الكامل في التاريخ
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.]
478 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ الْفِرِنْجِ عَلَى مَدِينَةِ طُلَيْطُلَةَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ،
عَلَى مَدِينَةِ طُلَيْطُلَةَ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ،
وَأَخَذُوهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْبِلَادِ
وَأَحْصَنِهَا.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَذْفُونْش، مَلِكَ الْفِرِنْجِ
بِالْأَنْدَلُسِ، كَانَ قَدْ قَوِيَ شَأْنُهُ، وَعَظُمَ مُلْكُهُ
وَكَثُرَتْ عَسَاكِرُهُ، مُذْ تَفَرَّقَتْ بِلَادُ الْأَنْدَلُسِ،
وَصَارَ كُلُّ بَلَدٍ بِيَدِ مَلِكٍ، فَصَارُوا مِثْلَ مُلُوكِ
الطَّوَائِفِ، فَحِينَئِذٍ طَمِعَ الْفِرِنْجُ فِيهِمْ، وَأَخَذُوا
كَثِيرًا مِنْ ثُغُورِهِمْ.
وَكَانَ قَدْ خَدَمَ قَبْلَ ذَلِكَ صَاحِبَهَا الْقَادِرَ بِاللَّهِ
بْنَ الْمَأْمُونِ بْنِ يَحْيَى بْنِ ذِي النُّونِ، وَعَرَفَ مِنْ
أَيْنَ يُؤْتَى الْبَلَدُ، وَكَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى مُلْكِهِ.
فَلَمَّا كَانَ الْآنُ جَمَعَ الْأَذْفُونْشْ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ
إِلَى مَدِينَةِ طُلَيْطُلَةَ فَحَصَرَهَا سَبْعَ سِنِينَ، وَأَخَذَهَا
مِنَ الْقَادِرِ، فَازْدَادَ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِهِ.
وَكَانَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبَّادٍ أَعْظَمَ مُلُوكِ الْأَنْدَلُسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
وَكَانَ يَمْلِكُ أَكْثَرَ الْبِلَادِ مِثْلَ قُرْطُبَةَ
وَإِشْبِيلِيَّةَ، وَكَانَ يُؤَدِّي إِلَى الْأَذْفُونْشْ ضَرِيبَةً
كُلَّ سَنَةٍ. فَلَمَّا مَلَكَ الْأَذْفُونْشْ طُلَيْطُلَةَ أَرْسَلَ
إِلَيْهِ الْمُعْتَمِدُ الضَّرِيبَةَ عَلَى عَادَتِهِ، فَرَدَّهَا
عَلَيْهِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ أَنَّهُ يَسِيرُ إِلَى مَدِينَةَ
قُرْطُبَةَ وَيَتَمَلَّكُهَا إِلَّا أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ جَمِيعَ
الْحُصُونِ الَّتِي فِي الْجَبَلِ، وَيُبْقِيَ السَّهْلَ
لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ الرَّسُولُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ كَانُوا
خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَنْزَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ،
وَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ عَلَى قُوَّادِ عَسْكَرِهِ، ثُمَّ أَمَرَ كُلَّ
مَنْ عِنْدَهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَأَحْضَرَ الرَّسُولَ
وَصَفَعَهُ حَتَّى خَرَجَتْ عَيْنَاهُ، وَسَلِمَ مِنَ الْجَمَاعَةِ
ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَعَادُوا إِلَى الْأَذْفُونْشْ
(8/298)
فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ وَكَانَ
مُتَوَجِّهًا إِلَى قُرْطُبَةَ لِيُحَاصِرَهَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ
الْخَبَرُ عَادَ إِلَى طُلَيْطُلَةَ لِيَجْمَعَ آلَاتِ الْحِصَارِ،
وَرَحَلَ الْمُعْتَمِدُ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ.
ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ ابْنِ جَهِيرٍ عَلَى آمِدَ.
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ ابْنُ جَهِيرٍ آمِدَ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ فَخْرَ الدَّوْلَةِ بْنَ جَهِيرٍ كَانَ قَدْ
أَنْفَذَ إِلَيْهَا وَلَدَهُ زَعِيمَ الرُّؤَسَاءِ أَبَا الْقَاسِمِ،
وَمَعَهُ جَنَاحُ الدَّوْلَةِ، الْمَعْرُوفُ بِالْمُقَدَّمِ
السَّالَارِ، وَأَرَادُوا قَلْعَ كُرُومِهَا وَبَسَاتِينِهَا، وَلَمْ
يَطْمَعْ مَعَ ذَلِكَ فِي فَتْحِهَا لِحَصَانَتِهَا، فَعَمَّ أَهْلَهَا
الْجُوعُ وَتَعَذَّرَتِ الْأَقْوَاتُ، وَكَادُوا يَهْلِكُونَ وَهُمْ
صَابِرُونَ عَلَى الْحِصَارِ، غَيْرُ مُكْتَرِثِينَ لَهُ.
فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ الْجُنْدِ نَزَلَ مِنَ السُّورِ لِحَاجَةٍ
لَهُمْ، وَتَرَكُوا أَسْلِحَتَهُمْ مَكَانَهَا، فَصَعِدَ إِلَى ذَلِكَ
الْمَكَانِ عَدَدٌ مِنَ الْعَامَّةِ تَقَدَّمَهُمْ رَجُلٌ مِنَ
السَّوَادِ يُعْرَفُ بِأَبِي الْحَسَنِ فَلَبِسَ السِّلَاحَ، وَوَقَفَ
عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَنَادَى بِشِعَارِ السُّلْطَانِ وَفَعَلَ
مَنْ مَعَهُ كَفِعْلِهِ، وَطَلَبُوا زَعِيمَ الرُّؤَسَاءِ فَأَتَاهُمْ
وَمَلَكَ الْبَلَدَ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى نَهْبِ
بُيُوتِ النَّصَارَى لِمَا كَانُوا يَلْقَوْنَ مِنْ نُوَّابِ بَنِي
مَرْوَانَ مِنَ الْجَوْرِ وَالْحُكْمِ، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ نَصَارَى،
فَانْتَقَمُوا مِنْهُمْ.
ذِكْرُ مِلْكِهِ أَيْضًا مَيَّافَارِقِينَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، فِي سَادِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ،
مَلَكَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ مَيَّافَارِقِينَ، وَكَانَ مُقِيمًا عَلَى
حِصَارِهَا، فَوَصَلَ إِلَيْهِ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينْ فِي
عَسْكَرِهِ نَجْدَةً لَهُ
(8/299)
فَجَدَّ فِي الْقِتَالِ فَسَقَطَ مِنْ
سُورِهَا قِطْعَةٌ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُهَا ذَلِكَ نَادَوْا
بِشِعَارِ مَلِكْشَاهْ، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَى فَخْرِ
الدَّوْلَةِ وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ
بَنِي مَرْوَانَ وَأَنْفَذَهُ إِلَى السُّلْطَانِ مَعَ ابْنِهِ زَعِيمِ
الرُّؤَسَاءِ، فَانْحَدَرَ هُوَ وَكُوهَرَائِينْ إِلَى بَغْدَاذَ،
وَسَارَ زَعِيمُ الرُّؤَسَاءِ مِنْهَا إِلَى أَصْبَهَانَ، فَوَصَلَهَا
فِي شَوَّالٍ، وَأَوْصَلَ مَا مَعَهُ إِلَى السُّلْطَانِ.
ذِكْرُ مُلْكِ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ جَيْشًا إِلَى
جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَهِيَ لِبَنِي مَرْوَانَ أَيْضًا،
فَحَصَرُوهَا، فَثَارَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ أَهْلِهَا يُقَالُ لَهُمْ
بَنُو وَهْبَانَ، وَهُمْ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا، وَقَصَدُوا بَابًا
لِلْبَلَدِ صَغِيرًا يُقَالُ لَهُ بَابُ الْبُوَيْبَةِ لَا يَسْلُكُهُ
إِلَّا الرَّجَّالَةُ لِأَنَّهُ يُصْعَدُ إِلَيْهِ مِنْ ظَاهِرِ
الْبَلَدِ بِدَرَجٍ، فَكَسَرُوهُ، وَأَدْخَلُوا الْعَسْكَرَ،
فَمَلَكَهُ، وَانْقَرَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي مَرْوَانَ، فَسُبْحَانَ مَنْ
لَا يَزُولُ مُلْكُهُ.
وَهَؤُلَاءِ بَنُو وَهْبَانَ، إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، كُلَّمَا جَاءَ
إِلَى الْجَزِيرَةِ مَنْ يَحْصُرُهَا يَخْرُجُونَ مِنَ الْبَلَدِ،
وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ، وَلَا مَنْزِلَةٌ يَفْعَلُ
بِهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا بِتِلْكَ الْحَرَكَةِ يُؤْخَذُونَ إِلَى
الْآنِ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، (فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ) ، وَصَلَ أَمِيرُ
الْجُيُوشِ فِي عَسَاكِرِ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، فَحَصَرَ دِمَشْقَ،
وَبِهَا صَاحِبُهَا تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشْ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِ،
وَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَرَحَلَ عَنْهَا
عَائِدًا إِلَى مِصْرَ.
(8/300)
وَفِيهَا كَانَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ
أَهْلِ الْكَرْخِ وَسَائِرِ الْمَحَالِّ مِنْ بَغْدَاذَ، وَأَحْرَقُوا
مِنْ نَهْرِ الدَّجَاجِ دَرْبَ الْآجُرِّ وَمَا قَارَبَهُ، وَأَرْسَلَ
الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ جَمَاعَةً مِنَ الْجُنْدِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ
سَفْكِ الدِّمَاءِ تَحَرُّجًا مِنَ الْإِثْمِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ
تَلَافِي الْخَطْبِ فَعَظُمَ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ بِخُوزِسْتَانَ وَفَارِسَ،
وَكَانَ أَشَدُّهَا بِأَرَّجَانَ، فَسَقَطَتِ الدُّورُ، وَهَلَكَ
تَحْتَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، هَاجَتْ رِيحٌ عَظِيمَةٌ سَوْدَاءُ
بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَكَثُرَ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ، وَسَقَطَ عَلَى
الْأَرْضِ رَمْلٌ أَحْمَرُ وَتُرَابٌ كَثِيرٌ، وَكَانَتِ النِّيرَانُ
تَضْطَرِمُ فِي أَطْرَافِ السَّمَاءِ، وَكَانَ أَكْثَرُهَا
بِالْعِرَاقِ وَبِلَادِ الْمَوْصِلِ، فَأَلْقَتِ النَّخِيلَ
وَالْأَشْجَارَ وَسَقَطَ مَعَهَا صَوَاعِقُ فِي كَثِيرٍ مِنَ
الْبِلَادِ، حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ
ثُمَّ انْجَلَى ذَلِكَ نِصْفَ اللَّيْلِ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، تُوُفِّيَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
أَبُو الْمَعَالِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ
الْجُوَيْنِيُّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ فِي الْفِقْهِ
وَالْأُصُولَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُلُومِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ.
(8/301)
وَفِيهَا، فِي ذِي الْحِجَّةِ، تُوُفِّيَ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
الْوَلِيدِ أَبُو عَلِيٍّ الْمُتَكَلِّمُ، كَانَ أَحَدَ رُؤَسَاءِ
الْمُعْتَزِلَةِ وَأَئِمَّتِهِمْ، وَلَزِمَ بَيْتَهُ خَمْسِينَ سَنَةً
لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مِنْ عَامَّةِ بَغْدَاذَ، وَأَخَذَ
الْكَلَامَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ
الْهَمَذَانِيِّ الْقَاضِي، وَمِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ ابْنُ
بُرْهَانَ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ هِبَةُ
اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ السِّيبِيِّ، قَاضِي الْحَرِيمِ، بِنَهْرِ
مُعَلَّى، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَكَانَ يُذَاكِرُ الْإِمَامَ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَوَلِيَ
أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بَيْنَ يَدَيْ قَاضِي الْقُضَاةِ
ابْنِ الدَّامَغَانِيِّ.
وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ أَبُو الْعِزِّ بْنُ
صَدَقَةَ، وَزِيرُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ قَدْ
قَبَضَ عَلَيْهِ شَرَفُ الدَّوْلَةِ وَسَجَنَهُ بِالرَّحْبَةِ،
فَهَرَبَ مِنْهَا إِلَى بَغْدَاذَ، فَمَاتَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى
مَأْمَنِهِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ كَرِيمًا مُتَوَاضِعًا لَمْ
تُغَيِّرْهُ الْوِلَايَةُ عَنْ إِخْوَانِهِ.
وَفِيهَا، فِي رَجَبٍ، تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ بْنُ الدَّامَغَانِيِّ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَدَخَلَ بَغْدَاذَ سَنَةَ تِسْعَ
عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ قَدْ صَحِبَ الْقَاضِي أَبَا
الْعَلَاءِ بْنَ صَاعِدٍ، وَحَضَرَ بِبَغْدَاذَ مَجْلِسَ أَبِي
الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيُّ، وَوَلِيَهُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بَعْدَهُ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ بَكْرَانَ الشَّامِيُّ،
وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيِّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَأْمُونِ بْنِ عَلِيٍّ)
أَبُو سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ
أَصْحَابِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ وَتَمَّمَ كِتَابَ "
الْإِبَانَةِ ".
(8/302)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ.]
479 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
ذِكْرُ قَتْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشْ.
لَمَّا قَتَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتُلْمِشْ شَرَفَ الدَّوْلَةِ
مُسْلِمَ بْنَ قُرَيْشٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ
الْحُتَيْتِيِّ الْعَبَّاسِيِّ، مُقَدِّمِ أَهْلِ حَلَبَ، يَطْلُبُ
مِنْهُ تَسْلِيمَهَا إِلَيْهِ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ، وَاسْتَمْهَلَهُ
إِلَى أَنْ يُكَاتِبَ السُّلْطَانَ مَلِكْشَاهْ، وَأَرْسَلَ ابْنُ
الْحُتَيْتِيِّ إِلَى تُتُشْ، صَاحِبِ دِمَشْقَ، يَعِدُهُ أَنْ
يُسَلِّمَ إِلَيْهِ حَلَبَ، فَسَارَ تُتُشْ طَالِبًا لِحَلَبَ،
فَعَلِمَ سُلَيْمَانُ بِذَلِكَ، فَسَارَ نَحْوَهُ مُجِدًّا، فَوَصَلَ
إِلَى تُتُشْ وَقْتَ السَّحَرِ عَلَى غَيْرِ تَعْبِئَةٍ، فَلَمْ
يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى قَرُبَ مِنْهُ، فَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ.
