الكامل في التاريخ

 [ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ]
555 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
ذِكْرُ مَسِيرِ سُلَيْمَانَ شَاهْ إِلَى هَمَذَانَ
فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ سُلَيْمَانُ شَاهْ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى هَمَذَانَ لِيَتَوَلَّى السَّلْطَنَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَبَبُ قَبْضِهِ وَأَخْذِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ.
وَسَبَبُ مَسِيِرِهِ إِلَيْهَا أَنَّ الْمَلِكَ مُحَمَّدَ بْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ لَمَّا مَاتَ أَرْسَلَ أَكَابِرَ الْأُمَرَاءِ مِنْ هَمَذَانَ إِلَى أَتَابِكَ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِي، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ إِرْسَالَ الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ شَاهْ ابْنِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ إِلَيْهِمْ ; لِيُوَلُّوهُ السَّلْطَنَةَ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمْ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ شَاهْ سُلْطَانًا وَقُطْبُ الدِّينِ أَتَابِكَهُ، وَجَمَالُ الدِّينِ وَزِيرَ قُطْبِ الدِّينِ وَزِيرًا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ شَاهْ، وَزَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ أَمِيرَ الْعَسَاكِرِ الْمَوْصِلِيَّةِ مُقَدَّمَ جَيْشِ سُلَيْمَانَ شَاهْ، وَتَحَالَفُوا عَلَى هَذَا، وَجَهَّزَ سُلَيْمَانَ شَاهْ بِالْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ وَالْبِرَكِ وَالدَّوَابِّ وَالْآلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَصْلُحُ لِلسَّلَاطِينِ، وَسَارَ وَمَعَهُ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ فِي عَسْكَرِ الْمَوْصِلِ إِلَى هَمَذَانَ.
فَلَمَّا قَارَبُوا بِلَادَ الْجَبَلِ أَقْبَلَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَيْهِمْ أَرْسَالًا، كُلُّ يَوْمٍ يَلْقَاهُ طَائِفَةٌ وَأَمِيرٌ، فَاجْتَمَعَ مَعَ سُلَيْمَانَ شَاهْ عَسْكَرٌ عَظِيمٌ، فَخَافَهُمْ زَيْنُ الدِّينِ عَلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ رَأَى مِنْ تَسَلُّطِهِمْ عَلَى السُّلْطَانِ وَاطِّرَاحِهِمْ لِلْأَدَبِ مَعَهُ مَا أَوْجَبَ الْخَوْفَ مِنْهُ، فَعَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَحِينَ عَادَ عَنْهُ لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُهُ، وَلَمْ يَتِمَّ لَهُ مَا أَرَادَهُ، وَقَبَضَ الْعَسْكَرُ عَلَيْهِ بِبَابِ هَمَذَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَخَطَبُوا لِأَرْسِلَان شَاهْ ابْنِ الْمَلِكِ طُغْرُلَ، وَهُوَ الَّذِي تَزَوَّجَ إِيلْدَكْزُ بِأُمِّهِ، وَسَيُذْكَرُ مَشْرُوحًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(9/269)


ذِكْرُ وَفَاةِ الْفَائِزِ وَوِلَايَةِ الْعَاضِدِ الْعَلَوِيِّينِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرَ، تُوُفِّيَ الْفَائِزُ بِنَصْرِ اللَّهِ أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الظَّافِرُ، صَاحِبُ مِصْرَ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ وَنَحْوَ شَهْرَيْنِ، وَكَانَ لَهُ لَمَّا وَلِيَ خَمْسُ سِنِينَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَمَّا مَاتَ دَخَلَ الصَّالِحُ بْنُ رُزَّيْكَ الْقَصْرَ، وَاسْتَدْعَى خَادِمًا كَبِيرًا، وَقَالَ لَهُ: مَنْ هَا هُنَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ؟ فَقَالَ: هَا هُنَا جَمَاعَةٌ، وَذَكَرَ أَسْمَاءَهُمْ، وَذَكَرَ لَهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا كَبِيرَ السِّنِّ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ سِرًّا: لَا يَكُونُ عَبَّاسٌ أَحْزَمَ مِنْكَ حَيْثُ اخْتَارَ الصَّغِيرَ وَتَرَكَ الْكِبَارَ وَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ، فَأَعَادَ الصَّالِحُ الرَّجُلَ إِلَى مَوْضِعِهِ، وَأَمَرَ حِينَئِذٍ بِإِحْضَارِ الْعَاضِدِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي مُحَمَّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْحَافِظِ، وَلَمْ يَكُنْ أَبُوهُ خَلِيفَةً، وَكَانَ الْعَاضِدُ ذَلِكَ الْوَقْتَ مُرَاهِقًا قَارَبَ الْبُلُوغَ، فَبَايَعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَزَوَّجَهُ الصَّالِحُ ابْنَتَهُ، وَنَقَلَ مَعَهَا مِنَ الْجِهَازِ مَا لَا يُسْمَعُ بِمِثْلِهِ، وَعَاشَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْعَاضِدِ وَخُرُوجِ الْأَمْرِ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ إِلَى الْأَتْرَاكِ وَتَزَوَّجَتْ.

ذِكْرُ وَفَاةِ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ وَشَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِعِلَّةِ التَّرَاقِي، وَكَانَ مَوْلِدُهُ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ تُدْعَى يَاعِي، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَوَافَقَ أَبَاهُ الْمُسْتَظْهِرَ بِاللَّهِ فِي عِلَّةِ التَّرَاقِي وَمَاتَا جَمِيعًا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ مِنَ الرِّجَالِ ذَوِي الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ الْكَثِيرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَبَدَّ بِالْعِرَاقِ مُنْفَرِدًا عَنْ سُلْطَانٍ يَكُونُ مَعَهُ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الدَّيْلَمِ إِلَى الْآنِ،

(9/270)


وَأَوَّلُ خَلِيفَةٍ تَمَكَّنَ مِنَ الْخِلَافَةِ وَحَكَمَ عَلَى عَسْكَرِهِ وَأَصْحَابِهِ مِنْ حِينِ تَحَكُّمِ الْمَمَالِيكِ عَلَى الْخُلَفَاءِ مِنْ عَهْدِ الْمُسْتَنْصِرِ إِلَى الْآنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَضِدُ، وَكَانَ شُجَاعًا مِقْدَامًا مُبَاشِرًا لِلْحُرُوبِ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ يَبْذُلُ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ لِأَصْحَابِ الْأَخْبَارِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ حَتَّى كَانَ لَا يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ.

ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ الْمُسْتَنْجِدُ بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْمُهُ يُوسُفُ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ تُدْعَى طَاوُسَ، بَعْدَ مَوْتِ وَالِدِهِ، وَكَانَ لِلْمُقْتَفِي حَظِيَّةٌ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ أَبِي عَلِيٍّ، فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُ الْمُقْتَفِي وَأَيِسَتْ مِنْهُ أَرْسَلَتْ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَبَذَلَتْ لَهُمُ الْإِقْطَاعَاتِ الْكَثِيرَةَ وَالْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ لِيُسَاعِدُوهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا الْأَمِيرُ أَبُو عَلِيٍّ خَلِيفَةً، قَالُوا: كَيْفَ الْحِيلَةُ مَعَ وَلِيِّ الْعَهْدِ؟ فَقَالَتْ: إِذَا دَخَلَ عَلَى وَالِدِهِ قَبَضْتُ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَبِيهِ كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالُوا: لَا بُدَّ لَنَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ الدَّوْلَةِ، فَوَقَعَ اخْتِيَارُهُمْ عَلَى أَبِي الْمَعَالِي ابْنِ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ، فَدَعَوْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَزِيرًا، فَبَذَلُوا لَهُ مَا طَلَبَ.
فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمْ وَعَلِمَتْ أُمُّ أَبِي عَلِيٍّ أَحْضَرَتْ عِدَّةً مِنَ الْجَوَارِي وَأَعْطَتْهُنَّ السَّكَاكِينَ، وَأَمَرَتْهُنَّ بِقَتْلِ وَلِيِّ الْعَهْدِ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ. وَكَانَ لَهُ خَصِيٌّ صَغِيرٌ يُرْسِلُهُ كُلَّ وَقْتٍ يَتَعَرَّفُ أَخْبَارَ وَالِدِهِ، فَرَأَى الْجَوَارِيَ بِأَيْدِيهِنَّ السَّكَاكِينُ، وَرَأَى بِيَدِ أَبِي عَلِيٍّ وَأُمِّهِ سَيْفَيْنِ، فَعَادَ إِلَى الْمُسْتَنْجِدِ فَأَخْبَرَهُ، وَأَرْسَلَتْ هِيَ إِلَى الْمُسْتَنْجِدِ تَقُولُ لَهُ إِنْ وَالِدَهُ قَدْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ لِيَحْضُرَ وَيُشَاهِدَهُ، فَاسْتَدْعَى أُسْتَاذَ الدَّارِ عَضُدَ الدِّينِ وَأَخَذَهُ مَعَهُ وَجَمَاعَةً مِنَ الْفَرَّاشِينَ، وَدَخَلَ الدَّارَ وَقَدْ لَبِسَ الدِّرْعَ وَأَخَذَ بِيَدِهِ السَّيْفَ، فَلَمَّا دَخَلَ ثَارَ بِهِ الْجَوَارِي، فَضَرَبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَجَرَحَهَا، وَكَذَلِكَ أُخْرَى، فَصَاحَ، وَدَخَلَ أُسْتَاذُ الدَّارِ وَمَعَهُ الْفَرَّاشُونَ، فَهَرَبَ الْجَوَارِي، وَأَخَذَ أَخَاهُ أَبَا عَلِيٍّ وَأُمَّهُ فَسَجَنَهُمَا، وَأَخَذَ الْجَوَارِيَ فَقَتَلَ مِنْهُنَّ، وَغَرَّقَ مِنْهُنَّ، وَدَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ جَلَسَ لِلْبَيْعَةِ، فَبَايَعَهُ أَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ، وَأَوَّلُهُمْ عَمُّهُ أَبُو

(9/271)


طَالِبٍ، ثُمَّ أَخُوهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُقْتَفِي، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْمُسْتَنْجِدِ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ، وَأَرْبَابُ الدَّوْلَةِ وَالْعُلَمَاءُ، وَخُطِبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَنُثِرَتِ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ.
حَكَى عَنْهُ الْوَزِيرُ عَوْنُ الدِّينِ بْنُ هُبَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَنَامِ مُنْذُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَالَ لِي: يَبْقَى أَبُوكَ فِي الْخِلَافَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَكَانَ كَمَا قَالَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَبْلَ مَوْتِ أَبِي الْمُقْتَفِي بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَدَخَلَ بِي فِي بَابٍ كَبِيرٍ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى رَأْسِ جَبَلٍ، وَصَلَّى بِي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَلْبَسَنِي قَمِيصًا، ثُمَّ قَالَ لِي: قُلْ " «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» "، وَذَكَرَ دُعَاءَ الْقُنُوتِ.
وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَقَرَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ عَلَى وَزَرَاتِهِ وَأَصْحَابَ الْوِلَايَاتِ عَلَى وِلَايَاتِهِمْ، وَأَزَالَ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَقَبَضَ عَلَى الْقَاضِي ابْنِ الْمُرَخَّمِ وَقَالَ: وَكَانَ بِئْسَ الْحَاكِمُ، وَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا كَثِيرًا، وَأُخِذَتْ كُتُبُهُ فَأُحْرِقَ مِنْهَا فِي الرَّحْبَةِ مَا كَانَ مِنْ عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ، فَكَانَ مِنْهَا: كِتَابُ " الشِّفَاءِ " لِابْنِ سِينَا، وَكِتَابُ " إِخْوَانِ الصَّفَا "، وَمَا شَاكَلَهُمَا، وَقَدَّمَ عَضُدَ الدِّينِ بْنَ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَكَانَ أُسْتَاذُ الدَّارِ يُمَكِّنُهُ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْوَزِيرِ أَنْ يَقُومَ لَهُ، وَعَزَلَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ الدَّامَغَانِيَّ، وَرَتَّبَ مَكَانَهُ أَبَا جَعْفَرٍ عَبْدَ الْوَاحِدِ الثَّقَفِيَّ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ عَسْكَرِ خُوَارَزْمَ وَالْأَتْرَاكِ الْبَرَزِيَّةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَارَ طَائِفَةٌ مِنْ عَسْكَرِ خُوَارَزْمَ إِلَى أَجْحَهْ، وَهَجَمُوا عَلَى يَغْمُرْخَانْ بْنِ أَوْدَكَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ الْبَرَزِيَّةِ، فَأَوْقَعُوا بِهِمْ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ، فَانْهَزَمَ يَغْمُرْخَانْ، وَقَصَدَ السُّلْطَانَ مَحْمُودَ بْنَ مُحَمَّدِ الْخَانْ [وَالْأَتْرَاكَ الْغُزِّيَّةَ الَّذِينَ مَعَهُ وَتَوَسَّلَ إِلَيْهِمْ بِالْقَرَابَةِ، وَظَنَّ يَغْمُرْخَانْ] أَنَّ اخْتِيَارَ الدِّينِ إِيثَاقَ هُوَ الَّذِي هَيَّجَ الْخُوَارَزْمِيَّةَ عَلَيْهِ، فَطَلَبَ مِنَ الْغُزِّ إِنْجَادَهُ.

