المنتظم

الجزء الثاني
باب زكريا عليه السلام
وهو زكريا بن أدي وقيار: ابن برخيا من أولاد سليمان بن داوود عليهما السلام، أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا القطيعي، قال: حدَّثنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدَثنا بريد، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي نافع، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " كان زكريا نجاراً "


ذكر الأحداث في زمن زكريا
وجود نذر حنة بنتِ فاقُود فإنها لمَا حملت نذرت حملها محرراً لله تعالى ليكون في المسجد متعبداً. فلما وضعت مريم جاءت بها إلى العُبَّاد، فاقترعوا على كفالتها، فرموا أقلامهم مع جرية الماء فرسبت وصعد قلم زكريا فكفلها، وكانت أخت مريم عند زكريا، فلما رأى رزقها يأتي من غير كلفة، سأل ربه عز وجل ولداً، وكانت زوجته اسمها: أشياع بنت عمران وهي أختَ مريم فجاءته بيحيي ، وطلب آيَةَ على وجود الحمل، لأن الحمل لا يتحقق بأوله ليبادر بالشكر، فأمسك لسانه عن كلام الناس من غير مرض، ولم يمسك عن الذكر للهّ سبحانه وتعالى.
قال الربيع بن أنس: لمَّا سمع اليهود كلام عيسى في المهد حسدوا زكريا وعادوه وكان أخبرهم قبل ذلك بحبل مريم، فتغامزوا به، وقد وجدوا ذلك مكتوباً عندهم كيف يكون، وأخبرهم به سليمان، فالتمسوا زكريا ليقتلوه، فهرب حتى انتهى إلى شجرة عظيمة، فتجوفت له ودخل فيها فجاءوا يطيفون بالشجرة فرأوا هدبة من ثوبه، فقطعوا الشجرة حتى خلصوا إليه فقتلوه .
وقال السُديّ: اتهموا زكريا وقالوا: هو أحبل مريم فطلبوه، فهرب إلى الشجرة.
قال أحمد بن جعفر المنادي: وكان له من العمر أقل من مائة سنة.
باب ذكر يحيى عليه السلام
قال مؤلف الكتاب: ولد يحيى قبل عيسى عليه السلام بستة أشهر.
وقيل: قبل أن يرفع عيسى عليه السلام، وكان يحيى قد رزق الفطنة والفهم في زمن الصبا من الصغر.
قال قتادة في قوله،: " وأتيناه الحكم صبياً " . قال: ابن ثلاث سنين.
قال علماء السير: نبىء يحيى صغيراً. فساح ثم دخل الشام يدعو الناس، وكان طعامه الجراد وقلوب الشجر. وكان يحيى كثير العبادة غزير الدمعة.
أخبرنا المحمدان: ابن ناصر، وابن عبد الباقي، قالا: أخبرنا أحمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: عبد اللّه بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن الحسين، قال: حدًثني سعيد، بن شرحبيل، قال: حدَّثنا سعيد بن عطارد، عن وهيب بن الورد، قال: كان ليحيى بن زكريا خطان في خديه من البكاء، فقال له أبوه زكريا: إني إنما سألت الله عز وجل ولداً تَقرُّ به عيني، فقال: يا أبت، إن جبريل عليه السلام أخبرني أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلأ كل بكَاء.
ذكر سبب قتل يحيى بن زكريا
روى الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعَلِّمُون الناس، وكان فيما نهوْهم عنه نكاح ابنة الأخ، وكان لملَكِهِم ابنة أخٍ تُعجبه يريد أن يتزوَجها، وكان لها كل يوم حاجة يقضيها، فبلغ ذلك امها، فقالت لها: إذا دخلتِ على المَلِك فسألك ما حاجتك، فقولي: حاجتي أن تذبح لي يحيى، فقالت له: فقال: سَلي غير هذا، قالت: ما أسأل غَيْره.
فدعي يحيى ودعا بطست فذبحه فندرت قطرة من دَمِهِ على الأرض، فلم تَزَلْ تغلي حتى بعث اللّه بخت نصّر عليهم، فجاءته عجوز من بني إسرائيل فدلته على ذلك الدم، فألقى اللّه عز وجل في قلبه أن يقتل عليه حتى يسكن، فقتل سبعين ألفاً منهم، فسكَن .
وروى الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عن مشيم مولى معاوية: أن ملكاً في بني إسرائيل كانت له امرأة، وكان لها بنية يحبها أبوها، وكان لها عليه كل يوم حاجة، فقالت لها أمها: إذا سألك ما حاجتك فقولي: رأس يحيى بن زكريا، فلما جاءته وسقته ووقفت بين يديه، قال لها: ما حاجتك؟ قالت: رأس يحيى بن زكريا، فزجرها وأغضبه ذلك، فولَّت عنه، فقال له من حوله من المنافقين: وما يحيى وما رأس يحيى، فقال: ادفعوا إليها رأس يحيى.
فأتوه وإنه لقائم يصلي في ناحية كنيسة جيرون بدمشق ، فاجتزوا رأسه فجعلوه في طبق، وأمر بدفعه إلى جارية ابنته، فولَت به ذاهبة إلى أمها، فلما كانت عند المطهرة التي على درج دمشق خُسِفَ بها، فقيل لأمها: أدركي ابنتك، فخرجت حاسرة عن وجهها حتى وقفت عليها وقد ذهبت الأرض بجثتها، فلم يبق منها إلا رأسها، فقالت: اجتزوا الرأس نغسله ونكفنه ونبكي عليه، ففعلوا فلما صار بأيديهم نفضت الأرض الجثة فألقتها إليهم.


قال الربيع بن أنس: كانت للملك ابنة شابة، فكانت تأتي أباها فتغني عنده حتى إذا أرادت الرجوع، قال لها: سلي حاجتك؟ وأن أمها رأت يحيى قد أعطي حُسناً وجمالا، فأرادته على نفسه فأبى عليها، فقالت له: إني قاتلتك أو تأتي حاجتي، فقال: معاذ الله. فقالت لابنتها: إذا أتيت أباك الليلة فقال: سلي حاجتك، فقولي: أسألك رأس يحيى.
فلما جاءت وقال: سلي حاجتك، قالت: رأس يحيى، فقال: ارجعي إلى أمك فتأمرك بما هو خير لك من هذا. فرجعت إلى أمها فحدثتها، فقالت لا تسأليه إلا رأس يحيى. فلما جاءت فيِ الليلة الثانية فغنته، قال: سلي حاجتك، قالت: رأس يحيى. فقال: ارجعي إلى أمك فتأمرك بما هو أنفع لك من هذا، فرجعت إليها، فقالت: لا تسأليه إلا رأس يحيى. فلما جاءت في الليلة الثالثة فغنته ، قال: سلي حاجتك ، قالت: رأس يحيى، فقال: ارجعي إلى أمك فتأمرك بما هو أنفع لك من هذا. فرجعت إليها، فقالت: لا تسأليه إلا رأس يحيى. فقال: لك ما سألت، فرجعت إلى أمها فَرِحَة فأخبرتها. فأرسلت إلى يحيى، فقالت إني قد، أعطيت رأسك إن لم تأتِ حاجَتي، فأبى عليها، فقالت له إني ذابحتك. فذبحته ثم ندمت، وجعلت تنادي: ويل لها، ويل لها. حتى ماتت فهي أول امرأة تدخل النار ، وأن الدم صار يغلي ولا يسكن، وإن بخت نصّر جاز عليه فسأل عنه، فقالوا: هذا دم يحيى بن زكريا قتلته امرأة خيارهم.
وكان عبد الله بن الزبير يقول: من أنكر الباقلاني لا أنكره، لقد ذكر لي أنه إنما قتل يحيى بن زكريا في زانية كانت جارة له. وروى يزيد بن هارون ، عن سليمان التميمة ، عن أسلم العجلي ، عن أبي هريرة ، وابن عمر رضي الله عنهما: أن امرأة يقال لها " ربة " قتلت يحيى بن زكريا، فأتت برأسه في طست ، فأمرت الأرض فأخذتها.
وقال عبد اللّه بن عمر: وقتلت تلك المرأة في يوم سبعين نبياً، وهي مكتوبة في التوراة: مقتلة الأنبياء، وأنها على منبر في النار يَسمع صراخها أقصى أهل النار، . أنبأنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا جعفر بن أحمد السراج، قال: أخبرنا أبو القاسم: عبد الله بن عمر بن شاهين، قال: حدَّثنا أبي، قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن عقبة الانصاري، قال: حدَّثنا أبو تمام، قال: حدَّثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني ابن لهيِعة، عن عمارة بن غزية، عن عروة بن الزبير، قال: اسم المرأة التي قتلت يحيى بن زكريا لا " أزبيل " ، وإنها قتلت سبعين نبياً آخرهم يحيى بن زكريا. وروت فاطمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن يحيى بن زكريا عليهما السلام مكث في بني إسرائيل أربعين سنة " .
قال قتادة: قتل بدمشق.
ذكر ما عوقب به بنو إسرائيل لقتلهم يحيى بن زكريا
أقال النبي صلي الله عليه وسلم: " من هوان الدنيا على اللّه تعالى أن يحيى بن زكريا قتلته إمرأة. زعم السدي، عن أشياخه: أن رجلاً رأى في المنام أن خراب بيت المقدس وهلاك بني إسرائيل على يدي غلام يتيم ابن أرملةٍ من أهل بابل يدعى " بخت نصر " ، فأقبل يسأل عنه حتى نزل على أمّه وهي تحتطب، فلما جاء على رأسه حزمَة حطبِ ألقاها ثم قعد في البيت، فكلمه ثم أعطاه ثلاثة دراهم، فاشترى بها طعاماً وشراباً، فلَما كان في اليوم الثاني فعل به ذلك، وكذلك في اليوم الثالث، ثم قال له: إني أحب أن تكتب لي أماناً إن أنت ملكت يوماً من الدهر. قال: تسخر بي!. قال: لا، ولكن ما عليك أن تتخذ عندي بها يداً. قالت له أمه: وما عليك إن كان، وإلا لم ينقصك شيئاً. فكتب له أماناً، فقال : أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك فاجعل لي آية تعرفني بها. قال: ترفع صحيفتك على قَصَبة فأعْرِفُك بها، فكساه وأعطاه. فلما قتل يحيى أصبح دمه يغلي، فلم يزل يُلْقَى عليه التراب ويغلي إلى أن بلغ سور المدينة، وخرج بخت نصر من قبل صيحائين الملك، فتحصن القوم منه في مدائنهم، فلما اشتدَ عليه المقام هَم بالرجوع، فخرجت إليه عجوز من عجائز بني إسرائيل، فقالت: إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما أسألك فتقتل مَنْ آمرك بقتله، وتكف إذا أمرتك. قال: نعم. قالت: إذا أصبحت فأقسم جندك أربعة أرباع، ثم أقم على كل زاوية ربعاً، ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا: إنا نستفتحكِ باللّه بدم يحيى ابن زكريا ، فإنها سوفَ تتَساقط.


ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها، فقالت: أقتل على هذا الدم حتى يسكن، فقتل سبعين ألفاً، فلما سكن الدم قالت: كف يدك، فإنه إذا قُتل نبيّ لم يرض اللّه حتى يُقتل مَنْ قتله، ومَنْ رضيَ قتله. فأتاه صاحبُ الصحيفة بصحيفة فكفّ عنه وعن أهل بيته، وخَرب بيت المقدس، وأمر أن يطرح فيه الجِيف، وقال: مَنْ طرح فيه جيفة فله جزْيُته تلك السنة، وأعانه على إخرابه الروم من أجل بني إسرائيل إذ قتلوا يحيى. فلما خربه بخت نصَر ذهب معه بوجوه بني إسرائيل، منهم: دانيال ، فلما قدم أرض بابل وجد صيحائين قد مات، فَمَلك مكانه، فقال له المجوس: إن الذين قدمت بهم دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك، ولا يأكلون من ذبيحتك، فدعاهم، فسألهم، فقالوا: أجلْ إن، لنا رباً نعبده ولا نأكل من ذبحتكم أ فأمر بخَد فخُد لهم، فألقوا فيه وهم ستة وألقِيَ معهم سَبُع ضارٍ ليأكلهم، فلما راحوا إليهم وجدوهم جلوسأ، والسبعُ مفترش ذراعيه، ووجدوا معهم رجلاً فعدوهم فوجدوهم سبعة، فقالوا: إنما كانوا ستة، فخرج السابع وكان ملكاً فلطم بخت نصر لطمة، فصار في الوحش فكان فيهم سبع سنين .
قال أبو جعفر ابن جرير الطبري: وقول مَنْ قال إن بخت نضر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى غَلَط عند أهل العلم بأمور الماضين لأنهم أجمعوا على أن بخت نصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم شعياء في عهد إرمياء، وبين أرمياء وتخريب بخت نصر بيت المقدس إلى مولد يحيى أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة، وهذا مما يتفق عليه اليهود والنصارى، ويذكرون آن ذلك في أسفارهم مبين، وذلك أنهم يَعدون من لدن تخريب بخت نصر بيت المقدس إلى حين عُمرانها في عهد كيرش أصبهبذ بابل من قِبل بهمن، ثم من قِبَل خماني سبعين سنة، ثم من بعد عمرانه إلى ظهور الإسكندر عليها وحيازَة مملكها إلى مملكته ثمانياً وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الإسكندر إلى مولد يحيى ثلثمائة وثلاث سنين، فذلك على قولهم أربعمائة وإحدى وستون سنة. وأما المجوس: فإنها توافق اليهود والنصارى في مدة خراب بيت المقدس وأمر بختنصر، وما كان من أمره وأمر بني إسرائيل إلى غلبة الإسكندر على بيت المقدس والشام وهلاك دارا، وتخالفهم في مدة ما بين ملك الإسكندر، ومولد يحيى، فتزعم أن مدة ذلك إحدى وخمسون سنة. وقال محمد بن إسحاق: لما رجع بنو إسرائيل من بابل إلى بيت المقدس ما زالوا تحدِثون الأحداثَ، ويُبعث إليهم الرسل، فريقاً يكذبون وفريقاً يقتلون حتى كان من آخر مَنْ بُعِثَ إليهم زكريا ويحيى وعيسى، وكانوا من بيت آل داود، فلما رفع اللّه عز وجل عيسى، وقتلوا يحيى وبعض الناس، يقول: وقتلوا زكريا ابتعث الله إليهم ملِكاً من ملوك بابل يقال له: خردوس، فسار إليهم بأهل بابل، حتى دخل عليهم الشام، ، فقال لصاحب شرطته: إني كنت حلفت بإلهي: لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنَهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلى الأ أجد أحداً أقتله، فدخل بيت المقدس، فوجد دماً يغلي، فقال: ما بال هذا الدم يغلي. فقالوا: هذا دم قربان قربناه فلم يُقْبَل مِنا. فقال: ما صدقتموني.
فقتل منهم خلقَاَ كثيراً على ذلك الدم فلم يسكن. فقال: ويلكم أصدقُوني قبل ألأَ أترك منكم أحداً، فقالوا: هذا دم نبي منَا قتلناه، فقال: لهذا ينتقم منكم ربكم، فأمر وذبح من الخيل والبقر والبغال والغنم حتى سال الدم إلى خردوس، فأرسل إليه: حسبك. وهذه الوقعة الأخيرة التي قال اللّه تعالى فيها: فإذا جاء وعد الآخرة لِيَسُئُوُاْ وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة " .
فكانت الوقعة الأولى بخت نصر وجنوده، ثم ردّ الله له الكرة عليهم، ثم كانت الوقعة الأخيرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم، وقتل رجالهم، وسبيُ ذراريهم ونسائهم يقول الله تعالى: " وَلِيُتَبرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرا " .
فصل


قال مؤلف الكتاب: وقد بعث الله عز وجل بين موسى وعيسى عليهما السلام خلقاً كثيراً من الأنبياء، أكثرهم لم يذكر اسمه، وقليل منهم يذكر.قال ابن مسعود: كان بنو إسرائيل يقتلون في اليوم ثلثمائة نبي، ثم يقوم سوق نعلهم آخر النهار.وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ما صدق نبي ما صدقت أن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا الرجل الواحد " .فمن الأنبياء أصحاب الرس، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان أصحاب الرس يعبدون شجرة، فبعث الله تعالى إليهم نبياً من ولد يهودا بن يعقوب، فحفروا له بئراً وألقوه فيها فهلكوا. وقال سعيد بن جبير: كان لهم نبي يقال له: " حنظلة بن صفوان " قتلوه فأهلكهم اللّه. فأما قتادة ووهب، فقالا: هم قوم شعيب. وقال السدي: هو حبيب النجار. واللّه أعلم.
ذكر عيسي ابن مريم عليه السلام
أخبرنا محمد بن عبد الباقي أو قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمرو ابن حيويه، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدَثنا محمد بن بياض، قال: حدثنا هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه، عن أبي صالح ، عن ابن عباس، قال: كان بين موسى بن عمران، وعيسى عليهما السلام ألف سنة وسبع مائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمس مائة و تسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثه أنبياء وهو قوله عز وجل: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعزرنا بثالث " ، والذي عزز به سمعون.. وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربع مائة سنه وأربع وثمانين.
قال علماء السير: مات عمران بن ماثان بن اليعازار بن اليوذ بن أحين بن صادوق بن عازور بن إلياقيم بن أبيوذ بن زربابل بن شلتيل بن يوحنا بن يوشيا بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن يوشافاظ بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داوود عليهما السلام . وكانت امرأة عمران حين مات واسمها: حنة حاملا بمريم، وكان زكريا زوج أشياع أخت مريم، فجعلت حنة ما في بطنها محرراً للكنيسة التي في جبل أصبهيون ، فلما ولدت إذا هي أنثى فكفلها زكريا، فلما فطمتها أمها تركتها في محرابها، ولحقت بأهلها، فغُذيت بثمار الجنة، فكان زكريا يجد عندها الثمار الرطبة التي تكون في الشتاء، فيقول: يا مريمِ، أنى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله، فهنالك دعا زكريا عليه السلام ربه أن يرزقه ولداَ.
ذكر حمل مريم
لما بلغت خمس عشرة سنة خرجت يوماً تستعذب الماء من مغارة، فإذا جبريل من عند الله ينفخ في جيبها نفخة فوصلت إلى الرحم، فاستمر بها الحمل. وقال قوم: حملت به لثلاث عشرة سنة، وأن جبريل عليه السلام نفخ ما بين جيبها ودرعها .وأخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا أبو علي ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدَثني محمد بن يعقوب الدمامي، قال: أخبرنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يُحدث، عن الربيع بن أنس، عن رفيع أبي العالية، عن أبي بن كعب : " أن الله عز وجل بعث جبريل إلى مريم فدخل من فيها " .
فصل
قال مؤلف الكتاب : وقد اختلف العلماء في المدة التي حملت به.
فقال ابن عباس: حين حملت وضعت.
وعنه: ثمانية أشهر.
وقال عكرمة: وليس أحد يولد لثمانية أشهر فيعيش إلا يشبه عيسى بن مريم.
وقال الحسن: تسع ساعات.
وقال مقاتل: ثلاث ساعات.
وقال ابن جبير: تسعة أشهر.
وقال نوف البكالي : مكثت حاملا قدر ما تمكث النساء .
ذكر ما جرى له في حال الحمل روى ابن أبي، نجيح، عن مجاهد، قال: قالت مريم: كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثني وحدثته، فإذا شغلني عنه شاغل سبح في بطني وأنا أسمع .
ذكر ولادتها قال نوف البكالي : خرجت هاربة من قومها نحو المشرق، وخرجوا في طلبها، فجعلوا لا يلقون أحداً إلا قالوا: هل رأيت فتاة من حالها كذا وكذا. فيقول: لا. حتى أتوا راعي بقر، فقالوا له، فقال: لا، ولكني رأيت من بقري شيئآ لم أره، رأيتها سجدت نحو هذا الوادي.


