الكامل في التاريخ

 [ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.]
473 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ تُكَشُ عَلَى بَعْضِ خُرَاسَانَ وَأَخْذِهَا مِنْهُ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، سَارَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ إِلَى الرَّيِّ، وَعَرَضَ الْعَسْكَرَ، فَأَسْقَطَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ آلَافِ رَجُلٍ لَمْ يَرْضَ حَالَهُمْ، فَمَضَوْا إِلَى أَخِيهِ تُكَشَ، وَهُوَ بِبُوشَنْجَ، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ عَلَى أَخِيهِ مَلِكْشَاهْ، وَاسْتَوْلَى عَلَى مَرْوِ الرُّوذِ، وَمَرْوِ الشَّاهِجَانِ، وَتِرْمِذَ، وَغَيْرِهَا، وَسَارَ إِلَى نَيْسَابُورَ طَامِعًا فِي مُلْكِ خُرَاسَانَ.
وَقِيلَ: إِنَّ نِظَامَ الْمُلْكِ قَالَ لِلسُّلْطَانِ لَمَّا أَمَرَ بِإِسْقَاطِهِمْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ فِيهِمْ كَاتِبٌ، وَلَا تَاجِرٌ، وَلَا خَيَّاطٌ، وَلَا مَنْ لَهُ صَنْعَةٌ غَيْرَ الْجُنْدِيَّةِ، فَإِذَا أُسْقِطُوا لَا نَأْمَنُ أَنْ يُقِيمُوا مِنْهُمْ رَجُلًا وَيَقُولُوا هَذَا السُّلْطَانُ، فَيَكُونُ لَنَا مِنْهُمْ شُغْلٌ، وَيَخْرُجُ عَنْ أَيْدِينَا أَضْعَافُ مَا لَهُمْ مِنَ الْجَارِي إِلَى أَنْ نَظْفَرَ بِهِمْ. فَلَمْ يَقْبَلِ السُّلْطَانُ قَوْلَهُ، فَلَمَّا مَضَوْا إِلَى أَخِيهِ وَأَظْهَرَ الْعِصْيَانَ نَدِمَ عَلَى مُخَالَفَةِ وَزِيرِهِ حَيْثُ لَمْ يَنْفَعِ النَّدَمُ.
وَاتَّصَلَ خَبَرُهُ بِالسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، فَسَارَ مُجِدًّا إِلَى خُرَاسَانَ، فَوَصَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ تُكَشُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا سَمِعَ تُكَشُ بِقُرْبِهِ مِنْهَا سَارَ عَنْهَا، وَتَحَصَّنَ بِتِرْمِذَ، وَقَصَدَهُ السُّلْطَانُ، فَحَصَرَهُ بِهَا، وَكَانَ تُكَشُ قَدْ أَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، فَأَطْلَقَهُمْ، وَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا، وَنَزَلَ تُكَشُ إِلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَنَزَلَ عَنْ تِرْمِذَ.

(8/276)


ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَسَلَّمَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ تِكْرِيتَ مِنْ صَاحِبِهَا الْمَهْرَبَاط.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شِبْلٍ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، وَمِنْ شِعْرِهِ فِي الزُّهْدِ:
أَهُمُّ بِتَرْكِ الذَّنْبِ ثُمَّ يَرُدُّنِي ... طُمُوحُ شَبَابٍ بِالْغَرَامِ مُوَكَّلُ
فَمَنْ لِي إِذَا أَخَّرْتُ ذَا الْيَوْمَ تَوْبَةً ... بِأَنَّ الْمَنَايَا لِي إِلَى الشَّيْبِ تُمْهِلُ
أَأَعْجَزُ ضُعْفًا عَنْ أَدَا حَقِّ خَالِقِي
،
وَأَحْمِلُ وِزْرًا فَوْقَ مَا يُتَحَمَّلُ
وَفِيهَا أَيْضًا تُوُفِّيَ الْعَمِيدُ أَبُو مَنْصُورٍ بِالْبَصْرَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الْفَتْحِ الصُّوفِيُّ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، سَافَرَ الْكَثِيرَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ بِالْعِرَاقِ، وَالشَّامِ، وَمِصْرَ، وَأَصْبَهَانَ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِفَارِسَ، وَيُوسُفُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو الْهَيْثَمِ التَّفَكُّرِيُّ، الزَّنْجَانِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظِ وَغَيْرِهِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَأَدْرَكَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِبَادَةِ.

(8/277)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.]
474 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
ذِكْرُ خُطْبَةِ الْخَلِيفَةِ ابْنَةَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْوَزِيرَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ أَبَا نَصْرِ بْنَ جَهِيرٍ إِلَى السُّلْطَانِ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ لِنَفْسِهِ، فَسَارَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَصْبَهَانَ، إِلَى السُّلْطَانِ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ، فَأَمَرَ نِظَامُ الْمُلْكِ أَنْ يَمْضِيَ مَعَهُ إِلَى خَاتُونَ زَوْجَةِ السُّلْطَانِ فِي الْمَعْنَى، فَمَضَيَا إِلَيْهَا فَخَاطَبَاهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ مَلِكَ غَزْنَةَ وَمُلُوكَ الْخَانِيَةِ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ طَلَبُوهَا، وَخَطَبُوهَا لِأَوْلَادِهِمْ، وَبَذَلُوا أَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَإِنْ حَمَلَ الْخَلِيفَةُ هَذَا الْمَالَ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْهُمْ، فَعَرَّفَتْهَا أَرْسَلَان خَاتُونْ الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ الشَّرَفِ وَالْفَخْرِ بِالِاتِّصَالِ بِالْخَلِيفَةِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ عَبِيدُهُ وَخَدَمُهُ، وَمِثْلُ الْخَلِيفَةِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ الْمَالُ، فَأَجَابَتْ إِلَى ذَلِكَ، وَشَرَطَتْ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ الْمُعَجَّلُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَنَّهُ لَا يُبْقِي لَهُ سُرِّيَّةً وَلَا زَوْجَةً غَيْرَهَا، وَلَا يَكُونُ مَبِيتُهُ إِلَّا عِنْدَهَا، فَأُجِيبَتْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَعْطَى السُّلْطَانُ يَدَهُ، وَعَادَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَاذَ.
ذِكْرُ وَفَاةِ نُورِ الدَّوْلَةِ بْنِ مَزْيَدٍ وَإِمَارَةِ وَلَدِهِ مَنْصُورٍ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَوَّالٍ، تُوُفِّيَ نُورُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ بِمَطِيرَابَاذَ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَإِمَارَتُهُ سَبْعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمَا زَالَ مُمَدَّحًا فِي كُلِّ زَمَانٍ مَذْكُورًا بِالتَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ، وَرَثَاهُ الشُّعَرَاءُ فَأَكْثَرُوا، وَوَلِيَ بَعْدَهُ مَا كَانَ إِلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو كَامِلٍ مَنْصُورٌ، وَلَقَبُهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَاعْتَمَدَ الْجَمِيلَ،

(8/278)


