تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
منوشهر وأسبابه
والحوادث الكائنة في زمانه
ثم ملك بعد أفريدون بن أثفيان بركاو منوشهر، وهو من ولد إيرج بن
أفريدون.
وقد زعم بعضهم أن فارس سميت فارس بمنوشهر هذا، وهو منوشهر كيازيه- فيما
يقول نسابة الفرس- بن منشخورنر بن منشخواربغ ابن ويرك بن سروشنك بن
ابوك بن بتك بن فرزشك بن زشك ابن فركوزك بن كوزك بن إيرج بن أفريدون بن
أثفيان بركاو.
وقد ينطق بهذه الأسماء بخلاف هذه الألفاظ.
وقد يزعم بعض المجوس ان افريدون وطيء ابنة لابنه إيرج، يقال لها كوشك،
فولدت له جاريه يقال لها فركوشك، ثم وطيء فركوشك هذه فولدت له جارية
يقال لها زوشك، ثم وطيء زوشك هذه، فولدت له جارية يقال لها فرزوشك، ثم
وطيء فرزوشك هذه فولدت له جارية يقال لها بيتك،
(1/377)
ثم وطيء بيتك هذه فولدت له جارية يقال لها
ايرك، ثم وطيء ايرك فولدت له ايزك، ثم وطيء ايزك فولدت له ويرك، ثم
وطيء ويرك فولدت له منشخرفاغ.
ويقول بعضهم: منشخواربغ وجاريه يقال لها: منشجرك، وان منشخرفاغ وطيء
منشجرك فولدت له منشخرنر، وجاريه يقال لها منشراروك، وان منشخرنر وطيء
منشراروك فولدت له منوشهر.
فيقول بعضهم كان مولده بدنباوند.
ويقول بعض: كان مولده بالري، وإن منشخرنر ومنشراروك لما ولد لهما
منوشهر أسرا أمره خوفا من طوج وسلم عليه، وإن منوشهر لما كبر صار إلى
جده أفريدون، فلما دخل عليه توسم فيه الخير، وجعل له ما كان جعل لجده
إيرج من المملكة، وتوجه بتاجه.
وقد زعم بعض أهل الأخبار أن منوشهر هذا هو منوشهر بن منشخرنر ابن
أفريقيس بن إسحاق بن إبراهيم، وأنه انتقل إليه الملك بعد أفريدون وبعد
أن مضى الف سنه وتسعمائة سنة واثنتان وعشرون سنة، من عهد جيومرت،
واستشهد لحقيقة ذلك بأبيات لجرير بن عطية، وهو قوله.
وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا ... حمائل موت لابسين السنورا
إذا انتسبوا عدوا الصبهبذ منهم ... وكسرى وعدوا الهرمزان وقيصرا
وكان كتاب فيهم ونبوة ... وكانوا بإصطخر الملوك وتسترا
(1/378)
فيجمعنا والغر أبناء فارس ... أب لا نبالي
بعده من تأخرا
أبونا خليل الله، والله ربنا ... رضينا بما أعطى الإله وقدرا
وأما الفرس فإنها تنكر هذا النسب، ولا تعرف لها ملكا إلا في أولاد
أفريدون، ولا تقر بالملك لغيرهم، وترى أن داخلا إن كان دخل عليهم في
ذلك من غيرهم في قديم الأيام قبل الإسلام، فإنه دخل فيه بغير حق.
وحدثت عن هشام ابن مُحَمَّد، قَالَ: ملك طوج وسلم الأرض بينهما بعد
قتلهما اخاهما ايرج ثلاثمائة سنة، ثم ملك منوشهر بن إيرج بن أفريدون
مائة وعشرين سنة، ثم إنه وثب به ابن لابن طوج التركى على راس ثمانين
سنه فنفاه عن بلاد العراق ثنتي عشرة سنة، ثم أديل منه منوشهر، فنفاه عن
بلاده، وعاد إلى ملكه، وملك بعد ذلك ثمانيا وعشرين سنة.
