صَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ الَّذِي كُنَّا نَعْتَقِدُ طَاعَتَهُ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمَهْدِيَّ يَخْتِمُ بِالْحُجَّةِ، وَيَأْتِي بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، فَأَخَذَ قَوْلُهُ بِقُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، مِنْهُمْ إِنْسَانٌ مِنْ كُتَامَةَ يُقَالُ لَهُ شَيْخُ الْمَشَايِخِ، فَوَاجَهَ الْمَهْدِيَّ بِذَلِكَ، وَقَالَ: إِنْ كَنْتَ الْمَهْدِيَّ فَأَظْهِرْ لَنَا آيَةً، فَقَدْ شَكَكْنَا فِيكَ، فَقَتَلَهُ الْمَهْدِيُّ، فَخَافَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ قَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَأَخُوهُ وَمَنْ مَعَهُمَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ عِنْدَ أَبِي زَاكِي، وَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِ الْمَهْدِيِّ وَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ قَبَائِلُ كُتَامَةَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
وَكَانَ مَعَهُمْ رَجُلٌ يُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَيَنْقُلُ مَا يَجْرِي إِلَى الْمَهْدِيِّ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِرَارًا فَلَمْ يَجْسُرُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا لَيْلَةً عِنْدَ أَبِي زَاكِي، فَلَمَّا أَصْبَحُوا لَبِسَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ثَوْبَهُ مَقْلُوبًا، وَدَخَلَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَرَأَى ثَوْبَهُ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ بِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالْقَمِيصُ بِحَالِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي أَذْهَلَكَ عَنْ إِصْلَاحِ ثَوْبِكَ؟ فَهُوَ مَقْلُوبٌ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَعَلِمْتُ أَنَّكَ مَا نَزَعْتَهُ، فَقَالَ: مَا عَلِمْتُ بِذَلِكَ إِلَّا سَاعَتِي هَذِهِ، قَالَ: أَيْنَ كُنْتَ الْبَارِحَةَ وَاللَّيَالِيَ قَبْلَهَا؟ فَسَكَتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ

(6/600)


فَقَالَ: أَلَيْسَ بِتَّ فِي دَارِ أَبِي زَاكِي؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَمَا الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ دَارِكَ؟ قَالَ: خِفْتُ. قَالَ: وَهَلْ يَخَافُ الْإِنْسَانُ إِلَّا مِنْ عَدُوِّهِ؟ فَعَلِمَ أَنَّ أَمْرَهُ ظَهَرَ لِلْمَهْدِيِّ، فَخَرَجَ وَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ، وَخَافُوا، وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْحُضُورِ.
فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلْمَهْدِيِّ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْقَدِيمِ، كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْمِ، وَعِنْدَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، مِنْ أَمْوَالِ زِيَادَةِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ إِنْ شِئْتَ أَتَيْتُكَ بِهِمْ، وَمَضَى فَجَاءَ بِهِمْ، فَعَلِمَ الْمَهْدِيُّ صِحَّةَ مَا قِيلَ عَنْهُ، فَلَاطَفَهُمْ وَفَرَّقَهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَجَعَلَ أَبَا زَاكِي وَالِيًا عَلَى طَرَابُلُسَ، وَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهَا أَنْ يَقْتُلَهُ عِنْدَ وُصُولِهِ، فَلَمَّا وَصَلَهَا قَتَلَهُ عَامِلُهَا، وَأَرْسَلَ رَأْسَهُ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَهَرَبَ ابْنُ الْقَدِيمِ، فَأُخِذَ، فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ.
وَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ عَرُوبَةَ وَرِجَالًا مَعَهُ أَنْ يَرْصُدُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَخَاهُ الْعَبَّاسَ، وَيَقْتُلُوهُمَا، فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى قُرْبِ الْقَصْرِ حَمَلَ عَرُوبَةُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا بُنَيَّ! فَقَالَ: الَّذِي أَمَرْتَنَا بِطَاعَتِهِ أَمَرَنَا بِقَتْلِكَ، فَقُتِلَ هُوَ وَأَخُوهُ، وَكَانَ قَتْلُهُمَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ أَبُو زَاكِي، فَقِيلَ: إِنَّ الْمَهْدِيَّ صَلَّى عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَجَزَاكَ خَيْرًا بِجَمِيلِ سَعْيِكَ.
وَثَارَتْ فِتْنَةٌ بِسَبَبِ قَتْلِهِمَا، وَجَرَّدَ أَصْحَابُهُمَا السُّيُوفَ، فَرَكِبَ الْمَهْدِيُّ وَأَمَّنَ النَّاسَ، فَسَكَنُوا، ثُمَّ تَتَبَّعَهُمْ حَتَّى قَتَلَهُمْ.
وَثَارَتْ فِتْنَةٌ ثَانِيَةٌ بَيْنَ كُتَامَةَ وَأَهْلِ الْقَيْرَوَانِ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَخَرَجَ الْمَهْدِيُّ وَسَكَّنَ الْفِتْنَةَ، وَكَفَّ الدُّعَاةَ عَنْ طَلَبِ التَّشَيُّعِ مِنَ الْعَامَّةِ.
وَلَمَّا اسْتَقَامَتِ الدَّوْلَةُ لِلْمَهْدِيِّ عَهِدَ إِلَى وَلَدِهِ أَبِي الْقَاسِمِ نِزَارٍ بِالْخِلَافَةِ، وَرَجَعَتْ

(6/601)


كُتَامَةُ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَأَقَامُوا طِفْلًا وَقَالُوا: هَذَا هُوَ الْمَهْدِيُّ، ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَمُتْ، وَزَحَفُوا إِلَى مَدِينَةِ مِيلَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَهْدِيَّ فَأَخْرَجَ ابْنَهُ أَبَا الْقَاسِمِ، فَحَصَرَهُمْ فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمَهُمْ وَاتَّبَعَهُمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا عَظِيمًا، وَقَتَلَ الطِّفْلَ الَّذِي أَقَامُوهُ.
وَخَالَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ مَعَ ابْنِ وَهْبٍ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِمْ أُسْطُولًا، فَفَتَحَهَا وَأَتَى بِابْنِ وَهْبٍ فَقَتَلَهُ.
وَخَالَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ تَاهَرْتَ، فَغَزَاهَا فَفَتَحَهَا، وَقَتَلَ أَهْلَ الْخِلَافِ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ بَنِي الْأَغْلَبِ بِرَقَّادَةَ كَانُوا قَدْ رَجَعُوا إِلَيْهَا بَعْدَ وَفَاةِ زِيَادَةِ اللَّهِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِيهَا سُيِّرَ (الْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا وَجَمَاعَةٌ) مِنَ الْقُوَّادِ فِي طَلَبِ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ، فَسَارُوا حَتَّى بَلَغُوا قَرْقِيسِيَاءَ وَالرَّحْبَةَ، فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ، فَكَتَبَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ، (وَهُوَ الْأَمِيرُ بِالْمَوْصِلِ) يَأْمُرُهُ بِطَلَبِ أَخِيهِ الْحُسَيْنِ، فَسَارَ هُوَ وَالْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا، فَالْتَقَوْا عِنْدَ تَكْرِيتَ، فَانْهَزَمَ الْحُسَيْنُ، فَأَرْسَلَ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ حَمْدَانَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَدَخَلَ بَغْدَاذَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى قُمَّ وَقَاشَانَ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَصَرَفَ عَنْهَا الْعَبَّاسَ بْنَ عَمْرٍو.
وَفِيهَا وَصَلَ بَارِسُ غُلَامُ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيِّ، وَقُلِّدَ دِيَارَ رَبِيعَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ طَاهِرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ وَبَيْنَ سُبْكَرِيٍّ غُلَامِ عَمْرٍو، فَأَسَرَ طَاهِرًا وَوَجَّهَهُ وَأَخَاهُ يَعْقُوبَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو إِلَى الْمُقْتَدِرِ مَعَ كَاتِبِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَعْفَرٍ الشِّيرَازِيِّ، فَأُدْخِلَا بَغْدَاذَ أَسِيرَيْنِ، فَحُبِسَا، وَكَانَ سُبْكَرِيٌّ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى فَارِسَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ كَاتِبُهُ قَرَّرَ أَمْرَهُ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَى بَغْدَاذَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ.

(6/602)


وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى مُؤْنِسٍ الْمُظَفَّرِ الْخَادِمِ، وَأُمِرَ بِالْمَسِيرِ إِلَى غَزْوِ الرُّومِ، فَسَارَ فِي جَمْعٍ كَثِيفٍ، فَغَزَا مِنْ نَاحِيَةِ مَلَطْيَةَ، وَمَعَهُ أَبُو الْأَعَزِّ السُّلَمِيُّ، فَظَفِرَ وَغَنِمَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً (وَعَادَ) .
وَفِيهَا قُلِّدَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ أَعْمَالَ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَضَمِنَهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَارَ إِلَيْهَا مِنَ الدِّينَوَرِ.
وَفِيهَا سَقَطَ بِبَغْدَاذَ ثَلْجٌ كَثِيرٌ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى الْعَصْرِ، فَصَارَ عَلَى الْأَرْضِ أَرْبَعَ أَصَابِعَ، وَكَانَ مَعَهُ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَجَمُدَ الْمَاءُ وَالْخَلُّ وَالْبَيْضُ وَالْأَدْهَانُ، وَهَلَكَ النَّخْلُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الشَّجَرِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ (بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ) .
وَفِيهَا قُتِلَ سَوْسَنٌ حَاجِبُ الْمُقْتَدِرِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي أَمْرِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ، فَلَمَّا بُويِعَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ وَاسْتُحْجِبَ غَيْرُهُ لَزِمَ الْمُقْتَدِرَ، فَلَمَّا اسْتُوْزِرَ ابْنُ الْفُرَاتِ تَفَرَّدَ بِالْأُمُورِ، فَعَادَاهُ سَوْسَنٌ، وَسَعَى فِي فَسَادِ حَالِهِ، فَأَعْلَمَ ابْنُ الْفُرَاتِ الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ بِحَالِ سَوْسَنٍ، وَأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ أَعَانَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ.