قال: " فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة، قالت: يا ليتني مت قبل هذا " فناداها جبريل: لا تحزني، فوضعته، وقطعت سرته ولفته في خرقة وحملته. قال وهب بن منبه: لما كانت الليلة التي ولد فيها عيسى أصبحت الأصنام في جميع الأرض منكسة على رؤوسها، كلما ردوها على قوائمها انقلبت، فحارت الشياطين لذلك ولم تعلم السبب، فشكت إلى إبليس فطاف الأرض ثم عاد، فقال: رأيت مولوداً والملائكة قد حفت به، فلم أستطع أن أدنو إليه، ومن أعظم أمره أن الله عز وجل كتمني أمره، ولم تضع أم ألا وأنا حاضرها .
أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر ، قال: حدَثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدًثني أبي، قال: حدًثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسه الشيطان إلا ابن مريم وأمه " .
قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " .
أخرجاه في الصحيحين .
ذكر ما جرى لها مع قومها حين لقوها
قال نوف: أقبل قومها يطوفون عليها، فلما رأوها قعدت ووضعت عيسى في حجرها وأعطته ثديها، فوقفوا و " قالوا: يا مريم لقد جئت شيئاً فريا " . فأشارت إليه أن كلمهم ف " قالوا: كيف نكلم من كان في المهد " فنزع فمه من ثديها، وجلس واتكأ على يساره، و " قال: إني عبد اللّه آتاني الكتاب وجعلني نبياً، " .
ذكر صفة عيسى عليه السلام
روى أبو هريرة، عن النبي صلي الله عليه وسلم، أنه قال: " أنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وانه خليفتي على أمتي، وأنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحُمرة والبياض .
ذكر مسكنه عليه السلام
قال مؤلف الكتاب: كان عيسى عليه السلام يسكن من ساعير أرض الخليل عليه السلام بقرية تدعى ناصرة .
ذكر ما جرى له في الصغر في المكتب
قال سعيد بن جبير: لما ترعرع عيسى جاءت به أمه إلى مُعَلًم الكتاب فدفعته إليه، فقال له: قل بسم، فقال عيسى: الله ، فقال المعلم: الرحمن، فقال عيسى: الرحيم. فقال المعلم: كيف اعلَم مَنْ هو أعلم مني.
وكان يخبر الصبيان مما يأكلون، وما يدخر لهم أهاليهم في البيوت .
ذكر نبوته ومعجزاته
قال علماء السير: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام حين تم له ثلاثون سنة، فأمره أن يبرز للناس فيدعوهم إلى الله عز وجل. وكانوا أرباب أوثان، ثم أنزل عليه الإنجيل بالسريانبة، فأقبل عيسى إلى بيت المقدس، فأبرأ أعمى ممسوح العينين، ومقعداً زمنأ. وكان يداوي المرضى، والزَّمْنَى، والعميان، والمجانين، ويبرىء الأكمة والأبرص، ويحيى الموتَى، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله. وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وكان كتابه الإنجيل، وزاده التوراة، وعِلمه الزبور .
وكان من آياته المائدة والمشي على الماء، وقد كان يسبح في بطن أمه، وتكلم في المهد طفلاً.
قال وهب: وكان يجتمع على بابه من المرضى خمسون ألفاً.
أنبأنا يحيى بن ثابت، قال: أخبرنا الحسن بن الحصين بن دوما، قال: أخبرنا مخلد بن جعفر، قال: أخبرنا الحسن ابن علي القطان، قال: أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار، قال: أخبرنا إسحاق بن بشر القرشي، قال: حدثني محمد بن الفضل، عن أبان بن أبي عياش، عن أبي عثمان النهري، عن سلمان الفارسي، قال: لم يبق في مدينتهم زَمِنٌ ولا مبتلى ولا مريض إلا اجتمعوا إليه فدعا لهم فشفاهم الله، فصدقوه واتبعوه، ثم قالوا له: ابعث لنا من الآخرة، قال: مَنْ تريدون؟ قالوا: سام بن نوح، فإنه قد مات منذ كذا وكذا ألف سنة، قال: تعلمون أين قبره؟ قالوا: في وادي كذا وكذا. فانطلقوا إلى الوادي، فصلى عيسى ركعتين، ثم قال: يا رب، إنهم سألوني ما قد علمت فابعث لي سام بن نوح، فقال: يا سام بن نوح، قُم بإذن الله، ثم نادى مثل ذلك، ثم نادى الثالثة، فأجابه فنظر إلى الأرض قد انشقت عنه، فخرج وهو ينفض التراب عن رأسه وهو يقول: لبيك يا رسول الله وكلمته، ها أنا ذا قد جئتك. فقال: يا بني إسرائيل، هذا عيسى بن مريم، ابن العذراء المباركة، روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، فآمِنوا به واتبعوه .


ثم قال: يا روح الله، إنك لما دعوتني جمع الله مفاصلي وعظامي، ثم سواني خلقا فلما دعوتني الثانية رجعت إلي روحي، فلما دعوتني الثالثة خفت أن تكون القيامة، فشاب رأسي وأتاني ملك، فقال : هذا عيسى يدعوك لتصدق مقالته، يا روح الله، سل ربك أن يردني إلى الآخرة فلا حاجة لي في الدنيا. قال عيسى: فإن شئت أن تكون معي، قال: يا عيسى، أكره كرب الموت، ما ذاق الذائقون مثله. فدعا ربه فاستوت عليه الأرض، وقبضه الله إليه، فبلغ عدة من آمن بعيسى سبعة آلاف.
قال مؤلف الكتاب : وقد روي أن الذي أحياه حام بن نوح، أنبأنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد بن السراج، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، قال: أخبرنا يوسف بن عمر الزاهد، قال: قرىء على عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري وأنا أسمع، قيل له: أخبركم موسى بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن ابن الهاد، عن ابن شهاب قال: قيل لعيسى بن مريم عليه السلام: أحي حام بن نوح، فقال: أروني قبره، فأروه فقام فقال: يا حام بن نوح إحي بإذن الله، فلم يخرج، ثم قالها الثانية، فإذا شق رأسه ولحيته أبيض. فقال: ما هذا، قال: سمعت الدعاء الأول فظننت أنه من الله عز وجل، فشاب له شقي، ثم سمعت الثاني فعلمت أنه من الدنيا فخرجت. قال: منذ كم مِت؟ قال: منذ أربعة آلاف سنة ما ذهبت عني سكرة الموت، " "
ذكر كلمات مما أوحي إلى عيسى عليه السلام
أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار، قال: أخبرنا الحسن بن الحسين بن دوما، قال: أخبرنا مخلد بن جعفر، قال: أخبرنا الحسن بن علي العطار، قال: أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار، قال: أخبرنا إسحاق بن بشر القرشي، قال: أخبرنا عيسى بن عطية السعدي، وعبد الله بن زياد بن سمعان، قالا: عن بعض مَنْ أسلم من أهل الكتاب قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى: يا عيسى ابن مريم، اذكرني في الدنيا أذكرك في المعاد، أكحل عينك بملول الحزن، تيقظ لي في ساعات الليل. أسمعني لذاذة الإنجيل، إِذا دخلت مسجداً من مساجدي فليضطرب قلبك خوفاً مني، ولتخشع جوارحك لي. وقل لقومك إذا دخلوا مسجداً من مساجدي لا تدخلوا إلا بقلوب خائفة، وأبصار خاشعة خافضة، وأيدٍ طاهرة من الدنس. وأخبرهم أني لا أستجيب دعاء الظالم حتى يرد المظلمة إلى صاحبها. يا عيسى، لا تجالس الخطائين حتى يتوبوا يا عيسى، إني ذاكر كل من ذكرني، وألعن الظالمين إذا ذكروني،
ذكر عيشته وزهده
قال سلمان الفارسي: كان عيسى يلبس الصوف بالنهار، والشعر بالليل، وما قهقه ضاحكاً قط.
وقال مجاهد: كان يأكل قلوب الشجر، ويلبس الشعر، ولم يكن له ولد يموت ولا بيت يخرب، ولم يكن يدخر شيئاً لغدٍ ، أينما أدركه المساء بات .
وقال عطاء الخراساني: كان عيسى عليه السلام يتخذ نعلين من لحا الشجر، وشراكهما ليف.
وقال عمرو بن شرحبيل: كان عيسى يأكل من غزل أمه .
وقال شعيب بن حرب: كانت مريم تلقط فإذا عُلم بها نثر لها، فإذا علمت تحولت إلى مكان لا تعرف فيه. أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار، قال: أخبرنا الحسن بن الحسين بن دوما، قال: أخبرنا مخلد بن جعفر، قال: أخبرنا الحسن بن علي القطان، قال: أخبرنا إِسماعيل بن عيسى العطار، قال: أخبرنا إسحاق بن بشر القرشي، قال: أخبرنا عيسى بن عطية السعدي، وعبد الله بن زياد بن سمعان، قالا جميعاً: عن مكحول، عن كعب :


أن عيسى كان يأكل الشعير، ويمشي على رجليه، ويركب الدواب، ولا يسكن البيوت ولا يستصبح السراج، ولا يلبس القطن، ولا لمس النساء والطيب، ولم يمزج شرابه بشيء قط، ولم يدهن رأسه، ولم يقرب رأسه ولحيته غسولأ قط، ولم يجعل بين الأرض وبين جلده شيئاً قط. ولم يهتم لغداء ولا لعشاء. وكان يجالس الضعفاء والمساكين، ولم يأكل مع الطعام إداماً قط، وكان يجزىء بالقوت القليل، ويقول: هذا لمن يموت كثير. وقال عيسى، وعبد الله جميعاً، عن بعض مَنْ أسلم من أهل الكتاب: أن عيسى عليه السلام كان سياحاً يسيح في الأرض، لا يأويه بيت ولا قرية، عليه برنس من شعر وإزار من شعر، وينتعل، نعلين من النعال السبتية وفي يده عصا، مأواه حيث جُنَه الليل، سراجه ضوء القمر، وظله ظلمة الليل، وفراشه من الأرض، ووسادة حجر الأرض، وبقله وريحانه عُشب الأرض، وربما طوى الأيام جائعاً، إذا أصابه الشدة فرح واستبشر، وإذا أصابه الرخاء خاف وحزن .
قال القرشي: وبه حدثنا هشام، عن الحسن: أن عيسى مر به إبليس يوماً وهو متوسد حجراً، فقال: يا عيسى، أليس تزعم أنك لا تريد شيئاً من عرض الدنيا؟ قال فقام عيسى عليه السلام فأخذ الحجر فرمى به إليه، فقال: هذا لك مع الدنيا .
قال: وقالوا: يا روح الله، لو بنينا لك بيتاً تسكنه، قال: لا حاجة لي به، فألحوا عليه، فأذن لهم، فبنوا له عريشأ، فلما دخله فنظر إليه، قال: إنما أردت بيتاً إذا قمت أصاب رأسي وإذا اضطجعت أصاب جنبي حائطه، ولا حاجة لي بهذا، فلم يسكن بعدها ظل بيت قط حتى رُفِع.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا محمد بن علي بن ميمون، قال: أخبرنا أبو عبد الله: محمد بن علي العلوي، قال: أخبرنا أحمد بن علي العطار، قال أخبرنا أحمد بن جعفر البجلي، قال: حدَّثنا علي بن المنذر الطرائقي، قال: أخبرنا محمد بن فضيل، قال: حدثنا عمران بن مسلم ، قال: بلغني أن عيسى بن مريم خرج على أصحابه عليه مدرعة من صوف وكساء من صوف وتُبَّان ، مجزوز الرأس والشاربين باكياً شعثَاَ متغير اللون من الجوع، يابس الشفتين من العطش، طويل شعر الصدر والذراعين والساقين، فقال: السلام عليكم، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن من الله أعز وجل، ولا عجبٌ ولا فخر، يا بني إسرائيل، تهاونوا بالدنيا تهن عليكم، أهينوا الدنيا تكرم الآخرة عليكم، ولا تهينوا الآخرة فتكرم الدنيا عليكم، فإن الدنيا ليست بأهل لكرامة، كل يوم تدعو إلى الفتنة والخسارة. ثم قال لأصحابه: تمرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك يا روح الله؟ فقال: بيتي المساجد، وطيبي الماء، وإدامي الجوع، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وظلالي ظلمة الليل ومسكني، في الشتاء مشارق الشمس، وطعامي ما يبس، وفاكهتي وريحاني بقول الأرض مما يأكل السباع والأنعام، ولباسي الصوف، وشعاري الخوف، وجلسائي الزمنى والمساكين، أصبح وليس لي شيء، وأمسي وليس لي شيء وأنا طيب النفس، غير مكترث مَنْ أغنى مني وأربح مني .


وذكر أنه لبس جبة من صوف عشر سنين، كلما تخرق منها شيء خاطه بشريط ،ولم يدهن رأسه أربع سنين متواليات، ثم دهنه بودك الشحم، وقال: يا بني إسرائيل، اتخذوا المساجد بيوتاً، والقبور دوراً، وكونوا كأمثال الأضياف، ألا ترون إلى طير السماء؟ لا يزرعن ولا يحصدن وإله. السماء يرزقهن. يا بني إسرائيل، كلوا من خبز الشعير ومن بقول الأرض، واعلموا أنكم لم تؤدوا شكر ذلك، فكيف ما كان من فضل .أخبرنا الحسن بن أحمد بن محبوب، قال: أخبرنا أبو علي: أحمد بن محمد البرداني، قال: قرأت على يوسف بن محمد الهمذاني، أخبركم الحسين بن عمر بن برهان، قال: حدثنا محمد بن عمرو بن البختري، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبيد، قال: حدَّثني المثنى بن معاذ الغنوي، قال: أخبرنا محمد بن شجاع النميري، قال: بينا عيسى بن مريم يسيح في بعض بلاد الشام اشتد به المطر والرعد والبرق،. فجعل يطلب شيئاً يلجأ إليه، فرُفِعَتْ له خيمة من بُعد، فإذا فيها امرأة فحاد عنها، فإذا هو بكهف في جبل فأتاه، فإذا في الكهف أسد، فرفع يده، ثم قال: إلهي جعلت لكل شيء مأوى ولم تجعل لي مأوى؟ فأجابه الجليل عز وجل: مأواك عندي في مستقر رحمتي، لأزوجنك يوم القيامة مائة حوراً جعلتها بيدي، ولأطعمن في عرسك أربع مائة عام، يوم منها كعمر الدنيا، ولآمرنَّ منادياً ينادي: أين الزاهدون في الدنيا، زوروا عرس الزاهد عيسى ابن مريم .
ذكر طرف من مواعظ عيسى عليه السلام
أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا الحسن بن الحسين بن دوما، قال: أخبرنا مخلد بن جعفر الباقرجي، قال: أخبرنا الحسن بن علي القطان، قال: أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار، قال: أخبرنا إسحاق بن بشر القرشي، قال: أخبرنا أحمد بن إدريس، عن وهب بن منبه قال: قال عيسى بن مريم: " إن للحكمة أهلاً إن كتمتها عن أهلها جهلت، وإن تكلمت بها عند غير أهلها جهلت، فكن كالطبيب العالم الذي يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع " .
قال القرشي: وأخبرنا عيسى بن عطية السعدي، وعبد الله بن زياد بن سمعان، قالا: عن بعض من أسلم من أهل الكتاب ، قال: قال عيسى عليه السلام للحواريين: لا تجالسوا الخطائين فإن مجالستهم تقسي القلب، تقربوا إلى الله عز وجل بمفارقتهم. يا معشر الحواريين، لا تحملوا على اليوم هم غدٍ ، حَسْب كل يوم همه، ولا يهتم أحدكم لرزق غدٍ ، خالق غد يأتيكم فيه بالرزق. ولا يقولن أحدكم إذا استقبل الشتاء: من أين آكل ومن أين ألبس؟ وإذا استقبله الصيف يقول: من أين آكل ومن أين، أشرب؟ فإن كان لك في الشتاء بقاء ذلك فيه رزق، وإن كان لك في الصيف بقاء ذلك فيه رزق. ولا تحمل هم شتائك وصيفك على يومك، حسب هم كل يوم بما فيه. يا معشر الحواريين. إن ابن آدم خلق في الدنيا على أربعة منازل، فهو في ثلاثة منها بالله واثق، وظنه بالله حَسن، وهو في الرابعة سيىء ظنه بربه يخاف خذلان الله إياه.
أما المنزلة الأولى؟ فإنه يخلق في بطن أمه خنقاً من بعد خلق، في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، يدر الله عليه رزقه في ظلمة البطن، فإذا خرج من البطن وقع في اللبن، لا يسعى إليه بقدم، ولا يتناوله بيده، ولا ينهض إليه بقوة بل يكره عليه، حتى يرتفع عن اللبن ويفطم، ويقع في المنزلة الثالثة بين أبوين يحنان عليه ، فإذا ماتا وتركاه يتيماً تعطف عليه الناس؟ يطعمه هذا ويكسوه هذا رحمة له، حتى إذا بلغ منزلته الرابعة واستوى خلقه واجتمع حتى انه لا يرزقه إلا الله، اجترأ على الله، وغدا على الناس يقاتلهم على الدنيا.
يا معشر الحواريين، اعتبروا بالطير، هل رأيتم طيراً قط يدخر، وكذلك البهائم والسباع، الحق أقول لكم أمسيتم في زمان أقوم، كلامهم كلام الأنبياء، وفعالهم فعال السفهاء، كلامهم دواء يبرىء الداء، وقلوبكم ما تقبل الدواء. قلوبكم تبكي من أعمالكم، أصبحت الدنيا عندكم بمنزلة العروس المجلية يعشقها كل من يراها، وهي بمنزلة الحية، لين لمسها، يقتل سمها.


يا معشر الحواريين، ليكن همكم من الدنيا أنفسكم تفوزوا بها، ولا تكن همَّكم بطونكم وفروجكم: تملأوها من الطعام وتضمروها من الحكمة، كلوا خبز الشعير، وملح الجريش، واخرجوا من الدنيا سالمين. واعلموا أن النظر إلى النساء سهم من سهام إبليس مسموم، وهو يزرع الشهوة في القلب، وان مثل الحكيم يعمل حكمته كمثل الشمس تضيء للخلائق ولا تحرق نفسها، وإن مثل الحكيم الذي لا يعمل بمحكمته كمثل السراج يضيء لمَنْ حوله، ويحرق نفسه.
يا معشر الحواريين، لا تضعوا البعوض عن شرابكم وسرطون الفيلة ، لا تنظروا في ذنوب الناس كالأرباب وانظروا في ذنوبكم كالعبيد، ما الناس إلا كرجلين: مبتلى ومعافى، فارحموا صاحب البلاء، واحمدوا الله على العافية .يا بني إسرائيل، كونوا حكماء علماء، لا تضعوا الحكمة إلا عند أهلها ولا تكتموها أهلها، فإنكم إن تكلمتم بالحكمة عند غير أهلها جهلتم، وإن منعتموها أهلها فقد ظلمتموها وضيعتموها، فكونوا كالطبيب العالم الذي يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع، اعفوا عن الناس يعف الله عز وجل عنكم. يا بني إسرائيل، ما يغني عن البيت المظلم السراج على ظهره وباطنه مظلم، تخرجون الحكمة إلى الناس وتمسكون الغل في صدوركم. لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق ويمسك النخالة، كذلك الحكمة تخرج من أفواهكم وتبقي الغِل في صدوركم. إن الذي يخوضُ الماء لا بد أن يصيب ثوبه الماء، وكذلك مَنْ يحب الدنيا لا ينجو من الخطايا. طوبى للمجتهدين بالليل ورعوا في مساجدهم العمل وسقوا زرعهم من الدموع عينهم حتى نبت وأدرك الحصاد ليوم فقرهم، فوجدوا عاقبة ذلك عند ربهم، ومَنْ يكن زرعه المر لا يحصد حُلواً. يا عبد الدنيا، ما أكثر الشجر وليس كله يثمر، وما أكثر العلماء وليس كلهم يعمل، إن الدابة ما لم تُرَضْ تُستصعب . يا عبيد الدنيا، إنكم لا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، ولا تبلغون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون، كنتم أمواتاً فأحياكم، وحين أحياكم متم، وحين كنتم ضلالا هداكم، وحين اهتديتم ضللتم. إن الزانية إذا حملت يفضحها حملها، وكذلك يفتضح بالعمل مَنْ كان يغر الناس بالقول الحسن ويقول ما لا يفعل.
ذكر الحوادث في زمان عيسى عليه السلام
منها إيمان الحواريين وهم اثنا عشر رجلأ اتبعوا عيسى عليه السلام ، وأهل الكتاب يجعلونهم رسلاً، ويسمونهم: فأولهم شمعون الصَّفا، ثم أندرواس أخوه ثم ربدى، ثم يوحنا أخوه ثم تولوس، ثم لوقا، ثم برتملى، ثم ثوما، ثم متى الماكس، ثم يعقوب بن خلفى، ثم شمعون العتاني، ثم مارقوش.
قال مؤلف الكتاب: وهؤلاء الذين سألوا عيسى عليه السلام نزول المائدة.
ومن الحوادث إيفاد عيسى رجلين من الحواريين إلى أنطاكية لإنذار أهلها: روى سعيد،، عن قتادة في قوله تعالى: " واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون " . قال: " ذكر لنا أن عيسى بن مريم عليه السلام بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية مدينة بالروم، فكذبوهما، فبعث ثالثاً " . وإلى هذا المعنى ذهب ابن جريج.
وقد ذهب قوم منهم كعب، ووهب إلى، أن اللّه تعالى أرسلهم، والأول أثبت. ومن الجائز أن يضاف إرسالهم إلى الله وان كان عيسى قد أرسلهم لأنهم رسوله. واختلف العلماء في اسميهما على ثلاثة أقوال: أحدهما: صادق، وصدوق، قاله بن عباس، وكعب.
والثاني: يحنا، ويونس، قاله وهب.
والثالث: يومار، وبولس. قاله مقاتل. قال: واسم الثالث شمعون، وكان من الحواريين، وهو وصي عيسى عليه السلام.
قال كعب: كان بأنطاكية فرعون يقال له: أنطبجس، يعبد الأصنامٍ ، فبعثهم الله عز وجل إليهم فكذَبهم وأراد قتلهم، فبلغ ذلك حبيباً، وكان مجذوما فجاء يسعى ويقول: يا قوم اتبعوا المرسلين فقتلوه. قال ابن مسعود: ووطئوه بأرجلهم، فلما مضى إلي رحمة الله قال: يا ليت قومي يعلمون، وغضب الله عليهم لاستضعافهم إياه، فعجل الانتقام منهم، فصيح بهم فهلكوا. وقد قال أبو الحسين بن المنادي: حبيب النجار هو نبي أصحاب الرس المذكور في سورة الفرقان. قال مؤلف الكتاب : وفي هذا بُعد.
ومن الحوادث
لقاء عيسى عليه السلام إبليس لعنه اللّه