وَسَارَ إِلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَاسْتَقَرَّ لَهُ الْأَمْرُ، وَعَادَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ أَيْضًا عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مُحَاصَرَةِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ مَدِينَةَ قَابِسَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ الْأَمِيرُ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، مَدِينَةَ قَابِسَ حِصَارًا شَدِيدًا، وَضَيَّقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَعَاثَ عَسَاكِرُهُ فِي بَسَاتِينِهَا الْمَعْرُوفَةِ بِالْغَابَةِ، فَأَفْسَدُوهَا.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ تُتُشْ، بَعْدَ عَوْدِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ عَنْ دِمَشْقَ، وَقَصَدَ السَّاحِلَ الشَّامِيَّ، فَافْتَتَحَ أَنْطَرْطُوسَ، وَبَعْضًا مِنَ الْحُصُونِ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ.
وَفِيهَا مَلَكَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، مَدِينَةَ حَرَّانَ، وَأَخَذَهَا مِنْ بَنِي وَثَّابٍ النُّمَيْرِيِّينَ، وَصَالَحَهُ صَاحِبُ الرُّهَا، وَنَقَشَ السِّكَّةَ بِاسْمِهِ.
وَفِيهَا سَدَّ ظَفَرٌ الْقَائِمِيُّ بَثْقَ نَهْرِ عِيسَى، وَكَانَ خَرَابًا مُنْذُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَسُدَّ مِرَارًا، وَتَخَرَّبَ إِلَى أَنْ سَدَّهُ ظَفَرٌ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ لِيَخْرُجَ الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ الَّذِي وَزَرَ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَ بَنِي جَهِيرٍ، فَأَرْسَلَهُ الْخَلِيفَةُ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ رَسُولًا، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى نِظَامِ

(8/279)


الْمُلْكِ كِتَابًا بِخَطِّهِ، يَأْمُرُهُ بِالرِّضَا عَنْ أَبِي شُجَاعٍ، فَرَضِيَ عَنْهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بَغْدَاذَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا مَاتَ ابْنُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَاسْمُهُ دَاوُدُ، فَجَزِعَ عَلَيْهِ جَزَعًا شَدِيدًا، وَحَزِنَ حُزْنًا عَظِيمًا، وَمَنَعَ مِنْ أَخْذِهِ وَغَسْلِهِ، حَتَّى تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ، وَأَرَادَ قَتْلَ نَفْسِهِ مَرَّاتٍ، فَمَنَعَهُ خَوَاصُّهُ، وَلَمَّا دُفِنَ لَمْ يُطِقِ الْمُقَامَ، فَخَرَجَ يَتَصَيَّدُ، وَأَمَرَ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ، وَجَلَسَ لَهُ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ فِي الْعَزَاءِ بِبَغْدَاذَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رِضْوَانَ أَبُو الْقَاسِمِ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ بَغْدَاذَ وَكَانَ مَرَضُهُ شَقِيقَةً، وَبَقِيَ ثَلَاثَ سِنِينَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَا يَقْدِرُ يَسْمَعُ صَوْتًا وَلَا يُبْصِرُ ضَوْءًا.
وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الْمُحَدِّثُ، وَكَانَ صَالِحًا، يُقْرِئُ الْقُرْآنَ بِمَسْجِدِهِ بِنَهْرِ الْقَلَّائِينَ.
وَتُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو الْقَاسِمِ الْبُسْرِيُّ الْبُنْدَارُ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، سَمِعَ الْمُخَلِّصَ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقَيْلِ بْنِ حَبَشٍ الْقُرَشِيُّ النَّحْوِيُّ.

(8/280)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.]
475 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
ذِكْرُ وَفَاةِ جَمَالِ الْمُلْكِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ جَمَالُ الْمُلْكِ [أَبُو] مَنْصُورِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِوَفَاتِهِ إِلَى بَغْدَاذَ فِي شَعْبَانَ، فَجَلَسَ أَخُوهُ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ لِلْعَزَاءِ، وَحَضَرَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ، وَابْنُهُ عَمِيدُ الْمُلْكِ، مُعَزِّيَيْنِ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَأَقَامَهُ مِنَ الْعَزَاءِ.
وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّ مَسَخَرَةً كَانَ لِلسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ يُعْرَفُ بَجْعَفَرِكْ يُحَاكِي نِظَامَ الْمُلْكِ، وَيَذْكُرُهُ فِي خَلَوَاتِهِ مَعَ السُّلْطَانِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ جَمَالَ الْمُلْكِ، وَكَانَ يَتَوَلَّى مَدِينَةَ بَلْخَ وَأَعْمَالَهَا، فَسَارَ مِنْ وَقْتِهِ يَطْوِي الْمَرَاحِلَ إِلَى وَالِدِهِ وَالسُّلْطَانِ، وَهَمَا بِأَصْبَهَانَ، فَاسْتَقْبَلَهُ أَخَوَاهُ، فَخْرُ الْمُلْكِ وَمُؤَيِّدُ الْمُلْكِ، فَأَغْلَظَ لَهُمَا الْقَوْلَ فِي إِغْضَائِهِمَا عَلَى مَا بَلَغَهُ عَنْ جَعْفَرِكْ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حَضْرَةِ السُّلْطَانَ رَأَى جَعْفَرِكْ يُسَارُّهُ، فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ: مِثْلُكَ يَقِفُ هَذَا الْمَوْقِفَ، وَيَنْبَسِطُ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ فِي هَذَا الْجَمْعِ! فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ أَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَى جَعْفَرِكْ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ لِسَانِهِ مِنْ قَفَاهُ وَقَطْعِهِ فَمَاتَ.
ثُمَّ سَارَ مَعَ السُّلْطَانِ وَأَبِيهِ إِلَى خُرَاسَانَ، وَأَقَامُوا بِنَيْسَابُورَ مُدَّةً، ثُمَّ أَرَادُوا الْعَوْدَ إِلَى أَصْبَهَانَ وَتَقَدَّمَهُمْ نِظَامُ الْمُلْكِ، فَأَحْضَرَ السُّلْطَانُ عَمِيدَ خُرَاسَانَ، وَقَالَ لَهُ: أَيُّمَا أَحَبُّ لَكَ رَأْسُكَ أَمْ رَأْسُ جَمَالِ الْمُلْكِ؟ فَقَالَ: بَلْ رَأْسِي. فَقَالَ: لَئِنْ لَمْ تَعْمَلْ فِي

(8/281)


قَتْلِهِ لَأَقْتُلَنَّكَ، فَاجْتَمَعَ بِخَادِمٍ يَخْتَصُّ بِخِدْمَةِ جَمَالِ الْمُلْكِ، وَقَالَ لَهُ سِرًّا: الْأَوْلَى أَنْ تَحْفَظُوا نِعْمَتَكُمْ، وَمَنَاصِبَكُمْ، وَتُدَبِّرَ فِي قَتْلِ جِمَالِ الْمُلْكِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَقْتُلَهُ، وَلَأَنْ تَقْتُلُوهُ أَنْتُمْ سِرًّا أَصْلَحُ لَكُمْ مِنْ أَنْ يَقْتُلَهُ السُّلْطَانُ ظَاهِرًا. فَظَنَّ الْخَادِمُ أَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ، فَجَعَلَ لَهُ سُمًّا فِي كُوزِ فُقَّاعٍ، فَطَلَبَ جَمَالُ الْمُلْكِ فُقَّاعًا، فَأَعْطَاهُ الْخَادِمُ ذَلِكَ الْكُوزَ، فَشَرِبَهُ فَمَاتَ، فَلَمَّا عَلِمَ السُّلْطَانُ بِمَوْتِهِ سَارَ مُجِدًّا، حَتَّى لَحِقَ نِظَامَ الْمُلْكِ، فَأَعْلَمَهُ بِمَوْتِ ابْنِهِ، وَعَزَّاهُ، وَقَالَ: أَنَا ابْنُكَ، وَأَنْتَ أَوْلَى مَنْ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ.

ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَرَدَ إِلَى بَغْدَاذَ هَذِهِ السَّنَةَ الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَكْرِيُّ، الْمَغْرِبِيُّ، الْوَاعِظُ، وَكَانَ أَشْعَرِيُّ الْمَذْهَبِ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَ نِظَامَ الْمُلْكِ، فَأَحَبَّهُ وَمَالَ إِلَيْهِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الْجِرَايَةَ الْوَافِرَةَ، فَوَعَظَ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَكَانَ يَذْكُرُ الْحَنَابِلَةَ وَيَعِيبُهُمْ، وَيَقُولُ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] ، وَاللَّهِ مَا كَفَرَ أَحْمَدُ وَلَكِنَّ أَصْحَابَهُ كَفَرُوا.
ثُمَّ إِنَّهُ قَصَدَ يَوْمًا دَارَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ بِنَهْرِ الْقَلَّائِينَ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مُشَاجَرَةٌ أَدَّتْ إِلَى الْفِتْنَةِ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَكَبَسَ دُورَ بَنِي الْفَرَّاءِ، وَأَخَذَ كُتُبَهُمْ، وَأَخَذَ مِنْهَا كِتَابَ الصِّفَاتِ (لِأَبِي يَعْلَى) فَكَانَ يُقْرَأُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْكُرْسِيِّ لِلْوَعْظِ، فَيُشَنِّعُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَرَى لَهُ مَعَهُمْ خُصُومَاتٌ وَفِتَنٌ، وَلُقِّبَ الْبَكْرِيُّ مِنَ الدِّيوَانِ بِعَلَمِ السُّنَّةِ، وَمَاتَ بِبَغْدَاذَ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ.

(8/282)


ذِكْرُ مَسِيرِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ إِلَى السُّلْطَانِ فِي رِسَالَةٍ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، أَوْصَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ إِلَى حَضْرَتِهِ، وَحَمَّلَهُ رِسَالَةً إِلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَنِظَامِ الْمُلْكِ، تَتَضَمَّنُ الشَّكْوَى مِنَ الْعَمِيدِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ أَبِي اللَّيْثِ، عَمِيدِ الْعِرَاقِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنْهِيَ مَا يَجْرِي عَلَى الْبِلَادِ مِنَ النُّظَّارِ. فَسَارَ فَكَانَ كُلَّمَا وَصَلَ إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ يَخْرُجُ أَهْلُهَا بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ يَتَمَسَّحُونَ بِرِكَابِهِ، وَيَأْخُذُونَ تُرَابَ بِغْلَتِهِ لِلْبَرَكَةِ.
وَكَانَ فِي صُحْبَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ بَغْدَاذَ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى سَاوَةَ خَرَجَ جَمِيعُ أَهْلِهَا، وَسَأَلَهُ فُقَهَاؤُهَا كُلٌّ مِنْهُمْ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَقِيَهُ أَصْحَابُ الصِّنَاعَاتِ، وَمَعَهُمْ مَا يَنْثُرُونَهُ عَلَى مِحَفَّتِهِ، فَخَرَجَ الْخَبَّازُونَ يَنْثُرُونَ الْخُبْزَ، وَهُوَ يَنْهَاهُمْ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الْفَاكِهَةِ، وَالْحَلْوَاءِ، وَغَيْرُهُمْ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأَسَاكِفَةُ، وَقَدْ عَمِلُوا مُدَاسَاتٍ لِطَافًا تَصْلُحُ لِأَرْجُلِ الْأَطْفَالِ، وَنَثَرُوهَا، فَكَانَتْ تَسْقُطُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَكَانَ الشَّيْخُ يَتَعَجَّبُ، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَيَقُولُ: مَا كَانَ حَظُّكُمْ مِنْ ذَلِكَ النِّثَارِ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ حَظُّ سَيِّدِنَا مِنْهُ، فَقَالَ: [أَمَّا] أَنَا فَغُطِّيتُ بِالْمِحَفَّةِ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ وَنِظَامُ الْمُلْكِ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ مُنَاظَرَةٌ بِحَضْرَةِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَأُجِيبَ إِلَى جَمِيعِ مَا الْتَمَسَهُ، وَلَمَّا عَادَ أُهِينَ الْعَمِيدُ (وَكُسِرَ عَمَّا كَانَ يَعْتَمِدُهُ) ، وَرُفِعَتْ يَدُهُ عَنْ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَوَاشِي الْخَلِيفَةِ.
وَلَمَّا وَصَلَ الشَّيْخُ إِلَى بِسِطَامٍ خَرَجَ إِلَيْهِ السَّهْلَكِيُّ، شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ بِهَا، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَلَمَّا سَمِعَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ بِوُصُولِهِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَاشِيًا، فَلَمَّا رَآهُ السَّهْلَكِيُّ أَلْقَى

(8/283)


نَفْسَهُ مِنْ دَابَّةٍ كَانَ عَلَيْهَا، وَقَبَّلَ يَدَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، فَقَبَّلَ أَبُو إِسْحَاقَ رِجْلَهُ، وَأَقْعَدَهُ مَوْضِعَهُ، وَجَلَسَ أَبُو إِسْحَاقَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَظْهَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ تَعْظِيمِ صَاحَبِهِ كَثِيرًا، وَأَعْطَاهُ شَيْئًا مِنْ حِنْطَةٍ ذُكِرَ أَنَّهَا مِنْ عَهْدِ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ، فَفَرِحَ بِهَا أَبُو إِسْحَاقَ.