وَكَانَ الْأَمِيرُ أُرْتُقُ بْنُ أَكْسَبَ مَعَ تُتُشْ، وَكَانَ
مَنْصُورًا لَمْ يَشْهَدْ حَرْبًا إِلَّا وَكَانَ الظَّفَرُ لَهُ،
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ حُضُورَهُ مَعَ ابْنِ جَهِيرٍ عَلَى
آمِدَ، وَإِطْلَاقِهِ شَرَفَ الدَّوْلَةِ مِنْ آمِدَ، فَلَمَّا فَعَلَ
ذَلِكَ خَافَ أَنْ يُنْهِيَ ابْنُ جَهِيرٍ ذَلِكَ إِلَى السُّلْطَانِ،
فَفَارَقَ خِدْمَتَهُ، وَلَحِقَ بِتَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشْ،
فَأَقْطَعَهَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، وَحَضَرَ مَعَهُ هَذِهِ
الْحَرْبَ، فَأَبْلَى فِيهَا بَلَاءً حَسَنًا، وَحَرَّضَ الْعَرَبَ
عَلَى الْقِتَالِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ، وَثَبَتَ وَهُوَ
فِي الْقَلْبِ، فَلَمَّا رَأَى انْهِزَامَ عَسَاكِرِهِ أَخْرَجَ
سِكِّينًا مَعَهُ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، وَقِيلَ بَلْ قُتِلَ فِي
الْمَعْرَكَةِ، وَاسْتَوْلَى تُتُشْ عَلَى عَسْكَرِهِ.
وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتُلْمِشْ، فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ (فِي
صَفَرٍ) ، قَدْ أَنْفَذَ جُثَّةَ شَرَفِ
(8/303)
الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ عَلَى بَغْلٍ
مَلْفُوفَةً فِي إِزَارٍ، وَطَلَبَ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ يُسَلِّمُوهَا
إِلَيْهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، أَرْسَلَ تُتُشْ جُثَّةَ
سُلَيْمَانَ فِي إِزَارٍ لِيُسَلِّمُوهَا إِلَيْهِ، فَأَجَابَهُ ابْنُ
الْحُتَيْتِيِّ أَنَّهُ يُكَاتِبُ السُّلْطَانَ، وَمَهْمَا أَمَرَهُ
فَعَلَ، فَحَصَرَ تُتُش الْبَلَدَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ، وَضَيَّقَ
عَلَى أَهْلِهِ.
وَكَانَ ابْنُ الْحُتَيْتِيِّ قَدْ سَلَّمَ كُلَّ بُرْجٍ مِنْ
أَبْرَاجِهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ لِيَحْفَظَهُ،
وَسَلَّمَ بُرْجًا فِيهَا إِلَى إِنْسَانٍ يُعَرَفُ بِابْنِ
الرَّعَوِيِّ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْحُتَيْتِيِّ أَوْحَشَهُ بِكَلَامٍ
أَغْلَظَ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ شَدِيدَ الْقُوَّةِ،
وَرَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ، فَدَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ
إِلَى أَنْ أَرْسَلَ إِلَى تُتُشْ يَسْتَدْعِيهِ، وَوَاعَدَهُ لَيْلَةً
يَرْفَعُ الرِّجَالُ إِلَى السُّورِ فِي الْحِبَالِ، فَأَتَى تُتُشْ
لِلْمِيعَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ، فَأَصْعَدَ الرِّجَالَ فِي الْحِبَالِ
وَالسَّلَالِيمِ، وَمَلَكَ تُتُش الْمَدِينَةَ، وَاسْتَجَارَ ابْنُ
الْحُتَيْتِيِّ بِالْأَمِيرِ أُرْتُقُ فَشَفَعَ فِيهِ، وَأَمَّا
الْقَلْعَةُ فَكَانَ بِهَا سَالِمُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَدْرَانَ،
وَهُوَ ابْنُ عَمِّ شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمِ بْنِ قُرَيْشٍ،
فَأَقَامَ تُتُشْ يَحْصُرُ الْقَلْعَةَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا،
فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ بِوُصُولِ مُقَدِّمَةِ أَخِيهِ السُّلْطَانِ
مَلِكْشَاهْ، فَرَحَلَ عَنْهَا.
ذِكْرُ مُلْكِ السُّلْطَانِ حَلَبَ وَغَيْرِهَا.
كَانَ ابْنُ الْحُتَيْتِيِّ قَدْ كَاتَبَ السُّلْطَانَ مَلِكْشَاهْ
يَسْتَدْعِيهِ لِيُسَلِّمَ إِلَيْهِ حَلَبَ، لَمَّا خَافَ تَاجَ
الدَّوْلَةِ تُتُشْ، فَسَارَ إِلَيْهِ مِنْ أَصْبَهَانَ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْأَمِيرَ بُرْسُقَ،
وَبُوزَانَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ
عَلَى الْمَوْصِلِ، فَوَصَلَهَا فِي رَجَبٍ، وَسَارَ مِنْهَا، فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَى حَرَّانَ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ ابْنُ الشَّاطِرِ،
فَأَقْطَعَهَا السُّلْطَانُ لِمُحَمَّدِ بْنِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ،
وَسَارَ إِلَى الرُّهَا، وَهِيَ بَيَدِ الرُّومِ، فَحَصَرَهَا
وَمَلَكَهَا، وَكَانُوا قَدِ اشْتَرَوْهَا مِنِ ابْنِ عُطَيْرٍ،
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ جَعْبَرٍ،
فَحَصَرَهَا يَوْمًا
(8/304)
وَلَيْلَةً وَمَلَكَهَا، وَقَتَلَ مَنْ
بِهَا مَنْ بَنِي قُشَيْرٍ، وَأَخَذَ جَعْبَرَ مِنْ صَاحَبِهَا، وَهُوَ
شَيْخٌ أَعْمَى، وَوَلَدَيْنِ لَهُ، وَكَانَتِ الْأَذِيَّةُ بِهِمْ
عَظِيمَةٌ يَقْطَعُونَ الطُّرُقَ وَيَلْجَئُونَ إِلَيْهَا.
ثُمَّ عَبَرَ الْفُرَاتَ إِلَى مَدِينَةِ حَلَبَ، فَمَلَكَ فِي
طَرِيقِهِ مَدِينَةَ مَنْبِجَ، فَلَمَّا قَارَبَ حَلَبَ رَحَلَ عَنْهَا
أَخُوهُ تُتُشْ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ الْمَدِينَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ،
وَسَارَ عَنْهَا يَسْلُكُ الْبَرِّيَّةَ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ
أُرْتُقُ، فَأَشَارَ بِكَبْسِ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، وَقَالَ:
إِنَّهُمْ قَدْ وَصَلُوا، وَبِهِمْ وَبِدَوَابِّهِمْ مِنَ التَّعَبِ
مَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَعَهُ امْتِنَاعٌ، وَلَوْ فَعَلَ لَظَفِرَ
بِهِمْ.
فَقَالَ تُتُشْ: لَا أَكْسِرُ جَاهَ أَخِي الَّذِي أَنَا مُسْتَظِلٌّ
بِظِلِّهِ، فَإِنَّهُ يَعُودُ بِالْوَهَنِ عَلَيَّ أَوَّلًا.
وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى حَلَبَ
تَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ سَالِمُ بْنُ مَالِكٍ
الْقَلْعَةَ عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا قَلْعَةَ جَعْبَرٍ،
وَكَانَ سَالِمٌ قَدِ امْتَنَعَ بِهَا أَوَّلًا، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ
أَنْ يُرْمَى إِلَيْهِ رَشْقًا وَاحِدًا بِالسِّهَامِ، فَرَمَى
الْجَيْشُ، فَكَادَتِ الشَّمْسُ تَحْتَجِبُ لِكَثْرَةِ السِّهَامِ،
فَصَانَعَ عَنْهَا بِقَلْعَةِ جَعْبَرٍ وَسَلَّمَهَا، وَسَلَّمَ
السُّلْطَانُ إِلَيْهِ قَلْعَةَ جَعْبَرٍ، فَبَقِيَتْ بِيَدِهِ
وَبِيَدِ أَوْلَادِهِ إِلَى أَنْ أَخَذَهَا مِنْهُمْ نُورُ الدِّينِ
مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُنْقِذٍ
الْكِنَانِيُّ، صَاحِبُ شَيْزَرَ، فَدَخَلَ فِي طَاعَتِهِ، وَسَلَّمَ
إِلَيْهِ اللَّاذِقِيَّةَ، وَكَفَرْطَابَ، وَأَفَامِيَةَ، فَأَجَابَهُ
إِلَى الْمُسَالَمَةِ، وَتَرَكَ قَصْدَهُ، وَأَقَرَّ عَلَيْهِ
شَيْزَرَ.
وَلَمَّا مَلَكَ السُّلْطَانُ حَلَبَ سَلَّمَهَا إِلَى قَسِيمِ
الدَّوْلَةِ آقْسَنْقَرَ، فَعَمَّرَهَا، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِيهَا.
(8/305)
وَأَمَّا ابْنُ الْحُتَيْتِيِّ فَإِنَّهُ
كَانَ وَاثِقًا بِإِحْسَانِ السُّلْطَانِ وَنِظَامِ الْمُلْكِ
إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ اسْتَدْعَاهُمَا، فَلَمَّا مَلَكَ السُّلْطَانُ
الْبَلَدَ طَلَبَ أَهْلُهُ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنِ ابْنِ
الْحُتَيْتِيِّ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ،
وَأَرْسَلَهُ إِلَى دِيَارِ بَكْرٍ، فَافْتَقَرَ، وَتُوُفِّيَ بِهَا
عَلَى حَالٍ شَدِيدَةٍ مِنَ الْفَقْرِ، وَقُتِلَ وَلَدُهُ
بِأَنْطَاكِيَةَ، قَتَلَهُ الْفِرِنْجُ لَمَّا مَلَكُوهَا.
ذِكْرُ وَفَاةِ بِهَاءِ الدَّوْلَةِ مَنْصُورِ بْنِ مَزْيَدٍ
وَوِلَايَةِ ابْنِهِ صَدَقَةَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ بِهَاءُ
الدَّوْلَةِ أَبُو كَامِلٍ مَنْصُورُ بْنُ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ، صَاحِبِ الْحُلَّةِ، وَالنِّيلِ، وَغَيْرِهِمَا
(مِمَّا يُجَاوِرُهَا) ، وَلَمَّا سَمِعَ نِظَامُ الْمُلْكِ خَبَرَ
وَفَاتِهِ قَالَ: مَاتَ أَجَلُّ صَاحِبِ عِمَامَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا
قَرَأَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ بُرْهَانَ، فَبَرَعَ بِذَكَائِهِ فِي
الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْهُ وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ:
فَإِنْ أَنَا لَمْ أَحْمِلْ عَظِيمًا وَلَمْ أَقُدْ ... لُهَامًا
وَلَمْ أَصْبِرْ عَلَى فِعْلِ مُعَظْمِ
وَلَمْ أُجِرِ الْجَانِي، وَأَمْنَعَ حَوْزَهُ ... غَدَاةَ أُنَادِي
لِلْفَخَارِ وَأَنْتَمِي.
وَلَهُ فِي صَاحِبٍ لَهُ يُكَنَّى أَبَا مَالِكٍ يَرْثِيهِ:
فَإِنْ كَانَ أَوْدَى خِدْنُنَا، وَنَدِيمُنَا ... أَبُو مَالِكٍ،
فَالنَّائِبَاتُ تَنُوبُ
فَكُلُّ ابْنِ أُنْثَى لَا مَحَالَةَ مَيِّتٌ ... وَفِي كُلِّ حَيٍّ
لِلْمَنُونِ نَصِيبُ
وَلَوْ رَدَّ حُزْنٌ، أَوْ بُكَاءٌ لِهَالِكٍ ... بَكَيْنَاهُ مَا
هَبَّتْ صَبًا وَجَنُوبُ.
(8/306)
وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ
إِلَى وَلَدِهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ نَقِيبَ الْعَلَوِيِّينَ
أَبَا الْغَنَائِمِ يُعَزِّيهِ، وَسَارَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى
السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَوَلَّاهُ مَا كَانَ
لِأَبِيهِ، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مَرَاثِي بَهَاءِ الدَّوْلَةِ.
ذِكْرُ وَقْعَةِ الزَّلَّاقَةِ بِالْأَنْدَلُسِ وَهَزِيمَةِ
الْفِرِنْجِ.
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُلْكِ الْفِرِنْجِ طُلَيْطُلَةَ، وَمَا
فَعَلَهُ الْمُعْتَمِدُ بْنُ عَبَّادٍ بِرَسُولِ الْأَذْفُونْشِ،
مَلِكِ الْفِرِنْجِ، وَعَوْدِ الْمُعْتَمِدِ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ.
فَلَمَّا عَادَ إِلَيْهَا، وَسَمِعَ مَشَايِخُ قُرْطُبَةَ بِمَا جَرَى،
وَرَأَوْا قُوَّةَ الْفِرِنْجِ، وَضَعْفَ الْمُسْلِمِينَ،
وَاسْتِعَانَةَ بَعْضِ مُلُوكِهِمْ بِالْفِرِنْجِ عَلَى بَعْضٍ،
اجْتَمَعُوا وَقَالُوا: هَذِهِ بِلَادُ الْأَنْدَلُسِ قَدْ غَلَبَ
عَلَيْهَا الْفِرِنْجُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ،
وَإِنِ اسْتَمَرَّتِ الْأَحْوَالُ عَلَى مَا نَرَى عَادَتْ
نَصْرَانِيَّةً كَمَا كَانَتْ.