قَالَ: وكان منوشهر يوصف بالعدل والإحسان، وهو أول من خندق الخنادق،
وجمع آلة الحرب، وأول من وضع الدهقنة فجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها
له خولا وعبيدا، وألبسهم لباس المذلة، وأمرهم بطاعته.
قَالَ: ويقال ان موسى النبي ص ظهر في سنة ستين من ملكه.
وذكر غير هشام أن منوشهر لما ملك توج بتاج الملك وقال يوم ملك:
نحن مقوون مقاتلينا، ومعدوهم للانتقام لأسلافنا، ودفع العدو عن بلادنا.
وأنه سار نحو بلاد الترك طالبا بدم جده إيرج بن أفريدون، فقتل طوج بن
أفريدون وأخاه سلما، وأدرك ثأره وانصرف، وأن فراسياب بن فشنج ابن رستم
بن ترك- الذي تنسب إليه الأتراك، بن شهراسب ويقال: ابن
(1/379)
إرشسب بن طوج بن أفريدون الملك وقد يقال
لفشك فشنج بن زاشمين- حارب منوشهر، بعد أن مضى لقتله طوجا وسلما ستون
سنه، وحاصره بطبرستان.
ثم ان منوشهر وفراسياب اصطلحا على أن يجعلا حد ما بين مملكتيهما منتهى
رمية سهم رجل من أصحاب منوشهر يدعى ارشباطير- وربما خفف اسمه بعضهم
فيقول: إيرش- فحيث ما وقع سهمه من موضع رميته تلك مما يلي بلاد الترك
فهو الحد بينهما لا يجاوز ذلك واحد منهما إلى الناحية الاخرى وان
ارشباطير نزع بسهم في قوسه، ثم أرسله- وكان قد أعطي قوة وشدة- فبلغت
رميته من طبرستان إلى نهر بلخ ووقع السهم هنالك، فصار نهر بلخ حد ما
بين الترك وولد طوج وولد إيرج وعمل الفرس، فانقطع بذلك من رميه
ارشباطير حروب ما بين فراسياب ومنوشهر.
وذكروا أن منوشهر اشتق من الصراة ودجلة ونهر بلخ أنهارا عظاما.
وقيل إنه هو الذي كرا الفرات الأكبر، وأمر الناس بحراثة الأرض
وعمارتها، وزاد في مهنة المقاتلة الرمى، وجعل الرياسة في ذلك لارشباطير
لرميته التي رماها وقالوا: إن منوشهر لما مضى من ملكه خمس وثلاثون سنة
تناولت الترك من أطراف رعيته، فوبخ قومه وقال لهم: أيها الناس، إنكم لم
تلدوا الناس كلهم، وإنما الناس ناس ما عقلوا من أنفسهم ودفعوا العدو
عنهم، وقد نالت الترك من أطرافكم، وليس ذلك إلا من ترككم جهاد عدوكم،
وقلة المبالاة، وإن الله تبارك وتعالى أعطانا هذا الملك ليبلونا أنشكر
فيزيدنا، أم نكفر فيعاقبنا! ونحن اهل بيت عز ومعدن الملك لله، فإذا كان
غدا فاحضروا، قَالُوا: نعم واعتذروا، فقال: انصرفوا، فلما كان من الغد
أرسل إلى أهل المملكة وأشراف
(1/380)
الأساورة، فدعاهم وأدخل الرؤساء من الناس،
ودعا موبذ موبذان، فأقعد على كرسي مقابل سريره، ثم قام على سريره، وقام
أشراف أهل بيت المملكة وأشراف الأساورة على أرجلهم، فقال: اجلسوا فإني
إنما قمت لأسمعكم كلامي فجلسوا فقال: أيها الناس، إنما الخلق للخالق،
والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بد مما هو كائن، وإنه لا أضعف من
مخلوق طالبا كان أو مطلوبا، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر ممن طلبته في
يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، وإن التفكر نور، والغفلة ظلمة،
والجهالة ضلالة، وقد ورد الأول ولا بد للآخر من اللحاق بالأول، وقد مضت
قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله! وإن الله عز وجل
أعطانا هذا الملك فله الحمد، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين، وإن
للملك على أهل مملكته حقا، ولأهل مملكته عليه حقا، فحق الملك على أهل
المملكة أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوه، وحقهم على الملك أن يعطيهم
أرزاقهم في أوقاتها، إذ لا معتمد لهم على غيرها، وإنها تجارتهم وحق
الرعية على الملك أن ينظر لهم، ويرفق بهم، ولا يحملهم على ما لا
يطيقون، وإن أصابتهم مصيبه تنقص من ثمارهم من آفة من السماء أو الأرض
أن يسقط عنهم خراج ما نقص، وإن اجتاحتهم مصيبة أن يعوضهم ما يقويهم على
عماراتهم، ثم يأخذ منهم بعد ذلك على قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو
سنتين، وأمر الجند للملك بمنزلة جناحي الطائر، فهم أجنحة الملك متى قص
من الجناح ريشة كان ذلك نقصانا منه، فكذلك الملك إنما هو بجناحه وريشه
ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أولها أن يكون صدوقا لا
يكذب، وأن يكون سخيا لا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب، فإنه مسلط ويده
مبسوطة، والخراج يأتيه، فينبغي ألا يستأثر عن جنده ورعيته بما هم أهل
له، وأن يكثر العفو، فإنه لا ملك أبقى من ملك فيه العفو، ولا أهلك من
ملك فيه العقوبة ألا
(1/381)
وإن المرء إن يخطئ في العفو فيعفو، خير من
أن يخطئ في العقوبة فينبغي للملك أن يتثبت في الأمر الذي فيه قتل النفس
وبوارها وإذا رفع إليه من عامل من عماله ما يستوجب به العقوبة فلا
ينبغي له أن يحابيه، وليجمع بينه وبين المتظلم، فإن صح عليه للمظلوم حق
خرج اليه منه، وان عجز عنه أدى عنه الملك ورده إلى موضعه، وأخذه بإصلاح
ما أفسد، فهذا لكم علينا.
ألا ومن سفك دما بغير حق، أو قطع يدا بغير حق، فإني لا أعفو عن ذلك إلا
أن يعفو عنه صاحبه فخذوا هذا عني وإن الترك قد طمعت فيكم فاكفونا،
فإنما تكفون أنفسكم، وقد أمرت لكم بالسلاح والعدة وأنا شريككم في
الرأي، وإنما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم ألا وإن الملك ملك
إذا أطيع، فإذا خولف فذلك مملوك ليس بملك ومهما بلغنا من الخلاف فإنا
لا نقبله من المبلغ له حتى نتيقنه، فإذا صحت معرفة ذلك وإلا أنزلناه
منزلة المخالف ألا وإن أكمل الأداة عند المصيبات الأخذ بالصبر والراحة
إلى اليقين، فمن قتل في مجاهدة العدو رجوت له الفوز برضوان الله وأفضل
الأمور التسليم لأمر الله والراحة إلى اليقين والرضا بقضائه، وأين
المهرب مما هو كائن! وإنما يتقلب في كف الطالب، وإنما هذه الدنيا سفر
لأهلها لا يحلون عقد الرحال إلا في غيرها، وإنما بلغتهم فيها بالعواري،
فما أحسن الشكر للمنعم والتسليم لمن القضاء له! ومن أحق بالتسليم لمن
فوقه ممن لا يجد مهربا إلا إليه، ولا معولا إلا عليه! فثقوا بالغلبة
إذا كانت نياتكم أن النصر من الله، وكونوا على ثقة من درك الطلبة إذا