ذِكْرُ حَصَرِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ دِمَشْقَ وَعَوْدِهِ عَنْهَا.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشْ جَمْعًا كَثِيرًا، وَسَارَ عَنْ بَغْدَاذَ، وَقَصَدَ بِلَادَ الرُّومِ: (أَنْطَاكِيَةَ وَمَا جَاوَرَهَا) ، فَسَمِعَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، صَاحِبُ حَلَبَ، الْخَبَرَ، فَخَافَهُ، فَجَمَعَ أَيْضًا الْعَرَبَ مِنْ عُقَيْلٍ، وَالْأَكْرَادَ، وَغَيْرَهُمْ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَرَاسَلَ الْخَلِيفَةَ بِمِصْرَ يَطْلُبُ مِنْهُ إِرْسَالَ نَجْدَةٍ إِلَيْهِ لِيَحْصُرَ دِمَشْقَ، فَوَعَدَهُ ذَلِكَ فَسَارَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا سَمِعَ تُتُش الْخَبَرَ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ، فَوَصَلَهَا أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَوَصَلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ أَوَاخِرَ الْمُحَرَّمِ، وَحَصَرَ الْمَدِينَةَ وَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا.
وَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ خَرَجَ إِلَيْهِ عَسْكَرُ دِمَشْقَ وَقَاتَلُوهُ، وَحَمَلُوا عَلَى عَسْكَرِهِ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَانْكَشَفُوا وَتَضَعْضَعُوا، وَانْهَزَمْتِ الْعَرَبُ، وَثَبَتَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، وَأَشْرَفَ عَلَى الْأَسْرِ وَتَرَاجَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا رَأَى شَرَفُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ، وَرَأَى أَيْضًا أَنَّ مِصْرَ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مِنْهَا عَسْكَرٌ، وَأَتَاهُ عَنْ بِلَادِهِ (الْخَبَرُ أَنَّ أَهْلَ حَرَّانَ عَصَوْا عَلَيْهِ) رَحَلَ عَنْ دِمَشْقَ إِلَى بِلَادِهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْبِلَادَ بِفَلَسْطِينَ، فَرَحَلَ أَوَّلًا إِلَى مَرْجِ الصُّفَّرِ، فَارْتَاعَ أَهْلُ دِمَشْقَ وَتُتُش وَاضْطَرَبُوا، ثُمَّ إِنَّهُ رَحَلَ مِنْ مَرْجِ الصُّفَّرِ مُشَرِّقًا فِي الْبَرِّيَّةِ

(8/284)


(وَجَدَّ فِي مَسِيرِهِ) ، فَهَلَكَ مِنَ الْمَوَاشِي الْكَثِيرُ مَعَ عَسْكَرِهِ، وَمِنَ الدَّوَابِّ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَانْقَطَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ إِلَى بَغْدَاذَ مِنْ أَصْبَهَانَ، فَخَرَجَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ إِلَى لِقَائِهِ، وَنَزَلَ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَضَرَبَ عَلَى بَابِهِ الطُّبُولَ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ الثَّلَاثِ، فَأُعْطِيَ مَالًا جَلِيلًا حَتَّى قَطَعَهُ، وَأَرْسَلَ الطُّبُولَ إِلَى تِكْرِيتَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْدَهْ الْأَصْبِهَانِيُّ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، بِأَصْبَهَانَ، وَكَانَ حَافِظًا فَاضِلًا، وَالْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ عَلِيُّ ابْنُ الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مَاكُولَا، مُصَنِّفُ كِتَابِ " الْإِكْمَالِ "، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا حَافِظًا، قَتَلَهُ مَمَالِيكُهُ الْأَتْرَاكُ بِكَرْمَانَ، وَأَخَذُوا مَالَهُ.

(8/285)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.]
476 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
ذِكْرُ عَزْلِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ عَنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ وَمَسِيرِ وَالِدِهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، عُزِلَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ عَنْ وِزَارَةِ الْخَلِيفَةِ، وَوَصَلَ يَوْمَ عُزِلَ رَسُولٌ مِنَ السُّلْطَانِ، وَنِظَامِ الْمُلْكِ، إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبَانِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمَا بَنُو جَهِيرٍ، فَأَذِنَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَسَارُوا بِجَمِيعِ أَهْلِهِمْ وَنِسَائِهِمْ إِلَى السُّلْطَانِ، فَصَادَفُوا مِنْهُ، وَمِنْ نِظَامِ الْمُلْكِ الْإِكْرَامَ وَالِاحْتِرَامَ، وَعَقَدَ السُّلْطَانُ عَلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ دِيَارَ بَكْرٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ الْكُوسَاتِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ الْعَسَاكِرَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَهَا وَيَأْخُذَهَا مِنْ بَنِي مَرْوَانَ، وَأَنْ يَخْطُبَ لِنَفْسِهِ، وَيَذْكُرَ اسْمَهُ عَلَى السِّكَّةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا.
وَلَمَّا فَارَقَ بَنُو جَهِيرٍ بَغْدَاذَ رَتَّبَ فِي الدِّيوَانِ أَبُو الْفَتْحِ الْمُظَفَّرُ ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى أَبْنِيَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا.

ذِكْرُ عِصْيَانِ أَهْلِ حَرَّانَ عَلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ وَفَتْحِهَا.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى أَهْلُ حَرَّانَ عَلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمِ بْنِ قُرَيْشٍ، وَأَطَاعُوا قَاضِيَهُمُ ابْنَ جَلَبَةَ، (وَأَرَادُوا هُمْ) وَابْنُ عُطَيْرٍ النُّمَيْرِيُّ تَسْلِيمَ الْبَلَدِ إِلَى

(8/286)


جُبْنَقْ أَمِيرِ التُّرْكُمَانِ، وَكَانَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ عَلَى دِمَشْقَ، يُحَاصِرُ تَاجَ الدَّوْلَةِ تُتُشْ بِهَا، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَعَادَ إِلَى حَرَّانَ وَصَالَحَ ابْنَ مُلَاعِبٍ، صَاحِبَ حِمْصَ، وَأَعْطَاهُ سَلَمِيَّةَ وَرَفَنِيَّةَ، وَبَادَرَ بِالْمَسِيرِ إِلَى حَرَّانَ، فَحَصَرَهَا، وَرَمَاهَا بِالْمَنْجَنِيقِ، فَخَرَّبَ مِنْ سُورِهَا بَدَنَةً، وَفَتَحَ الْبَلَدَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَأَخَذَ الْقَاضِيَ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ، فَصَلَبَهُمْ عَلَى السُّورِ.

ذِكْرُ وِزَارَةِ أَبِي شُجَاعٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ لِلْخَلِيفَةِ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْخَلِيفَةُ أَبَا الْفَتْحِ ابْنَ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ مِنَ النِّيَابَةِ فِي الدِّيوَانِ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا شُجَاعٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعَ الْوِزَارَةِ فِي شَعْبَانَ، وَلَقَّبَهُ ظَهِيرَ الدِّينِ، وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ فَأَكْثَرُوا، فَمِمَّنْ مَدَحَهُ وَهَنَّأَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْأَبِيوَرْدِيُّ بِالْقَصِيدَةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا:
هَا إِنَّهَا مُقَلُ الظِّبَاءِ الْعِينِ ... فَتَكَتْ بِسِرِّ فُؤَادِيَ الْمَكْنُونِ
وَمِنْهَا:
فَانْهَلَّ أَسْرَابُ الدُّمُوعِ كَأَنَّهَا ... مِنَحٌ يُتَابِعُهَا ظَهِيرُ الدِّينِ
ذِكْرُ قَتْلِ أَبِي الْمَحَاسِنِ بْنِ أَبِي الرِّضَا.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، (فِي شَوَّالٍ) ، قُتِلَ سَيِّدُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْمَحَاسِنِ بْنُ كَمَالِ الْمُلْكِ أَبِي الرِّضَا، وَكَانَ قَدْ قَرُبَ مِنَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ قُرْبًا عَظِيمًا، وَكَانَ أَبُوهُ يَكْتُبُ الطُّغْرَاءَ