(9/272)


ذِكْرُ أَحْوَالِ الْمُؤَيَّدِ بِخُرَاسَانَ هَذِهِ السَّنَةَ
قَدْ ذَكَرْنَا ثَلَاثَ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسَمِائَةٍ] عَوْدَ الْمُؤَيَّدِ " أَيْ أَبَهْ " إِلَى نَيْسَابُورَ، وَتَمَكُّنَهُ مِنْهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَرَأَى الْمُؤَيَّدُ تَحَكُّمَهُ فِي نَيْسَابُورَ وَتَمَكُّنَهُ فِي دَوْلَتِهِ، وَكَثْرَةَ جُنْدِهِ وَعَسْكَرِهِ، أَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي الرَّعِيَّةِ، لَا سِيَّمَا أَهْلِ نَيْسَابُورَ، فَإِنَّهُ جَبَرَهُمْ وَبَالَغَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَشَرَعَ فِي إِصْلَاحِ أَعْمَالِهَا وَوِلَايَاتِهَا، فَسَيَّرَ طَائِفَةً مِنْ عَسْكَرِهِ إِلَى نَاحِيَةِ أَسْقِيلَ، وَكَانَ بِهَا جَمْعٌ قَدْ تَمَرَّدُوا وَأَكْثَرُوا الْعَيْثَ وَالْفَسَادَ فِي الْبِلَادِ، وَطَالَ تَمَادِيهِمْ فِي طُغْيَانِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْمُؤَيَّدُ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَرْكِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَمُعَاوَدَةِ الطَّاعَةِ وَالصَّلَاحِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَلَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ سَرِيَّةً كَثِيرَةً، فَقَاتَلُوهُمْ، وَأَذَاقُوهُمْ عَاقِبَةَ مَا صَنَعُوا، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَخَرَّبُوا حِصْنَهُمْ.
وَسَارَ الْمُؤَيَّدُ مِنْ نَيْسَابُورَ إِلَى بَيْهَقَ، فَوَصَلَهَا رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنَ السَّنَةِ، وَقَصَدَ مِنْهَا حِصْنَ خُسْرُوجَرْدَ، وَهُوَ حِصْنٌ مَنِيعٌ بَنَاهَ كَيْخَسْرُو الْمَلِكُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ قَتْلِ أَفْرَاسْيَابَ، وَفِيهِ رِجَالٌ شُجْعَانٌ، فَامْتَنَعُوا عَلَى الْمُؤَيَّدِ، فَحَصَرَهُمْ وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ، وَجَدَّ فِي الْقِتَالِ، فَصَبَرَ أَهْلُ الْحِصْنِ حَتَّى نَفَذَ صَبْرُهُمْ، ثُمَّ مَلَكَ الْمُؤَيَّدُ الْقَلْعَةَ وَأَخْرَجَ كُلَّ مَنْ فِيهَا [وَرَتَّبَ فِيهَا] مَنْ يَحْفَظُهَا، وَعَادَ مِنْهَا إِلَى نَيْسَابُورَ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ.
ثُمَّ سَارَ إِلَى هَرَاةَ، فَلَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا غَرَضًا، فَعَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَقَصَدَ مَدِينَةَ كُنْدُرَ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ طُرَيْثِيثَ، وَقَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا رَجُلٌ اسْمُهُ أَحْمَدُ كَانَ خُرْبَنْدَةَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الرِّنُودِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْمُفْسِدِينَ، فَخَرَّبُوا كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ، وَغَنِمُوا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى.
وَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ بِهِمْ عَلَى خُرَاسَانَ، وَزَادَ الْبَلَاءُ، فَقَصَدَهُمُ الْمُؤَيَّدُ، فَتَحَصَّنُوا بِالْحِصْنِ الَّذِي لَهُمْ، فَقُوتِلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ، وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْعَرَّادَاتِ وَالْمَنْجَنِيقَاتِ، فَأَذْعَنَ هَذَا الْخُرْبَنْدَةُ أَحْمَدُ إِلَى طَاعَةِ الْمُؤَيَّدِ وَالِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ أَصْحَابِهِ وَأَشْيَاعِهِ، فَقَبِلَهُ أَحْسَنَ قَبُولٍ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ.

(9/273)


ثُمَّ إِنَّهُ عَصَى عَلَى الْمُؤَيَّدِ، وَتَحَصَّنَ بِحِصْنِهِ، فَأَخَذَهُ الْمُؤَيَّدُ مِنْهُ قَهْرًا وَعَنْوَةً، وَقَيَّدَهُ، وَاحْتَاطَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ وَأَرَاحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ وَمِنْ شَرِّهِ وَفَسَادِهِ.
وَقَصَدَ الْمُؤَيَّدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاحِيَةَ بَيْهَقَ عَازِمًا عَلَى قِتَالِهِمْ لِخُرُوجِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ، فَلَمَّا قَارَبَهَا أَتَاهُ زَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا وَدَعَاهُ إِلَى الْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَالْحِلْمِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، وَوَعَظَهُ وَذَكَّرُهُ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ وَرَحَلَ عَنْهُمْ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ رُكْنُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدِ الْخَانْ إِلَى الْمُؤَيَّدِ بِتَقْرِيرِ نَيْسَابُورَ وَطُوسَ وَأَعْمَالِهَا عَلَيْهِ، وَرَدَّ الْحُكْمَ فِيهَا إِلَيْهِ، فَعَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ رَابِعَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِمَا تَقَرَّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلِكِ مَحْمُودِ وَبَيْنَ الْغُزِّ مِنْ إِبْقَاءِ نَيْسَابُورَ عَلَيْهِ لِيَزُولَ الْخُلْفُ وَالْفِتَنُ عَنِ النَّاسِ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ وَيَغْمُرْخَانْ
لَمَّا قَصَدَ يَغْمُرْخَانِ الْغُزَّ وَتَوَسَّلَ إِلَيْهِمْ لِيَنْصُرُوهُ عَلَى إِيثَاقَ لِظَنِّهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَسَّنَ لِلْخَوَارِزْمِيَّةِ قَصْدَهُ، أَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارُوا مَعَهُ عَلَى طَرِيقِ نَسَا وَأَبِيوَرْدَ، وَوَصَلُوا إِلَى الْأَمِيرِ إِيثَاقَ فَلَمْ يَجِدْ لِنَفْسِهِ بِهِمْ قُوَّةً، فَاسْتَنْجَدَ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ، فَجَاءَهُ وَمَعَهُ مِنَ الْأَكْرَادِ وَالدَّيْلَمِ وَالْأَتْرَاكِ وَالتُّرْكُمَانِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ نَوَاحِي أَبَسْكُونَ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَاقْتَتَلُوا وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَانْهَزَمَ الْأَتْرَاكُ الْغُزِّيَّةُ وَالْبَرْزِيَّةُ مِنْ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَيَعُودُونَ.
وَكَانَ عَلَى مَيْمَنَةِ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ الْأَمِيرُ إِيثَاقُ، فَحَمَلَتِ الْأَتْرَاكُ الْغُزِّيَّةُ عَلَيْهِ لَمَّا أَيِسُوا مِنَ الظَّفَرِ بِقَلْبِ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ، فَانْهَزَمَ إِيثَاقُ وَتَبِعَهُ بَاقِي الْعَسْكَرِ، وَوَصَلَ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ إِلَى سَارِيَةٍ، وَقُتِلَ مِنْ عَسْكَرِهِ أَكْثَرُهُمْ.
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ التُّجَّارِ كَفَّنَ وَدَفَنَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى سَبْعَةَ آلَافِ رَجُلٍ.
وَأَمَّا إِيثَاقُ فَإِنَّهُ قَصَدَ فِي هَرَبِهِ خُوَارَزْمَ وَأَقَامَ بِهَا، وَسَارَ الْغُزُّ مِنَ الْمَعْرَكَةِ إِلَى دِهِسْتَانَ، وَكَانَ الْحَرْبُ قَرِيبًا مِنْهَا، فَنَقَبُوا سُورَهَا، وَأَوْقَعُوا بِأَهْلِهَا وَنَهَبُوهُمْ أَوَائِلَ سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَبَعْدَ أَنْ خَرَّبُوا جُرْجَانَ وَفَرَّقُوا أَهْلَهَا فِي الْبِلَادِ وَعَادُوا إِلَى خُرَاسَانَ.

(9/274)


ذِكْرُ وَفَاةِ خُسْرُوشَاهْ صَاحِبِ غَزْنَةَ وَمُلْكِ ابْنِهِ بَعْدَهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبَ، تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ خُسْرُوشَاهْ بْنُ بَهْرَام شَاهْ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، صَاحِبُ غَزْنَةَ، وَكَانَ عَادِلًا، حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ، مُحِبًّا لِلْخَيْرِ وَأَهْلِهِ، مُقَرَّبًا لِلْعُلَمَاءِ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِمْ، وَكَانَ مُلْكُهُ تِسْعَ سِنِينَ.
[وَمَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مَلِكْشَاهْ] فَلَمَّا مَلَكَ نَزَلَ عَلَاءُ الدِّينِ الْحُسَيْنُ، مَلِكُ الْغُورِ، إِلَى غَزْنَةَ فَحَصَرَهَا، وَكَانَ الشِّتَاءُ شَدِيدًا وَالثَّلْجُ كَثِيرًا، فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْمَقَامُ عَلَيْهَا، فَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ فِي صَفَرَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] .

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ إِيثَاقَ وَبَغْرَاتْكِينَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مُنْتَصَفَ شَعْبَانَ، كَانَ بَيْنَ الْأَمِيرِ إِيثَاقَ وَالْأَمِيرِ بَغْرَاتْكِينَ بِرَغْشَ الْجَرْكَانِيِّ حَرْبٌ، وَكَانَ إِيثَاقُ قَدْ سَارَ بَغْرَاتْكِينَ فِي آخِرِ أَعْمَالِ جُوَيْنَ، فَنَهَبُهُ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ وَكُلَّ مَا لَهُ، وَكَانَ ذَا نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَأَمْوَالٍ جَسِيمَةٍ، فَانْهَزَمَ بَغْرَاتْكِينُ عَنْهَا وَخَلَّاهَا، فَافْتَتَحَهَا إِيثَاقُ وَاسْتَغْنَى بِهَا، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ بِسَبَبِهَا، وَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ، وَقَصَدَهُ النَّاسُ، وَأَمَّا بَغْرَاتْكِينُ فَإِنَّهُ رَاسَلَ الْمُؤَيَّدَ صَاحِبَ نَيْسَابُورَ، وَصَارَ فِي جُمْلَتِهِ وَمَعْدُودًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَتَلَقَّاهُ الْمُؤَيَّدُ بِالْقَبُولِ.

ذِكْرُ وَفَاةِ مَلِكْشَاهْ بْنِ مَحْمُودٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مَلِكْشَاهْ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْب

(9/275)


أَرْسِلَان بِأَصْفَهَانَ مَسْمُومًا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ جَمْعُهُ بِأَصْفَهَانَ أَرْسَلَ إِلَى بَغْدَادَ، وَطَلَبَ أَنْ يَقْطَعُوا خُطْبَةَ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ شَاهْ، وَيَخْطُبُوا لَهُ، وَيُعِيدُوا الْقَوَاعِدَ بِالْعِرَاقِ إِلَى مَا كَانَتْ أَوَّلًا، وَإِلَّا قَصَدَهُمْ، فَوَضَعَ الْوَزِيرُ عَوْنُ الدِّينِ بْنُ هُبَيْرَةِ خَصِيًّا كَانَ خِصِّيصًا بِهِ، يُقَالُ لَهُ: أَغْلَبُكُ الْكَوْهَرَايِينِيُّ.
فَمَضَى إِلَى بِلَادِ الْعَجَمِ، وَاشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ قَاضِي هَمَذَانَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَبَاعَهَا مِنْ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ قَدْ وَضَعَهَا عَلَى سَمِّهِ وَوَعَدَهَا أُمُورًا عَظِيمَةً، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، وَسَمَّتْهُ فِي لَحْمٍ مَشْوِيٍّ، فَأَصْبَحَ مَيِّتًا، وَجَاءَ الطَّبِيبُ إِلَى دَكْلَا وَشُمْلَةَ، فَعَرَّفَهُمَا أَنَّهُ مَسْمُومٌ، فَعَرَفُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَارِيَةِ، فَأُخِذَتْ، وَضُرِبَتْ، وَأَقَرَّتْ. وَهَرَبَ أَغْلَبُكُ، وَوَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ، وَوَفَّى لَهُ الْوَزِيرُ بِجَمِيعِ مَا اسْتَقَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا مَاتَ أَخْرَجَ أَهْلُ أَصْفَهَانَ أَصْحَابَهُ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَخَطَبُوا لِسُلَيْمَانَ شَاهْ وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَعَادَ شُمْلَةُ إِلَى خُوزَسْتَانَ، فَأَخَذَ مَا كَانَ مَلِكْشَاهْ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ مِنْهَا.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ أَسَدُ الدِّينِ شِيرِكُوهْ بْنُ شَاذِي مُقَدَّمُ جُيُوشِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي صَاحِبِ الشَّامِ، وَشِيرِكُوهْ هَذَا هُوَ الَّذِي مَلَكَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ. وَسَيَرِدُ ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا أَرْسَلَ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ نَائِبُ قُطْبِ الدِّينِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، رَسُولًا إِلَى الْمُسْتَنْجِدِ يَعْتَذِرُ مِمَّا جَنَاهُ مِنْ مُسَاعَدَةِ مُحَمَّد شَاهْ فِي حِصَارِ بَغْدَادَ، وَيَطْلُبُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الْحَجِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يُوسُفَ الدِّمَشْقِيَّ، مُدَرِّسَ النِّظَامِيَّةِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ قَتَلَمِشَّ يُطَيِّبَانِ قَلْبَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ وَيُعَرِّفَانِهِ الْإِذْنَ فِي الْحَجِّ، فَحَجَّ وَدَخَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَكْرَمَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ أَمِيرُ الْحَاجِّ، سَقَطَ عَنِ الْفَرَسِ وَهُوَ يَلْعَبُ بِالْأُكْرَةِ،

(9/276)


فَسَالَ مُخُّهُ مِنْ مَنْخَرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ فَمَاتَ.
وَفِيهَا، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزَّبِيدِيُّ، مِنْ أَهْلِ زَبِيدَ مَدِينَةٍ بِالْيَمَنِ مَشْهُورَةٍ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ نَحْوِيًّا وَاعِظًا، وَصَحِبَهُ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ مُدَّةً، وَكَانَ مَوْتُهُ بِبَغْدَادَ.

(9/277)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ]
556 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَادَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، خَرَجَ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ مِنْ دَارِهِ إِلَى الدِّيوَانِ، وَالْغِلْمَانِ يَطْرُقُونَ لَهُ، وَأَرَادُوا أَنْ يَرِدُوا بَابَ الْمَدْرَسَةِ الْكَمَالِيَّةِ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ، فَمَنَعَهُمُ الْفُقَهَاءُ وَضَرَبُوهُمْ بِالْآجُرِّ، فَشَهَرَ أَصْحَابَ الْوَزِيرِ السُّيُوفَ وَأَرَادُوا ضَرْبَهُمْ، فَمَنَعَهُمُ الْوَزِيرُ، وَمَضَى إِلَى الدِّيوَانِ، فَكَتَبَ الْفُقَهَاءُ مُطَالَعَةً يَشْكُونَ أَصْحَابَ الْوَزِيرِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِضَرْبِ الْفُقَهَاءِ وَتَأْدِيبِهِمْ وَنَفْيِهِمْ مِنَ الدَّارِ، فَمَضَى أُسْتَاذُ الدَّارِ وَعَاقَبَهُمْ هُنَاكَ، وَاخْتَفَى مُدَرِّسُهُمُ الشَّيْخُ أَبُو طَالِبٍ، ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ أَعْطَى كُلَّ فَقِيرٍ دِينَارًا، وَاسْتَحَلَّ مِنْهُمْ، وَأَعَادَهُمْ إِلَى الْمَدْرَسَةِ وَظَهَرَ مُدَرِّسُهُمْ.

ذِكْرُ قَتْلِ تُرْشَكَ
فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ قَصَدَ جَمْعٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ إِلَى الْبَنْدَنِيجِينَ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِتَجْهِيزِ عَسْكَرٍ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ مُقَدِّمُهُمِ الْأَمِيرُ تُرْشَكُ، وَكَانَ فِي أَقْطَاعِهِ بَلَدُ اللِّحْفِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يَسْتَدْعِيهِ، فَامْتَنَعَ مِنَ الْمَجِيءِ إِلَى بَغْدَادَ، وَقَالَ: يَحْضُرُ الْعَسْكَرُ، فَأَنَا أُقَاتِلُ بِهِمْ، وَكَانَ عَازِمًا عَلَى الْغَدْرِ، فَجَهَّزَ الْعَسْكَرَ وَسَارُوا إِلَيْهِ، وَفِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِتُرْشَكَ قَتَلُوهُ، وَأَرْسَلُوا رَأْسَهُ إِلَى بَغْدَادَ، وَكَانَ قَتَلَ مَمْلُوكًا لِلْخَلِيفَةِ، فَدَعَا أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ، وَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ اقْتَصَّ لِأَبِيكُمْ مِمَّنْ قَتَلَهُ.

