تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
قصة الخضر وخبره وخبر موسى وفتاه يوشع ع
قَالَ أبو جعفر: كان الخضر ممن كان في أيام أفريدون الملك بن أثفيان في
قول عامة أهل الكتاب الأول، وقبل موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم
وقيل إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر، الذي كان أيام إبراهيم خليل
الرحمن ص، وهو الذي قضى له ببئر السبع- وهي بئر كان إبراهيم احتفرها
لماشيته في صحراء الأردن- وإن قوما من أهل الأردن ادعوا الأرض التي كان
احتفر بها إبراهيم بئره، فحاكمهم إبراهيم إلى ذي القرنين الذي ذكر أن
الخضر كان على مقدمته أيام سيره في البلاد، وأنه بلغ مع ذي القرنين نهر
الحياة، فشرب من مائه وهو لا يعلم، ولا يعلم به ذو القرنين ومن معه،
فخلد، فهو حي عندهم إلى الآن.
وزعم بعضهم أنه من ولد من كان آمن بإبراهيم خليل الرحمن، واتبعه على
دينه، وهاجر معه من أرض بابل حين هاجر إبراهيم منها وقال: اسمه بليا بن
ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قَالَ:
وكان أبوه ملكا عظيما.
وقال آخرون: ذو القرنين الذى كان على عهد ابراهيم ص هو أفريدون بن
أثفيان، قَالَ: وعلى مقدمته كان الخضر.
وقال عبد الله بن شوذب فيه، ما حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الحكم المصري قال: حدثنا مُحَمَّد بن
المتوكل، قَالَ: حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الله
بن شوذب، قَالَ: الخضر من ولد فارس، وإلياس من بني إسرائيل، يلتقيان في
كل عام بالموسم.
وقال ابن إسحاق فيه ما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال:
حدثني ابن إسحاق، قَالَ: بلغني أنه استخلف الله عز وجل في بني إسرائيل
(1/365)
رجلا منهم، يقال له ناشية بن أموص، فبعث
الله عز وجل لهم الخضر نبيا.
قَالَ: واسم الخضر- فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- أورميا
بن خلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران وبين هذا الملك الذي ذكره ابن
إسحاق وبين أفريدون أكثر من ألف عام.
وقول الذي قَالَ: إن الخضر كان في أيام افريدون وذي القرنين الاكبر
وقبل موسى بن عمران أشبه بالحق إلا أن يكون الأمر كما قاله من قَالَ
إنه كان على مقدمة ذي القرنين صاحب إبراهيم، فشرب ماء الحياة، فلم يبعث
في أيام ابراهيم ص نبيا، وبعث أيام ناشية بن أموص، وذلك أن ناشية بن
أموص الذي ذكر ابن إسحاق أنه كان ملكا على بني إسرائيل، كان في عهد
بشتاسب بن لهراسب، وبين بشتاسب وبين أفريدون من الدهور والأزمان ما لا
يجهله ذو علم بأيام الناس وأخبارهم، وسأذكر مبلغ ذلك إذا انتهينا إلى
خبر بشتاسب إن شاء الله تعالى.
وإنما قلنا: قول من قَالَ: كان الخضر قبل موسى بن عمران ص أشبه بالحق
من القول الذي قاله ابن إسحاق وحكاه عن وهب بن منبه، للخبر الذى روى عن
رسول الله ص أبي بن كعب، أن صاحب موسى بن عمران- وهو العالم الذي أمره
الله تبارك تعالى بطلبه إذ ظن أنه لا أحد في الأرض أعلم منه- هو الخضر،
ورسول الله ص كان أعلم خلق الله بالكائن من الأمور الماضية، والكائن
منها الذي لم يكن بعد.
