الكامل في التاريخ

 [ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ]
325 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ذِكْرُ مَسِيرِ الرَّاضِي بِاللَّهِ إِلَى حَرْبِ الْبَرِيدِيِّ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَشَارَ مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ عَلَى الرَّاضِي بِاللَّهِ بِالِانْحِدَارِ مَعَهُ إِلَى وَاسِطَ لِيَقْرُبَ مِنَ الْأَهْوَازِ، وَيُرَاسِلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْبَرِيدِيِّ، فَإِنْ أَجَابَ إِلَى مَا يَطْلُبُ مِنْهُ، وَإِلَّا قَرُبَ قَصْدُهُ عَلَيْهِ، فَأَجَابَ الرَّاضِي إِلَى ذَلِكَ، وَانْحَدَرَ أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ، فَخَالَفَ الْحَجَرِيَّةَ وَقَالُوا: هَذِهِ حِيلَةٌ عَلَيْنَا لِيَعْمَلَ بِنَا مِثْلَ مَا عَمِلَ بِالسَّاجِيَّةِ، فَلَمْ يَلْتَفِتِ ابْنُ رَائِقٍ إِلَيْهِمْ، وَانْحَدَرَ وَتَبِعَهُ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ انْحَدَرُوا بَعْدَهُ، فَلَمَّا صَارُوا بِوَاسِطَ، اعْتَرَضَهُمُ ابْنُ رَائِقٍ، فَأَسْقَطَ أَكْثَرَهُمْ، فَاضْطَرَبُوا وَثَارُوا، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْحَجَرِيَّةُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ.
وَلَمَّا وَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى بَغْدَاذَ، رَكِبَ لُؤْلُؤٌ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ بِبَغْدَاذَ وَلَقِيَهُمْ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ فَاسْتَتَرُوا، فَنُهِبَتْ دُورُهُمْ، وَقُبِضَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَمْلَاكُهُمْ، وَقُطِعَتْ أَرْزَاقُهُمْ.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمُ ابْنُ رَائِقٍ، قَتَلَ مَنْ كَانَ اعْتَقَلَهُ مِنَ السَّاجِيَّةِ سِوَى صَافِي الْخَازِنِ، وَهَارُونَ بْنِ مُوسَى، فَلَمَّا فَرَغَ، أَخْرَجَ مَضَارِبَهُ وَمَضَارِبَ الرَّاضِي نَحْوَ الْأَهْوَازِ لِإِجْلَاءِ ابْنِ الْبَرِيدِيِّ عَنْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فِي مَعْنَى تَأْخِيرِ الْأَمْوَالِ، وَمَا قَدِ ارْتَكَبَهُ مِنَ الِاسْتِبْدَادِ بِهَا وَإِفْسَادِ الْجُيُوشِ وَتَزْيِينِ الْعِصْيَانِ لَهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ مَعَايِبِهِ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِنَّهُ إِنْ حَمَلَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُنْدَ الَّذِينَ أَفْسَدَهُمْ أُقِرَّ عَلَى عَمَلِهِ، وَإِنْ أَبَى قُوبِلَ بِمَا اسْتَحَقَّهُ.
فَلَمَّا سَمِعَ الرِّسَالَةَ جَدَّدَ ضَمَانَ الْأَهْوَازِ، كُلُّ سَنَةٍ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، يَحْمِلُ كُلَّ شَهْرٍ بِقِسْطِهِ، وَأَجَابَ إِلَى تَسْلِيمِ الْجَيْشِ إِلَى أَنْ يُؤْمَرَ بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسِيرُ بِهِمْ

(7/58)


إِلَى قِتَالِ ابْنِ بُوَيْهِ، إِذْ كَانُوا كَارِهِينَ لِلْعَوْدِ إِلَى بَغْدَاذَ لِضِيقِ الْأَمْوَالِ بِهَا وَاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ، فَكَتَبَ الرُّسُلُ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ، فَعَرَضَهُ عَلَى الرَّاضِي، وَشَاوَرَ فِيهِ أَصْحَابَهُ، فَأَشَارَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ النُّوبَخْتِيُّ بِأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ خِدَاعٌ وَمَكْرٌ لِلْقُرْبِ مِنْهُ، وَمَتَى عُدْتُمْ عَنْهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى مَا بَذَلَهُ.
وَأَشَارَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُقَاتِلٍ بِإِجَابَتِهِ إِلَى مَا الْتَمَسَ مِنَ الضَّمَانِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَكَانَ يَتَعَصَّبُ لِلْبَرِيدِيِّ، فَسُمِعَ قَوْلُهُ وَعُقِدَ الضَّمَانُ عَلَى الْبَرِيدِيِّ، وَعَادَ هُوَ وَالرَّاضِي إِلَى بَغْدَاذَ، فَدَخَلَاهَا ثَامِنَ صَفَرٍ.
فَأَمَّا الْمَالُ فَمَا حَمَلَ مِنْهُ دِينَارًا وَاحِدًا، وَأَمَّا الْجَيْشُ فَإِنَّ ابْنَ رَائِقٍ أَنْفَذَ جَعْفَرَ بْنَ وَرْقَاءَ لِيَتَسَلَّمَهُ مِنْهُ وَلِيَسِيرَ إِلَى فَارِسَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْأَهْوَازِ لَقِيَهُ ابْنُ الْبَرِيدِيِّ فِي الْجَيْشِ جَمِيعِهِ، وَلَمَّا عَادَ سَارَ الْجَيْشُ مَعَ الْبَرِيدِيِّ إِلَى دَارِهِ وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ جَعْفَرًا وَقَدَّمَ لَهُمْ طَعَامًا كَثِيرًا، فَأَكَلُوا وَانْصَرَفُوا، وَأَقَامَ جَعْفَرُ عِدَّةَ أَيَّامٍ.
ثُمَّ إِنَّ جَعْفَرًا أَمَرَ الْجَيْشَ فَطَالَبُوهُ بِمَالٍ يُفَرِّقُهُ فِيهِمْ لِيَتَجَهَّزُوا بِهِ إِلَى فَارِسَ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، فَشَتَمُوهُ وَتَهَدَّدُوهُ بِالْقَتْلِ، فَاسْتَتَرَ مِنْهُمْ وَلَجَأَ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، وَقَالَ (لَهُ الْبَرِيدِيُّ) : لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ أَرْسَلَكَ، وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِنْكَ كَيْفَ جِئْتَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَلَوْ أَنَّ الْجَيْشَ مَمَالِيكٌ لَمَا سَارُوا إِلَّا بِمَالٍ تُرْضِيهِمْ بِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ لَيْلًا، وَقَالَ: انْجُ بِنَفْسِكَ، فَسَارَ إِلَى بَغْدَاذَ خَائِبًا.
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ مُقَاتِلٍ شَرَعَ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ فِي عَزْلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ النُّوبَخْتِيِّ وَزِيرِهِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالِاعْتِضَادِ بِالْبَرِيدِيِّ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ وَزِيرًا لَهُ عِوَضَ النُّوبَخْتِيِّ، وَبَذَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلِ ابْنُ مُقَاتِلٍ يَسْعَى وَيَجْتَهِدُ إِلَى أَنْ أَجَابَهُ إِلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي بُلُوغِ ابْنِ مُقَاتِلٍ غَرَضَهُ أَنَّ النُّوبَخْتِيَّ كَانَ مَرِيضًا، فَلَمَّا تَحَدَّثَ ابْنُ مُقَاتِلٍ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ فِي عَزْلِهِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ كَثِيرٌ، هُوَ الَّذِي سَعَى لِي حَتَّى بَلَغْتُ هَذِهِ الرُّتْبَةَ، فَلَا أَبْتَغِي بِهِ بَدِيلًا.
فَقَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ: فَإِنَّ النُّوبَخْتِيَّ مَرِيضٌ لَا مَطْمَعَ فِي عَافِيَتِهِ.
قَالَ لَهُ ابْنُ رَائِقٍ: فَإِنَّ الطَّبِيبَ قَدْ أَعْلَمَنِي أَنَّهُ قَدْ صَلُحَ وَأَكَلَ الدُّرَّاجَ.

(7/59)


فَقَالَ: إِنَّ الطَّبِيبَ يَعْلَمُ مَنْزِلَتَهُ مِنْكَ، وَأَنَّهُ وَزِيرُ الدَّوْلَةِ، فَلَا يَلْقَاكَ فِي أَمْرِهِ بِمَا تَكْرَهُ، وَلَكِنْ أَحْضِرِ ابْنَ أَخِي النُّوبَخْتِيِّ وَصِهْرَهُ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ، وَاسْأَلْهُ عَنْهُ سِرًّا، فَهُوَ يُخْبِرُكَ بِحَالِهِ. فَقَالَ: أَفْعَلُ.
وَكَانَ النُّوبَخْتِيُّ قَدِ اسْتَنَابَ ابْنَ أَخِيهِ هَذَا عِنْدَ ابْنِ رَائِقٍ لِيَقُومَ بِخِدْمَتِهِ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ مُقَاتِلٍ فَارَقَ ابْنَ رَائِقٍ عَلَى هَذَا، وَاجْتَمَعَ بِعَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ وَقَالَ لَهُ: قَدْ قَرَّرْتُ لَكَ مَعَ الْأَمِيرِ ابْنِ رَائِقٍ الْوِزَارَةَ، فَإِذَا سَأَلَكَ عَنْ عَمِّكِ، فَأَعْلِمْهُ أَنَّهُ عَلَى الْمَوْتِ وَلَا يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ لِتَتِمَّ لَكَ الْوِزَارَةُ.
فَلَمَّا اجْتَمَعَ ابْنُ رَائِقٍ بِعَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ سَأَلَهُ عَنْ عَمِّهِ، فَغُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَطَمَ بِرَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَقَالَ: يُبْقِي اللَّهُ الْأَمِيرَ وَيُعْظِمُ أَجْرَهُ فِيهِ، فَلَا يَعُدُّهُ الْأَمِيرُ إِلَّا فِي الْأَمْوَاتِ، فَاسْتَرْجَعَ وَحَوْقَلَ، وَقَالَ: لَوْ فُدِيَ بِجَمِيعِ مَا أَمْلِكُهُ لَفَعَلْتُ.
فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ ابْنُ مُقَاتِلٍ، قَالَ لَهُ ابْنُ رَائِقٍ: قَدْ كَانَ الْحَقُّ مَعَكَ، وَقَدْ يَئِسْنَا مِنَ النُّوبَخْتِيِّ، فَاكْتُبْ إِلَى الْبَرِيدِيِّ لِيُرْسِلَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي وِزَارَتِي، فَفَعَلَ وَكَتَبَ إِلَى الْبَرِيدِيِّ (بِإِنْفَاذِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ) الْكُوفِيِّ لِيَنُوبَ عَنْهُ فِي وِزَارَةِ ابْنِ رَائِقٍ، فَأَنْفَذَهُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى الْأُمُورِ، وَتَمَشَّى حَالُ الْبَرِيدِيِّ بِذَلِكَ، فَإِنَّ النُّوبَخْتِيَّ كَانَ عَارِفًا بِهِ لَا يَتَمَشَّى مَعَهُ مَحَالُّهُ.
فَلَمَّا اسْتَوْلَى الْكُوفِيُّ وَابْنُ مُقَاتِلٍ، شَرَعَا فِي تَضْمِينِ الْبَصْرَةِ مِنْ أَبِي يُوسُفَ بْنِ الْبَرِيدِيِّ أَخِي عَبْدِ اللَّهِ، فَامْتَنَعَ ابْنُ رَائِقٍ مِنْ ذَلِكَ، فَخَدَعَاهُ إِلَى أَنْ أَجَابَ إِلَيْهِ، وَكَانَ نَائِبُ ابْنِ رَائِقٍ بِالْبَصْرَةِ مُحَمَّدَ بْنَ يَزْدَادَ، وَقَدْ أَسَاءَ السِّيرَةَ وَظَلَمَ أَهْلَهَا، (فَلَمَّا ضَمِنَهَا الْبَرِيدِيُّ، حَضَرَ عِنْدَهُ بِالْأَهْوَازِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا) فَوَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ، وَذَمَّ ابْنَ رَائِقٍ عِنْدَهُمْ بِمَا كَانَ يَفْعَلُهُ ابْنُ يَزْدَادَ، فَدَعَوْا لَهُ.

(7/60)


ثُمَّ أَنْفَذَ الْبَرِيدِيُّ غُلَامَهُ إِقْبَالًا فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَقَامِ بِحِصْنِ مَهْدِيٍّ إِلَى أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِمَا يَفْعَلُونَ، فَلَمَّا عَلِمَ ابْنُ يَزْدَادَ بِهِمْ، قَامَتْ قِيَامَتُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّ الْبَرِيدِيَّ يُرِيدُ التَّغَلُّبَ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ يُرِيدُ التَّصَرُّفَ فِي ضَمَانِهِ، لَكَانَ يَكْفِيهِ عَامِلٌ فِي جَمَاعَتِهِ.
وَأَمَرَ الْبَرِيدِيُّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ مَا كَانَ ابْنُ يَزْدَادَ يَأْخُذُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، حَتَّى اطْمَأَنُّوا، وَقَاتَلُوا مَعَهُ عَسْكَرَ ابْنِ رَائِقٍ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِمْ، فَعَمِلَ بِهِمْ أَعْمَالًا تَمَنَّوْا [مَعَهَا] أَيَّامَ ابْنِ رَائِقٍ وَعَدُّوهَا أَعْيَادًا.

ذِكْرُ ظُهُورِ الْوَحْشَةِ بَيْنَ ابْنِ رَائِقٍ وَالْبَرِيدِيِّ، وَالْحَرْبِ بَيْنَهُمَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا ظَهَرَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ ابْنِ رَائِقٍ وَالْبَرِيدِيِّ، وَكَانَ لِذَلِكَ عِدَّةُ أَسْبَابٍ مِنْهَا: أَنَّ ابْنَ رَائِقٍ لَمَّا عَادَ مِنْ وَاسِطَ إِلَى بَغْدَاذَ، أَمَرَ بِظُهُورِ مَنِ اخْتَفَى مِنَ الْحَجَرِيِّينَ، فَظَهَرُوا، فَاسْتَخْدَمَ مِنْهُمْ نَحْوَ أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَأَمَرَ الْبَاقِينَ بِطَلَبِ الرِّزْقِ أَيْنَ أَرَادُوا، فَخَرَجُوا مِنْ بَغْدَاذَ، وَاجْتَمَعُوا بِطَرِيقِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَذَمَّ ابْنَ رَائِقٍ وَعَابَهُ، وَكَتَبَ إِلَى بَغْدَاذَ يَعْتَذِرُ عَنْ قَبُولِهِمْ، وَيَقُولُ: إِنَّنِي خِفْتُهُمْ، فَلِهَذَا قَبِلْتُهُمْ، وَجَعَلَهُمْ طَرِيقًا إِلَى قَطْعِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، وَذُكِرَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا مَعَ الْجَيْشِ الَّذِي عِنْدَهُ وَمَنَعُوهُ مِنْ حَمْلِ الْمَالِ (الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ) ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ ابْنُ رَائِقٍ يُلْزِمُهُ بِإِبْعَادِ الْحَجَرِيَّةِ، فَاعْتَذَرَ وَلَمْ يَفْعَلْ.
وَمِنْهَا ابْنُ رَائِقٍ بَلَغَهُ مَا ذَمَّهُ بِهِ ابْنُ الْبَرِيدِيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، وَبَلَغَهُ مَقَامُ إِقْبَالٍ فِي جَيْشِهِ بِحِصْنِ مَهْدِيٍّ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ، وَاتَّهَمَ الْكُوفِيَّ بِمُحَابَاةِ الْبَرِيدِيِّ، وَأَرَادَ عَزْلَهُ، فَمَنَعَهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ عِنْدَ ابْنِ رَائِقٍ، فَأَمَرَ الْكُوفِيَّ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْبَرِيدِيِّ يُعَاتِبُهُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَيَأْمُرُهُ بِإِعَادَةِ عَسْكَرِهِ

(7/61)