أنبأنا أبو بكر: محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا أبو الحسين بن المهتدي، عن أبي الحسين ابن أخي مهنى، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: أخبرنا محمد بن يحيى بن عمر الواسطي، قال: حدًثني محمد بن الحسين البرجلاني، قال: حدَثني محمد بن بشر، قال: أخبرنا سعيد بن عصام، عن أبي عمران الجوني، عن أبي الجلد ، قال: لقي عيسى بن مريم إبليس، فقال له: أسألك بالحي القيوم الذى جعل عليك اللعنة ما الذي يسيل جسمك ويقطع ظهرك؟ فضرب بنفسه الأرض ثم قام فقال: لولا أنك سألتني بالحي القيوم مما أخبرتك، أما الذي يقطع ظهري فصلاة الرجل في بيته نافلته، وفي الجماعة فرضه. وأما الذي يسيل جسمي فصهيل الخيل أو قال الفرس في سبيل الله عز وجل.
ومن الحوادث في زمانه قتل يحيى بن زكريا
وقد سبق ذكر ذلك، فإنه قتل وعيسى عليه السلام في الأرض.
ومن الحوادث في زمن عيسى عليه السلام
أن الأرض أجدبت فخرج يستسقي
أخبرنا هبة الله بن أحمد الحريري ، قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا أبو الحسين بن سمعون، قال: حدًثنا عثمان بن أحمد بن يزيد، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الجيلي، قال: حدَثنا محمد بن حاتم الطوسي، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله الهروي، حدَثنا إسحاق بن إِبراهيم التغلبي ، قال: أخبرنا مقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس ، قال: خرج عيسى بن مريم يستسقي بالناس، فأوحى الله عز وجل إليه: لا يستسقي معك خَطَاء، فأخبرهم بذلك، فقال: مَنْ كان من أهل الخطايا فليعتزل. فاعتزل الناس كلهم إلا رجل مصاب بعينه اليمنى، فقال له عيسى: ما لك لا تعتزل؟ فقال: يا روح الله، ما عصيت الله طرفة عين، ولقد التفت بعيني هذه إلى قدم امرأة من غير أن كنت أردت النظر إليها فقلعتها، ولو نظرت إليها باليسرى لقلعتها. قال: فبكي عيسى حتى ابتلت لحيته بدموعه، ثم قال فادعُ، فأنت أحق بالدعاء مني، فإني معصوم بالوحي وأنت لم تعصم أولم تعص، ، فتقدم الرجل فرفع يديه، وقال: اللهم إنك خلقتنا وقد علمت ما نعمل من قبل أن خلقتنا فلم يمنعك ذلك أن لا تخلقنا، فكما خلقتنا وتكفلت بأرزاقنا فارسل السماء علينا مدراراً فو الذي نفس عيسى بيده ما خرجت الكلمة تامةً من فيه حتى أرخت السماء عزاليها، وسقي الحاضر والبادي.
ومن الأحداث في زمان عيسى عليه السلام نزول المائدة
أخبرنا هبة بن محمد بن الحصين، قال: أخبرنا أبو طالب: محمد بن غيلان، قال: أخبرنا أبو بكر: محمد بن عبد الله الشافعي، قال: حدَثنا أحمد بن يوسف، قال: أخبرنا بحر بن نصر، قال: أخبرنا عافية بن أيوب، عن سعيد بن عبد العزيز بن أبي عثمان المهدي، عن سلمان الفارسي ، قال: لما سأل الحواريون عيسى أن ينزل الله تعالى لهم المائدة قام عيسى فألقى الصوف عنه ولبس الشعر والتحفه، ووضع يمينه على شماله ووضعهما على صدره


وصف بين قدميه وألصق الكعب بالكعب والإبهام بالإبهام، وخفض رأسه خاشعاً، ثم أرسل عينه بالبكاء حتى سالت الدموع على لحيته، وجعلت تقطر على صدره، وقال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وأخرنا فيكون عطيةً منك لنا علامة منك وبيننا وبينك، وارزقنا عليها طعامأ نأكله. قال: فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة من فوقها، وغمامة من تحتها، وهم ينظرون إليها تهوي منقضة في الهواء وعيسى يبكي ويقول: إلهي اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابَاَ. حتى استقرت بين يدي عيسى والناس حوله يجدون ريحاً طيبة لم يجدوا مثلها قط، فخر عيسى ساجدأ لله عز وجل وخر الحواريون معه، فبلغ ذلك اليهود فأقبلوا ينظرون، فرأوا أمراً عجيباً، وإذا منديل مُغطى على السفرة، فجاء عيسى فجلس فقال: مَنْ أجرأنا و أوثقنا بنفسه وأحسننا بلاءً وأوثقنا عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى ننظر ونأكل؟ فقال الحواريون: أنت أولى بذلك يا روح الله وكلمته. قال: فتوضأ عيسى وضوءاً جديداً ودعا ربه دعاء كثيرأ وبكى بكاء طويلأ، ثم قام حتى جلس عنده السفرة، فإذا سمكة ليس فيها شوك وقد رُصًتْ حولها من البقول، وإذا عند رأسها خلٌ وعند ذنبها ملح وخمسة أرغفة، على كل واحد منها زيتون وخمسُ رمانات، فقال شمعون رأس الحواريين: يا روح الله، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى: سبحان الله، أما تنتهون؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا. فقال شمعون: لا واللّه، إله بني إسرائيل ما أردت بهذا سوءاً قال عيسى: ليس ما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، إنما هو شيء ابتدعه الله عز وجل بالقدرة، فقال له: كن فكان، فكلوا ما سألتم واحمدوا عليه ربكم. فقالوا: يا روح اللّه، إن أريتنا اليوم آية من هذه السمكة، فقال: يا سمكة إحي بإذن الله تعالى. فاضطربت السمكة طرية، تدور عيناها تبصبص ، تلمظ بفيها كما يتلمظ السَبعُ. ثم قال: عودي كما كنت بإذن الله. فعادت مشوية في حالها. فقالوا: يا روح اللّه، كن أنت أول مَنْ يأكل منها، فقال: معاذ اللّه أن آكل منها، ولكن يأكل منها مَنْ سألها، فعرف الحواريون أن تكون، إنما أنزلت سخطة، فلم يأكلوا، فدعا لها عيسى أهل الفاقة، والزمانة والعميان، والمجذومين ، والبرص، والمقعدين، وأصحاب الماء الأصفر، والمجانين والمختلين، فقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم ليكون المهنأ لكم والبلاء و العقوبة، لغيركم. فصدر عنها ألف وثلاثمائة رجل أو امرأة، كلهم شبعانٌ يتجشأ، وإذا ما عليها كهيئته حين نزلت من السماء. ورُفعت السفرة إلى السماء وهم ينظرون إليها، فاستغنى كل فقير أكل منها يومئذ، وبَرَأ كل زمنٍ من زمانته، وندم الحواريون وسائر مَنْ أبى أن يأكل منها، فكانت إذا نزلت بعد ذلك أقبلوا إليها من كل مكان؟ الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والمرضى والأصحاء. فلما رأى عيسى ذلك جعلها نوباً بينهمِ، وكانت تنزل يومأ ولا تنزل يوماً. فلبثت كذلك أربعين صباحاً تغيب يوماً وتنزل يوما َيؤكل منها، حتى إذا فاء الفيء ارتفعت إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها حتى توارى عنهم، فأوحى الله إلى عيسى: أن اجعل مائدتي رزقاً لليتامى والزمنى دون الأغنياء من الناس. فلما فعل ذلك بهم عظم على الأغنياء، وأذاعوا القبيح حتى شكُوا وشَكًكُوا الناس، حتى قال قائلهم: يا روح الله، بحق أنها تنزل من عند الله؟ فقال عيسى،: ويحكم هلكتم، سترون العذاب إن لم يرحمكم الله تعالى.
فأوحى الله تعالى إلى عيسى ابن مريم عليه السلام : إني آخذ بشرطي من المكذبين الذين اشترطت عليهم إني مُعذَب مَنْ كفر منهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. فمسخ الله تعالى منهم ثلاثة وثلاثين خنازير من ليلتهم، فأصبحوا يأكلون ما في الحشوش ويأتون إلى عيسى عليه السلام، فينظرون إليه وأعينهم تسيل دمعاً، فيقول عيسى: يا فلان يا فلان، قد كنت أخوفكم عذاب الله وعقوبته، وسأل ربه أن يُمِيتهم، فأماتهم بعد ثلاثة أيام .
سبب رفع عيسى عليه السلام إلى السماء
قال وهب بن منبه: أتى عيسى عليه السلام ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم، فقال عيسى عليه السلام: مَنْ يشتري نفسه منكم بالجنة. فقال رجل: أنا، فأخذوه فقتلوه.


وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن عيسى عليه السلام قال: أيكم يُلقى عليه شبهي فيُقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب فقال: أنا. فالقي عليه شبهه ورُفع عيسى، فقتلوه.
قال بعض العلماء: واسم هذا الرجل يسوع بن قديرا. وروى أبو صالح، عن ابن عباس: أن عيسى عليه السلام دخل خوخة، فدخل وراءه رجل من اليهود، فالقي عليه شبه عيسى، فقتلوه وصلبوه. قال وهب: رفع الله عيسى عليه السلام لثلاث ساعات من النهار، وكساه الله الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فأصبح ملكياً إنسياً، سمائياً أرضيأ.
وقال أبو الحسن بن البراء العبدي: رُفِعَ عيسى ليلة القمر وترك خفين ومدرعة، وحذافة يحذف بها الطير، وكان عمره ثلاثأ وثلاثين سنة وأشهراً. وقال سعيد بن المسيب: رَفَعَ اللّه عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وقال مؤلف الكتاب : وقد ذكرنا أنه أوحى الله عز وجل إليه بعد الثلاثين فبقي يوحى إليه ثلاث سنين، ثم انقطع الوحي بعده، ووقعت الفترة إلى أن بعث نبينا محمدا صلي الله عليه وسلم. وقد قيل: بل بعث بينهما أربعة من الرسل، ثلاثة منهم مذكورون في قوله تعالى: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعزرنا بثالث " 3. والرابع: خالد بن سنان العبسي .وقد روينا عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه ذكر عيسى، فقال: " ليس بيني وبينه نبي .وظاهر هذا يمنع وجود نبي بينهما. ومن الممكن أن يتأؤل، فيقال: لا نبي يُغَير حكماً، فإنَّ عيسى أحل وحرم، ومَنْ بعث بعده دَعَى إلى دينه ولم يُغير. والله أعلم. قال علماء التاريخ: ومِن هبوط آدم عليه السلام إلى أن رُفع المسيح إلى السماء خمسة آلاف وخمسمائة واثنتان وثلاثون سنة .
ذكر حال عيسى عليه السلام عند نزوله من السماء
روى أبو هريرة، عن النبي صلي الله عليه وسلم، أنه ذكر عيسى، فقال: إنه نازل يدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال، ويقاتل الناس على الإسلام، فيُهلك الله تعالى في زمانه مسيح الضلالة الدجال الكذًاب، ويقع الأمن في الأرض حتى يرعى الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، لا يضرهم شيئاً، فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المؤمنون " . وروى النواس بن سمعان، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ينزل عيسى على المنارة البيضاء شرقي دمشق " .
وقال عبد الله بن سلأَم: مكتوب في التوراة صفة محمد يُدفن معه عيسى ابن مريم عليهما السلام . أنبأنا أبو القاسم: هبة الله بن أحمد الحريري، عن أبي طالب: محمد بن علي بن الفتح العشاري، قال: أخبرنا أبو الحسين بن ميمي، قال: حدًثنا أبو علي بن صفوان، قال: أخبرنا عبد الله بن عبيد الله بن مهدي، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن، قال: أخبرنا محمد بن يزيد الواسطي، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي، عن عبد الله بن زيد أبي عبد الرحمن الجيلي، عن عبد اللّه بن عمر ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمَ: ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام إلى الأرض فيتزوج ويُولَد له، ويمكث خمساً وأربعين سنة، ثم يموت فيُدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى ابن مريم من قبر واحدٍ بين أبي بكر وعمر " .
ذكر حوادث مرت عقيب رفع عيسى عليه السلام
فمنها افتراق العقائد


روى أبو معشر المدني، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما رُفِعَ عيسى عليه السلام اجتمع من علماء بني إسرائيل مائة رجل، فقال بعضهم لبعض: أنتم كثير ونتخوف الفرقة ليخرج بعضكم. فأخرجوا عشرة عشرة حتى بقت عشرة، فقالوا: أنتم كثير، أخرجوا بعضكم فاخرجوا ستة وبقي أربعة، إليهم ينتهي علم بني إسرائيل، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى؟ فقال رجل منهم: أتعلمون أن أحداً يحيي الموتى إلا الله. قالوا: لا. قال: أتعلمون أن أحداً يعلم الغيب إلا اللّه. قالوا: لا، قال: أتعلمون أن أحداً يبرىء الأكمه والأبرص إلا الله؟ قالوا: لا. قال: فإنه هو اللّه كان في الأرض ما بدا له، ثم صعد إلى السماء حين بدا له. فقال الآخر: أنا لا أقول كما أقلت، قد عرفنا عيسى وعرفنا أمه، بل هو ولده .فقال الآخر: لا أقول كما، قلتما ، ولكن جاءت به أمه من عمل غير صالح. فقال الأخر: لا أقول كما تقولون، قد كان عيسى يخبركم أنه عبد الله وروح الله وكلمته ألقاها إلى مريم فقولوا كما قال لنفسه. فتفرقوا فخرج رجل منهم فسألوه: ما قلت؟ قال: قلت هو الله، فاتبعه عنق من الناس. ثم قالوا للآخر: ما قلت؟ قال: قلت هو ولده، فاتبعه عنق من الناس، ثم خرج الثالث فقالوا: ما قلت؟ قال: قلت جاءت به أمه من عمل غير صالح، فاتبعه عنق من الناس، ثم خرج الآخر، فقالوا: ما قلت. قال: قلت هو عبد اللهّ وروح الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، فاتبعه عنق من الناس. وروى شيبان، عن قتادة قال: ذكر لنا أنه لما رُفع عيسى عليه السلام انتخب أربعة من فقهائهم فقالوا للأول: ما تقول في عيسى. قال: هو الله أهبط إلى الأرض فخلق ما خلق وأحيا ما أحيا، ثم صعد إلى السماء. فاتبعه على ذلك ناس، فكانت اليعقوبية من النصارى. فقالت الثلاثة الأخر: نشهد أنك كاذب، فقالوا للثاني: ما تقول في عيسى؟ فقال: هو ابن اللّه. وتابعه على ذلك ناس، فكانت النسطورية من النصارى. فقال الاثنان الآخران: نشهد أنك كاذبٌ ، فقالوا للثالث: ما تقول في عيسى؟ فقال: هو إله، وأمه إله، والله إله، فبايعه على ذلك ناس. فكانت الإسرائيلية من النصارى الذي يقال دين الملك. فقال الرابع: أشهد أنك كاذبٌ ، ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحه. فاختصم القوم، فقال المرء المسلم: أنشدكم الله، أتعلمون أن عيسى كان يُطعَم الطعام؟ قالوا: نعم. قال: وهل تعلمون أنً الله لا يُطْعَم الطعام؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فأنشدكم الله أتعلمون أن عيسى كان ينام؟ قالوا: نعم، قال: فهل تعلمون أن الله عز وجل لا ينام؟ قالوا: نعم. قال: فخصمهم .ومن الأحداث بعد رفع عيسى ابن مريم عليهما السلام وفاة مريم عليها السلام: فإنها بقيت بعد رفعه ست سنين، وكان جميع عمرها نيفاً وخمسين سنة.
ذكر حوادث حرب الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام قال ابن إسحاق: لما قصدت اليهود عيسى عليه السلام فصلبوا الذي شبه به عدوأ على الحواريين فشمسّوهم وعذبوهم وطافوا بهمِ، فسمع بذلك ملك الروم - وكانوا تحت يده، وكان صاحب وثن فقيل له: ان رجلاَ كان في هؤلاء الناس الذين تحت يديك من بني إسرائيل عدواْ عليه فقتلوه، وكان يخبرهم أنه رسول اللّه، قد أراهم العجائب، وأحيا لهم الموتى، وأبرأ لهم الأسقام، وأخبرهم بالغيوب. قال: ويحكم فما منعكم أن تذكروا هذا لي، فو اللّه لو علمت فما خلّيتُ بينهم وبينه. ثم بعث فانتزع الحواريين من أيديهم، وسألهم عن دين عيسى وأمْرِه، فأخبروه خبره، فبايعهم على دينهم، وأخذ الخشبة التي صُلِب عليها فأكرمها وصانها لما مسها منه. وقَتَل في بني إسرائيل قتلى كثيرة، فمن هنالك كان أصلُ النصرانية في الروم .


قال وهب بن منبه: اجتمع الحواريون بعد رفع عيسى، فقالوا: نريد أن نخرج دعاة في الأرض، وكان ممن توجه إلى الروم: نسطور، وصاحبان له. فأما نسطور فحبسته حاجة، فقال لصاحبيه: أرفقا ولا تحرقا ولا تستبطئاني. فلما قدما الكورة، إذا قوم في يوم عيدهم، وقد برز ملكهم وأهل مملكته، فأتاه الرجلان فقاما بين يديه فقالا له: اتق الله، فإنكم تعملون بالمعاصي وتنتهكون حرم اللّه. فغضب الملك وهمَّ بقتلهما، فقام إليه نفر من أهل مملكته، فقالوا: إن هذا يوم لا تهريق فيه دماء، وقد ظفرت بصاحبيك، فإن أحببت أن تحبسهما حتى يمضي عيدنا ثم ترى فيهما رأيك فعلت. فأمر بحبسهما، ثم ضرب على أذنه بالنسيان لهما حتى قدم نسطور، فسأل عنهما فأخبر بشأنهما وأنهما محبوسان في السجن، فدخل عليهما، فقال: ألم أقل لكما أرفقا، ولا تحرقا، ولا تستبطئاني فهل تدريان ما مثلكما؟ أمثلكما مثل امرأة لم تُصِبْ واحدأ حتى دخلت في السن، فأصابت بعدما دخلت في السن ولداً، فأحبت أن يعجل شبابه حتى يكبر، فحملت على معدته ما لا يطيق فقتلته. ثم قال لهما: والان فلا تستبطئاني حتى آتي إلى باب الملك. فأتاه وقد جلس للناس، وكانوا إذا ابتُلوا بحرام وبحلال رفعوه إلى الملك، فنظر فيه ثم سأل عنه ما يليه، وسأل الناس بعضهم بعضاً حتى ينتهي إلى أقصى المجلس. فجلس نسطور في أقصى المجلس، فلما ردوا على الملك جواب من أجابه، وردوا عليه جواب نسطور، فسمع بشيء عليه نور، وخلا في مسامعه، فقال: مَنْ صاحب هذا القول. قالوا: الرجل الذي في أقصى المجلس، قال: علي به. فلما جاءه قال: أنت القائل كذا. قال: نعم، قال: فما تقول في كذا وكذا؟ فجعل لا يسأله عن شيء إلا فسَّره له، فقال له الملك: عندك هذا العلم وأنت تجلس في آخر القوم، ضعوا له عند سريري مجلساً. ثم قال له: إن أتاك ابني فلا تقم له. ثم أقبل على نسطور وترك الناس، فلما عرف أن منزلته قد ثبتت، قال: لأروزنَه. فقال: أيها الملك، أنا رجل بعيد الدار فإن أحببت أن تقضي حاجتك مني فأذن لي فأنصرف إلى أهلي، فقال: يا نسطور، ما إلى ذلك سبيل فإن أردت أن تحمل أهلك إلينا فلك المواساة، وإن أحببت أن،. تأخذ من بيت المال حاجتك فتبعث به إلى أهلك فعلت. فسكت نسطور. ثم تخير يوماً مات لهم فيه ميت، فقال: أيها الملك، بلغني أن رجلين أتياك يعيبان عليك دينك. قال: فذكرهما، فأرسل إليهما، فقال: يا نسطور، أنت حكم بيني وبينهما لا ما قلت من شيء رضيتُ به، قال: نعم، أيها الملك، هذا ميت قد مات في بني إسرائيل فمرهما يدعوان ربهما فيحييه لهما، ففي ذلك آية بيِّنة. قال: فأتي بالميت فوضع عنده، وقاما وتوضآ ودعوا ربهما فردَّ عليه روحه وتكلم، فقال: أيها الملك إن، في هذا لأية بينة، ولكن مُرهما بغير ذلك، اجمع أهل مملكتك، ثم قل لآلهتك، فإن كنت تقدر على أن تضر بهما فليس أمرهما بشيء، وإن كانا يقدران على أن يضرا آلهتلك فأمرهما قوي. فجمع الملك أهل مملكته، ودخل البهو الذي فيه الآلهة، فخر ساجداً هو ومَنْ معه من أهل مملكته، وخر نسطور ساجداً، وقال: اللهم إني أسجد لك وأكيد هذه الآلهة أن تعبد منْ دونك، ثم رفع الملك رأسه وقال: إن هذين يريدان أن يُبَذَلا دينكم، ويدعوا إلى إله غيركم فافقأوا أعينهم، أو جدَعوهما. فلم ترد عليه الآلهة شيئاً، فقام نسطور وأمر صاحبيه أن يحملا معهما فأسآ، فقال: أيها الملك، قل لهذين: أتقدران على أن تضرا آلهتي فقال لهما: أتقدران على أن تضرا آلهتنا؟ قالا: خل بيننا وبينهم. ففعل، فأقبلا عليها فكسراها فقال نسطور: أما أنا فقد آمنت برب هذين. وقال الملك: وأنا فقد آمنت برب هذين. وقال جميع الناس: آمنا برب هذين، فقال نسطور لصاحبيه: هكذا الرفق.
ذكر الملوك بعد عيسي عليه السلام
ذكر ما يتعلق باليونانيين وأهل الشام