والذي روى أبي بن كعب في ذلك عنه ص مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ:
قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا يَزْعُمُ أَنَّ الخضر ليس
(1/366)
بِصَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ
اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابى بن كعب عن [رسول الله ص قال: ان موسى قَامَ
فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا فَقِيلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟
فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ
الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: بَلْ عَبْدٌ لِي عِنْدَ مَجْمَعِ
الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: يَا رب، كيف به؟ قال: تأخذ حوتا فتجعله في
مكتل فحيث تفقده فَهُوَ هُنَاكَ قَالَ: فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي
مِكْتَلٍ، ثُمَّ قَالَ لِفَتَاهُ: إِذَا فَقَدْتَ هَذَا الْحُوتَ
فَأَخْبِرْنِي فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ
حَتَّى أَتَيَا صَخْرَةً، فَرَقَدَ موسى فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي
الْمِكْتَلِ، فَخَرَجَ فَوَقَعَ فِي الْبَحْرِ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ
عَنْهُ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ، فَصَارَ لِلْحُوتِ
سَرَبًا، وَكَانَ لَهُمَا عَجَبًا ثُمَّ انْطَلَقَا، فَلَمَّا كَانَ
حِينُ الْغَدَاءِ قَالَ موسى لِفَتَاهُ: «آتِنا غَداءَنا لَقَدْ
لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ موسى
النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ:
«أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ
الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» قَالَ: فَقَالَ: «ذلِكَ
مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» قَالَ:
يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا قَالَ: فَأَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ
نَائِمٌ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ موسى فَقَالَ:
وَأَنَّى بِأَرْضِنَا السَّلامُ! قَالَ: أَنَا موسى، قال: موسى بنى
إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا موسى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ
مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ
عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أَعْلَمُهُ،
قَالَ: فَإِنِّي أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ
رُشْدًا.
«قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى
أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» .
فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، فَإِذَا بِمَلاحٍ فِي
سَفِينَةٍ، فَعَرَفَ الْخَضِرَ، فَحَمَلَهُ
(1/367)
بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ
فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِهَا فنقر- او فنقد- فِي الْمَاءِ، فَقَالَ
الْخَضِرُ لِموسى: مَا يُنْقِصُ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ
اللَّهِ إِلا مِقْدَارَ مَا نَقَرَ- أَوْ نَقَدَ- هَذَا الْعُصْفُورُ
مِنَ الْبَحْرِ] .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَنَا أَشُكُّ، وَهُوَ في كتابي هذا نقر قال:
فبينما هُمْ فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ موسى إِلا وَهُوَ يَتِدُ
وَتِدًا أَوْ يَنْزِعُ تَخْتًا مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ موسى:
حُمِلْنَا بِغَيْرِ نَوْلٍ وَتَخْرِقُهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا!
«لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» -
قَالَ:
فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ موسى نِسْيَانًا- قَالَ: ثُمَّ خَرَجَا
فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ، فَأَبْصَرَا غُلامًا يَلْعَبُ مَعَ
الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ موسى:
«أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً
نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْراً قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي
قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» .
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا
أهلها، فَلَمْ يَجِدَا أَحَدًا يُطْعِمُهُمْ وَلا يَسْقِيهِمْ،
«فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ» بيده-
قَالَ: مَسَحَهُ بِيَدِهِ- فَقَالَ لَهُ موسى: لَمْ يُضَيِّفُونَا
وَلَمْ يُنْزِلُونَا، «لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» .
«قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» قال: [فقال رسول الله ص:
لَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا قَصَصَهُمْ]
.
حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي
قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ،
(1/368)
قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ
بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: هُوَ الْخَضِرُ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ،
فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا
وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ موسى ع الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى
لِقَائِهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ:
[نَعَمْ إِنِّي سمعت رسول الله ص يقول: بينا موسى ع فِي مَلإٍ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: تَعْلَمُ مَكَانَ
أَحَدٍ أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى:
لا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بلى عَبْدُنَا الْخَضِرُ،
فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لِقَائِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ
الْحُوتَ آيَةً، وَقَالَ لَهُ: إِذَا افْتَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ
فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ، فِي
الْبَحْرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا
إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ» ، قَالَ موسى: «ذلِكَ
مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» ، فَوَجَدَا
الْخَضِرَ، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ]
.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ
الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
النُّمَيْرِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ
الزُّهْرِيَّ يُحَدِّثُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ
الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ
الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِيهِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ:
«وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ
(1/369)
لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ
الْبَحْرَيْنِ» الآية، قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى
مِصْرَ نَزَلَ قَوْمُهُ مِصْرَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ بِهِمُ
الدَّارُ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ: أَنْ ذَكِّرْهُمْ
بِأَيَّامِ اللَّهِ فَخَطَبَ قَوْمَهُ، فَذَكَرَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ
مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ، وَذَكَّرَهُمْ إِذْ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَذَكَّرَهُمْ هَلَاكَ عَدُوِّهِمْ، وَمَا
اسْتَخْلَفَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ: وَكَلَّمَ اللَّهُ
مُوسَى نَبِيَّكُمْ تَكْلِيمًا، وَاصْطَفَانِي لِنَفْسِهِ، وَأَنْزَلَ
عَلَيَّ مَحَبَّةً مِنْهُ، وَآتَاكُمُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ مَا
سَأَلْتُمُوهُ، فَنَبِيُّكُمْ أَفْضَلُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَنْتُمْ
تَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ فَلَمْ يَتْرُكْ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا
اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا ذَكَرَهَا وَعَرَّفَهَا إِيَّاهُمْ، فَقَالَ
لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: هُوَ كَذَلِكَ يا نبى الله، وقد
عَرَفْنَا الَّذِي تَقُولُ، فَهَلْ عَلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ
مِنْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: لا، فبعث الله عز وجل جبرئيل ع الى
موسى ع فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَا يُدْرِيكَ
أَيْنَ أَضَعُ عِلْمِي؟ بَلَى إِنَّ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ رَجُلًا
أَعْلَمُ مِنْكَ- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخِضْرُ- فَسَأَلَ
مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِيَّاهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ
أَنِ ائْتِ الْبَحْرَ، فَإِنَّكَ تَجِدُ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ حُوتًا
فَخُذْهُ فَادْفَعْهُ إِلَى فَتَاكَ ثُمَّ الْزَمْ شَطَّ الْبَحْرِ،
فَإِذَا نَسِيتَ الْحُوتَ وَهَلَكَ مِنْكَ، فَثَمَّ تَجِدُ الْعَبْدَ
الصَّالِحَ الَّذِي تَطْلُبُ.
فَلَمَّا طَالَ سَفَرُ موسى نبى الله ص وَنَصِبَ فِيهَ، سَأَلَ فَتَاهُ
عَنِ الْحُوتَ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ وَهُو غُلَامُهُ: «أَرَأَيْتَ
إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما
أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» لَكَ قَالَ الْفَتَى:
لَقَدْ رَأَيْتُ الْحُوتَ حِينَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ
سَرَبًا فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مُوسَى فَرَجَعَ حَتَّى أَتَى الصَّخْرَةَ
فَوَجَدَ الْحُوتَ، فَجَعَلَ الْحُوتُ يَضْرِبُ فِي الْبَحْرِ
وَيَتْبَعُهُ مُوسَى، وَجَعَلَ مُوسَى يُقَدِّمُ عَصَاهُ يُفْرِجُ
بِهَا عَنْهُ الْمَاءَ، يَتْبَعُ الْحُوتَ، وَجَعَلَ الْحُوتُ لَا
يَمَسُّ شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ إِلَّا يَبِسَ حَتَّى يَكُونَ صخره،
فجعل نبى الله ص يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى انْتَهَى بِهِ الْحُوتُ
إِلَى جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، فَلَقِيَ الْخِضْرَ بها،
فسلم
(1/370)
عَلَيْهِ، فَقَالَ الْخِضْرُ: وَعَلَيْكَ
السَّلَامُ، وَأَنَّى يَكُونُ هَذَا السَّلَامُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ!
وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: الْخِضْرُ صَاحِبُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ
عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: «إِنَّكَ
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ، يَقُولُ: لا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ
مُوسَى: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ
أَمْراً» .
قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِ، وَقَالَ لَهُ: لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ
أَصْنَعُهُ حَتَّى أُبَيِّنَ لَكَ شَأْنَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:
«حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» فَرَكِبَا فِي السَّفِينَةِ
يُرِيدَانِ أَنْ يَتَعَدَّيَا إِلَى الْبَرِّ، فَقَامَ الْخَضِرُ،
فَخَرَقَ السَّفِينَةَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: «أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ
أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ
الْقِصَّةِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ
الْقُمِّيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: [سال موسى ع رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ:
أَيْ رَبِّ، أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي
يَذْكُرُنِي وَلا يَنْسَانِي، قَالَ:
فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقْضَى؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلا
يَتَّبِعُ الْهَوَى، قَالَ أَيْ رَبِّ، أَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟
قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، عَسَى أَنْ
يُصِيبَ كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى، أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى،
قَالَ: رَبِّ فَهَلْ فِي الأَرْضِ أَحَدٌ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ
أَظُنُّهُ قَالَ: أَعْلَمُ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: رَبِّ،
فَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: الْخَضِرُ، قَالَ: وَأَيْنَ أَطْلُبُهُ؟ قَالَ:
عَلَى السَّاحِلِ، عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي يَنْفَلِتُ عِنْدَهَا
الْحُوتُ،] قَالَ: فَخَرَجَ موسى يَطْلُبُهُ حَتَّى كَانَ مَا ذَكَرَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَانْتَهَى موسى إِلَيْهِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ،
فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ لَهُ
موسى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَسْتَصْحِبَنِي، قَالَ: لَنْ تَطِيقَ
(1/371)
صُحْبَتِي، قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنْ
صَحِبْتَنِي «فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ
مِنْهُ ذِكْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ
خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً
إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي
عُسْراً.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ
نَفْساً زاكية بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» ، الى
قوله: «لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» .