(6/603)


[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ عَمُّ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ خَاقَانَ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدُّهْكَانِيُّ.

(6/604)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ]
297 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ اللَّيْثِ عَلَى فَارِسَ وَقَتْلِهِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ اللَّيْثُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ اللَّيْثِ مِنْ سِجِسْتَانَ إِلَى فَارِسَ [فِي جَيْشٍ] وَأَخَذَهَا، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَهَرَبَ سُبْكَرِيٌّ عَنْهَا إِلَى أَرَّجَانَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ الْمُقْتَدِرَ جَهَّزَ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ وَسَيَّرَهُ إِلَى فَارِسَ، مَعُونَةً لِسُبْكَرِيٍّ، فَاجْتَمَعَا بِأَرَّجَانَ.
وَبَلَغَ خَبَرُ اجْتِمَاعِهِمَا اللَّيْثَ، فَسَارَ إِلَيْهِمَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِمَسِيرِ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْدَانَ مِنْ قُمَّ إِلَى الْبَيْضَاءِ، مَعُونَةً لِمُؤْنِسٍ، فَسَيَّرَ أَخَاهُ فِي بَعْضِ جَيْشِهِ إِلَى شِيرَازَ لِيَحْفَظَهَا، ثُمَّ سَارَ فِي بَعْضِ جُنْدِهِ فِي طَرِيقٍ مُخْتَصَرٍ لِيُوَاقِعَ الْحُسَيْنَ بْنَ حَمْدَانَ، فَأَخَذَ بِهِ الدَّلِيلُ فِي طَرِيقِ الرَّجَّالَةِ، فَهَلَكَ أَكْثَرُ دَوَابِّهِ، وَلَقِيَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، فَقَتَلَ الدَّلِيلَ، وَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَأَشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ مُؤْنِسٍ، فَظَنَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ عَسْكَرُهُ الَّذِي سُيِّرَ مَعَ أَخِيهِ إِلَى شِيرَازَ، فَكَبَّرُوا، فَثَارَ إِلَيْهِمْ مُؤْنِسٌ وَسُبْكَرِيٌّ فِي جُنْدِهِمَا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ اللَّيْثِ، وَأُخِذَ هُوَ أَسِيرًا.
فَلَمَّا أَسَرَهُ مُؤْنِسٌ قَالَ لَهُ (أَصْحَابُهُ: إِنَّ) الْمَصْلَحَةَ أَنْ نَقْبِضَ عَلَى سُبْكَرِيٍّ، وَنَسْتَوْلِيَ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ، وَنَكْتُبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ لِيُقِرَّهَا عَلَيْكَ، فَقَالَ: سَأَفْعَلُ غَدًا، إِذَا صَارَ إِلَيْنَا عَلَى عَادَتِهِ. فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ أَرْسَلَ مُؤْنِسٌ إِلَى سُبْكَرِيٍّ سِرًّا يُعَرِّفُهُ مَا أَشَارَ بِهِ أَصْحَابُهُ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى شِيرَازَ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ مُؤْنِسٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ:

(6/605)


أَرَى سُبْكَرِيًّا قَدْ تَأَخَّرَ عَنَّا، فَتَعَرَّفُوا خَبَرَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَعَادَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ سُبْكَرِيًّا سَارَ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى شِيرَازَ، فَلَامَ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: مِنْ جِهَتِكُمْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ حَتَّى اسْتَوْحَشَ، وَعَادَ مُؤْنِسٌ وَمَعَهُ اللَّيْثُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَعَادَ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ إِلَى قُمَّ.
ذِكْرُ أَخْذِ فَارِسَ مِنْ سُبْكَرِيٍّ
لَمَّا عَادَ مُؤْنِسٌ عَنْ سُبْكَرِيٍّ اسْتَوْلَى كَاتِبُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَعْفَرٍ عَلَى الْأُمُورِ فَحَسَدَهُ أَصْحَابُ سُبْكَرِيٍّ فَنَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ كَاتَبَ الْخَلِيفَةَ، وَأَنَّهُ قَدْ حَلَّفَ أَكْثَرَ الْقُوَّادِ لَهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ، وَاسْتَكْتَبَ مَكَانَهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ، فَحَمَلَهُ عَلَى الْعِصْيَانِ وَمَنْعِ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَفَعَلَ ذَلِكَ.
فَكَتَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَعْفَرٍ إِلَى ابْنِ الْفُرَاتِ، وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ، يَعَرِّفُهُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَمَّا نَهَى سُبْكَرِيًّا عَنِ الْعِصْيَانِ قَبَضَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ ابْنُ الْفُرَاتِ إِلَى مُؤْنِسٍ، وَهُوَ بِوَاسِطَ، يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى فَارِسَ، وَيُعَجِّزُهُ حَيْثُ لَمْ يَقْبِضْ عَلَى سُبْكَرِيٍّ، وَيَحْمِلْهُ مَعَ اللَّيْثِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَعَادَ مُؤْنِسٌ إِلَى الْأَهْوَازِ.
وَأَرْسَلَ سُبْكَرِيٌّ مُؤْنِسًا، وَهَادَاهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّطَ حَالَهُ مَعَ الْخَلِيفَةِ، فَكَتَبَ فِي أَمْرِهِ، وَبَذَلَ عَنْهُ مَالًا، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، وَعَلِمَ ابْنُ الْفُرَاتِ أَنَّ مُؤْنِسًا يَمِيلُ إِلَى سُبْكَرِيٍّ، فَأَنْفَذَ وَصِيفًا كَاتِبَهُ، وَجَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ، (وَمُحَمَّدَ بْنَ) جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيَّ، وَعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي فَتْحِ فَارِسَ، وَكَتَبَ إِلَى مُؤْنِسٍ يَأْمُرُهُ بِاسْتِصْحَابِ اللَّيْثِ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَعَادَ مُؤْنِسٌ.
وَسَارَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ إِلَى فَارِسَ، وَوَاقَعَ سُبْكَرِيًّا عَلَى بَابِ شِيرَازَ فَانْهَزَمَ سُبْكَرِيٌّ إِلَى بُمَّ وَتَحَصَّنُ بِهَا، وَتَبِعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَحَصَرَهُ بِهَا فَخَرَجَ إِلَيْهِ سُبْكَرِيٌّ وَحَارَبَهُ

(6/606)


مَرَّةً ثَانِيَةً، فَهَزَمَهُ مُحَمَّدٌ وَنَهَبَ مَالَهُ وَدَخَلَ سُبْكَرِيٌّ مَفَازَةَ خُرَاسَانَ، فَظَفِرَ بِهِ صَاحِبُ خُرَاسَانَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَاسْتَوْلَى مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَلَى فَارِسَ فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا فُتَيْحًا خَادِمَ الْأَفْشِينِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ فَتْحَ فَارِسَ كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ [وَمِائَتَيْنِ] .
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِيهَا وَجَّهَ الْمُقْتَدِرُ الْقَاسِمَ بْنَ سِيمَا لِغَزْوِ الصَّائِفَةِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِيسَى النُّوشَرِيُّ (فِي شَعْبَانَ) بِمِصْرَ، بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ بِسْطَامٍ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَدُفِنَ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، (وَاسْتَعْمَلَ الْمُقْتَدِرُ) مَكَانَهُ تِكِينَ الْخَادِمَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ مُنْتَصَفَ شَهْرِ رَمَضَانَ.
(وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ، صَاحِبُ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ) .

(6/607)


وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْفَيْضُ بْنُ الْخَضِرِ، وَقِيلَ ابْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْفَيْضِ الْأُولَاسِيُّ الطَّرَسُوسِيُّ.
وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيُّ الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ.
وَمُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي.
وَالْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ حَمَّادٍ، وَلَهُ تِسْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.