ذِكْرُ قَتْلِ سُلَيْمَانَ شَاهْ وَالْخُطْبَةِ لِأَرْسِلَانْ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، قُتِلَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ شَاهِ ابْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ

(9/278)


مَلِكْشَاهْ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ تَهَوُّرٌ وَخُرَقٌ، وَبَلَغَ بِهِ شُرْبُ الْخَمْرِ حَتَّى إِنَّهُ شَرِبَهَا فِي رَمَضَانَ نَهَارًا، وَكَانَ يَجْمَعُ الْمَسَاخِرَ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْأُمَرَاءِ، فَأَهْمَلَ الْعَسْكَرُ أَمْرَهُ، وَصَارُوا لَا يَحْضُرُونَ بَابَهُ، وَكَانَ قَدْ رَدَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ إِلَى شَرَفِ الدِّينِ كُرْدَبَازُو الْخَادِمِ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ الْخَدَمِ السَّلْجُوقِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى دِينٍ وَعَقْلٍ وَحُسْنِ تَدْبِيرٍ، فَكَانَ الْأُمَرَاءُ يَشْكُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ يُسَكِّنُهُمْ.
فَاتُّفِقَ أَنَّهُ شَرِبَ يَوْمًا بِظَاهِرِ هَمَذَانَ فِي الْكُشْكِ فَحَضَرَ عِنْدَهُ كُرْدَبَازُو، فَلَامَهُ عَلَى فِعْلِهِ، فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ شَاهْ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمَسَاخِرَةِ فَعَبَثُوا بِكُرْدَبَازُو، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ كَشَفَ لَهُ سَوْءَتَهُ، فَخَرَجَ مُغْضَبًا، فَلَمَّا صَحَا سُلَيْمَانُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَعْتَذِرُ، فَقَبِلَ عُذْرَهُ، إِلَّا أَنَّهُ تَجَنَّبَ الْحُضُورَ عِنْدَهُ، فَكَتَبَ سُلَيْمَانُ إِلَى إِينَانْجَ صَاحِبِ الرَّيِّ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُنْجِدَهُ عَلَى كُرْدَبَازُو، فَوَصَلَ الرَّسُولُ وَإِينَانْجُ مَرِيضٌ، فَأَعَادَ الْجَوَابَ يَقُولُ: إِذَا أَفَقْتُ مِنْ مَرَضِي حَضَرْتَ عِنْدَكَ بِعِسْكَرِي، فَبَلَغَ كُرْدَبَازُو، فَازْدَادَ اسْتِيحَاشًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ يَوْمًا يَطْلُبُهُ، فَقَالَ: إِذَا جَاءَ إِينَانْجُ حَضَرْتُ، وَأَحْضَرَ الْأُمَرَاءَ وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَكَانُوا كَارِهِينَ لِسُلَيْمَانَ، فَحَلَفُوا لَهُ، فَأَوَّلُ مَا عَمِلَ أَنْ قَتَلَ الْمَسَاخِرَةَ الَّذِينَ لِسُلَيْمَانَ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ صِيَانَةً لِمُلْكِكَ، ثُمَّ اصْطَلَحَا، وَعَمِلَ كُرْدَبَازُو دَعْوَةً عَظِيمَةً حَضَرَهَا السُّلْطَانُ وَالْأُمَرَاءُ، فَلَمَّا صَارَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ شَاهْ فِي دَارِهِ قَبَضَ عَلَيْهِ كُرْدَبَازُو وَعَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَحْمُودِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحَامِدِيِّ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ، فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَقَتَلَ وَزِيرَهُ وَخَوَاصَّهُ، وَحَبَسَ سُلَيْمَانَ شَاهْ فِي قَلْعَةٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ خَنَقَهُ، وَقِيلَ بَلْ حَبَسَهُ فِي دَارِ مَجْدِ الدِّينِ الْعَلَوِيِّ رَئِيسِ هَمَذَانَ، وَفِيهَا قُتِلَ، وَقِيلَ بَلْ سُقِيَ سُمًّا فَمَاتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَرْسَلَ إِلَى إِيلْدِكْزَ، صَاحِبِ أَرَّانَ وَأَكْثَرِ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ، يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِيَخْطُبَ لِلْمَلِكِ أَرْسِلَان شَاهْ الَّذِي مَعَهُ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى إِينَانْجَ صَاحِبِ الرَّيِّ، فَسَارَ يَنْهَبُ الْبِلَادَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى هَمَذَانَ، فَتَحَصَّنَ كُرْدَبَازُو، فَطَلَبَ مِنْهُ إِينَانْجُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَصَافًّا، فَقَالَ:

(9/279)


أَنَا لَا أُحَارِبُكَ حَتَّى يَصِلَ الْأَتَابِكُ الْأَعْظَمُ إِيلْدِكْزُ.
[وَسَارَ إِيلْدِكْزُ] فِي عَسَاكِرِهِ جَمِيعِهَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَمَعَهُ أَرْسِلَان شَاهْ بْنُ طُغْرُلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ، فَوَصَلَ إِلَى هَمَذَانَ، فَلَقِيَهُمْ كُرْدَبَازُو، وَأَنْزَلَهُ دَارَ الْمَمْلَكَةِ، وَخَطَبَ لَأَرْسِلَان شَاهْ بِالسَّلْطَنَةِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَكَانَ إِيلْدِكْزُ قَدْ تَزَوَّجَ بِأُمِّ أَرْسِلَان شَاهْ، وَهِيَ أُمُّ الْبَهْلَوَانِ بْنِ إِيلْدِكْزَ، وَكَانَ إِيلْدِكْزُ أَتَابِكَهُ، وَالْبَهْلَوَانُ حَاجِبَهُ، وَهُوَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ، وَكَانَ إِيلْدِكْزُ هَذَا أَحَدَ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ مَسْعُودِ وَاشْتَرَاهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، فَلَمَّا مَلَكَ أَقْطَعَهُ أَرَّانَ وَبَعْضَ أَذْرَبِيجَانَ، وَاتَّفَقَ الْحُرُوبُ وَالِاخْتِلَافُ، فَلَمْ يَحْضُرْ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَاطِينِ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَتَزَوَّجَ بِأُمِّ الْمَلِكِ أَرْسِلَان شَاهْ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا مِنْهُمُ الْبَهْلَوَانُ مُحَمَّدٌ، وَقُزْلُ أَرْسِلَان عُثْمَانُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ انْتِقَالِ أَرْسِلَان شَاهْ إِلَيْهِ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ إِلَى الْآنِ، فَلَمَّا خَطَبَ لَهُ بِهَمَذَانَ أَرْسَلَ إِيلْدِكْزُ إِلَى بَغْدَادَ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ لِأَرْسِلَان شَاهْ أَيْضًا، وَأَنْ تُعَادَ الْقَوَاعِدُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَيَّامَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ، فَأُهِينَ رَسُولُهُ وَأُعِيدَ إِلَيْهِ عَلَى أَقْبَحِ حَالَةٍ، وَأَمَّا إِينَانْجُ صَاحِبُ الرَّيِّ فَإِنَّ إِيلْدِكْزَ رَاسَلَهُ وَلَاطَفَهُ فَاصْطَلَحَا وَتَحَالَفَا عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَتَزَوَّجَ الْبَهْلَوَانُ بْنُ إِيلْدِكْزَ بِابْنَةِ إِينَانْجَ وَنُقِلَتْ إِلَيْهِ بِهَمَذَانَ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ ابْنِ آقَنَسْقَرَ وَعَسْكَرِ إِيلْدِكْزَ
لَمَّا اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَ إِيلْدِكْزَ وَإِينَانْجَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ آقَنَسْقَرَ الْأَحْمَدِيلِيِّ، صَاحِبِ مَرَاغَةَ، يَدْعُوهُ إِلَى الْحُضُورِ فِي خِدْمَةِ السُّلْطَانِ أَرْسِلَان شَاهْ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنْ كَفَفْتُمْ عَنِّي، وَإِلَّا فَعِنْدِي سُلْطَانٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ وَلَدُ مُحَمَّد شَاهْ بْنِ مَحْمُودٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ قَدْ كَاتَبَهُ يُطْمِعُهُ فِي الْخُطْبَةِ لِوَلَدِ مَحْمُود شَاهْ، فَجَهَّزَ إِيلْدِكْزُ عَسْكَرًا مَعَ وَلَدِهِ الْبُهْلُولِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ (إِلَى ابْنِ) آقَنَسْقَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى شَاهْ أَرْمَنْ، صَاحِبِ خِلَاطَ، وَحَالَفَهُ، وَصَارَا يَدًا وَاحِدَةً، فَسَيَّرَ إِلَيْهِ شَاهْ أَرْمَنْ عَسْكَرًا كَثِيرًا، وَاعْتَذَرَ عَنْ تَأَخُّرِهِ بِنَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ فِي ثَغْرٍ لَا يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتَهُ، فَقَوِيَ بِهِمُ ابْنُ آقَنَسْقَرَ، وَكَثُرَ

(9/280)


جَمْعُهُ، وَسَارَ نَحْوَ الْبَهْلَوَانِ، فَالْتَقَيَا عَلَى نَهْرِ أَسْبِيرُودَ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَ الْبَهْلَوَانُ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَوَصَلَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ إِلَى هَمَذَانَ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ، وَاسْتَأْمَنَ أَكْثَرَ أَصْحَابِهِ إِلَى (ابْنِ) آقَنَسْقَرَ، وَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ مَنْصُورًا.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ إِيلْدِكْزَ وَإِينَانْجَ
لَمَّا مَاتَ مَلِكْشَاهْ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَخَذَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ابْنَهُ مَحْمُودًا وَانْصَرَفُوا بِهِ نَحْوَ بِلَادِ فَارِسَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ صَاحِبُهَا زَنْكِي بْنُ دَكْلَا السَّلْغَرِيُّ، فَأَخَذَهُ مِنْهُمْ وَتَرَكَهُ فِي قَلْعَةِ إِصْطَخْرَ، فَلَمَّا مَلَكَ إِيلْدِكْزُ وَالسُّلْطَانُ أَرْسِلَان شَاهْ الَّذِي مَعَهُ الْبِلَادَ، وَأَرْسَلَ إِيلْدِكْزُ إِلَى بَغْدَادَ يَطْلُبُ الْخُطْبَةَ لِلسُّلْطَانِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، شَرَعَ الْوَزِيرُ عَوْنُ الدِّينِ أَبُو الْمُظَفَّرِ يَحْيَى بْنُ هُبَيْرَةَ، وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، فِي إِثَارَةِ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ عَلَيْهِ، وَرَاسَلَ الْأَحْمَدِيلِيَّ، وَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَاتَبَ زَنْكِي بْنَ دَكْلَا صَاحِبَ بِلَادِ فَارِسَ يَبْذُلُ لَهُ أَنْ يَخْطُبَ لِلْمَلِكِ الَّذِي عِنْدَهُ، وَهُوَ ابْنُ مَلِكْشَاهْ، وَعَلَّقَ الْخُطْبَةَ لَهُ بِظَفَرِهِ بِإِيلْدِكْزَ، فَخَطَبَ ابْنُ دَكْلَا لِلْمَلِكِ الَّذِي عِنْدَهُ وَأَنْزَلَهُ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَضَرَبَ الطَّبْلَ عَلَى بَابِهِ خَمْسَ نُوَبٍ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَكَاتَبَ إِينَانْجَ صَاحِبَ الرَّيِّ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُوَافَقَةَ.
وَسَمِعَ إِيلْدِكْزُ الْخَبَرَ، فَحَشَدَ وَجَمَعَ، وَكَثُرَ عَسْكَرُهُ وَجُمُوعُهُ فَكَانَتْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَسَارَ إِلَى أَصْفَهَانَ يُرِيدُ بِلَادَ فَارِسَ، وَأَرْسَلَ إِلَى زَنْكِي بْنِ دَكْلَا يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُوَافَقَةَ [عَلَى] أَنْ يَعَوْدَ يَخْطُبُ لِأَرْسِلَان شَاهْ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ أَقْطَعَنِي بِلَادَهُ وَأَنَا سَائِرٌ إِلَيْهِ، فَرَحَلَ إِيلْدِكْزُ، وَبَلَغَهُ أَنَّ جَشِيرًا لِأَرْسِلَانْ بُوقَا، وَهُوَ أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ زَنْكِي، وَفِي أَقْطَاعِهِ أَرَّجَانَ، بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَأَنْفَذَ سَرِيَّةً لِلْغَارَةِ عَلَيْهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ أَرْسِلَان بُوقَا عَزَمَ عَلَى تَغْيِيرِ الْخَيْلِ الَّتِي مَعَهُ لِضَعْفِهَا، وَأَخَذَ عِوَضَهَا مِنْ ذَلِكَ الْجَشِيرِ، فَسَارَ فِي عَسْكَرِهِ إِلَى الْجَشِيرِ، فَصَادَفَ الْعَسْكَرَ الَّذِي سَيَّرَهُ إِيلْدِكْزُ لِأَخْذِ دَوَابِّهِ، فَقَاتَلَهُمْ وَأَخَذَهُمْ وَقَتَلَهُمْ، وَأَرْسَلَ الرُّءُوسَ إِلَى صَاحِبِهِ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ، وَطَلَبَ الْمَدَدَ، فَوُعِدَ بِذَلِكَ.