صحت نياتكم واعلموا أن هذا الملك لا يقوم إلا بالاستقامة وحسن الطاعة
وقمع العدو وسد الثغور والعدل للرعية وإنصاف المظلوم، فشفاؤكم عندكم،
والدواء الذي لا داء فيه الاستقامة، والأمر بالخير والنهى عن الشر، ولا
قوه الا بالله انظروا للرعية فإنها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيها
رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في خراجكم، وتبين في زيادة أرزاقكم، وإذا
خفتم على الرعية زهدوا في العمارة، وعطلوا أكثر الأرض فنقص ذلك
(1/382)
من خراجكم، وتبين في نقص أرزاقكم، فتعاهدوا
الرعية بالإنصاف، وما كان من الأنهار والبثوق مما نفقة ذلك من السلطان
فأسرعوا فيه قبل أن يكثر، وما كان من ذلك على الرعية فعجزوا عنه
فأقرضوهم من بيت مال الخراج، فإذا حان أوقات خراجهم، فخذوا من خراج
غلاتهم على قدر ما لا يجحف ذلك بهم، ربع في كل سنة أو ثلث أو نصف،
لكيلا يشق ذلك عليهم هذا قولي وامرى يا موبذ موبذان، الزم هذا القول،
وخذ في هذا الذي سمعت في يومك، أسمعتم أيها الناس! فقالوا: نعم، قد قلت
فأحسنت، ونحن فاعلون إن شاء الله: ثم أمر بالطعام فوضع فأكلوا وشربوا،
ثم خرجوا وهم له شاكرون.
وكان ملكه مائة وعشرين سنة.
وقد زعم هشام بن الكلبى فيما حدثت عنه أن الرائش بن قيس بن صيفي ابن
سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان كان من ملوك اليمن بعد يعرب بن قحطان بن
عابر بن شالخ وإخوته، وأن الرائش كان ملكه باليمن أيام ملك منوشهر،
وأنه إنما سمي الرائش- واسمه الحارث بن ابى شدد- لغنيمة غنمها من قوم
غزاهم فأدخلها اليمن، فسمي لذلك الرائش، وأنه غزا الهند فقتل بها وسبى
وغنم الأموال، ورجع إلى اليمن ثم سار منها، فخرج على جبلي طيّئ ثم على
الأنبار، ثم على الموصل، وأنه وجه منها خيله وعليها رجل من أصحابه،
يقال له: شمر بن العطاف، فدخل على الترك أرض أذربيجان وهي في أيديهم
يومئذ، فقتل المقاتلة وسبى الذرية، وزبر ما كان من مسيره في حجرين،
فهما معروفان ببلاد أذربيجان قَالَ: وفي ذلك يقول امرؤ القيس:
ألم يخبرك أن الدهر غول ... ختور العهد يلتقم الرجالا
(1/383)
أزال عن المصانع ذا رياش ... وقد ملك
السهولة والجبالا
وأنشب في المخالب ذا منار ... وللزراد قد نصب الحبالا
قَالَ: وذو منار الذي ذكره الشاعر هو ذو منار بن رائش، الملك بعد أبيه،
واسمه أبرهة بن الرائش، قَالَ: وإنما سمي ذا منار لأنه غزا بلاد المغرب
فوغل فيها برا وبحرا، وخاف على جيشه الضلال عند قفوله، فبنى المنار
ليهتدوا بها.
قَالَ: ويزعم أهل اليمن أنه كان وجه ابنه العبد بن أبرهة في غزوته هذه
إلى ناحية من أقاصي بلاد المغرب، فغنم وأصاب مالا وقدم عليه بنسناس لهم
خلق وحشيه منكرة، فذعر الناس منهم، فسموه ذا الأذعار.
قَالَ: فأبرهة أحد ملوكهم الذين توغلوا في الأرض، وإنما ذكرت من ذكرت
من ملوك اليمن في هذا الموضع لما ذكرت من قول من زعم أن الرائش كان
ملكا باليمن أيام منوشهر، وأن ملوك اليمن كانوا عمالا لملوك فارس بها،
ومن قبلهم كانت ولايتهم بها
(1/384)
|