(6/608)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ]
298 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَلَى سِجِسْتَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، اسْتَوْلَى أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيُّ عَلَى سِجِسْتَانَ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، وَثَبَتَ مُلْكُهُ، خَرَجَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى الرَّيِّ، وَكَانَ يَسْكُنُ بُخَارَى، ثُمَّ سَارَ إِلَى هَرَاةَ، فَسَيَّرَ مِنْهَا جَيْشًا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ إِلَى سِجِسْتَانَ، وَسَيَّرَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ قُوَّادِهِ وَأُمَرَائِهِ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، وَسِيمَجُورُ الدَّوَاتِيُّ، وَهُوَ وَالِدُ آلِ سِيمَجُورَ وُلَاةِ خُرَاسَانَ لِلسَّامَانِيَّةِ، وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُمْ، وَاسْتَعْمَلَ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا الْجَيْشِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ الْمَرْوَرُوذِيِّ، فَسَارُوا حَتَّى أَتَوْا سِجِسْتَانَ، وَبِهَا الْمُعَدَّلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ اللَّيْثِ الصَّفَّارُ وَهُوَ صَاحِبُهَا.
فَلَمَّا بَلَغَ الْمُعَدَّلَ خَبَرُهُمْ سَيَّرَ أَخَاهُ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ اللَّيْثِ إِلَى بُسْتَ وَالرُّخَّجِ لِيَحْمِيَ أَمْوَالَهَا، وَيُرْسِلَ مِنْهَا الْمِيرَةَ إِلَى سِجِسْتَانَ، فَسَارَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ بِبُسْتَ، وَجَاذَبَهُ، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَعَادَ بِهِ إِلَى هَرَاةَ.
وَأَمَّا الْجَيْشُ الَّذِي بِسِجِسْتَانَ فَإِنَّهُمْ حَصَرُوا الْمُعَدَّلَ، وَضَايَقُوهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَخَاهُ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدًا قَدْ أُخِذَ أَسِيرًا، صَالَحَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ، فَاسْتَوْلَى الْحُسَيْنُ عَلَى سِجِسْتَانَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا الْأَمِيرُ أَحْمَدُ أَبَا صَالِحٍ مَنْصُورَ بْنَ إِسْحَاقَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ، وَانْصَرَفَ الْحُسَيْنُ عَنْهَا وَمَعَهُ الْمُعَدَّلُ إِلَى بُخَارَى، ثُمَّ إِنَّ سِجِسْتَانَ خَالَفَ أَهْلُهَا سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
وَلَمَّا اسْتَوْلَى السَّامَانِيَّةُ عَلَى سِجِسْتَانَ بَلَغَهُمْ خَبَرُ مَسِيرِ سُبْكَرِيٍّ فِي الْمَفَازَةِ مِنْ

(6/609)


فَارِسَ إِلَى سِجِسْتَانَ، فَسَيَّرُوا إِلَيْهِ جَيْشًا، فَلَقُوهُ وَهُوَ وَعَسْكَرُهُ قَدْ أَهْلَكَهُمُ التَّعَبُ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى عَسْكَرِهِ، وَكَتَبَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ إِلَى الْمُقْتَدِرِ بِذَلِكَ، وَبِالْفَتْحِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَشْكُرُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْمُرُهُ بِحَمْلِ سُبْكَرِيٍّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اللَّيْثِ، إِلَى بَغْدَاذَ، فَسَيَّرَهُمَا، وَأُدْخِلَا بَغْدَاذَ مَشْهُورَيْنِ عَلَى فِيلَيْنِ، وَأَعَادَ الْمُقْتَدِرُ رُسُلَ أَحْمَدَ، صَاحِبِ خُرَاسَانَ، وَمَعَهُمُ الْهَدَايَا وَالْخِلَعُ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِيهَا أَطْلَقَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَمَّهُ إِسْحَاقَ بْنَ أَحْمَدَ مِنْ مَحْبِسِهِ، وَأَعَادَهُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ وَفَرْغَانَةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعَبَرْتَاي، وَقُنْبُجُ الْخَادِمُ أَمِيرُ فَارِسَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمِسْمَعِيَّ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ كَرْمَانَ.
وَفِيهَا جُعِلَتْ أُمُّ مُوسَى الْهَاشِمِيَّةُ قَهْرَمَانَةَ دَارِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، فَكَانَتْ تُؤَدِّي الرَّسَائِلَ مِنَ الْمُقْتَدِرِ وَأُمِّهِ، إِلَى الْوَزِيرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِأَنَّ لَهَا فِيمَا بَعْدُ مِنَ الْحُكْمِ فِي الدَّوْلَةِ مَا أَوْجَبَ ذِكْرَهَا، وَإِلَّا كَانَ الْإِضْرَابُ عَنْهَا أَوْلَى.
وَفِيهَا غَزَا الْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا الصَّائِفَةَ.
وَفِيهَا فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ الْمُظَفَّرُ بْنُ جَاخَ، أَمِيرُ الْيَمَنِ، وَحُمِلَ إِلَى مَكَّةَ وَدُفِنَ بِهَا، وَاسْتَعْمَلَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْيَمَنِ بَعْدَهُ مُلَاحِظًا.

(6/610)


وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، أُخِذَ جَمَاعَةٌ بِبَغْدَاذَ، قِيلَ إِنَّهُمْ أَصْحَابُ رَجُلٍ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، يُعْرَفُ بِمُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ.
وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ حَارَّةٌ صَفْرَاءُ بِحَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ، فَمَاتَ لِشِدَّةِ حَرِّهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْقَاسِمِ جُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ، وَكَانَ إِمَامَ الدُّنْيَا فِي زَمَانِهِ، وَأَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ، وَالتَّصَوُّفَ عَنْ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَرْزَةَ الْحَاسِبُ، وَاسْمُهُ الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاسِمُ بْنُ الْعَبَّاسِ (أَبُو مُحَمَّدٍ) الْمَعْشَرِيُّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْمَعْشَرِيُّ لِأَنَّهُ ابْنُ بِنْتِ أَبِي مَعْشَرٍ نَجِيحٍ الْمَدَنِيِّ، وَكَانَ زَاهِدًا فَقِيهًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عِصَامٍ أَبُو الْعَبَّاسِ، (وَمُحَمَّدُ بْنُ إِيَاسٍ وَالِدُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ، صَاحِبُ تَارِيخِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا، وَهُوَ أَزْدِيٌّ.

(6/611)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ]
299 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى ابْنِ الْفُرَاتِ وَوِزَارَةِ الْخَاقَانِيِّ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَضَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ قَدْ ظَهَرَ، قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَيْهِ بِمُدَّةٍ (يَسِيرَةٍ) ، ثَلَاثَةُ كَوَاكِبَ مُذَنَّبَةٍ، أَحَدُهَا ظَهَرَ آخِرَ رَمَضَانَ فِي بُرْجِ الْأَسَدِ، وَالْآخَرُ ظَهَرَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فِي الْمَشْرِقِ، وَالثَّالِثُ ظَهَرَ فِي الْمَغْرِبِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَيْضًا فِي بُرْجِ الْعَقْرَبِ.
وَلَمَّا قُبِضَ عَلَى الْوَزِيرِ وُكِّلَ بِدَارِهِ، وَهَتْكِ حُرَمِهِ، وَنَهْبِ مَالِهِ، وَنُهِبَتْ دُورُ أَصْحَابِهِ وَمَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَافْتُتِنَتْ بَغْدَاذُ لِقَبْضِهِ، وَلَقِيَ النَّاسُ شِدَّةً ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَكَنُوا.
وَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ هَذِهِ، وَهِيَ الْوِزَارَةُ الْأُولَى، ثَلَاثَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَلِّدَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ (يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ) يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ الْوِزَارَةَ، فَرَتَّبَ أَصْحَابَ الدَّوَاوِينِ، وَتَوَلَّى مُنَاظَرَةَ ابْنِ الْفُرَاتِ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْبَغْلِ، وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الْبَغْلِ مُقِيمًا بِأَصْبَهَانَ، فَسَعَى أَخُوهُ لَهُ فِي الْوِزَارَةِ هُوَ وَأُمُّ مُوسَى الْقَهْرَمَانَةُ، فَأَذِنَ الْمُقْتَدِرُ فِي حُضُورِهِ لِيَتَوَلَّى الْوِزَارَةَ، فَحَضَرَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ

(6/612)


الْخَاقَانِيَّ انْحَلَّتْ أُمُورُهُ، فَدَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ (وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ) ، فَأَمَرَهُ بِالْقَبْضِ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ (وَأَبِي الْحُسَيْنِ أَخِيهِ، فَقُبِضَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ) وَكَتَبَ فِي الْقَبْضِ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ، فَقُبِضَ أَيْضًا، ثُمَّ خَافَ الْقَهْرَمَانَةَ، فَأَطْلَقَهُمَا وَاسْتَعْمَلَهُمَا.
ثُمَّ إِنَّ أُمُورَ الْخَاقَانِيِّ انْحَلَّتْ لِأَنَّهُ كَانَ ضَجُورًا، ضَيِّقَ الصَّدْرِ، مُهْمِلًا لِقِرَاءَةِ كُتُبِ الْعُمَّالِ، وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ يَتَقَرَّبُ إِلَى الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، فَمَنَعَ خَدَمَ السُّلْطَانِ وَخَوَاصَّهُ أَنْ يُخَاطِبُوهُ بِالْعَبْدِ، وَكَانَ إِذَا رَأَى جَمَاعَةً مِنَ الْمَلَّاحِينَ وَالْعَامَّةِ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً، يَنْزِلُ وَيُصَلِّي مَعَهُمْ، وَإِذَا سَأَلَهُ أَحَدٌ حَاجَةً دَقَّ صَدْرَهُ، وَقَالَ: نَعَمْ وَكَرَامَةً، فَسُمِّيَ " دَقَّ صَدْرَهُ "، إِلَّا أَنَّهُ قَصَّرَ فِي إِطْلَاقِ الْأَمْوَالِ لِلْفُرْسَانِ وَالْقَوَّادِ، فَنَفَرُوا عَنْهُ وَاتَّضَعَتِ الْوِزَارَةُ بِفِعْلِهِ مَا تَقَدَّمَ.
وَكَانَ أَوْلَادُهُ قَدْ تَحَكَّمُوا عَلَيْهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَسْعَى لِمَنْ يَرْتَشِي مِنْهُ، وَكَانَ يُوَلِّي فِي الْأَيَّامِ الْقَلِيلَةِ عِدَّةً مِنَ الْعُمَّالِ، حَتَّى إِنَّهُ وَلَّى بِالْكُوفَةِ، فِي مُدَّةِ عِشْرِينَ يَوْمًا، سَبْعَةً مِنَ الْعُمَّالِ، فَاجْتَمَعُوا فِي الطَّرِيقِ، فَعَرَضُوا تَوْقِيعَاتِهِمْ، فَسَارَ الْأَخِيرُ مِنْهُمْ، وَعَادَ الْبَاقُونَ يَطْلُبُونَ مَا خَدَمُوا بِهِ أَوْلَادَهُ، فَقِيلَ فِيهِ:
وَزِيرٌ قَدْ تَكَامَلَ فِي الرَّقَاعِهْ ... يُوَلِّي ثُمَّ يَعْزِلُ بَعْدَ سَاعِهْ
إِذَا أَهْلُ الرُّشَى اجْتَمَعُوا لَدَيْهِ ... فَخَيْرُ الْقَوْمِ أَوْفَرُهُمْ بِضَاعَهْ
وَلَيْسَ يُلَامُ فِي هَذَا بِحَالٍ ... لِأَنَّ الشَّيْخَ أَفْلَتَ مِنْ مَجَاعَهْ
ثُمَّ زَادَ الْأَمْرُ، حَتَّى تَحَكَّمَ أَصْحَابُهُ، فَكَانُوا يُطْلِقُونَ الْأَمْوَالَ وَيُفْسِدُونَ الْأَحْوَالَ، فَانْحَلَّتِ الْقَوَاعِدُ، وَخَبُثَتِ النِّيَّاتُ، وَاشْتَغَلَ الْخَلِيفَةُ بِعَزْلِ وُزَرَائِهِ وَالْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، وَالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ النِّسَاءِ وَالْخَدَمِ، وَالتَّصَرُّفِ عَلَى مُقْتَضَى آرَائِهِمْ، فَخَرَجَتِ الْمَمَالِكُ، وَطَمِعَ الْعُمَّالُ فِي الْأَطْرَافِ، وَكَانَ مَا نَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ.