مِنْ حِصْنِ مَهْدِيٍّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَ بِأَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ يُخْفُونَ الْقَرَامِطَةَ، وَابْنُ يَزْدَادَ عَاجِزٌ عَنْ حِمَايَتِهِمْ، وَقَدْ تَمَسَّكُوا بِأَصْحَابِي لِخَوْفِهِمْ.
وَكَانَ أَبُو طَاهِرٍ الْهِجْرِيُّ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْكُوفَةِ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَخَرَجَ ابْنُ رَائِقٍ فِي عَسَاكِرِهِ إِلَى قَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْقُرْمُطِيِّ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ بَيْنَهُمْ أَمْرٌ، فَعَادَ الْقُرْمُطِيُّ إِلَى بَلَدِهِ، فَعَادَ حِينَئِذٍ ابْنُ رَائِقٍ وَسَارَ إِلَى وَاسِطَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْبَرِيدِيَّ، فَكَتَبَ إِلَى عَسْكَرِهِ بِحِصْنِ مَهْدِيٍّ يَأْمُرُهُمْ بِدُخُولِ الْبَصْرَةِ، وَقِتَالِ مَنْ مَنَعَهُمْ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِمْ جَمَاعَةً مِنَ الْحَجَرِيَّةِ مَعُونَةً لَهُمْ، فَأَنْفَذَ ابْنُ يَزْدَادَ جَمَاعَةً مِنْ عِنْدِهِ لِيَمْنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْبَصْرَةِ، فَاقْتَتَلُوا بِنَهْرِ الْأَمِيرِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ يَزْدَادُ، فَأَعَادَهُمْ، وَزَادَ فِي عِدَّتِهِمْ كُلُّ مُتَجَنِّدٍ فِي الْبَصْرَةِ، وَاقْتَتَلُوا ثَانِيًا فَانْهَزَمُوا أَيْضًا.
وَدَخَلَ إِقْبَالٌ وَأَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ الْبَصْرَةَ، وَانْهَزَمَ ابْنَ يَزْدَادَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ عَلَى ابْنِ رَائِقٍ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ يَتَهَدَّدُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِإِعَادَةِ أَصْحَابِهِ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَاعْتَذَرَ وَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يُرِيدُونَ الْبَرِيدِيَّ لِسُوءِ سِيرَةِ ابْنِ يَزْدَادَ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ بُجْكُمَ عَلَى الْأَهْوَازِ
لَمَّا وَصَلَ جَوَابُ الرِّسَالَةِ مِنَ الْبَرِيدِيِّ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ بِالْمُغَالَطَةِ عَنْ إِعَادَةِ جُنْدِهِ مِنَ الْبَصْرَةِ، اسْتَدْعَى بَدْرًا الْخَرْشَنِيَّ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَحْضَرَ بُجْكُمَ أَيْضًا وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَسَيَّرَهُمَا فِي جَيْشٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا بِالْجَامِدَةِ، فَبَادَرَ بُجْكُمُ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى بَدْرٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَسَارَ إِلَى السُّوسِ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ الْبَرِيدِيَّ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَمُقَدِّمُهُمْ غُلَامُهُ مُحَمَّدٌ الْمَعْرُوفُ بِالْحَمَّالِ، فَاقْتَتَلُوا بِظَاهِرِ السُّوسِ، وَكَانَ مَعَ بُجْكُمَ مِائَتَانِ وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ وَعَادُوا إِلَيْهِ، فَضَرَبَ الْبَرِيدِيُّ مُحَمَّدًا الْحَمَّالَ، وَقَالَ: انْهَزَمْتَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّكَ تُحَارِبُ يَاقُوتًا الْمُدَبِّرَ، قَدْ جَاءَكَ خِلَافُ مَا عَهِدْتَ، فَقَامَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ يَلْكُمُهُ بِيَدَيْهِ.

(7/62)


ثُمَّ رَجَعَ عَسْكَرُهُ، وَأَضَافَ إِلَيْهِمْ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ، فَبَلَغُوا سِتَّةَ آلَافِ رَجُلٍ، وَسَيَّرَهُمْ مَعَ الْحَمَّالِ أَيْضًا، فَالْتَقَوْا عِنْدَ نَهْرِ تُسْتَرَ، فَبَادَرَ بُجْكُمُ فَعَبَرَ النَّهْرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا رَآهُ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ، انْهَزَمُوا مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ، رَكِبَ هُوَ وَإِخْوَتُهُ وَمَنْ يَلْزَمُهُ فِي السُّفُنِ، فَأَخَذَ مَعَهُ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ، وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَغَرِقَتِ السَّفِينَةُ بِهِمْ، فَأَخْرَجَهُمُ الْغَوَّاصُونَ وَقَدْ كَادُوا يَغْرَقُونَ، وَأُخْرِجَ (بَعْضُ الْمَالِ، وَأُخْرِجَ) بَاقِي الْمَالِ لِبُجْكُمَ، وَوَصَلُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَأَقَامُوا بِالْأُبُلَّةِ، وَأَعَدُّوا الْمَرَاكِبَ لِلْهَرَبِ إِنِ انْهَزَمَ إِقْبَالٌ.
وَسَيَّرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ غُلَامَهُ إِقْبَالًا إِلَى مَطَارَا، وَسَيَّرَ مَعَهُ جَمْعًا مِنْ فِتْيَانِ الْبَصْرَةِ، فَالْتَقَوْا بِمَطَارَا مَعَ أَصْحَابِ ابْنِ رَائِقٍ، فَانْهَزَمَتِ الرَّائِقِيَّةُ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، فَأَطْلَقَهُمُ الْبَرِيدِيُّ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ يَسْتَعْطِفُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ لِيَكُونُوا مَعَهُ وَيُسَاعِدُوهُ، فَامْتَنَعَ وَحَلَفَ لَئِنْ ظَفِرَ بِهَا لَيَحْرِقَنَّهَا، وَيَقْتُلُ كُلَّ مَنْ فِيهَا، فَازْدَادُوا بَصِيرَةً فِي قِتَالِهِ.
وَاطْمَأَنَّ الْبَرِيدِيُّونَ بَعْدَ انْهِزَامِ عَسْكَرِ ابْنِ رَائِقٍ، وَأَقَامُوا حِينَئِذٍ بِالْبَصْرَةِ، وَاسْتَوْلَى بُجْكُمُ عَلَى الْأَهْوَازِ، فَلَمَّا بَلَغَ ابْنَ رَائِقٍ هَزِيمَةُ أَصْحَابِهِ، جَهَّزَ جَيْشًا آخَرَ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَرِّ وَالْمَاءِ، (فَالتَقَى عَسْكَرُهُ الَّذِي عَلَى الظَّهْرِ مَعَ عَسْكَرِ الْبَرِيدِيِّ، فَانْهَزَمَ الرَّائِقِيَّةُ، وَأَمَّا الْعَسْكَرُ الَّذِي فِي الْمَاءِ) ، فَإِنَّهُمُ اسْتَوْلَوْا عَلَى الْكِلَاءِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ، رَكِبَ فِي السُّفُنِ وَهَرَبَ إِلَى جَزِيرَةِ أُوَالَ، وَتَرَكَ أَخَاهُ أَبَا الْحُسَيْنِ بِالْبَصْرَةِ فِي عَسْكَرٍ يَحْمِيهَا، فَخَرَجَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مَعَ أَبِي الْحُسَيْنِ لِدَفْعِ عَسْكَرِ ابْنِ رَائِقٍ عَنِ الْكِلَاءِ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى أَجْلَوْهُمْ عَنْهُ.
فَلَمَّا اتَّصَلَ ذَلِكَ بِابْنِ رَائِقٍ، سَارَ بِنَفْسِهِ مِنْ وَاسِطَ إِلَى الْبَصْرَةِ عَلَى الظَّهْرِ، وَكَتَبَ إِلَى بُجْكُمَ لِيَلْحَقَ بِهِ، فَأَتَاهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْجُنْدِ، فَتَقَدَّمُوا وَقَاتَلُوا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، (فَاشْتَدَّ

(7/63)


الْقِتَالُ، وَحَامَى أَهْلُ الْبَصْرَةِ) ، وَشَتَمُوا ابْنَ رَائِقٍ، فَلَمَّا رَأَى بُجْكُمُ ذَلِكَ هَالَهُ، وَقَالَ لِابْنِ رَائِقٍ: مَا الَّذِي عَمِلْتَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ حَتَّى أَحْوَجْتَهُمْ إِلَى هَذَا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدْرِي. وَعَادَ ابْنُ رَائِقٍ وَبُجْكُمَ إِلَى مُعَسْكَرِهِمَا.
وَأَمَّا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ فَإِنَّهُ سَارَ مِنْ جَزِيرَةِ أُوَالَ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ ابْنِ بُوَيْهِ، وَاسْتَجَارَ بِهِ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْعِرَاقِ، وَهُوَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْخَلِيفَةِ وَابْنُ رَائِقٍ، فَنَفِذَ مَعَهُ أَخَاهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ رَائِقٍ بِإِقْبَالِهِمْ مِنْ فَارِسَ إِلَى الْأَهْوَازِ، سَيَّرَ بُجْكُمُ إِلَيْهَا، فَامْتَنَعَ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ الْحَرْبُ وَالْخَرَاجُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا.
ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ قَصَدُوا عَسْكَرَ ابْنِ رَائِقٍ لَيْلًا، فَصَاحُوا فِي جَوَانِبِهِ فَانْهَزَمُوا، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ رَائِقٍ ذَلِكَ، أَمَرَ بِإِحْرَاقِ سَوَادِهِ وَآلَاتِهِ ; لِئَلَّا يَغْنَمَهُ الْبَرِيدِيُّ، وَسَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ جَرِيدَةً، فَأَشَارَ جَمَاعَةٌ عَلَى بُجْكُمَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَقَامَ ابْنُ رَائِقٍ أَيَّامًا، وَعَادَ إِلَى وَاسِطَ، وَكَانَ بَاقِي عَسْكَرِهِ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَيْهَا.

ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ وَأُمَرَائِهِمْ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالَفَ أَهْلُ جُرْجَنْتَ، وَهِيَ مِنْ بِلَادِ صِقِلِّيَةَ عَلَى أَمِيرِهِمْ سَالِمِ بْنِ رَاشِدٍ، وَكَانَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهِمُ الْقَائِمُ الْعَلَوِيُّ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ سَيِّئَ السِّيرَةِ فِي النَّاسِ، فَأَخْرَجُوا عَامِلَهُ عَلَيْهِمْ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ سَالِمٌ جَيْشًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ وَإِفْرِيقِيَّةَ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، فَهَزَمَهُمْ أَهْلُ جُرْجَنْتَ، وَتَبِعَهُمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ سَالِمٌ وَلَقِيَهُمْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ وَعَظُمَ الْخَطْبُ، فَانْهَزَمَ أَهْلُ جُرْجَنْتَ فِي شَعْبَانَ.
فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ خِلَافَ أَهْلِ جُرْجَنْتَ، خَرَجُوا أَيْضًا عَلَى سَالِمٍ وَخَالَفُوهُ، وَعَظُمَ شَغَبُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَاتَلُوهُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَهَزَمَهُمْ وَحَصَرَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْقَائِمِ بِالْمَهْدِيَّةِ يُعَرِّفُهُ أَنَّ أَهْلَ صِقِلِّيَةَ قَدْ خَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ، وَخَالَفُوا

(7/64)


عَلَيْهِ، وَيَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ الْقَائِمُ بِجَيْشٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ خَلِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ، فَسَارُوا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى صِقِلِّيَةَ، فَرَأَى خَلِيلٌ مِنْ طَاعَةِ أَهْلِهَا مَا سَرَّهُ، وَشَكَوْا إِلَيْهِ مِنْ ظُلْمِ سَالِمٍ وَجَوْرِهِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَبْكُونَ وَيَشْكُونَ، فَرَقَّ النَّاسُ لَهُمْ، وَبَكَوْا لِبُكَائِهِمْ.
وَجَاءَ أَهْلُ الْبِلَادِ إِلَى خَلِيلٍ وَأَهْلِ جُرْجَنْتَ، فَلَمَّا وَصَلُوا، اجْتَمَعَ بِهِمْ سَالِمٌ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْقَائِمَ قَدْ أَرْسَلَ خَلِيلًا لِيَنْتَقِمَ مِنْهُمْ بِمَنْ قَتَلُوا مِنْ عَسْكَرِهِ، فَعَاوَدُوا الْخِلَافَ، فَشَرَعَ خَلِيلٌ فِي بِنَاءِ مَدِينَةٍ عَلَى مَرْسَى الْمَدِينَةِ وَحَصَّنَهَا، وَنَقَضَ كَثِيرًا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَأَخَذَ أَبْوَابَهَا، وَسَمَّاهَا الْخَالِصَةَ.
وَنَالَ النَّاسُ شِدَّةً فِي بِنَاءِ الْمَدِينَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ جُرْجَنْتَ، فَخَافُوا وَتَحَقَّقَ عِنْدَهُمْ مَا قَالَ لَهُمْ سَالِمٌ، وَحَصَّنُوا مَدِينَتَهُمْ وَاسْتَعَدُّوا لِلْحَرْبِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ خَلِيلٌ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَحَصَرَهُمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، وَبَقِيَ (مُحَاصِرًا لَهُمْ) ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ لَا يَخْلُو يَوْمٌ مِنْ قِتَالٍ، وَجَاءَ الشِّتَاءُ فَرَحَلَ عَنْهُمْ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَى الْخَالِصَةِ فَنَزَلَهَا.
وَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] ، خَالَفَ عَلَى خَلِيلٍ جَمِيعُ الْقِلَاعِ وَأَهْلُ مَازَرَ، كُلُّ ذَلِكَ بِسَعْيِ أَهْلِ جُرْجَنْتَ، وَبَثُّوا سَرَايَاهُمْ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ، وَكَاتَبُوا مَلِكَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَأَمَدَّهُمْ بِالْمَرَاكِبِ فِيهَا الرِّجَالُ وَالطَّعَامُ، فَكَتَبَ خَلِيلٌ إِلَى الْقَائِمِ يَسْتَنْجِدُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيرًا، فَخَرَجَ خَلِيلٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ صِقِلِّيَةَ فَحَصَرُوا قَلْعَةَ (أَبِي ثَوْرٍ، فَمَلَكُوهَا وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْبَلُّوطُ مَلَكُوهَا، وَحَصَرُوا قَلْعَةَ أَبَلَاطَنْوَا) ، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا حَتَّى انْقَضَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، رَحَلَ خَلِيلٌ عَنْ أَبَلَاطَنْوَا، وَحَصَرَ جُرْجَنْتَ وَأَطَالَ الْحِصَارَ، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا وَتَرَكَ عَلَيْهَا عَسْكَرًا يُحَاصِرُهَا، مُقَدِّمُهُمْ أَبُو خَلَفِ بْنُ هَارُونَ، فَدَامَ الْحِصَارُ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَسَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَطَلَبَ الْبَاقُونَ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْ يَنْزِلُوا مِنَ الْقَلْعَةِ، فَلَمَّا نَزَلُوا غَدَرَ بِهِمْ وَحَمَلَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ.

(7/65)


فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ سَائِرِ الْقِلَاعِ ذَلِكَ أَطَاعُوا، فَلَمَّا عَادَتِ الْبِلَادُ الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَى طَاعَتِهِ، رَحَلَ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَخَذَ مَعَهُ وُجُوهَ أَهْلِ جُرْجَنْتَ، وَجَعَلَهُمْ فِي مَرْكِبٍ، وَأَمَرَ بِنَقْبِهِ وَهُوَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرُ فَغَرِقُوا.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ الَّتِي لِلْمُسْلِمِينَ، فَنَهَبُوا وَقَتَلُوا وَسَبَوْا، وَمِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْمَشْهُورِينَ جِحَافُ بْنُ يُمْنٍ قَاضِي بَلَنْسِيَةَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْخَزَّازُ النَّحْوِيُّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ صَحِبَ ثَعْلَبًا وَالْمُبَرِّدَ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ.