قَالَ: فَكَانَ قَوْلُ موسى فِي الْجِدَارِ لِنَفْسِهِ وَلِطَلَبِ
شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَكَانَ قَوْلُهُ فِي السَّفِينَةِ وَفِي
الْغُلامِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي
وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ
صَبْراً» ، فاخبره بما قال الله:
«أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ الآيَةَ، وَأَمَّا
الْغُلامُ» الآيَةَ، «وَأَمَّا الْجِدارُ» الآيَةَ قَالَ: فَسَارَ بِهِ
فِي الْبَحْرِ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ،
وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ مَكَانٌ أَكْثَرَ مَاءً مِنْهُ، قَالَ:
وَبَعَثَ رَبُّكَ الْخُطَّافَ، فَجَعَلَ يَسْتَقِي مِنْهُ
بِمِنْقَارِهِ، فَقَالَ لِموسى: كَمْ تَرَى هَذَا الْخُطَّافَ رَزَأَ
مِنْ هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: مَا أَقَلَّ مَا رَزَأَ! قَالَ: يَا موسى
فَإِنَّ عِلْمِي وَعِلْمَكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَدْرِ مَا اسْتَقَى
هَذَا الْخُطَّافُ مِنْ هذا الماء وكان موسى ع قَدْ حَدَّثَ نَفْسَهُ
أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُ، أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، فَمِنْ
ثَمَّ أُمِرَ أَنْ يَأْتِيَ الْخَضِرَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن
إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ
عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ:
جَلَسْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ إِنَّ نَوْفًا
ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبٍ، ذَكَرَ عَنْ كَعْبٍ ان موسى النبي ع
(1/372)
الَّذِي طَلَبَ الْعَالِمَ إِنَّمَا هُوَ
مُوسَى بْنُ منشا قَالَ سَعِيدٌ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَنَوْفٌ يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ سَعِيدٌ: فَقُلْتُ لَهُ: نَعَمْ، أَنَا
سَمِعْتُ نَوْفًا يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ يَا
سَعِيدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَذَبَ نَوْفٌ ثُمَّ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بن كعب عن رسول الله ص ان موسى بنى
إِسْرَائِيلَ سَأَلَ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالَ: أَيْ
رَبِّ، إِنْ كَانَ فِي عِبَادِكَ أَحَدٌ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي
فَادْلُلْنِي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ فِي عِبَادِي مَنْ هُوَ
أَعْلَمُ مِنْكَ، ثُمَّ نَعَتَ لَهُ مَكَانَهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي
لِقَائِهِ، فخرج موسى ع وَمَعَهُ فَتَاهُ، وَمَعَهُ حُوتٌ مَلِيحٌ قَدْ
قِيلَ لَهُ: إِذَا حَيِيَ هَذَا الْحُوتُ فِي مَكَانٍ فَصَاحِبُكَ
هُنَالِكَ، وَقَدْ أَدْرَكْتَ حَاجَتَكَ فَخَرَجَ مُوسَى ومعه فتاه،
ومعه ذلك الْحُوتُ يَحْمِلانِهِ، فَسَارَ حَتَّى جَهَدَهُ السَّيْرُ،
وَانْتَهَى إِلَى الصَّخْرَةِ وَإِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَذَلِكَ
الْمَاءُ، مَاءُ الْحَيَاةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ خُلِّدَ، وَلا
يُقَارِبُهُ شَيْءٌ مَيِّتٌ إِلا أَدْرَكَتْهُ الْحَيَاةُ وَحَيِيَ
فَلَمَّا نَزَلا مَنْزِلا وَمَسَّ الْحُوتُ الْمَاءَ حَيِيَ، فاتخذ
سبيله في البحر سربا، فانطلق فلما جاوزا بِمِنْقَلَةٍ قَالَ مُوسَى