(6/613)


ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ أَحْضَرَ الْوَزِيرَ ابْنَ الْفُرَاتِ مِنْ مَحْبِسِهِ، فَجَعَلَهُ عِنْدَهُ فِي بَعْضِ الْحُجَرِ مُكَرَّمًا، فَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ مُطَالَعَاتِ الْعُمَّالِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ أَخَذَ أَمْوَالَهُ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِيهَا غَزَا رُسْتُمُ أَمِيرُ الثُّغُورِ الصَّائِفَةَ مِنْ نَاحِيَةِ طَرَسُوسَ، وَمَعَهُ دَمْيَانَةُ، فَحَصَرَ حِصْنَ مَلِيحٍ الْأَرْمَنِيِّ، ثُمَّ دَخَلَ بَلَدَهُ وَأَحْرَقَهُ.
وَفِيهَا دَخَلَ بَغْدَاذَ الْعُطَيْرُ وَالْأَغْبَرُ وَهُمَا مِنْ قُوَّادِ زَكْرَوَيْهِ الْقَرْمَطِيِّ، دَخَلَا بِالْأَمَانِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَفِيهَا جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ إِلَى بَابِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ عَلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ كُنْدَاجِيقَ، وَكَانَ وُصُولُهُمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، فَوَقَعَ الصَّوْتُ بِمَجِيءِ الْقَرَامِطَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْمُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ بَابِ الْبَصْرَةِ، فَرَأَوْا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِمَا، فَقَتَلَ الْقَرَامِطَةُ مِنْهُمْ رَجُلًا وَعَادُوا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي جَمْعٍ، فَلَمْ يَرَهُمْ، فَسَيَّرَ فِي أَثَرِهِمْ جَمَاعَةً، فَأَدْرَكُوهُمْ، وَكَانُوا نَحْوَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَقَاتَلُوهُمْ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَعَادَ ابْنُ كُنْدَاجِيقَ وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ

(6/614)


الْبَصْرَةِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَرَامِطَةَ كَانُوا مُقَدِّمَةً لِأَصْحَابِهِمْ، وَكَاتَبَ الْوَزِيرَ بِبَغْدَاذَ يُعَرِّفُهُ وُصُولَ الْقَرَامِطَةِ وَيَسْتَمِدُّهُ، (فَلَمَّا أَصْبَحَ) وَلَمْ يَرَ لِلْقَرَامِطَةِ أَثَرًا نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ مِنْ بَغْدَاذَ عَسْكَرًا مَعَ بَعْضِ الْقُوَّادِ.
وَفِيهَا خَالَفَ أَهْلُ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ عَلَى الْمَهْدِيِّ، عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا عَسْكَرًا فَحَاصَرَهَا، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا الْمَهْدِيُّ ابْنَهُ أَبَا الْقَاسِمِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ، فَحَاصَرَهَا، وَصَابَرَهَا، وَاشْتَدَّ فِي الْقِتَالِ، فَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ فِي الْبَلَدِ حَتَّى أَكَلَ أَهْلُهُ الْمَيْتَةَ، فَفَتَحَ الْبَلَدَ عُنْفًا، وَعَفَا عَنْ أَهْلِهِ، وَأَخَذَ أَمْوَالًا عَظِيمَةً مِنَ الَّذِينَ أَثَارُوا الْخِلَافَ وَغَرَّمَ أَهْلَ الْبَلَدِ جَمِيعَ مَا أَخْرَجَهُ عَلَى عَسْكَرِهِ، وَأَخَذَ وُجُوهَ الْبَلَدِ رَهَائِنَ عِنْدَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ عَامِلًا وَانْصَرَفَ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلَازِلُ بِالْقَيْرَوَانِ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا شِدَّةً وَعَظَمَةً، وَثَارَ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ، فَقَتَلُوا مِنْ كُتَامَةَ نَحْوَ أَلْفِ رَجُلٍ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ كَيْسَانَ أَبُو الْحَسَنِ النَّحْوِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا بِنَحْوِ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ ثَعْلَبٍ وَالْمُبَرِّدِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّرِيِّ الْقَنْطَرِيُّ.

(6/615)


وَأَبُو صَالِحٍ الْحَافِظُ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ سِيبَوَيْهِ، وَأَبُو يَعْقُوبَ بْنُ حُنَيْنٍ الطَّبِيبُ.

(6/616)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِمِائَة]
300 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِمِائَةٍ
ذِكْرُ عَزْلِ الْخَاقَانِيِّ عَنِ الْوِزَارَةِ، وَوِزَارَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى
فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ لِلْمُقْتَدِرِ تَخْلِيطُ الْخَاقَانِيِّ، وَعَجْزُهُ فِي الْوِزَارَةِ، فَأَرَادَ عَزْلَهُ، وَإِعَادَةَ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ إِلَى الْوِزَارَةِ، فَمَنَعَهُ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ عَنِ ابْنِ الْفُرَاتِ لِنُفُورِهِ عَنْهُ لِأُمُورٍ، مِنْهَا: إِنْفَاذُ الْجَيْشِ إِلَى فَارِسَ مَعَ غَيْرِهِ، وَإِعَادَتُهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَقَالَ لِلْمُقْتَدِرِ: مَتَى أَعَدْتَهُ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّكَ إِنَّمَا قَبَضْتَ عَلَيْهِ شَرَهًا فِي مَالِهِ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ تَسْتَدْعِيَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى مِنْ مَكَّةَ وَتَجْعَلَهُ وَزِيرًا، فَهُوَ الْكَافِي الثِّقَةُ، الصَّحِيحُ الْعَمَلِ، الْمَتِينُ الدِّينِ.
فَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِإِحْضَارِهِ، فَأَنْفَذَ مَنْ يُحْضِرُهُ، فَوَصَلَ إِلَى بَغْدَاذَ أَوَّلَ سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَلَسَ فِي الْوِزَارَةِ، وَقُبِضَ عَلَى الْخَاقَانِيِّ (وَسُلِّمَ إِلَيْهِ) ، فَأَحْسَنَ قَبْضَهُ، وَوَسَّعَ عَلَيْهِ، وَتَوَلَّى عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، وَلَازَمَ الْعَمَلَ وَالنَّظَرَ فِي الْأُمُورِ، (وَرَدَّ الْمَظَالِمَ، وَأَطْلَقَ) مِنَ الْمُكُوسِ شَيْئًا كَثِيرًا بِمَكَّةَ وَفَارِسَ، وَأَطْلَقَ الْمَوَاخِيرَ وَالْمُفْسِدَاتِ بِدَوْبَقَ، وَأَسْقَطَ زِيَادَاتٍ كَانَ الْخَاقَانِيُّ قَدْ زَادَهَا لِلْجُنْدِ، لِأَنَّهُ عَمِلَ الدَّخْلَ وَالْخَرْجَ، فَرَأَى الْخَرْجَ أَكْثَرَ، فَأَسْقَطَ أُولَئِكَ، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ، وَتَبْيِيضِهَا وَفَرْشِهَا بِالْحُصْرِ، وَإِشْعَالِ الْأَضْوَاءِ فِيهَا، وَأَجْرَى لِلْأَئِمَّةِ، وَالْقُرَّاءِ، وَالْمُؤَذِّنِينَ، أَرْزَاقًا، وَأَمَرَ بِإِصْلَاحِ الْبِيمَارِسْتَانَاتِ، وَعَمَلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْضَى مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَقَرَّرَ فِيهَا فُضَلَاءَ الْأَطِبَّاءِ، وَأَنْصَفَ الْمَظْلُومِينَ، وَأَسْقَطَ مَا زِيدَ فِي خَرَاجِ الضِّيَاعِ، وَلَمَّا عُزِلَ الْخَاقَانِيُّ أَكْثَرَ النَّاسُ التَّزْوِيرَ عَلَى خَطِّهِ بِمُسَامَحَاتٍ وَإِدَارَاتٍ، فَنَظَرَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى فِي تِلْكَ الْخُطُوطِ، فَأَنْكَرَهَا، وَأَرَادَ إِسْقَاطَهَا، فَخَافَ ذَمَّ النَّاسِ، وَرَأَى