(7/66)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ]
326 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى الْأَهْوَازِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ إِلَى الْأَهْوَازِ وَتِلْكَ الْبِلَادِ، فَمَلَكَهَا (وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا) .
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَسِيرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ كَمَا سَبَقَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ، أَطْمَعَهُ فِي الْعِرَاقِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، فَسَيَّرَ مَعَهُ أَخَاهُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَتَرَكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ وَلَدَيْهِ: أَبَا الْحَسَنِ مُحَمَّدًا، وَأَبَا جَعْفَرٍ الْفَيَّاضَ عِنْدَ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ رَهِينَةً وَسَارُوا، فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى بُجْكُمَ بِنُزُولِهِمْ أَرَّجَانَ، فَسَارَ لِحَرْبِهِمْ، فَانْهَزَمَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ.
وَكَانَ سَبَبُ الْهَزِيمَةِ أَنَّ الْمَطَرَ اتَّصَلَ أَيَامًا كَثِيرَةً، فَعُطِّلَتْ أَوْتَارُ قِسِيِّ الْأَتْرَاكِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى رَمْيِ النُّشَّابِ، فَعَادَ بُجْكُمُ وَأَقَامَ بِالْأَهْوَازِ، وَجَعَلَ بَعْضَ عَسْكَرِهِ بِعَسْكَرِ مُكْرَمٍ، فَقَاتَلُوا مُعِزَّ الدَّوْلَةِ بِهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ انْهَزَمُوا إِلَى تُسْتَرَ، فَاسْتَوْلَى مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، وَسَارَ بُجْكُمُ إِلَى تُسْتَرَ مِنَ الْأَهْوَازِ، وَأَخَذَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الْأَهْوَازِ، وَسَارَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ إِلَى وَاسِطَ، وَأَرْسَلَ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ يُعْلِمُهُ الْخَبَرَ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْعَسْكَرَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مَعَكَ مِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ فَتُقِيمَ بِوَاسِطَ حَتَّى نَصِلَ إِلَيْكَ، وَتُنْفِقَ فِيهِ الْمَالَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا، فَالرَّأْيُ أَنَّكَ تَعُودُ إِلَى بَغْدَاذَ لِئَلًا يَجْرِي مِنَ الْعَسْكَرِ شَغَبٌ.
فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ، عَادَ مِنْ وَاسِطَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَوَصَلَ بُجْكُمُ إِلَى وَاسِطَ فَأَقَامَ بِهَا، وَاعْتَقَلَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَهْوَازِيِّينَ، وَطَالَبَهُمْ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ السُّوسِيُّ.

(7/67)


قَالَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ: أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ مَا فِي نَفْسِ بُجْكُمَ، فَأَنْفَذْتُ إِلَيْهِ أَقُولُ: عِنْدِي نَصِيحَةٌ، فَأَحْضَرَنِي عِنْدَهُ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أَنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ بِمَمْلَكَةِ الدُّنْيَا، وَخِدْمَةِ الْخِلَافَةِ، وَتَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ، كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَعْتَقِلَ قَوْمًا مَنْكُوبِينَ قَدْ سُلِبُوا نِعْمَتَهُمْ، وَتُطَالِبُهُمْ بِمَالٍ وَهُمْ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ، وَتَأْمُرُ بِتَعْذِيبِهِمْ حِينَ جُعِلَ أَمْسُ طَشْتٌ فِيهِ نَارٌ عَلَى بَطْنَ بَعْضِهِمْ؟ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا إِذَا سُمِعَ عَنْكَ اسْتَوْحَشَ مِنْكَ النَّاسُ، وَعَادَاكَ مَنْ لَا يَعْرِفُكَ؟ وَقَدْ أَنْكَرْتَ عَلَى ابْنِ رَائِقٍ إِيحَاشَهُ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، أَتَرَاهُ أَسَاءَ إِلَى جَمِيعِهِمْ؟ لَا وَاللَّهِ، بَلْ أَسَاءَ إِلَى بَعْضِهِمْ، فَأَبْغَضُوهُ كُلُّهُمْ، وَعَوَامُّ بَغْدَاذَ لَا تَحْتَمِلُ أَمْثَالَ هَذَا، وَذَكَرْتُ لَهُ فِعْلَ مَرْدَاوَيْجَ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ، قَالَ: قَدْ صَدَقْتَنِي، وَنَصَحْتَنِي، ثُمَّ أَمَرَ بِإِطْلَاقِهِمْ.
وَلَمَّا اسْتَوْلَى ابْنُ بُوَيْهِ وَالْبَرِيدِيُّ عَلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، سَارَ أَهْلُ الْأَهْوَازِ إِلَى الْبَرِيدِيِّ يُهَنُّونَهُ، وَفِيهِمْ طَبِيبٌ حَاذِقٌ، وَكَانَ الْبَرِيدِيُّ يُحَمُّ بِحُمَّى الرِّبْعِ، فَقَالَ لِذَلِكَ الطَّبِيبِ: أَمَا تَرَى يَا أَبَا زَكَرِيَّاءَ حَالِي وَهَذِهِ الْحُمَّى؟ فَقَالَ لَهُ: خَلْطٌ، يَعْنِي فِي الْمَأْكُولِ، فَقَالَ لَهُ: أَكْثَرُ مِنْ هَذَا التَّخْلِيطِ، قَدْ رَهِجَتِ الدُّنْيَا.
ثُمَّ سَارُوا إِلَى الْأَهْوَازِ فَأَقَامُوا بِهَا خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ هَرَبَ الْبَرِيدِيُّ مِنِ ابْنِ بُوَيْهِ إِلَى الْبَاسِيَّانِ، فَكَاتَبَهُ بِعَتَبٍ كَثِيرٍ، وَيَذْكُرُ غَدْرَهُ فِي هَرَبِهِ.
وَكَانَ سَبَبُ هَرَبِهِ أَنَّ ابْنَ بُوَيْهِ طَلَبَ عَسْكَرَهُ الَّذِينَ بِالْبَصْرَةِ لِيَسِيرُوا إِلَى أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بِأَصْبَهَانَ، مَعُونَةً لَهُ عَلَى حَرْبِ وَشْمَكِيرَ، فَأَحْضَرَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا حَضَرُوا، قَالَ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ: إِنْ أَقَامُوا، وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّيْلَمِ فِتْنَةٌ، وَالرَّأْيُ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى السُّوسِ ثُمَّ يَسِيرُوا إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِأَنْ يُحْضِرَ عَسْكَرَهُ الَّذِينَ بِحِصْنِ مَهْدِيٍّ لِيُسَيِّرَهُمْ فِي الْمَاءِ إِلَى وَاسِطَ، فَخَافَ الْبَرِيدِيُّ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مِثْلُ مَا عَمِلَ هُوَ بِيَاقُوتٍ.
وَكَانَ الدَّيْلَمُ يُهِينُونَهُ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، فَهَرَبَ وَأَمَرَ جَيْشَهُ الَّذِي بِالسُّوسِ، فَسَارُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَاتَبَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ بِالْإِفْرَاجِ لَهُ عَنِ الْأَهْوَازِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ ضَمَانِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ ضَمِنَ الْأَهْوَازَ وَالْبَصْرَةَ مِنْ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، كُلَّ سَنَةٍ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ،

(7/68)


فَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ خَوْفًا مِنْ أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ ; لِئَلَّا يَقُولُ لَهُ: كَسَرْتَ الْمَالَ، فَانْتَقَلَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى بَنَابَاذَ، وَأَنْفَذَ خَلِيفَتَهُ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَأَنْفَذَ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ يَذْكُرُ حَالَهُ وَخَوْفَهُ مِنْهُ، وَيَطْلُبُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى السُّوسِ مِنْ عَسْكَرِ مُكْرَمٍ ; لِيَبْعُدَ عَنْهُ وَيَأْمَنَ بِالْأَهْوَازِ.
فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْبَرِيدِيَّ (يُرِيدُ أَنْ) يَفْعَلَ بِكَ كَمَا فَعَلَ بِيَاقُوتٍ، وَيُفَرِّقَ أَصْحَابَكَ عَنْكَ، ثُمَّ يَأْخُذَكَ فَيَتَقَرَّبَ بِكَ إِلَى بُجْكُمَ (وَابْنِ رَائِقٍ، وَيَسْتَعِيدَ أَخَاكَ لِأَجْلِكَ، فَامْتَنَعَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ ذَلِكَ.
وَعَلِمَ بُجْكُمُ بِالْحَالِ) ، فَأَنْفَذَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَاسْتَوْلَوْا عَلَى السُّوسِ وَجُنْدَيْسَابُورَ، وَبَقِيَتِ الْأَهْوَازُ بِيَدِ الْبَرِيدِيِّ، وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مِنْ كُورِ الْأَهْوَازِ إِلَّا عَسْكَرُ مُكْرَمٍ، فَاشْتَدَّ الْحَالُ عَلَيْهِ، وَفَارَقَهُ بَعْضُ جُنْدِهِ، وَأَرَادُوا الرُّجُوعَ إِلَى فَارِسَ، فَمَنَعَهُمْ أَصْفَهَدُوَسْتُ وَمُوسَى قَيَاذَةَ، هُمَا مِنْ أَكَابِرِ الْقُوَّادِ، وَضَمِنَا لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ لِيُقِيمُوا شَهْرًا، فَأَقَامُوا وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ يُعَرِّفُهُ حَالَهُ، فَأَنْفَذَ لَهُ جَيْشًا، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَعَادَ فَاسْتَوْلَى عَلَى الْأَهْوَازِ، وَهَرَبَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى الْبَصْرَةِ (وَاسْتَقَرَّ فِيهَا) فَاسْتَقَرَّ ابْنُ بُوَيْهِ بِالْأَهْوَازِ.
وَأَقَامَ بُجْكُمُ بِوَاسِطَ طَامِعًا فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى بَغْدَاذَ وَمَكَانِ ابْنِ رَائِقٍ، وَلَا يُظْهِرُ لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْفَذَ ابْنُ رَائِقٍ عَلِيَّ بْنَ خَلَفِ بْنِ طَيَّابٍ إِلَى بُجْكُمَ لِيَسِيرَ مَعَهُ إِلَى الْأَهْوَازِ وَيُخْرِجَ مِنْهَا ابْنَ بُوَيْهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَتْ وَلَايَتُهَا لِبُجْكُمَ وَالْخَرَاجُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ، فَلَمَّا وَصَلَ عَلِيٌّ إِلَى بُجْكُمَ بِوَاسِطَ اسْتَوْزَرَهُ بُجْكُمُ، وَأَقَامَ مَعَهُ وَأَخَذَ بُجْكُمُ جَمِيعَ مَالِ وَاسِطَ.
وَلَمَّا رَأَى أَبُو الْفَتْحِ الْوَزِيرَ بِبَغْدَاذَ إِدْبَارَ الْأُمُورِ، أَطْمَعَ ابْنَ رَائِقٍ فِي مِصْرَ وَالشَّامِ،

(7/69)


وَصَاهَرَهُ، وَعَقَدَ بَيْنَهُ ابْنُ طُغْجَ عَهْدًا وَصِهْرًا، وَقَالَ لِابْنِ رَائِقٍ: أَنَا أَجْبِي إِلَيْكَ مَالَ مِصْرَ وَالشَّامِ إِنْ سَيَّرْتَنِي إِلَيْهِمَا، فَأَمَرَهُ بِالتَّجَهُّزِ لِلْحَرَكَةِ، فَفَعَلَ وَسَارَ أَبُو الْفَتْحِ إِلَى الشَّامِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ بُجْكُمَ وَالْبَرِيدِيِّ، وَالصُّلْحِ بَعْدَ ذَلِكَ
لَمَّا أَقَامَ بُجْكُمُ بِوَاسِطَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ، خَافَهُ ابْنُ رَائِقٍ ; لِأَنَّهُ ظَنَّ مَا فَعَلَهُ بُجْكُمُ مِنَ التَّغَلُّبِ عَلَى الْعِرَاقِ، فَرَاسَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ وَطَلَبَ مِنْهُ الصُّلْحَ عَلَى بُجْكُمَ، فَإِذَا انْهَزَمَ تَسَلَّمَ الْبَرِيدِيُّ وَاسِطًا، وَضَمِنَهَا بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ فِي السَّنَةِ عَلَى أَنْ يُنْفِذَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَسْكَرًا.
فَسَمِعَ بُجْكُمُ بِذَلِكَ، فَخَافَ وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي الَّذِي يَفْعَلُهُ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَبْتَدِئَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَأَنْ لَا يَهْجُمَ إِلَى حَضْرَةِ الْخِلَافَةِ، وَلَا يُكَاشِفَ ابْنَ رَائِقٍ إِلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْبَرِيدِيِّ، (فَجَمَعَ عَسْكَرَهُ، وَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ يُرِيدُ الْبَرِيدِيَّ) ، فَسَيَّرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَيْشًا بَلَغَتْ عِدَّتُهُمْ عَشَرَةَ آلَافِ رَجُلٍ، عَلَيْهِمْ غُلَامُهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدٌ الْحَمَّالُ، فَالْتَقَوْا وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْبَرِيدِيِّ، وَلَمْ يَتْبَعْهُمْ بُجْكُمُ بَلْ كَفَّ عَنْهُمْ.
وَكَانَ الْبَرِيدِيُّونَ بِمَطَارَا يَنْتَظِرُونَ مَا يَنْكَشِفُ مِنَ الْحَالِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ عَسْكَرُهُمْ خَافُوا، وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا رَأَى عَسْكَرَهُ سَالِمًا لَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ (وَلَا غَرِقَ) طَابَ قَلْبُهُ.
وَكَانَتْ نِيَّةُ بُجْكُمَ إِذْلَالَ الْبَرِيدِيِّ وَقَطْعَهُ عَنِ ابْنِ رَائِقٍ، وَنَفْسُهُ مُعَلَّقَةٌ بِالْحَضْرَةِ، فَأَرْسَلَ ثَانِيَ يَوْمِ الْهَزِيمَةِ إِلَى الْبَرِيدِيِّ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ مِمَّا جَرَى، وَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ بَدَأْتَ وَتَعَرَّضْتَ بِي، وَقَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ وَعَنْ أَصْحَابِكَ، وَلَوْ تَبِعْتُهُمْ لَغَرِقَ وَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَأَنَا أُصَالِحُكَ عَلَى أَنْ أُقَلِّدَكَ وَاسِطًا إِذَا مَلَكْتُ الْحَضْرَةَ، وَأُصَاهِرَكَ، فَسَجَدَ الْبَرِيدِيُّ شُكْرًا

(7/70)


لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَلَفَ بُجْكُمُ وَتَصَالَحَا، وَعَادَ إِلَى وَاسِطَ، وَأَخَذَ فِي التَّدْبِيرِ عَلَى ابْنِ رَائِقٍ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَضْرَةِ بِبَغْدَاذَ.