(9/281)


وَكَانَ الْوَزِيرُ عَوْنُ الدِّينِ أَيْضًا قَدْ كَاتَبَ الْأُمَرَاءَ الَّذِينَ مَعَ إِيلْدِكْزَ يُوَبِّخُهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَيُضَعِّفُ رَأْيَهُمْ، وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى مُسَاعِدِهِ زَنْكِي ابْنِ دَكْلَا وَإِينَانْجَ، وَكَانَ إِينَانْجُ قَدْ بَرَزَ مِنَ الرَّيِّ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ آقَنَسْقَرَ الْأَحْمَدَيْلِيُّ خَمْسَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَهَرَبَ ابْنُ الْبَازَدَارِ، صَاحِبُ قَزْوِينَ، وَابْنُ طُغُيْرَكَ وَغَيْرُهُمَا، فَلَحِقُوا بِإِينَانْجَ وَهُوَ فِي صَحْرَاءِ سَاوَةَ.
وَأَمَّا إِيلْدِكْزُ فَإِنَّهُ اسْتَشَارَ نُصَحَاءَهُ، فَأَشَارُوا بِقَصْدِ إِينَانْجَ لِأَنَّهُ أَهَمُّ، فَرَحَلَ إِلَيْهِ، وَنَهَبَ زَنْكِي بْنُ دَكْلَا سُهَيْرِمَ وَغَيْرَهَا، فَرَدَّ إِيلْدِكْزُ إِلَيْهِ أَمِيرًا فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ لِحِفْظِ الْبِلَادِ. فَسَارَ زَنْكِي إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ إِيلْدِكْزَ إِلَيْهِ، فَتَجَلَّدَ لِذَلِكَ وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ عَسَاكِرَ أَذْرَبِيجَانَ، فَجَاءَتْهُ مَعَ وَلَدِهِ قُزْلِ أَرْسِلَان.
وَسَيَّرَ زَنْكِي بْنُ دَكْلَا عَسْكَرًا كَثِيرًا إِلَى إِينَانْجَ، وَاعْتَذَرَ عَنِ الْحُضُورِ بِنَفْسِهِ عِنْدَهُ لِخَوْفِهِ عَلَى بِلَادِهِ مِنْ شُمْلَةَ، صَاحِبِ خُوزَسْتَانَ، فَسَارَ إِيلْدِكْزُ إِلَى إِينَانْجَ وَتَدَانَى الْعَسْكَرَانِ، فَالْتَقَوْا تَاسِعَ شَعْبَانَ وَجَرَى بَيْنَهُمْ حَرْبٌ عَظِيمَةٌ أَجْلَتْ عَنْ هَزِيمَةِ إِينَانْجَ، فَانْهَزَمَ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ وَقُتِلَتْ رِجَالُهُ وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُ، وَدَخَلَ الرَّيَّ، وَتَحَصَّنَ فِي قَلْعَةِ طَبْرَكَ، وَحَصَرَ إِيلْدِكْزُ الرَّيَّ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصُّلْحِ، وَاقْتَرَحَ إِينَانْجُ اقْتِرَاحَاتٍ، فَأَجَابَهُ إِيلْدِكْزُ إِلَيْهَا، وَأَعْطَاهُ جَرْبَاذَقَانَ وَغَيْرَهَا، وَعَادَ إِيلْدِكْزُ إِلَى هَمَذَانَ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَأَخَّرَ هَذِهِ الْحَادِثَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ لِتَتْبَعَ أَخَوَاتِهَا.

ذِكْرُ وَفَاةِ مَلَكِ الْغُورِ وَمُلْكِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، تُوُفِّيَ الْمَلِكُ عَلَاءُ الدِّينِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْغُورِيُّ مَلِكُ الْغُورِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْ غَزْنَةَ، وَكَانَ عَادِلًا مِنْ أَحْسَنِ الْمُلُوكِ سِيرَةً فِي رَعِيَّتِهِ، وَلَمَّا مَاتَ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ سَيْفُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، وَأَطَاعَهُ النَّاسُ، وَأَحَبُّوهُ، وَكَانَ قَدْ صَارَ فِي بِلَادِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ دُعَاةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُمْ، فَأُخْرِجُوا مِنْ تِلْكَ الدِّيَارِ

(9/282)


جَمِيعِهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَرَاسَلَ الْمُلُوكَ وَهَادَاهُمْ، وَاسْتَمَالَ الْمُؤَيَّدَ أَيْ أَبَهْ، صَاحِبَ نَيْسَابُورَ، وَطَلَبَ مُوَافَقَتَهُ.

ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِنَيْسَابُورَ وَتَخْرِيبِهَا
كَانَ أَهْلُ الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ بِنَيْسَابُورَ قَدْ طَمِعُوا فِي نَهْبِ الْأَمْوَالِ وَتَخْرِيبِ الْبُيُوتِ، وَفِعْلِ مَا أَرَادُوا، فَإِذَا نَهَبُوا لَمْ يَنْتَهُوا، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ تَقَدَّمَ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ بِقَبْضِ أَعْيَانِ نَيْسَابُورَ، مِنْهُمْ نَقِيبُ الْعَلَوِيِّينَ أَبُو الْقَاسِمِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحُسَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَبَسَهُمْ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] ، وَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ أَطْعَمْتُمُ الرُّنُودَ وَالْمُفْسِدِينَ حَتَّى فَعَلُوا هَذِهِ الْفِعَالَ، وَلَوْ أَرَدْتُمْ مَنْعَهُمْ لَامْتَنَعُوا.
وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ جَمَاعَةً، فَخُرِّبَتْ نَيْسَابُورُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا خُرِّبَ مَسْجِدُ عُقَيْلٍ، كَانَ مَجْمَعًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ خَزَائِنُ الْكُتُبِ الْمَوْقُوفَةُ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَنَافِعِ نَيْسَابُورَ، وَخَرَّبَ أَيْضًا مِنْ مَدَارِسِ الْحَنَفِيَّةِ ثَمَانِيَ مَدَارِسَ، وَمِنْ مَدَارِسِ الشَّافِعِيَّةِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَدْرَسَةً، وَأَحْرَقَ خَمْسَ خَزَائِنَ لِلْكُتُبِ، وَنَهَبَ سَبْعَ خَزَائِنَ كُتُبٍ وَبِيعَتْ بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ، هَذَا مَا أَمْكَنَ إِحْصَاؤُهُ سِوَى مَا لَمْ يُذْكُرْ.

ذِكْرُ خَلْعِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَنَهْبِ طُوسَ وَغَيْرِهَا مِنْ خُرَاسَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، قَصَدَ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدِ الْخَانْ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَلَكَ خُرَاسَانَ بَعْدَهُ، فَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ الْمُؤَيَّدُ صَاحِبُ نَيْسَابُورَ بَشَاذِيَاخَ، وَكَانَ الْغُزُّ مَعَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَدَامَتِ الْحَرْبُ إِلَى آخِرِ شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ مَحْمُودًا أَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ دُخُولَ الْحَمَّامِ، فَدَخَلَ إِلَى شَهْرَسْتَانَ، آخِرَ شَعْبَانَ، كَالْهَارِبِ مَنَّ الْغُزِّ، وَأَقَامُوا عَلَى نَيْسَابُورَ إِلَى آخِرِ شَوَّالٍ، ثُمَّ عَادُوا رَاجِعِينَ، فَعَاثُوا فِي الْقُرَى وَنَهَبُوهَا، وَنَهَبُوا طُوسَ نَهْبًا فَاحِشًا، وَحَضَرُوا الْمَشْهَدَ الَّذِي لِعَلِيِّ بْنِ

(9/283)


مُوسَى، وَقَتَلُوا كَثِيرًا مِمَّنْ فِيهِ وَنَهَبُوهُمْ، وَلَمْ يَعْرِضُوا لِلْقُبَّةِ الَّتِي فِيهَا الْقَبْرُ.
فَلَمَّا دَخَلَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى نَيْسَابُورَ أَمْهَلَهُ الْمُؤَيَّدُ إِلَى أَنْ دَخَلَ رَمَضَانُ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَأَخَذَهُ وَكَحَّلَهُ وَأَعْمَاهُ، وَأَخَذَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ، وَكَانَ يُخْفِيهَا خَوْفًا عَلَيْهَا مِنَ الْغُزِّ، لَمَّا كَانَ مَعَهُمْ، وَقَطَعَ الْمُؤَيَّدُ خُطْبَتَهُ مِنْ نَيْسَابُورَ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ فِي تَصَرُّفِهِ، وَخَطَبَ لِنَفْسِهِ، بَعْدَ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ، وَأَخَذَ ابْنَهُ جَلَالَ الدِّينِ مُحَمَّدًا الَّذِي كَانَ مَلَّكَهُ الْغُزُّ أَمْرَهُمْ قَبْلَ أَبِيهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَسَمَلَهُ أَيْضًا، وَسَجَنَهُمَا، وَمَعَهُمَا جَوَارِيهِمَا وَحَشَمُهُمَا، وَبَقِيَا فِيهَا فَلَمْ تُطِلْ أَيَّامُهُمَا، وَمَاتَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهُ بَعْدَهُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِهِ لِمَوْتِ أَبِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ عِمَارَةِ شَاذِيَاخِ نَيْسَابُورَ
كَانَتْ شَاذِيَاخُ قَدْ بَنَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، لَمَّا كَانَ أَمِيرًا عَلَى خُرَاسَانَ لِلْمَأْمُونِ، وَسَبَبُ عِمَارَتِهَا أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً جَمِيلَةً تَقُودُ فَرَسًا تُرِيدُ سَقْيَهُ، فَسَأَلَهَا عَنْ زَوْجِهَا، فَأَخْبَرَتْهُ بِهِ، فَأَحْضَرَهُ، وَقَالَ لَهُ: خِدْمَةُ الْخُيُولِ بِالرِّجَالِ أَشْبَهُ، فَلِمَ تَقْعُدْ أَنْتَ فِي دَارِكَ وَتُرْسِلِ امْرَأَتَكَ مَعَ فَرَسِكَ؟ فَبَكَى الرَّجُلَ، وَقَالَ لَهُ: ظُلْمُكَ يَحْمِلُنَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ تُنْزِلُ الْجُنْدَ مَعَنَا فِي دُورِنَا، فَإِنْ خَرَجْتُ أَنَا وَزَوْجَتِي بَقِيَ الْبَيْتُ فَارِغًا، فَيَأْخُذُ الْجُنْدِيُّ مَا لَنَا فِيهِ، وَإِنْ سَقَيْتُ أَنَا الْفَرَسَ فَلَا آمَنُ عَلَى زَوْجَتِي مِنَ الْجُنْدِيِّ، فَرَأَيْتُ أَنْ أُقِيمَ فِي الْبَيْتِ وَتَخْدِمُ زَوْجَتِي الْفَرَسَ.
فَعَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَخَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ لِوَقْتِهِ، وَنَزَلَ فِي الْخِيَامِ، وَأَمَرَ الْجُنْدَ، فَخَرَجُوا مِنْ دُورِ النَّاسِ، وَبَنَى شَاذِيَاخَ دَارًا لَهُ وَلِجُنْدِهِ وَسَكَنَهَا وَهُمْ مَعَهُ، ثُمَّ إِنَّهَا دُثِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ السُّلْطَانِ أَلْب أَرْسِلَان، ذُكِرَتْ لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةُ فَأَمَرَ بِتَجْدِيدِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا تَشَعَّثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ وَخُرِّبَتْ نَيْسَابُورُ، وَلَمْ يُمْكِنْ حِفْظُهَا، وَالْغُزُّ تَطْرُقُ الْبِلَادَ وَتَنْهَبُهَا، أَمَرَ الْمُؤَيَّدُ حِينَئِذٍ بِعَمَلِ سُورِهَا، وَسَدِّ ثُلَمِهِ وَسُكْنَاهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَسَكَنَهَا هُوَ وَالنَّاسُ وَخُرِّبَتْ حِينَئِذٍ نَيْسَابُورُ كُلَّ خَرَابٍ، وَلَمْ يَبْقَ بِهَا أَنِيسٌ.

ذِكْرُ قَتْلِ الصَّالِحِ بْنِ رُزَّيْكَ وَوِزَارَةِ ابْنِهِ رُزَّيْكَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، قُتِلَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ أَبُو الْغَارَاتِ طَلَائِعُ بْنُ

(9/284)


رُزَّيْكَ الْأَرْمَنِيُّ، وَزِيرُ الْعَاضِدِ الْعَلَوِيِّ، صَاحِبِ مِصْرَ، وَكَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ تَحَكَّمَ فِي الدَّوْلَةِ التَّحَكُّمَ الْعَظِيمَ، وَاسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ إِلَيْهِ، لِصِغَرِ الْعَاضِدِ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَلَّاهُ، وَوَتَرَ النَّاسَ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ كَثِيرًا مِنْ أَعْيَانِهِمْ وَفَرَّقَهُمْ فِي الْبِلَادِ لِيَأْمَنَ وُثُوبَهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنَ الْعَاضِدِ فَعَادَاهُ أَيْضًا الْحُرُمُ مِنَ الْقَصْرِ، فَأَرْسَلَتْ عَمَّةُ الْعَاضِدِ الْأَمْوَالَ إِلَى أُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَدَعَتْهُمْ إِلَى قَتْلِهِ.
وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرَّاعِي، فَوَقَفُوا لَهُ فِي دِهْلِيزِ الْقَصْرِ، فَلَمَّا دَخَلَ ضَرَبُوهُ بِالسَّكَاكِينِ عَلَى دَهَشٍ [مِنْهُ] ، فَجَرَحُوهُ جِرَاحَاتٍ مُهْلِكَةً، إِلَّا أَنَّهُ حُمِلَ إِلَى دَارِهِ وَفِيهِ حَيَاةٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْعَاضِدِ يُعَاتِبُهُ عَلَى الرِّضَى بِقَتْلِهِ مَعَ أَثَرِهِ فِي خِلَافَتِهِ، فَأَقْسَمَ الْعَاضِدُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ بَرِيئًا، فَسَلِّمْ عَمَّتَكَ إِلَيَّ حَتَّى أَنْتَقِمَ مِنْهَا، فَأَمَرَ بِأَخْذِهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَأَخَذَهَا قَهْرًا، وَأُحْضِرَتْ عِنْدَهُ، فَقَتَلَهَا، وَوَصَّى بِالْوِزَارَةِ لِابْنِهِ رُزَّيْكَ، وَلُقِّبَ الْعَادِلُ، فَانْتَقَلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ.
وَلِلصَّالِحِ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ بَلِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى فَضْلٍ غَزِيرٍ، فَمِنْهَا فِي الِافْتِخَارِ:
أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَدُومَ لَنَا الدَّهْرُ ... وَيَخْدِمَنَا فِي مُلْكِنَا الْعِزُّ وَالنَّصْرُ
عَلِمْنَا بِأَنَّ الْمَالَ تَفْنَى أَلُوفُهُ ... وَيَبْقَى لَنَا مِنْ بَعْدِهِ الْأَجْرُ
وَالذِّكْرُ خَلَطْنَا النَّدَى بِالْبَأْسِ حَتَّى كَأَنَّنَا ... سَحَابٌ لَدَيْهِ الْبَرْقُ وَالرَّعْدُ
وَالْقَطْرُ قِرَانَا إِذَا رُحْنَا إِلَى الْحَرْبِ مَرَّةً ... يَرَانَا وَمِنْ أَضْيَافِنَا الذِّئْبُ وَالنَّسْرُ
كَمَا أَنَّنَا فِي السِّلْمِ نَبْذُلُ جُودَنَا ... وَيَرْتَعُ فِي إِنْعَامِنَا الْعَبْدُ وَالْحُرُّ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ.
وَكَانَ الصَّالِحُ كَرِيمًا فِيهِ أَدَبٌ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَكَانَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَهُ إِنْفَاقٌ،

(9/285)


وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الْعَطَاءَ الْكَثِيرَ، بَلَغَهُ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ الدَّهَّانِ النَّحْوِيَّ الْبَغْدَادِيَّ الْمُقَيَّمَ بِالْمَوْصِلِ قَدْ شَرَحَ بَيْتًا مِنْ شِعْرِهِ وَهُوَ هَذَا:
تَجَنَّبَ سَمْعِي مَا يَقُولُ الْعَوَاذِلُ ... وَأَصْبَحَ لِي شُغْلٌ مِنَ الْغَزْوِ شَاغِلٌ
فَجَهَّزَ إِلَيْهِ هَدِيَّةً سَنِّيَّةً لِيُرْسِلَهَا إِلَيْهِ، فَقُتِلَ قَبْلَ إِرْسَالِهَا.
وَبَلَغَهُ أَيْضًا أَنَّ إِنْسَانًا مِنْ أَعْيَانِ الْمَوْصِلِ قَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ كِتَابًا يَشْكُرُهُ وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ.
وَكَانَ الصَّالِحُ إِمَامِيًّا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَذْهَبِ الْعَلَوِيِّينَ الْمِصْرِيِّينَ، وَلَمَّا وَلِيَ الْعَاضِدُ الْخِلَافَةَ، سَمِعَ الصَّالِحُ ضَجَّةً عَظِيمَةً، فَقَالَ: مَا الْخَبَرُ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِالْخَلِيفَةِ، فَقَالَ: كَأَنِّي بِهَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ مَا مَاتَ الْأَوَّلُ حَتَّى اسْتَخْلَفَ هَذَا، وَمَا عَلِمُوا أَنَّنِي كُنْتُ مِنْ سَاعَةٍ أَسْتَعْرِضُهُمُ اسْتِعْرَاضَ الْغَنَمِ.
قَالَ عُمَارَةُ: دَخَلْتُ إِلَى الصَّالِحِ قَبْلَ قَتْلِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَنَاوَلَنِي قِرْطَاسًا فِيهِ بَيْتَانِ مِنْ شِعْرِهِ وَهُمَا:
نَحْنُ فِي غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ وَلِلَمَوْ ... تِ عُيُونٌ يَقْظَانَةٌ لَا تَنَامُ
قَدْ رَحَلْنَا إِلَى الْحِمَامِ سِنِينًا ... لَيْتَ شِعْرِي مَتَى يَكُونُ الْحِمَامُ
فَكَانَ آخِرَ عَهْدِي بِهِ.
وَقَالَ عُمَارَةُ أَيْضًا: وَمِنْ عَجِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّنِي أَنْشَدْتُ ابْنَهُ قَصِيدَةً أَقُولُ فِيهَا:
أَبُوكَ الذِي تَسْطُو اللَّيَالِي بِحَدِّهِ ... وَأَنْتَ يَمِينٌ إِنْ سَطَا وَشِمَالُ
لِرُتْبَتِهِ الْعُظْمَى وَإِنْ طَالَ عُمْرُهُ ... إِلَيْكَ مَصِيرٌ وَاجِبٌ وَمَنَالُ
تُخَالِسُكَ اللَّحْظَ الْمَصُونَ وَدُونَهَا ... حِجَابٌ شَرِيفٌ لَا انْقَضَا وَحِجَالُ

(9/286)


فَانْتَقَلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَعَسْكَرِ بَغْدَادَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، اجْتَمَعَتْ خَفَاجَةُ إِلَى الْحِلَّةِ وَالْكُوفَةِ، وَطَالَبُوا بِرُسُومِهِمْ مِنَ الطَّعَامِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَنَعَهُمْ أَمِيرُ الْحَاجِّ أَرْغَشُ، وَهُوَ مُقْطَعٌ الْكُوفَةَ، وَوَافَقَهُ عَلَى مَنْعِهِ الْأَمِيرُ قَيْصَرُ شِحْنَةُ الْحِلَّةِ، وَهُمَا مِنْ مَمَالِيكِ الْخَلِيفَةِ، فَأَفْسَدَتْ خَفَاجَةُ، وَنَهَبُوا سَوَادَ الْكُوفَةِ وَالْحِلَّةِ، فَأَسْرَى إِلَيْهِمُ الْأَمِيرَ قَيْصَرَ، شِحْنَةَ الْحِلَّةِ، فِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَارِسًا، وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَرْغَشُ فِي عَسْكَرٍ وَسِلَاحٍ، فَانْتَزَحَتْ خَفَاجَةُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَتَبِعَهُمُ الْعَسْكَرُ إِلَى رَحْبَةِ الشَّامِ، فَأَرْسَلَ خَفَاجَةُ يَعْتَذِرُونَ وَيَقُولُونَ: قَدْ قَنِعْنَا بِلَبَنِ الْإِبِلِ وَخُبْزِ الشَّعِيرِ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَنَا رُسُومَنَا، وَطَلَبُوا الصُّلْحَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ أَرَغْشُ وَقَيْصَرُ.
وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَ خَفَاجَةَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا، وَأَرْسَلَتِ الْعَرَبُ طَائِفَةً إِلَى خِيَامِ الْعَسْكَرِ وَرِحَالِهِمْ فَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، وَحَمَلَ الْعَرَبُ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَانْهَزَمَ الْعَسْكَرُ، وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَقُتِلَ الْأَمِيرُ قَيْصَرُ، وَأُسِرَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، وَجُرِحَ أَمِيرُ الْحَاجِّ جِرَاحَةً شَدِيدَةً، وَدَخَلَ الرَّحْبَةَ، فَحَمَاهُ شَيْخُهَا وَأَخَذَ لَهُ الْأَمَانَ وَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَادَ، وَمَنْ نَجَا مَاتَ عَطَشًا فِي الْبَرِّيَّةِ.
وَكَانَ إِمَاءُ الْعَرَبِ يَخْرُجْنَ بِالْمَاءِ يَسْقِينَ الْجَرْحَى، فَإِذَا طَلَبَهُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْعَسْكَرِ أَجْهَزْنَ عَلَيْهِ، وَكَثُرَ النَّوْحُ وَالْبُكَاءُ بِبَغْدَادَ عَلَى الْقَتْلَى، وَتَجَهَّزَ الْوَزِيرُ عَوْنُ الدِّينِ بْنُ هُبَيْرَةَ وَالْعَسَاكِرُ مَعَهُ، فَخَرَجَ فِي طَلَبِ خَفَاجَةَ، فَدَخَلُوا الْبَرَّ وَخَرَجُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، وَلَمَّا دَخَلُوا الْبَرَّ عَادَ الْوَزِيرُ إِلَى بَغْدَادَ، وَأَرْسَلَ بَنُو خَفَاجَةَ يَعْتَذِرُونَ، وَيَقُولُونَ: بُغِيَ عَلَيْنَا، وَفَارَقْنَا الْبِلَادَ، فَتَبِعُونَا وَاضْطُرِرْنَا إِلَى الْقِتَالِ، وَسَأَلُوا الْعَفْوَ عَنْهُمْ، فَأَجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ.

ذِكْرُ حَصْرِ الْمُؤَيَّدِ شَارِسَتَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ مَدِينَةَ شَارِسَتَانَ قُرْبَ نَيْسَابُورَ، وَقَاتَلَهُ

(9/287)


أَهْلُهَا، وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ وَالْعَرَّادَاتِ، فَصَبَرَ أَهْلُهَا خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْمُؤَيَّدِ، وَكَانَ مَعَهُ جَلَالُ الدِّينِ الْمُؤَيَّدُ الْمُوَفَّقِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، فَبَيْنَمَا هُوَ رَاكِبٌ إِذْ وَصَلَ إِلَيْهِ حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ فَقَتَلَهُ خَامِسَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ، وَتَعَدَّى الْحَجَرُ مِنْهُ إِلَى شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِ بَيْهَقَ، فَقَتَلَهُ، فَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ بِقَتْلِ جَلَالِ الدِّينِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، خُصُوصًا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَكَانَ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا قُتِلَ.
وَدَامَ الْحِصَارُ إِلَى شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَنَزَلَ خَوَاجِكِيُّ صَاحِبُهَا بَعْدَمَا كَثُرَ الْقَتْلُ، وَدَامَ الْحَصْرُ، وَكَانَ لِهَذِهِ الْقَلْعَةِ ثَلَاثَةُ رُؤَسَاءَ هُمْ أَرْبَابُ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَهُمُ الَّذِينَ حَفِظُوهَا وَقَاتَلُوا عَنْهَا، أَحَدُهُمْ خَوَاجِكِيُّ هَذَا، وَالثَّانِي دَاعِي بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ أَخِي حَرْبٍ الْعَلَوِيُّ، وَالثَّالِثُ الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْعَلَوِيُّ الْفَارِسِيُّ، فَنَزَلُوا كُلُّهُمْ أَيْضًا إِلَى الْمُؤَيَّدِ أَيْ أَبَهْ، فَيِمَنَ مَعَهُمْ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ. فَأَمَّا خَوَاجِكِيُّ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَتَلَ زَوْجَتَهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَأَخَذَ مَالَهَا، فَقُتِلَ بِهَا وَمَلَكَ الْمُؤَيَّدُ شَارِسَتَانُ، وَصَفَتْ لَهُ، فَنَهَبَهَا عَسْكَرُهُ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا سَبَوْهَا.

ذِكْرُ مُلْكِ الْكَرَجِ مَدِينَةَ آنِي
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، اجْتَمَعَتِ الْكَرَجُ مَعَ مَلِكِهِمْ، وَسَارُوا إِلَى مَدِينَةِ آنِي مِنْ بِلَادِ أَرَّانَ، وَمَلَكُوهَا، وَقَتَلُوا فِيهَا خَلْقًا كَثِيرًا، فَانْتُدِبَ لَهُمْ شَاهْ أَرْمَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَكْمَانَ صَاحِبُ خِلَاطَ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ، فَلَقُوهُ، وَقَاتَلُوهُ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَأُسِرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَعَادَ شَاهْ أَرْمَنُ مَهْزُومًا لَمْ يَرْجِعْ مَعَهُ غَيْرُ أَرْبَعِ مِائَةِ فَارِسٍ مِنْ عَسْكَرِهِ.

ذِكْرُ وِلَايَةِ عِيسَى مَكَّةَ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى
كَانَ أَمِيرُ مَكَّةَ، هَذِهِ السَّنَةَ، قَاسِمُ بْنُ فُلَيْتَةَ بْنِ قَاسِمِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ الْعَلَوِيُّ الْحَسَنِيُّ، فَلَمَّا سَمِعَ بِقُرْبِ الْحُجَّاجِ مِنْ مَكَّةَ صَادَرَ الْمُجَاوِرِينَ وَأَعْيَانَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَخَذَ كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَهَرَبَ مِنْ مَكَّةَ خَوْفًا مِنْ أَمِيرِ الْحَاجِّ أَرْغَشَ.
وَكَانَ قَدْ حَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ بَكْتَكِينَ، صَاحِبُ جَيْشِ الْمَوْصِلِ،

(9/288)


وَمَعَهُ طَائِفَةٌ صَالِحَةٌ مِنَ الْعَسْكَرِ، فَلَمَّا وَصَلَ أَمِيرُ الْحَاجِّ إِلَى مَكَّةَ رَتَّبَ مَكَانَ قَاسِمِ بْنِ فُلَيْتَةَ عَمَّهُ عِيسَى بْنَ قَاسِمِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ إِنَّ قَاسِمَ بْنَ فُلَيْتَةَ جَمَعَ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ الْعَرَبِ أَطْمَعَهُمْ فِي مَالٍ لَهُ بِمَكَّةَ، فَاتَّبَعُوهُ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَيْهَا، فَلَمَّا سَمِعَ عَمُّهُ عِيسَى فَارَقَهَا، وَدَخَلَهَا قَاسِمٌ فَأَقَامَ بِهَا أَمِيرًا أَيَّامًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يُوصِلُهُ إِلَى الْعَرَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَتَلَ قَائِدًا كَانَ مَعَهُ أَحْسَنَ سِيرَةً، فَتَغَيَّرَتْ نِيَّاتُ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ، وَكَاتَبُوا عَمَّهُ عِيسَى، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَهَرَبَ وَصَعِدَ جَبَلَ أَبِي قُبَيْسَ، فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُ عِيسَى، وَقَتَلُوهُ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ، فَأَخَذَهُ وَغَسَّلَهُ وَدَفَنَهُ بِالْمُعَلَّى عِنْدَ أَبِيهِ فُلَيْتَةَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِعِيسَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، صَاحِبُ الْمَغْرِبِ، إِلَى جَبَلِ طَارِقٍ، وَهُوَ عَلَى سَاحِلِ الْخَلِيجِ مِمَّا يَلِي الْأَنْدَلُسَ، فَعَبَرَ الْمَجَازَ إِلَيْهِ، وَبَنَى عَلَيْهِ مَدِينَةً حَصِينَةً، وَأَقَامَ بِهَا عِدَّةَ شُهُورٍ، وَعَادَ إِلَى مَرَّاكُشَ.
وَفِيهَا فِي الْمُحَرَّمِ، وَرَدَ نَيْسَابُورَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ تُرْكُمَانَ بِلَادِ فَارِسَ وَمَعَهُمْ أَغْنَامٌ كَثِيرَةٌ لِلتِّجَارَةِ، فَبَاعُوهَا، وَأَخَذُوا الثَّمَنَ، وَسَارُوا وَنَزَلُوا عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ طَابِسَ كَنِكْلِي، وَنَامُوا هُنَاكَ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ، وَكَبَسُوهُمْ لَيْلًا، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيهِمْ، فَقَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَغَنِمَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ جَمِيعَ مَا مَعَهُمْ مِنْ مَالٍ وَعَرُوضٍ، وَعَادُوا إِلَى قِلَاعِهِمْ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْطَارُ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَلَا سِيَّمَا خُرَاسَانَ، فَإِنَّ الْأَمْطَارَ تَوَالَتْ فِيهَا مِنَ الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِلَى مُنْتَصَفِ صَفَرَ لَمْ تَنْقَطِعْ، وَلَا رَأَى النَّاسُ فِيهَا شَمْسًا.
وَفِيهَا كَانَ بَيْنَ الْكَرَجِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ صَلْتَقَ بْنِ عَلِيٍّ، صَاحِبِ أَرْزَنَ الرُّومِ، قِتَالٌ وَحَرْبٌ انْهَزَمَ فِيهِ صَلْتَقُ وَعَسْكَرُهُ، وَأُسِرَ هُوَ، وَكَانَتْ أُخْتُهُ شَاهْ بَانُوارَ قَدْ تَزَوَّجَهَا شَاهْ أَرْمَنْ سَكْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَكْمَانَ صَاحِبُ خِلَاطَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَلِكِ الْكَرَجِ هَدِيَّةً

(9/289)


جَلِيلَةَ الْمِقْدَارِ، وَطَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يُفَادِيَهَا بِأَخِيهَا، فَأَطْلَقَهُ، فَعَادَ إِلَى مُلْكِهِ.
وَفِيهَا قَصَدَ صَاحِبُ صَيْدَا مِنَ الْفِرِنْجِ نُورَ الدِّينِ مَحْمُودٍ، صَاحِبَ الشَّامِ، مُلْتَجِئًا إِلَيْهِ، فَأَمَّنَهُ وَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا يَمْنَعُهُ مِنَ الْفِرِنْجِ أَيْضًا، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ فِي الطَّرِيقِ كَمِينٌ لِلْفِرِنْجِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةً وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ.
فِيهَا مَلَكَ قُرَّا أَرْسِلَان، صَاحِبُ حِصْنِ كَيْفَا، قَلْعَةَ شَاتَانَ، وَكَانَتْ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَكْرَادِ يُقَالُ لَهُمُ الْجُونِيَّةُ، فَلَمَّا مَلَكَهَا خَرَّبَهَا وَأَضَافَ وِلَايَتَهَا إِلَى حِصْنِ طَالِبٍ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْكَمَالُ حَمْزَةُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ، كَانَ جَلِيلَ الْقَدْرِ أَيَّامَ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ، وَوَلِيَ الْمُقْتَفِي، وَبَنَى مَدْرَسَةً لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِالْقُرْبِ مِنْ دَارِهِ، ثُمَّ حَجَّ وَعَادَ وَقَدْ لَبِسَ الْفُوَطَ وَزِيَّ الصُّوفِيَّةِ وَتَرَكَ الْأَعْمَالَ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِيهِ:
يَا عَضُدَ الْإِسْلَامِ يَا مَنْ سَمَتْ ... إِلَى الْعُلَا هِمَّتُهُ الْفَاخِرَهْ
كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا، فَلَمْ تَرْضَهَا ... مُلْكًا فَأَخْلَدْتَ إِلَى الْآخِرَهْ
وَبَقِيَ مُنْقَطِعًا فِي بَيْتِهِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَزَلْ مُحْتَرَمًا يَغْشَاهُ النَّاسُ كَافَّةً.