(8/287)


فَقَالَ أَبُو الْمَحَاسِنِ لِلسُّلْطَانِ: سَلِّمْ إِلَيَّ نِظَامَ الْمُلْكِ وَأَصْحَابَهُ، وَأَنَا أُسَلِّمُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الْأَمْوَالَ، وَيَقْتَطِعُونَ الْأَعْمَالَ، وَعَظَّمَ عِنْدَهُ ذَخَائِرَهُمْ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ نِظَامَ الْمُلْكِ، فَعَمِلَ سِمَاطًا عَظِيمًا، وَأَقَامَ عَلَيْهِ مَمَالِيكَهُ، وَهُمْ أُلُوفٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَأَقَامَ خَيْلَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ عَلَى حِيَالِهِمْ، فَلَمَّا حَضَرَ السُّلْطَانُ قَالَ لَهُ: إِنَّنِي قَدْ خَدَمْتُكَ، وَخَدَمْتُ أَبَاكَ وَجَدَّكَ، وَلِي حَقُّ خِدْمَةٍ، وَقَدْ بَلَغَكَ أَخْذِي لِعُشْرِ أَمْوَالِكَ، وَصَدَقَ هَذَا، أَنَا آخُذُهُ وَأَصْرِفُهُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ الَّذِينَ جَمَعْتُهُمْ لَكَ، وَأَصْرِفُهُ أَيْضًا إِلَى الصَّدَقَاتِ، وَالصِّلَاتِ، وَالْوُقُوفِ الَّتِي أَعْظَمُ ذِكْرِهَا وَشُكْرِهَا وَأَجْرِهَا لَكَ، وَأَمْوَالِي وَجَمِيعُ مَا أَمْلِكُهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَنَا أَقْنَعُ بِمُرَقَّعَةٍ وَزَاوِيَةٍ. فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِالْقَبْضِ عَلَى أَبِي الْمَحَاسِنِ وَأَنْ تُسْمَلَ عَيْنَاهُ، وَأَنْفَذَهُ إِلَى قَلْعَةِ سَاوَةَ.
وَسَمِعَ أَبُوهُ كَمَالُ الْمُلْكِ الْخَبَرَ، فَاسْتَجَارَ بِدَارِ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَسَلِمَ، وَبَذَلَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَعُزِلَ عَنِ الطُّغْرَاءِ، وَرَتَّبَ مَكَانَهُ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ بْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ مَالِكِ بْنِ عَلَوِيٍّ عَلَى الْقَيْرَوَانِ وَأَخْذِهَا مِنْهُ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ مَالِكُ بْنُ عَلَوِيٍّ الصَّخْرِيُّ الْعَرَبَ فَأَكْثَرَ، وَسَارَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ فَحَصَرَهَا، فَقَامَ الْأَمِيرُ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ قِيَامًا تَامًّا، وَرَحَلَّهُ عَنْهَا، وَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَسَارَ مَالِكٌ مِنْهَا إِلَى الْقَيْرَوَانِ فَحَصَرَهَا وَمَلَكَهَا، فَجَرَّدَ إِلَيْهِ تَمِيمٌ الْعَسَاكِرَ الْعَظِيمَةَ، فَحَصَرُوهُ بِهَا، فَلَمَّا رَأَى مَالِكٌ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِتَمِيمٍ خَرَجَ عَنْهَا وَتَرَكَهَا، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا عَسْكَرُ تَمِيمٍ وَعَادَتْ إِلَى مُلْكِهِ كَمَا كَانَتْ.

(8/288)


ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمَّ الرُّخْصُ جَمِيعَ الْبِلَادِ فَبَلَغَ كُرُّ الْحِنْطَةِ الْجَيِّدَةِ بِبَغْدَاذَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مَرَاثِيَهُ، فَمِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْخَبَّازُ، وَالْبَنْدَنِيجِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَكَانَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاحِدَ عَصْرِهِ عِلْمًا وَزُهْدًا وَعِبَادَةً وَسَخَاءً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ فِي جَامِعِ الْقَصْرِ، وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ لِلْعَزَاءِ فِي الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ عَنِ الْعَزَاءِ.
وَكَانَ مُؤَيَّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ بِبَغْدَاذَ، فَرَتَّبَ فِي التَّدْرِيسِ أَبَا سَعْدٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْمَأْمُونِ الْمُتَوَلِّي، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ نِظَامَ الْمُلْكِ أَنْكَرَهُ، وَقَالَ: كَانَ يَجِبُ أَنْ تُغْلِقَ الْمَدْرَسَةَ بَعْدَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِبَابِ الْفِرْدَوْسِ، وَهَذَا لَمْ يُفْعَلْ عَلَى غَيْرِهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَبُو الْفَتْحِ ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَهُوَ يَنُوبُ فِي الْوِزَارَةِ، ثُمَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ الْقَصْرِ، وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ.

(8/289)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.]
477 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ وَابْنِ مَرْوَانَ وَشَرَفِ الدَّوْلَةِ.
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَسِيرِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ فِي الْعَسَاكِرِ السُّلْطَانِيَّةِ إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ سَيَّرَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ أَيْضًا جَيْشًا فِيهِمُ الْأَمِيرُ أُرْتُقُ بْنُ أَكْسَبَ، وَأَمَرَهُمْ بِمُسَاعَدَتِهِ.
وَكَانَ ابْنُ مَرْوَانَ قَدْ مَضَى إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ وَسَأَلَهُ نُصْرَتَهُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ آمِدَ، وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَرَى أَنَّ صَاحِبَهُ كَاذِبٌ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ الْمُسْتَحْكِمَةِ، وَاجْتَمَعَا عَلَى حَرْبِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، وَسَارَا إِلَى آمِدَ، وَقَدْ نَزَلَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بِنَوَاحِيهَا، فَلَمَّا رَأَى فَخْرُ الدَّوْلَةِ اجْتِمَاعَهُمَا مَالَ إِلَى الصُّلْحِ، وَقَالَ: لَا أُوثِرُ أَنْ يَحِلَّ بِالْعَرَبِ بَلَاءٌ عَلَى يَدِي. فَعَرَفَ التُّرْكُمَانُ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ، فَرَكِبُوا لَيْلًا وَأَتَوْا إِلَى الْعَرَبِ وَأَحَاطُوا بِهِمْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ وَاشْتَدَّ، فَانْهَزَمَتِ الْعَرَبُ، وَلَمْ يَحْضُرْ هَذِهِ الْوَقْعَةَ الْوَزِيرُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ، وَلَا أُرْتُقُ، وَغَنِمَ التُّرْكُمَانُ حُلَلَ الْعَرَبُ وَدَوَابَّهُمْ، وَانْهَزَمَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، وَحَمَى نَفْسَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى فَصِيلِ آمِدَ، وَحَصَرَهُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ وَمَنْ مَعَهُ. فَلَمَّا رَأَى شَرَفُ الدَّوْلَةِ أَنَّهُ مَحْصُورٌ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَرَاسَلَ الْأَمِيرَ أُرْتُقَ، وَبَذَلَ لَهُ مَالًا، وَسَأَلَهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَيُمَكِّنَهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ آمِدَ، وَكَانَ هُوَ عَلَى حِفْظِ الطُّرُقِ وَالْحِصَارِ، فَلَمَّا سَمِعَ أُرْتُقُ مَا بَذَلَ لَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ أَذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ، فَخَرَجَ مِنْهَا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقَصَدَ الرَّقَّةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُرْتُقَ بِمَا كَانَ