ذِكْرُ قَطَعِ يَدِ ابْنِ مُقْلَةَ وَلِسَانِهِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ قُطِعَتْ يَدُ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ.
وَكَانَ سَبَبُ قَطْعِهَا أَنَّ الْوَزِيرَ أَبَا الْفَتْحِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ لَمَّا عَجَزَ عَنِ الْوِزَارَةِ وَسَارَ إِلَى الشَّامِ، اسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ الرَّاضِي بِاللَّهِ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، إِنَّمَا الْأَمْرُ جَمِيعُهُ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ، وَكَانَ ابْنُ رَائِقٍ قَبَضَ أَمْوَالَ ابْنِ مُقْلَةَ وَأَمْلَاكَهُ، وَأَمْلَاكَ ابْنِهِ، فَخَاطَبَهُ فَلَمْ يَرُدَّهَا، فَاسْتَمَالَ أَصْحَابَهُ، وَسَأَلَهُمْ مُخَاطَبَتَهُ فِي رَدِّهَا، فَوَعَدُوهُ، فَلَمْ يَقْضُوا حَاجَتَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، سَعَى بِابْنِ رَائِقٍ، فَكَاتَبَ بُجْكُمَ يُطَمِّعُهُ فِي مَوْضِعِ ابْنِ رَائِقٍ، وَكَتَبَ إِلَى وَشْمَكِيرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ بِالرَّيِّ، وَكَتَبَ إِلَى الرَّاضِي يُشِيرُ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ عَلَى ابْنِ رَائِقٍ وَأَصْحَابِهِ، وَيَضْمَنُ أَنَّهُ يَسْتَخْرِجُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِاسْتِدْعَاءِ بُجْكُمَ وَإِقَامَتِهِ مَقَامَ ابْنِ رَائِقٍ، فَأَطْمَعَهُ الرَّاضِي وَهُوَ كَارِهٌ لِمَا قَالَهُ، فَعَجَّلَ ابْنُ مُقْلَةَ، وَكَتَبَ إِلَى بُجْكُمَ يُعَرِّفُهُ إِجَابَةَ الرَّاضِي، وَيَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْمَجِيءِ إِلَى بَغْدَاذَ.
وَطَلَبَ ابْنُ مُقْلَةَ مِنَ الرَّاضِي أَنْ يَنْتَقِلَ وَيُقِيمَ عِنْدَهُ بِدَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى أَنْ يُتِمَّ عَلَى ابْنِ رَائِقٍ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَحَضَرَ مُتَنَكِّرًا آخِرَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَ: إِنَّ الْقَمَرَ تَحْتَ الشُّعَاعِ، وَهُوَ يَصْلُحُ لِلْأَسْرَارِ، فَكَانَ عُقُوبَتُهُ حِينَ نَظَرَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ أَنْ ذَاعَ سِرُّهُ وَشَهُرَ أَمْرُهُ، فَلَمَّا حَصَلَ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ لَمْ يُوصِلْهُ الرَّاضِي إِلَيْهِ، وَاعْتَقَلَهُ فِي حُجْرَةٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، أَنْفَذَ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ يُعَرِّفُهُ الْحَالَ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ خَطَّ ابْنِ مُقْلَةَ، فَشَكَرَ الرَّاضِي، وَمَا زَالَتِ الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا فِي مَعْنَى ابْنِ مُقْلَةَ إِلَى مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ، فَأُخْرِجَ ابْنُ مُقْلَةَ مِنْ مَحْبَسِهِ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ عُولِجَ فَبَرَأَ، فَعَادَ يُكَاتِبُ الرَّاضِيَ، وَيَخْطُبُ الْوِزَارَةَ، وَيَذْكُرُ [أَنَّ] قَطْعَ يَدِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ عَمَلِهِ، وَكَانَ يَشُدُّ الْقَلَمَ عَلَى يَدِهِ الْمَقْطُوعَةِ وَيَكْتُبُ.
فَلَمَّا قَرُبَ بُجْكُمُ مِنْ بَغْدَاذَ، سَمِعَ الْخَدَمَ يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنْ وَصَلَ بُجْكُمُ

(7/71)


فَهُوَ يَسْتَخْلِصُنِي، وَأُكَافِئُ ابْنَ رَائِقٍ، وَصَارَ يَدْعُو عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ وَقَطَعَ يَدَهُ، فَوَصَلَ خَبَرُهُ إِلَى الرَّاضِي وَإِلَى ابْنِ رَائِقٍ، فَأَمَرَا بِقَطْعِ لِسَانِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَحْبِسٍ ضَيِّقٍ، ثُمَّ لَحِقَهُ ذَرَبٌ فِي الْحَبْسِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يَخْدِمُهُ، فَآلَ الْحَالُ إِلَى أَنْ كَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَيُمْسِكُ الْحَبْلَ بِفِيهِ، وَلَحِقَهُ شَقَاءٌ شَدِيدٌ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَدُفِنَ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَهُ سَأَلُوا فِيهِ، فَنُبِشَ وَسُلِّمَ إِلَيْهِمْ، فَدَفَنُوهُ فِي دَارِهِ، ثُمَّ نُبِشَ فَنُقِلَ إِلَى دَارٍ أُخْرَى.
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُ وَلِيَ الْوِزَارَةَ ثَلَاثَ دَفَعَاتٍ، وَوَزَرَ لِثَلَاثَةِ خُلَفَاءَ، وَسَافَرَ ثَلَاثَ سَفَرَاتٍ: اثْنَتَيْنِ مَنْفِيًّا إِلَى شِيرَازَ، وَوَاحِدَةً فِي وِزَارَتِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَدُفِنَ بَعْدَ مَوْتِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَخُصَّ بِهِ مَنْ خَدَمَهُ ثَلَاثَةٌ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ بُجْكُمَ عَلَى بَغْدَاذَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ بُجْكُمُ بَغْدَاذَ، وَلَقِيَ الرَّاضِيَ، وَقُلِّدَ إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ مَكَانَ ابْنِ رَائِقٍ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ ابْتِدَاءً أَمْرَ بُجْكُمَ، وَكَيْفَ بَلَغَ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَإِنَّ بَعْضَ أَمْرِهِ قَدْ تَقَدَّمَ، وَإِذَا افْتَرَقَ لَمْ يَحْصُلِ الْغَرَضُ مِنْهُ.
كَانَ بُجْكُمُ هَذَا مِنْ غِلْمَانِ أَبِي عَلِيٍّ الْعَارِضِ، وَكَانَ وَزِيرًا لِمَاكَانَ بْنِ كَالِي الدَّيْلَمَيِّ، فَطَلَبَهُ مِنْهُ مَاكَانُ، فَوَهَبَهُ لَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ فَارَقَ مَاكَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ

(7/72)


وَالْتَحَقَ بِمَرْدَاوَيْجَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلَهُ، وَسَارَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَاتَّصَلَ بِابْنِ رَائِقٍ، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَطَرَدَ الْبَرِيدِيَّ عَنْهَا.
(ثُمَّ خَرَجَ الْبَرِيدِيُّ مَعَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ مِنْ فَارِسَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَأَخَذُوهَا مِنْ بُجْكُمَ، وَانْتَقَلَ بُجْكُمُ مِنَ الْأَهْوَازِ إِلَى وَاسِطَ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِوَاسِطَ تَعَلَّقَتْ هِمَّتُهُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى حَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُظْهِرُ التَّبَعِيَّةَ لِابنِ رَائِقٍ، وَكَانَ عَلَى أَعْلَامِهِ وَتِرَاسِهِ بُجْكُمُ الرَّائِقِيُّ، فَلَمَّا وَصَلَتْهُ كُتُبُ ابْنِ مُقْلَةَ يُعَرِّفُهُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ مَعَ الرَّاضِي أَنْ يُقَلِّدَهُ إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ، طَمِعَ فِي ذَلِكَ، وَكَاشَفَ ابْنَ رَائِقٍ وَمَحَا نِسْبَتَهُ إِلَيْهِ مِنْ أَعْلَامِهِ، وَسَارَ مِنْ وَاسِطَ نَحْوَ بَغْدَاذَ غُرَّةَ ذِي الْقِعْدَةِ.
وَاسْتَعَدَّ ابْنُ رَائِقٍ لَهُ، وَسَأَلَ الرَّاضِيَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى بُجْكُمَ يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى وَاسِطَ، فَكَتَبَ الرَّاضِي إِلَيْهِ، وَسَيَّرَ الْكُتَّابَ، فَلَمَّا قَرَأَهُ، أَلْقَاهُ عَنْ يَدِهِ وَرَمَى بِهِ، وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ شَرْقِيَّ نَهَرَ دِيَالِي، وَكَانَ أَصْحَابُ ابْنِ رَائِقٍ عَلَى غَرْبَيْهِ، فَأَلْقَى أَصْحَابُ بُجْكُمَ نُفُوسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ رَائِقٍ، وَعَبَرَ أَصْحَابُ بُجْكُمَ وَسَارُوا إِلَى بَغْدَاذَ، وَخَرَجَ ابْنُ رَائِقٍ عَنْهَا إِلَى عُكْبَرَا، وَدَخَلَ بُجْكُمُ بَغْدَاذَ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَلَقِيَ الرَّاضِيَ مِنَ الْغَدِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَكَتَبَ كُتُبًا عَنِ الرَّاضِي إِلَى الْقُوَّادِ الَّذِينَ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ يَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى بَغْدَاذَ، فَفَارَقُوهُ جَمِيهُمْ وَعَادُوا.
فَلَمَّا رَأَى ابْنُ رَائِقٍ ذَلِكَ، عَادَ إِلَى بَغْدَاذَ وَاسْتَتَرَ، وَنَزَلَ بُجْكُمُ بِدَارَ مُؤْنِسٍ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ بِبَغْدَاذَ، فَكَانَتْ مُدَّةُ إِمَارَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ رَائِقٍ سَنَةً وَاحِدَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَمِنْ مَكْرِ بُجْكُمَ أَنَّهُ كَانَ يُرَاسِلُ ابْنَ رَائِقٍ عَلَى لِسَانِ أَبِي زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ السُّوسِيِّ، قَالَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ: أَشَرْتُ عَلَى بُجْكُمَ أَنَّهُ لَا يُكَاشِفَ ابْنَ رَائِقٍ، فَقَالَ: لِمَ أَشَرْتَ بِهَذَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ عَلَيْكَ رِئَاسَةٌ وَإِمْرَةٌ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْكَ وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَالْخَلِيفَةُ مَعَهُ، وَالْمَالُ عِنْدَهُ كَثِيرٌ، فَقَالَ: أَمَّا كَثْرَةُ رِجَالِهِ، فَهُوَ جَوْزٌ فَارِغٌ، وَقَدْ بَلَوْتُهُمْ، فَمَا أُبَالِي بِهِمْ قَلُّوا أَمْ كَثُرُوا، وَأَمَّا كَوْنُ الْخَلِيفَةِ مَعَهُ، فَهَذَا لَا يَضُرُّنِي عِنْدَ أَصْحَابِي، وَأَمَّا قِلَّةُ الْمَالِ مَعِي، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، قَدْ وَفَّيْتُ أَصْحَابِي مُسْتَحَقَّهُمْ، وَمَعِي مَا يُسْتَظْهَرُ بِهِ،

(7/73)


فَكَمْ تَظُنُّ مَبْلَغَهُ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَقُلْتُ: مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، مَعِي خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ لَا أَحْتَاجُ إِلَيْهَا.
فَلَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى بَغْدَاذَ، قَالَ لِي يَوْمًا: أَتَذْكُرُ إِذْ قُلْتُ لَكَ: مَعِي خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ؟ وَاللَّهِ لَمْ يَكُنْ مَعِي غَيْرُ خَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقُلْتُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ ثِقَتِكِ بِي؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّكَ كُنْتَ رَسُولِي إِلَى ابْنِ رَائِقٍ، فَإِذَا عَلِمْتَ قِلَّةَ الْمَالِ مَعِي، ضَعُفَتْ نَفْسُكَ، فَطَمِعَ الْعَدُوُّ فِينَا، فَأَرَدْتُ أَنْ تَمْضِيَ إِلَيْهِ بِقَلْبٍ قَوِيٍّ، فَتُكَلِّمَهُ بِمَا تَخْلَعُ [بِهِ] قَلْبَهُ وَتُضْعِفُ نَفْسَهُ. قَالَ: فَعَجِبْتُ مِنْ مَكْرِهِ وَعَقْلِهِ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ لَشْكُرِيُّ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ وَقَتْلِهِ
وَفِيهَا تَغَلَّبَ لَشْكُرِيُّ بْنُ مُرْدَى عَلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَلَشْكُرِيُّ هَذَا أَعْظَمُ مِنَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِنَّ هَذَا كَانَ خَلِيفَةُ وَشْمَكِيرَ عَلَى أَعْمَالِ الْجَبَلِ، فَجَمَعَ مَالًا وَرِجَالًا وَسَارَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ دَيْسَمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكُرْدِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، فَجَمَعَ عَسْكَرًا وَتَحَارَبَ هُوَ وَلَشْكُرِيُّ، (فَانْهَزَمَ دَيْسَمُ، ثُمَّ عَادَ وَجَمَعَ) ، وَتَصَافَّا (مَرَّةً ثَانِيَةً) ، فَانْهَزَمَ أَيْضًا وَاسْتَوْلَى لَشْكُرِيُّ عَلَى بِلَادِهِ إِلَّا أَرْدَبِيلَ، فَإِنَّ أَهْلَهَا امْتَنَعُوا بِهَا لِحَصَانَتِهَا، وَلَهُمْ بَأْسٌ وَنَجْدَةٌ، وَهِيَ دَارُ الْمَمْلَكَةِ بِأَذْرَبِيجَانَ، فَرَاسَلَهُمْ لَشْكُرِيُّ، وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ مِنْ سُوءِ سِيرَةِ الدَّيْلَمِ مَعَ بِلَادِ الْجَبَلِ هَمَذَانَ وَغَيْرِهَا، فَحَصَرَهُمْ وَطَالَ الْحِصَارُ، ثُمَّ صَعِدَ أَصْحَابُهُ السُّورَ وَنَقَبُوهُ أَيْضًا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ.
وَكَانَ لَشْكُرِيُّ يُدْخِلُهُ نَهَارًا، وَيُخْرِجُ مِنْهُ لَيْلًا إِلَى عَسْكَرِهِ، فَبَادَرَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَأَصْلَحُوا ثَلْمَ السُّورِ، وَأَظْهَرُوا الْعِصْيَانَ، وَعَاوَدُوا الْحَرْبَ، فَنَدَمَ عَلَى التَّفْرِيطِ وَإِضَاعَةِ الْحَزْمِ، فَأَرْسَلَ أَهْلُ أَرْدَبِيلَ إِلَى دَيْسَمَ يَعَرِّفُونَهُ الْحَالَ وَيُوَاعِدُونَهُ يَوْمًا يَجِيءُ فِيهِ لِيَخْرُجُوا فِيهِ إِلَى

(7/74)


قِتَالِ لَشْكُرِيِّ، وَيَأْتِي هُوَ مِنْ وَرَائِهِ، فَفَعَلَ وَسَارَ نَحْوَهُمْ، وَظَهَرُوا يَوْمَ الْمَوْعِدِ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ، وَقَاتَلُوا لَشْكُرِيَّ، وَأَتَاهُ دَيْسَمُ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، فَانْهَزَمَ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْحَازَ إِلَى مُوقَانَ، فَأَكْرَمَهُ أَصْبَهْبَذُهَا وَيُعْرَفُ بِابْنِ دَوْلَةٍ، (وَأَحْسَنَ ضِيَافَتَهُ.
وَجَمَعَ لَشْكُرِيُّ وَسَارَ نَحْوَ دَيْسَمَ، وَسَاعَدَهُ ابْنُ دَوْلَةٍ) ، فَهَرَبَ دَيْسَمُ (وَعَبَرَ نَهْرَ أُرْسَ، وَعَبَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ لَشْكُرِيِّ إِلَيْهِ، فَانْهَزَمَ دَيْسَمُ) ، وَقَصَدَ وَشْمَكِيرَ، وَهُوَ بِالرَّيِّ، وَخَوَّفَهُ مَنْ لَشْكُرِيِّ، وَبَذَلَ لَهُ مَالًا كُلَّ سَنَةٍ لِيُسَيِّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا، وَكَاتَبَ عَسْكَرُ لَشْكُرِيِّ وَشْمَكِيرَ يُعْلِمُونَهُ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَأَنَّهُمْ مَتَى رَأَوْا عَسْكَرَهُ صَارُوا مَعَهُ عَلَى لَشْكُرِيِّ، فَظَفِرَ لَشْكُرِيُّ بِالْكُتُبِ، فَكَتَمَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ عَسْكَرُ وَشْمَكِيرَ، جَمَعَ أَصْحَابَهُ وَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَقْوَى بِهِمْ، وَأَنَّهُ يَسِيرُ بِهِمْ نَحْوَ الزَّوْزَانَ، وَيَنْهَبُ مَنْ عَلَى طَرِيقِهِ مِنَ الْأَرْمَنِ، وَيَسِيرُ نَحْوَ الْمَوْصِلِ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، فَنَهَبَ وَغَنِمَ وَسَبَى، وَانْتَهَى إِلَى الزَّوْزَانَ وَمَعَهُمُ الْغَنَائِمُ، فَنَزَلَ بِوَلَايَةِ إِنْسَانٍ أَرْمَنِيٍّ، وَبَذَلَ لَهُ مَالًا لِيَكُفَّ عَنْهُ وَعَنْ بِلَادِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ الْأَرْمَنِيَّ كَمَنَ كَمِينًا فِي مَضِيقٍ هُنَاكَ، وَأَمَرَ بَعْضَ الْأَرْمَنَ أَنْ يَنْهَبَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ لَشْكُرِيَّ وَيَسْلُكُ ذَلِكَ الْمَضِيقَ، فَفَعَلُوا، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى لَشْكُرِيَّ، فَرَكِبَ فِي خَمْسَةِ أَنْفُسٍ، فَسَارَ وَرَاءَهُمْ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْكَمِينُ فَقَتَلُوهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَلَحِقَهُ عَسْكَرُهُ، فَرَأَوْهُ قَتِيلًا وَمَنْ مَعَهُ، فَعَادُوا وَوَلَّوْا عَلَيْهِمُ ابْنَهُ لَشْكُرِسْتَانَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَسِيرُوا عَلَى عَقَبَةِ التِّنِّينِ، وَهِيَ تُجَاوِزُ الْجُودِيَّ، وَيُحْرِزُوا سَوَادَهُمْ، وَيَرْجِعُوا إِلَى بَلَدِ طَرْمَ الْأَرْمَنِيِّ فَيُدْرِكُوا آثَارَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ طَرْمَ، فَرَتَّبَ الرِّجَالَ عَلَى تِلْكَ الْمَضَايِقِ يَرْمُونَهُمْ بِالْحِجَارَةِ، وَيَمْنَعُونَهُمُ الْعُبُورَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَلِمَ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، وَفِيمَنْ سَلِمَ لَشْكُرِسْتَانُ، وَسَارَ فِيمَنْ مَعَهُ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ بِالْمَوْصِلِ، فَأَقَامَ بَعْضُهُمْ عِنْدَهُ وَانْحَدَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَغْدَاذَ.