وَسَارُوا إِلَى الْقَاضِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
أَدْهَمَ، فَقَالُوا لَهُ: أَلَا تَنْظُرُ إِلَى مَا فِيهِ
الْمُسْلِمُونَ مِنَ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ، وَعَطَائِهِمُ
الْجِزْيَةَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَأْخُذُونَهَا، وَقَدَ رَأَيْنَا
رَأْيًا نَعْرِضُهُ عَلَيْكَ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالُوا: نَكْتُبُ
إِلَى غَرْبِ إِفْرِيقِيَّةَ وَنَبْذُلُ لَهُمْ، فَإِذَا وَصَلُوا
إِلَيْنَا قَاسَمْنَاهُمْ أَمْوَالَنَا، وَخَرْجَنَا مَعَهُمْ
مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: نَخَافُ، إِذَا وَصَلُوا
إِلَيْنَا، يُخَرِّبُونَ بِلَادَنَا، كَمَا فَعَلُوا بِإِفْرِيقِيَّةَ،
وَيَتْرُكُونَ الْفِرِنْجَ وَيَبْدَءُونَ بِكُمْ، وَالْمُرَابِطُونَ
أَصْلَحُ مِنْهُمْ وَأَقْرَبُ إِلَيْنَا.
قَالُوا لَهُ: فَكَاتِبْ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ، وَارْغَبْ إِلَيْهِ
لِيَعْبُرَ إِلَيْنَا، وَيُرْسِلَ بَعْضَ قُوَّادِهِ.
وَقَدِمَ عَلَيْهِمُ الْمُعْتَمِدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ،
فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي ابْنُ أَدْهَمَ مَا كَانُوا فِيهِ،
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّادٍ: أَنْتَ رَسُولِي إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ،
فَامْتَنَعَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَ نَفْسَهُ مِنْ
تُهْمَةٍ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْمُعْتَمِدُ، فَسَارَ إِلَى أَمِيرِ
الْمُسْلِمِينَ (يُوسُفَ بْنِ تَاشْفِينَ) ، فَأَبْلَغَهُ
الرِّسَالَةَ، وَأَعْلَمَهُ مَا فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْخَوْفِ
مِنَ الْأَذْفُونْشِ.
وَكَانَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِمَدِينَةِ سَبْتَةَ، فَفِي الْحَالِ
أَمَرَ بِعُبُورِ الْعَسَاكِرِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَأَرْسَلَ إِلَى
مَرَّاكُشَ فِي طَلَبِ مَنْ بَقِيَ مِنْ عَسَاكِرِهِ، فَأَقْبَلَتْ
إِلَيْهِ تَتْلُو بَعْضَهَا بَعْضًا، فَلَمَّا تَكَامَلَتْ عِنْدَهُ
عَبَرَ الْبَحْرَ وَسَارَ، فَاجْتَمَعَ بِالْمُعْتَمِدِ بْنِ عَبَّادٍ
بِإِشْبِيلِيَّةَ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ
(8/307)
عَسَاكِرَهُ أَيْضًا، وَخَرَجَ مِنْ أَهْلِ
قُرْطُبَةَ عَسْكَرٌ كَثِيرٌ، وَقَصَدَهُ الْمُتَطَوِّعَةُ مِنْ
سَائِرِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ.
وَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى الْأَذْفُونْشِ، فَجَمَعَ فُرْسَانَهُ
وَسَارَ مِنْ طُلَيْطُلَةَ، وَكَتَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ
كِتَابًا كَتَبَهُ لَهُ بَعْضُ أُدَبَاءِ الْمُسْلِمِينَ، يُغْلِظُ
لَهُ الْقَوْلُ، وَيَصِفُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْعَدَدِ
وَالْعُدَدِ، وَبَالَغَ الْكَاتِبُ فِي الْكِتَابِ. فَأَمَرَ أَمِيرُ
الْمُسْلِمِينَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْقَصِيرَةِ أَنْ يُجِيبَهُ،
وَكَانَ كَاتِبًا مُفْلِقًا، فَكَتَبَ فَأَجَادَ، فَلَمَّا قَرَأَهُ
عَلَى أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: هَذَا كِتَابٌ طَوِيلٌ، أَحْضِرْ
كِتَابَ الْأَذْفُونْشِ وَاكْتُبْ فِي ظَهْرِهِ الَّذِي يَكُونُ
سَتْرًا لَهُ.
فَلَمَّا عَادَ الْكِتَابُ إِلَى الْأَذْفُونْشِ ارْتَاعَ لِذَلِكَ،
وَعَلِمَ أَنَّهُ بُلِيَ بِرَجُلٍ لَهُ عَزْمٌ وَحَزْمٌ، فَازْدَادَ
اسْتِعْدَادًا، فَرَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ رَاكِبُ فِيلٍ،
وَبَيْنَ يَدَيْهِ طَبْلٌ صَغِيرٌ، وَهُوَ يَنْقُرُ فِيهِ، فَقَصَّ
رُؤْيَاهُ عَلَى الْقِسِّيسِينَ، فَلَمْ يَعْرِفُوا تَأْوِيلَهَا
فَأَحْضَرَ رَجُلًا مُسْلِمًا، عَالِمًا بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا،
فَقَصَّهَا عَلَيْهِ، فَاسْتَعْفَاهُ مِنْ تَعْبِيرِهَا، فَلَمْ
يُعْفِهِ، فَقَالَ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ
الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ - فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ
- عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 8 - 10] ، وَيَقْتَضِي
هَلَاكَ هَذَا الْجَيْشِ الَّذِي تَجْمَعُهُ.
فَلَمَّا اجْتَمَعَ جَيْشُهُ رَأَى كَثْرَتَهُ فَأَعْجَبَتْهُ،
فَأَحْضَرَ ذَلِكَ الْمُعَبِّرَ، وَقَالَ لَهُ: بِهَذَا الْجَيْشِ
أَلْقَى إِلَهَ مُحَمَّدٍ، صَاحِبِ كِتَابِكُمْ، فَانْصَرَفَ
الْمُعَبِّرُ، وَقَالَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ: هَذَا الْمَلِكُ
هَالِكٌ وَكُلُّ مَنْ مَعَهُ، وَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ» " الْحَدِيثَ،
وَفِيهِ: " «وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» ".
وَسَارَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُعْتَمِدُ بْنُ عَبَّادٍ،
حَتَّى أَتَوْا أَرْضًا يُقَالُ لَهَا الزَّلَّاقَةُ، مِنْ بَلَدِ
بَطَلْيُوسَ، وَأَتَى الْأَذْفُونْشَ فَنَزَلَ مَوْضِعًا بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا، فَقِيلَ لِأَمِيرِ
(8/308)
الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ ابْنَ عَبَّادٍ
رُبَّمَا لَمْ يَنْصَحْ، وَلَا يَبْذُلُ نَفْسَهُ دُونَكَ. فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَكُونَ فِي
الْمُقَدِّمَةِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَسَارَ، وَقَدْ ضَرَبَ
الْأَذْفُونْشَ خِيَامَهُ فِي لَحْفِ جَبَلٍ، وَالْمُعْتَمِدُ فِي
سَفْحِ جَبَلٍ آخَرَ، يَتَرَاءَوْنَ، وَيَنْزِلُ أَمِيرُ
الْمُسْلِمِينَ وَرَاءَ الْجَبَلِ الَّذِي عِنْدَهُ الْمُعْتَمِدُ،
وَظَنَّ الْأَذْفُونْشُ أَنَّ عَسَاكِرَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ إِلَّا
الَّذِي يَرَاهُ.
وَكَانَ الْفِرِنْجُ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، فَتَيَقَّنُوا الْغَلَبَ،
وَأَرْسَلَ الْأَذْفُونْشُ إِلَى الْمُعْتَمِدِ فِي مِيقَاتِ
الْقِتَالِ، وَقَصَدَهُ الْمَلِكُ، فَقَالَ: غَدًا الْجُمُعَةُ،
وَبَعْدَهُ الْأَحَدُ، فَيَكُونُ اللِّقَاءُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ،
فَقَدْ وَصَلْنَا عَلَى حَالِ تَعَبٍ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى
هَذَا، وَرَكِبَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ سَحَرًا، وَصَبَّحَ بِجَيْشِهِ
جَيْشَ الْمُعْتَمِدِ بُكْرَةَ الْجُمُعَةِ، غَدْرًا، وَظَنًّا مِنْهُ
أَنَّ ذَلِكَ الْمُخَيَّمَ هُوَ جَمِيعُ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ،
فَوَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ،
فَأَشْرَفُوا عَلَى الْهَزِيمَةِ.
وَكَانَ الْمُعْتَمِدُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ
يُعْلِمُهُ بِمَجِيءِ الْفِرِنْجِ لِلْحَرْبِ، فَقَالَ: احْمِلُونِي
إِلَى خِيَامِ الْفِرِنْجِ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي
الْقِتَالِ وَصَلَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى خِيَامِ الْفِرِنْجِ،
فَنَهَبَهَا، وَقَتَلَ مَنْ فِيهَا، فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ
لَمْ يَتَمَالَكُوا أَنِ انْهَزَمُوا، وَأَخَذَهُمُ السَّيْفُ،
وَتَبِعَهُمُ الْمُعْتَمِدُ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَلَقِيَهُمْ أَمِيرُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَوَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ،
فَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَنَجَا الْأَذْفُونْشُ فِي نَفَرٍ
يَسِيرٍ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رُءُوسِ الْقَتْلَى كُوَمًا
كَثِيرَةً، فَكَانُوا يُؤَذِّنُونَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ جِيفَتْ
فَأَحْرَقُوهَا:
وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ
مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ]
، وَأَصَابَ الْمُعْتَمِدُ جِرَاحَاتٍ فِي وَجْهِهِ، وَظَهَرَتْ ذَلِكَ
الْيَوْمَ شَجَاعَتُهُ. وَلَمْ يَرْجِعْ مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى
بِلَادِهِمْ غَيْرُ ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ
كُلَّ مَا لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَسِلَاحٍ وَدَوَابٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَعَادَ ابْنُ عَبَّادٍ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ، وَرَجَعَ أَمِيرُ
الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ، وَعَبَرَ إِلَى
سَبْتَةَ، وَسَارَ إِلَى مَرَّاكُشَ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى الْعَامِ
الْمُقْبِلِ، وَعَادَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَحَضَرَ
(8/309)
مَعَهُ الْمُعْتَمِدُ بْنُ عَبَّادٍ فِي
عَسْكَرِهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُلَكِّين الصَّنْهَاجِيُّ، صَاحِبُ
غَرْنَاطَةَ، فِي عَسْكَرِهِ، وَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى لِيطٍ،
وَهُوَ حِصْنٌ مَنِيعٌ بِيَدِ الْفِرِنْجِ، فَحَصَرُوهُ حَصْرًا
شَدِيدًا فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى فَتْحِهِ، فَرَحَلُوا عَنْهُ بَعْدَ
مُدَّةٍ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْفِرِنْجِ لِمَا
أَصَابَهُمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، فَعَادَ ابْنُ عَبَّادٍ إِلَى
إِشْبِيلِيَّةَ، وَعَادَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى غَرْنَاطَةَ،
وَهِيَ طَرِيقُهُ، وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُلَكِّينْ، فَغَدَرَ
بِهِ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَخَذَ غَرْنَاطَةَ مِنْهُ
وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا، فَرَأَى فِي قُصُورِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالذَّخَائِرِ مَا لَمْ يَحْوِهِ مَلِكٌ قَبْلَهُ بِالْأَنْدَلُسِ،
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا وَجَدَهُ سُبْحَةٌ فِيهَا أَرْبَعُمِائَةِ
جَوْهَرَةٍ، قُوِّمَتْ كُلُّ جَوْهَرَةٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَمِنَ
الْجَوَاهِرِ مَا لَهُ قِيمَةٌ جَلِيلَةٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الثِّيَابِ وَالْعُدَدِ وَغَيْرِهَا، وَأَخَذَ مَعَهُ عَبْدَ اللَّهِ،
وَأَخَاهُ تَمِيمًا ابْنِي بُلَكِّينْ إِلَى مَرَّاكُشَ، فَكَانَتْ
غَرْنَاطَةُ أَوَّلَ مَا مَلَكَهُ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ سَبَبَ دُخُولِ صَنْهَاجَةَ إِلَى
الْأَنْدَلُسِ، وَعَوْدِ مَنْ عَادَ مِنْهُمْ إِلَى الْمُعِزِّ
بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بِالْأَنْدَلُسِ
عَبْدُ اللَّهِ هَذَا، وَأُخِذَتْ مَدِينَتُهُ، وَرَحَلَ إِلَى
الْعُدْوَةِ.
وَلَمَّا رَجَعَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مُرَّاكِشَ أَطَاعَهُ
مَنْ كَانَ لَمْ يُطِعْهُ مِنْ بِلَادِ السُّوسِ، وَوَرْغَةَ،
وَقَلْعَةِ مَهْدِيٍّ، وَقَالَ لَهُ عُلَمَاءُ الْأَنْدَلُسِ إِنَّهُ
لَيْسَتْ طَاعَتُهُ بِوَاجِبَةٍ حَتَّى يَخْطُبَ لِلْخَلِيفَةِ،
وَيَأْتِيَهُ تَقْلِيدٌ مِنْهُ بِالْبِلَادِ، فَأَرْسَلَ إِلَى
الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ بِبَغْدَاذَ، فَأَتَاهُ
الْخِلَعُ، وَالْأَعْلَامُ، وَالتَّقْلِيدُ، وَلُقِّبَ بِأَمِيرِ
الْمُسْلِمِينَ، وَنَاصِرِ الدِّينِ.