(9/290)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ]
557 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
ذِكْرُ فَتْحِ الْمُؤَيَّدِ طُوسَ وَغَيْرَهَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرَ، نَازَلَ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ أَبَا بَكْرٍ جَانْدَارَ بِقَلْعَةِ وَسْكَرَهْ خُوَيَّ مِنْ طُوسَ وَكَانَ قَدْ تَحَصَّنَ بِهَا، وَهِيَ حَصِينَةٌ مَنِيعَةٌ لَا تُرَامُ، فَقَاتَلَهُ وَأَعَانَهُ أَهْلُ طَوْسَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ لِسُوءِ سِيرَتِهِ فِيهِمْ وَظُلْمِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو بَكْرٍ مُلَازَمَةَ الْمُؤَيَّدِ وَمُوَاصَلَةَ الْقِتَالِ عَلَيْهِ خَضَعَ وَذَلَّ وَاسْتَكَانَ، وَنَزَلَ مِنَ الْقَلْعَةِ بِالْأَمَانِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ مِنْهَا حَبَسَهُ الْمُؤَيَّدُ وَأَمَرَ بِتَقْيِيدِهِ.
ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى كُرِسَتَانَ، وَصَاحِبُهَا أَبُو بَكْرٍ فَاخِرٌ، فَنَزَلَ مِنْ قَلْعَتِهِ، وَهِيَ مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ عَالٍ، وَصَارَ فِي طَاعَةِ الْمُؤَيَّدِ، وَدَانَ لَهُ وَوَافَقَهُ، وَسَيَّرَ جَيْشًا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا إِلَى أَسْفَرِايِّينَ، فَتَحَصَّنَ رَئِيسُهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَاجُّ بِالْقَلْعَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ كَرِيمَ خُرَاسَانَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَكِنْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا بِئْسَ الْخَلَفُ، فَلَمَّا تَحَصَّنَ أَحَاطَ بِهِ الْعَسْكَرُ الْمُؤَيَّدِيُّ، وَاسْتَنْزَلُوهُ مِنَ الْحِصْنِ، وَحَمَلُوهُ مُقَيَّدًا إِلَى شَاذِيَاخَ وَحُبِسَ بِهَا، وَقِيلَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَمَلَكَ الْمُؤَيَّدُ أَيْضًا قُهُنْدُزَ نَيْسَابُورَ، وَاسْتَدَارَتْ مَمْلَكَةُ الْمُؤَيَّدِ حَوْلَ نَيْسَابُورَ وَعَادَتْ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلُ، إِلَّا أَنَّ أَهْلَهَا انْتَقَلُوا إِلَى شَاذِيَاخَ، وَخُرِّبَتِ الْمَدِينَةُ الْعَتِيقَةُ.
وَسَيَّرَ الْمُؤَيَّدُ جَيْشًا إِلَى خَوَافَ، وَبِهَا عَسْكَرٌ مَعَ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ اسْمُهُ أَرْغَشُ، فَكَمَّنَ أَرَغْشُ جَمْعًا فِي تِلْكَ الْمَضَايِقِ وَالْجِبَالِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى عَسْكَرِ الْمُؤَيَّدِ، فَقَاتَلَهُمْ وَطَلَعَ

(9/291)


الْكَمِينُ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْمُؤَيَّدِ وَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمْعٌ، وَعَادَ الْبَاقُونَ إِلَى الْمُؤَيَّدِ بِنَيْسَابُورَ.
وَسَيَّرَ جَيْشًا إِلَى بُوشَنْجِ هَرَاةَ، وَهِيَ فِي طَاعَةِ الْمَلِكِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْغُورِيِّ، فَحَصَرُوهَا، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَيْهَا، وَدَامَ الْقِتَالُ وَالزَّحْفُ، فَسَيَّرَ الْمَلِكُ مُحَمَّدُ الْغُورِيُّ جَيْشًا إِلَيْهَا ; لِيَمْنَعَ عَنْهَا، فَلَمَّا قَارَبُوا هَرَاةَ فَارَقَهَا الْعَسْكَرُ الَّذِينَ يَحْصُرُهَا، وَعَادُوا عَنْهَا وَصَفَتْ تِلْكَ الْوِلَايَةُ لِلْغُورِيِّ.

ذِكْرُ أَخْذِ ابْنِ مَرْدَنِيشَ غَرْنَاطَةَ مِنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَعَوْدِهَا إِلَيْهِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ أَهْلُ غَرْنَاطَةَ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَهِيَ لِعَبْدِ الْمُؤْمِنِ، إِلَى الْأَمِيرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَمَشْكَ صِهْرِ ابْنِ مَرْدَنِيشَ. فَاسْتَدْعُوهُ إِلَيْهِمْ ; لِيُسَلِّمُوا إِلَيْهِ الْبَلَدَ، وَكَانَ قَدْ وَحَّدَ، وَصَارَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَفِي طَاعَتِهِ، وَمِمَّنْ يُحَرِّضُهُ عَلَى قَصْدِ ابْنِ مَرْدَنِيشَ. فَفَارَقَ طَاعَةَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَعَادَ إِلَى مُوَافَقَةِ ابْنِ مَرْدَنِيشَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ رُسُلُ أَهْلِ غَرْنَاطَةَ سَارَ مَعَهُمْ إِلَيْهَا، فَدَخَلَهَا وَبِهَا جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَامْتَنَعُوا بِحِصْنِهَا، فَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا سَعِيدٍ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ بِمَدِينَةِ مَالِقَةَ، فَجَمَعَ الْجَيْشَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ وَتَوَجَّهَ إِلَى غَرْنَاطَةَ لِنُصْرَةِ مَنْ فِيهَا مِنْ أَصْحَابِهِمْ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَمَشْكَ، فَاسْتَنْجَدَ ابْنُ مَرْدَنِيشَ، مَلِكَ الْبِلَادِ بِشَرْقِ الْأَنْدَلُسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَلْفَيْ فَارِسٍ مِنْ أَنْجَادِ أَصْحَابِهِ وَمِنَ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ جَنَّدَهُمْ مَعَهُ، فَاجْتَمَعُوا بِضَوَاحِي غَرْنَاطَةَ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَمَنْ بِغَرْنَاطَةَ مِنْ عَسْكَرِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ قَبْلَ وُصُولِ أَبِي سَعِيدٍ إِلَيْهِمْ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَقَدِمَ أَبُو سَعِيدٍ، وَاقْتَتَلُوا أَيْضًا، فَانْهَزَمَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَثَبَتَ مَعَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْفُرْسَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَالرَّجَّالَةِ الْأَجْلَادِ، حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَانْهَزَمَ حِينَئِذٍ أَبُو سَعِيدٍ وَلَحِقَ بِمَالَقَةَ.
وَسَمِعَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ الْخَبَرَ، وَكَانَ قَدْ سَارَ إِلَى مَدِينَةِ سَلَا، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ فِي الْحَالِ ابْنَهُ أَبَا يَعْقُوبَ يُوسُفَ فِي عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ الْمُوَحِّدِينَ، فَجَدُّوا الْمَسِيرَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ مَرْدَنِيشَ، فَسَارَ بِنَفْسِهِ وَجَيْشِهِ إِلَى غَرْنَاطَةَ لِيُعِينَ ابْنَ هَمَشْكَ، فَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ بِغَرْنَاطَةَ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَنَزَلَ ابْنُ مَرْدَنِيشَ فِي الشَّرِيعَةِ بِظَاهِرِهَا، وَنَزَلَ الْعَسْكَرُ الَّذِي كَانَ أَمَدَّ بِهِ ابْنَ هَمَشْكَ أَوَّلًا، وَهُمْ أَلْفَا فَارِسٍ، بِظَاهِرِ الْقَلْعَةِ

(9/292)


الْحَمْرَاءِ، وَنَزَلَ ابْنُ هَمَشْكَ بِبَاطِنِ الْقَلْعَةِ الْحَمْرَاءِ فَيْمَنْ مَعَهُ، وَوَصَلَ عَسْكَرُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَى جَبَلٍ قَرِيبٍ مِنْ غَرْنَاطَةَ، فَأَقَامُوا فِي سَفْحِهِ أَيَّامًا ثُمَّ سَيَّرُوا أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ، فَبَيَّتُوا الْعَسْكَرَ الَّذِي بِظَاهِرِ الْقَلْعَةِ الْحَمْرَاءِ، وَقَاتَلُوهُمْ مِنْ جِهَاتِهِمْ، فَمَا لَحِقُوا يَرْكَبُونَ، فَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ.
وَأَقْبَلَ عَسْكَرُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِجُمْلَتِهِ، فَنَزَلُوا بِضَوَاحِي غَرْنَاطَةَ، فَعَلِمَ ابْنُ مَرْدَنِيشَ وَابْنُ هَمَشْكَ أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِمْ، فَفَرُّوا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَحِقُوا بِبِلَادِهِمْ، وَاسْتَوْلَى الْمُوَحِّدُونَ عَلَى غَرْنَاطَةَ فِي بَاقِي السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَادَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مِنْ مَدِينَةِ سَلَا إِلَى مَرَّاكُشَ.

ذِكْرُ حَصْرِ نُورِ الدِّينِ حَارِمَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَعَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي بْنِ آقَنَسْقَرَ، صَاحِبُ الشَّامِ، الْعَسَاكِرَ بِحَلَبَ، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةِ حَارِمَ، وَهِيَ لِلْفِرِنْجِ غَرْبِيَّ حَلَبَ، فَحَصَرَهَا وَجَدَّ فِي قِتَالِهَا، فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ بِحَصَانَتِهَا، وَكَثْرَةِ مَنْ بِهَا مِنْ فُرْسَانِ الْفِرِنْجِ وَرَجَّالَتِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ، فَلَمَّا عَلِمَ الْفِرِنْجُ ذَلِكَ جَمَعُوا فَارِسَهُمْ وَرَاجِلَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ، وَحَشَدُوا، وَاسْتَعَدُّوا، وَسَارُوا نَحْوَهُ ; لِيُرَحِّلُوهُ عَنْهَا، فَلَمَّا قَارَبُوهُ طَلَبَ مِنْهُمُ الْمُصَافَّ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ إِلَيْهِ، وَرَاسَلُوهُ، وَتَلَطَّفُوا الْحَالَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذَ الْحِصْنِ، وَلَا يُجِيبُونَهُ إِلَى الْمُصَافِّ، عَادَ إِلَى بِلَادِهِ.
وَمِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ أُسَامَةُ بْنُ مُرْشِدِ بْنِ مُنْقِدِ الْكِنَانِيُّ، وَكَانَ مِنَ الشَّجَاعَةِ فِي الْغَايَةِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى حَلَبَ دَخَلَ إِلَى مَسْجِدِ شِيزَرَ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي سَائِرًا إِلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا دَخَلَهُ الْآنَ كَتَبَ عَلَى حَائِطِهِ:
لَكَ الْحَمْدُ يَا مَوْلَايَ كَمْ لَكَ مِنَّةً
،
عَلَيَّ وَفَضْلًا لَا يُحِيطُ بِهِ شُكْرِي

(9/293)


نَزَلْتُ بِهَذَا الْمَسْجِدِ الْعَامَ قَافِلًا ... مِنَ الْغَزْوِ مَوْفُورَ النَّصِيبِ مِنَ الْأَجْرِ
وَمِنْهُ رَحَلْتُ الْعِيسَ فِي عَامِيَ الَّذِي ... مَضَى نَحْوَ بَيْتِ اللَّهِ وَالرُّكْنِ وَالْحِجْرِ
فَأَدَّيْتُ مَفْرُوضِي وَأَسْقَطْتُ ثِقْلَ مَا ... تَحَمَّلْتُ مِنْ وِزْرِ الشَّبِيبَةِ عَنْ ظَهْرِي
ذِكْرُ مُلْكِ الْخَلِيفَةِ قَلْعَةَ الْمَاهِكِيِّ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبَ، مَلَكَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْجِدُ بِاللَّهِ قَلْعَةَ الْمَاهِكِيِّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ سُنْقُرَ الْهَمَذَانِيَّ، صَاحِبَهَا، سَلَّمَهَا إِلَى أَحَدِ مَمَالِيكِهِ وَمَضَى إِلَى هَمَذَانَ، فَضَعُفَ هَذَا الْمَمْلُوكُ عَنْ مُقَاوَمَةِ مَنْ حَوْلَهَا مِنَ التُّرْكُمَانِ وَالْأَكْرَادِ، فَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِبَيْعِهَا مِنَ الْخَلِيفَةِ، فَرَاسَلَ فِي ذَلِكَ، فَاسْتَقَرَّتْ [عَلَى] خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، وَعِدَّةِ مِنَ الْقُرَى، فَسَلَّمَهَا وَتَسَلَّمَ مَا اسْتَقَرَّ لَهُ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ. وَهَذِهِ الْقَلْعَةُ لَمْ تَزَلْ مِنْ أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ بِأَيْدِي التُّرْكُمَانِ وَالْأَكْرَادِ وَإِلَى الْآنِ.

ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَرَجِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، اجْتَمَعَتِ الْكَرَجُ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ يَبْلُغُونَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَدَخَلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، وَقَصَدُوا مَدِينَةَ دُوِينَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ، فَمَلَكُوهَا وَنَهَبُوهَا، وَقَتَلُوا مَنْ أَهْلِهَا وَسَوَادِهَا نَحْوَ عَشَرَةِ آلَافِ قَتِيلٍ، وَأَخَذُوا النِّسَاءَ سَبَايَا، وَأَسَرُوا كَثِيرًا، وَأَعْرُوا النِّسَاءَ وَقَادُوهُنَّ حُفَاةً عُرَاةً، وَأَحْرَقُوا الْجَوَامِعَ وَالْمَسَاجِدَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى بِلَادِهِمْ أَنْكَرَ نِسَاءُ الْكَرَجِ مَا فَعَلُوا بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُلْنَ لَهُمْ: قَدْ أَحْوَجْتُمُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنْ يَفْعَلُوا بِنَا مِثْلَ مَا فَعَلْتُمْ بِنِسَائِهِمْ، وَكَسَوْنَهُنَّ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى شَمْسِ الدِّينِ إِيلْدِكْزَ، صَاحِبِ أَذْرَبِيجَانَ وَالْجَبَلِ وَأَصْفَهَانَ، جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَحَشَدَهَا، وَانْضَافَ إِلَيْهِ شَاهْ أَرْمَنْ بْنُ سَكْمَانَ الْقُطْبِيُّ، صَاحِبُ خِلَاطَ، وَابْنُ آقَنَسْقَرَ، صَاحِبُ مَرَاغَةَ وَغَيْرِهَا، فَاجْتَمَعُوا فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ يَزِيدُونَ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَسَارُوا إِلَى بِلَادِ الْكَرَجِ فِي صَفَرَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] وَنَهَبُوهَا،

(9/294)


وَسَبَوْا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَأَسَرُوا الرِّجَالَ، وَلَقِيَهُمُ الْكَرَجُ، وَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ صَبَرَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ، وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَانْهَزَمَ الْكَرَجُ وَقُتِلَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ وَأُسِرَ كَذَلِكَ.
وَكَانَ سَبَبُ الْهَزِيمَةِ أَنَّ بَعْضَ الْكَرَجِ حَضَرَ عِنْدَ إِيلْدِكْزَ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: تُعْطِينِي عَسْكَرًا حَتَّى أَسِيرَ بِهِمْ فِي طَرِيقٍ أَعْرِفُهَا، وَأَجِيءُ إِلَى الْكَرَجِ مِنْ وَرَائِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ! فَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ، وَسَيَّرَ مَعَهُ عَسْكَرًا، وَوَاعَدَهُ يَوْمًا يَصِلُ فِيهِ إِلَى الْكَرَجِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ الْكَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي الْقِتَالِ وَصَلَ ذَلِكَ الْكَرَجِيُّ، الَّذِي أَسْلَمَ وَمَعَهُ الْعَسْكَرُ، وَكَبَّرُوا وَحَمَلُوا عَلَى الْكَرَجِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَانْهَزَمُوا، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِيهِمْ وَالْأَسْرُ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِحْصَاءِ لِكَثْرَتِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَيَقِّنِينَ الظَّفَرَ لِكَثْرَتِهِمْ، فَخَيَّبَ اللَّهُ ظَنَّهُمْ، وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، وَعَادَ الْمُسْلِمُونَ مَنْصُورِينَ قَاهِرِينَ.

ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ الْحُجَّاجُ إِلَى مِنًى، وَلَمْ يَتِمَّ الْحَجُّ لِأَكْثَرِ النَّاسِ لِصَدِّهِمْ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَمَنْ دَخَلَ يَوْمَ النَّحْرِ مَكَّةَ وَطَافَ وَسَعَى كَمُلَ حَجُّهُ، وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ مُنِعَ دُخُولَ مَكَّةَ لِفِتْنَةٍ جَرَتْ بَيْنَ أَمِيرِ الْحَاجِّ وَأَمِيرِ مَكَّةَ. كَانَ سَبَبُهَا أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ عَبِيدِ مَكَّةَ أَفْسَدُوا فِي الْحَاجِّ بِمِنًى، فَنَفَرَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ أَمِيرِ الْحَاجِّ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَرَجَعَ مَنْ سَلِمَ إِلَى مَكَّةَ، وَجَمَعُوا جَمْعًا وَأَغَارُوا عَلَى جِمَالِ الْحَاجِّ، وَأَخَذُوا مِنْهَا قَرِيبًا مِنْ أَلْفِ جَمَلٍ، فَنَادَى أَمِيرُ الْحَاجِّ فِي جُنْدِهِ، فَرَكِبُوا بِسِلَاحِهِمْ، وَوَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ،، وَنُهِبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَاجِّ وَأَهْلِ مَكَّةَ، فَرَجَعَ أَمِيرُ الْحَاجِّ وَلَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ، وَلَمْ يَقُمْ بِالزَّاهِرِ غَيْرَ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَعَادَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ رَجَّالَةً لِقِلَّةِ الْجِمَالِ، وَلَقُوا شِدَّةً.

(9/295)


وَمِمَّنْ حَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ جَدَّتُنَا أُمُّ أَبِينَا، فَفَاتَهَا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، فَاسْتُفْتِيَ لَهَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْبَرَرِيُّ، فَقَالَ: تَدُومُ عَلَى مَا بَقِيَ عَلَيْهَا مِنْ إِحْرَامِهَا، وَإِنْ أَحَبَّتْ تَفْدِي وَتَحِلُّ مِنْ إِحْرَامِهَا إِلَى قَابِلٍ، وَتَعُودُ إِلَى مَكَّةَ، فَتَطُوفُ وَتَسْعَى، فَتُكْمِلُ الْحَجَّةَ الْأُولَى، ثُمَّ تُحْرِمُ إِحْرَامًا ثَانِيًا، وَتَعُودُ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَتَقِفُ وَتَرْمِيَ الْجِمَارَ، وَتَطُوفُ وَتَسْعَى، فَتَصِيرُ لَهَا حَجَّةً ثَانِيَةً، فَبَقِيَتْ عَلَى إِحْرَامِهَا إِلَى قَابِلٍ، وَحَجَّتْ وَفَعَلَتْ كَمَا قَالَ، فَتَمَّ حَجُّهَا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي.
وَفِيهَا نَزَلَ بِخُرَاسَانَ بَرْدٌ كَثِيرٌ عَظِيمُ الْمِقْدَارِ، أَوَاخِرَ نِيسَانَ، وَكَانَ أَكْثَرُهُ بِجُوَيْنِ وَنَيْسَابُورَ وَمَا وَالَاهُمَا، فَأَهْلَكَ الْغَلَّاتِ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُ مَطَرٌ كَثِيرٌ دَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ.
وَفِيهَا، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَقَعَ الْحَرِيقُ بِبَغْدَادَ، احْتَرَقَ سُوقُ الطُّيُورِيِّينَ وَالدُّورُ الَّتِي تَلِيهِ مُقَابِلَهُ إِلَى سُوقِ الصِّفْرِ الْجَدِيدِ، وَالْخَانُ الَّذِي فِي الرَّحْبَةِ، وَدَكَاكِينُ الْبُزُورِيِّينَ وَغَيْرُهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْكَيَا الصَّبَاحِيُّ، صَاحِبُ أَلَمُوتَ، مُقَدَّمُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَقَامَ ابْنُهُ مَقَامَهُ، فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ، وَأَعَادَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ الصَّلَوَاتِ وَصِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَرْسَلُوا إِلَى (قَزْوِينَ يَطْلُبُونَ مَنْ يُصَلِّي) بِهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ حُدُودَ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ.
وَفِيهَا، فِي رَجَبَ، دَرَسَ شَرَفُ الدِّينِ يُوسُفُ الدِّمَشْقِيُّ فِي الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ شُجَاعٌ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مُدَرِّسًا بِمَدْرَسَةِ أَبِي حَنِيفَةَ،

(9/296)


وَكَانَ مَوْتُهُ فِي ذِيِ الْقَعْدَةِ.
وَفِيهَا، تُوُفِّيَ صَدَقَةُ بْنُ وَزِيرٍ الْوَاعِظُ.
وَفِيهَا، فِي الْمُحَرَّمِ، تُوُفِّيَ الشَّيْخُ عَدِيُّ بْنُ مُسَافِرٍ الزَّاهِدُ الْمُقِيمُ بِبَلَدِ الْهَكَّارِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ، وَهُوَ مِنَ الشَّامِ، مِنْ بَلَدِ بَعْلَبَكَّ، فَانْتَقَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَتَبِعَهُ أَهْلُ السَّوَادِ وَالْجِبَالِ بِتِلْكَ النَّوَاحِي وَأَطَاعُوهُ، وَحَسَّنُوا الظَّنَّ فِيهِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ جِدًّا.

(9/297)


[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ]
558 -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
ذِكْرُ وِزَارَةِ شَاوُرَ لِلْعَاضِدِ بِمِصْرَ ثُمَّ وِزَارَةِ الضِّرْغَامِ بَعْدَهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي صَفَرَ، وُزِّرَ شَاوُرُ لِلْعَاضِدِ لِدِينِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ [صَاحِبِ مِصْرَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِ وَوِزَارَتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُ الصَّالِحَ] بْنَ رُزَّيْكَ وَلَزِمَهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الصَّالِحُ وَوَلَّاهُ الصَّعِيدَ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْوِزَارَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ الصَّعِيدَ ظَهَرَتْ مِنْهُ كِفَايَةٌ عَظِيمَةٌ وَتَقَدُّمٌ زَائِدٌ، وَاسْتَمَالَ الرَّعِيَّةَ وَالْمُقَدَّمِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَعَسُرَ أَمْرُهُ عَلَى الصَّالِحِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ عَزْلُهُ، فَاسْتَدَامَ اسْتِعْمَالُهُ ; لِئَلَّا يَخْرُجَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَلَمَّا جُرِحَ الصَّالِحُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ وَصِيَّتِهِ لِوَلَدِهِ الْعَادِلِ: إِنَّكَ لَا تُغَيِّرْ عَلَى شَاوُرَ، فَإِنَّنِي أَنَا أَقْوَى مِنْكَ وَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَلَمْ يُمْكِنِّي عَزْلُهُ، فَلَا تُغَيِّرُوا مَا بِهِ فَيَكُونَ لَكُمْ مِنْهُ مَا تَكْرَهُونَ.
فَلَمَّا تُوُفِّيَ الصَّالِحُ مِنْ جِرَاحَتِهِ وَوَلِيَ ابْنُهُ الْعَادِلُ الْوِزَارَةَ حَسَّنَ لَهُ أَهْلُهُ عَزْلَ شَاوُرَ وَاسْتِعْمَالَ بَعْضِهِمْ مَكَانَهُ، وَخَوَّفُوهُ مِنْهُ إِنْ أَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْعَزْلِ، فَجَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً وَسَارَ إِلَى الْقَاهِرَةِ بِهِمْ، فَهَرَبَ مِنْهُ الْعَادِلُ ابْنُ الصَّالِحِ بْنِ رُزَّيْكَ، فَأُخِذَ وَقُتِلَ، فَكَانَتْ مُدَّةَ وِزَارَتِهِ وَوِزَارَةِ أَبِيهِ قَبْلَهُ تِسْعَ سِنِينَ وَشَهْرًا وَأَيَّامًا، وَصَارَ شَاوُرُ وَزِيرًا، وَتُلُقِّبَ بِأَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَ بَنِي رُزَّيْكَ وَوَدَائِعَهُمْ وَذَخَائِرَهُمْ، وَأَخَذَ مِنْهُ (أَيْضًا طَيٌّ وَالْكَامِلُ ابْنَا شَاوُرَ) شَيْئًا كَثِيرًا، وَتَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنْهَا، وَجُحِدَ كَثِيرٌ، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ عِنْدَ انْتِقَالِ الدَّوْلَةِ عَنْ شَاوُرَ وَالْمِصْرِيِّينَ إِلَى الْأَتْرَاكِ.
ثُمَّ إِنَّ الضِّرْغَامَ جَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَنَازَعَ شَاوُرَ فِي الْوِزَارَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ،

(9/298)


وَظَهَرَ أَمْرُهُ، وَانْهَزَمَ شَاوُرُ مِنْهُ إِلَى الشَّامِ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَصَارَ ضِرْغَامُ وَزِيرًا.
وَكَانَ هَذِهِ السَّنَةَ ثَلَاثَةُ وُزَرَاءَ: الْعَادِلُ بْنُ رُزَّيْكَ، وَشَاوُرُ، وَضِرْغَامُ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ ضِرْغَامُ مِنَ الْوِزَارَةِ قَتَلَ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ لِتَخْلُوا لَهُ الْبِلَادُ مِنْ مُنَازِعٍ، فَضَعُفَتِ الدَّوْلَةُ بِهَذَا حَتَّى خَرَجَتِ الْبِلَادُ عَنْ أَيْدِيهِمْ.

ذِكْرُ وَفَاةِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَوِلَايَةِ ابْنِهِ يُوسُفَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ، صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَإِفْرِيقِيَّةَ، وَالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ قَدْ سَارَ مِنْ مَرَّاكُشَ إِلَى سَلَا، فَمَرِضَ بِهَا وَمَاتَ.
وَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ جَمَعَ شُيُوخَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ جَرَّبْتُ ابْنِي مُحَمَّدًا. فَلَمْ أَرَهُ يَصْلُحُ لِهَذَا الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لَهُ ابْنِي يُوسُفُ، وَهُوَ أَوْلَى بِهَا، فَقَدِّمُوهُ لَهَا، وَوَصَّاهُمْ بِهِ، وَبَايَعُوهُ وَدُعِيَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَتَمُوا مَوْتَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَحُمِلَ مِنْ سَلَا فِي مِحَفَّةٍ بِصُورَةِ أَنَّهُ مَرِيضٌ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مَرَّاكُشَ.
وَكَانَ ابْنُهُ أَبُو حَفْصٍ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ حَاجِبًا لِأَبِيهِ، فَبَقِيَ مَعَ أَخِيهِ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ مَعَ أَبِيهِ يَخْرُجُ فَيَقُولُ لِلنَّاسِ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ بِكَذَا، وَيُوسُفُ [لَمْ] يَقْعُدْ مَقْعَدَ أَبِيهِ إِلَى أَنْ كَمُلَتِ الْمُبَايَعَةُ لَهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَاسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الْأُمُورِ لَهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ مَوْتَ أَبِيهِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَشُهُورًا، وَكَانَ عَاقِلًا، حَازِمًا، سَدِيدَ الرَّأْيِ، حَسَنَ السِّيَاسَةِ لِلْأُمُورِ، كَثِيرَ الْبَذْلِ لِلْأَمْوَالِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ السَّفْكِ لِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الذَّنَبِ الصَّغِيرِ.

(9/299)


وَكَانَ يُعَظِّمُ أَمْرَ الدِّينِ وَيُقَوِّيهِ، وَيُلْزِمُ النَّاسَ فِي سَائِرِ بِلَادِهِ بِالصَّلَاةِ، وَمَنْ رُئِيَ وَقْتَ الصَّلَاةِ غَيْرَ مُصَلٍّ قُتِلَ، وَجَمَعَ النَّاسَ بِالْغَرْبِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْفُرُوعِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي الْأُصُولِ، وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى مَجْلِسِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، الْمَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ وَلَهُمْ.