قال مؤلف الكتاب : وَثَبَتْ اليهود بالمسيح والرئاسة ببيت المقدس حينئذٍ لقيصر، والملك على بيت المقدس من قِبَل قيصر هيردوس، ثم مات هيردوس فولى مكانه ابنه أركلاوس، ثم مات فولى مكانه هيردوس الصغير الذي صُلِبَ شبهُ المسيح في ولايته. وكانت الرئاسة في ذلك الوقت لملوك اليونانية والروم، فكان هيردوس وابنه من قِبَلهم، إلا أنهم كانوا يُسمُون بالملك، وكان الملوك الكبار يسمون بقيصر، وكان ملك بيتَ المقدس في وقتَ الصلب لهيردوس الصغير من قبل طيباريوس بن أغوسطوس دون القضاء. وكان القضاء لرجل رومي يقال له فيلاطوس من قِبَل قيصر ، وكان مُلك طبناروس ثلاثاً وعشرين سنة، منها إلى وقت رفع عيسى، المسيح ثماني عشرة سنة وأيام، ومنها بعد ذلك خمس سنين، فصار مُلك الشام بعده إلى ابنه جايوس فملك أربع سنين. ثم ملك بعده ابن له آخر يقال له: قلوديوس أربع عشرة سنة.
ثم ملك بعده نيرون الذي قتل فطرس وبولس أربع عشرة سنة. ثم ملك بعده بوطلايوس أربعة أشهر. ثم ملك بعده اسفسيانوس عشر سنين .وبمضي ثلاث سنين من ملكه، وتمام أربعين سنة من وقت رفع عيسى عليه السلام، وجه اسفسيانوس ابنه ططورس إلى بيت المقدس حتى هدَمه، وقتل من قتل من بني إسرائيل غضباً للمسيح. ثم ملك ططورس بعد أبيه سنتين . أثم ملك بعده دومطيانوس ست عشرة سنة، ثم ملك بعده باذاوس ست سنين.
ثم من بعده طرطياوس تسع عشرة سنة.
ثم من بعده هدريانوس إحدى وعشرين سنة.
ثم من بعده ططورس بن بطيانوس اثنتين وعشرين سنة.
ثم من بعده مرقوس وأولاده تسع عشرة سنة.
ثم من بعده قوذوموس ثلاث عشرة سنة.
ثم من بعده فرطناجوس ستة أشهر.
ثم من بعده سبروس أربع عشرة سنة.
ثم من بعده أنطينايوس أربع سنين.
ثم بعده مرقيانوس ست سنين.
ثم بعده أنطنيانوس أربع سنين، .
ثم الحندروس ثلاث عشرة سنة.
قال مؤلف الكتاب : ثم تملك بعده أربعون رجلا واحداً بعد واحدٍ أسماؤهم من هذا الجنس فلا طائل في الإطالة بذكرها. ثم ملك بعد الأربعين رجلا هرقل الذي كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين سنة. فمن وقت عمارة بيت المقدس بعد تخريب بخت نصّرُ له إلى زمان هجرة نبينا ألف سنة ونيف. فمن تملك الإسكندر اليوناني إلى الهجرة تسعمائة ونيف وعشرون سنة من ذلك من وقت ظهوره إلى مولد عيسى عليه السلام ثلاثمائة وثلاث سنين، ومن مولده إلى وقت رفعه ثلاث وثلاثون سنة، ومن وقت رفعه إلى زمان الهجرة خمسمائة وخمس وثمانون سنة وأشهر، وكان قتِل يحيى بن زكريا في عهد أردشير بن بابك لثماني سنين خلت من ملكه .
ذكر الأحداث المتعلقة بالعرب
قال مؤلف الكتاب : لما مات بخت نصّر انضمّ الذين اسكنوا الحيرة من العرب إلى أهل الأنبار، وبقِي الحيرة خراباً ، فغبَروُا بذلك زمانَاَ طويلا، لا يطلع عليهم أحد من العرب، وفي الأنبار أهلها ومَنْ انضَم إليهم من أهل الحيرة ومن قبائل العرب من بني إسماعيل ومن معدّ بن عدنان وكثروا وملأوا بلادهم من تِهامة وما يليها، ثم فرقتهم حروبٌ وقعت بينهم، وأحداث حدثت فيهم، فخرجوا يطلبون الريف فيما يليهم من بلاد اليمن والمشارق ونزل بعضهم البحرين، وكان بها جماعة من الأزْد كانوا نزلوها في زمان عمران بن عمرو، مزيقيا. ومزيقيا لقب عمرو، وإنما لُقِّب مزيقيا لأنه كان يتخذ كل يوم حُلتين مِن حُلل الملوك، فإذا أمسى مزقهما واستبدل بهما من الغد أخريين لأنه لم يكن يرى أحداً أهلاً أن يلبس ثيابه. وهو ابن عامر ويلقب عامر: ماء السماء بن حارثة " وهو الغِطْريف بن ثعلبة بن امرىء القيس بن مازن بن الأزد . فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على، التُّنُوخ وهو المقام وتعاقدوا على التوازر، والتناصر، فَضَمَّهم اسم تَنُوخ. فدعا مالك بن زهير جَذِيمَة الأبرش بن مالك بن فهم أن يقيم معه، فأقام فزوَجه أخته لميس ابنة زهير. وكان هذا كله في أزمان ملوك الطوائف الذين ملكهم الإسكندر، وفرّق البلدان بينهم عند قتله دارا أبن دارا ملك فارس، إلى أن ظهر أردشير بن بابك مَلك فارس على ملوك الطوائف، وقهرهم ودَان له الناس، وضبط له، الملك. وإنما سُمُوا ملوك الطوائف لأن كل ملك منهم كان ملكه قليلاً من الأرض.


فتطلعتْ أنفسُ مَنْ كان بالبحرين من العرب إلى رِيف العراق، وطمعوا في غلبة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه، أو مشاركتهم فيه، فانقسموا فخرج كل رئيس من العرب بمن معه على قوم. ولم يزالوا كذلك لا يدينون للأعاجم ولا. تدين لهم الأعاجم إلى أن قدم الأنبار تبع وهو أسعد أبو كَرِب بن مليكرب في جيوشه، فخلَّف بها مَنْ لم يكن فيه قوة للقتال ، وخرج للغزو.
ونزل كثير من تَنوخ الأنبارَ والحيرة، وما بين الحيرة إلى طف الفرات وغربيه في الأبنية والمظال، لا يسكنون بيوت المدَر . وكانوا يسمَون: عرب الضاحية، فكان أول مَنْ ملك منهم في زمان ملوك الطوائف مالك بن فَهْم، وكان منزله فيما يلي الأنبار. ثم مات مالك ، فملك بعده أخوه عمرو بن فهم، ثم هلك فملك بعده جَذيمة بنت الأبرش أبن مالك، بن فَهْم بن غَنم بن دَوْس الأزديّ ، وكان من قبل أردشير بن بابك . وكان من أفضل ملوك العرب رأياً، وأشدهم نِكاية، وأبعدهم غوراً ، وهو أوَّل من استجمع له الملك بأرض العراق، وضمَّ إليه العرب، وكان به بَرَص، فكَنَت العرب عنه إعظاماً له. فقيل: جَذِيمة الوضاح، وجَذِيمة الأبرش وكانت منازله فيما بين الحيرة والأنبار وبقةَ، وهِيت وناحيتها، ، وعين التَمْر، وأطراف البر. وكان لا ينادم أحداً كبراً، بل ينادم الفرقدين، فإذا شربَ قدحاً صب لها قدحاً. وكانت تُجْبَى إليه الأموال وتفد عليه الوفود، فخرج إلى غزو طسمْ وجَديس، فأصاب حسان بن تبع قد أغار على طسمْ وجديس، فانكفأ جذيمة راجعاً بمَنْ معه . وكانت فيهم الزرقاء، واسمها: اليمامة، وبها سُفَي بلدها: اليمامة، وهي من بنات لقمان بن عاد، وقيل: هي من جديس وطسم.
فلما قصدهم جيش حسان بن تبع بقي بينه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام، فأبصرتهم وقد حمل كل رجل منهم شجرة يسير بها، فقالت: " تالله ، لقد دب الشجر أو حِمْير قد أخذت شيئاً تجر. فلم يصدقوها، فقالت: لا أقسم باللّه لقد أرى رجلًا منهم ينهش كتفاً أو يخصف نعلا!، فلم يستعدوا.
فصبّحهم حسان فاجتاحهم، فأخذها فشق عينيها ، وإذا فيها عروق من الأثمد .
قال مؤلف الكتاب : وبنظر هذه المرأة يُضْرَبُ المَثَل. وكانت زرقاء اليمامة قد نظرت إلى سرب من حمام طائر ، فإذا فيه، ست وستون حمامة، وعندها حمامة واحدة، فقالت:
ليت الحمام ليه ... إلى حمحامتيه
ونصفه قديه ... ثم الحمام ميه
فقال النابغة يخاطب النعمان ويقول :
واحكم كحكم فتاة الحي إذا نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثمد
أراد : كن حكماً.
وكان جَذيمة قد تنبأ وتكهن، واتخذ صنمين يقال: لهما: الضيزنان ومكانهما بالحيرة معروف وكان يستسقي بهما ويستنصرهما على العدوّ. وكانت إيادٌ بعيْن أباغ، وأباغ رجل من العماليق نزل بتلك العين، فكان يغازيهم، فَذُكِر لجذيمة غلام من لَخم في أخواله من إياد، يقال له: عدي بن نصر بن ربيعة، له جمالٌ وظرف، فغزاهم جذيمة، فبعث إياد قوماً منهم فسقوا سَدنَة الصنمين الخمر، وسرقوهما، فأصبحا في إياد، فبعث إلى جذيمة: إن صنميْك أصبحا فينا زهدأ فيك ورغبة فينا فإن أوثقت لنا ألاَّ تغزونَا رددناهما إليك.
فقال: وعدي بن نصر تدفعونه إلي مع الصًنمَيْن، فدفعوه إليه مع الصنميْن، فانصرف عنهم، وضم عديأ إلى نفسه وولاه شرابه. فأبصرته رَقاش بنت مالك، أخت جذَيمة، فعشقته وراسلته وقالت: يا علي، اخطبني إلى الملك فإن لك حسباً وموضعأ. فقال: لا أجترىء على كلامه في ذلك، ولا أطمع إن يزوجنِيكِ. قالت: فإذا جلس على شرابه وحضر ندماؤه فَاسْقِه صِرْفاً، واسق القوم مِزَاجاً، فإذا أخذت الخمر منه فاخطبني إليه، فإنه لن يَرُدَك ولن يمتنع منك، فإذا زوجك فأشهِد القوم. ففعل الفتى ما أمرْته، فلما أخذت الخمر مأخَذها، خطبها إليه فأملكه إياها، فأعرس بها من ليلته، وأصبح مضرجاً بالخَلوق. فقال له جَذِيمة: ما هذه الآثار يا عدي؟ قال: آثار العُرس، قال: أي عرس. قال: عُرس رَقاش قال: من ْزوجكها ؟ قال: الملك. فضرب جَذيمة بيده على جبهته وأكب على الأرض ندامة وتلهفاً، وخرج عدي على وجهه هارباً فلم يُرَله أثر، ولم يُسْمع له بذكر، وأرسل إليها جذيمة فقال:
حَدَثيني وأنْتِ لا تكذبيني ... أبِحُر زَنَيْتِ أمْ بِهَجِين!


أمْ بِعَبْد فَأنْتِ أهْلٌ لِعَبْدٍ ... أمْ بِدُون فَأنْتِ أهْلُ لِدُونِ
فقالت: لا ، بل أنت زوجتَني أمرأ عربيأ، معروفاً حسيباً، ولم تستأمِرْني في نفسي، ولم أكن مالكةً لأمري. فكف عنها وعرف عذرَها. ورجع عديً بن نصر إلى أياد، فكان فيهم، فخرج ذات يوم مع فتية متصيدين، فرمى به فتىً منهم بين جبلين فمات. واشتملت رَقاش على حمل، فولدت غلاماً سفَته عمرو، حتى إذا ترعرع عطرته وأليسته وحلته، وأزارته خاله جذيمة، فلما رآه أعجب به وأحبه. وكان مع ولده، فخرج جذيمة متبدياً بأهله وولده في سنة ذات خصب، فضرب لهم أبنية في رَوْضة ذات زهرة وغدُر ، وخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمْأة ، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها في حجزته ، فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون وعمرو يقول :
هَذَا جنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ ... إِذْ كُل جَانٍ يده إِلَى فِيهِ
فضمه إليه جَذِيمة والتزمه وسُر بقوله وفعله، وأمر فجعل له حلي من فضة وطوْف من فضة. فكان أوَّل عربي البس طوقَاَ، فكان يسمَّى عمرو ذا الطوق، . فبينما هو على أحسن حاله استطاره الجن فاستهوته، ، فضرب جذيمة في الآفاق فلم يقدر عليه. وأقبل رجلان أخوان من بَلْقيْن بهدايا يريدان جذيمة يقال لهما: مالك وعقيل فنزلا ببعض الطريق منزلًا ومعهما قَيْنة لهما يقال لها: أمّ عمرو، فقَدّمت إليهما طعاماً، فبينما هما يأكلان أقبل فتىَّ عَريِان شاحب، قد تلبد شَعْره وطالت أظفاره وساءت حاله، فجاء حتى جلس حَجْرَة منهما، فمد يده إليهما يريد الطعام، فناولتْه القينة كُراعاً فأكلها ثم مد يده إليها، فقالت:، تعطي العبد كُراعاً فيطمع في الذراع . فذهبت مثلاً ثم ناولت الرجلين من شراب كان معها فأوكَتْ زِقَها ، فقال عمرو بن عدي:
صَدَدْتِ الكأسَ عَنَا أمَّ عَمْروٍ ... وَكَانَ الكَأسُ مَجْرَاهَا اليَمِينا
وَمَا شرُّ الثلاثة أمَ عَمْرٍ و ... بِصَاحِبِكِ الذي لا تصحبينا
فقال مالك وعقيل: مَنْ أنت يِا فتى؟. فقال: أنا عمرو بن عدي.
فنهضا إليه فضمَاه وغسلا رأسه، وقلَما أظفاره، وأخذا من شعره وألبساه مما كان معهما من الثياب، وقالا: ما كنا لنهدي لجذيمَة هدَّية هي أنفس عنده، ولا أحب إليه من ابن أخته، وقد ردَه الله عليه بنا. فخرَجا به إلى جذيمة بالحيرة، فسُر بذلك سروراً شديداً، وأرسل به إلى أمه فمكث عندها أياماً ثم أعادته إليه، فقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوْق، فما ذهب عن عيني ولا قلبي إلى الساعة. فأعادوا عليه الطوْق، فلما نظر إليه قال: " شبَ عمرو عن الطوق " ، فأرسلها مثلًا، وقال لمالك وعقيل: حُكْمَكُمَا، فقالا: حُكمنا منادمتك ما بقيا وبقيت، فهما نَدْمانا جَذيمة اللذان ذكرا في أشعار العرب. وفي ذلك يقول أبو خراش الهذلي الشاعر :
لَعَمْرُكَ ما ملتْ كَبِيشَةُ طَلْعَتِي ... وَإِنَ ثَوَائي عِنْدَهَا لَقَليل
ألمْ تَعْلَمِي أنْ قَد ْتَفَرقَ قَبْلَنَا ... نَدِيما صَفَاءٍ مَالِكٌ وَعَقَيل
وقال مُتمم بن نوْيرة :
وَكُنًا كَنَدْمَانيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَهَر ِحَتَّى قِيلَ لَنْ يتصَدَعَا
فَلَمًا تًفَرًقْنَا كَأنٌي وَمَالِكاً ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً معاَ


وكان ملك العرب بأرض الجزيوة ومشارف بلاد الشام عمرو بن ظرب وقيل : ظريف بن حسّان بن أذينة بن السَّميْدَع بن هوبر العليقميّ . فجمع جذيمة جموعه من العرب، فسار إليه يريد غزاته فالتقوا فاقتتلوا قتالًا شديداً، فقتل عمرو بن ظَرِب وفضت جموعه، وانصرف جذيمة بمن معه سالمين غانمين. فملكتَ من بعد عمرو ابنته الزباء، واسمها: نائلة، وكان جنود الزباء بقايا من العماليق، والعارية الأولى من قبائل قضاعة، وكان للزباء أخت يقال لها: زبيبة، فبنت لها قصراً حسنآَ على شاطىء الفرات الغربي، وكانت تَشْتُو عند أختها، وتَرْبع ببطن النجار، وتصير إلى تَدمُر. فلما أن استجمع لها أمرها واستحكم لها مُلْكها، أجمعت لغزو جَذِيمة الأبرش تطالب بثأر أبيها، فقالت لها أختها زبيبة وكانت على الشام والجزيرة من قبل الروم، وكانت ذات رأي ودهاء: يا زباء إنّك إن غزوْت جَذيمة فإنما هو يوم له ما بعده، إن ظفرت أصبت ثأرك، وإن قتلت ذهب مُلْكُك ، والحرب سِجاك ، وعثراتها لا تقال ، وإِنَ كَعْبَك لم يزل سامياً على من ناوأكِ وساماك، ولم تري بُؤْسأ ولا غِيرَاً ، ولا تدرين لمن تكون العاقبة ولا على من تكون الدائرة فقالت لها الزباء: قد أديت النصيحة، وأحسنت الروية، وإن الرأي ما رأيت، والمقول ما قلت. فانصرفت عما كانت أجمعت عليه من غزو جذيمة، وأتت أمرها من وجه الخداع والمكر. فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها، وأن يصل بلاده ببلادها، وكان فيما كتبت إليه: أنها لم تجد مُلْك النساء ألا قبح في السماع، وضعف السلطان، وقلة ضبط المملكة، وإنها لم تجد لملكها موضعاً ولا لنفسها كفْئاً غيره، فاجمع مُلْكي إلى مُلْكك، وصِلْ بلادي ببلادك، وتقلّدْ أمري مع أمرك. فلما انتهى كتاب الزّباء إلى جُذيمة استخفه ما دعتْه إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، وجمع إليه أهلَ الحجى، والنُّهى، من ثقات أصحابه، وهو بالبَقَة من شاطىء الفرات، فعرض عليهم ما دعته إليه الزّباء، واستشارهم، فأجمع رأيهم على أن يسير إليها، واستشارهم على ملكها، وكان فيهم رجل يقال له: قصير بن سعد بن عمرو، وكان سعد قد تزوج أمَةً لجذيمة، فولدت له قصيراً، وكان حازماً مقدماً عند جَذيمة، فخالفهم فيما أشاروا به، وقال: " رأي فاتر، وعدو حاضر " . فذهبت مثلَاَ .
وقال لجذيمة: اكتب إليها، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلا لم تمكّنْها من نفسك ولم تقع في حبالها، وقد قتلت أباها. فلم يوافق جَذيمة ما أشار به عليه قصير، وقال له: لا إنك أمرؤ رأيك في الكِن لا فِي الضح " . فذهبت مثلاً. ودعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره، فشجعه على السير. فاستخلف عمرو، وسار في وجوه أصحابه، فلما نزل رحبة طوق دعا قصيراً، فقال: ويحك ما الرأي. قال له: " ببقة تركت الرأيَ " ، فذهبت مثلاً. و استقبلته رُسُل الزّباء بالهدايا والألطاف، فقال: أيا قصير، ، كيف ترى. قال: خَطَرٌ يسيرٌ في خَطْب كبير " . فذهبت مثلاً. وقال له قصير: ستلْقاكَ الخيول، فإن سارتْ أمامك فالمرأة صادقة، وإن أحاطت بك فالقوم غادرون، فاركب العصا وكانت فرساً لجذيمة لا تجارَى فإنِّي راكبُها ومسايرك أعليها، .فلقيته الخيول فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير مولياً، فقال: " ويل أمّه حزماً على ظهر العصا فذهبت مثلاَ. فجرت به إلى غروب الشمس ثم نَفَقَت وقد قطعت أرضاً بعيدة، فبنى عليها بُرْجاً يقال له: برج العصا. ودخل جذَيمة على الزّباء فقتلته ، ورجع قصير إلى عمرو بن عديّ، فقال: تهيأ ولا تُطِلّ دمَ خالك. قال: لا وكيف لي بها وهي أمنع من عُقاب الجو " . فذهبت مثلاً. وكانت الزّباء سألت كاهنةً لها عنْ ملكها وأمرها، فقالت: أرى هلاكَكِ بسبب غلام مهين، وهو عمرو بن عدي، ولكن حتفك بيدك، ومن قبلَه يكون ذلك. فحذِرَت من عمرو، وأخذت نَفَقاً من مَجْلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجَأني أمر دخلت النفق إلى حصني. ودعت رجلاً مُصوَراً؟ فجهزته وقالت له : سِرْ حَتى تقم على عمرو بن عدي متنكراً، فتخلوَ بحشمه وتخالطهم، ثم أثبتْ عمرو بن عدي معرفةً فصوره جالساً وقائماً، وراكباً ومتفضلًا ، ومتسلّحاً بهيئته وثيابه، فإذا أحكمتَ ذلك فأقبل إلي.
فانطلق وصنع ما أمرته به، وأرادت أن تعرِف عمرو بن عديّ فلا تراه على حال إلآ