(7/75)


فَأَمَّا الَّذِينَ أَقَامُوا بِالْمَوْصِلِ، فَسَيَّرَهُمْ مَعَ ابْنِ عَمِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ لَمَّا أَقْبَلَ نَحْوَهُ دَيْسَمُ (لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ) ، وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قِبَلِ ابْنِ عَمِّهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ عَلَى مُعَاوِنِ أَذْرَبِيجَانَ، فَقَصَدَهُ دَيْسَمُ وَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِابْنِ حَمْدَانَ بِهِ طَاقَةٌ، فَفَارَقَ أَذْرَبِيجَانَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا دَيْسَمُ.

ذِكْرُ اخْتِلَالِ أُمُورِ الْقَرَامِطَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَسَدَ حَالُ الْقَرَامِطَةِ، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ ابْنُ سَنْبَرٍ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ أَبِي سَعِيدٍ الْقُرْمُطِيِّ وَالْمَطَّلِعِينَ عَلَى سِرِّهِ، وَكَانَ لَهُ عَدُوٌّ مِنَ الْقَرَامِطَةِ اسْمُهُ أَبُو حَفْصٍ الشَّرِيكُ، فَعَمَدَ ابْنُ سَنْبَرٍ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا مَلَّكْتُكَ أَمْرَ الْقَرَامِطَةِ، أُرِيدُ مِنْكَ أَنْ تَقْتُلَ عَدُوِّي أَبَا حَفْصٍ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَعَاهَدَهُ عَلَيْهِ، فَأَطْلَعَهُ عَلَى أَسْرَارِ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَلَامَاتٍ كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهَا فِي صَاحِبِهِمُ الَّذِي يَدْعُونَ إِلَيْهِ، فَحَضَرَ عِنْدَ أَوْلَادِ أَبِي سَعِيدٍ، وَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو طَاهِرٍ: هَذَا الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، فَأَطَاعُوهُ، وَدَانُوا لَهُ، حَتَّى كَانَ يَأْمُرُ الرَّجُلَ بِقَتْلِ أَخِيهِ فَيَقْتُلُهُ، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ رَجُلًا يَقُولُ لَهُ إِنَّهُ مَرِيضٌ، يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ شَكَّ فِي دِينِهِ، وَيَأْمُرُ بِقَتْلِهِ.
وَبَلَغَ أَبَا طَاهِرٍ أَنَّ الْأَصْبَهَانَيَّ يُرِيدُ قَتْلَهُ لِيَتَفَرَّدَ بِالْمُلْكِ، فَقَالَ لِإِخْوَتِهِ: لَقَدْ أَخْطَأْنَا فِي هَذَا الرَّجُلِ، وَسَأَكْشِفُ حَالَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لَنَا مَرِيضًا، فَانْظُرْ إِلَيْهِ لِيَبْرَأَ، فَحَضَرُوا وَأَضْجَعُوا وَالِدَتَهُ وَغَطَّوْهَا بِإِزَارٍ، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: إِنَّ هَذَا الْمَرِيضَ لَا يَبْرَأُ فَاقْتُلُوهُ، فَقَالُوا لَهُ: كَذَبْتَ، هَذِهِ وَالِدَتُهُ، ثُمَّ قَتَلُوهُ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ. وَكَانَ هَذَا سَبَبُ تَمَسُّكِهِمْ بِهَجَرَ، وَتَرْكِ قَصْدِ الْبِلَادِ، وَالْإِفْسَادِ فِيهَا.

(7/76)


ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَكَانَ الْقَيِّمُ بِهِ ابْنُ وَرْقَاءَ الشَّيْبَانِيُّ، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ فَوِدِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِتَّةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ مِنْ بَيْنِ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَكَانَ الْفِدَاءُ عَلَى نَهَرِ الْبَدْنَدُونِ.
وَفِيهَا وُلِدَ الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّادٍ.

(7/77)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ]
327 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ذِكْرُ مَسِيرِ الرَّاضِي وَبُجْكُمَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَظُهُورِ ابْنِ رَائِقٍ وَمَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ سَارَ الرَّاضِي بِاللَّهِ وَبُجْكُمُ إِلَى الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ رَبِيعَةَ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ بْنَ حَمْدَانَ أَخَّرَ الْمَالَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ ضَمَانِ الْبِلَادِ الَّتِي بِيَدِهِ، فَاغْتَاظَ الرَّاضِي مِنْهُ لِسَبَبِ ذَلِكَ، فَسَارَ هُوَ وَبُجْكُمُ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَمَعَهُمَا قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحُسَيْنِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا بَلَغُوا تَكْرِيتَ أَقَامَ الرَّاضِي بِهَا، وَسَارَ بُجْكُمُ، فَلَقِيَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِالْكَحِيلِ عَلَى سِتَّةِ فَرَاسِخَ مِنَ الْمَوْصِلِ، فَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، وَسَارُوا إِلَى نَصِيبِينَ، وَتَبِعَهُمْ بُجْكُمُ وَلَمْ يَنْزِلْ بِالْمَوْصِلِ.
فَلَمَّا بَلَغَ نَصِيبِينَ سَارَ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى آمِدَ، وَكَتَبَ بُجْكُمُ إِلَى الرَّاضِي بِالْفَتْحِ، فَسَارَ مِنْ تَكْرِيتَ فِي الْمَاءِ يُرِيدُ الْمَوْصِلَ، وَكَانَ مَعَ الرَّاضِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ إِلَى بَغْدَاذَ قَبْلَ وُصُولِ كِتَابِ بُجْكُمَ، وَكَانَ ابْنُ رَائِقٍ يُكَاتِبُهُمْ، فَلَمَّا بَلَغُوا بَغْدَاذَ ظَهَرَ ابْنُ رَائِقٍ مِنِ اسْتِتَارِهِ وَاسْتَوْلَى عَلَى بَغْدَاذَ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِدَارِ الْخَلِيفَةِ.
وَبَلَغَ الْخَبَرَ إِلَى الرَّاضِي، فَأُصْعِدَ مِنَ الْمَاءِ إِلَى الْبَرِّ، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَكَتَبَ إِلَى بُجْكُمَ بِذَلِكَ، فَعَادَ عَنْ نَصِيبِينَ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرَ عَوْدِهِ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ سَارَ مِنْ آمِدَ إِلَى نَصِيبِينَ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَعَلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ، فَقَلِقَ بُجْكُمُ لِذَلِكَ، وَتَسَلَّلَ أَصْحَابُهُ إِلَى بَغْدَاذَ، فَاحْتَاجَ أَنْ يَحْفَظَ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: قَدْ حَصَلَ الْخَلِيفَةُ وَأَمِيرُ الْأُمَرَاءِ عَلَى

(7/78)


قَصَبَةِ الْمَوْصِلِ حَسْبُ.
وَأَنْفَذَ ابْنُ حَمْدَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ خَبَرُ ابْنِ رَائِقٍ، يَطْلُبُ الصُّلْحَ وَيُعَجِّلُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَفَرِحَ بُجْكُمُ بِذَلِكَ، وَأَنْهَاهُ إِلَى الرَّاضِي، فَأَجَابَ إِلَيْهِ، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ، وَانْحَدَرَ الرَّاضِي وَبُجْكُمُ إِلَى بَغْدَاذَ. وَكَانَ قَدْ رَاسَلَهُمُ ابْنُ رَائِقٍ مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ شَيْرَزَادَ يَلْتَمِسُ الصُّلْحَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَدَّى الرِّسَالَةَ (إِلَى بُجْكُمَ، فَأَكْرَمَهُ بُجْكُمُ وَأَنْزَلَهُ مَعَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَقَدَّمَهُ إِلَى الرَّاضِي فَأَبْلَغَهُ الرِّسَالَةَ أَيْضًا) ، فَأَجَابَهُ الرَّاضِي وَبُجْكُمُ إِلَى مَا طَلَبَ، وَأَرْسَلَ فِي جَوَابِ رِسَالَتِهِ قَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا الْحُسَيْنِ عُمَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَلَّدَهُ طَرِيقَ الْفُرَاتِ وَدِيَارَ مُضَرَ: (حَرَّانَ، وَالرُّهَا، وَمَا جَاوَرَهَا) ، وَجُنْدَ قِنَّسْرِينَ، وَالْعَوَاصِمَ، فَأَجَابَ ابْنُ رَائِقٍ أَيْضًا إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى وَلَايَتِهِ، وَدَخَلَ الرَّاضِي وَبُجْكُمُ بَغْدَاذَ تَاسِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ.

ذِكْرُ وِزَارَةِ الْبَرِيدِيِّ لِلْخَلِيفَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَتْحِ الْفَضْلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ بِالرَّمْلَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ مَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ، فَكَانَتْ وِزَارَتُهُ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمَّا سَارَ إِلَى الشَّامِ، اسْتَنَابَ بِالْحَضْرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ النُّقُرِيِّ.
وَكَانَ بُجْكُمُ قَدْ قَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ عَلِيِّ بْنِ خَلَفِ بْنِ طِيَّابٍ، فَاسْتَوْزَرَ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنَ شَيْرَزَادَ، فَسَعَى أَبُو جَعْفَرٍ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ بُجْكُمَ وَالْبَرِيدِيِّ، فَتَمَّ ذَلِكَ، ثُمَّ ضَمِنَ الْبَرِيدِيُّ أَعْمَالَ وَاسِطَ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ كُلَّ سَنَةٍ، ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ شَيْرَزَادَ أَيْضًا بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْفَتْحِ الْوَزِيرِ بِالرَّمْلَةِ فِي تَقْلِيدِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ الْوِزَارَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الرَّاضِي فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَ إِلَيْهِ فِي رَجَبٍ، وَاسْتَنَابَ بِالْحَضْرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ

(7/79)


النُّقُرِيَّ أَيْضًا كَمَا كَانَ يُخْلِفُ أَبَا الْفَتْحِ.

ذِكْرُ مُخَالَفَةِ بِالُبَا عَلَى الْخَلِيفَةِ
كَانَ بُجْكُمُ قَدِ اسْتَنَابَ بَعْضَ قُوَّادِهِ الْأَتْرَاكِ وَيُعْرَفُ بِبَالُبَا عَلَى الْأَنْبَارِ، فَكَاتَبَهُ يَطْلُبُ أَنْ يُقَلَّدَ أَعْمَالَ طَرِيقِ الْفُرَاتِ بِأَسْرِهَا لِيَكُونَ فِي وَجْهِ ابْنِ رَائِقٍ وَهُوَ بِالشَّامِ، فَقَلَّدَهُ بُجْكُمُ ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَى الرَّحْبَةِ، وَكَاتَبَ ابْنَ رَائِقٍ، وَخَالَفَ عَلَى بُجْكُمَ وَالرَّاضِي، وَأَقَامَ الدَّعْوَةَ لِابنِ رَائِقٍ وَعَظُمَ أَمْرُهُ.
فَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى بُجْكُمَ فَسَيَّرَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ وَأَمَرَهَمْ بِالْجِدِّ، وَأَنْ يَطْوُوا الْمَنَازِلَ وَيَسْبِقُوا خَبَرَهُمْ وَيَكْبِسُوا بِالرَّحْبَةِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَوَصَلُوا إِلَى الرَّحْبَةِ فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَدَخَلُوهَا عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ بَالُبَا، وَهُوَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ، اخْتَفَى عِنْدَ إِنْسَانٍ حَائِكٍ، ثُمَّ ظَفِرُوا بِهِ فَأَخَذُوهُ وَأَدْخَلُوهُ بَغْدَاذَ عَلَى جَمَلٍ ثُمَّ حُبِسَ، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ.

ذِكْرُ وَلَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُحْتَاجٍ خُرَاسَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ الْأَمِيرُ السَّعِيدُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ عَلَى خُرَاسَانَ وَجُيُوشِهَا أَبَا عَلِيٍّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحْتَاجٍ، وَعَزَلَ أَبَاهُ وَاسْتَقْدَمَهُ إِلَى بُخَارَى.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا طَالَ بِهِ، فَأَنْفَذَ السَّعِيدَ فَأَحْضَرَ ابْنَهُ أَبَا عَلِيٍّ مِنَ الصَّغَانِيَانِ، وَاسْتَعْمَلَهُ مَكَانَ أَبِيهِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، فَسَارَ عَنْ نَيْسَابُورَ، فَلَقِيَهُ وَلَدُهُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَعَرَّفَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَسَارَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى بُخَارَى مَرِيضًا، وَدَخَلَ وَلَدُهُ أَبُو عَلِيٍّ نَيْسَابُورَ أَمِيرًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ عَاقِلًا شُجَاعًا حَازِمًا، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، يَسْتَعِدُّ لِلْمَسِيرِ إِلَى جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.

(7/80)


ذِكْرُ غَلَبَةِ وَشْمَكِيرَ عَلَى أَصْبَهَانَ وَأَلَمُوتَ
وَفِيهَا أَرْسَلَ وَشْمَكِيرُ بْنُ زِيَارَ أَخُو مَرْدَاوَيْجَ جَيْشًا كَثِيفًا مِنَ الرَّيِّ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَبِهَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ بُوَيْهِ، وَهُوَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ، فَأَزَالُوهُ عَنْهَا وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَخَطَبُوا فِيهَا لِوَشْمَكِيرَ، ثُمَّ سَارَ (رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، فَنَزَلَ بِظَاهِرِ إِصْطَخْرَ، وَسَارَ) وَشْمَكِيرُ إِلَى قَلْعَةِ أَلَمُوتَ، فَمَلَكَهَا وَعَادَ عَنْهَا، وَسَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِهِمَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] مَا تَقِفُ عَلَيْهِ.

ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِالْأَنْدَلُسِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى أُمَيَّةُ بْنُ إِسْحَاقَ بِمَدِينَةِ شَنْتَرِينَ، عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَخٌ اسْمُهُ أَحْمَدُ، وَكَانَ وَزِيرًا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ أُمَيَّةُ بِشَنْتَرِينَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ عَصَى فِيهَا، وَالْتَجَأَ إِلَى رُدْمِيرَ مَلِكِ الْجَلَالِقَةِ، وَدَلَّهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ خَرَجَ أُمَيَّةُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ يَتَصَيَّدُ، فَمَنَعَهُ أَصْحَابُهُ مِنْ دُخُولِ الْبَلَدِ، فَسَارَ إِلَى رُدْمِيرَ فَاسْتَوْزَرَهُ.
وَغَزَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِلَادَ الْجَلَالِقَةِ، (فَالْتَقَى هُوَ وَرُدْمِيرُ هَذِهِ السَّنَةَ، فَانْهَزَمَتِ الْجَلَالِقَةُ) ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحَصَرَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ.
ثُمَّ إِنَّ الْجَلَالِقَةَ خَرَجُوا عَلَيْهِ وَظَفِرُوا بِهِ وَبِالْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَرَادَ اتِّبَاعَهُمْ، فَمَنَعَهُ أُمَيَّةُ وَخَوَّفَهُ الْمُسْلِمِينَ (وَرَغَّبَهُ فِي الْخَزَائِنِ وَالْغَنِيمَةِ.
وَعَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، فَجَهَّزَ الْجُيُوشَ إِلَى بِلَادِ الْجَلَالِقَةِ، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِمْ بِالْغَارَاتِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ أَضْعَافَ مَا قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ، ثُمَّ إِنَّ أُمَيَّةَ اسْتَأْمَنَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَكْرَمَهُ.