(6/617)


أَنْ يُنْفِذَهَا إِلَى الْخَاقَانِيِّ لِيُمَيِّزَ الصَّحِيحَ مِنَ الْمُزَوَّرِ عَلَيْهِ، فَيَكُونَ الذَّمُّ لَهُ، فَلَمَّا عُرِضَتْ تِلْكَ الْخُطُوطُ عَلَيْهِ، قَالَ: هَذِهِ جَمِيعُهَا خَطِّي وَأَنَا أَمَرْتُ بِهَا، فَلَمَّا عَادَ الرَّسُولُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بِذَلِكَ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَذَبَ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُزَوَّرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ اعْتَرَفَ بِهَا لِيَحْمَدَهُ النَّاسُ وَيَذُمُّونِي، وَأَمَرَ بِهَا فَأُجِيزَتْ.
وَقَالَ الْخَاقَانِيُّ لِوَلَدِهِ: يَا بُنَيَّ هَذِهِ لَيْسَتْ خَطِّي، وَلَكِنَّهُ أَنْفَذَهَا إِلَيَّ وَقَدْ عَرَفَ الصَّحِيحَ مِنَ السَّقِيمِ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّوْكَ بِأَيْدِينَا، وَيُبَغِّضَنَا إِلَى النَّاسِ، وَقَدْ عَكَسْتُ مَقْصُودَهُ.

ذِكْرُ خِلَافِ سِجِسْتَانَ وَعَوْدِهَا إِلَى طَاعَةِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيِّ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنْفَذَ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيُّ عَسْكَرًا إِلَى سِجِسْتَانَ لِيَفْتَحَهَا ثَانِيًا، وَكَانَتْ قَدْ عَصَتْ عَلَيْهِ، وَخَافَ مَنْ بِهَا.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ هُرْمُزَ، الْمَعْرُوفَ بِالْمَوْلَى الصَّنْدَلِيِّ، كَانَ خَارِجِيَّ الْمَذْهَبِ، وَكَانَ قَدْ أَقَامَ بِبُخَارَى وَهُوَ مِنْ أَهْلِ سِجِسْتَانَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَجَاءَ يَوْمًا إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَارِضِ يَطْلُبُ رِزْقَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَصْلَحَ لِمِثْلِكَ مِنَ الشُّيُوخِ أَنْ يَلْزَمَ رِبَاطًا يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، حَتَّى يُوَافِيَهُ أَجْلُهُ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ، فَانْصَرَفَ إِلَى سِجِسْتَانَ وَالْوَالِي عَلَيْهَا مَنْصُورُ بْنُ إِسْحَاقَ، فَاسْتَمَالَ جَمَاعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ، وَدَعَا إِلَى الصَّفَّارِ، وَبَايَعَ فِي السِّرِّ لِعَمْرِو بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَكَانَ رَئِيسَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَفَّارِ، وَكَانَ شَدِيدَ الْقُوَّةِ، فَخَرَجُوا، وَقَبَضُوا عَلَى مَنْصُورِ بْنِ إِسْحَاقَ أَمِيرِهِمْ وَحَبَسُوهُ فِي (سِجْنِ أَرْكٍ) وَخَطَبُوا لِعَمْرِو بْنِ يَعْقُوبَ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ سِجِسْتَانَ.
فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِيرِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ سَيَّرَ الْجُيُوشَ مَعَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، مَرَّةً ثَانِيَةً إِلَى زَرَنْجَ، فِي سَنَةِ ثَلَاثِمِائَةٍ، فَحَصَرَهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَصَعِدَ يَوْمًا مُحَمَّدُ بْنُ

(6/618)


هُرْمُزَ الصَّنْدَلِيُّ إِلَى السُّورِ، وَقَالَ: مَا حَاجَتُكُمْ إِلَى أَذَى شَيْخٍ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلُزُومِ رِبَاطٍ؟ يُذَكِّرُهُمْ بِمَا قَالَهُ الْعَارِضُ بِبُخَارَى، وَاتَّفَقَ أَنَّ الصَّنْدَلِيَّ مَاتَ، فَاسْتَأْمَنَ عَمْرُو بْنُ يَعْقُوبٍ الصَّفَّارُ، وَابْنُ الْحَفَّارِ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَطْلَقُوا عَنْ مَنْصُورِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَكَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ يُكْرِمُ ابْنَ الْحَفَّارِ وَيُقَرِّبُهُ، فَوَاطَأَ ابْنُ الْحَفَّارِ جَمَاعَةً عَلَى الْفَتْكِ بِالْحُسَيْنِ، فَعَلِمَ الْحُسَيْنُ ذَلِكَ، وَكَانَ ابْنُ الْحَفَّارِ يَدْخُلُ عَلَى الْحُسَيْنِ، لَا يُحْجَبُ عَنْهُ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى سَيْفٍ، فَأَمَرَ الْحُسَيْنُ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى بُخَارَى.
وَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُ فَتْحِ سِجِسْتَانَ إِلَى الْأَمِيرِ أَحْمَدَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا سِيمَجُورَ الدَّوَاتِيَّ، وَأَمَرَ الْحُسَيْنَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ وَمَعَهُ عَمْرُو بْنُ يَعْقُوبَ وَابْنُ الْحَفَّارِ وَغَيْرُهُمَا
وَكَانَ عَوْدُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ مَنْصُورًا ابْنَ عَمِّهِ إِسْحَاقَ عَلَى نَيْسَابُورَ وَأَنْفَذَهُ إِلَيْهَا، وَتُوُفِّيَ ابْنُ الْحَفَّارِ.

ذِكْرُ طَاعَةِ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ لِلْمُقْتَدِرِ وَعَوْدِهِمْ إِلَى طَاعَةِ الْمَهْدِيِّ الْعَلَوِيِّ
قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ اسْتِعْمَالَ الْمَهْدِيِّ عَلِيَّ بْنَ عُمَرَ عَلَى صِقِلِّيَةَ، فَلَمَّا وَلِيَهَا كَانَ شَيْخًا لَيِّنًا، فَلَمْ يَرْضَ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ بِسِيرَتِهِ، فَعَزَلُوهُ عَنْهُمْ، وَوَلَّوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَحْمَدَ بْنَ قَرْهَبَ، فَلَمَّا وَلِيَ سَيَّرَ سَرِيَّةً إِلَى أَرْضِ قِلُّورِيَةَ، فَغَنِمُوا مِنْهَا، وَأَسَرُوا مِنَ الرُّومِ وَعَادُوا.
وَأَرْسَلَ سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ ابْنَهُ عَلِيًّا إِلَى قَلْعَةِ طَبَرْمِينَ الْمُحْدَثَةِ فِي جَيْشٍ، وَأَمَرَهُ بِحَصْرِهَا، وَكَانَ غَرَضُهُ إِذَا مَلَكَهَا أَنْ يَجْعَلَ بِهَا وَلَدَهُ وَأَمْوَالَهُ وَعَبِيدَهُ، فَإِذَا رَأَى مِنْ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ مَا يَكْرَهُ امْتَنَعَ بِهَا، فَحَصَرَهَا (ابْنُهُ سِتَّةَ) أَشْهُرٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعَسْكَرُ عَلَيْهِ، وَكَرِهُوا الْمُقَامَ، فَأَحْرَقُوا خَيْمَتَهُ، وَسَوَادَ الْعَسْكَرِ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُمُ الْعَرَبُ.

(6/619)