(8/290)


وَعَدَهُ بِهِ، وَسَارَ ابْنُ جَهِيرٍ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ وَمَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ مَنْصُورُ بْنُ مَزْيَدٍ، وَابْنُهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ، فَفَارَقُوهُ وَعَادُوا إِلَى الْعِرَاقِ، وَسَارَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ إِلَى خِلَاطَ.
وَلَمَّا اسْتَوْلَى الْعَسْكَرُ السُّلْطَانِيُّ عَلَى حُلَلِ الْعَرَبِ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، وَسَبَوْا حَرِيمَهُمْ، بَذَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَمْوَالَ، وَافَتَكَّ أَسْرَى بَنِي عُقَيْلٍ وَنِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَجَهَّزَهُمْ جَمِيعَهُمْ وَرَدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَفَعَلَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَأَسْدَى مَكْرُمَةً شَرِيفَةً، وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ فِي ذَلِكَ فَأَكْثَرُوا، فَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيفَةَ السِّنْبِسِيُّ يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي قَصِيدَةٍ:
كَمَا أَحْرَزْتَ شُكْرَ بَنِي عُقَيْلٍ ... بِآمِدَ يَوْمَ كَظَّهُمُ الْحِذَارُ
غَدَاةَ رَمَتْهُمُ الْأَتْرَاكُ طُرًّا ... بِشُهُبٍ فِي حَوَافِلِهَا ازْوِرَارُ
فَمَا جَبُنُوا، وَلَكِنْ فَاضَ بَحْرٌ ... عَظِيمٌ لَا تُقَاوِمُهُ الْبِحَارُ
فَحِينَ تَنَازَلُوا تَحْتَ الْمَنَايَا ... وَفِيهِنَّ الرَّزِيَّةُ وَالدَّمَارُ
مَنَنْتَ عَلَيْهِمُ، وَفَكَكْتَ عَنْهُمْ ... وَفِي أَثْنَاءِ حَبْلِهُمُ انْتِشَارُ
وَلَوْلَا أَنْتَ لَمْ يَنْفَكَّ مِنْهُمْ ... أَسِيرٌ حِينَ أَعْلَقَهُ الْإِسَارُ.
فِي أَبْيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَذَكَرَهَا أَيْضًا الْبَنْدَنِيجِيُّ فَأَحْسَنَ، وَلَوْلَا خَوْفُ التَّطْوِيلِ لَذَكَرْتُ أَبْيَاتِهِ.

ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمَوْصِلِ.
لَمَّا بَلَغَ السُّلْطَانَ أَنَّ شَرَفَ الدَّوْلَةِ انْهَزَمَ وَحُصِرَ بِآمِدَ لَمْ يَشُكَّ فِي أَسْرِهِ فَخَلَعَ عَلَى عَمِيدِ الدَّوْلَةِ بْنِ جَهِيرٍ، وَسَيَّرَهُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَكَاتَبَ أُمَرَاءَ التُّرْكُمَانِ بِطَاعَتِهِ، وَسَيَّرَ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ آقْسَنْقَرْ، قَسِيمَ الدَّوْلَةِ جَدَّ مُلُوكِنَا أَصْحَابِ الْمَوْصِلِ، وَهُوَ الَّذِي أَقْطَعَهُ السُّلْطَانُ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَبَ.

(8/291)


وَكَانَ الْأَمِيرُ أُرْتُقْ قَدْ قَصَدَ السُّلْطَانَ، فَعَادَ صُحْبَةَ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ مِنَ الطَّرِيقِ فَسَارَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَهْلِهَا يُشِيرُ عَلَيْهِمْ بِطَاعَةِ السُّلْطَانِ وَتَرْكِ عِصْيَانِهِ، فَفَتَحُوا لَهُ الْبَلَدَ وَسَلَّمُوهُ إِلَيْهِ، وَسَارَ السُّلْطَانُ بِنَفْسِهِ وَعَسَاكِرِهِ إِلَى بِلَادِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ لِيَمْلِكَهَا، فَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِخُرُوجِ أَخِيهِ تُكَشْ بِخُرَاسَانَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
وَرَأَى شَرَفَ الدَّوْلَةِ قَدْ خَلَصَ مِنَ الْحَصْرِ، فَأَرْسَلَ مُؤَيَّدَ الْمُلْكِ بْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ إِلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ مُقَابِلَ الرَّحْبَةِ، فَأَعْطَاهُ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ، وَأَحْضَرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَهُوَ بِالْبَوَازِيجِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ آخِرَ رَجَبٍ، وَكَانَتْ أَمْوَالُهُ قَدْ ذَهَبَتْ، فَاقْتَرَضَ مَا خَدَمَ بِهِ، وَحَمَلَ لِلسُّلْطَانِ خَيْلًا رَائِقَةً، مِنْ جُمْلَتِهَا فَرَسُهُ بَشَّارٌ وَهُوَ فَرَسُهُ الْمَشْهُورُ الَّذِي نَجَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، وَمِنْ آمِدَ أَيْضًا، وَكَانَ سَابِقًا لَا يُجَارَى، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِأَنْ يُسَابِقَ بِهِ الْخَيْلَ، فَجَاءَ سَابِقًا، فَقَامَ السُّلْطَانُ قَائِمًا لِمَا تَدَاخَلَهُ مِنَ الْعَجَبِ.
وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ النَّقِيبَ طِرَادًا الزَّيْنَبِيَّ فِي لِقَاءِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، فَلَقِيَهُ بِالْمَوْصِلِ فَزَادَ أَمْرُ الدَّوْلَةِ قُوَّةً، وَصَالَحَهُ السُّلْطَانُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى بِلَادِهِ، وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ لِحَرْبِ أَخِيهِ.