لِفَتَاهُ: «آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً»
قَالَ الْفَتَى وَذَكَرَ: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ
أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ:
وَظَهَرَ مُوسَى عَلَى الصَّخْرَةِ حتى انتهيا اليه، فإذا رجل متلفف
فِي كِسَاءٍ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَرَدَّ ع، ثُمَّ قَالَ
لَهُ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا موسى ابن عِمْرَانَ، قَالَ: صَاحِبُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ أَنَا ذَلِكَ، قَالَ: وَمَا جَاءَ
بِكَ إِلَى هذه الارض، ان لك في قومك لشغل! قَالَ لَهُ مُوسَى:
جِئْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: إِنَّكَ
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَانَ رَجُلا يَعْمَلُ عَلَى
الْغَيْبِ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، فَقَالَ مُوسَى: بَلَى، قَالَ:
«وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ
(1/373)
خُبْراً» ، أَيْ إِنَّمَا تَعْرِفُ ظَاهِرَ
مَا تَرَى مِنَ الْعَدْلِ وَلَمْ تُحِطْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ بِمَا
أَعْلَمُ «قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي
لَكَ أَمْراً» وَإِنْ رَأَيْتُ مَا يُخَالِفُنِي.
قَالَ: «فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى
أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» ، أَيْ فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ
وَإِنْ أَنْكَرْتَهُ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، أَيْ
خَبَرًا.
فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يَتَعَرَّضَانِ
النَّاسَ، يَلْتَمِسَانِ مَنْ يَحْمِلُهُمَا حَتَّى مَرَّتْ بِهِمَا
سَفِينَةٌ جَدِيدَةٌ وَثِيقَةٌ، لَمْ يَمُرَّ بِهِمَا شَيْءٌ مِنَ
السفن احسن ولا اجمل وَلا أَوْثَقُ مِنْهَا، فَسَأَلا أَهْلَهَا أَنْ
يَحْمِلُوهُمَا، فَحَمَلُوهُمَا، فَلَمَّا اطْمَأَنَّا فِيهَا،
وَلَجَّجَتْ بِهِمَا مَعَ أَهْلِهَا، أَخْرَجَ مِنْقَارًا لَهُ
وَمِطْرَقَةً، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا فَضَرَبَ فِيهَا
بِالْمِنْقَارِ حَتَّى خَرَقَهَا، ثُمَّ أَخَذَ لَوْحًا فَطَبَّقَهُ
عَلَيْهَا، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهَا يُرَقِّعُهَا، قَالَ لَهُ مُوسَى:
فَأَيُّ أَمْرٍ أَفْظَعُ مِنْ هَذَا! «أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ
أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» ! حَمَلُونَا وَآوَوْنَا
إِلَى سَفِينَتِهِمْ، وَلَيْسَ فِي الْبَحْرِ سَفِينَةٌ مِثْلُهَا،
فَلِمَ خَرَقْتَهَا! قَالَ: «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ
مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» ، أَيْ بِمَا
تَرَكْتُ مِنْ عَهْدِكَ «وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً» ثُمَّ
خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا أَهْلَ
قَرْيَةٍ، فَإِذَا غِلْمَانٌ يَلْعَبُونَ، فِيهِمْ غُلامٌ لَيْسَ فِي
الْغِلْمَانِ غُلامٌ أَظْرَفُ وَلا أَتْرَفُ وَلا أَوْضَأُ مِنْهُ،
فَأَخَذَ بِيَدِهِ، وَأَخَذَ حَجَرًا فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ حَتَّى
دَمَغَهُ فَقَتَلَهُ قَالَ: فَرَأَى مُوسَى أَمْرًا فَظِيعًا لا صَبْرَ
عَلَيْهِ، صبى صغير قَتَلَهُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَلا ذَنْبٍ لَهُ!