وَدَعَا أَحْمَدُ بْنُ قَرْهَبَ النَّاسَ إِلَى طَاعَةِ الْمُقْتَدِرِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَخَطَبَ لَهُ بِصِقِلِّيَةَ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْمَهْدِيِّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ قَرْهَبَ جَيْشًا فِي الْبَحْرِ إِلَى سَاحِلِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَلَقُوا هُنَاكَ أُسْطُولَ الْمَهْدِيِّ وَمُقَدَّمَهُ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي خِنْزِيرٍ، فَأَحْرَقُوا الْأُسْطُولَ، وَقَتَلُوا الْحَسَنَ، وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى ابْنِ قَرْهَبَ، وَسَارَ الْأُسْطُولُ الصِّقِلِّيُّ إِلَى مَدِينَةِ سَفَاقُسَ، فَخَرَّبُوهَا، وَسَارُوا إِلَى طَرَابُلُسَ، فَوَجَدُوا فِيهَا الْقَائِمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ، فَعَادُوا.
وَوَصَلَتِ الْخِلَعُ السُّودُ وَالْأَلْوِيَةُ إِلَى ابْنِ قَرْهَبَ مِنَ الْمُقْتَدِرِ، ثُمَّ أَخْرَجَ مَرَاكِبَ فِيهَا جَيْشٌ إِلَى قِلُّورِيَةَ، فَغَنِمَ جَيْشُهُ، وَخَرَّبُوا وَعَادُوا، وَسَيَّرَ أَيْضًا أُسْطُولًا إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ أُسْطُولُ الْمَهْدِيِّ، فَظَفِرُوا بِالَّذِي لِابْنِ قَرْهَبَ وَأَخَذُوهُ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِابْنِ قَرْهَبَ حَالٌ، وَأَدْبَرَ أَمْرُهُ، وَطَمِعَ فِيهِ النَّاسُ، وَكَانُوا يَخَافُونَهُ.
وَخَافَ مِنْهُ أَهْلُ جَرْجَنْتَ، وَعَصَوْا أَمْرَهُ، وَكَاتَبُوا الْمَهْدِيَّ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الْبِلَادِ كَاتَبُوا الْمَهْدِيَّ أَيْضًا، وَكَرِهُوا الْفِتْنَةَ، وَثَارُوا بِابْنِ قَرْهَبَ، وَأَخَذُوهُ أَسِيرًا سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَحَبَسُوهُ، وَأَرْسَلُوهُ إِلَى الْمَهْدِيِّ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ خَاصَّتِهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ عَلَى قَبْرِ ابْنِ خِنْزِيرٍ، فَقُتِلُوا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى صِقِلِّيَةَ أَبَا سَعِيدٍ مُوسَى بْنَ أَحْمَدَ، وَسَيَّرَ مَعَهُ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ شُيُوخِ كُتَامَةَ، فَوَصَلُوا إِلَى طَرَابُنُشَ.
وَسَبَبُ إِرْسَالِ الْعَسْكَرِ مَعَهُ أَنَّ ابْنَ قَرْهَبَ كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَى الْمَهْدِيِّ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ صِقِلِّيَةَ يُكْثِرُونَ الشَّغَبَ عَلَى أُمَرَائِهِمْ، وَلَا يُطِيعُونَهُمْ، وَيَنْهَبُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ إِلَّا بِعَسْكَرٍ يَقْهَرُهُمْ وَيُزِيلُ الرِّئَاسَةَ عَنْ رُؤَسَائِهِمْ، فَفَعَلَ الْمَهْدِيُّ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلَ مَعَهُ الْعَسْكَرُ خَافَ مِنْهُ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ جَرْجَنْتَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهَا، فَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ أَبُو سَعِيدٍ وَعَمِلَ عَلَى نَفْسِهِ سُورًا إِلَى الْبَحْرِ، وَصَارَ الْمَرْسَى مَعَهُ

(6/620)


فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ أَهْلُ صِقِلِّيَةَ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، (وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ) وَطَلَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ إِلَّا رَجُلَيْنِ هُمَا أَثَارَا الْفِتْنَةَ، فَرَضُوا بِذَلِكَ وَتَسَلَّمَ الرَّجُلَيْنِ، وَسَيَّرَهُمَا إِلَى الْمَهْدِيِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَتَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهَدَمَ أَبْوَابَهَا، وَأَتَاهُ كِتَابُ الْمَهْدِيِّ يَأْمُرُهُ بِالْعَفْوِ عَنِ الْعَامَّةِ.

ذِكْرُ وَفَاةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ وَوِلَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَاكِمِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْأُمَوِيُّ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ عُمْرُهُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَبْيَضَ، أَصْهَبَ، أَزْرَقَ، رَبْعَةً، يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَخَلَّفَ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا، أَحَدُهُمْ مُحَمَّدٌ الْمَقْتُولُ، قَتَلَهُ فِي (حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ) ، وَهُوَ وَالِدُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَلِي بَعْدَهُ (ابْنُ) ابْنِهِ هَذَا مُحَمَّدٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَاكِمِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (الدَّاخِلِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ) ابْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَاكِمِ الْأُمَوِيُّ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ تُسَمَّى مُزْتَةُ، وَكَانَ عُمْرُهُ لَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ عِشْرِينَ يَوْمًا.
وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنَ الْمُسْتَطْرَفِ لِأَنَّهُ كَانَ شَابًّا، وَبِالْحَضْرَةِ أَعْمَامُهُ وَأَعْمَامُ أَبِيهِ، فَلَمْ يَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، وَوُلِّيَ الْإِمَارَةَ وَالْبِلَادَ كُلَّهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِمْ قَبْلَهُ، وَامْتَنَعَ حُصُونٌ

(6/621)


(بِكَوْرَةِ رَيَّةَ وَحِصْنِ بُبَشْتَرَ) فَحَارَبَهُ، حَتَّى صَلَحَتِ الْبِلَادُ بِنَاحِيَتِهِ، وَكَانَ مَنْ بِطُلَيْطِلَةَ أَيْضًا (قَدْ خَالَفُوا) ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى عَادُوا إِلَى الطَّاعَةِ، وَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُ الْمُخَالِفِينَ حَتَّى أَذْعَنُوا لَهُ، وَأَطَاعُوا نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَاسْتَقَامَتِ الْبِلَادُ، وَأَمِنَتْ فِي دَوْلَتِهِ، وَمَضَى لِحَالِ سَبِيلِهِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِسْمَعِيُّ عَنْ فَارِسَ وَكَرْمَانَ وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا بَدْرٌ الْحَمَّامِيُّ، وَكَانَ بَدْرٌ يَتَقَلَّدُ أَصْبَهَانَ، وَاسْتُعْمِلَ بَعْدَهُ عَلَى أَصْبَهَانَ عَلِيُّ بْنُ وَهْسُوذَانَ الدَّيْلَمَيُّ.
وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَرَسُولٌ مِنْ عَامِلِ بَرْقَةَ، وَهِيَ مِنْ عَمَلِ مِصْرَ وَمَا بَعْدَهَا بِأَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ لِمِصْرَ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْمَغْرِبِ بِخَبَرِ خَارِجِيٍّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ ظَفِرُوا بِهِ وَبِعَسْكَرِهِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، (وَوَصَلَ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ مِنْ أُنُوفِهِمْ وَآذَانِهِمْ شَيْءٌ كَثِيرٌ) .
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ وَالْعِلَلُ بِبَغْدَاذَ.
وَفِيهَا كَلِبَتِ الْكِلَابُ وَالذِّئَابُ بِالْبَادِيَةِ، فَأَهْلَكَتْ خَلْقًا كَثِيرًا.
وَفِيهَا وُلِّيَ بِشْرٌ الْأَفْشِينِيُّ طَرَسُوسَ.
وَفِيهَا قُلِّدَ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ الْحَرَمَيْنِ وَالثُّغُورَ.
(وَفِيهَا انْقَضَّتِ الْكَوَاكِبُ انْقِضَاضًا كَثِيرًا إِلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ) .

(6/622)


وَفِيهَا مَاتَ إِسْكَنْدَرُوسُ بْنُ لَاوِنَ مَلِكُ الرُّومِ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ، وَاسْمُهُ قُسْطَنْطِينُ، وَعُمْرُهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَارُودِيُّ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ ابْنُ أَخِي الْعَرَقِ الْمُقْرِئِ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ، وَعَلِيُّ بْنُ طَيْفُورَ النَّشَوِيُّ، وَأَبُو عُمَرَ الْقَتَّاتُ.
وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، تُوُفِّيَ يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْمُنَجِّمُ الْمَعْرُوفُ بِالنَّدِيمِ.

(6/623)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَة]
301 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ عَلَى الْأَمِيرِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَقُلِّدَ أَعْمَالَ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَاسْتُخْلِفَ لَهُ عَلَى مِصْرَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ.
وَأَبُو الْعَبَّاسِ هَذَا هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ، وَلُقِّبَ بِالرَّاضِي بِاللَّهِ. وَخُلِعَ أَيْضًا عَلَى الْأَمِيرِ عَلِيِّ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، وَوَلِيَ الرَّيَّ، وَدُنْبَاوَنْدَ، وَقَزْوِينَ وَزَنْجَانَ، وَأَبْهَرَ.
وَفِيهَا أُحْضِرَ بِدَارِ عِيسَى رَجُلٌ يُعْرَفُ بِالْحَلَّاجِ وَيُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ، وَكَانَ مُشَعْبِذًا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَصَاحِبَ حَقِيقَةٍ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، وَصُلِبَ هُوَ وَصَاحِبُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كُلَّ يَوْمٍ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمَا إِلَى الْحَبْسِ، وَسَنَذْكُرُ أَخْبَارَهُ وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ عِنْدَ صَلْبِهِ.
وَفِيهَا، فِي صَفَرٍ، (عُزِلَ أَبُو الْهَيْجَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ عَنِ الْمَوْصِلِ) ، وَقُلِّدَ يُمْنٌ الطُّولُونِيُّ الْمَعُونَةَ بِالْمَوْصِلِ، ثُمَّ صُرِفَ عَنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا نِحْرِيرٌ (الْخَادِمُ) الصَّغِيرُ.
وَفِيهَا خَالَفَ أَبُو الْهَيْجَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ عَلَى الْمُقْتَدِرِ فَسُيِّرَ إِلَيْهِ مُؤْنِسٌ الْمُظَفَّرُ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ بُنِّيُّ بْنُ نَفِيسٍ، خَرَجَ إِلَى الْمَوْصِلِ مُنْتَصَفَ صَفَرٍ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ

(6/624)


مِنَ الْقُوَّادِ، وَخَرَجَ مُؤْنِسٌ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَبُو الْهَيْجَاءِ بِذَلِكَ قَصَدَ مُؤْنِسًا مُسْتَأْمِنًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَوَرَدَ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَخَلَعَ الْمُقْتَدِرُ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ دَمْيَانَةُ أَمِيرُ الثُّغُورِ وَبَحْرِ الرُّومِ، وَقُلِّدَ مَكَانَهُ ابْنُ بُلْكَ.