(7/81)


ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْكَسَفَ الْقَمَرُ جَمِيعُهُ فِي صَفَرٍ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ صَاحِبُ " الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ ".
وَعُثْمَانُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الدُّنْيَا الْمَعْرُوفُ بِالْأَشَجِّ الَّذِي يُقَالُ إِنَّهُ لَقِيَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ، وَيُكَنُّونَهُ أَبَا الْحَسَنِ آخِرَ أَيَّامِهِ، وَلَهُ صَحِيفَةٌ تُرْوَى عَنْهُ وَلَا تَصِحُّ، وَقَدْ رَوَاهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِضَعْفِهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ (مُحَمَّدِ بْنِ) سَهْلٍ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ، كَاعْتِلَالِ الْقُلُوبِ وَغَيْرِهِ، بِمَدِينَةِ يَافَا.

(7/82)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ]
328 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ أَبِي عَلِيٍّ عَلَى جُرْجَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، سَارَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُحْتَاجٍ فِي جَيْشِ خُرَاسَانَ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى جُرْجَانَ، وَكَانَ بِجُرْجَانَ مَاكَانُ بْنُ كَالِي قَدْ خَلَعَ طَاعَةَ الْأَمِيرِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ، فَوَجَدَهُمْ أَبُو عَلِيٍّ قَدْ غَوَّرُوا الْمِيَاهَ، فَعَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِ، حَتَّى نَزَلَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ جُرْجَانَ، فَحَصَرَ مَاكَانَ بِهَا، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنِ الْبَلَدِ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَاكَانَ، وَضَاقَ الْحَالُ بِمَنْ بَقِيَ بِجُرْجَانَ حَتَّى صَارَ الرَّجُلُ يَقْتَصِرُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى حَفْنَةِ سِمْسِمٍ، أَوْ كَيْلَةٍ مِنْ كُسْبٍ، أَوْ بَاقَةِ بَقْلٍ.
وَاسْتَمَدَّ مَاكَانُ مِنْ وَشْمَكِيرَ وَهُوَ بِالرَّيِّ، فَأَمَدَّهُ بِقَائِدٍ مِنْ قُوَّادِهِ يُقَالُ لَهُ شَيْرَحُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى جُرْجَانَ وَرَأَى الْحَالَ، شَرَعَ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ أَبِي عَلِيٍّ وَبَيْنَ مَاكَانَ بْنِ كَالِي ; لِيَجْعَلَ لَهُ طَرِيقًا يَنْجُوَ فِيهِ، فَفَعَلَ أَبُو عَلِيٍّ ذَلِكَ، وَهَرَبَ مَاكَانُ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، وَاسْتَوْلَى أَبُو عَلِيٍّ عَلَى جُرْجَانَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سِيمَجُورَ الدَّوَاتِيُّ، بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَ حَالَهَا وَأَقَامَ بِهَا إِلَى الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَسَارَ إِلَى الرَّيِّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.

ذِكْرُ مَسِيرِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ بُوَيْهِ إِلَى وَاسِطَ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيَّ أَنْفَذَ جَيْشًا إِلَى السُّوسِ، وَقَتَلَ قَائِدًا مِنَ الدَّيْلَمِ، فَتَحَصَّنَ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيُّ بِقَلْعَةِ السُّوسِ، وَكَانَ عَلَى خَرَاجِهَا.

(7/83)


وَكَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ بِالْأَهْوَازِ، فَخَافَ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ الْبَرِيدِيُّ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ بِبَابِ إِصْطَخْرَ قَدْ عَادَ مِنْ أَصْبَهَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ كِتَابُ أَخِيهِ سَارَ إِلَيْهِ مُجِدًّا يَطْوِي الْمَنَازِلَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى السُّوسِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى وَاسِطَ لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا إِذْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ أَصْبَهَانَ، وَلَيْسَ لَهُ مُلْكٌ لِيَسْتَقِلَّ بِهِ، فَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَكَانَ البَّرِيدِيُّونَ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَاضْطَرَبَ رِجَالُ ابْنِ بُوَيْهِ، فَاسْتَأْمَنَ مِنْهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ إِلَى الْبَرِيدِيِّ.
ثُمَّ سَارَ الرَّاضِي وَبُجْكُمُ مِنْ بَغْدَاذَ نَحْوَ وَاسِطَ لِحَرْبِهِ، فَخَافَ أَنْ يَكْثُرَ الْجَمْعُ عَلَيْهِ وَيَسْتَأْمِنَ رِجَالُهُ فَيَهْلَكُ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ سَنَةٌ لَمْ يُنْفِقْ فِيهِمْ مَالًا، فَعَادَ مِنْ وَاسِطَ إِلَى الْأَهْوَازِ ثُمَّ إِلَى رَامَهُرْمُزَ.

ذِكْرُ مُلْكِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ أَصْبَهَانَ
وَفِيهَا عَادَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ فَاسْتَوْلَى عَلَى أَصْبَهَانَ، سَارَ مِنْ رَامَهُرْمُزَ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَأَخْرَجَ عَنْهَا أَصْحَابَ وَشْمَكِيرَ وَقَتَلَ مِنْهُمْ، وَاسْتَأْسَرَ بِضْعَةَ عَشَرَ قَائِدًا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ وَشْمَكِيرَ كَانَ قَدْ أَنْفَذَ عَسْكَرَهُ إِلَى مَاكَانَ نَجْدَةً لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَخَلَتْ بِلَادُ وَشْمَكِيرَ مِنَ الْعَسَاكِرِ، (وَسَارَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَبِهَا نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ) ، فَهَزَمَهُمْ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَكَاتَبَ هُوَ وَأَخُوهُ عِمَادُ الدَّوْلَةِ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُحْتَاجٍ يُحَرِّضَانِهِ عَلَى مَاكَانَ وَوَشْمَكِيرَ، وَيَعِدَانِهِ الْمُسَاعَدَةَ عَلَيْهِمَا، فَصَارَ بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ مَوَدَّةٌ.

ذِكْرُ مَسِيرِ بُجْكُمَ نَحْوَ بِلَادِ الْجَبَلِ وَعَوْدِهِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ بُجْكُمُ مِنْ بَغْدَاذَ نَحْوَ بِلَادِ الْجَبَلِ، ثُمَّ عَادَ عَنْهَا.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَالَحَ هَذِهِ السَّنَةَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيَّ وَصَاهَرَهُ، وَتَزَوَّجَ ابْنَتَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْبَرِيدِيُّ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسِيرَ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ لِفَتْحِهَا وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، وَيُعَرِّفَهُ أَنَّهُ إِذْ سَارَ إِلَى الْجَبَلِ سَارَ هُوَ إِلَى الْأَهْوَازِ وَاسْتَنْقَذَهَا مِنْ يَدِ ابْنِ بُوَيْهِ، فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بُجْكُمُ خَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعُونَةً لَهُ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ صَاحِبَهُ أَبَا زَكَرِيَّاءَ السُّوسِيَّ يَحُثُّهُ عَلَى الْحَرَكَةِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ يَرْحَلَ عَنْ وَاسِطَ إِلَى الْأَهْوَازِ.
وَسَارَ بُجْكُمُ إِلَى حُلْوَانَ، وَصَارَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ السُّوسِيُّ يَحُثُّ ابْنَ الْبَرِيدِيِّ عَلَى الْمَسِيرِ

(7/84)


إِلَى السُّوسِ وَالْأَهْوَازِ، وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَوْقَاتَ، وَكَانَ عَازِمًا عَلَى قَصْدِ بَغْدَاذَ إِذَا أَبْعَدَ عَنْهَا بُجْكُمَ لِيَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا، وَهُوَ يُقَدِّمُ رَجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَيَنْتَظِرُ بِهِ الدَّوَائِرَ مِنْ هَزِيمَةٍ أَوْ قَتْلٍ. وَأَقَامَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ عِنْدَهُ نَحْوَ شَهْرٍ يَحُثُّهُ عَلَى الْمَسِيرِ، وَهُوَ يُغَالِطُهُ، فَعَلِمَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ مَقْصُودَهُ، فَكَتَبَ إِلَى بُجْكُمَ، فَلَحِقَهُ الْخَبَرُ وَهُوَ سَائِرٌ، فَرَكِبَ الْجَمَّازَاتِ وَعَادَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَخَلَّفَ عَسْكَرَهُ وَرَاءَهُ.
وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْبَرِيدِيِّ بِدُخُولِ بُجْكُمَ إِلَى بَغْدَاذَ، فَسَقَطَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَتَتْهُ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ بُجْكُمَ قَدْ سَارَ نَحْوَهُ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ بُجْكُمَ عَلَى وَاسِطَ
لَمَّا عَادَ بُجْكُمُ إِلَى بَغْدَاذَ، تَجَهَّزَ لِلِانْحِدَارِ إِلَى وَاسِطَ، وَحَفِظَ الطُّرُقَ لِئَلَّا يَصِلَ خَبَرُهُ إِلَى الْبَرِيدِيِّ فَيَتَحَرَّزَ، وَانْحَدَرَ هُوَ فِي الْمَاءِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، وَسَيَّرَ عَسْكَرَهُ فِي الْبَرِّ، وَأَسْقَطَ اسْمَ الْبَرِيدِيِّ مِنَ الْوِزَارَةِ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ أَبَا الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ مُخَلَّدٍ، وَكَانَتْ وِزَارَةُ الْبَرِيدِيِّ سَنَةً وَاحِدَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقُبِضَ عَلَى ابْنِ شَيْرَزَادَ ; لِأَنَّهُ هُوَ كَانَ سَبَبَ وَصْلَتِهِ بِالْبَرِيدِيِّ، (وَأَخَذَ مِنْهُ مَائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ) .
فَمِنْ عَجِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ بُجْكُمَ كَانَ لَهُ كَاتِبٌ عَلَى أَمْرِ دَارِهِ وَحَاشِيَتِهِ، وَهُوَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ عِنْدَ انْحِدَارِهِ إِلَى وَاسِطَ، فَجَاءَ طَائِرٌ فَسَقَطَ عَلَى صَدْرِ السَّفِينَةِ، فَأُخِذَ وَأُحْضِرَ عِنْدَ بُجْكُمَ، فَوَجَدَ عَلَى ذَنَبِهِ كِتَابًا فَفَتَحَهُ، وَإِذَا هُوَ مِنْ هَذَا الْكَاتِبِ إِلَى أَخٍ لَهُ مَعَ الْبَرِيدِيِّ، يُخْبِرُهُ بِخَبَرِ بُجْكُمَ، وَمَا هُوَ عَازِمٌ عَلَيْهِ، فَأَلْقَى الْكِتَابَ إِلَيْهِ، فَاعْتَرَفَ بِهِ إِذْ لَمْ يُمْكِنُهُ جَحْدُهُ ; لِأَنَّهُ بِخَطِّهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ وَأَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ.
وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ بُجْكُمَ إِلَى الْبَرِيدِيِّ سَارَ عَنْ وَاسِطَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَلَمْ يُقِمْ بِهَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا بُجْكُمُ لَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَكَانَ بُجْكُمُ قَدْ خَلَّفَ عَسْكَرًا بِبَلَدِ الْجَبَلِ، (قَصْدُهُمُ الدَّيْلَمُ وَالْجِيلُ) ، فَانْهَزَمُوا وَعَادُوا إِلَى بَغْدَاذَ.

(7/85)


ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ ابْنِ رَائِقٍ عَلَى الشَّامِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى ابْنُ رَائِقٍ عَلَى الشَّامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا دَخَلَ الشَّامَ، قَصَدَ مَدِينَةَ حِمْصَ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَبِهَا بَدْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْإِخْشِيدِيُّ الْمَعْرُوفُ بِبُدَيْرٍ، وَالِيًا عَلَيْهَا لِلْإِخْشِيدِ، فَأَخْرَجَهُ ابْنُ رَائِقٍ مِنْهَا وَمَلَكَهَا، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى (الرَّمْلَةِ فَمَلَكَهَا.
وَسَارَ إِلَى) عَرِيشِ مِصْرَ يُرِيدُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَلَقِيَهُ الْإِخْشِيدُ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجَ، وَحَارَبَهُ، فَانْهَزَمَ الْإِخْشِيدُ، فَاشْتَغَلَ أَصْحَابُ ابْنِ رَائِقٍ بِالنَّهْبِ، وَنَزَلُوا فِي خِيَمِ أَصْحَابِ الْإِخْشِيدِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ كَمِينٌ لِلْإِخْشِيدِ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ وَهَزَمَهُمْ وَفَرَّقَهُمْ، وَنَجَا ابْنُ رَائِقٍ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا، وَوَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ.
فَسَيَّرَ إِلَيْهِ الْإِخْشِيدُ أَخَاهُ أَبَا نَصْرِ بْنَ طُغْجَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمُ ابْنُ رَائِقٍ، سَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ دِمَشْقَ، فَالْتَقَوْا بِاللُّجُونِ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ أَبِي نَصْرٍ وَقُتِلَ هُوَ، فَأَخَذَهُ ابْنُ رَائِقٍ وَكَفَّنَهُ وَحَمَلَهُ إِلَى أَخِيهِ الْإِخْشِيدِ، (وَهُوَ بِمِصْرَ، وَأَنْفَذَ مَعَهُ ابْنَهُ مُزَاحِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ، وَكَتَبَ إِلَى الْإِخْشِيدِ) كِتَابًا يُعَزِّيهِ عَنْ أَخِيهِ، وَيَعْتَذِرُ مِمَّا جَرَى وَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ قَتْلَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَنْفَذَ ابْنَهُ لِيَفْدِيَهُ بِهِ إِنْ أَحَبَّ ذَلِكَ، فَتَلَقَّى الْإِخْشِيدُ مُزَاحِمًا بِالْجَمِيلِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَرَدَّهُ إِلَى أَبِيهِ، وَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الرَّمْلَةُ وَمَا وَرَاءَهَا إِلَى مِصْرَ لِلْإِخْشِيدِ، وَبَاقِي الشَّامِ لِمُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ، وَيَحْمِلُ إِلَيْهِ الْإِخْشِيدُ (عَنِ الرَّمْلَةِ) (كُلَّ سَنَةٍ) مِائَةَ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.

ذِكْرُ عِدَّةَ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ طَرِيفُ السُّبْكَرِيُّ.

(7/86)


(وَفِيهَا عَزَلَ بُجْكُمُ وَزِيرَهُ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ شَيْرَزَادَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَصَادَرَهُ عَلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيَّ) .
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَبُو جَعْفَرٍ الْكُلَيْنِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِمَامِيَّةِ وَعُلَمَائِهِمْ.
(الْكُلَيْنِيُّ: بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتٍ ثُمَّ بِالنُّونِ، وَهُوَ مُمَالٌ) .
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الْمُقْرِئُ الْبَغْدَاذِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَنَبُوذَ فِي صَفَرٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ الْمُرْتَعِشُ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، وَهُوَ نَيْسَابُورِيٌّ سَكَنَ بَغْدَاذَ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ بَعْدَ أَبِيهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ.

(7/87)


وَفِيهَا فِي حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ مَاتَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ فِي الْحَبْسِ.
وَفِيهَا لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ، تُوفِّي الْوَزِيرُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْخُصَيْبِيُّ بِسَكْتَةٍ لَحِقَتْهُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ مُقْلَةٍ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَفِيهَا مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُمِّيُّ، وَزِيرُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ الْعَمِيدِ، فَتَمَكَّنَ مِنْهُ، فَنَالَ مَا لَمْ يَنَلْهُ أَحَدٌ مِنْ وُزَرَاءِ بَنِي بُوَيْهِ، وَسَيَرِدُ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا يُعْلَمُ بِهِ مَحَلُّهُ.