ذِكْرُ مُلْكِ الْمُؤَيَّدِ أَعْمَالَ قُومَسَ وَالْخُطْبَةِ لِلسُّلْطَانِ أَرْسِلَان بِخُرَاسَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ الْمُؤَيَّدُ أَيْ أَبَهْ، صَاحِبُ نَيْسَابُورَ، إِلَى بِلَادِ قُومَسَ، فَمَلَكَ بَسْطَامَ وَدَامِغَانَ، وَاسْتَنَابَ بِقُومَسَ مَمْلُوكَهُ تِنْكِزَ، فَأَقَامَ تِنْكِزُ بِمَدِينَةِ بَسْطَامَ، فَجَرَى بَيْنَ تِنْكِزَ وَبَيْنَ شَاهْ مَازَنْدَرَانْ اخْتِلَافٌ أَدَّى إِلَى الْحَرْبِ، فَجَمَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَسْكَرَهُ، وَالْتَقَوْا أَوَائِلَ ذِي الْحِجَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ مَازَنْدَرَانْ، وَأُخِذَتْ أَسَلَابُهُمْ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ.
وَلَمَّا مَلَكَ الْمُؤَيَّدُ بِلَادَ قُومَسَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ أَرْسِلَان بْنُ طُغْرُلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ خِلَعًا نَفِيسَةً، وَأَلْوِيَةً مَعْقُودَةً، وَهَدِيَّةً جَلِيلَةً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَهْتَمَّ بِاسْتِيعَابِ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَيَتَوَلَّى ذَلِكَ أَجْمَعَ، وَأَنْ يَخْطُبَ لَهُ، فَلَبِسَ الْمُؤَيَّدُ الْخِلَعَ، فَخَطَبَ لَهُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي هِيَ بِيَدِهِ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِي هَذَا أَتَابِكَ شَمْسَ الدِّينِ إِيلْدِكْزَ، فَإِنَّهُ كَانَ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ فِي مَمْلَكَةِ أَرْسِلَان، وَلَيْسَ لِأَرْسِلَانْ غَيْرُ الِاسْمِ، وَكَانَ بَيْنَ إِيلْدِكْزَ وَبَيْنَ الْمُؤَيَّدِ مَوَدَّةٌ ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ قَتْلِ الْمُؤَيَّدِ، فَلَمَّا أَطَاعَ الْمُؤَيَّدُ السُّلْطَانَ أَرْسِلَان خَطَبَ لَهُ بِبِلَادِهِ، وَهِيَ بِلَادُ قُومَسَ، وَنَيْسَابُورَ، وَطُوسَ، وَأَعْمَالُ نَيْسَابُورَ جَمِيعُهَا، وَمِنْ نَسَا إِلَى طَبَسَ كَنْكَلِي، وَكَانَ يَخْطُبُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ أَرْسِلَان، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ فِي جُرْجَانَ وَدِهِسْتَانَ لِخُوَارَزْم شَاهْ أَيْل أَرْسِلَان بْنِ أَتْسِزَ، وَبَعْدَهُ لِلْأَمِيرِ إِيثَاقَ، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ فِي مَرْوَ وَبَلْخَ وَهَرَاةَ وَسَرَخْسَ، وَهَذِهِ الْبِلَادُ بِيَدِ الْغُزِّ، إِلَّا هَرَاةَ فَإِنَّهَا كَانَتْ بِيَدِ الْأَمِيرِ

(9/300)


إِيتِكِينَ، وَهُوَ مُسَالِمٌ لِلْغُزِّ، فَكَانُوا يَخْطُبُونَ لِلسُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلسُّلْطَانِ السَّعِيدِ الْمُبَارَكِ سَنْجَرَ، وَبَعْدَهُ لِلْأَمِيرِ الَّذِي هُوَ الْحَاكِمُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ.

ذِكْرُ قَتْلِ الْغُزِّ مَلِكَ الْغُورِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَجَبَ، قُتِلَ سَيْفُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْغُورِيُّ، مَلِكُ الْغُورِ، قَتَلَهُ الْغُزُّ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَحَشَدَ فَأَكْثَرَ، وَسَارَ مِنْ جِبَالِ الْغُورِ يُرِيدُ الْغُزَّ وَهُمْ بِبَلْخَ، وَاجْتَمَعُوا، وَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ مَلِكَ الْغُورِ خَرَجَ مِنْ مُعَسْكَرِهِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ خَاصَّتِهِ، جَرِيدَةً، فَسَمِعَ بِهِ أُمَرَاءُ الْغُزِّ، فَسَارُوا يَطْلُبُونَهُ مُجِدِّينَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَأَوْقَعُوا بِهِ، فَقَاتَلَهُمْ أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ النَّاسُ. فَقُتِلَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، وَأُسِرَ طَائِفَةٌ، وَهَرَبَتْ طَائِفَةٌ، فَلَحِقُوا بِمُعَسْكَرِهِمْ وَعَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ مُنْهَزِمِينَ لَا يَقِفُ الْأَبَ عَلَى ابْنِهِ وَلَا الْأَخُ عَلَى أَخِيهِ، وَتَرَكُوا كُلَّ مَا مَعَهُمْ بِحَالِهِ وَنَجَوْا بِنُفُوسِهِمْ.
فَكَانَ عُمُرُ مَلِكِ الْغُورِ لَمَّا قُتِلَ نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ، فَمِنْ عَدْلِهِ وَخَوْفِهِ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ أَنَّهُ حَاصَرَ أَهْلَ هَرَاةَ، فَلَمَّا مَلَكَهَا أَرَادَ عَسْكَرُهُ أَنْ يَنْهَبُوهَا، فَنَزَلَ عَلَى دَرْبِ الْمَدِينَةِ، وَأَحْضَرَ الْأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ، فَأَعْطَى جَمِيعَ عَسْكَرِهِ مِنْهَا، وَقَالَ: هَذَا خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَنْهَبُوا أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَتُسْخِطُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمُلْكَ يَبْقَى عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يَبْقَى عَلَى الظُّلْمِ، وَلَمَّا قُتِلَ عَادَ الْغُزُّ إِلَى بَلْخَ وَمَرْوَ وَقَدْ غَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْعَسْكَرِ الْغَوْرِيِّ لِأَنَّ أَهْلَهُ تَرَكُوهُ وَنَجَوْا.

ذِكْرُ انْهِزَامِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ مَنِ الْفِرِنْجِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْهَزَمَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي مَنَ الْفِرِنْجِ، تَحْتَ حِصْنِ الْأَكْرَادِ، وَهِيَ الْوَقْعَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْبُقَيْعَةِ، وَسَبَبُهَا أَنَّ نُورَ الدِّينِ جَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَدَخَلَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ وَنَزَلَ فِي الْبُقَيْعَةِ تَحْتَ حِصْنِ الْأَكْرَادِ، مُحَاصِرًا لَهُ وَعَازِمًا عَلَى قَصْدِ طَرَابُلُسَ

(9/301)


وَمُحَاصَرَتِهَا، فَبَيْنَمَا النَّاسُ يَوْمًا فِي خِيَامِهِمْ، وَسَطَ النَّهَارِ، لَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا ظُهُورُ صُلْبَانِ الْفِرِنْجِ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ حِصْنُ الْأَكْرَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ اجْتَمَعُوا وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى كَبْسَةِ الْمُسْلِمِينَ نَهَارًا، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ آمِنِينَ، فَرَكِبُوا مِنْ وَقْتِهِمْ، وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا حَتَّى يَجْمَعُوا عَسَاكِرَهُمْ، وَسَارُوا مُجِدِّينَ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا وَقَدْ قَرُبُوا مِنْهُمْ، فَأَرَادُوا مَنْعَهُمْ، فَلَمْ يُطِيقُوا ذَلِكَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى نُورِ الدِّينِ يُعَرِّفُونَهُ الْحَالَ، فَرَهِقَهُمُ الْفِرِنْجُ بِالْحَمْلَةِ، فَلَمْ يَثْبُتِ الْمُسْلِمُونَ، وَعَادُوا يَطْلُبُونَ مُعَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْفِرِنْجُ فِي ظُهُورِهِمْ، فَوَصَلُوا مَعًا إِلَى الْعَسْكَرِ النُّورِيِّ، فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ، وَأَخْذِ السِّلَاحِ إِلَّا وَقَدْ خَالَطُوهُمْ، فَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ.
وَكَانَ أَشَدُّهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الدُّوقُسَ الرُّومِيَّ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ إِلَى السَّاحِلِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الرُّومِ، فَقَاتَلُوا مُحْتَسِبِينَ فِي زَعْمِهِمْ، فَلَمْ يُبْقُوا عَلَى أَحَدٍ، وَقَصَدُوا خَيْمَةَ نُورِ الدِّينِ وَقَدْ رَكِبَ فِيهَا فَرَسَهُ وَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَلِسُرْعَتِهِ رَكِبَ الْفَرَسَ وَالشَّبَحَةُ فِي رِجْلِهِ، فَنَزَلَ إِنْسَانٌ كُرْدِيٌّ قَطَعَهَا، فَنَجَا نُورُ الدِّينِ، وَقُتِلَ الْكُرْدِيُّ، فَأَحْسَنَ نُورُ الدِّينِ إِلَى مُخَلَّفِيهِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِمُ الْوُقُوفَ.
وَنَزَلَ نُورُ الدِّينِ عَلَى بُحَيْرَةِ قَدَسَ بِالْقُرْبِ مِنْ حِمْصَ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْرَكَةِ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، وَتَلَاحَقَ بِهِ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ مِنَ الرَّأْيِ أَنْ تُقِيمَ هَا هُنَا، فَإِنَّ الْفِرِنْجَ رُبَّمَا حَمَلَهُمُ الطَّمَعُ عَلَى الْمَجِيءِ إِلَيْنَا، فَنُؤْخَذُ وَنَحْنُ عَلَى هَذَا الْحَالِ، فَوَبَّخَهُ وَأَسْكَتَهُ، وَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعِي أَلْفُ فَارِسٍ لَقِيتُهُمْ وَلَا أُبَالِي بِهِمْ، وَوَاللَّهِ لَا أَسْتَظِلُّ بِسَقْفٍ حَتَّى آخُذَ بِثَأْرِي وَثَأْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَلَبَ وَدِمَشْقَ، وَأَحْضَرَ الْأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالْخِيَامَ وَالسِّلَاحَ وَالْخَيْلَ، فَأَعْطَى اللِّبَاسَ عِوَضَ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ جَمِيعُهُ بِقَوْلِهِمْ، فَعَادَ الْعَسْكَرُ كَأَنْ لَمْ تُصِبْهُ هَزِيمَةٌ، وَكُلُّ مَنْ قُتِلَ أَعْطَى أَقْطَاعَهُ لِأَوْلَادِهِ.
وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى قَصْدِ حِمْصَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ نُزُولُ نُورِ الدِّينِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ قَالُوا: لَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا وَعِنْدَهُ قُوَّةٌ يَمْنَعُنَا بِهَا.
وَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُ نُورِ الدِّينِ كَثْرَةَ خَرْجِهِ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ لَكَ فِي بِلَادِكَ

(9/302)


إِدْرَارَاتٍ وَصَدَقَاتٍ كَثِيرَةً عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْقُرَّاءِ، وَغَيْرِهِمْ، فَلَوِ اسْتَعَنْتَ [بِهَا] فِي هَذَا الْوَقْتِ لَكَانَ أَصْلَحَ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَرْجُو النَّصْرَ إِلَّا بِأُولَئِكَ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ، كَيْفَ أَقْطَعُ صِلَاتِ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَ عَنِّي، وَأَنَا نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِي، بِسِهَامٍ لَا تُخْطِئُ، وَأَصْرِفُهَا إِلَى مَنْ لَا يُقَاتِلُ عَنِّي إِلَّا إِذَا رَآنِي بِسِهَامٍ قَدْ تُصِيبُ وَقَدْ تُخْطِئُ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَهُمْ نَصِيبٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَيْفَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ غَيْرَهُمْ؟
ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ رَاسَلُوا نُورَ الدِّينِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الصُّلْحَ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ، وَتَرَكُوا عِنْدَ حِصْنِ الْأَكْرَادِ مَنْ يَحْمِيهِ وَعَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ.

ذِكْرُ إِجْلَاءِ بَنِي أَسَدٍ مِنَ الْعِرَاقِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْجِدُ بِاللَّهِ بِإِهْلَاكِ بَنِي أَسَدٍ الْحِلَّةِ الْمَزْيَدِيَّةِ، لِمَا ظَهَرَ مِنْ فَسَادِهِمْ، وَلِمَا كَانَ فِي نَفْسِ الْخَلِيفَةِ مِنْهُمْ مَنْ مُسَاعَدَتِهِمُ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا لَمَّا حَصَرَ بَغْدَادَ، فَأَمَرَ يَزْدَنَ بْنَ قَمَاجَ بِقِتَالِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانُوا مُنْبَسِطِين فِي الْبَطَائِحِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ، فَتَوَجَّهَ يَزْدَنُ إِلَيْهِمْ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَ كَثِيرَةً مِنْ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ مَعْرُوفٍ مُقَدَّمِ الْمُنْتَفَقِ، وَهُوَ بِأَرْضِ الْبَصْرَةِ، فَجَاءَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَحَصَرَهُمْ، وَسَكَّرَ عَنْهُمُ الْمَاءَ، وَصَابَرَهُمْ مُدَّةً، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ يَعْتِبُ عَلَى يَزْدَنَ وَيُعَجِّزُهُ وَيَنْسُبُهُ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ فِي التَّشَيُّعِ، وَكَانَ يَزْدَنُ يَتَشَيَّعُ، فَجَدَّ هُوَ وَابْنُ مَعْرُوفٍ فِي قِتَالِهِمْ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ، وَسَدِّ مَسَالِكِهِمْ فِي الْمَاءِ، فَاسْتَسْلَمُوا حِينَئِذٍ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافِ قَتِيلٍ، وَنَادَى فِيمَنْ بَقِيَ: مَنْ وُجِدَ بَعْدَ هَذَا فِي الْحِلَّةِ الْمَزْيَدِيَّةِ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ مَنْ يُعْرَفُ، وَسُلِّمَتْ بَطَائِحُهُمْ إِلَى ابْنِ مَعْرُوفٍ وَبِلَادُهُمْ.

(9/303)


ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ فِي بَغْدَادَ حَرِيقٌ فِي بَابِ دَرْبِ فَرَاشَا إِلَى مَشْرَعَةِ الصَّبَّاغِينَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
[الْوَفَيَاتُ]
وَفِيهَا، فِي رَجَبَ، تُوُفِّيَ سَدِيدُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِدِيوَانِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ فَاضِلًا أَدِيبًا ذَا تَقَدُّمٍ كَثِيرٍ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، وَخَدَمَ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ إِلَى الْآنِ فِي دِيوَانِ الْخِلَافَةِ، وَعَاشَ حَتَّى قَارَبَ تِسْعِينَ سَنَةً.
وَتُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو الْقَاسِمِ الْمَتُّوثِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَهُوَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ، إِلَّا أَنَّهُ كَثِيرُ الْهَجْوِ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
يَا مَنْ هَجَرْتِ وَلَا تُبَالِي ... هَلْ تَرْجِعُ دَوْلَةُ الْوِصَالِ
هَلْ أَطْمَعُ يَا عَذَابَ قَلْبِي ... أَنْ يَنْعَمَ فِي هَوَاكِ بَالِي
الطَّرْفُ كَمَا عَهِدْتِ بَاكٍ ... وَالْجِسْمُ كَمَا تَرَيْنَ بَالِي
مَا ضَرَّكِ أَنْ تُعَلِّلِينِي ... فِي الْوَصْلِ بِمَوْعِدِ الْمُحَالِ
أَهْوَاكِ وَأَنْتِ حَظُّ غَيْرِي ... يَا قَاتِلَتِي فَمَا احْتِيَالِي
وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا.

(9/304)