ذِكْرُ قَتَلِ الْأَمِيرِ أَبِي نَصْرٍ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيِّ وَوِلَايَةِ وَلَدِهِ نَصْرٍ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ صَاحِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءِ النَّهْرِ، وَكَانَ مُولَعًا بِالصَّيْدِ، فَخَرَجَ إِلَى فِرَبْرَ مُتَصَيِّدًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَمَرَ بِإِحْرَاقِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ عَسْكَرُهُ، وَانْصَرَفَ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابُ نَائِبِهِ بِطَبَرِسْتَانَ، وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ صُعْلُوكٌ، وَكَانَ يَلِيهَا بَعْدَ وَفَاةِ ابْنِ نُوحٍ بِهَا، يُخْبِرُهُ بِظُهُورِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْعَلَوِيِّ الْأُطْرُوشِ بِهَا، وَتَغَلُّبِهِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْهَا، فَغَمَّ ذَلِكَ أَحْمَدَ، وَعَادَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ الَّذِي أَحْرَقَهُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ فَتَطَيَّرَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ.
وَكَانَ لَهُ أَسَدٌ يَرْبُطُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى بَابِ مَبِيتِهِ، فَلَا يَجْسُرُ أَحَدٌ [أَنْ] يَقْرَبَهُ، فَأَغْفَلُوا إِحْضَارَ الْأَسَدِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ غِلْمَانِهِ، فَذَبَحُوهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَهَرَبُوا، وَكَانَ قَتْلُهُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَحُمِلَ إِلَى بُخَارَى فَدُفِنَ بِهَا، وَلُقِّبَ حِينَئِذٍ بِالشَّهِيدِ وَطُلِبَ أُولَئِكَ الْغِلْمَانُ، فَأُخِذَ بَعْضُهُمْ فَقُتِلَ.
وَوَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَبُو الْحَسَنِ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَلُقِّبَ بِالسَّعِيدِ، وَبَايَعَهُ أَصْحَابُ أَبِيهِ بِبُخَارَى بَعْدَ دَفْنِ أَبِيهِ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ، وَكَانَ مُتَوَلِّي (أَمْرِ) بُخَارَى فَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَبَايَعَ لَهُ

(6/625)


النَّاسَ، وَلَمَّا حَمَلَهُ خَدَمُ أَبِيهِ لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ خَافَهُمْ، وَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي كَمَا قَتَلْتُمْ أَبِي؟ فَقَالُوا: (لَا إِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ تَكُونَ) مَوْضِعَ أَبِيكَ أَمِيرًا، فَسَكَنَ رُوعُهُ.
وَاسْتَصْغَرَ النَّاسُ نَصْرًا، وَاسْتَضْعَفُوهُ، وَظَنُّوا أَنَّ أَمْرَهُ لَا يَنْتَظِمُ مَعَ قُوَّةِ عَمِّ أَبِيهِ الْأَمِيرِ إِسْحَاقَ بْنِ أَحْمَدَ، وَهُوَ شَيْخُ السَّامَانِيَّةِ، وَهُوَ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ وَمَيْلُ النَّاسِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ سِوَى بُخَارَى إِلَيْهِ وَإِلَى أَوْلَادِهِ، وَتَوَلَّى تَدْبِيرَ دَوْلَةِ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْجَيْهَانِيُّ، فَأَمْضَى الْأُمُورَ وَضَبَطَ الْمَمْلَكَةَ، وَاتَّفَقَ هُوَ وَحَشَمُ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ عَلَى تَدْبِيرِ الْأَمْرِ فَأَحْكَمُوهُ وَمَعَ هَذَا، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْأَطْرَافِ طَمِعُوا فِي الْبِلَادِ، فَخَرَجُوا مِنَ النَّوَاحِي عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
فَمِمَّنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ أَهْلُ سِجِسْتَانَ، وَعَمُّ أَبِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ بِسَمَرْقَنْدَ، وَابْنَاهُ مَنْصُورٌ وَإِلْيَاسُ ابْنَا إِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مَتٍّ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ يُوسُفَ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَرْوَرُوذِيُّ، (وَمُحَمَّدُ بْنُ حَيْدٍ) وَأَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ، وَلَيْلَى بْنُ نُعْمَانَ صَاحِبُ الْعَلَوِيِّينَ بِطَبَرِسْتَانَ، وَوَقَّعَهُ سِيمَجُورُ مَعَ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ النَّاصِرِ، وَقُرَاتِكِينَ، (وَمَاكَانَ بْنُ كَالِيَّ) وَخَرَجَ عَلَيْهِ إِخْوَتُهُ يَحْيَى وَمَنْصُورٌ وَإِبْرَاهِيمُ، أَوْلَادُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَجَعْفَرُ (بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ) ، وَابْنُ دَاوُدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِلْيَاسَ، وَنَصْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَتٍّ، وَمَرْدَاوِيجُ وَوَشْمَكِيرُ ابْنَا زَيَّارَ، وَكَانَ السَّعِيدُ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا عَلَيْهِمْ.

(6/626)


ذِكْرُ أَمْرِ سِجِسْتَانَ
وَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ خَالَفَ أَهْلُ سِجِسْتَانَ عَلَى وَلَدِهِ نَصْرٍ وَانْصَرَفَ عَنْهَا سِيمَجُورُ الدَّوَاتِيُّ، فَوَلَّاهَا الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ بَدْرًا الْكَبِيرَ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهَا الْفَضْلَ بْنَ حُمَيْدٍ، وَأَبَا يَزِيدَ خَالِدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيَّ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْجَيْهَانِيُّ بِبُسْتَ، وَالرُّخَّجِ، وَسَعْدٌ الطَّالْقَانِيُّ بِغَزْنَةَ مِنْ جِهَةِ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، فَقَصَدَهُمَا الْفَضْلُ وَخَالِدٌ، وَانْكَشَفَ عَنْهُمَا عُبَيْدُ اللَّهِ، وَقَبَضَا عَلَى سَعْدٍ الطَّالْقَانِيُّ وَأَنْفَذَاهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَاسْتَوْلَى الْفَضْلُ وَخَالِدٌ عَلَى غَزْنَةَ وَبُسْتَ ثُمَّ اعْتَلَّ الْفَضْلُ، وَانْفَرَدَ خَالِدٌ بِالْأُمُورِ، وَعَصَى عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ دَرَكًا أَخَا نَجَحٍ الطُّولُونِيِّ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ خَالِدٌ.
وَسَارَ خَالِدٌ إِلَى كَرْمَانَ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بَدْرٌ جَيْشًا، فَقَاتَلَهُمْ خَالِدٌ، فَجُرِحَ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَأُخِذَ هُوَ أَسِيرًا، فَمَاتَ، فَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَاذَ.

ذِكْرُ خُرُوجِ إِسْحَاقَ بْنِ أَحْمَدَ وَابْنِهِ إِلْيَاسَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ، خَرَجَ عَلَى السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَمُّ أَبِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ وَابْنُهُ إِلْيَاسُ، وَكَانَ إِسْحَاقُ بِسَمَرْقَنْدَ لَمَّا قُتِلَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَوَلِيَ ابْنُهُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ عَصَى بِهَا، وَقَامَ ابْنُهُ إِلْيَاسُ يَأْمُرُ الْجَيْشَ، وَقَوِيَ أَمْرُهُمَا، فَسَارُوا نَحْوَ بُخَارَى، فَسَارَ إِلَيْهِ حَمُّوَيْهِ بْنُ عَلِيٍّ فِي عَسْكَرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ إِسْحَاقُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ جَمَعَ وَعَادَ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ إِسْحَاقُ أَيْضًا، وَتَبِعَهُ حَمُّوَيْهِ إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَمَلَكَهَا قَهْرًا.
(وَاخْتَفَى إِسْحَاقُ، وَطَلَبَهُ حَمُّوَيْهِ) ، وَوَضَعَ عَلَيْهِ الْعُيُونَ وَالرَّصَدَ، فَضَاقَ بِإِسْحَاقَ

(6/627)


مَكَانُهُ، فَأَظْهَرَ نَفْسَهُ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَى حَمُّوَيْهِ فَأَمَّنَهُ وَحَمَلَهُ إِلَى بُخَارَى فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ.
وَأَمَّا ابْنُهُ إِلْيَاسُ فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى فَرْغَانَةَ، وَبَقِيَ بِهَا إِلَى أَنْ خَرَجَ ثَانِيًا.