عرفتْه وحذِرته وعلمت علمَه. فقال قصير لعمرو بن عدي: أجْدَعْ أنفي واضرب ظهري، ودعْني وإياها فقال عمرو: ما أنا بفاعل وما أنت لذلك يمستحق مني. فقال قصير: دخَل عنّي إِذَاً وخلاك ذمٌّ " . فذهبت مثلًا. وقال ابن الكلبيّ: كان أبوها اتًخذ لها النفق ولأختها، وكان الحصن لأختها في داخل مدينتها، قال: فقال له عمرو: فأنت أبصر، فجدَعَ أنفه وضرب ظهره فقالت العرب: لمكر ما جدع قصيرٌ أنفه " . وفي ذلك يقول المتلمس:
وَمِنْ حَذَرِ الأوْتَارمَا جَزّ َأنْفَه ... قَصيرِ وَخَاضَ المَوْتَ بِالسيْفِ بيهس
ثم خرج قصيرٌ كأنه هارب، وأظهر أن عمراً فعل به ذلك، وأنه يزعم أنه مَكَر بخاله جذيمة، وغرّه من الزّباء. فسار قصير حتى قدم عليها، فتسبب في قتلها .وقال مؤلف الكتاب: وقد رويت لنا هذه القصة على خلاف هذا، وأن جَذيمة طرد الزباء ثم طلب أن يتزوجها، ونحن نوردها لتعلم قدر الاختلاف. أنبأنا محمد بن عبد الملك بن خيرون أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: أخبرنا علي بن الحسين بن موسى العلوي، قال: حدَثنا أبو محمد: سهل بن أحمد الديباجي، قال: أخبرنا قاسم بن جعفر السراج، قال: أخبرنا يعقوب بن الناقد، قال: أخبرنا أحمد بن عمرو بن الفرج، قال: أخبرنا أبي، عن يونس بن حبيب النحوي. قال الديباجي: وحدَثنا القاضي أبو محمد: عبد الله بن أحمد الربعي، قال: حدَّثنا أحمد بن عبيد بن ناصح، قال: حدَثنا ابن محمد الكلبي، عن أبيه ، قال: كان جذيمة بن مالك ملكاً على الحيرة وعلى ما حولها من السواد ملك ستين سنة وكان به وضح، وكان شديد السلطان، قد خافته العرب، وتهيبه العدو، فتهيبت العرب أن يقولوا الأبرص، فقالوا: الأبرش. فغزا مليح بن البراء، وكان ملكاً على الحُضْرِ ، وهو الحاجز بين الروم والفرس. وهو الذي ذكره عدي بن زيد في قوله:
وَأخو الحَضْرَ إِذْ بَنَاهُ وَإِذْ دج ... لَةُ تُجْبَى إِليهِ والخَابُورُ
فقتله جذيمة، وطرد الزْباء إلى الشام، فلحقت بالروم، وكانت عربية اللسان، حسنة البيان، شديدة السلطان، كبيرة الهمة. قال ابن الكلبي: ولم تكن في نساء عصرها أجمل منها، وكان اسمها: فارعة، وكان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها، وإذا نشرته جللها، فسميت الزّباء.
قال ابن الكلبي: فبُعث عيسى ابن مريم بعد قتل أبيها، فبلغت بها همتها أن جمعت الرجال، وبذلت الأموال، وعادت إلى ديار أبيها ومملكته، فأزالت جذيمة الأبرش عنها، وابتنت على عراقي الفرات مدينتين متقابلتين من شرقي الفرات وغربيه، وجعلت بينهما نفقاً تحت الفرات، فكان إذا رهقها عدو أوت إليه وتحصًنت به، وكانت قد اعتزلت الرجال، فهي عذراء بتول، وكان بينها وبين جذيمة مهادنة، فحدث جذيمة نَفْسُهُ بخطبتها، فجمعِ خاصته فشاورهم في ذلك، وكان له ابن عم يقال له: قصير بن سعد، وكان عاقلاً لبيباَ، وكان خازنه وصاحب أمره وعميد دولته، فسكت القوم وتكلم قصير فقال: أبيت اللعن أيها الملك، إن الزّباء امرأة قد حرمت الرجال، فهى عذراء بتول، لا ترغب في مال ولا جمال ولها عندك ثأر، والدم لا ينام، وإنما تاركتك وهنةً وحذاراً من بطشك، والحقد دفين في سويداء القلب، له كُمُون ككمون النَّار في الحجر، إن أقدحته أورى، وإن تركته توارى، وللملك في بنات الأكفاء متسع، ولهن فيه مقنع، وقد رفع اللّه قدرك عن الطمع في مَنْ دونك وعظم شأنك، فما أحد فوقك.
فقال جذيمة: يا قصير، الرأي ما رأيته، والحزم فيما قلته، ولكن، النفس تواقة، وإلى ما تحب وتهوى مشتاقة، ولكل امرءٍ قَدَرٌ لا مفر منه ولا وزر. فوجه إليها خاطباً، وقال: إئت الزباء فاذكر لها ما يرغبها فيه وتصبو إليه. فجاءها خطيبه، فلما سمعت كلامه وعرفت مُراده، قالت له: أنعم بك عيناً وبما جئت به وله . وأظهرت له السرور به، والرغبة فيه، وأكرمت مقدمه ورفعت موضعه، وقالت: قد كنت، أضربت عن هذا الأمر خوفاً أن لا أجد كفؤاً، والملك فوق قدري، وأنا دون قدره، وقد أجبتَ إلى ما سأل، ورغبت فيما قال، ولولا أن السعي في مثل هذا الأمر بالرجال أجمل لسِرْت إليه، ونزلت عليه . وأهدت له هدية سنية، فساقت العبيد، والإماء، والكراع، والسلاح، والأموال، والإبل، والغنم، وحملت من الثياب والعين والورق.


فلما رجع إليه خطيبه أعجبه ما سمع من الجواب، وأبهجه ما رأى من الفُطف، فظن أن ذلك بحصول رغبة، فأعجبته نفسه، وسار من فوره في مَنْ يثق به من خاصته وأهل مملكته، وفيهم قصير خازنه. واستخلف على ملكه ابن أخته عمرو بن عدي اللخمي، وهو أول ملوك الحيرة من لخم، ، وكان ملكه عشرين ومائة سنة، وهو الذي اختطفته الجنّ وهو صبي وردته وقد شب وكبر، فقالت أمه: ألبسوه الطوق، فقال خاله جذيمة: " شب عمرو عن الطوق . فذهبت مثلأ.
وسار إلى الزباء، فلما صار معه نزل فتصيد وأكل وشرب، واستغنى بالمشورة والرأي من أصحابه، فسكت القوم وافتتح الكلام قصير بن سعد، فقال: أيها الملك، كل عزم لا يؤيد بحزم فإلى اخرما يكون كون فلا يثق به خرف قول لا محصول له، ولا يُعقد الرأي بالهوى فيفسد، ولا الحزم بالمُنى فينفذ، والرأي عندي للملك أن يعقب أمره بالتثبت، ويأخذ حفره بالتيقظ، ولولا أن الأمور تجري بالمقدور لعزمت على الملك عزماً بتاً أن لا يفعل. فأقبل جذيمة على الجماعة فقال: ما عندكم أنتم في هذا الأمر؟ فتكلموا بحسب ما عرفوا من رغبة الملك في ذلك وصَوَبُوا رأيه، وقوُوا عزمه، فقال جذيمة: الرأي مع الجماعة، والصواب ما رأيتم، فقال قصير: أرى القدر سابق بالحذر فلا يطاع لقصير أمر " . فأرسلها مثلًا. وسار جذيمة فلما قرب من ديار الزباء نزل فأرسل إليها يعلمها بمجيئه، فرحبت به، وأظهرت السرور والرغبة به، وأمرت أن تحمل إليه الأموال والعلو، فأتت وقالت لجندها، وخاصة أهل مملكتها وعامة أهل دولتها: تلقوا سيدكم وملك دولتكم. وعاد الرسول إليه بالجواب بما رأى وسمع، فلما أراد جذيمة أن يسير، دعا قصيراً، فقال: أنت على رأيك؟ قال: نعم وقد زادت بصيرتي فيه، أفأنت على عزمك. قال: نعم وقد زادت، رغبتي فيه. فقال قصير: ليس للأمور بصاحب مَنْ لم ينظر في العواقب، " قد ستدرك الأمر قبل، فوته، وفى يد الملك بقية هو بها متسلط على استدراك الصواب، فإن وثقت بأنك ذو ملك وسلطان، وعزة ومكان، فإنك قد نزعت يدك من سلطانك، وفارقت عشيرتك ومكانك، وألقيتها في يدي مَن لَستُ آمنُ عليك مَكْرَه ُوغدره، فإن كنت ولا بد فاعلًا، ولهواك تابعاً، فإن القوم أن يلقوك غداً فِرقاً وساروا أمامك، وجاء قوم وذهب قوم فالأمر بعد في يدك، والرأىِ فيه إليك، فإن تلقوك زردقاً واحداً، وقاموا لك صَفًين حتى إذا توسطتهم انقضُّوا عليك من كل جانب فأحدقوا بك فقد ملكوك وصرت في قبضتهم، وهذه العصا لا تسبق غبارها وكانت لجذيمة فرسٌ تسبق الطير، وتجاري الرياح يقال لها: عصا - فإذا كان كذلك فتجلل ظهرها، فهي ناجية بك إن ملكت ناصيتها، فسمع جذيمة كلامه، ولم يَرُدً جواباً، وسار.
وكانت الزّباء لما رجع رسول جذيمة من عندها قالت لجندها: إذا أقبل جذيمة غداً، فتلقوه بأجمعكم وقوموا له صفين من عن يمينه ومن عن شماله، فإذا توسط جمعكم فتفوضوا عليه من كل جانب حتى تحدقوا به، وإياكم أن يفوتكم. وسار جذيمة وقصيرٌ عن يمينه، فلما لقيه القوم زَرْدَقَاَ واحداً قاموا له صفين، فلما توسطهم انقضوا عليه من كل جانب انقضاض الأجدل على فريسته ، فأحدقوا به وعلم أنهم قد ملكوه، وكان قصير يسايره، فأقبل عليه، وقال: صدقت يا قصير. فقال قصير: أيها الملك، لا أبطأت بالجواب حتى فات الصواب " . فأرسلت مثلًا.
فقال: كيف الرأي الآن؟ فقال: هذه العصا فدونكها، لعلها تنجو بك أو قال: تنجو بها وهو الأصح فأنف جذيمة من ذلك، وسارت به الجيوش، فلما رأى قصير أن جذيمة قد استسلم للأسر وأيقن بالقتل جمع نفسه، فصار على ظهر العصا وأعطاها عنانها وزجرها، فذهبت به تهوى هوَي الريح ، فنظر إليه جذيمة وهي تتطاول به. وأشرفت الزباء من قصرها، فقالت: ما أحسنك من عروس تُجلَى عليَ وتزف إليَ. حتى دخلوا أبه، على الزّباء ولم يكن معها في قصرها إلا جوارٍ أبكار أتراب، وكانت جالسة على سريرها وحولها ألف وصيفة، كل واحدة لا تشبه صاحبتها في خلق ولا زي، وهي بينهن كأنها قمر قد حُفَتْ به النجوم تزهر، وأمرت بالأنطاع فبُسِطَتْ، وقالت لوصيفاتها: خفوا بيد سيدكن وبعل مولاتكن. فأخذن بيده، فأجلسنه على الأنطاع بحيث تراه ويراها، أو تسمع كلامه ويسمع كلامها، ثم أمرت الجواري فقطعن دواهيه، ووضعت الطشت تحت يده، فجعلت دماؤه تشخب في الطشت


فقطرت قطرة في النطع، فقالت لجواريها: لا تضيّعوا دم الملك، فقال جَذيمة: لا يُحزنك دم أراقة أهله. فلما مات قالت: واللّه ما وفى دمك ولا شفى قتلك، ولكنه غيض من فيض. ثم أمرت به فدفن. وكان جذيمة قد استخلف على مملكته ابن أخته: عمرو بن عديّ، وكان يخرج كل يوم إلى ظهر الحيرة يطلب الخبر، ويقتفي الأثر من خاله، فخرج ذات يوم ينظر إلى فارس قد أقبل، تهوي به فرسه هَوَي الريح، فقال: أما الفرس ففرس جذيمة، وأما الراكب فكالبهيمة لأمر ما جاءت العصا، فأشرف عليهم قصير، فقالوا: ما وراءك. قال: سعى القدر بالملك إلي، حتفه رغم أنفي وأنفه فاطلب بثأرك من الزباء، فقال عمرو: وأي ثأر يطب من الزباء وهي أمنع من عقاب الجو، فقال قصير: قد علمت نصحي كيف كان لخالك، وكان الأجل رائده، وإني والله لا أنام عن الطلب بدمه ما لاح نجم وطلعت شمس، أو أدرك به ثأر أو تحرم نفسي فاعذر. ثم أنه عمد إلى أنفه فجدعه، ثم لحق بالزْباء هاربأ من عمرو بن عدي، فقيل لها: هذا قصير ابن عم جذيمة وخازنه وصاحب أمره قد جاءك، فأذنت له، فقالت: الذي جاء بك يا قصير وبيننا وبينك دم عظيم الخطر، فقال: يا ابنة الملوك العظام لقد أتيت فيما يأتي مثلك في مثله، لقد كان دم الملك يطلبه حتى أدركه، وقد جئتك مستجيراً بك من عمرو بن عدي، فإنه اتهمني بخاله وبمشورتي عليه في المسير إليك، ، فجدع أنفي، وأخذ مالي، وحال بيني وبين عيالي، وتهددني بالقتل وإني خشيت على نفسي فهربت منه إليك، وأنا مستجيربك، ومستند إلى كهف عزك. فقالت: أهلًا وسهلًا، لك حق الجوار ودية المستجير. وأمرت به فأنزل وأجريت له الأنزال، ووصلته وكسته، وأخدمته وزادت في إكرامه، فأقام مدة لا يكلمها، تكلمه، وهو يطلب الحيلة عليها، وموضع الفرصة منها، وكانت متمنعة بقصر مشيد علي باب النفق تعتصم به فلا يقدر أحد عليها .فقال لها قصير يوماً، إن لي بالعراق مالَاَ كثيرا وذخائر نفيسة مما يصلح للملوك، فإن أذِنْتِ لي بالخروج إلى العراق، وأعطيتِني شيئاً أتعلل به في التجارة وأجعله سببأ إلى الوصول إلى مالي أتيتك بما قدرت عليه من ذلك. فأعطته مالاً بعدما أذنت له بالخروج، فقدم العراق وبلاد كسرى، فأطرفها وألطفها وسرٌها، وبنت له عندها منزلَاَ، وعاد إلى العراق ثانية، فقدم بأكثر من ذلك طرفاً من الجواهر ، والبز، والخز، والقز، والديباج، فازداد مكانه عندها ، وازدادت منزلته عندها، ورغبتها فيه، ولم يزل قصير يتلطف حتى عرف موضع النفق الذي تحت الفرات، والطريق إليه. ثم خرج ثالثة فقدم بأكثر من الأوليين طرائف ولطائف، فبلغ مكانه أمنها، وموضعه عندها إلى أن كانت تستعين به في مهمٌها وملمِّها، فاسترسلت إليه وعوَلت عليه في أمورها كلها . وكان قصير رجل حسن العقل والوجه، حصيفاً أديباً لبيباً، فقالت له يوما: أريد أن أغزو البلد الفلاني من أرض الشام، فاخرج إلى العراق فأتني بكذا وكذا من السلاح والكراع والعبيد والثياب فقال قصير: ولي في بلاد عمرو بن عديّ ألفُ بعير وخزانة من السلاح فيها كذا وكذا، وما يعلم عمرو بن عديّ بها، ولو علم لأخذها واستعان بها على حربك، وكنت أتربص به المنون وأنا أخرج متنكراً من حيث لا يعلم فآتيك بها مع الذي سألت. فأعطته من المال ما أراد، وقالت: يا قصير، الملك يحسن بمثلك وعلى يد مثلك يصلح أمره، ولقد بلغني أن أمر جذيمة كان إيراده وإصداره إليك، وما تقصر يدك عن شيء تناله يدي، ولا يقعد بك حالٌ تنهض بي. فسمع كلامها رجل من خاصة قومها، فقال: أسد خادر وليث زائر، قد تحفز للوثبة. ولما رأى قصير مكانه منها وتمكنه من قلبها، قال: الآن طاب المصاع. وخرج من عندها، فأتى عمرو بن عدي وقال: أصبت الفرصة من الزباء فانهض فعجل الوثبة، فقال له عمرو: قُلْ يُسمع ، ومُرْ أفعل، فأنت طبيب هذه القرحة، فقال: الرجال والأموال. فقال: حُكمك فيما عندنا مسلط. فعمد إلى ألفي رجل من فُتاك قومه وصناديد أهل مملكته، فحملهم على ألف بعير في الغرائر السود، وألبسهم السلاح والسيوف والحجف ، وأنزلهم في الغرائر، وجعل رؤوس، المسوح من أسافلها مربوطة من داخل، وكان عمرو فيهم. وساق الخيل والعبيد والكراع والسلاح والإبل محملة.