ذِكْرُ دُخُولِ السُّلْطَانِ إِلَى بَغْدَاذَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ بَغْدَاذَ فِي
ذِي الْحِجَّةِ، بَعْدَ أَنْ فَتَحَ حَلَبَ وَغَيْرَهَا مِنْ بِلَادِ
الشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا،
وَنَزَلَ بِدَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَرَكِبَ
(8/310)
مِنَ الْغَدِ إِلَى الْحَلْبَةِ، وَلَعِبَ
بِالْجَوْكَانِ وَالْكُرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ هَدَايَا
كَثِيرَةً، فَقَبِلَهَا الْخَلِيفَةُ، وَمِنَ الْغَدِ أَرْسَلَ نِظَامُ
الْمُلْكِ إِلَى الْخَلِيفَةِ خِدْمَةً كَثِيرَةً، فَقَبِلَهَا،
وَزَارَ السُّلْطَانُ وَنِظَامُ الْمُلْكِ مَشْهَدَ مُوسَى بْنِ
جَعْفَرٍ، وَقَبْرَ مَعْرُوفٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي
حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُبُورِ الْمَعْرُوفَةِ، فَقَالَ ابْنُ
زِكْرَوَيْهِ الْوَاسِطِيُّ يُهَنِّئُ نِظَامَ الْمُلْكِ بِقَصِيدَةٍ
مِنْهَا:
زُرْتَ الْمُشَاهِدَ زَوْرَةً مَشْهُودَةً
،
أَرْضَتْ مَضَاجِعَ مَنْ بِهَا مَدْفُونُ ... فَكَأَنَّكَ الْغَيْثُ
اسْتَهَلَّ بِتُرْبِهَا
،
وَكَأَنَّهَا بِكَ رَوْضَةٌ وَمَعِينُ
فَازَتْ قِدَاحُكَ بِالثَّوَابِ وَأَنْجَحَتْ ... وَلَكَ الْإِلَهُ
عَلَى النَّجَاحِ ضَمِينُ.
وَهِيَ مَشْهُورَةٌ.
وَطُلِبَ نِظَامُ الْمُلْكِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ لَيْلًا، فَمَضَى
فِي الزَّبْزَبِ، وَعَادَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَمَضَى السُّلْطَانُ
وَنِظَامُ الْمُلْكِ إِلَى الصَّيْدِ فِي الْبَرِّيَّةِ، فَزَارَا
الْمَشْهَدَيْنِ: مَشْهَدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، وَمَشْهَدَ
الْحُسَيْنِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ الْبَرَّ،
فَاصْطَادَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْغِزْلَانِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَرَ
بِبِنَاءِ مَنَارَةِ الْقُرُونِ بِالسُّبَيْعِيِّ، وَعَادَ
السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَدَخَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَخَلَعَ
عَلَيْهِ الْخِلَعَ السُّلْطَانِيَّةَ.
وَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ لَمْ يَزَلْ نِظَامُ الْمُلْكِ قَائِمًا
يُقَدِّمُ أَمِيرًا أَمِيرًا إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَكُلَّمَا قَدَّمَ
أَمِيرًا يَقُولُ: هَذَا الْعَبْدُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ،
وَأَقْطَاعُهُ كَذَا وَكَذَا، وَعِدَّةُ عَسْكَرِهِ كَذَا وَكَذَا،
إِلَى أَنْ أَتَى عَلَى آخِرِ الْأُمَرَاءِ، وَفَوَّضَ الْخَلِيفَةُ
إِلَى السُّلْطَانِ أَمْرَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَأَمَرَهُ
بِالْعَدْلِ فِيهِمْ، وَطَلَبَ السُّلْطَانُ أَنْ يُقَبِّلَ يَدَ
الْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَسَأَلَ أَنْ يُقَبِّلَ خَاتَمَهُ،
فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَقَبَّلَهُ، وَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ،
وَأَمْرَهُ الْخَلِيفَةُ بِالْعَوْدِ فَعَادَ.
وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ أَيْضًا عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ، وَدَخَلَ
نِظَامُ الْمُلْكِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَجَلَسَ فِي
خِزَانَةِ الْكُتُبِ، وَطَالَعَ فِيهَا كُتُبًا، وَسَمِعَ النَّاسُ
عَلَيْهِ بِالْمَدْرَسَةِ جُزْءَ
(8/311)
حَدِيثٍ، وَأَمْلَى جُزْءًا آخَرَ.
وَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِبَغْدَاذَ إِلَى صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانِينَ
[وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى أَصْبَهَانَ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْمُحَرَّمِ، جَرَى بَيْنَ أَهْلِ
الْكَرْخِ وَأَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ فِتْنَةٌ قُتِلَ فِيهَا
جَمَاعَةٌ، مِنْ جُمْلَتِهِمُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ
الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْغَرِيقِ الْهَاشِمِيُّ،
الْخَطِيبُ، أَصَابَهُ سَهْمٌ فَمَاتَ مِنْهُ، وَلَمَّا قُتِلَ
تَوَلَّى ابْنُهُ الشَّرِيفُ أَبُو تَمَّامٍ مَا كَانَ إِلَيْهِ مِنَ
الْخَطَابَةِ، وَكَانَ الْعَمِيدُ كَمَالُ الْمُلْكِ الدِّهِسْتَانِيُّ
بِبَغْدَاذَ، فَسَارَ بِخَيْلِهِ وَرَجْلِهِ إِلَى الْقَنْطَرَةِ
الْعَتِيقَةِ وَأَعَانَ أَهْلَ الْكَرْخِ، ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُمْ
فِتْنَةٌ ثَانِيَةٌ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، فَأَعَانَ الْحُجَّاجَ عَلَى
أَهْلِ الْكَرْخِ فَانْهَزَمُوا، وَبَلَغَ النَّاسُ إِلَى دَرْبِ
اللُّؤْلُؤِ، وَكَادَ أَهْلُ الْكَرْخِ يِهْلَكُونَ، فَخَرَجَ أَبُو
الْحَسَنِ بْنُ بُرْغُوثٍ الْعَلَوِيُّ إِلَى مُقَدَّمِ الْأَحْدَاثِ
مِنَ السُّنَّةِ، فَسَأَلَهُ الْعَفْوَ، فَعَادَ عَنْهُمْ وَرَدَّ
النَّاسَ.
(وَفِيهَا زَادَ الْمَاءُ بِدِجْلَةَ تَاسِعَ عَشَرَ حُزَيْرَانَ،
وَجَاءَ الْمَطَرُ يَوْمَيْنِ بِبَغْدَادَ) وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، أَرْسَلَ الْعَمِيدُ كَمَالَ الْمُلْكِ إِلَى
الْأَنْبَارِ، فَتَسَلَّمَهَا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ، وَخَرَجَتْ مِنْ
أَيْدِيهِمْ.
وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَرَغَتِ الْمَنَارَةُ بِجَامِعِ
الْقَصْرِ وَأُذِّنَ فِيهَا.
وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَرَدَ الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي يَعْلَى الْحَسَنِيُّ الدَّبُّوسِيُّ إِلَى
بَغْدَاذَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، لَمْ يُرَ مِثْلُهُ لِفَقِيهٍ،
وَرُتِّبَ مُدَرِّسًا بِالنِّظَامِيَّةِ بَعْدَ أَبِي سَعْدٍ
الْمُتَوَلِّي.
(8/312)
فِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ أَنْ يُزَادَ
فِي إِقْطَاعِ وُكَلَاءِ الْخَلِيفَةِ نَهْرَ بُرْزَى مِنْ طَرِيقِ
خُرَاسَانَ، وَعَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ مِنْ مُعَامَلَةِ بَغْدَاذَ.
وَفِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ مُحَمَّدَ بْنَ شَرَفِ
الدَّوْلَةِ مُسْلِمٍ مَدِينَةَ الرَّحْبَةِ وَأَعْمَالَهَا،
وَحَرَّانَ، وَسَرُوجَ، وَالرَّقَّةِ، وَالْخَابُورِ، وَزَوَّجَهُ
بِأُخْتِهِ زُلَيْخَا خَاتُونَ، فَتَسَلَّمَ الْبِلَادَ جَمِيعَهَا مَا
عَدَا حَرَّانَ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الشَّاطِرِ امْتَنَعَ مِنْ
تَسْلِيمِهَا، فَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الشَّامِ نَزَلَ
عَنْهَا ابْنُ الشَّاطِرِ، فَسَلَّمَهَا السُّلْطَانُ إِلَى مُحَمَّدٍ.
وَفِيهَا وَقَعَ بِبَغْدَاذَ صَاعِقَتَانِ، فَكَسَرَتْ إِحْدَاهُمَا
أُسْطُوَانَتَيْنِ، وَأَحْرَقَتْ قُطْنًا فِي صَنَادِيقَ، وَلَمْ
تَحْتَرِقِ الصَّنَادِيقُ، وَقَتَلَتِ الثَّانِيَةُ رَجُلًا.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلَازِلُ بِالْعِرَاقِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالشَّامِ،
وَكَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، فَخَرَّبَتْ كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ،
وَفَارَقَ النَّاسُ مَسَاكِنَهُمْ إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَلَمَّا
سَكَنَتْ عَادُوا.
وَفِيهَا عُزِلَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ جَهِيرٍ عَنْ دِيَارِ بَكْرٍ،
وَسَلَّمَهَا السُّلْطَانُ إِلَى الْعَمِيدِ أَبِي عَلِيٍّ
الْبَلْخِيِّ، وَجَعَلَهُ عَامِلًا عَلَيْهَا.
وَفِيهَا أُسْقِطَ اسْمُ الْخَلِيفَةِ الْمِصْرِيِّ مِنَ الْحَرَمَيْنِ
الشَّرِيفَيْنِ، وَذُكِرَ اسْمُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ
اللَّهِ.
وَفِيهَا أَسْقَطَ السُّلْطَانُ الْمُكُوسَ وَالِاجْتِيَازَاتِ
بِالْعِرَاقِ.
(8/313)
وَفِيهَا حَصَرَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ
بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، مَدِينَتَيْ قَابِسَ
وَسَفَاقُسَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِمَا الْعَسَاكِرَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
فَضَّالٍ الْمُجَاشِعِيُّ، النَّحْوِيُّ، الْمُقْرِئُ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ تُوُفِّيَ شَيْخُ الشُّيُوخِ أَبُو سَعْدٍ
الصُّوفِيُّ، النَّيْسَابُورِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى بِنَاءَ
الرِّبَاطِ بِنَهْرِ الْمُعَلَّى، وَبَنَى وُقُوفَهُ، وَهُوَ رِبَاطُ
شَيْخِ الشُّيُوخِ الْآنَ، وَبَنَى وُقُوفَ الْمَدْرَسَةِ
النِّظَامِيَّةِ، وَكَانَ عَالِيَ الْهِمَّةِ، كَثِيرَ التَّعَصُّبِ
لِمَنْ يَلْتَجِئُ إِلَيْهِ، وَجَدَّدَ تُرْبَةَ مَعْرُوفٍ
الْكَرْخِيِّ بَعْدَ أَنِ احْتَرَقَتْ، وَكَانَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ
كَبِيرَةٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ يُقَالُ: نَحْمَدُ اللَّهَ
الَّذِي أَخْرَجَ رَأْسَ أَبِي سَعْدٍ مِنْ مُرَقَّعَةٍ وَلَوْ
أَخْرَجَهُ مِنْ قِبَاءٍ لَهَلَكْنَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ (عَلِيُّ) بْنُ أَحْمَدَ
التُّسْتَرِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ خَيِّرًا، حَافِظًا لِلْقُرْآنِ،
ذَا مَالٍ كَثِيرٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ
السِّجِسْتَانِيِّ عَنْ أَبِي عُمَرَ الْهَاشِمِيِّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّرِيفُ أَبُو نَصْرٍ الزَّيْنَبِيُّ،
الْعَبَّاسِيُّ، نَقِيبُ الْهَاشِمِيِّينَ، وَهُوَ مُحَدِّثٌ مَشْهُورٌ
عَالِي الْإِسْنَادِ.
(8/314)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ.]
480 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
ذِكْرُ زِفَافِ ابْنَةِ السُّلْطَانِ إِلَى الْخَلِيفَةِ.
فِي الْمُحَرَّمِ نُقِلَ جِهَازُ ابْنَةِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ
إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ عَلَى مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ جَمَلًا
مُجَلَّلَةً بِالدِّيبَاجِ الرُّومِيِّ، وَكَانَ أَكْثَرَ الْأَحْمَالِ
الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَثَلَاثُ عِمَارِيَّاتٍ، وَعَلَى أَرْبَعَةٍ
وَسَبْعِينَ بَغْلًا مُجَلَّلَةً بِأَنْوَاعِ الدِّيبَاجِ
الْمَلَكِيِّ، وَأَجْرَاسُهَا وَقَلَائِدُهَا مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ، وَكَانَ عَلَى سِتَّةٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ صُنْدُوقًا
مِنَ الذَّهَبِ لَا يُقَدَّرُ مَا فِيهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ
وَالْحُلِيِّ، وَبَيْنَ يَدَيِ الْبِغَالِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ
فَرَسًا مِنَ الْخَيْلِ الرَّائِقَةِ، عَلَيْهَا مَرَاكِبُ الذَّهَبِ
مُرَصَّعَةٌ بِأَنْوَاعِ الْجَوْهَرِ، وَمَهْدٌ عَظِيمٌ كَثِيرُ
الذَّهَبِ.
وَسَارَ بَيْنَ يَدَيِ الْجِهَازِ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينُ،
وَالْأَمِيرُ بُرْسُقُ، وَغَيْرُهُمَا، وَنَثَرَ أَهْلُ نَهْرِ
مُعَلًّى عَلَيْهِمُ الدَّنَانِيرُ وَالثِّيَابُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ
قَدْ خَرَجَ عَنْ بَغْدَاذَ مُتَصَيِّدًا، ثُمَّ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ
الْوَزِيرَ أَبَا شُجَاعٍ إِلَى تُرْكَانَ خَاتُونَ، زَوْجَةِ
السُّلْطَانِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ نَحْوُ ثَلَاثِمِائَةِ مَوْكِبِيَّةٍ،
وَمِثْلُهَا مَشَاعِلُ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْحَرِيمِ دُكَّانٌ إِلَّا
وَقَدْ أُشْعِلَ فِيهَا الشَّمْعَةُ وَالِاثْنَتَانِ وَأَكْثَرُ مِنْ
ذَلِكَ.
وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ مَعَ ظُفَرٍ خَادِمِهِ مِحَفَّةً لَمْ يُرَ
مِثْلُهَا حُسْنًا، وَقَالَ الْوَزِيرُ لِتُرْكَانَ خَاتُونَ:
سَيِّدُنَا وَمَوْلَانَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
[النساء: 58] وَقَدْ أَذِنَ فِي نَقْلِ الْوَدِيعَةِ إِلَى دَارِهِ.
فَأَجَابَتْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَحَضَرَ نِظَامُ الْمُلْكِ
فَمَنْ دُونَهُ مِنْ أَعْيَانِ دَوْلَةِ السُّلْطَانِ، وَكُلٌّ
مِنْهُمْ مَعَهُ مِنَ الشَّمْعِ وَالْمَشَاعِلِ
(8/315)
الْكَثِيرُ، وَجَاءَ نِسَاءُ الْأُمَرَاءِ
الْكِبَارِ وَمَنْ دُونَهُمْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُنْفَرِدَةٌ
فِي جَمَاعَتِهَا وَتَجَمُّلِهَا، وَبَيْنَ أَيْدِيهِنَّ الشَّمْعُ
الْمُوكَبَيَّاتُ وَالْمَشَاعِلُ يَحْمِلُ ذَلِكَ جَمِيعَهُ
الْفُرْسَانُ.
ثُمَّ جَاءَتِ الْخَاتُونُ ابْنَةُ السُّلْطَانِ، بَعْدَ الْجَمِيعِ،
فِي مِحَفَّةٍ مُجَلَّلَةٍ، عَلَيْهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ
أَكْثَرُ شَيْءٍ، وَقَدْ أَحَاطَ بِالْمِحَفَّةِ مِائَتَا جَارِيَةٍ
مِنَ الْأَتْرَاكِ بِالْمَرَاكِبِ الْعَجِيبَةِ، وَسَارَتْ إِلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ، وَكَانَتْ لَيْلَةً مَشْهُودَةً لَمْ يُرَ بِبَغْدَاذَ
مِثْلَهَا.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ أُمَرَاءَ السُّلْطَانِ
لِسِمَاطٍ أَمَرَ بِعَمَلِهِ حُكِيَ أَنَّ فِيهِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا
مِنَّا مِنَ السُّكَّرِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ كُلُّهُمْ، وَعَلَى كُلِّ
مَنْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْعَسْكَرِ، وَأَرْسَلَ الْخِلَعَ إِلَى
الْخَاتُونِ زَوْجَةِ السُّلْطَانِ، وَإِلَى جَمِيعِ الْخَوَاتِينِ،
وَعَادَ السُّلْطَانُ مِنَ الصَّيْدِ بَعْدَ ذَلِكَ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ لِلسُّلْطَانِ ابْنٌ مِنْ تُرَكَانَ
خَاتُونَ، وَسَمَّاهُ مَحْمُودًا، وَهُوَ الَّذِي خُطِبَ لَهُ
بِالْمَمْلَكَةِ بَعْدُ.
وَفِيهَا سَلَّمَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ مَدِينَةَ حَلَبَ
وَالْقَلْعَةَ إِلَى مَمْلُوكِهِ آقْسَنْقَرَ، فَوَلِيَهَا، وَأَظْهَرَ
فِيهَا الْعَدْلَ وَحُسْنَ السِّيرَةِ وَكَانَ زَوْجَ دَايَةِ
السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَهِيَ الَّتِي تَحْضُنُهُ وَتُرَبِّيهِ،
وَمَاتَتْ بِحَلَبَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ]
.
وَفِيهَا اسْتَبَقَ سَاعِيَانِ أَحَدُهُمَا لِلسُّلْطَانِ فَضْلِيٍّ،
وَالْآخِرُ لِلْأَمِيرِ قِمَاجِ مَرْعُوشِيٍّ، فَسَبَقَ سَاعِي
السُّلْطَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفَضْلِيِّ وَالْمَرْعُوشِيِّ
أَيَّامَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ.
(8/316)
وَفِيهَا جَعَلَ السُّلْطَانُ وَلِيَّ
عَهْدِهِ وَلَدَهُ أَبَا شُجَاعٍ أَحْمَدَ، وَلَقَّبَهُ مَلِكَ
الْمُلُوكِ، عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَتَاجَ الْمِلَّةِ، عُدَّةَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بَعْدَ مَسِيرهِ مِنْ
بَغْدَاذَ، لِيَخْطُبَ لَهُ بِبَغْدَاذَ بِذَلِكَ، فَخَطَبَ لَهُ فِي
شَعْبَانَ، وَنَثَرَ الذَّهَبَ عَلَى الْخُطَبَاءِ.
وَفِيهَا، فِي شَعْبَانَ، انْحَدَرَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينُ
إِلَى وَاسِطَ لِمُحَارَبَةِ مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ بْنِ أَبِي
الْجَبْرِ، صَاحِبِ الْبَطَائِحِ، وَلَمَّا فَارَقَ بَغْدَاذَ كَثُرَتْ
فِيهَا الْفِتَنُ.
وَفِيهَا، فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ مِنِ ابْنَةِ
السُّلْطَانِ وَلَدٌ سَمَّاهُ جَعْفَرًا، وَكَنَّاهُ أَبَا الْفَضْلِ،
وَزَيَّنَ الْبَلَدَ لِأَجْلِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى الْعَمِيدُ (كَمَالُ الْمُلْكِ) أَبُو الْفَتْحِ
الدِّهِسْتَانِيُّ، عَمِيدُ الْعِرَاقِ، عَلَى مَدِينَةِ هَيْتَ،
أَخَذَهَا صُلْحًا وَمَضَى إِلَيْهَا، وَعَادَ عَنْهَا فِي ذِي
الْقِعْدَةِ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْكَرْخِ وَغَيْرِهَا مِنَ
الْمَحَالِّ، قُتِلَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
وَفِيهَا كَسَفَتِ الشَّمْسُ كُسُوفًا كُلِّيًا.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ قَتْلَغْ أَمِيرُ
الْحَاجِّ، وَحَجَّ أَمِيرًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ
لَهُ فِي الْعَرَبِ عِدَّةُ وَقَعَاتٍ، وَكَانُوا يَخَافُونَهُ،
وَلَمَّا مَاتَ قَالَ نِظَامُ الْمُلْكِ: مَاتَ الْيَوْمَ أَلْفُ
رَجُلٍ، وَوَلِيَ إِمَارَةَ الْحَاجِّ نَجْمُ الدَّوْلَةِ
خُمَارَتِكِينْ.
وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْأُولَى، تُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ أَبُو
(8/317)
الْقَاسِمِ السَّاوِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ
الْكَثِيرَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيِّ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى
عَنْهُ النَّاسُ، وَكَانَ ثِقَةً، وَطَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ أَبُو
الْوَفَا الْبَنْدَنِيجِيُّ، الْهَمَذَانِيُّ، كَانَ شَاعِرًا،
أَدِيبًا وَكَانَ يَمْدَحُ لَا لِعَرَضِ الدُّنْيَا، وَمَدَحَ نِظَامَ
الْمُلْكِ بِقَصِيدَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَزِيدُ عَلَى
أَرْبَعِينَ بَيْتًا، إِحْدَاهُمَا لَيْسَ فِيهَا نُقْطَةٌ،
وَالْأُخْرَى جَمِيعُ حُرُوفِهَا مَنْقُوطَةٌ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَلِيٍّ الْمُؤَدِّبِ،
الْمَعْرُوفَةُ بِبِنْتِ الْأَقْرَعِ، الْكَاتِبَةُ، كَانَتْ مِنْ
أَحْسَنِ النَّاسِ خَطًّا عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ الْبَوَّابِ،
وَسَمِعَتِ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَتْهُ.
وَفِيهَا، فِي ذِي الْقِعْدَةِ، تُوُفِّيَ غَرْسُ النِّعْمَةِ أَبُو
الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّابِي، صَاحِبُ التَّارِيخِ، وَظَهَرَ
لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ لَهُ مَعْرُوفٌ وَصَدَقَةٌ.
(8/318)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.]
481 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرٍ، شَرَعَ أَهْلُ بَابِ الْبَصْرَةِ
فِي بِنَاءِ الْقَنْطَرَةِ الْجَدِيدَةِ، وَنَقَلُوا الْآجُرَّ فِي
أَطْبَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمُ الدَّبَادِبُ،
وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَحَالِّ، وَكَثُرَ عِنْدَهُمْ
أَهْلُ بَابِ الْأَزَجِ فِي خَلْقٍ لَا يُحْصَى.
وَاتَّفَقَ أَنَّ كُوهَرَائِينَ سَارَ فِي سُمَيْرِيَّةَ،
وَأَصْحَابُهُ يَسِيرُونَ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ بِسَيْرِهِ، فَوَقَفَ
أَهْلُ بَابِ الْأَزَجِ عَلَى امْرَأَةٍ كَانَتْ تَسْقِي النَّاسَ مِنْ
مُزَمَّلَةٍ لَهَا عَلَى دِجْلَةَ، فَحَمَلُوا عَلَيْهَا، عَلَى
عَادَةٍ لَهُمْ، وَجَعَلُوا يَكْسِرُونَ الْجِرَارَ، وَيَقُولُونَ:
الْمَاءُ لِلسَّبِيلِ! فَلَمَّا رَأَتْ سَعْدَ الدَّوْلَةِ
كُوهَرَائِينَ اسْتَغَاثَتْ بِهِ، فَأَمَرَ بِإِبْعَادِهِمْ عَنْهَا،
فَضَرَبَهُمُ الْأَتْرَاكُ بِالْمَقَارِعِ، فَسَلَّ الْعَامَّةُ
سُيُوفَهُمْ وَضَرَبُوا وَجْهَ فَرَسِ حَاجِبِهِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ
أَخَصُّ أَصْحَابِهِ، فَسَقَطَ عَنِ الْفَرَسِ، فَحَمَلَ كُوهَرَائِينَ
الْحَنَقُ عَلَى أَنْ خَرَجَ مِنَ السُّمَيْرِيَّةِ إِلَيْهِمْ
رَاجِلًا، فَحَمَلَ أَحَدُهُمْ عَلَيْهِ، فَطَعَنَهُ بِأَسْفَلِ
رُمْحِهِ، فَأَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، فَحَمَلَ أَصْحَابُهُ
عَلَى الْعَامَّةِ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَحَرَصُوا (عَلَى الظَّفَرِ
بِالَّذِي) طَعَنَهُ، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ، (وَأَخَذَ ثَمَانِيَةَ
نَفَرٍ) ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمْ، وَقَطَعَ أَعْصَابَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ،
وَأَرْسَلَ
(8/319)
قِبَاءَهُ إِلَى الدِّيوَانِ وَفِيهِ
أَثَرُ الطَّعْنَةِ وَالطِّينِ يَسْتَنْفِرُ عَلَى أَهْلِ بَابِ
الْأَزَجِ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْكَرْخِ عَقَدُوا لِأَنْفُسِهِمْ
طَاقًا آخَرَ عَلَى بَابِ طَاقِ الْحَرَّانِيِّ، وَفَعَلُوا كَفِعْلِ
أَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ.
ذِكْرُ إِخْرَاجِ الْأَتْرَاكِ مِنْ حَرِيمِ الْخِلَافَةِ.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، أَمَرَ الْخَلِيفَةُ
بِإِخْرَاجِ الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ مَعَ الْخَاتُونِ زَوْجَتِهِ
ابْنَةِ السُّلْطَانِ مِنْ حَرِيمِ دَارِ الْخِلَافَةِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ تُرْكِيًّا مِنْهُمُ اشْتَرَى مِنْ طَوَّافِ
فَاكِهَةٍ، فَتَمَاسَكَا، فَشَتَمَ الطَّوَّافُ التُّرْكِيَّ، فَأَخَذَ
التُّرْكِيُّ صَنْجَةً مِنَ الْمِيزَانِ وَضَرَبَ بِهَا رَأْسَ
الطَّوَّافِ فَشَجَّهُ، فَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ، وَكَادَ يَكُونُ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ شَرٌّ، وَاسْتَغَاثُوا، وَشَنَّعُوا،
فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِخْرَاجِ الْأَتْرَاكِ، فَأُخْرِجُوا عَنْ
آخِرِهِمْ، فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ، وَقْتَ
الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ.
ذِكْرُ مِلْكِ الرُّومِ مَدِينَةَ زَوِيلَةَ وَعَوْدِهِمْ عَنْهَا.
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ الرُّومِ مَدِينَةَ زَوِيلَةَ مِنْ
إِفْرِيقِيَّةَ، وَهِيَ بِقُرْبِ الْمَهْدِيَّةِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمِيرَ تَمِيمَ بْنَ الْمُعِزِّ بْنِ
بَادِيسَ، صَاحِبَهَا، أَكْثَرَ غَزْوِ بِلَادِهِمْ فِي الْبَحْرِ،
فَخَرَّبَهَا، وَشَتَّتَ أَهْلَهَا، فَاجْتَمَعُوا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ،
وَاتَّفَقُوا عَلَى إِنْشَاءِ الشَّوَانِي لِغَزْوِ الْمَهْدِيَّةِ،
وَدَخَلَ مَعَهُمُ الْبَيْشَانِيُّونَ، وَالْجَنَوِيُّونَ، وَهُمَا
مِنَ الْفِرِنْجِ، فَأَقَامُوا يَعْمُرُونَ الْأُسْطُولَ أَرْبَعَ
سِنِينَ، وَاجْتَمَعُوا بِجَزِيرَةِ قَوْصَرَةَ فِي أَرْبَعِ مِائَةِ
قِطْعَةٍ، فَكَتَبَ أَهْلُ قَوْصَرَةَ كِتَابًا عَلَى جَنَاحِ طَائِرٍ
يَذْكُرُونَ وُصُولَهُمْ وَعَدَدَهُمْ وَحُكْمَهُمْ عَلَى
الْجَزِيرَةِ، فَأَرَادَ تَمِيمٌ أَنْ يُسَيِّرَ عُثْمَانَ بْنَ
سَعِيدٍ الْمَعْرُوفُ بِالْمُهْرِ، مُقَدِّمَ الْأُسْطُولِ الَّذِي
لَهُ،
(8/320)
لِيَمْنَعَهُمْ مِنَ النُّزُولِ،
فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ قُوَّادِهِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَنْكُوتٍ، لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَهْرِ، فَجَاءَتِ
الرُّومُ، وَأَرْسَلُوا، وَطَلَعُوا إِلَى الْبَرِّ، وَنَهَبُوا،
وَخَرَّبُوا وَأَحْرَقُوا، وَدَخَلُوا زَوِيلَةَ وَنَهَبُوهَا،
وَكَانَتْ عَسَاكِرُ تَمِيمٍ غَائِبَةً فِي قِتَالِ الْخَارِجِينَ عَنْ
طَاعَتِهِ.