(7/88)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ]
329 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
ذِكْرُ مَوْتِ الرَّاضِي بِاللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الرَّاضِي بِاللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ (وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ) وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَشُهُورًا، وَكَانَتْ عِلَّتُهُ الِاسْتِسْقَاءَ، وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا، فَمِنْ شِعْرِهِ:
يَصْفَرُّ وَجْهِي إِذَا تَأَمَّلَهُ ... طَرْفِي وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ خَجَلَا
حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي بِوَجْنَتِهِ ... مِنْ دَمِ جِسْمِي إِلَيْهِ قَدْ نُقِلَا
وَلَهُ أَيْضًا يَرْثِي أَبَاهُ الْمُقْتَدِرَ:
وَلَوْ أَنَّ حَيًّا كَانَ قَبْرًا لِمَيِّتٍ ... لَصَيَّرْتُ أَحْشَائِي لِأَعْظُمِهِ قَبْرًا
وَلَوْ أَنَّ عُمُرِي كَانَ طَوْعَ مَشِيئَتِي ... وَسَاعَدَنِي التَّقْدِيرُ قَاسَمْتُهُ الْعُمُرَا
بِنَفْسِي ثَرَىً ضَاجَعْتُ فِي تُرْبِهِ الْبِلَى ... لَقَدْ ضَمَّ مِنْكَ الْغَيْثَ وَاللَّيْثَ وَالْبَدْرَا

(7/89)


وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
كُلُّ صَفْوٍ إِلَى كَدَرْ ... كُلُّ أَمْنٍ إِلَى حَذَرْ
وَمَصِيرُ الشَّبَابِ لِلْ ... مَوْتِ فِيهِ أَوِ الْكَدَرْ
دَرَّ دَرُّ الْمَشِيبِ مِنْ ... وَاعِظٍ يُنْذِرُ الْبَشَرْ
أَيُّهَا الْآمِلُ الَّذِي ... تَاهَ فِي لُجَّةِ الْغَرَرْ
أَيْنَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا ... دَرَسَ الْعَيْنُ وَالْأَثَرْ
سَيَرُدُّ الْمَعَادُ مَنْ ... عُمُرُهُ كُلُّهُ خَطَرْ
رَبِّ إِنِّي ذَخَرْتُ عِنْ ... دَكَ أَرْجُوكَ مُدَّخَرْ
إِنَّنِي مُؤْمِنٌ بِمَا بَيْ ... نَ الْوَحْيِ فِي السُّوَرْ
وَاعْتِرَافِي بِتَرْكِ نَفْ ... عِي وَإِيثَارِي الضَّرَرْ
رَبِّ فَاغْفِرْ لِي الْخَطِي ... ئَةَ يَا خَيْرَ مَنْ غَفَرْ
وَكَانَ الرَّاضِي أَيْضًا سَمْحًا، سَخِيًّا، يُحِبُّ مُحَادَثَةَ الْأُدَبَاءِ وَالْفُضَلَاءِ وَالْجُلُوسَ مَعَهُمْ.
وَلَمَّا مَاتَ أَحْضَرَ بُجْكُمُ نُدَمَاءَهُ وَجُلَسَاءَهُ، وَطَمِعَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِمْ، فَلَمْ يَفْهَمْ مِنْهُمْ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَكَانَ مِنْهُمْ سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ الصَّابِيُّ الطَّبِيبُ، فَأَحْضَرَهُ وَشَكَا إِلَيْهِ غَلَبَةَ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَارِهٌ لَهَا، فَمَا زَالَ مَعَهُ فِي تَقْبِيحِ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَتَحْسِينِ ضِدِّهِ مِنَ الْحِلْمِ، وَالْعَفْوِ، وَالْعَدْلِ، وَتَوَصَّلَ مَعَهُ حَتَّى زَالَ أَكْثَرُ مَا كَانَ يَجِدُهُ، وَكَفَّ عَنِ الْقَتْلِ وَالْعُقُوبَاتِ.
وَكَانَ الرَّاضِي أَسْمَرَ، أَعْيَنَ، خَفِيفَ الْعَارِضِينَ، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا ظَلُومٌ، وَخَتَمَ الْخُلَفَاءَ فِي أُمُورٍ عِدَّةٍ، فَمِنْهَا: أَنَّهُ آخِرُ خَلِيفَةٍ لَهُ شِعْرٌ يُدَوَّنُ، وَآخِرُ خَلِيفَةٍ خَطَبَ كَثِيرًا

(7/90)


عَلَى مِنْبَرٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ خَطَبَ نَادِرًا لَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَكَانَ آخِرَ خَلِيفَةٍ جَالَسَ الْجُلَسَاءَ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ النُّدَمَاءُ، وَآخِرَ خَلِيفَةٍ كَانَتْ لَهُ نَفَقَتُهُ، وَجَوَائِزُهُ، وَعَطَايَاهُ، وَجِرَايَاتُهُ، وَخَزَائِنُهُ، وَمَطَابِخُهُ، وَمَجَالِسُهُ، وَخَدَمُهُ، وَحِجَابُهُ، وَأُمُورُهُ عَلَى تَرْتِيبِ الْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ.

ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ
لَمَّا مَاتَ الرَّاضِي بِاللَّهِ، بَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْخِلَافَةِ مَوْقُوفًا انْتَظَارًا لِقُدُومِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ كَاتِبِ بُجْكُمَ (مِنْ وَاسِطَ، وَكَانَ بُجْكُمُ بِهَا) .
وَاحْتِيطَ عَلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَوَرَدَ كِتَابُ بُجْكُمَ مَعَ الْكُوفِيِّ يَأْمُرُ فِيهِ بِأَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ وَزِيرِ الرَّاضِي، كُلُّ مَنْ تَقَلَّدَ الْوِزَارَةَ، وَأَصْحَابُ الدَّوَاوِينِ، وَالْعَلَوِيُّونَ، وَالْقُضَاةُ، وَالْعَبَّاسِيُّونَ، وَوُجُوهُ الْبَلَدِ، وَيُشَاوِرُهُمُ الْكُوفِيُّ فِيمَنْ يُنَصَّبُ لِلْخِلَافَةِ مِمَّنْ يَرْتَضِي مَذْهَبَهُ وَطَرِيقَتَهُ، فَجَمَعَهُمُ الْكُوفِيُّ وَاسْتَشَارَهُمْ، فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمُقْتَدِرِ، وَتَفَرَّقُوا عَلَى هَذَا.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَأُحْضِرَ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، وَبُويِعَ لَهُ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ أَلْقَابٌ، فَاخْتَارَ " الْمُتَّقِي لِلَّهِ "، وَبَايَعَهُ النَّاسُ كَافَّةً، وَسَيَّرَ الْخِلَعَ وَاللِّوَاءَ إِلَى بُجْكُمَ بِوَاسِطَ.
وَكَانَ بُجْكُمُ بَعْدَ مَوْتِ الرَّاضِي وَقَبْلَ اسْتِخْلَافِ الْمُتَّقِي، قَدْ أَرْسَلَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ

(7/91)


فَأَخَذَ فَرْشًا وَآلَاتٍ كَانَ يَسْتَحْسِنُهَا، وَجَعَلَ سَلَامَةَ الطُّولُونِيَّ حَاجِبَهُ، وَأَقَرَّ سُلَيْمَانُ عَلَى وِزَارَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْوِزَارَةِ إِلَّا اسْمُهَا، وَإِنَّمَا التَّدْبِيرُ كُلُّهُ إِلَى الْكُوفِيِّ كَاتِبِ بُجْكُمَ.

ذِكْرُ قَتْلِ مَاكَانَ بْنِ كَالِي، وَاسْتِيلَاءِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُحْتَاجٍ عَلَى الرَّيِّ
قَدْ ذَكَرْنَا مَسِيرَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحْتَاجٍ إِلَى جُرْجَانَ، وَإِخْرَاجِ مَاكَانَ عَنْهَا، فَلَمَّا سَارَ عَنْهَا مَاكَانُ، قَصَدَ طَبَرِسْتَانَ وَأَقَامَ بِهَا، وَأَقَامَ أَبُو عَلِيٍّ بِجُرْجَانَ يُصْلِحُ أَمْرَهَا، ثُمَّ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمَ بْنَ سِيمَجُورَ الدَّوَاتِيَّ، وَسَارَ نَحْوَ الرَّيِّ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَوَصَلَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَبِهَا وَشْمَكِيرُ بْنُ زِيَارَ أَخُو مَرْدَاوَيْجَ.
وَكَانَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ وَرُكْنُ الدَّوْلَةِ ابْنَا بُوَيْهِ يُكَاتِبَانِ أَبَا عَلِيٍّ، وَيَحُثَّانِهِ عَلَى قَصْدِ وَشْمَكِيرَ، وَيَعِدَانِهِ الْمُسَاعَدَةَ، وَكَانَ قَصْدُهُمَا أَنْ تُؤْخَذَ الرَّيُّ مِنْ وَشْمَكِيرَ، فَإِذَا أَخَذَهَا أَبُو عَلِيٍّ، لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ بِهَا لِسِعَةِ وَلَايَتِهِ بِخُرَاسَانَ، فَيَغْلِبَانِ عَلَيْهَا.
وَبَلَغَ أَمْرُ اتِّفَاقِهِمْ إِلَى وَشْمَكِيرَ. وَكَاتَبَ مَاكَانَ بْنَ كَالِي يَسْتَخْدِمُهُ وَيُعَرِّفُهُ الْحَالَ، فَسَارَ مَاكَانُ بْنُ كَالِي مَنْ طَبَرِسْتَانَ إِلَى الرَّيِّ، وَسَارَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَتَاهُ عَسْكَرُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا مَعَهُ بِإِسْحَاقَابَاذَ، وَالْتَقَوْا هُمْ وَوَشْمَكِيرُ، وَوَقَفَ مَاكَانُ بْنُ كَالِي فِي الْقَلْبِ وَبَاشَرَ الْحَرْبَ بِنَفْسِهِ، وَعَبَّأَ أَبُو عَلِيٍّ أَصْحَابَهُ كَرَادِيسَ، وَأَمَرَ مَنْ بِإِزَاءِ الْقَلْبِ أَنْ يَلُحُّوا عَلَيْهِمْ فِي الْقِتَالِ، ثُمَّ يَتَطَارَدُوا لَهُمْ وَيَسْتَجِرُّوهُمْ، ثُمَّ وَصَّى مَنْ بِإِزَاءِ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ أَنْ يُنَاوِشُوهُمْ مُنَاوَشَةً بِمِقْدَارِ مَا يَشْغَلُونَهُمْ عَنْ مُسَاعَدَةِ مَنْ فِي الْقَلْبِ، وَلَا يُنَاجِزُوهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ.
وَأَلَحَّ أَصْحَابُهُ عَلَى قَلْبِ وَشْمَكِيرَ بِالْحَرْبِ، ثُمَّ تَطَارَدُوا لَهُمْ، فَطَمِعَ فِيهِمْ مَاكَانُ وَمَنْ مَعَهُ، فَتَبِعُوهُمْ وَفَارَقُوا مَوَاقِفَهُمْ، فَحِينَئِذٍ أَمَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْكَرَادِيسَ الَّتِي بِإِزَاءِ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ، وَيَأْتِيَ مَنْ فِي قَلْبِ وَشْمَكِيرَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو عَلِيٍّ أَصْحَابَهُ قَدْ أَقْبَلُوا مِنْ وَرَاءِ مَاكَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَمْرَ الْمُتَطَارِدِينَ

(7/92)


بِالْعَوْدِ وَالْحَمْلَةِ عَلَى مَاكَانَ وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَتْ نُفُوسُهُمْ قَدْ قَوِيَتْ بِأَصْحَابِهِمْ، فَرَجَعُوا وَحَمَلُوا عَلَى أُولَئِكَ، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ.
فَلَمَّا رَأَى مَاكَانُ ذَلِكَ، تَرَجَّلَ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا، وَظَهَرَتْ مِنْهُ شَجَاعَةٌ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا، فَأَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَوَقَعَ فِي جَبِينِهِ، فَنَفَذَ فِي الْخُوذَةِ وَالرَّأْسِ حَتَّى طَلَعَ مِنْ قَفَاهُ وَسَقَطَ مَيِّتًا، وَهَرَبَ وَشْمَكِيرُ وَمَنْ سَلِمَ مَعَهُ إِلَى طَبَرِسْتَانَ، فَأَقَامَ بِهَا، وَاسْتَوْلَى أَبُو عَلِيٍّ عَلَى الرَّيِّ، وَأَنْفَذَ رَأْسَ مَاكَانَ إِلَى بُخَارَى وَالسَّهْمُ فِيهِ، وَلَمْ يُحْمَلْ إِلَى بَغْدَاذَ حَتَّى قُتِلَ بُجْكُمُ ; لِأَنَّ بُجْكُمَ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجَلَسَ لِلْعَزَاءِ لَمَّا قُتِلَ، فَلَمَّا قُتِلَ بُجْكُمُ، حُمِلَ الرَّأْسُ مِنْ بُخَارَى إِلَى بَغْدَاذَ وَالسَّهْمُ فِيهِ وَفِي الْخُوذَةِ، وَأَنْفَذَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَسْرَى إِلَى بُخَارَى أَيْضًا، وَكَانُوا بِهَا حَتَّى دَخَلَ وَشْمَكِيرُ فِي طَاعَةِ آلِ سَامَانَ، وَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ فَاسْتَوْهَبَهُمْ، فَأَطْلَقُوا لَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ ثَلَاثِينَ [وَثَلَاثِمِائَةٍ] .

ذِكْرُ قَتْلِ بُجْكُمَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ بُجْكُمُ.
وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيَّ أَنْفَذَ جَيْشًا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مَذَارَ، فَأَنْفَذَ بُجْكُمُ جَيْشًا إِلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ تُوزُونُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا كَانَ أَوَّلًا عَلَى تُوزُونَ، فَكَتَبَ إِلَى بُجْكُمَ يَطْلُبُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ، فَسَارَ بُجْكُمُ إِلَيْهِمْ مِنْ وَاسِطَ مُنْتَصَفَ رَجَبٍ، فَلَقِيَهُ كِتَابُ تُوزُونَ بِأَنَّهُ ظَفِرَ بِهِمْ وَهَزَمَهُمْ، فَأَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى وَاسِطَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِأَنْ يَتَصَيَّدَ، فَقَبِلَ مِنْهُ، وَتَصَيَّدَ حَتَّى بَلَغَ نَهْرَ جُورَ، فَسَمِعَ أَنَّ هُنَاكَ أَكْرَادًا لَهُمْ مَالٌ وَثَرْوَةٌ، فَشَرِهَتْ نَفْسُهُ (إِلَى أَخْذِهِ) ، فَقَصَدَهُمْ فِي قِلَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ جُنَّةٍ تَقِيهِ، فَهَرَبَ الْأَكْرَادُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَرَمَى هُوَ أَحَدَهُمْ فَلَمْ يُصِبْهُ، فَرَمَى آخَرَ فَأَخْطَأَهُ أَيْضًا، وَكَانَ لَا يَخِيبُ سَهْمُهُ، فَأَتَاهُ غُلَامٌ مِنَ الْأَكْرَادِ مِنْ خَلْفِهِ وَطَعَنَهُ فِي خَاصِرَتِهِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَتَلَهُ وَذَلِكَ

(7/93)


لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَاخْتَلَفَ عَسْكَرُهُ، فَمَضَى الدَّيْلَمُ خَاصَّةً نَحْوَ الْبَرِيدِيِّ، وَكَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَأَضْعَفَ أَرْزَاقَهُمْ، وَأَوْصَلَهَا إِلَيْهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً.
وَكَانَ الْبَرِيدِيُّ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْهَرَبِ مِنَ الْبَصْرَةِ هُوَ وَإِخْوَتُهُ، وَكَانَ بُجْكُمُ قَدْ رَاسَلَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ، فَمَالُوا إِلَيْهِ، فَأَتَى الْبَرِيدِيِّينَ الْفَرَجُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَعَادَ أَتْرَاكُ بُجْكُمَ إِلَى وَاسِطَ، وَكَانَ تُكَيْنَكُ مَحْبُوسًا بِهَا، حَبَسَهُ بُجْكُمُ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ مَحْبَسِهِ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَظْهَرُوا طَاعَةَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ.
وَصَارَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مَيْمُونٍ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ، وَاسْتَوْلَى الْمُتَّقِي عَلَى دَارِ بُجْكُمَ، فَأَخَذَ مَالَهُ مِنْهَا، وَكَانَ قَدْ دَفَنَ فِيهَا مَالًا كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي الصَّحْرَاءِ ; لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَنْكَبَّ فَلَا يَصِلَ إِلَى مَالِهِ فِي دَارِهِ.
وَكَانَ مَبْلَغُ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ وَدَفَائِنِهِ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَتَيْ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ إِمَارَةِ بُجْكُمَ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ.