فجاءها البشير فقال : قد جاء قصير. ولما قرب من المدينة حمل الرجال في الغرائر متسلحين السيوف والحجف، وقال: إذا توسطت الإبل المدينة والأمارَةُ بيننا كذا وكذا فاخرطوا الربط. فلما قربت العير من مدينة الزباء في قصرها فرأت الإبل تتهادى بأحمالها فارتابت منها ، وقد كان وشي بقصير إليها، وحذَرَتْ منه، فقالت للواشي به إليها، إن قصير اليوم مِنَا، وهو ربيب هذه النعمة، وصنيعة هذه الدولة، وإنما يبعثكم على، ذلك الحسد، وأن ليس فيكم مثله، فهالها ما رأت من كثرة الإبل وعظم أحمالها في نفسها مع ما عندها، من قول الواشي به إليها:
أري الجمال سَيْرُهَا وَئيدا ... اجنْدَلًا يَحْمِلْنَ أم حَدِيداً
أمْ صَرَفَانَاَ بَارِداً شَدِيدا ... أمْ الرِجَال فِي المسوح سُودا
ثم أقبلت على جواريها وقالت: أرى الموت الأحمر فيِ الغرائر السودأ فذهبت مثلَا حتى إذا توسطت الإبل المدينة وتكاملت، ألغز إليهم الأمارة، فاخترطوا رؤوس الغرائر، فوقع إلى الأرض ألفا فراع بألفي باتر ونادوا : يا لثأر القتيل غدراً. وخرجت الزباء تمضي تريد النفق، فسبقها إليه قصير، فحال بينها وبينه، فلما رأت أن قد أحيط أبها، وملكت التقمت خاتماً في يدها تحت فصه سم ساعةٍ ، وقالت: " بيدي لا بيدك يا عمرو " فأدركها عمرو وقصير، فضرباها بالسيف حتى هلكت، وملكا مملكتها، واحتويا على مملكيها ونعمتها، وخط قصير على جذيمة قبراً، وضرب عليه فسطاطاً وكتب على قبره يقول :
ملك َمنع بالعساكر والقنا ... والمشرفية عزة ما توصفُ
فَسَعت منيته إلى أعدائه ... وهو المتوج والحسام المرهفُ
قال علماء السير : وصار الملك من بعد جَذيمة لابن أخته عمرو بن عديّ، وهو أوّلُ مَنْ اتخذ الحيرة منزلَاَ من ملوك العرب، وأول مَنْ مجده أهلُ الحيرة في كتبهم من ملوك العرب العراق، وإليه ينسبون وهم ملوك آل نصر. قالوا: عمرت الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة، إلى أن عمرت الحيرة في زمن عمر و بن عدي. وعمرت الحيرة خمسمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة، ونزلها أهل الإسلام، فلم يِزل عمرو بن عديّ ملكاً إلى أن مات وهو ابن مائة وعشرين سنة. قيل: مائة وثماني عشرة سنة. ومن ذلك في زمن أردشير، لم ومن ملوك الطوائف خمس وتسعون سنة. وفي زمن، ملوك فارس ثلاث وعشرون.
ومن ذلك في زمن أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرهَ أشهر. وفي زمن سابور بن أردشير ثماني سنين وشهران. وما زال عقب عمرو بن عديّ بعده لهم الملك متصلاً على كل من بنواحي العراق وبادية الحجاز من العرب باستعمال ملوك فارس إياهم على ذلك واستكفائهم أمر من وليهم من العرب إلى أن قتل أبرواز بن هرمز النعمان بن المنذر، ونقل ما كانت ملوك فارس يجعلونه إليهم إلى غيرهم. والنعمان من أولاد نصر أيضاً، لأنه النعمان بن المنذر بن ماء السماء بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة. قال أبو جعفر الطبري : ما زال على ثغر العرب من قِبَل ملوك الفرس من آل ربيعة إلى أن ولي عمرو بن هند، ثم وليَ بعده أخوه قابوس بن المنذر، ثم ولي أربع سنين من ذلك في زمن أنوشِروان ثمانية أشهر، وفي زمن هرمز ثلاث سنين وأربعة أشهر، ثم ولي بعده السهْرَب، ثم ولي بعده المنذر أبو النعمان بن المنذر أربع سنين، ثم بعده النعمان بن المنذر أبو قابوس اثنتيِن وعشرين سنة من ذلك في زمن هرمز سبع سنين وثمانية أشهر، وفي زمن أبرويزا أربع عشرة سنة، وأربعة أشهر، ثم ولي إياس بن قبيصهَ الطائي تسع سنين، ولسنةٍ وثمانية أشهر من ولايته بُعث رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم ، ثم استخلف ازادية الهمداني سبعة عشر سنة، ثم استخلف ولي المنذر بن النعمان بن المنذر ثمانية أشهر إلى أن قدم خالد بن الوليد الحيرة، وكان آخر مَنْ بقي من آل نصر. فجميع ملوك آل نصر عشرون ملكاً، ملكوا خمس مائة واثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر.
فصل في سبب نزول ملوك آل نصر الحيرة


وكان سبب نزولهم الحيرة رؤيا رآها نصر بن ربيعة اللخمي ، وكان ملكه بين التبابعة. فرأى رؤيا هالته، فبعث في مملكته فلم يدع كاهناً ولا منجماً إلا جَمَعه إليه، ثم قال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني، فأخبروني بتأويلها، فقالوا: اقصصها علينا، فقال: إنه لا يعرف تأويلها إلا مَنْ يعرفها قبل أن أخبره بها، قالوا: فإن كان الملك يريد ذلك فليبعث إلى سَطِيح، وَشِق، فإنه ليس أحذ أعلم منهما. واسم سطيح: ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن. وشق بن صعب بن يشكر بن فهم. فبعث إليهما، فقدم سطيح قبل شق، ولم يكن في زمانهما مثلهما من الكهان، فقال له: يا سطيح، إني قد رأيت رؤيا هالتني فإن آصبتها أصبت تأويلها. فقال: رأيت جُمْجُمة خرجت من ظُلُمَة فوقعت بأرض ثهْمَة، فأكلتْ منها كلّ ذات جُمْجُمة. فقال الملك: ما أخطأت منها شيئاً يا سطيح، فما عندك من تأويلها؟ قال: حِلف بما بين الحرتين من حنَش، ليهبطَن أرضَكم الحَبَش، فليملِكُنَ ما بين أبْيَن إلى جُرَش. قال له الملك: وأبيكَ يا سطيح، إنَ هذا لغائظ مُوجِع، فمتى هو كائن؟ في زماني أم بعده ؟ قال: لا بل بعده بحين، الحين من ستين إلى سبعين. قال: فهل يحوم ذلك من مُلكهم أو ينقطع. قال : لا بل ينقطع لبضع وسبعين يمضين من السنين، ثم يخرجون منها هاربين. قال: ومَنْ يلي ذلك. قال: إرم ذي يَزَن، يخرج عليهم من عَدَن، فلا يترك أحد منهم باليمن. قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع؟ قال: لا بل ينقطع. قال: ومَنْ يقطعه؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من العلي قال: وممَّن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل الدهر، يا سطيح من آخر؟ قال: نعم، يوم يُجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرنا يا سطيح. فقال: نعم، والشفق والغسق والفلق إذا اتسق، إِن ما أنبأتك به لحق. فلفا فرغ قدِم شِق فدعاه فقال: يا شِق إني قد رأيت رؤيا فأخبرني بها، قال: نعم، رأيت جُمجمة خرجت من ظلمَة فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نَسَمة، قال: صدقت، فما عندك من تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحَرتين من إنسان لينزلن أرضَكم السودان، فليغلِبُن على كل طَفْلة البنان ، وليَملكُن ما بين أبْيَن إلى نجران. فقال له الملك: وأبيك يا شِق، إن هذا لغائظ فوجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟ قال بعدكم بزمان، ثم يستنقِذكم منه عظيم ذو شأن، ويذيقهم منه أشد الهوان. قال: ومَنْ هذا العظيم الشأن؟ قال: غلام من بيت في يزن. قال: فهل يدوم ملكه أم ينقطع. قال: بل ينقطع برسول يأتي بالحقّ وبالعدل ، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم يجْزى فيه الولاة، ويُجمع الناس للميقات. فوقع في نفسه أنّ ما قالا كائن من أمر الحبشة، فجهزَ بِنيه وبني أهل بيته إلى العراق، وكتب لهم إلى ملك من ملوك الفرس يقال له: سابور، فأسكنهم الحيرة، وما زالت الحيرة يسكنها الملوك .
فصل
قال مؤلف الكتاب : وقد روينا عن بعض ملوك الحيرة قصة مستطرفة يحسن ذكرها.
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: أخبرتنا فاطمة بنت عبد اللّه بن إبراهيم الحيري، قالت: أخبرنا علي بن الحسن بن الفضل، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن محمد بن خالد الكاتب، قال: أخبرنا علي بن عبد الله بن المغيرة الجوهري، قال: حدَّثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، قال: حدَثني الزبير بن بكار، قال: حدَثني عمي مصعب بن عبد اللّه، عن الهيثم بن عدي، عن أبيه ، قال: كان المنصور أمير المؤمنين ضم الشرقي من قطامي إلى المهدي حين وضعه بالري، فأمره أن يأخذه بالحفظ لأيام العرب ومكارم أخلاقها ودراسة أخبارها وقراءة أشعارها، فقال له المهدي ذات ليلة: يا شرقي، مرح قلبي الليلة بشيء يلهيه، قال: نعم، أصلح اللّه الأمير، ذكروا أنه كان في ملوك الحيرة ملك له نديمان قد نزلا من قلبه منزلة نفيسة، وكانا لا يفارقانه في لهوه وبأسه، ويقظته ومنامه ، وكان ل يقطع أمراً دونهما، ولا يصدر إلا عن رأيهما، فغبر بذلك دهراً طويلًا. فبينما هو ذات ليلة في شغله ولهوه، إذ غلب عليه الشراب فأثر فيه تأثيراً أزال


عقله، فدعا بسيفه فانتضاه وشد عليهما فقتلهما، وغلبته عيناه فنام، فلما أصبح سأل عنهما فأخبر بما كان منه، فأكب على الأرض عاضاً عليها تأسفاً عليهما وجزعاً لفراقهما، فامتنع من الطعام والشراب وتسلب عليهما ثم حلف ألا يشربَ شراباً يخرج عقله ما عاش، فواراهما وبنى على قبريهما الغرنين، وسَنَّ أن لا يمر بهما أحد من الملك فمَنْ دونه إِلَّا سَجَد لهما.
قال: وكان إذا سَنَ الملك سُنَّة توارثوها وأحيوا ذكرها، وأوصى بها الآباء أعقابهم.
قال: فغبر الناس بذلك دهراً طويلَاَ لا يمر بقبرهما أحد صغيراً ولا كبيراً إلا سجد لهما، فصار ذلك سنة لازمةً، وأمراً كالشريعة والفريضة، وحكم في من أبى أن يسجد لهما بالقتل بعد أن يحكم في خصلتين يجاب إليهما كائناً ما كانتا. قال: فمر يوماً قصَار ومعه كارة ثيابه، وفيها مدقته، فقال الموكلون بالقبر للقصار: اسجد فأبى أن يفعل، فقالوا: إنك مقتول إن لم تسجد، فأبى، فرُفع إلى الملك واخبر بقصته. فقال: ما منعك أن تسجد؟ فقال: قد سجدت، ولكن كذبوا عليٌ ، قالوا الباطل. قال الملك: فاحتكم في خصلتين فإنك مجاب إليهما وإني قاتلك، قال: ولا بد من قتلي بقول هؤلاء، قال: لا بد من ذلك، قال: فإني أحكم أن أضرب رقبة الملك بمدقتي هذه، قال له الملك: يا جاهل، لو حكمت بما يجدي على مَنْ تخلف كان أصلح لهم. مَال: ما أحكم إلا بضربةٍ لرقبة الملك. فقال الملك لوزرائه: ما ترون فيما حكم به هذا الجاهل، قالوا: نرى أن هذه سنة أنت سننتها، وأنت تعلم ما في نقض السُنن من العار والبوار وعظيم الإثم، ومتى نَقَضْتَ سُنَّةً نُقِضَتْ أخرى ثم أخرى، ثم يكون ذلك لمن بعدك كما كان لك، فتبطل السنن. قال: فاطلبوا لي القصار أن يحكم بما شاء يعفيني من هذه، فإني أجيبه إلى ذلك ولو بلغ شطر ملكي.
فطلبوا إليه، قال: ما أحكم إلا بضربة في رقبته، فلما رأى الملك ما عزم عليه القصار عقد له مجلساً عاماً، وأحضر القصار وأبدى مدقته فضرب بها عنق الملك ضربة أزاله عن موضعه، فخر الملك مغشيأ عليه، فأقام ستة أشهر عليلاً ، وبلغت به العلة حداً كان يجرع فيها الماء بالقُطن. فلما أفاق وتكلم، وطعم وشرب سأل عن القصار، فقيل له: إنه محبوس، فأمر إحضاره، وقال: قد بقيت لك خصلة فاحكم فيها فآنيِ قاتلك لا محالة. فقال القصار: فإذا كان ولا بد فإني أحكم أن أضرب الجانب الآخر ضربة أخرى، فلما سمع الملك بذلك خر على وجهه من الجزع، وقال: ذَهَبَتْ والله إذاً نفسي. ثم قال للقصار: ويلك دع عنك ما لا ينفعك، فإنه لن ينفعك ما مضى فاحكم بغيره أنفذه لك كائناً ما كان، قال: ما راحتي إلا في ضربه أخرى. فقال الملك لرؤسائه ووزرائه: ما ترون. قالوا: تموت على السُنَّة، قال: ويلكم والله إنه إن ضرب الجانب الآخر لم أشرب الماء البارد أبداً، لأني أعلم بما قد مر بي. قالوا: فما عندنا حيلة.
فلما رأى ذلك وما قد أشرف عليه، قال للقصار: أخبرني، ألم أكن قد سمعتك يوم جاء بك الشَرط أنك قد سجدت؟ قال: نعم. فوثب من مجلسه وقبَّل رأسه، وقال: أشهد أنك أصدق من أولئك، وأنهم كذبوا عليك. فانصرف راشداً، فحمل كارته ومضى. فضحك المهدي حتى فحص برجله، وقال: أحسنت والله، ووصله وبره.
ذكر ما كان من طَسْم وجَديس
قال مؤلف الكتاب : كانوا في أيام ملوك الطوائف، وكان فناء جَدِيس على يد حسان بن تبع .
قال علماء السير: كان طسم وجديس من ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك عن أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرأ، فيها من صنوف الثمار ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة، وكان عليهم مَلِك من طسم، ظلوم غشوم، لا ينهاه شيء عن هواه، يقال له: عملوق.


وكان مما لقوا من ظلمه أنه أمَر بألا تُهْدَى بِكْر من جَدِيس إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعَها ، فقال رجل من جديس يقال له الأسود بن غفار لرؤساء قومه: قد تروْنَ ما نحن فيه من العار والذلّ الذي ينبغي للكلاب أن تعافه وتمتعض منه، فأطيعوني، فإني أدعوكم إلى عز الدهر ونفي الذل، قالوا: وما ذاك؟ قالا: إني صانع للملك وقومه طعاماً، فإذا جاءوا نهضنا إليهم بأسيافنا، فأنفرد به فأقتله، وليِجهز كل رجل منكم على جليسه. فأجابوه إلى ذلك وأجمع رأيهم عليه، فأعد طعاماً، وأمر قومه فانتضوْا سيوفهم ودفنوها في الرمل، وقَال: إذا أتاكم القوم يرفلون في حللهم فخذوا سيوفهم ، ثم شدوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم، ثم اقتلوا الرؤساء؟ فإنكم إذا قتلتم الرؤساء لم تكن السفلة شيئَاَ. ففعلوا ذلك فأفنوهم، فهرب رجل من طَسْم يقال له: رياح بن مرة، حتى أتى حسان بن تبع فاستغاث به، فخرج حسان في حِمْير ، فلما كان من اليمامة على ثلاث، قال له رياح: أبيت اللعن إن لي أختاً متزوّجة في جَديس، يقال لها: اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصرُ منها، إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وأنا أخاف أن تنذر القوم بك، فمرْ أصحابَك فليقلع كل رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه، ويسير وهي في يده فأمرهم حسان بذلك ففعلوا، ثم سار، فنظرت اليمامة فأخبرت بحالهم - على ما تقدم - وصبحهم حسان فأبادهم وهدم قصورهم وحصونهم، وقتل اليمامة - وكانت فيما ذُكر أول من اكتحل بالاثمد .وحسان هذا يقال له: تبع بن تبع أبن، أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن تُبَّع، وهو أبو تبع الأصغر بن حسان، الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة وكسى الكعبة شِعب المطابخ ، وإنما سُمي بهذا الاسم لنصبه المطابخ في ذلك الموضع وإطعامه الناس وأن أجياداً إنما سمي أجياداً؟ لأن خيله كانت هناك، وأنه قدم يثرب، فنزل منزلاً يقال له: منزل الملك وقتل من اليهود مقتلة عظيمة بسبب شكاية مَنْ شكاهم إليه من الأوس والخزرج بسوء الجوار، وأنه وجه ابنه حسان إلى السند وسمِرا ذا الجناح إلى خرسان، وأمرهما أن يستبقا إلى الصين، فمر سمر بسمرْقَند، فأقام عليها حتى افتتحهما، وقتل مقاتلتها أو سبى، وحوى ما فيها، ونفذ إلى الصين، فوافى حَسّان بها. فمن أهل اليمن مَنْ يزعم أنهما ماتا هنالك، ومنهم مَنْ يزعم أنهما انصرفا إلى تُبع بالأموال والغنائم .
ذكر الأحداث المتعلقة بالفُرس
قال مؤلف الكتاب : وقد ذكرنا أن الإسكندر اليوناني قتل دارا بن دارا الذي كان ملك الفرس بالعراق ملك أقليم بابل، ثم فرق الممالك بين ملوك الطوائف، وقد بينا أن معنى ملوك الطوائف: أن كل ملك يملك بناحية معروفة ولا يتعداها إلى غيرها، فأما السواد فإنها بقيت بعد هلاك الإسكندر في يد الروم أربعاً وخمسين سنة ، وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك وولده على السواد، وكانوا إنما يملكون سواد الكوفة ويتطرفون الجبال وناحية الأهواز وفارس إلى أن خرج رجل يقال له: أشك ، وهو ابن دارا الأكبر، وكان مولده ومنشأهُ بالري، فجمع جمعاً كبيراً، وسار يريد أنطيخس الرومي، فلقيه فقتل أنطيخس وغلب السواد، وصار في يد من الموصل إلى الري وأصبهان، فعظمه سائر ملوك الطوائف لنسبه وشرفه فيهم، وسمّوه ملكاً، أهدوا إليه ثم ملك بعده جوذرز بن أشكان ، ويقال: ابن سابور، وقيل: هو الذي غزا


بني إسرائيل في المرة الثانية، سُلط عليهم لقتلهم يحيى بن زكريا، فأثخن فيهم ولم يعد لهم جماعة، ورفع الله منهم النبوة، وأنزل عليهم الذل. وكانت الروم قد أقبلت إلى بلاد فارس لطلب ثأر أنطيخش ، وملك بابل يومئذ بلاش أبو أردوان ، فكتب إلى ملوك الطوائف يعلمهم قصد الروم إلى بلادهم فأمدوه، فاجتمع عنده أربعمائة ألف، فولى عليهم ملكا من ملوك الطوائف يلي ما بين انقطاع السواد إلى الحيرة، فسار بهم حتى لقي ملك الروم فقتله، واستباح عسكره، وذلك هو الذي هيج الروم على بناء قسطنطينية، ونقل الملك من رومية إليها، وكان الذي ولي إنشاءها قسطنطين الملك، وهو أول ملك من ملوك الروم تنصَّر، وهو الذي أجلى من بقي من إسرائيل عن فلسطين والأردن لقتلهم عيسى، وأخذ الخشبة التي زعموا أنهم صلبوا عليها عيسى عليه السلام ، فعظمها الروم وأدخلوها خزائنهم، فهي عندهم إلى الآن ، ولم يزل ملك فارس متفرقاً حتى ملك أرْدَشِير بن بابك بن ساسان بن بابك بن زرار بن بهآ فريذ بن ساسان الأكبر بن بَهْمَن بن إسْفَنْديار بن بشتاسب بن لُهْراسب فنهض بفارس طالباً بزعمه دم ابن عمه دارا بن دارا بن بهمن الذي حارب الإسكندر حتى قتله حاجباه ، ومُرِيداً بزعمه ردَ المُلك إلى أهله الذي لم يزل عليه سلفه وتم آباؤه الذين مضوا قبل ملوك الطوائف، وكان مولده بأصطخر، وكان جده ساسان شجاعاً بلغ من شجاعته أنه حارب وحده ثمانين رجلاً من أهل أصطخر ذوي نجدة فهزمهم، وكان ساسان قَيِّمآ على بيت نار أصطخر، فوُلِد له بابك، فلما احْتَنَك قام بأمر الناس بعده ابنه، ثم وُلد له أردشير فملك وفتك بجماعة من الملوك، وفتح البلدان، وسُمي: شَاهَنْشَاه، وبنى الجوسق، وبنى المدينة التي في شرقيّ المدائن، ومدينة غربية، وأقام بالمدائن، وكان قد حلف لا يستبقي أحداً من ملوك الطوائف، أوجب ذلك على عقبه، فوجد جارية في دار المملكة فأعجبته، وكانت بنت أردوان الملك وهو من ملوك الطوائف، واسمها: سورا، فقال لها وهو لا يعلم أنها ابنة أردوان: أبكْرٌ أنتِ أم ثيب. فقالت: بكْرة فواقعها واتخذها لنفسه، فعلقَتْ منه، فلما علمت أنهَا حامل عرفته نسبهاَ فنفر طبعه عنها، ودعى شيخاً مُسناً وسلمها إليه وقال: أودعها بطن الأرض، ولما أخذها الشيخ أعلمته أنها حامل من الملك أردشير فجعلها في سرب وقطع مذاكيره وجعلها في حُقّ وسلم الحُقّ إلى أردشير وسأله أن يختم عليه بخاتمه، ويكون في بعض خزائنه ففعل ووضعت الجارية غلاماً، فأخذ الشيخ طالعه فعلم أنه سيملك فسمَّاه سابور ، فلما نشأ دخل الشيخ على الملك فراه حزيناً فقال: ما لك أيها الملك؟ فقال: لي هذا المُلك وما ليَ ولد. فقال: أيها الملك انظر إلى الحُقٌ الذي كنت سألتك وضعه في بعض الخزائن. فأحضره وفتحه فلما أبصر ما فيه حدثه الشيخ حديث الجارية وولدها، فاستدعاه مع ألف صبي من أقرانه فلعبوا بالصوالجة وهو ينظر إليهم، فدخلت الكرة إيوان الصك، فأحجم الكل عنها، ودخل سابور وحده فأخذها، فعلم أردشير أنه ولده فعقد له التاج ورسمه بالملك من بعده، وتوَجه بتاجه في حياته، ولم يزل أردشير محمود السير والأثر، ذاكٍ رأيه، وأثخن في الأرض، وكان معدوداً من الحكماء . نبأنا عبد الوهاب بن المبارك بإسناد له عن أحمد بن يحيى السفدي قال: سمعت محمد بن سلام يقول: كان مما حُفظ عنه أنه قال يوماً لوزرائه وخاصته بحسبكم، دلالة على فضيلة العلم أنه يمدح بكل لسان وبحسبكم دلالة على عيب الجهل أن كل الناس ينتفي منه ويغضب أن يُسمى به. وكتب أردشير إلى الملوك كتاباً فيه: من ملك الملوك أردشير بن بابك إلى مَنْ يخلُفُهُ بعده من ملوك فارس، أما بعد: فإن صنيع الملوك على غير صنيع الرعية، فالملك يطبعه العز والأمن والسرور والقدرة والجرأة والعبث والبطر، ثم كل ما ازداد في العمر تنفساً وفي الملك سلامة في هذه الطبائع حتى يسلمه إلى سُكر الشراب فينسى النكبات والعثرات والعبر والدوائر فيرسل يده ولسانه بالفعل والقول، وقد قال الأولون منا: عند حسن الظن بالأيام تحدث العبر. وقد كان من الملوك من تذْكرهُ غَرة الذل، وأمْنُهُ الخوف، وسروره الكابة، وقدرته العجز. وقد قال الأولون منا: رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان، واعلموا أن الملك والدين أخوان توأمان، لا قَوامَ لأحدهما إلا بصاحبه لأن الدين أس المُلك وعماده