ثُمَّ صَالَحَ تَمِيمٌ الرُّومَ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَرَدِّ جَمِيعِ مَا حَوُوهُ مِنَ السَّبْيِ، وَكَانَ تَمِيمٌ يَبْذُلُ
الْمَالَ الْكَثِيرَ فِي الْغَرَضِ الْحَقِيرِ، فَكَيْفَ فِي الْغَرَضِ
الْكَبِيرِ، حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ بَذَلَ لِلْعَرَبِ لَمَّا
اسْتَوْلَوْا عَلَى حِصْنٍ لَهُ يُسَمَّى قَنَاطَةَ لَيْسَ
بِالْعَظِيمِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ حَتَّى هَدَمَهُ، فَقِيلَ
لَهُ: هَذَا سَرَفٌ فِي الْمَالِ؛ فَقَالَ: هُوَ شَرَفٌ فِي الْحَالِ.
ذِكْرُ وَفَاةِ النَّاصِرِ بْنِ عَلْنَاسَ وَوِلَايَةِ وَلَدِهِ
الْمَنْصُورِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ النَّاصِرُ بْنُ عَلْنَاسَ بْنِ حَمَّادٍ،
وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْمَنْصُورُ، فَاقْتَفَى آثَارَ أَبِيهِ
فِي الْحَزْمِ وَالْعَزْمِ وَالرِّئَاسَةِ، وَوَصَلَهُ كُتُبُ
الْمُلُوكِ وَرُسُلُهُمْ بِالتَّعْزِيَةِ بِأَبِيهِ وَالتَّهْنِئَةِ
بِالْمُلْكِ مِنْهُمْ: يُوسُفُ بْنُ تَاشَفِينَ، وَتَمِيمُ بْنُ
الْمُعِزِّ، وَغَيْرُهُمَا.
ذِكْرُ وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ مَلِكِ غَزْنَةَ وَمُلْكِ ابْنِهِ
مَسْعُودٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْمُؤَيِّدُ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، صَاحِبُ غَزْنَةَ،
وَكَانَ عَادِلًا، كَرِيمًا، مُجَاهِدًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ
فُتُوحِهِ مَا وَصَلَ إِلَيْنَا، وَكَانَ عَاقِلًا، ذَا رَأْيٍ
مَتِينٍ، فَمِنْ آرَائِهِ أَنَّ السُّلْطَانَ مَلِكْشَاهِ بْنَ أَلْب
أَرْسِلَانَ السَّلْجُوقِيَّ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَسَارَ يُرِيدُ
غَزْنَةَ، وَنَزَلَ بِأَسْفَرَارَ، فَكَتَبَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مَسْعُودٍ كِتَابًا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ أُمَرَاءِ
مَلِكْشَاهْ يَشْكُرُهُمْ، وَيَعْتَدُّ لَهُمْ بِمَا فَعَلُوا مِنْ
تَحْسِينِ قَصْدِ مَلِكْشَاهْ بِلَادَهُ لِيُتِمَّ لَنَا مَا
اسْتَقَرَّ بَيْنَنَا مِنَ الظَّفَرِ بِهِ، وَتَخْلِيصِهِمْ مِنْ
يَدِهِ، وَيَعِدُهُمُ الْإِحْسَانَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ الْقَاصِدَ
بِالْكُتُبِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمَلِكْشَاهْ فِي الصَّيْدِ، فَفَعَلَ
ذَلِكَ، فَأُخِذَ، وَأُحْضِرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَسَأَلَهُ عَنْ
حَالِهِ، فَأَنْكَرَهُ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِجَلْدِهِ، فَجُلِدَ،
(8/321)
فَدَفَعَ الْكُتُبَ إِلَيْهِ بَعْدَ جُهْدٍ
وَمَشَقَّةٍ، فَلَمَّا وَقَفَ مَلِكْشَاهْ عَلَيْهَا تَحَيَّلَ مِنْ
أُمَرَائِهِ وَعَادَ، وَلَمْ يَقُلْ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَرَائِهِ فِي
هَذَا الْأَمْرِ شَيْئًا خَوْفًا أَنْ يَسْتَوْحِشُوا مِنْهُ.
وَكَانَ يَكْتُبُ بِخَطِّهِ، كُلَّ سَنَةٍ، مُصْحَفًا، وَيَبْعَثُهُ
مَعَ الصَّدَقَاتِ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ كُنْتُ
مَوْضِعَ أَبِي مَسْعُودٍ بَعْدَ وَفَاةِ جَدِّي مَحْمُودٍ، لَمَا
انْفَصَمَتْ عُرَى مَمْلَكَتِنَا، وَلَكِنِّي الْآنَ عَاجِزٌ عَنْ
[أَنْ] أَسْتَرِدَّ مَا أَخَذُوهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ مُلُوكٌ قَدِ
اتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُمْ، وَعَظُمَتْ عَسَاكِرُهُمْ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مَسْعُودٌ، وَلَقَبُهُ
جَلَالُ الدِّينِ، وَكَانَ قَدْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ بِابْنَةِ
السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَأَخْرَجَ نِظَامُ الْمُلْكِ فِي هَذَا
الْإِمْلَاكِ وَالزِّفَافِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ، وَزِيرُ
الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَنَابَ ابْنَهُ رَبِيبَ الدَّوْلَةِ أَبَا
مَنْصُورٍ، وَنَقِيبَ النُّقَبَاءِ طَرَّادَ بْنَ مُحَمَّدٍ
الزَّيْنَبِيَّ.
وَفِيهَا أَسْقَطَ السُّلْطَانُ مَا كَانَ يُؤْخَذُ مِنَ الْحُجَّاجِ
مِنَ الْخِفَارَةِ.
وَفِيهَا جَمَعَ آقْسَنْقَرَ، صَاحِبُ حَلَبَ، عَسْكَرَهُ وَسَارَ
إِلَى قَلْعَةِ شَيْزَرَ فَحَصَرَهَا، وَصَاحِبَهَا ابْنَ مُنْقِذٍ،
وَضَيَّقَ عَلَيْهَا، وَنَهَبَ رَبَضَهَا، ثُمَّ صَالَحَهُ صَاحِبُهَا
وَعَادَ إِلَى حَلَبَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَبْدِ
الصَّمَدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْغُورَجِيُّ،
(8/322)
الْهَرَوِيُّ، وَالْقَاضِي مَحْمُودُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ أَبُو عَامِرٍ الْأَزْدِيُّ،
الْمُهَلَّبِيُّ، رَاوِيَا جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي
مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيِّ، رَوَاهُ عَنْهُمَا أَبُو الْفَتْحِ
الْكَرُّوخِيُّ.
وَتُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُحَمَّدٍ (أَبُو إِسْمَاعِيلَ) ، الْأَنْصَارِيُّ، الْهَرَوِيُّ،
شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ شَدِيدَ التَّعَصُّبِ فِي الْمَذَاهِبِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُخَلَّدٍ
الْبَاقَرْحِيُّ، وَمَوْلِدُهُ فِي شَعْبَانَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ
الْحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَتِ ابْنَةُ الْغَالِبِ بِاللَّهِ بْنِ
الْقَادِرِ وَدُفِنَتْ عِنْدَ قَبْرِ أَحْمَدَ، وَكَانَتْ تَرْجِعُ
إِلَى دِينٍ، وَمَعْرُوفٍ كَثِيرٍ، لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ فِي فِعْلِ
الْخَيْرِ مَا بَلَغَتْ.
وَفِي شَعْبَانَ تُوُفِّيَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الصَّحْرَاوِيُّ
الزَّاهِدُ.
وَفِيهَا تُوَفِّي الْمَلِكُ أَحْمَدُ ابْنُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ
بِمَرْوَ، وَكَانَ (وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ فِي السَّلْطَنَةِ،
وَكَانَ) عُمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَلَسَ النَّاسُ
بِبَغْدَاذَ لِلْعَزَاءِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ،
وَلَمْ يَرْكَبْ أَحَدٌ فَرَسًا، وَخَرَجَ النِّسَاءُ يَنُحْنَ فِي
الْأَسْوَاقِ، وَاجْتَمَعَ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ فِي الْكَرْخِ
لِلتَّفَرُّجِ وَالْمَنَاحَاتِ، وَسَوَّدَ أَهْلُ الْكَرْخِ أَبْوَابَ
عُقُودِهِمْ إِظْهَارًا لِلْحُزْنِ عَلَيْهِ.
(8/323)
[ثُمَّ دَخَلَتِ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ
وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ]
482 -
ثُمَّ دَخَلَتِ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ الْعَامَّةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرَ، كَبَسَ أَهْلُ بَابِ الْبَصْرَةِ
الْكَرْخَ، فَقَتَلُوا رَجُلًا، وَجَرَحُوا آخَرَ، فَأَغْلَقَ أَهْلُ
الْكَرْخِ الْأَسْوَاقَ، وَرَفَعُوا الْمَصَاحِفَ، (وَحَمَلُوا ثِيَابَ
الرَّجُلَيْنِ وَهِيَ بِالدَّمِ) ، وَمَضَوْا إِلَى دَارِ الْعَمِيدِ
كَمَالِ الْمُلْكِ أَبِي الْفَتْحِ الدِّهِسْتَانِيِّ مُسْتَغِيثِينَ،
فَأَرْسَلَ إِلَى النَّقِيبِ طَرَّادِ بْنِ مُحَمَّدٍ يَطْلُبُ مِنْهُ
إِحْضَارَ الْقَاتِلِينَ، فَقَصَدَ طَرَّادُ دَارَ الْأَمِيرِ بُوزَانَ
بِقَصْرِ ابْنِ الْمَأْمُونِ، فَطَالَبَهُ بُوزَانُ بِهِمْ، (وَوَكَّلَ
بِهِ) ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بُوزَانَ يُعَرِّفُهُ حَالَ
النَّقِيبِ طَرَّادٍ، وَمَحِلَّهُ، وَمَنْزِلَتَهُ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ
وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَسَكَّنَ الْعَمِيدُ كَمَالُ الْمُلْكِ
الْفِتْنَةَ وَكَفَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ سَارَ
السُّلْطَانُ، فَعَادَ النَّاسُ إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ
الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَنْقَضِ يَوْمٌ إِلَّا عَنْ قَتْلَى وَجَرْحَى.
ذِكْرُ مُلْكِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ مَا وَرَاءَ
النَّهْرِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سَمَرْقَنْدَ كَانَ قَدْ مَلَكَهَا أَحْمَدُ
خَانُ بْنُ خَضِرِ خَانَ، أَخُوهُ شَمْسُ
(8/324)
الْمُلْكِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَهُوَ
ابْنُ أَخِي تُرْكَانَ خَاتُونَ، زَوْجَةُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ،
وَكَانَ صَبِيًّا ظَالِمًا، قَبِيحَ السِّيرَةِ، يُكْثِرُ مُصَادَرَةَ
الرَّعِيَّةِ، فَنَفَرُوا مِنْهُ وَكَتَبُوا إِلَى السُّلْطَانِ سِرًّا
يَسْتَغِيثُونَ بِهِ، وَيَسْأَلُونَهُ الْقُدُومَ عَلَيْهِمْ
لِيَمْلِكَ بِلَادَهُمْ، وَحَضَرَ الْفَقِيهُ أَبُو طَاهِرِ بْنُ
عَلَّكٍ الشَّافِعِيُّ عِنْدَ السُّلْطَانِ شَاكِيًا، وَكَانَ يَخَافُ
مِنْ أَحْمَدَ خَانِ لِكَثْرَةِ مَالِهِ، فَأَظْهَرَ السَّفَرَ
لِلتِّجَارَةِ وَالْحَجِّ، فَاجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ، وَشَكَا
إِلَيْهِ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْبِلَادِ. فَتَحَرَّكَتْ دَوَاعِي
السُّلْطَانِ إِلَى مَلْكِهَا، فَسَارَ مِنْ أَصْبَهَانَ.
وَكَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ فِيهَا، رَسُولُ مَلِكِ
الرُّومِ، وَمَعَهُ الْخَرَاجُ الْمُقَرَّرُ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ
نِظَامُ الْمُلْكِ مَعَهُمْ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَحَضَرَ
فَتْحَ الْبِلَادِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى كَاشْغَرَ أَذِنَ لَهُ
نِظَامُ الْمُلْكِ فِي الْعَوْدِ إِلَى بِلَادِهِ، وَقَالَ: أُحِبُّ
أَنْ يُذْكَرَ عَنَّا فِي التَّوَارِيخِ (أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ)
حَمَلَ الْجِزْيَةَ وَأَوْصَلَهَا إِلَى بَابِ كَاشْغَرَ لِيُنْهِيَ
إِلَى صَاحِبِهِ سَعَةَ مُلْكِ السُّلْطَانِ لِيَعْظُمَ خَوْفُهُ
مِنْهُ، وَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِخِلَافِ الطَّاعَةِ. وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى هِمَّةٍ عَالِيَةٍ تَعْلُو عَلَى الْعَيُّوقِ.
وَلَمَّا سَارَ السُّلْطَانُ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى خُرَاسَانَ جَمَعَ
الْعَسَاكِرَ مِنَ الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، فَعَبَرَ النَّهْرَ
بِجُيُوشٍ لَا يَحْصُرُهَا دِيوَانٌ، وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ
الْإِحْصَاءِ، فَلَمَّا قَطَعَ النَّهْرَ قَصَدَ بُخَارَى، وَأَخَذَ
مَا عَلَى طَرِيقِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَيْهَا وَمَلَكَهَا وَمَا
جَاوَرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَصَدَ سَمَرْقَنْدَ وَنَازَلَهَا،
وَكَانَتِ الْمُلَطِّفَاتُ قَدْ قَدَّمَهَا إِلَى أَهْلِ الْبَلَدِ
يَعِدُهُمُ النَّصْرَ، وَالْخَلَاصَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ،
وَحَصَرَ الْبَلَدَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ وَأَعَانَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ
بِالْإِقَامَاتِ، وَفَرَّقَ أَحْمَدُ خَانُ، صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ،
أَبْرَاجَ السُّورِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَمَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ
الْبَلَدِ، وَسَلَّمَ بُرْجًا يُقَالُ لَهُ بُرْجُ الْعَيَّارِ إِلَى
رَجُلٍ عَلَوِيٍّ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِ، فَنَصَحَ فِي الْقِتَالِ.