ذِكْرُ عِصْيَانِ تُكَشْ عَلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ.
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَذِكْرُ مُصَالَحَتِهِ لِلسُّلْطَانِ، فَلَمَّا كَانَ الْآنُ، وَرَأَى بُعْدَ السُّلْطَانِ عَنْهُ عَاوَدَ الْعِصْيَانَ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُؤْثِرُونَ الِاخْتِلَاطَ، فَحَسَّنُوا لَهُ مُفَارَقَةَ طَاعَةِ أَخِيهِ، فَأَجَابَهُمْ، وَسَارَ مَعَهُمْ، فَمَلَكَ مَرْوَ الرُّوذِ وَغَيْرَهَا إِلَى قَلْعَةٍ تُقَارِبُ سَرْخَسَ، وَهِيَ

(8/292)


لِمَسْعُودِ ابْنِ الْأَمِيرِ يَاخَزْ، وَقَدْ حَصَّنَهَا جُهْدَهُ، فَحَصَرُوهُ بِهَا، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ أَخْذِهَا مِنْهُ.
فَاتَّفَقَ أَبُو الْفُتُوحِ الطُّوسِيُّ، صَاحِبُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَهُوَ بِنَيْسَابُورَ، وَعَمِيدُ خُرَاسَانَ، وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ، عَلَى أَنْ يَكْتُبَ أَبُو الْفُتُوحِ مُلَطِّفًا إِلَى مَسْعُودِ بْنِ يَاخَزْ، وَكَانَ خَطُّ أَبِي الْفُتُوحِ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِخَطِّ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَيَقُولُ فِيهِ: كَتَبْتُ هَذِهِ الرُّقْعَةَ مِنَ الرَّيِّ يَوْمَ كَذَا، وَنَحْنُ سَائِرُونَ مِنَ الْغَدِ نَحْوَكَ، فَاحْفَظِ الْقَلْعَةَ، وَنَحْنُ نَكْبِسُ الْعَدُوَّ فِي لَيْلَةِ كَذَا. وَاسْتَدْعَيَا فَيْجًا يَثِقُونَ بِهِ، وَأَعْطَيَاهُ دَنَانِيرَ صَالِحَةً وَقَالَا: سِرْ نَحْوَ مَسْعُودٍ، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَى الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ فَأَقِمْ بِهِ وَنَمْ وَأَخْفِ هَذَا الْمُلَطِّفَ فِي بَعْضِ حِيطَانِهِ فَسَتَأْخُذُكَ طَلَائِعُ تُكَشْ، فَلَا تَعْتَرِفُ لَهُمْ حَتَّى يَضْرِبُوكَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ وَبَالَغُوا فَأَخْرِجْهُ لَهُمْ، وَقُلْ إِنَّكَ فَارَقْتَ السُّلْطَانَ بِالرَّيِّ، وَلَكَ مِنَّا الْحِبَاءُ وَالْكَرَامَةُ.
فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَجَرَى الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفَا، وَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْ تُكَشْ وَضُرِبَ، وَعُرِضَ عَلَى الْقَتْلِ، فَأَظْهَرَ الْمُلَطِّفَ وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ فَارَقَ السُّلْطَانَ وَنِظَامَ الْمُلْكِ بِالرَّيِّ فِي الْعَسَاكِرِ، وَهُوَ سَائِرٌ، فَلَمَّا وَقَفُوا عَلَى الْمُلَطِّفِ، وَسَمِعُوا كَلَامَ الرَّجُلِ، سَارُوا مِنْ وَقْتِهِمْ، وَتَرَكُوا خِيَامَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ، وَالْقُدُورَ عَلَى النَّارِ، فَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى مَا فِيهَا، وَعَادُوا إِلَى قَلْعَةِ وَنَجَ. وَكَانَ هَذَا مِنَ الْفَرَجِ الْعَجِيبِ. فَنَزَلَ مَسْعُودٌ وَأَخَذَ مَا فِي الْمُعَسْكَرِ. وَوَرَدَ السُّلْطَانُ إِلَى خُرَاسَانَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَوْلَا هَذَا الْفِعْلُ لَنَهَبَ تُكَشْ إِلَى بَابِ الرَّيِّ.
وَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ قَصَدَ تُكَشْ وَأَخَذَهُ وَكَانَ قَدْ حَلَفَ لَهُ بِالْأَيْمَانِ أَنَّهُ لَا يُؤْذِيهِ، وَلَا يَنَالُهُ مِنْهُ مَكْرُوهٌ، فَأَفْتَاهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ بِأَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ إِلَى وَلَدِهِ أَحْمَدَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَحْمَدُ بِكَحْلِهِ، فَكُحِلَ وَسُجِنَ.

(8/293)


ذِكْرُ فَتْحِ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشْ أَنْطَاكِيَةَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتُلْمِشْ صَاحِبُ قُونِيَةَ وَأَقْصَرَا وَأَعْمَالِهَا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، إِلَى الشَّامِ، فَمَلَكَ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَكَانَتْ بِيَدِ الرُّومِ مِنْ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
وَسَبَبُ مُلْكِ سُلَيْمَانَ أَنَّ صَاحِبَهَا الْفِرْدَوْسَ الرُّومِيَّ كَانَ قَدْ سَارَ عَنْهَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ وَرَتَّبَ بِهَا شِحْنَةً، وَكَانَ الْفِرْدَوْسُ مُسِيئًا إِلَى أَهْلِهَا. وَإِلَى جُنْدِهِ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّهُ حَبَسَ ابْنَهُ، فَاتَّفَقَ ابْنُهُ وَالشِّحْنَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشْ، وَكَاتَبُوهُ يَسْتَدْعُونَهُ، فَرَكِبَ الْبَحْرَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ وَكَثِيرٍ مِنَ الرَّجَّالَةِ وَخَرَجَ مِنْهُ، وَسَارَ فِي جِبَالٍ وَعِرَةٍ، وَمَضَايِقَ شَدِيدَةٍ، حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهَا لِلْمَوْعِدِ، فَنَصَبَ السَّلَالِيمَ، بِاتِّفَاقٍ مِنَ الشِّحْنَةِ وَمَنْ مَعَهُ، وَصَعِدَ السُّورَ، وَاجْتَمَعَ بِالشِّحْنَةِ وَأَخَذَ الْبَلَدَ فِي شَعْبَانَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَهَزَمَهُمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ عَفَا عَنْهُمْ وَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ الْمَعْرُوفَةَ بِالْقُسْيَانِ، وَأُخِذَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يُجَاوِزُ الْإِحْصَاءَ، وَأَحْسَنَ إِلَى الرَّعِيَّةِ، وَعَدَلَ فِيهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِعِمَارَةِ مَا خَرِبَ، وَمَنَعَ أَصْحَابَهُ مِنَ النُّزُولِ فِي دُورِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ.
وَلَمَّا مَلَكَ سُلَيْمَانُ أَنْطَاكِيَةَ أَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ يُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ، وَيَنْسُبُ هَذَا الْفَتْحَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَمِمَّنْ يَتَوَلَّى طَاعَتَهُ، فَأَظْهَرَ مَلِكْشَاهْ الْبِشَارَةَ بِهِ وَهَنَّأَهُ النَّاسُ، فَمِمَّنْ قَالَ فِيهِ الْأَبِيوَرْدِيُّ مِنْ قَصِيدَةٍ مَطْلَعُهَا:
لَمَعَتْ كَنَاصِيَةِ الْحِصَانِ الْأَشْقَرِ ... نَارٌ بِمُعْتَلِجِ الْكَثِيبِ الْأَعْفَرِ
وَفَتَحْتَ أَنْطَاكِيَّةَ الرُّومِ الَّتِي ... نَشَرَتْ مَعَاقِلَهَا عَلَى الْإِسْكَنْدَرِ
وَطِئَتْ مَنَاكِبَهَا جِيَادُكَ فَانْثَنَتْ ... تُلْقِي أَجِنَّتَهَا بَنَاتُ الْأَصْفَرِ.
وَهِيَ طَوِيلَةٌ.