فَقَالَ: «أَقَتَلْتَ نَفْساً زاكية بِغَيْرِ نَفْسٍ» ، أَيْ صَغِيرَةً
بِغَيْرِ نَفْسٍ، «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ
بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» ، أَيْ قَدْ أُعْذِرْتَ فِي شَأْنِي
«فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها
فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ» ، فَهَدَمَهُ ثُمَّ قَعَدَ يَبْنِيهِ،
(1/374)
فَضَجَرَ مُوسَى مِمَّا رَآهُ يَصْنَعُ
مِنَ التَّكَلُّفِ لِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ صَبْرٌ، فَقَالَ: «لَوْ
شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» أَيْ قَدِ اسْتَطْعَمْنَاهُمْ
فَلَمْ يُطْعِمُونَا، وَاسْتَضَفْنَاهُمْ فَلَمْ يضيفونا، ثم قعدت تعمل
في غير صنيعه، ولو شئت لأعطيت عليه اجرا في عمله «قالَ هَذَا فِراقُ
بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ
عَلَيْهِ صَبْراً. أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ
يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ
وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ- وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ
بْنِ كَعْبٍ:
كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ- غَصْباً» ، وَإِنَّمَا عِبْتُهَا
لأَرُدَّهُ عَنْهَا، فَسَلِمَتْ مِنْهُ حِينَ رَأَى الْعَيْبَ الَّذِي
صَنَعْتُ بِهَا «وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ
فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً. فَأَرَدْنا أَنْ
يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ
وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً» - الى- «ما
لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» .
فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا كَانَ الْكَنْزُ إِلَّا عِلْمًا
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد
بن إسحاق، عن الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، قَالَ: قِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ نَسْمَعْ لِفَتَى
مُوسَى بِذِكْرٍ مِنْ حَدِيثٍ وَقَدْ كَانَ مَعَهُ! فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ حَدِيثِ الْفَتَى، قَالَ: شَرِبَ
الْفَتَى مِنْ مَاءِ الْخُلْدِ فَخُلِّدَ، فَأَخَذَهُ الْعَالِمُ
فَطَابَقَ بِهِ سَفِينَةً، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهَا
لَتَمُوجُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ فَشَرِبَ.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عن شعبة،
عن قتادة، قوله:
«فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما» ، ذكر لنا ان
نبى الله موسى لما قطع البحر وأنجاه الله من آل فرعون، جمع بني إسرائيل
فخطبهم فقال:
(1/375)
أنتم خير أهل الأرض وأعلمهم قد أهلك الله
عدوكم، وأقطعكم البحر وأنزل عليكم التوراة، قال: فقيل له: ان هاهنا
رجلا هو أعلم منك قَالَ: فانطلق هو وفتاه يوشع بن نون يطلبانه، فتزودا
مملوحة في مكتل لهما، وقيل لهما: إذا نسيتما ما معكما لقيتما رجلا
عالما يقال له الخضر، فلما أتيا ذلك المكان، رد الله إلى الحوت روحه
فسرب له من الجد حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فجعل لا يسلك فيه طريقا
إلا صار ماء جامدا، قَالَ: ومضى موسى وفتاه، يقول الله عز وجل:
«فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ
سَفَرِنا هَذَا نَصَباً- الى قوله-: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا
عِلْماً» ، فلقيا رجلا عالما يقال له الخضر، فذكر لنا ان نبى الله
قَالَ: إنما سمي الخضر خضرا لأنه قعد على فروة بيضاء فاهتزت به خضراء.
فهذه الاخبار التي ذكرناها عن رسول الله ص وعن السلف من أهل العلم تنبئ
عن أن الخضر كان قبل موسى وفي أيامه، ويدل على خطإ قول من قَالَ: إنه
أورميا بن خلقيا، لأن أورميا كان في ايام بختنصر، وبين عهدي موسى
وبختنصر من المدة ما لا يشكل قدرها على أهل العلم بأيام الناس
وأخبارهم، وإنما قدمنا ذكره وذكر خبره لأنه كان في عهد أفريدون فيما
قيل، وإن كان قد أدرك على هذه الأخبار التي ذكرت من أمره وأمر موسى
وفتاه أيام منوشهر وملكه، وذلك ان موسى انما نبئ في عهد منوشهر، وكان
ملك منوشهر بعد ما ملك جده أفريدون، فكل ما ذكرنا من أخبار من ذكرنا
أخباره من عهد ابراهيم الى الخبر عن الخضر ع، فإن ذلك كله- فيما ذكر-
كان في ملك بيوراسب وأفريدون، وقد ذكرنا فيما مضى قبل أخبار أعمارهما
ومبلغهما ومدة كل واحد منهما.
ونرجع الآن إلى الخبر عن:
(1/376)
|