ذِكْرُ إِصْعَادِ الْبَرِيدِيَّينَ إِلَى بَغْدَاذَ
لَمَّا قُتِلَ بُجْكُمُ، اجْتَمَعَتِ الدَّيْلَمُ عَلَى بَلْسَوَازَ بْنِ مَالِكِ بْنِ مُسَافِرٍ، فَقَتَلَهُ الْأَتْرَاكُ، فَانْحَدَرَ الدَّيْلَمُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَكَانُوا مُنْتَخَبِينَ لَيْسَ فِيهِمْ حَشْوٌ، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَعَظُمَتْ شَوْكَتُهُ، فَأَصْعَدُوا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى وَاسِطَ فِي شَعْبَانَ، فَأَرْسَلَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يَصْعَدُوا، فَقَالُوا: نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى مَالٍ، فَإِنْ أُنْفِذَ لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ، لَمْ نَصْعَدْ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِمْ مِائَةَ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ الْأَتْرَاكُ لِلْمُتَّقِي: نَحْنُ نُقَاتِلُ بَنِي الْبَرِيدِيِّ، فَأَطْلِقْ لَنَا مَالًا وَانْصُبْ لَنَا مُقَدِّمًا، فَأَنْفَقَ فِيهِمْ مَالًا، وَفِي أَجْنَادِ بَغْدَاذَ الْقُدَمَاءِ أَرْبَعُمِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِ الَّذِي أُخِذَ لِبُجْكُمَ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ سَلَامَةَ الطُّولُونِيَّ، وَبَرَزُوا مَعَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِلَى نَهْرِ دِيَالِيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ.
وَسَارَ الْبَرِيدِيُّ مِنْ وَاسِطَ إِلَى بَغْدَاذَ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ مَعَهُ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ بَغْدَاذَ اخْتَلَفَ الْأَتْرَاكُ الْبُجْكُمِيَّةُ، وَاسْتَأْمَنَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، وَبَعْضُهُمْ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَاسْتَتَرَ سَلَامَةُ الطُّولُونِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ، وَلَمْ يَحْصُلِ الْخَلِيفَةُ إِلَّا عَلَى

(7/94)


إِخْرَاجِ الْمَالِ، وَهُمْ أَرْبَابُ النِّعَمِ وَالْأَمْوَالِ، بِالِانْتِقَالِ مِنْ بَغْدَاذَ خَوْفًا مِنَ الْبَرِيدِيِّ وَظُلْمِهِ وَتَهَوُّرِهِ.
وَدَخَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ بَغْدَاذَ ثَانِ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَنَزَلَ بِالشَّفِيعِيِّ، وَلَقِيَهُ الْوَزِيرُ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَالْقُضَاةُ، وَالْكُتَّابُ، وَأَعْيَانُ النَّاسِ، وَكَانَ مَعَهُ مِنْ أَنْوَاعِ السُّفُنِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الْمُتَّقِي يُهَنِّيهِ بِسَلَامَتِهِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ طَعَامًا وَغَيْرَهُ عِدَّةَ لَيَالٍ، وَكَانَ يُخَاطَبُ بِالْوَزِيرِ، وَكَذَلِكَ أَبْو الْحُسَيْنِ بْنُ مَيْمُونٍ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا، ثُمَّ عُزِلَ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَةِ أَبِي الْحُسَيْنِ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قَبَضَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَحَبَسَهُ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ (فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ حُمَّى حَادَّةٍ) .
ثُمَّ أَنْفَذَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى الْمُتَّقِي يَطْلُبُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ لِيُفَرِّقَهَا فِي الْجُنْدِ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَتَهَدَّدُهُ، وَيُذَكِّرَهُ مَا جَرَى عَلَى الْمُعْتَزِّ، وَالْمُسْتَعِينِ، وَالْمُهْتَدِي، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ تَمَامَ خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَمْ يَلْقَ الْبَرِيدِيُّ الْمُتَّقِيَ لِلَّهِ مُدَّةَ مَقَامِهِ بِبَغْدَاذَ.

ذِكْرُ عَوْدِ الْبَرِيدِيِّ إِلَى وَاسِطَ
كَانَ الْبَرِيدِيُّ يَأْمُرُ الْجُنْدَ بِطَلَبِ الْأَمْوَالِ مِنَ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا أَنْفَذَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ الْمَالَ الْمَذْكُورَ، انْصَرَفَتْ أَطْمَاعُ الْجُنْدِ عَنِ الْخَلِيفَةِ إِلَى الْبَرِيدِيِّ وَعَادَتْ مَكِيدَتُهُ عَلَيْهِ، فَشَغَبَ الْجُنْدُ عَلَيْهِ، وَكَانَ الدَّيْلَمُ قَدْ قَدَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كُورَتِكِينُ الدَّيْلَمَيُّ، وَقَدَّمَ الْأَتْرَاكُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ تُكَيْنَكَ التُّرْكِيَّ غُلَامَ بُجْكُمَ، وَثَارَ الدَّيْلَمُ إِلَى دَارِ الْبَرِيدِيِّ، فَأَحْرَقُوا دَارَ أَخِيهِ أَبِي الْحُسَيْنِ الَّتِي كَانَ يَنْزِلُهَا، وَنَفَرُوا عَنِ الْبَرِيدِيِّ، وَانْضَافَ تُكَيْنَكُ إِلَيْهِمْ، وَصَارَتْ أَيْدِيهِمْ وَاحِدَةً، وَاتَّفَقُوا عَلَى قَصْدِ الْبَرِيدِيِّ وَنَهْبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَسَارُوا إِلَى النَّجْمِيِّ وَوَافَقَهُمُ الْعَامَّةُ، (فَقَطَعَ الْبَرِيدِيُّ الْجِسْرَ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ فِي الْمَاءِ، وَوَثَبَ الْعَامَّةُ) بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ عَلَى أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ، فَهَرَبَ هُوَ وَأَخُوهُ وَابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ وَأَصْحَابُهُ، وَانْحَدَرُوا فِي الْمَاءِ إِلَى وَاسِطَ، وَنُهِبَتْ دَارُهُ فِي النَّجْمِيِّ وَدُورُ قُوَّادِهِ، وَكَانَ هَرَبُهُ سَلْخَ رَمَضَانَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مَقَامِهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.

(7/95)


ذِكْرُ إِمَارَةِ كُورَتِكِينَ الدَّيْلَمِيِّ
لَمَّا هَرَبَ الْبَرِيدِيُّ، اسْتَوْلَى كُورَتِكِينُ عَلَى الْأُمُورِ بِبَغْدَاذَ، وَدَخَلَ إِلَى الْمُتَّقِي لِلَّهِ، فَقَلَّدَهُ إِمَارَةَ الْأُمَرَاءِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدْعَى الْمُتَّقِي عَلِيَّ بْنَ عِيسَى وَأَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عِيسَى، فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَدَبَّرَ الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ بِوِزَارَةٍ، ثُمَّ إِنَّ كُورَتِكِينَ قَبَضَ تُكَيْنَكَ التُّرْكِيَّ خَامِسَ شَوَّالٍ، وَغَرَّقَهُ، وَتَفَرَّدَ بِالْأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَامَّةَ اجْتَمَعُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ شَوَّالٍ، وَتَظَلَّمُوا مِنَ الدَّيْلَمِ وَنُزُولِهِمْ فِي دُورِهِمْ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ، فَمَنَعَتِ الْعَامَّةُ الْخَطِيبَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالدَّيْلَمُ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ.

ذِكْرُ عَوْدِ ابْنِ رَائِقٍ إِلَى بَغْدَاذَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ (أَبُو بَكْرٍ) مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ مِنَ الشَّامِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَصَارَ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَتْرَاكَ الْبُجْكُمِيَّةَ لَمَّا سَارُوا إِلَى الْمَوْصِلِ، لَمْ يَرَوْا عِنْدَ ابْنِ حَمْدَانَ مَا يُرِيدُونَ، فَسَارُوا نَحْوَ الشَّامِ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ، وَكَانَ فِيهِمْ مِنَ الْقُوَّادِ تُوزُونُ، وَخَجْخَجُ، وَنُوشْتِكِينُ، وَصِيغُونُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ، أَطْمَعُوهُ فِي الْعَوْدِ إِلَى الْعِرَاقِ، ثُمَّ وَصَلَتْ إِلَيْهِ كُتُبُ الْمُتَّقِي يَسْتَدْعِيهِ، فَسَارَ مِنْ دِمَشْقَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الشَّامِ أَبَا الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُقَاتِلٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، تَنَحَّى عَنْ طَرِيقِهِ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، فَتَرَاسَلَا، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَتَصَالَحَا، وَحَمَلَ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَيْهِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسَارَ ابْنُ رَائِقٍ إِلَى بَغْدَاذَ، فَقَبَضَ كُورَتِكِينُ عَلَى الْقَرَارِيطِيِّ الْوَزِيرِ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا

(7/96)


جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ الْكَرْخِيَّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَكَانَتْ وِزَارَةُ الْقَرَارِيطِيُّ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَبَلَغَ خَبَرُ ابْنِ رَائِقٍ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، فَسَيَّرَ إِخْوَتَهُ إِلَى وَاسِطَ فَدَخَلُوهَا، وَأَخْرَجُوا الدَّيْلَمَ عَنْهَا، وَخَطَبُوا لَهُ بِوَاسِطَ، وَخَرَجَ كُورَتِكِينُ عَنْ بَغْدَاذَ إِلَى عُكْبَرَا، وَوَصَلَ إِلَيْهِ ابْنُ رَائِقٍ، فَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَاتَّصَلَتْ عِدَّةَ أَيَّامٍ.
فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْخَمِيسِ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، سَارَ ابْنُ رَائِقٍ لَيلًا مِنْ عُكْبَرَا هُوَ وَجَيْشُهُ، فَأَصْبَحَ بِبَغْدَاذَ فَدَخَلَهَا مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ هُوَ وَجَمِيعُ جَيْشِهِ، وَنَزَلَ فِي النَّجْمِيِّ، وَعَبَرَ مِنَ الْغَدِ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَلَقِيَهُ، وَرَكِبَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ مَعَهُ فِي دِجْلَةَ، ثُمَّ عَادَ وَوَصَلَ هَذَا الْيَوْمَ بَعْدَ الظُّهْرِ كُورَتِكِينُ مَعَ جَمِيعِ جَيْشِهِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِأَصْحَابِ ابْنِ رَائِقٍ، وَيَقُولُونَ: أَيْنَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْقَافِلَةُ الْوَاصِلَةُ مِنَ الشَّامِ؟ وَنَزَلُوا بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ.
وَلَمَّا دَخَلَ كُورَتِكِينُ بَغْدَاذَ أَيِسَ ابْنُ رَائِقٍ مِنْ وَلَايَتِهَا، فَأَمَرَ بِحَمْلِ أَثْقَالِهِ وَالْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ، فَرَفَعَ النَّاسُ أَثْقَالَهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ عَزَمَ (أَنْ يُنَاوِشَهُمْ) شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ قَبْلَ مَسِيرِهِ، فَأَمَرَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ أَنْ يَعْبُرُوا دِجْلَةَ وَيَأْتُوا الْأَتْرَاكَ مِنْ وَرَائِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ رَكِبَ فِي سُمَيْرِيِّةٍ، وَرَكِبَ مَعَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي عِشْرِينَ سُمَيْرِيِّةٍ، وَوَقَفُوا يَرْمُونَ الْأَتْرَاكَ بِالنُّشَّابِ، وَوَصَلَ أَصْحَابُهُ وَصَاحُوا مِنْ خَلْفِهِمْ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ مَعَ أَصْحَابِ ابْنِ رَائِقٍ يَضِجُّونَ، فَظَنَّ كُورَتِكِينُ أَنَّ الْعَسْكَرَ قَدْ جَاءَهُ مَنْ خَلْفِهِ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَاخْتَفَى هُوَ، وَرَجَمَهُمُ الْعَامَّةُ بِالْآجُرِّ وَغَيْرِهِ.
وَقَوِيَ أَمْرُ ابْنِ رَائِقٍ، وَأَخَذَ مَنِ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ مِنَ الدَّيْلَمِ فَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَكَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ اخْتَفَى بَيْنَ الْقَتْلَى، وَحُمِلَ مَعَهُمْ فِي الْجَوَالِيقِ، وَأُلْقِي فِي دِجْلَةَ فَسَلِمَ وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ دَهْرًا، وَقُتِلَ الْأَسْرَى مِنْ قُوَّادِ الدَّيْلَمِ، وَكَانُوا بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.

(7/97)


وَخَلَعَ الْمُتَّقِي عَلَى ابْنِ رَائِقٍ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَأَمَرَ جَعْفَرَ الْكَرْخِيَّ بِلُزُومِ بَيْتِهِ، وَكَانَتْ وَزَارَتُهُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَاسْتَوْلَى أَحْمَدُ الْكُوفِيُّ عَلَى الْأَمْرِ فَدَبَّرَهُ، ثُمَّ ظَفِرَ ابْنُ رَائِقٍ بِكُورَتِكِينَ فَحُبِسَ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بِالْعِرَاقِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، فَاسْتَسْقَى النَّاسُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَسُقُوا مَطَرًا قَلِيلًا لَمْ يَجْرِ مِنْهُ مِيزَابٌ، ثُمَّ اشْتَدَّ الْغَلَاءُ وَالْوَبَاءُ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ حَتَّى كَانَ يُدْفَنُ الْجَمَاعَةُ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ وَلَا يُغَسَّلُونَ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، وَرَخَّصَ الْعَقَّارُ بِبَغْدَاذَ الْأَثَاثَ حَتَّى بِيعَ مَا ثَمَنُهُ دِينَارٌ بِدِرْهَمٍ، وَانْقَضَى تِشْرِينُ الْأَوَّلُ وَتِشْرِينُ الثَّانِي، وَالْكَانُونَانِ، وَشُبَاطُ، وَلَمْ يَجِئْ مَطَرٌ غَيْرُ الْمَطَرَةِ الَّتِي عِنْدَ الِاسْتِسْقَاءِ، ثُمَّ جَاءَ الْمَطَرُ فِي آذَارَ وَنِيسَانَ.
وَفِيهَا فِي شَوَّالٍ، اسْتَوْزَرَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ أَبَا إِسْحَاقَ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الْإِسْكَافِيَّ الْمَعْرُوفَ بِالْقَرَارِيطِيَّ، بَعْدَ عَوْدِ بَنِي الْبَرِيدِيِّ مِنْ بَغْدَاذَ، وَجَعَلَ بَدْرًا الْخَرْشِيَّ حَاجِبَهُ، فَبَقِيَ وَزِيرًا إِلَى الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ كُورَتِكِينُ، وَكَانَتْ وَزَارَتُهُ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ الْكَرْخِيَّ، فَبَقِيَ وَزِيرًا إِلَى الثَّامِنِ

(7/98)


وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَزَلَهُ ابْنُ رَائِقٍ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى الْأُمُورِ بِبَغْدَاذَ، فَكَانَتْ وِزَارَتُهُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَدَبَّرَ الْأُمُورَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ كَاتِبُ ابْنِ رَائِقٍ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ بِوِزَارَةٍ.
وَفِيهَا عَادَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، بَلْ سَلَكُوا الْجَادَّةَ بِسَبَبِ طَالِبِيٍّ ظَهَرَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ وَقَوِيَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْحُمَّيَاتُ وَوَجَعُ الْمَفَاصِلِ فِي النَّاسِ، وَمَنْ عَجَّلَ الْفِصَادَ بَرِئَ وَإِلَّا طَالَ مَرَضُهُ.

[الْوَفَيَاتُ]
وَفِي أَيَّامِ الرَّاضِي تُوُفِّيَ أَبُو بِشْرٍ أَخُو مَتَّى بْنِ يُونُسَ الْحَكِيمُ الْفَيْلَسُوفُ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي شَرْحِ كُتُبِ أَرِسْطَاطَالِيسَ.
وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ، مَاتَ بُخْتَيْشُوعُ بْنُ يَحْيَى الطَّبِيبُ.
وَفِيهَا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَلْعَمِيُّ وَزِيرُ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ صَاحِبِ خُرَاسَانَ، وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ، وَكَانَ نَصْرٌ قَدْ صَرَفَهُ عَنْ وِزَارَتِهِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْجَيْهَانِيَّ.

(7/99)


وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحْتَاجٍ، وَدُفِنَ بِالصَّغَانِيَانِ. وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ الْبَرْبَهَارِيُّ رَئِيسُ الْحَنَابِلَةِ، تُوُفِّيَ مُسْتَتِرًا وَدُفِنَ فِي تُرْبَةِ نَصْرِ الْقُشُورِيِّ، وَكَانَ عُمُرُهُ سِتًّا وَسَبْعِينَ سَنَةً.

(7/100)