والملك يُعد حارس الدين، فلا بد للملك من أسِهِ، ولا بد للدين من حارسه، فإن ما لا حارس له ضائع، وما لا أس له مهموم، واعلموا إنما سلطانكم على أجساد الرعية، وأنه لا سلطان للملوك على القلوب وفي سكر الملك بالسلطان ماك يُعد حارس الدين، فلا بد للملك من أسِهِ، ولا بد للدين من حارسه، فإن ما لا حارس له ضائع، وما لا أس له مهموم، واعلموا إنما سلطانكم على أجساد الرعية، وأنه لا سلطان للملوك على القلوب وفي سكر الملك بالسلطان ما يكفيه من سكر الشراب، ، واعلموا أنه ليس للملك أن يكذب لأنه لا يقدر أحد على استكراهه، وليس له أن يغضب لأن الغضب والعداوة لقاح الشر والندامة، وليس له أن يلعب لأن اللعب من عمل الفراغ، وليس له أن يحسد إلا ملوك الأمم على حًسن التدبير، واعلموا أنه لكل ملك بطانة، ولكل رجل من بطانته بطانة، ثم لكل امرء من بطانة البطانة بطانة حتى يجمع في ذلك أهل المملكة، فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب أقام كل آمر منهم بطانته على ذلك، حتى يجتمع على الصلاح عامةُ الرعية، واعلموا أن الملك قد تهون عليه العيوب لأنه لا يستقل بها حتى يرى الناس يتكاتمونها، وهذا من الأبواب الداعية إلى طاعة الهوى، فاحذروا إفشاء السر عند صغار أهاليكم وخدمكم ، واعلموا أن الملك ورعيته جميعاً يحق عليهم أن لا يكون للفراغ عندهم موضع، فإن التضييع في فراغ الملك، وفساد المملكة في فراغ الرعية.
فصل
فلما هلك أردشير قام بملك فارس بعده ابنه سابور
فقسم الأموال، وبان فضل سيرته وغزا البلدان، فكان بجبال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها: الحضر، وبها رجل يقال له: الساطرون، وهو الذي يقول فيه أبو داوود الأبادي :
وَأرَى الْمَوْتَ قَدْ تَدَلى مِنَ الحض ... رِ عَلَى رَب أهْلِهِ الساطِرُونِ
والعرب تسميه: الضَّيْزن، فرحل سابور، وأقام على ذلك الحضر أربع سنين وتحصَّن الضَّيزْن في الحصن، فلم يقدر عليه، فخرجت بنت الضَّيزْن ويقال لها: النًضِيرة إلى رَبَض المدينة، وكانت من أجمل نساء زمانها، وكان سابور من أجمل رجال زمانه، فرأته ورآها فعشقته وعشقها، فأرسلت إليه: ما تَجعل لي إن دَلَلْتُكَ على ما تَهْدم به سور هذه المدينة وتَقتل أبي؟ قال: أتزوجك، وأرفعُك على نسائي وأحظيك بنفسي عونهنَ. قالت: عليك بحمامة وَرْقاء مُطًوَقة، فاكتب في رجليها بحيْض جارية بِكْرٍ زرقاء، ثم ارْسِلْها، فإنها تقِع على حائط المدينة، فتتداعى المدينة، وكان ذلك طِلَّسْم المدينة لا يهدمُها إلَا هذا، ففعل وتداعت المدينة، ففتحها عَنْوة، وقتل الضَيْزَن، وأخرب المدينة، فاحتمل النَضِيرة فعرس بها بعين التَمْر، فذكر أنها لم تزل ليلتَها تَضوَرُ من خشونة فرشها، وهو من حرير محشوة بريش الطير، فالتُمس ما كان يُؤذيها، فإذا ورقة آسٍ ملتزمة بعكنْة من عكنَها قد أثرت فيها، وكان ينظَر إلى مُخّها من لين بشرتها، فقال لها سابور: ويحك، بأي شيء كان يغذوك أبوك. قالت: بالزُبْد والمُخ وشهد الأبكار من النحل وصفْو الخمر. فقال: أنا أحدثُ عهداً بك مِن أبيك. فأمر رجلًا فركب فرساً جموحاً، ثم عصب غدائرها بذنبه ثم أستركضها فقطعها قطعاً فذلك قول الشاعر:
أقْفَرَ الْحِصْنُ مِنْ نَضيرَةَ فالمِر ... بَاعُ منْهَا فَجانبُ الثّرثارِ
وقال عدي بن زيد:
وَأخُو الحَضْرِ إذْ بَنَاهُ وَإذْ دِج ... لَةُ تُجْبى إليه والخابور
شَادهُ مَرْمَراً وجَلَلهُ كِ ... لساً فللطير في ذراهُ وُكُور
لم يَهَبْهُ رَيْبُ المَنُونِ فبادَ ال ... مُلْكُ عَنْهُ فبابُهُ مَهْجُورُ


فلما احتضر سابور ملك ابنه هرمز، وكان ملكه ثلاثين سنة وقيل: إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر، فقام بالملك هرمز سنة وعشرة أيام . ثم قام بالملك ابنه بهرام بن هرمز وكان ذا حلم، وبر وحسن سيره، وكان ملكه ثلاث سنين وثلاثة أشهر. ثم قام بعده بهرام بن بهرام بن هرمز وكان أيضاً حسن السيرة، فبقي ثماني عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة سنة. ثم ملك بعده بهرام بن بهرام بن بهرام بن هرمز، ولقب: بشاهنشاه. فبقي أربع سنين .ثم ملك بعده نَرسي بن بهرام، وهو أخو بهرام الثالث، فأحسن السيرة تسع سنين. ثم ملك هُرْمز بن نَرسي بن بهرام بن بهرام أبن بهرام، بن هرمز بن سابور بن أردشير، فسار بالعدل وعمارة البلاد ست سنين، وقيل: سبعة، وهلك ولا ولد له، وإنما كان له حمل ذكر له المنجمون أنه ذكر، وأنه يملك الأرض، فأوصى بالملك للحمل ومات. فوُضِع التاج على بطن الأم وكتب منه إلى ملوك الآفاق وهو جنين، وسمُوه سابور، وهو سابور ذو الأكتاف، ولا يُعرفُ أحد مَلَكَ وهو في بطن أمه سواه، فولد فاستبشر الناس بولادته وبثوا خبره في الآفاق، ووجهوا بذلك البرُد في الأطراف فشاع أن القوم لا ملكَ لهم، وإنما ينتظرون صبياً في المهد، فطمعت في ملكهم الترك والروم، وكانت بلاد العرب أدنى البلاد إلى فارس، وكانوا أحوج الناس إلى المعاش لسوءِ حالهم وسوءِ عيشهم، فسار منهم جمع عظيم في البحر، فوصلوا إلى رستاق فارس فغلبوا عليها وعلى حروثهم ومواشيهم ومكثوا كذلك حيناً لا يغزوهم أحد من فارس، حتى ترعرع سابور فأول ما عُرف من تدبيره أنه سمع ضجة الناس وقت السحر، فسأل عن ذلك فقيل: الناس يزدحمون على جسر دجلة، فأمر باتخاذ جسر آخر ليكون أحد الجسرين للمقبلين والآخر للمدبرين، فاستبشر الناس بفطنته مع صغر سنه ولم يزل يظهر منه حسن التدبير إلى أن بلغ ست عشرة سنة فخرج في ألف مقاتل، فاوقع بالعرب فقتل منهم خلقاً كثيراً ، وسار إلى بلاد عبد القيس، فأباد أهلها، ثم إلى اليمامة فقتل مَنْ وجد بها، ولم يمر بماء للعرب إلا عورَه ، ولا بعين إلا طَمَّها، واجتاز بيثرب ففعل مثل ذلك ، وقتل وأسر ورجع إلى العراق، وأمر بحفر نهر فوهته بهيت وأخرجه قريباً من القادسية ثم إلى كاظمة، ثم إلى البحر وجعل عليه مناظر وروابط ومسالج، وجعل في تلك المناظر الرجال والخيل، فكان مَنْ أراد من العرب أن يدخل إلى ملك فارس لقضاء حاجته أعرض نفسه على صاحب الحصن الذي يدخل منه فيثبت اسمه ويختم يده، فإذا قضى حاجته، لم يخرج إلا من الحصن الذي دخل منه، فيعرض نفسه على صاحب الحصن فيكسر الختم الذي على يده ويعلم على اسمه، ثم يخرج إلى البادية. فاستقامت بذلك مملكة فارس وحفظت من العرب، وسمى هذا النهر: الحاجز وهو العتيق، وجعل بإزاء ذلك النهر دهاقين فأقطعهم القطائع، وكانوا رداء لأهل الحصون، وكان إذا طرقهم طارق من العرب بالليل أوقدوا النار، وإن صبحهم نهاراً دخنوا، فيعلم أهل القرية بهذه العلامة ما حدث، يأتونهم.
ومن جملة ملك الحصون: حصن مهيب، ومنظرة بخطيرة، ومنظرة حديثة النورة، منظرة بالأنبار، ومنظرهَ بدير الجماجم، ومنظرة بالقادسية، وحصن بذي قار، وبنى الكرخ، وسجستان، ونيسابور. وقال ابن قتيبة: وهو الذي بنى الإيوان بالمدائن، والسوس، وغزا أرض الروم


فسبى سبياً كثيراً. وهادن قسطنطين ملك الروم، وكان قسطنطين أول مَنْ تَنضَر، وفرق ملكه بين ثلاث بنين ملوك كانوا له، فملَّكت الروم عليهم رجلَاَ من أهل بيت قسطنطين يقال له: لُلْيانوس، وكان يدين بملَة الروم التي كانت قبل ذلك، ويًسِرُّ ذلك ويُظهِر النًصرانية. قبل أن يملك، فلما ملك أظهر ملّة الروم، وأمرهم بإحيائها، وأمر بهدم البِيعَ، وقتل الأساقفة وأحبار النصارى، وجمع جموعاً من الروم والخزر، ومَنْ كان في مملكته من العرب، ليقاتل بهم سابور وجنود فارس. فانتهزت العرب بذلك الفُرصة من الانتقام من سابور لأجل ما فتك بالعرب، وقتل منهم، فاجتمع في عسكر لليانوس من العرب مائة ألف وسبعون ألفاً فوجههم مع رجل من بطارقة الروم، بعثه على مقدمته يسمَى: يوسانوس، وسار لُلْيانوس حتى نزل بلاد فارس، فلما بلغ الخبر إلى سابور هاله ذلك، ووجَّه عيوناً تأتيه بخبرهم، فاختلفتْ أقوال العيون، فتنكَّر سابور، وسار في أناس من ثِقاته ليعايِنَ عسكرَهم، فلما قرب من عسكر يوسانوس صاحب مقدمة لليانوس، وجه رهطاً إلى عسكر يوسانوس ممًنْ كان معه ليأتوه بالخبر على حقيقته، فنذرت بهم الرُّوم فأخذوهم ودفعوهم إلى يوسانوس، فلم يقِر أحد منهم بالأمر الذي توجَّهوا له، إلا رجل واحد فإنه أخبر بالقصة على وجهها، وبمكان سابور، وقال: وجه معي جنداً، حتى أدفع إليهم سابور، فأرسل يوسانوس إلى سابور رجلًا مِنْ بطانته ينذره، فارتحل سابور من الموضع الذي كان فيه إلى عسكره. ثم تقدمت العرب فحاربت سابور، ففضُّوا جموعه، وقتلوا مقتلةً عظيمة، وهرب سابور فيمَنْ بقي من جنده، واحتوى لليانوس على مدينة سابور ، وظفر ببيوت أمواله، وكتب سابور إلى مَنْ بالآفاق من جنوده يُعلمهم بما لقيَ، ويأمرهم أن يقدموا عليه، فاجتمعت إليه الجيوش، فانصرف فحارب لليانوس، فاستنقذ منهم محلته وكان لليانوس يوماً جالساً فأصابه سهم غَرْبٌ فقتله، فتحير جنوده وسألوا يوسانوس أن يتملك عليهم فأبى وقال: أنا على مِلَة النصرانية، والرؤساء يخالفون في الملة. فأخبرتْه الروم أتَهم على مَلّتِه، وإنما كانوا يكتمون ذلك لمخافة لليانوس، فملَكوه عليهم، وأظهروا النَصرانيَّة.
فلما عَلِمَ سابور بهلاك لليانوس أرسل إلى قوَّاد جنود الروم أن سرحوا إلينا رئيساً منكم، فأتاه يوسانوس في ثمانين رجلاً، فتَلقّاه وعانقه شكرأ لما كان منه في أمره، وأرسل سابور إلى قوَّاد جند الروم: إنكم لو ملكتم غير يوسانوس لجرى هلاككم، وإنما تمليكه سبب نجاتكم. وقوِيَ أمر يوسانوس، ثم قال: إنَ الروم قتلوا بشراً كثيراً من بلادنا، وخَربوا عمرانها، فإمَّا أن يدفعوا إلينا قيمة ما أفسدوا، وإما أن يعوّضونا من ذلك نَصيبين من بلاد فارس. وإنما غلب عليها الروم، فدفعوا إليه نصيبين، فبلغ أهلَهَا فخرجوا عنها لعلمهم مخالفة سابور لدينهم، فنقل سابور اثني عشر ألف بيت من أهل إصْطخر وأصبَهان وغيرها إلى نصيبين، وانصرف يوسانوس إلى مملكة الروم، فبقي زمناً يسيراً ثم هلك. وإنَ سابور ضَرِيَ بقتل العرب، ونزع أكتاف رؤسائهم، وكان ذلك سبب تسميتهم إياه: ذا الأكتاف.


وذكر بعضُ العلماء بالأخبار أنَ سابور لما أثخَن في العرب وأجلاهم عن نواحي فارس والبحرين واليمامة ذهب إلى الشام والروم، وأعلم أصحابه أنَه عزم على دخول الروم ليبحث عن أسرارهم، فدخل وبلَغه أنَّ قيصر أوْلَم وجمع الناس، فانطلَقَ سابور على هيئة السُؤَّال، حتى شهد ذلك الجمع لينظر إلى قيصر، ففُطِن له واخذ، وأمر به قيصر فادرِج في جلد ثور، ثم سار بجنُوده إلى أرض فارس، ومعه سابور على تلك الحالة، فأكثر من القتل وخراب القرى حتى انتهى إِلى مدينة جُنْدَيْ سابور، وقد تحضَن أهلُها، فنصب المجانيق ، وهدم بعضها، فبينما هم كذلك ذاتَ يوم إذ غفل الروم الموكَّلون بحراسةِ سابور، وكان بقربه قوم من سَبْي الأهواز، فأمرهم أن يُلقوا على القد الذي كان عليه زيتاً، ففَعلوا فلان الجلد، فانسل منه، فلم يزل يدبّ حتى دنا من باب المدينة، وأخبر حُراسها باسمه، فلما دخلها ارتفعت أصوات أهلها بالحمد، فانتبه أصحابُ قيصر بأصواتهم، وجمع سابور مَنْ كان في المدينة وعبأهم، وخرج، إلى الروم سَحَراً، فقتلهم وخرج وأخذ قيصر أسيراً ، وغنم أمواله ونساءه، وأثقله بالحديد، وأخذه بعمارة ما أخرب، ثم قطع عقبه، وبعث به إلى الروم على حمار. ثم أقام سابور حيناً، ثم غزا الروم، فقتل وسَبى، ثم استصلح العرب، وأسكن بعضهم للأهواز وكَرْمان وبقي في مملكته اثنتين وسبعين سنة.
فصل وفي زمن سابور ظهر ماني الزنديق
قال يحيى بن بشر بن عمير النهاوندي: كان ماني أسقفأ من أساقفة النصارى، كبيراً فيهم، محمود السيرة عندهم، وكان في أيام سابور في الأكتاف ملك فارس، فزنا، فسقطت مرتبته في النصرانية، وكان مطارنة زمانه يحسدونه، فلما ظهر منه ما ظهر وجدوا السبيل إلى ما أرادوا فيه فأسقطوا مرتبته، وكان عالماً فيهم بالديانات المتقدمة، عارفاً باختلاف الناس فيها، فلما رأى حاله وما آل إليه أمره أخذ في الرد على أصحابه وقال: إني لم أزن ، ولكن أهل الدير حسدوني وأنكروا مخالفتي في أهل دينهم، إذ كانوا يقرون بالمسيح اللاهوتي ويأخذون شرائعهم عن ابن مريم رسول الشيطان . ثم وضع كتباً إذ كانوا يقرون بالمسيح اللاهوتي فابتدأ بالطعن على أصحاب الشرائع، ومال إلى شريعة المجوس القائلين بالهين الذين اعتقدوا أن إبراهيم وموسى وعيسى كانوا رُسل الظلماني، فبنى ماني على أصلهم، وشيد مقالتهم، وقالوا: إنا نرى الأشياء متضادة، والحيوان معادناً ، فلو كانت هذه الأشياء من فعال حكيم لم تتضاد، فلا بد أن يكون من اثنين متضادين ليس إلا النور والظلمة.
وشرع لأصحابه شرائع بواقعاته الباردة، وعمل لسابور كتابَاَ سماه بالشابرمَان " شرح فيه مذهبه، فهمَّ سابور بالميل إليه فشق ذلك على المؤايدة، فقالوا لسابور: إنه يقول إنك شيطان، وإذا شئت فسله عن يدك هذه مَنْ خلق. فسأله فقال: من خلق الشيطان، فشق ذلك على سابور فقال: أصلبوه. فصُلِب فقام على خشبته فقال مسبحاً مهللاً: أنت أيها المعبود النوراني، بلَغت ما أمرتني به، وهاك عادتهم فيّ، وأنت الحليم، وها أنا مار إليك، وما أذنبت صامتاً ولا ناطقاً، فتباركت أنت وعالموك النورانينون الأزليون، فكان هذا آخر قوله وظهر بعده تلميذ له يقال له: كشطا، فقوى مذهبه.
فصلَ وهلك في عهد سابور
عاملهُ على ضاحية مُضر أو، ربيعة امرؤ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، فاستعمل على عمله ابنه عمرو بن امرىء القيس .
فصل فلما هلك سابور أوصى بالملك بعده لأخيه
أردشير بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك ، فلما استقر له الملك عطف على العظماء وذوي الرئاسة، فقتل منهم خلقاً كثيراً، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه. ثم ملك سابور بن سابور في الأكتاف، فاستبشرت الرعيَّة برجوع مُلك أبيه إليه، واستعمل الرِّفق، وأمر به، وخضع له عَمّه أردشير المخلوع. وهلك في أيامه عمرو بن امرىء القيس الذي ولي لسابور ضاحية مُضر وربيعة، فولى سابور مكانه أوس بن قَلام، وهو من العماليق . وأن العظماء وأهل البيوتات قطعوا أطناب فسطاط كان ضرب على سابور، فسقط الفسطاط عليه فقتله، وكان ملكه خمس سنين .
فصل
ثم ملك بعده أخوه بَهرام بن سابور في الأكتاف