ذِكْرُ ظُهُورِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْأُطْرُوشِ
وَفِيهَا اسْتَوْلَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى طَبَرِسْتَانَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالنَّاصِرِ.
وَكَانَ سَبَبُ ظُهُورِهِ مَا نَذْكُرُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ عِصْيَانَ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَهَرَبَهُ مِنْهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْأَمِيرَ أَحْمَدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ اسْتَعْمَلَ عَلَى طَبَرِسْتَانَ أَبَا الْعَبَّاسِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ نُوحٍ، فَأَحْسَنَ فِيهِمُ السِّيرَةَ، وَعَدَلَ فِيهِمْ، وَأَكْرَمَ مَنْ بِهَا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، وَبَالَغَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَرَاسَلَ رُؤَسَاءَ الدَّيْلَمِ، وَهَادَاهُمْ، وَاسْتَمَالَهُمْ.
وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْأُطْرُوشُ قَدْ دَخَلَ الدَّيْلَمَ بَعْدَ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَقَامَ بَيْنَهُمْ نَحْوَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيَقْتَصِرُ مِنْهُمْ عَلَى الْعُشْرِ، وَيُدَافِعُ عَنْهُمُ ابْنُ حَسَّانَ مَلِكُهُمْ فَأَسْلَمَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَبَنَى فِي بِلَادِهِمْ، (مَسَاجِدَ.
وَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ بِإِزَائِهِمْ) ثُغُورٌ مِثْلُ: قَزْوِينُ، وَسَالُوسُ، وَغَيْرُهُمَا وَكَانَ بِمَدِينَةِ سَالُوسَ حِصْنٌ مَنِيعٌ قَدِيمٌ، فَهَدَمَهُ الْأُطْرُوشُ حِينَ أَسْلَمَ الدَّيْلَمُ وَالْجِيلُ، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَلَا يُجِيبُونَهُ إِلَى ذَلِكَ لِإِحْسَانِ ابْنِ نُوحٍ، فَاتَّفَقَ أَنَّ الْأَمِيرَ أَحْمَدَ عَزَلَ ابْنَ نُوحٍ عَنْ طَبَرِسْتَانَ وَوَلَّاهُمَا سَلَّامًا، فَلَمْ يُحْسِنْ سِيَاسَةَ أَهْلِهَا، وَهَاجَ عَلَيْهِ الدَّيْلَمُ، فَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَاسْتَقَالَ عَنْ وِلَايَتِهَا، فَعَزَلَهُ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ، وَأَعَادَ إِلَيْهَا ابْنَ نُوحٍ، فَصَلَحَتِ الْبِلَادُ مَعَهُ.

(6/628)


ثُمَّ إِنَّهُ مَاتَ بِهَا، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ صُعْلُوكٌ، فَغَيَّرَ رُسُومَ ابْنَ نُوحٍ، (وَأَسَاءَ السِّيرَةَ، وَقَطَعَ عَنْ رُؤَسَاءَ الدَّيْلَمِ مَا كَانَ يُهْدِيهِ إِلَيْهِمُ ابْنُ نُوحٍ) ، فَانْتَهَزَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْفُرْصَةَ، وَهَيَّجَ الدَّيْلَمَ عَلَيْهِ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَأَجَابُوهُ وَخَرَجُوا مَعَهُ، وَقَصَدَهُمْ صُعْلُوكٌ فَالْتَقَوْا بِمَكَانٍ يُسَمَّى نَوْرُوزَ وَهُوَ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، عَلَى يَوْمٍ مِنْ سَالُوسَ، فَانْهَزَمَ ابْنُ صُعْلُوكٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوُ أَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَحَصَرَ الْأُطْرُوشُ الْبَاقِينَ ثُمَّ أَمَّنَهُمْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ، فَأَمَّنَهُمْ وَعَادَ عَنْهُمْ إِلَى آمُلَ وَانْتَهَى إِلَيْهِمُ الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ الدَّاعِي الْعَلَوِيُّ، وَكَانَ خَتَنَ الْأُطْرُوشِ، فَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَمَّنَهُمْ، وَلَا عَاهَدَهُمْ وَاسْتَوْلَى الْأُطْرُوشُ عَلَى طَبَرِسْتَانَ.
وَخَرَجَ صُعْلُوكٌ إِلَى الرَّيِّ، وَذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى بَغْدَاذَ وَكَانَ الْأُطْرُوشُ قَدْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ (مِنَ الدَّيْلَمِ) الَّذِينَ هُمْ وَرَاءَ أَسْفِيدَرُوذَ إِلَى نَاحِيَةِ آمُلَ، وَهُمْ يَذْهَبُونَ مَذْهَبَ الشِّيعَةِ.
وَكَانَ الْأُطْرُوشُ زِيْدِيَّ الْمَذْهَبِ، شَاعِرًا مُفُلِّقًا، ظَرِيفًا، عَلَّامَةً، إِمَامًا فِي الْفِقْهِ وَالدِّينِ، كَثِيرَ الْمُجُونِ، حَسَنَ النَّادِرَةِ.
حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ عَلَى جُرْجَانَ، وَكَانَ يُرْمَى بِالْأُبْنَةِ، فَاسْتَعْجَزَهُ الْحَسَنُ يَوْمًا فِي شُغْلٍ لَهُ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ! أَنَا أَحْتَاجُ إِلَى رِجَالٍ أَجْلَادٍ يُعِينُونَنِي، فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ.
وَكَانَ سَبَبُ صَمَمِهِ أَنَّهُ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ بِسَيْفٍ فِي حَرْبِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ فَطَرِشَ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ أَبُو الْحَسَنِ، وَأَبُو الْقَاسِمِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: يَوْمًا لِابْنِهِ أَبِي

(6/629)


الْحَسَنِ: يَا بُنَيَّ! هَاهُنَا شَيْءٌ مِنَ الْغِرَاءِ نَلْصِقُ بِهِ كَاغِدًا؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا هَاهُنَا بِالْخَاءِ، فَحَقَدَهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوَلِّهِ شَيْئًا، وَوَلَّى ابْنَيْهِ أَبَا الْقَاسِمِ، وَأَبَا الْحُسَيْنِ، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يُنْكِرُ تَرْكَهُ مَعْزُولًا، وَيَقُولُ: أَنَا أَشْرَفُ مِنْهُمَا لِأَنَّ أُمِّي حَسَنِيَّةٌ، وَأُمَّهُمَا أَمَةٌ.
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ شَاعِرًا، وَلَهُ مُنَاقَضَاتٌ مَعَ ابْنِ الْمُعْتَزِّ، وَلَحِقَ أَبُو الْحَسَنِ بِابْنِ أَبِي السَّاجِ، (فَخَرَجَ مَعَهُ يَوْمًا مُتَصَيِّدًا، فَسَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ فَبَقِيَ رَاجِلًا، فَمَرَّ بِهِ ابْنُ أَبِي السَّاجِ) فَقَالَ لَهُ: ارْكَبْ مَعِي عَلَى دَابَّتِي! فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ لَا يَصْلُحُ بَطَلَانِ عَلَى دَابَّةٍ.

ذِكْرُ الْقَرَامِطَةِ وَقَتْلِ الْجَنَّابِيِّ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ بَهْرَامَ الْجَنَّابِيُّ كَبِيرُ الْقَرَامِطَةِ قَتَلَهُ خَادِمٌ لَهُ صَقْلَبِيٌّ فِي الْحَمَّامِ، فَلَمَّا قَتَلَهُ اسْتَدْعَى رَجُلًا مِنْ أَكَابِرِ رُؤَسَائِهِمْ وَقَالَ لَهُ: السَّيِّدُ يَسْتَدْعِيكَ، فَلَمَّا دَخَلَ قَتَلَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، (مِنْ رُؤَسَائِهِمْ) ، وَاسْتَدْعَى الْخَامِسَ، فَلَمَّا دَخَلَ فَطِنَ لِذَلِكَ، فَأَمْسَكَ بِيَدِ الْخَادِمِ وَصَاحَ، فَدَخَلَ النَّاسُ، وَصَاحَ النِّسَاءُ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَادِمِ مُنَاظَرَاتٌ ثُمَّ قَتَلُوهُ.
وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ قَدْ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ سَعِيدٍ، وَهُوَ الْأَكْبَرُ، فَعَجَزَ عَنِ الْأَمْرِ، فَغَلَبَهُ أَخُوهُ الْأَصْغَرُ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، وَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا يُعْلَمُ بِهِ مَحَلُّهُ.

(6/630)


وَلَمَّا قُتِلَ أَبُو سَعِيدٍ كَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى هَجَرَ وَالْإِحْسَاءِ وَالْقَطِيفِ وَالطَّائِفِ، وَسَائِرِ بِلَادِ الْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ كِتَابًا لَيِّنًا فِي مَعْنَى مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُنَاظِرُهُ، وَيُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِ، وَنَفَّذَهُ مَعَ الرُّسُلِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْبَصْرَةِ بَلَغَهُمْ خَبَرُ مَوْتِهِ فَأَعْلَمُوا الْخَلِيفَةَ بِذَلِكَ، فَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى وَلَدِهِ، فَأَتَوْا أَبَا طَاهِرٍ بِالْكِتَابِ فَأَكْرَمَ الرُّسُلَ، وَأَطْلَقَ الْأَسْرَى، وَنَفَّذَهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَجَابَ عَنِ الْكِتَابِ.

ذِكْرُ مَسِيرِ جَيْشِ الْمَهْدِيِّ إِلَى مِصْرَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْمَهْدِيُّ الْعَسَاكِرَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، وَسَيَّرَهَا مَعَ وَلَدِهِ أَبِي الْقَاسِمِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَسَارُوا إِلَى بُرْقَةَ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَسَارُوا إِلَى مِصْرَ، فَمَلَكَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَالْفَيُّومَ، وَصَارَ فِي يَدِهِ أَكْثَرُ الْبِلَادِ، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهَا الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَحَارَبَهُمْ وَأَجْلَاهُمْ عَنْ مِصْرَ، فَعَادُوا إِلَى الْمَغْرِبِ مَهْزُومِينَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ الدَّمَوِيَّةُ، وَمَاتَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَأَكْثَرُهُمْ بِالْحَرْبِيَّةِ، فَإِنَّهَا أُغْلِقَتْ بِهَا دُورٌ كَثِيرَةٌ لِفَنَاءِ أَهْلِهَا.

(6/631)


[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْفِرْيَابِيُّ بِبَغْدَاذَ، وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ الثَّقَفِيُّ.

(6/632)