(8/294)


ذِكْرُ قَتْلِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ وَمُلْكِ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ.
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُلْكِ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشْ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ، فَلَمَّا مَلَكَهَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ ; يَطْلُبُ مِنْهُ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ الْفِرْدَوْسُ مِنَ الْمَالِ، وَيُخَوِّفُهُ مَعْصِيَةَ السُّلْطَانِ، فَأَجَابَهُ:
أَمَّا طَاعَةُ السُّلْطَانِ، فَهِيَ شِعَارِي، وَدِثَارِي وَالْخُطْبَةُ لَهُ، وَالسِّكَّةُ فِي بِلَادِي، وَقَدْ كَاتَبْتُهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ بِسَعَادَتِهِ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ، وَأَعْمَالِ الْكُفَّارِ.
وَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ قَبْلِي، فَهُوَ كَانَ كَافِرًا، وَكَانَ يَحْمِلُ جِزْيَةَ رَأْسِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَأَنَا بِحَمْدِ اللَّهِ مُؤْمِنٌ، وَلَا أَحْمِلُ شَيْئًا، فَنَهَبَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ بَلَدَ أَنْطَاكِيَةَ، فَنَهَبَ سُلَيْمَانُ أَيْضًا بَلَدَ حَلَبَ، فَلَقِيَهُ أَهْلُ السَّوَادِ يَشْكُونَ إِلَيْهِ نَهْبَ عَسْكَرِهِ، فَقَالَ:
أَنَا كُنْتُ أَشَدَّ كَرَاهِيَةً لِمَا يَجْرِي، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ أَحْوَجَنِي إِلَى مَا فَعَلْتُ وَلَمْ تَجْرِ عَادَتِي بِنَهْبِ مَالِ مُسْلِمٍ، وَلَا أَخْذِ مَا حَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ. وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِإِعَادَةِ مَا أَخَذُوهُ مِنْهُمْ فَأَعَادَهُ.
ثُمَّ إِنَّ شَرَفَ الدَّوْلَةِ جَمَعَ الْجُمُوعَ مِنَ الْعَرَبِ وَالتُّرْكُمَانِ وَكَانَ مِمَّنْ مَعَهُ جُبُقْ أَمِيرُ التُّرْكُمَانِ فِي أَصْحَابِهِ، وَسَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ لِيَحْصُرَهَا. فَلَمَّا سَمِعَ سُلَيْمَانُ الْخَبَرَ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَيَا فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فِي طَرَفٍ مِنْ أَعْمَالِ أَنْطَاكِيَةَ، وَاقْتَتَلُوا، فَمَالَ تَرْكُمَانُ جُبُقْ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَانْهَزَمَتِ الْعَرَبُ وَتَبِعَهُمْ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُنْهَزِمًا، فَقُتِلَ بَعْدَ أَنْ صَبَرَ، وَقُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَرْبَعُمِائَةِ غُلَامٍ مِنْ أَحْدَاثِ حَلَبَ، وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] وَذَكَرْتُهُ هَاهُنَا لِتَتْبَعَ الْحَادِثَةُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَكَانَ أَحْوَلَ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ مِنَ السَّنْدِيَّةِ الَّتِي عَلَى نَهْرِ عِيسَى إِلَى مَنْبِجَ مِنَ

(8/295)


الشَّامِ، وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ فِي يَدِهِ دِيَارُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ وَحَلَبَ، وَمَا كَانَ لِأَبِيهِ وَعَمِّهِ قِرْوَاشَ، وَكَانَ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، وَالْأَمْنُ فِي بِلَادِهِ عَامٌّ، وَالرُّخْصُ شَامِلٌ، وَكَانَ يَسُوسُ بِلَادَهُ سِيَاسَةً عَظِيمَةً بِحَيْثُ يَسِيرُ الرَّاكِبُ وَالرَّاكِبَانِ فَلَا يَخَافَانِ شَيْئًا. وَكَانَ لَهُ فِي كُلِّ بَلَدٍ وَقَرْيَةٍ عَامِلٌ، وَقَاضٍ، وَصَاحِبُ خَبَرٍ، بِحَيْثُ لَا يَتَعَدَّى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ.
وَلَمَّا قُتِلَ قَصَدَ بَنُو عُقَيْلٍ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مَحْبُوسٌ، فَأَخْرَجُوهُ وَمَلَّكُوهُ أَمْرَهُمْ، وَكَانَ قَدْ مَكَثَ فِي الْحَبْسِ سِنِينَ كَثِيرَةً بِحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَشْيُ وَالْحَرَكَةُ لَمَّا أُخْرِجَ، وَلَمَّا قُتِلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ سَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتُلْمِشْ إِلَى حَلَبَ فَحَصَرَهَا مُسْتَهَلَّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا إِلَى خَامِسِ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنَ السَّنَةِ، فَلَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا غَرَضًا، فَرَحَلَ عَنْهَا.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، انْقَضَّ كَوْكَبٌ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، كَانَ حَجْمُهُ كَالْقَمَرِ وَضَوْءُهُ كَضَوْئِهِ، وَسَارَ مَدًى بَعِيدًا عَلَى مَهَلٍ وَتُؤَدَةٍ فِي نَحْوِ سَاعَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ مِنَ الْكَوَاكِبِ.
وَفِيهَا وُلِدَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ مَلِكْشَاهْ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، بِمَدِينَةٍ سِنْجَارَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ مُقَارِبَ الْمَوْصِلِ بَيْنَهُمَا يَوْمَانِ، عِنْدَ نُزُولِ السُّلْطَانِ بِهَا، وَسَمَّاهُ أَحْمَدَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ سَنْجَرْ بَاسِمِ الْمَدِينَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ.

(8/296)


[الْوَفَيَاتُ]
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ السَّيِّدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الصَّبَّاغِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْكَامِلِ، وَكِفَايَةِ الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّصَانِيفِ، بَعْدَ أَنْ أَضَرَّ عِدَّةَ سِنِينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ.
وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَغْدَاذِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَقَّالِ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ إِلَيْهِ الْقَضَاءُ بِبَابِ الْأَزْجِ، وَحَجَّ لَمَّا انْقَطَعَ الْحَجُّ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ.
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعَدَةَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْقَاسِمِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، الْجُرْجَانِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ إِمَامًا فَقِيهًا شَافِعِيًّا، مُحَدِّثًا، أَدِيبًا، وَدَارُهُ مَجْمَعُ الْعُلَمَاءِ.

(8/297)