فَاتَّفَقَ أَنَّ وَلَدًا لِهَذَا الْعَلَوِيِّ أُخِذَ أَسِيرًا
بِبُخَارَى، فَهُدِّدَ الْأَبُ بِقَتْلِهِ، فَتَرَاخَى عَنِ
(8/325)
الْقِتَالِ، فَسَهُلَ الْأَمْرُ عَلَى
السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَرَمَى مِنَ السُّورِ عُدَّةَ ثُلَمٍ
بِالْمِنْجِنَيْقَاتِ، وَأَخَذَ ذَلِكَ الْبُرْجَ، فَلَمَّا صَعَدَ
عَسْكَرُ السُّلْطَانِ إِلَى السُّورِ هَرَبَ أَحْمَدُ خَانَ،
وَاخْتَفَى فِي بُيُوتِ بَعْضِ الْعَامَّةِ فَغُمِزَ عَلَيْهِ وَأُخِذَ
وَحُمِلَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَفِي رَقَبَتِهِ حَبْلٌ، فَأَكْرَمَهُ
السُّلْطَانُ، وَأَطْلَقَهُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَمَعَهُ
مَنْ يَحْفَظُهُ، وَرَتَّبَ بِسَمَرْقَنْدَ الْأَمِيرَ الْعَمِيدَ
أَبَا طَاهِرٍ عَمِيدَ خَوَارِزْمَ.
وَسَارَ السُّلْطَانُ قَاصِدًا إِلَى كَاشْغَرَ، فَبَلَغَ إِلَى
يُوزْكَنْدَ، وَهُوَ بَلَدٌ يَجْرِي عَلَى بَابِهِ نَهْرٌ، وَأَرْسَلَ
مِنْهَا رُسُلًا إِلَى مَلِكِ كَاشْغَرَ يَأْمُرُهُ بِإِقَامَةِ
الْخُطْبَةِ، وَضَرْبِ السِّكَّةِ بِاسْمِهِ، وَيَتَوَعَّدُهُ إِنْ
خَالَفَ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَطَاعَ، وَحَضَرَ
عِنْدَ السُّلْطَانِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَتَابَعَ
الْإِنْعَامَ عَلَيْهِ، وَأَعَادَهُ إِلَى بَلَدِهِ.
وَرَجَعَ السُّلْطَانُ إِلَى خُرَاسَانَ، فَلَمَّا أَبْعَدَ عَنْ
سَمَرْقَنْدَ لَمْ يَتَّفِقْ أَهْلُهَا وَعَسْكَرُهَا الْمَعْرُوفُونَ
بِالْجَكَلِيَّةِ مَعَ الْعَمِيدِ أَبِي طَاهِرٍ، نَائِبِ السُّلْطَانِ
عِنْدَهُمْ، حَتَّى كَادُوا يَثِبُونَ عَلَيْهِ، فَاحْتَالَ حَتَّى
خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَمَضَى إِلَى خُوَارِزْمَ.
ذِكْرُ عِصْيَانِ سَمَرْقَنْدَ كَانَ مُقَدِّمُ الْعَسْكَرِ
الْمَعْرُوفُ بِالْجَكَلِيَّةِ، وَاسْمُهُ عَيْنُ الدَّوْلَةِ، قَدْ
خَافَ السُّلْطَانَ لِهَذَا الْحَادِثِ، فَكَاتَبَ يَعْقُوبَ تِكِينَ
أَخَا مَلِكِ كَاشْغَرَ، وَمَمْلَكَتُهُ تُعْرَفُ بِآبَ نَبَّاشِي،
وَبِيَدِهِ قَلْعَتُهَا، وَاسْتَحْضَرَهُ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ
بِسَمَرْقَنْدَ، وَاتَّفَقَا، ثُمَّ إِنَّ يَعْقُوبَ عَلِمَ أَنَّ
أَمْرَهُ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُ، فَوَضَعَ عَلَيْهِ الرَّعِيَّةَ
الَّذِينَ كَانَ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، حَتَّى ادَّعَوْا عَلَيْهِ
دِمَاءَ قَوْمٍ كَانَ قَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ الْفَتَاوَى عَلَيْهِ
فَقَتَلَهُ، وَاتَّصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِالسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ
بِذَلِكَ، فَعَادَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ.
(8/326)
ذِكْرُ فَتْحِ سَمَرْقَنْدَ الْفَتْحَ
الثَّانِيَ
لَمَّا اتَّصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِعِصْيَانِ سَمَرْقَنْدَ
بِالسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَقَتْلِ عَيْنِ الدَّوْلَةِ، مُقَدِّمِ
الْجَكَلِيَّةِ، عَادَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى
بُخَارَى هَرَبَ يَعْقُوبُ الْمُسْتَوْلِي عَلَى سَمَرْقَنْدَ، وَمَضَى
إِلَى فَرْغَانَةَ، وَلَحِقَ بِوِلَايَتِهِ.
وَوَصَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَى السُّلْطَانِ
مُسْتَأْمَنِينَ، فَلَقَوْهُ بِقَرْيَةٍ تُعْرَفُ بِالطَّوَاوِيسِ،
وَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى سَمَرْقَنْدَ مَلَكَهَا، وَرَتَّبَ
بِهَا الْأَمِيرَ أَبَرَ، وَسَارَ فِي أَثَرِ يَعْقُوبَ حَتَّى نَزَلَ
بِيُوزْكَنْدَ، وَأَرْسَلَ الْعَسَاكِرَ إِلَى سَائِرِ الْأَكْنَافِ
فِي طَلَبِهِ.
وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى مَلِكِ كَاشْغَرَ، وَهُوَ أَخُو
يَعْقُوبَ، لِيَجِدَّ فِي أَمْرِهِ، وَيُرْسِلَهُ إِلَيْهِ، فَاتَّفَقَ
أَنَّ عَسْكَرَ يَعْقُوبَ شَغَبُوا عَلَيْهِ، وَنَهَبُوا خَزَائِنَهُ،
وَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَنْ هَرَبَ عَلَى فَرَسِهِ، وَدَخَلَ إِلَى
أَخِيهِ بِكَاشْغَرَ مُسْتَجِيرًا بِهِ.
فَسَمِعَ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ كَاشْغَرَ
يَتَوَعَّدُهُ، إِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ إِلَيْهِ، أَنْ يَقْصِدَ
بِلَادَهُ، وَيَصِيرَ هُوَ الْعَدُوَّ، فَخَافَ أَنْ يَمْنَعَ
السُّلْطَانَ، وَأَنِفَ أَنْ يُسَلِّمَ أَخَاهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَجَارَ
بِهِ وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ قَدِيمَةٌ، وَمُنَافِسَةٌ
فِي الْمُلْكِ عَظِيمَةٌ، لِمَا يَلْزَمُهُ فِيهِ الْعَارُ، فَأَدَّاهُ
اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنْ قَبَضَ عَلَى أَخِيهِ يَعْقُوبَ، وَأَظْهَرَ
أَنَّهُ كَانَ فِي طَلَبِهِ فَظَفَرَ بِهِ، وَسَيَّرَهُ مَعَ وَلَدِهِ،
وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَّلَهُمْ بِيَعْقُوبَ، وَأَرْسَلَ
مَعَهُمْ هَدَايَا كَثِيرَةً لِلسُّلْطَانِ، وَأَمَرَ وَلَدَهُ أَنَّهُ
إِذَا وَصَلَ إِلَى قَلْعَةٍ بِقُرْبِ السُّلْطَانِ أَنْ يَسْمَلَ
يَعْقُوبَ وَيَتْرُكَهُ، فَإِنْ رَضِيَ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ،
وَإِلَّا سَلَّمَهُ إِلَيْهِ.
فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى قَلْعَةٍ عَزَمَ ابْنُ مَلِكِ كَاشْغَرَ أَنْ
يَسْمَلَ عَمَّهُ، وَيُنَفِّذَ فِيهِ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبُوهُ،
فَتَقَدَّمَ بِكَتْفِهِ وَإِلْقَائِهِ عَلَى الْأَرْضِ، فَفَعَلُوا
بِهِ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَقَدْ
أَحْمَوُا الْمَيْلَ لِيَسْمَلُوهُ، إِذْ سَمِعُوا ضَجَّةً عَظِيمَةً،
فَتَرَكُوهُ، وَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمُ
انْكِسَارٌ، ثُمَّ أَرَادُوا (بَعْدَ ذَلِكَ) سَمْلَهُ، وَمَنَعَ
مِنْهُ بَعْضٌ، فَقَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: أَخْبِرُونِي عَنْ
حَالِكُمْ، وَمَا يَفُوتُكُمُ الَّذِي تُرِيدُونَهُ مِنِّي، وَإِذَا
فَعَلْتُمْ بِي شَيْئًا رُبَّمَا نَدِمْتُمْ عَلَيْهِ.
(8/327)
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ طُغْرُلَ بْنَ يَنَالَ
أَسْرَى مِنْ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا فِي عَشَرَاتِ أُلُوفٍ مِنَ
الْعَسَاكِرِ، وَكَبَسَ أَخَاكَ بِكَاشْغَرَ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا،
وَنَهَبَ عَسْكَرَهُ، وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا
الَّذِي تُرِيدُونَ تَفْعَلُونَهُ بِي لَيْسَ مِمَّا تَتَقَرَّبُونَ
بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَفْعَلُونَهُ اتِّبَاعًا
لِأَمْرِ أَخِي، وَقَدْ زَالَ أَمْرُهُ، وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ
فَأَطْلَقُوهُ.
فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ ذَلِكَ وَرَأَى طَمَعَ طُغْرُلَ بْنِ
يَنَالَ، وَمَسِيرِهِ إِلَى كَاشْغَرَ، وَقَبْضِ صَاحِبِهَا،
وَمَلْكِهِ لَهَا مَعَ قُرْبِهِ مِنْهُ، خَافَ أَنْ يَنْحَلَّ بَعْضُ
أَمْرِهِ وَتَزُولَ هَيْبَتُهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ
طُغْرُلَ سَارَ مِنْ يَدَيْهِ، فَإِنْ عَادَ عَنْهُ رَجَعَ إِلَى
بِلَادِهِ، وَكَذَلِكَ يَعْقُوبُ (أَخُو صَاحِبِ كَاشْغَرَ) ،
وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ لِسَعَةِ الْبِلَادِ وَرَاءَهُ
وَخَوْفِ الْمَوْتِ بِهَا، فَوَضَعَ تَاجَ الْمُلْكِ عَلَى أَنْ
يَسْعَى فِي إِصْلَاحِ أَمْرِ يَعْقُوبَ مَعَهُ، فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ
بِهِ السُّلْطَانُ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَيَعْقُوبُ، وَعَادَ إِلَى
خُرَاسَانَ، وَجَعَلَ يَعْقُوبُ مُقَابِلَ طُغْرُلَ يَمْنَعُهُ مِنَ
الْقُوَّةِ، وَمَلْكِ الْبِلَادِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقُومُ فِي
وَجْهِ الْآخَرِ.
ذِكْرُ عَوْدَ ابْنَةِ السُّلْطَانِ زَوْجَةِ الْخَلِيفَةِ إِلَى
أَبِيهَا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْخَلِيفَةِ
يَطْلُبُ ابْنَتَهُ طَلَبًا لَا بُدَّ مِنْهُ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهَا أَرْسَلَتْ تَشْكُو مِنَ الْخَلِيفَةِ،
وَتَذْكُرُ أَنَّهُ كَثِيرُ الِاطِّرَاحِ لَهَا، وَالْإِعْرَاضِ
عَنْهَا، فَأَذِنَ لَهَا فِي الْمَسِيرِ، فَسَارَتْ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَسَارَ مَعَهَا ابْنُهَا (مِنَ الْخَلِيفَةِ) أَبُو
الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَمَعَهُمَا
سَائِرُ أَرْبَابِ الدَّوْلَةِ، وَمَشَى مَعَ مَحَفَّتِهَا سَعْدُ
الدَّوْلَةِ كُوهَرَائِينُ، وَخَدَمُ دَارِ الْخِلَافَةِ الْأَكَابِرُ،
وَخَرَجَ الْوَزِيرُ وَشَيَّعَهُمْ إِلَى النَّهْرَوَانِ وَعَادَ.
وَسَارَتِ الْخَاتُونُ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَقَامَتْ بِهَا إِلَى ذِي
الْقَعْدَةِ، وَتُوُفِّيَتْ، وَجَلَسَ
(8/328)
الْوَزِيرُ بِبَغْدَاذَ لِلْعَزَاءِ
سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مَرَاثِيَهَا بِبَغْدَاذَ،
وَبِعَسْكَرِ السُّلْطَانِ.
ذِكْرُ فَتْحِ عَسْكَرِ مِصْرَ عَكَّا وَغَيْرَهَا مِنَ الشَّامِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَتْ عَسَاكِرُ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ فِي
جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُقَدِّمِينَ، فَحَصَرُوا مَدِينَةَ صُورَ، وَكَانَ
قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا الْقَاضِي عَيْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ أَبِي
عَقِيلٍ، وَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ تُوُفِّيَ، وَوَلِيَهَا
أَوْلَادُهُ، فَحَصَرَهُمُ الْعَسْكَرُ الْمِصْرِيُّ فَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَمْتَنِعُونَ بِهَا، فَسَلَّمُوهَا
إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ سَارَ الْعَسْكَرُ عَنْهَا إِلَى مَدِينَةِ صَيْدَا، فَفَعَلُوا
بِهَا كَذَلِكَ.
ثُمَّ سَارُوا إِلَى مَدِينَةٍ عَكَّا، فَحَصَرُوهَا، وَضَيَّقُوا
عَلَى أَهْلِهَا، فَافْتَتَحُوهَا.
(8/329)
وَقَصَدُوا مَدِينَةَ جُبَيْلٍ،
فَمَلَكُوهَا أَيْضًا. وَأَصْلَحُوا أَحْوَالَ هَذِهِ الْبِلَادِ،
وَقَرَّرُوا قَوَاعِدَهَا، وَسَارُوا عَنْهَا إِلَى مِصْرَ عَائِدِينَ،
وَاسْتَعْمَلَ أَمِيرُ الْجُيُوشِ عَلَى الْبِلَادِ الْأُمَرَاءَ
وَالْعُمَّالَ.
ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ أَهْلِ بَغْدَاذَ ثَانِيَةً
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، كَثُرَتِ الْفِتَنُ
بِبَغْدَاذَ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَحَالِّ،
وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَاسْتَوْلَى أَهْلُ الْمَحَالِّ
عَلَى قِطْعَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ نَهْرِ الدَّجَاجِ، فَنَهَبُوهَا،
وَأَحْرَقُوهَا، فَنَزَلَ شِحْنَةُ بَغْدَاذَ، وَهُوَ خِمَارْتِكِينَ
النَّائِبُ عَنْ كُوهَرَائِينَ، عَلَى دِجْلَةَ فِي خَيْلِهِ
وَرَجْلِهِ، لِيَكُفَّ النَّاسَ عَنِ الْفِتْنَةِ، فَلَمْ يَنْتَهُوا،
وَكَانَ أَهْلُ الْكَرْخِ يُجْرُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ
الْجِرَايَاتِ وَالْإِقَامَاتِ.
وَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ وَصَلَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى سُوَيْقَةِ
غَالِبٍ فَخَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْكَرْخِ مَنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ
بِالْقِتَالِ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى كَشَفُوهُمْ. فَرَكِبَ خَدَمُ
الْخَلِيفَةِ وَالْحُجَّابُ وَالنُّقَبَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ
أَعْيَانِ الْحَنَابِلَةِ، كَابْنِ عَقِيلٍ، وَالْكَلْوَذَانِيِّ،
وَغَيْرِهِمَا، إِلَى الشِّحْنَةِ، وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى أَهْلِ
الْكَرْخِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ مِثَالًا مِنَ الْخَلِيفَةِ
يَأْمُرُهُمْ بِالْكَفِّ، وَمُعَاوَدَةِ السُّكُونِ، وَحُضُورِ
الْجَمَاعَةِ وَالْجُمْعَةِ، وَالتَّدَيُّنِ بِمَذْهَبِ أَهْلِ
السُّنَّةِ، فَأَجَابُوا إِلَى الطَّاعَةِ.
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ أَتَاهُمُ الصَّارِخُ مِنْ نَهْرِ
الدَّجَاجِ بِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ قَصَدُوهُمْ، وَالْقِتَالُ
عِنْدَهُمْ، فَمَضَوْا مَعَ الشِّحْنَةِ، وَمُنِعُوا مِنَ الْفِتْنَةِ،
وَسَكَنَ النَّاسُ وَكَتَبَ أَهْلُ الْكَرْخِ عَلَى أَبْوَابِ
مَسَاجِدِهِمْ: خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ، - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ
عَلِّيٌ، وَمِنْ عِنْدَ هَذَا الْيَوْمِ ثَارَ أَهْلُ الْكَرْخِ،
وَقَصَدُوا شَارِعَ ابْنِ أَبِي عَوْفٍ وَنَهَبُوهُ. وَفِي جُمْلَةِ
مَا نَهَبُوا دَارُ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ خَيْرُونَ الْمُعَدَّلِ،
فَقَصَدَ الدِّيوَانَ مُسْتَنْفِرًا، وَمَعَهُ
(8/330)
النَّاسُ، وَرَفَعَ الْعَامَّةُ
الصُّلْبَانَ وَهَجَمُوا عَلَى الْوَزِيرِ فِي هِجْرَتِهِ،
وَأَكْثَرُوا مِنَ الْكَلَامِ الشَّنِيعِ، وَقُتِلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ
رَجُلٌ هَاشِمِيٌّ مِنْ أَهْلِ بَابِ الْأَزَجِّ بِسَهْمٍ أَصَابَهُ،
فَثَارَ الْعَامَّةُ هُنَاكَ بِعَلَوِيٍّ كَانَ مُقِيمًا بَيْنَهُمْ.
فَقَتَلُوهُ وَحَرَقُوهُ، وَجَرَى مِنَ النَّهْبِ، وَالْقَتْلِ،
وَالْفَسَادِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى
الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بْنَ مَزْيَدٍ، فَأَرْسَلَ عَسْكَرًا إِلَى
بَغْدَاذَ، فَطَلَبُوا الْمُفْسِدِينَ وَالْعَيَّارِينَ، فَهَرَبُوا
مِنْهُمْ، فَهُدِمَتْ دُورُهُمْ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ وَنُفِيَ
وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ، وَأَمِنَ النَّاسُ.
ذِكْرُ حِيلَةٍ لِأَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ ظَهَرَتْ ظُهُورًا غَرِيبًا
كَانَ بِالْمَغْرِبِ إِنْسَانٌ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الْكَزُولِيُّ، سَيِّدُ قَبِيلَةِ كَزُولَةَ وَمَالِكُ جَبَلِهَا،
وَهُوَ جَبَلٌ شَامِخٌ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ كَثِيرَةٌ، وَبَيْنَهُ
وَبَيْنَ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفُ بْنُ تَاشَفِينَ مَوَدَّةٌ
وَاجْتِمَاعٌ، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ أَرْسَلَ يُوسُفُ إِلَى
مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ يَطْلُبُ الِاجْتِمَاعَ بِهِ، فَرَكِبَ
إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا قَارَبَهُ خَافَهُ عَلَى نَفْسِهِ،
فَعَادَ إِلَى جَبَلِهِ، وَاحْتَاطَ لِنَفْسِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
يُوسُفُ، وَحَلِفَ لَهُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ إِلَّا الْخَيْرَ،
وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَدْرٍ، فَلَمْ يَرْكَنْ مُحَمَّدٌ
إِلَيْهِ.
فَدَعَا يُوسُفُ حَجَّامًا، وَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِينَارٍ، وَضَمِنَ
لَهُ مِائَةَ دِينَارٍ أُخْرَى، إِنْ هُوَ سَارَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ وَاحْتَالَ عَلَى قَتْلِهِ.
فَسَارَ الْحَجَّامُ، وَمَعَهُ مَشَارِيطُ مَسْمُومَةٌ، فَصَعِدَ
الْجَبَلَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ خَرَجَ يُنَادِي لِصِنَاعَتِهِ
بِالْقُرْبِ مِنْ مَسَاكِنِ مُحَمَّدٍ، فَسَمِعَ مُحَمَّدٌ الصَّوْتَ،
فَقَالَ: هَذَا الْحَجَّامُ مِنْ بَلَدِنَا؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ غَرِيبٌ،
فَقَالَ أَرَاهُ يُكْثِرُ الصِّيَاحَ، وَقَدِ ارْتَبْتُ بِذَلِكَ،
ائْتُونِي بِهِ. فَأُحْضِرَ عِنْدَهُ، فَاسْتَدْعَى حَجَّامًا آخَرَ
وَأَمَرَهُ
(8/331)
أَنْ يَحْجِمَهُ بِمَشَارِيطِهِ الَّتِي
مَعَهُ، فَامْتَنَعَ الْحَجَّامُ الْغَرِيبُ، فَأُمْسِكَ وَحُجِمَ
فَمَاتَ، وَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ فِطْنَتِهِ.
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ يُوسُفَ ازْدَادَ غَيْظُهُ وَلَجَّ فِي
السَّعْيِ فِي أَذًى يُوصِلُهُ إِلَيْهِ، فَاسْتَمَالَ قَوْمًا مِنْ
أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَمَالُوا إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ
جِرَارًا مِنْ عَسَلٍ مَسْمُومٍ، فَحَضَرُوا عِنْدَ مُحَمَّدٍ
وَقَالُوا: قَدْ وَصَلَ إِلَيْنَا قَوْمٌ مَعَهُمْ جِرَارٌ مِنْ عَسَلٍ
أَحْسَنَ مَا يَكُونُ، وَأَرَدْنَا إِتْحَافَكَ بِهِ، وَأَحْضَرُوهَا
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَمَرَ بِإِحْضَارِ خُبْزٍ، وَأَمَرَ
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَهْدَوْا إِلَيْهِ الْعَسَلَ أَنْ يَأْكُلُوا
مِنْهُ، فَامْتَنَعُوا.
وَاسْتَعْفُوهُ مِنْ أَكْلِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَقَالَ:
مَنْ لَمْ يَأْكُلْ قُتِلَ بِالسَّيْفِ، فَأَكَلُوا فَمَاتُوا عَنْ
آخِرِهِمْ.
فَكَتَبَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ: إِنَّكَ قَدْ أَرَدْتَ
قَتْلِي بِكُلِّ وَجْهٍ، فَلَمْ يُظْفِرْكَ اللَّهُ بِذَلِكَ، فَكُفَّ
عَنْ شَرِّكَ، فَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ الْمَغْرِبَ بِأَسْرِهِ،
وَلَمْ يُعْطِنِي غَيْرَ هَذَا الْجَبَلِ، وَهُوَ فِي بِلَادِكَ
كَالشَّامَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، فَلَمْ تَقْنَعْ
بِمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، - عَزَّ وَجَلَّ -.
فَلَمَّا رَأَى يُوسُفُ أَنَّ سِرَّهُ قَدِ انْكَشَفَ وَأَنَّهُ لَا
يُمْكِنُهُ فِي أَمْرِهِ شَيْءٌ لِحَصَانَةِ جَبَلِهِ أَعْرَضَ عَنْهُ
وَتَرَكَهُ.
ذِكْرُ مُلْكِ الْعَرَبِ مَدِينَةَ سُوسَةَ وَأَخْذِهَا مِنْهُمْ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَقَضَ ابْنُ عَلَوِيٍّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ أَمِيرِ إِفْرِيقِيَّةَ مِنَ
الْعَهْدِ، وَسَارَ فِي جَمْعٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ الْعَرَبِ، فَوَصَلَ
إِلَى مَدِينَةِ سُوسَةَ مِنْ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَهْلُهَا
غَارُّونَ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ، فَدَخَلَهَا عَنْوَةً، وَجَرَى
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ بِهَا مِنَ الْعَسْكَرِ وَالْعَامَّةِ قِتَالٌ،
فَقُتِلَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ جَمَاعَةٌ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي
أَصْحَابِهِ وَالْأَسْرُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ لَهُ مَعَ
تَمِيمٍ حَالٌ، فَفَارَقَهَا، وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى حِلَّتَهُ مِنَ
الصَّحْرَاءِ.
وَكَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ هَذِهِ السَّنَةَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَبَقِيَ
كَذَلِكَ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ [وَأَرْبَعِمِائَةٍ] ،
وَصَلُحَتْ أَحْوَالُ أَهْلِهَا، وَأَخْصَبَتِ الْبِلَادُ، وَرَخُصَتِ
الْأَسْعَارُ وَأَكْثَرَ أَهْلُهَا الزَّرْعَ.
(8/332)
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَطَعَتِ الْحَرَامِيَّةُ الطَّرِيقَ عَلَى
قَفْلٍ كَبِيرٍ بِوِلَايَةِ حَلَبَ، فَرَكِبَ آقْسَنْقَرُ فِي
جَمَاعَةٍ مِنْ عَسْكَرِهِ وَتَبِعَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى
أَخَذَهُمْ وَقَتَلَهُمْ، فَأَمِنَتِ الطُّرُقُ بِوِلَايَتِهِ.
وَفِيهَا وَرَدَ الْعَمِيدُ الْأَغَرُّ أَبُو الْمَحَاسِنِ عَبْدُ
الْجَلِيلِ بْنُ عَلِيٍّ الدِّهِسْتَانِيُّ إِلَى بَغْدَاذَ عَمِيدًا،
وَعُزِلَ أَخُوهُ كَمَالُ الْمُلْكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَفِيهَا دَرَّسَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ فِي
الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بَنَاهَا تَاجُ الْمُلْكِ مُسْتَوْفِي
السُّلْطَانِ بِبَابِ إِبْرَزَ مِنْ بَغْدَاذَ، وَهِيَ الْمَدْرَسَةُ
التَّاجِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ.
وَفِيهَا عُمِّرَتْ مَنَارَةُ جَامِعِ حَلَبَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْخَطِيبُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي الْحَدِيدِ السُّلَمِيُّ،
خَطِيبُ دِمَشْقَ، فِي ذِي الْحِجَّةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ صَاعِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو نَصْرٍ
النَّيْسَابُورِيُّ رَئِيسُهَا، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ عَشْرٍ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ،
(8/333)
وَعَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ الْعَاصِمِيُّ الْبُغْدَاذِيُّ مِنْ أَهْلِ
الْكَرْخِ، كَانَ ظَرِيفًا كَيِّسًا، لَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ:
مَاذَا عَلَى مُتَلَوِّنِ الْأَخْلَاقِ لَوْ زَارَنِي فَأَبُثُّهُ
أَشْوَاقِي وَأَبُوحُ بِالشَّكْوَى إِلَيْهِ تَذَلُّلًا، وَأَفُضُّ
خَتْمَ الدَّمْعِ مِنْ آمَاقِي فَعَسَاهُ يَسْمَحُ بِالْوِصَالِ
لِمُدْنَفٍ ذِي لَوْعَةٍ وَصَبَابَةٍ مُشْتَاقِ أَسَرَ الْفُؤَادَ
وَلَمْ يَرِقَّ لِمَوْثِقٍ مَا ضَرَّهُ لَوْ جَادَ بِالْإِطْلَاقِ إِنْ
كَانَ قَدْ لَسَبَتْ عَقَارِبُ صُدْغِهِ قَلْبِي فَإِنَّ رُضَابَهُ
دِرْيَاقِي
وَقَالَ أَيْضًا:
فَدَيْتُ مَنْ ذُبْتُ شَوْقًا مِنْ مَحَبَّتِهِ
،
وَصِرْتُ مِنْ هَجْرِهِ فَوْقَ الْفِرَاشِ لَقَا ... سَمِعْتُهُ
يَتَغَنَّى وَهُوَ مُصْطَبِحٌ
أَفْدِيهِ مُصْطَبِحًا مِنْهُ وَمُغْتَبِقَا ... وَأَخْلَفَتْكَ
ابْنَةُ الْبِكْرِيِّ مَا وَعَدَتْ
وَأَصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِيًا خَلَقَا
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ الشَّرِيفُ أَبُو
الْقَاسِمِ الْعَلَوِيُّ، الدَّبُّوسِيُّ، الْمُدَرِّسُ
بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَاذَ، وَكَانَ فَاضِلًا فَصِيحًا.
(8/334)
|