وكان يلقب بكَرْمان شاه وذلك أنّ أباه سابور ولاه في حياته كَرمان، فكتب إلى قوّاده كتاباً يَحثّهم على الطاعة، وبنَى بكَرْمان مدينة، وكان حَسَنَ السياسة في زمانه هلك أوس بن قلام المتولي على العرب، وكانت ولاية أوس خمس سنين ويقال اسمه: ياوس وهو الأصح فاستخلف بعده امرؤ القيس بن عمرو بن امرىء القيس بن عمرو بن عدي. وكان ملك بهرام هذا إحدى عشرة سنة، ثم ثار إليه بعض الفُتَاك فرماه بنشَابة فقتله .
فصل
ثم قام بالملك بعده يَزْدَجِرْد الملقب بالأثيم
فبعضهم يقول: هو ابن المقتول قبله، وبعضهم يقول: هو أخوه، وكان فَظاً غليظاُ مستطيلا على الناس، سيىء الخلُق، يعَاقِب بما لا يُطاق، ويسفك الدماء، فلذلك سُمِّيَ الأثيم لأن ملوك فارس كانوا يستعملون العدد، فأظهر هو الظلم، وجار الناس إلى الله تَعالى من ظلمه، وابتهلوا إليه يسألون تعجيل الانتقام منه. فبينا هو بجرجان إذ أقبل فرس عائر لم يًر َمثله في الخيل، فوقف على بابه، فتعجب الناس منه، واخبِر يَزْدَجِرْد خَبَرَة، فأمر به أن يُسرَجَ ويُلْجَم، ويدخل عليه، فحاول الناس إِلجامه وإِسراجه، فلم يمكنه، فنْهِيَ إليه ذلك، فخرج فألجمه بيده وأسرجه، فلم يتحرك الفرس، حتى إذا رفع ذنبه ليُثْفِرَهُ رمحه على فؤائده رمحه فهلك فنها، وملأ الفرس فُروجَهُ جريَاَ فلم يدْرَك، فقالت الرعية: هذا من رأفة الله تعالى بنا، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة، وخمسة أشهر، وستة عشر يوماً. وقيل: إحدى وعشرين سنة، وخمسة أشهر، وثمانية عشر يوماً.
فصل وفي زمان يَزْدَجِرد هذا هلك امرؤ القيس
بن عمرو بن امرىء القيس، واستخلف مكانه ابنه النعمان بن امرىء القيس بن عمرو بن عدي، وهو صاحب الخَوَرْنَق. وكان سبب بناء الْخَوَرْنَق أن يَزْدَجِرد الأثيم كان لا يبقى له ولد فولد له بهرام، فسأل عن منزل صحيح من الأدواء والأسقام. فدلَ على ظهر الحيرة. فدفع ابنه بهْرام جُور إلى النّعمان هذا، وأمره ببناء الخورنق مسكنَاَ له، وأنزله إياه فبعث إلى الروم فأتي منها برجل مشهور بعمل الحصون والقصور للملوك يقال له: سِنمَّار، فكان يبني مده يغيب يقصد بذلك أن يطمأن إلينا، فبناه في سنتين، فلما فرغ من بنائه صعد النعمان عليه ومعه وزيره وسنِمَّار فرأى البر والبحر، وصيد الظبيان والظباء والحمير، ورأى صيد الحيتان والطير، وسمع غناء الملاحين وأصوات الحدأة، فعجب بذلك إعجاباً شديداً، وكان البحر حينئذٍ يضرب إلى النَجف، فقال له سِنِفَار متقرباً إليه بالحذق وحُسن الصنعة: إني لأعرف من هذا البناء موضع حجر لو زال لزال جميع البنيان. فقال: لا جرم لا رغبة، ولا يعلم مكان ذلك الحجر أحد. ثم أمر به فُرمي من أعلى البنيان فتقطع .
وقيل: إنهم لما تعجبَّوا من حُسْنه وإتقان عمله قال سنمار أو كان قد جاءوا به من الروم لبنائه، لو علمت أنكم تُوفونني أجرتي وتصنعون لي ما أنا أهله بنيتُه بناءً يدور مع الشمس حيثما دارت، فقال : وإنًك لتقدر على أن تبنيَ ما هو أفضل منه ثم لم تبنه! ثم أمر به فطُرح من رأس الخَورنق فمات فكانت العرب تضرب بذلك مثلاً فتقول: وكان، جزاء سنمار. قال سليط بن سعد
جزَى بنوهُ أبا الغِيلَانِ عنْ كِبَر ... وحُسْنِ فِعْلٍ كَمَا جزَى سِنِمار
وقال آخر:
جَزَاني جَزَاهُ الله شَر جَزائِه ... جَزَاءَ سِنّمار وَمَا كَانَ ذَا ذَنبِ
وكان النعمان هذا قد غزا الشام مراراً، وسَبَى وغنم، وكان أشدّ الملوكِ نكاية في عدوَه، وكان ملك فارس قد جعل معه كتيبتيْن يقال لإحداهما: دَوْسَر وهي لتَنُوخ، والأخرى: الشهباء وهي لفارس فكان يغزو بهما بلاد الشام، ومَنْ لم يَدنْ له من العرب. وإنه جلس يوماً في مجلسه من الخورْنَق، فأشرف منه على النَجف وما يليه من البساتين والنخيل والأنهار مما يلي المغرب، وعلى الفُرات ممَا يلي المشرق في يوم من أيام الربيع، فأعجب بما رأى من الخضرة والأنهار فقال لوزيره: هل رأيت مثل هذا المنظر قط فقال: لا، لو كان يدوم . قال: فما الذي يدُوم؟ قال: ما عند اللّه في الآخرة. قال: فبم يُنال ذلك. قال: بترك الدنيا وعبادة الله. فترك مُلْكَه من ليلته، ولَبِس المُسوح، وخرج مستخفياً هارباً لا يعلم به أحد، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله. وفي ذلك يقول عديّ بن زيد :


وتَبَيَّضْ رَث الْخَوَرْنَقِ إذْ ... أصْبَحَ يَوْماً وَللْهُدَى تَفْكِير
سره حاله كثرة ما يل ... لقاه و البحر معرض والسدير
فارعوى قلبه فقال وما ... غِبْطةُ حَيّ إلى الْمماتِ يَصِيرُ
وكان مُلْك النعمان إلى أن تركه وساح في الأرض تسعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر، من ذلك في زمن يَزْدَ جِرْد خمس عشرة سنة، وفي زمن بَهْرام جور بن يَزْدَجِرد أربع عشرة سنة
فصل وبَهْرام جُور


قال مؤلف الكتاب : وبَهْرام جُور هذا ملك بعد أبيه يَزْدَجرِد، ويقال له: بَهْرابم جُور بن يَزْدَجِرد الخَشنِ بن بَهْرام كَرْمان شاه بن سابور ذي الأكتاف. ولما وُلد بَهْرام هذا أمر أبوه المنجمين أن ينظروا في النجوم ليعلموا ما يؤول إليه أمره، فنظروا، فأمروا أن تجعل تربيته وحضانته إلى العرب، فدعا بالمنذر بن النعمان، فاستحضنه بَهْرام وشرفه وملَكه على العرب، وأمر له بِصلة وكُسوة، وأمره أن يسير بَهْرام إلى بلاد العرب، فسار به المنذر إلى محَلته، واختار لإرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام ضخام، وأذهان ذكية،، آداب رضية من بنات الأشراف منهنّ امرأتان من بنات العجم ، وأمر لَهنَ بما يصلحهنَّ، فتداولْنَ إرضاعه ثلاث سنين، وفُطِم في السنة الرابعة، حتى إذا أتت عليه خمس سنين قال للمنذر: أحضرْني مؤدّبين ذوِي علم ليعلِّموني الكتابة والرمي والفقه. فقال له المنذر: إنَّك بعدُ صغير السنّ، ولم يأن لك. فقال: أنا لعمري صغير، ولكنّ عقلي عقل مُحْتَنِك، وأوْلى ما كلِّف به الملوك صالح العلم، فعجِّل عليّ بما سألتُك من المؤدّبين. فوجّه المنذر ساعةَ سمع هذا إلى باب المَلِك مَنْ أتاه برهط من فقهاء الفرسِ، ومعلًمي الرّمْي والكتابة، وجمع له حكماء ومحدّثين من العرب، فألزمهم بَهْرام، ووقَت لكلّ منهم وقتاً يأتيه فيه، فتفرع لهم بَهْرام، فبلغ اثنتي عشرة سنة، وقد استفاد كلّ ما أفيد وحفظه وفاق معلميه، حتى اعترفوا له بفضله عليهم، فأثاب بهرام المنذر ومعلميه ، وأمرهم بالانصراف عنه، وأمر معلّمي الرمْي والفروسية بالإقامة عنده، ليأخذ عنهم ما ينبغي له إحكامه، وأمر بهرام النعمان أن يحضروا خيولهم فأحضروها وأخًروها فسبق فرس أشقر للمنذر تلك الخيل جميعاً، فقرّ به المنذر إلى بَهْرام، وقال: يُبَارِك الله لك فيه. فأمر بقبضه، وركبه يوماً إلى الصيد، فبصُر بعانة ، فرمى وقصد نحوها فإذا بأسد أقد شَدَ، على عَيْر كان فيها، فتناول ظهره، فرماه بَهْرام رمية نفذت من بطنه وبطن العَيْر وسُرتِهِ حتى أفضت إلى الأرض، فأمر بَهْرام فصور ما جرى له مع الأسد والعَيْر في بعض مجالسه. ثم رحل إلى أبيه، وكان أبوه لا يحفل بولد، فاتخذ بَهْرام للخدمة، فلقي بَهْرام، من ذلك عناء. ثم إنّ يَزْدَجِرْد وفد عليه أخ لقيصر، يقال له: ثياذوس، في طلب الصلح والهدنة، فسأله بَهْرام أن يسأل يَزْدَجِرْد أباه أن يأذن له في الانصراف إلى المنذر، فأذن له ، فانصرف إلى بلاد العرب، وأقبل على النعّم واللذة والتلنذ، فهلك يَزْدَجِرْد وبَهْرام غائب، فتعاقد ناس من العظماء وأرباب البيوتات ألّا يملِّكوا أحداً من ذرية يَزْدَجِرْد لسوء سيرته، وقالوا: إن يَزْدَجِرْد لم يخفَف ولداً يحتمل الملك غير بَهْرام، ولم يَل بَهْرام ولاية قطّ يُبلَى بها خبره، ويعرف بها حاله، ولم يتأدَّب بأدب العجم وإنما أدبُه أدب العرب، وخُلُقه كخلُقهم لنشأته بينهم، واجتمعت كلمتهم وكلمة العامَّة على صرف الملْك عن بَهْرام إلى رجل من عِترة أردشير بن بابك يقال له: كسرى، فلم يعتموا حتى ملكوه ، فانتهى إلى بُهْرام هلاك أبيه يَزْدَجِرْد وتمليكهم كسرى وهو ببادية العرب فدعا بالمنذر والنعمان ابنه وناسٍ من عِلية العرب، وقال لهم: لا أحسبكم تجحدون خصيصي والدي، كان، أتاكم معشر العرب بإحسانه وإنعامه مع فظاظته وشَدّته على الفرس وأخبرهم بالذي أتاه من نَعْي أبيه، وتمليك الفرس مَنْ ملَكوا. فقال المنذر: لا يهولنَّك ذلك حتى ألطِف الحيلة فيه. وإنَ المنذر جهَّز عشرة آلاف رجل مِن فرسان العرب، ووجههم مع ابنه إلى مدينتين للملك، وأمره أن يعسكر قريباً منهما، ويدمِن إرسال طلائعه إليهما، فإن تحرَّك أحد لقتاله قاتله وأغار على ما والاهما، وأسر وسَبَى، ونهى عن سَفْك دم. فسار النّعمان حتى نزل قريباً من المدينتين، ووجًه طلائعه إليهما، واستعظم قتال الفرس، وإِنَ مَنْ بالباب من العظماء وأهل البيوتات أرسلوا جواني صاحب رسائل يَزْدَجرْد إلى المنذر، وكتبوا إليه يعلمونه أمر النعمان، فلما ورد جُواني على المنذر وقرأ الكتاب الذي كتب إليه، قال له: الق الملك بَهْرام، ووجه معه مَنْ يوصله إليه. فدخل جواني على بَهْرام فراعه ما رأى من وسامته وبهائه، وأغفل السجود دَهشاً، فعرف بَهْرام أنه إنما ترك السجود لما راعه من رُوائه، فكلّمه بَهْرام


ووعده من نفسه أحسن الوعد، وردّه إلى المنذر، وأرسل إليه أن يجيب في الذي كتب، فقال المنذر لجواني: قد تدبّرت الكتاب الذي أتيتني به وانما وجّه النعمان إلى ناحيتكم الملك بَهْرام حيث ملكه اللّه بعد أبيه، وخوّله إيّاكم. فلما سمع جُواني مقالة المنذر، وتذكَر ما عاين من رُواء بهرام وهيبته عند نفسه،ه من نفسه أحسن الوعد، وردّه إلى المنذر، وأرسل إليه أن يجيب في الذي كتب، فقال المنذر لجواني: قد تدبّرت الكتاب الذي أتيتني به وانما وجّه النعمان إلى ناحيتكم الملك بَهْرام حيث ملكه اللّه بعد أبيه، وخوّله إيّاكم. فلما سمع جُواني مقالة المنذر، وتذكَر ما عاين من رُواء بهرام وهيبته عند نفسه، وأن جميع مَنْ شاور في صرف الملك عن بَهْرام مخصوم محجوج، قال للمنذر: إني لست محيراً جواباً، ولكن سِرْ إن رأيت إلى محلَة الملوك فيجتمع إليك مَنْ بها من العظماء وأهل البيوتات، وتشاوروا في ذلك. وأتِ فيه ما يجمل فإنهم لن يخالفوك في شيء ممّا تشير به.
فردّ المنذر جُواني إلى مَنْ أرسله إليه، واستعدّ وسار بعد فصول جواني من عنده بيومٍ ببهرام في ثلاثين ألف رجل من فُرْسان العرب وذوي البأس والنجدة منهم إلى مدينتي الملك حتى إذا وردهما، أمرَ فجمع الناس، وجلس بَهْرام على مِنْبر من ذهب مكلّل بجوهر، وجلس المنذر عن يمينه، وتكلَم عظماء الفرس وأهل البيوتات، وفرشوا للمنذر لكلامهم فظاظة يَزْدَجِرْد أبي بهرام كانت، وسوء سيرته، وأنه أخرب بسوء رأيه الأرض، وأكثر القتل ظلماً، حتى قَتَلَ النّاس في البلاد التي كان يملكها، وأموراً في ذلك فظيعة. وذكروا أنّهم تعاقدوا وتواثقوا على صرف الملك عن ولد يَزْدَجرد لذلك، وسألوا المنذر ألّا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه.
فوعَى المنذر ما بثُّوا من ذلك، وقال لبهرام: أنت أوْلى بإجابة القوم منّي. فقال بهرام : وأنا كنت أكره فعله، وأرجو أن أملك مكانه فأصلح ما أفسد، فإن أتت لملكي سنة ولم أفِ لكم تبرّأت من الملك طائعاً، وقد أشهدت اللّه بذلك عليّ وملائكته موبَذان مَوْبذ، وأنا مع هذا قد رضيت بتمليككم مَنْ يتناول التاج والزينة من بين أسدين ضارييْن فهو الملك. فأجابوا إلى ذلك وقالوا: يترك التاج والزينة بين أسدين، وتنازع أنت وكسرى، فأيكما يتناولهما من بينهما سلمنا له الملك. فرضي بهرام بمقالتهم، فأتَى بالتاج والزينة موْبَذان مَوْبذ، الموكلّ كان يعقد التَاج على رأس كلِّ ملِك فوضعهما في ناحية، وجاءوا بأسدين ضاريْين مُشْبلين ، فوقف أحدُهما على جانب الموضع الذي وُضع فيه التاج والزينة، والآخر بحذائه، فأرخي وَثاقهما، ثم قال بهرام لكسرى : دونَك التاج والزينة. فقال، كسرى: أنت أولى بتناولهما مني لأنك تطلب المُلْك بوراثة، وأنا فيه مغتصب. فلم يكره بهرام قوله بثقته وبطشه، وتوجَّه نحو التاج والزينة، فقال مَوْبذان مَوْبَذ: هذا عن غير رأي أحدٍ ، ونحن برآء إلى الله عز وجل من إتلافِك نفسك. فقال: أنتم من ذلك برآء. ومشى نحوهما فبدر إليه أحدُهما، فوثب وثبة فعلا ظهره، وعصر جَنْبَيه بفخذيه عصراً أثخنه، وجعل يضرب رأسه بشيء في يده، ثم شدَ الأسد الآخر عليه فقبض على أذنيْه، وعَرَكهما بكِلتا يديه، ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان راكبه حتى دمغهما وتناول التاج والزينة، فأذعن الكل له، وقالوا: رَضينا به مَلِكاً. وكان ابن عشرين سنة.
ثم جلس للناس بعد ذلك سبعة أيام متوالية يعدهم بالخير، ويأمرهم بتقوى الله عز وجل وبطاعته. ثم صار يؤثر اللهو، فكثرتْ ملامة رعيته له، وطمع مَنْ حوله من الملوك في استْباحة بلاده ، وكان أول مَنْ سبق بالمكاثرة له: خاقان ملك الترك، فإنَه غزاه في مائتين وخمسين ألف من الترك، فلما بلغ الفرس إقبال خاقان هالهم ذلك، فدخل على بَهْرام جماعة من الرؤساء فقالوا: إن فيما قد أزف ما يشغل عن اللهو فلم يقبل عليهم ولم يترك اللهو.


وإنه تجهَّز فسار إلى أذْرَبيجان لينسَك في بيت نارها، ويتوجه منها إلى أرمينيَة ويطلب الصيد في آجامها ويلهو في سبعة رهط من العظماء وأهل البيوتات وثلثمائة رجل من رابطته من ذوي بأس ونجدة، واستخلف أخَاَ له يسمى: نَرْسِي على ما كان يدبر من أمر ملكه، فلم يشك الناسُ حين بلغَهم مسير بَهْرام فيمن سار، واستخلافه أخاه أن ذلك هربٌ من عدوه، واستلام لملكه ، وتآمروا في إنفاذ وفد إلى خاقان والاقرار له بالخَراجِ، مخافة أن يستبيح بلاده، ويصطلم مقاتلتهم ، فبلغ ذلك خاقان، فآمن ناحيتهم، فأتى بهرام عين كان وجهه ليأتيَه بخبر خاقان، فأخبره بأمر خاقان وعزْمِه، فسار إليه بَهْرام في العدَة الذين كانوا معه، فبَيته ، وقتل خاقان بيده، وأفشى القتلَ في جنده، وانهزم مَنْ كان سَلِم منهم متوجهأ إلى بلاده، وخففوا عسكرهم وذراريهم ، فأمعن بَهْرام في طلبهم يقتلهم ويحوي ما غنم منهم ويسبِي ذراريّهم، وانصرف وجنده سالمين. وظفر بَهْرام بتاج خاقان وإكليله، وغلب على بلاده من بلاد الترك، واستعمل على ما غلب عليه مَرْزبانا حبَاه بسرير من فضة، وأتاه أناس من أهل البلاد المتاخِمة لما غلب عليه من بلاد الترك خاضعين له بالطاعة، وسألوه أن يُعلِمهم حد ما بينه وبينهم فلا يتعدَوه، فحد لهم حدّاً، فبنى لهم منارة، ووجه قائداً من قوَّاده إلى ما وراء النهر منهم، فقاتلهم حتى أقروا لبهرام بالعبوديًة وأداء الجِزْية. وان بَهْرام انصرف إلى أذرَبيجان، راجعاً إلى محلَّته، وأمر بما كان في إكليل خاقان من ياقوت أحمر وسائر الجواهر فعلِّق على بيت نار أذَرَبيجان، ثم سار وورد مدينة طيسبون ، فنزل دار المملكة بها، ثم كتب إلى جُنْدِه وعمًاله بقتله خاقان، وما كان من أمره. ثم ولى أخاه نَرْسِي خُراسان، وأمَرَه أن ينزل بلْخ .
وذُكِر أن بَهْرام لمَا انصرف من غَزْوِه الترك، خطب أهله مملكته أياماً متوالية، فحثَهم على لزُوم الطاعة، وأعلمهم أنَّ، بنيته التَّوسعة عليهم، وإيصالَ الخير إليهم، وانَّهم إن زالوا عن الاستقامة نالهم من غلظته أكثر مما كان نالهم من أبيه، وأنَ أباه كان افتتح أمرَهم باللين والمعدلة ، فجحدوا ذلك أو مَنْ جحده منهم، فأصاره ذلك إلى الغِلْظة، ثم رفع عن الناس الخراجِ ثلاث سنين شكراً لما لِقيَ من النَصْر على الأعداء، وقدم في الفقراء والمساكين مالاَ عظيماً، وفي أهل البيوتات وأصحاب الأحساب عشرين ألف ألف، درهم. وقد كان بهْرام حين أفضى له الملك أمر أن يرفع عن أهل الخراج البقايا التي بقيتْ عليهم من الخَراج، فعلِم أنَ ذلك سبعون ألف ألف درهم، فأمر بتركها وترك. ثلث خراج السًنة التى وَلي فيها .
ودخلَ بَهْرام أرض الهند متنكراً، فمكثَ فيها حيناً، فبلغَه أن في ناحية من أرضهم فيلًا قد قطع السُّبل، وقتل ناساً كثيرأ، فسأل عن مكانه فدُلَّ عليه. ليقتله، فانتهى ذلك إلى ملكهم، فدعا به، وأرسل معه رسولاً يخبره بخبره، فلما انتهى بَهْرام والرسول إلى الأجَمَة التي فيها الفيل، رقِيَ الرسُول إلى شجرة لينظر إلى صنيع بهرام بالفيل ، فصاح بَهْرإم بالفيل، فخرج مُزبِداً، فرماه رمية وقعت بين عينيه، ووقَذَه بالنُّشَّاب، ثم وثب عليه فأخذ بمِشْفرِه، فاجتذبه جَذْبَةً حتى جَثا الفيل، ثم احتزّ رأسه وذهب به. فأخبر الرسول الملك بما جرى، فحباه مالاً عظيماً، وسأل عن أمره فقال بَهْرام: أنا رجل من عظماء الفُرس، سَخِط علي ملك فارس فهربت منه إلى جوارك .
ثم إن عدوَّاً لذلك الملك خرج عليه، فعزم الملك على الخضوع له، فنهاه بَهْرام، وخرج فقاتله، فانصرف محبوراً ، فأنْكَحه الملك ابنته، ونحَله الديبل ومكران وما يليها من أرض السند، وأشهد له شهوداً بذلك ، فأمر بتلك البلاد فضُمَت إلى أرض العجم، فانصرف بَهْرام مسرورأ .
ومضى بَهْرام إلى بلاد السودان من ناحية اليمن، فأوقع بهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسَبَى منهم خَلْقاً، ثم انصرف إلى مملكته
فصل وكان لبهْرام ولد قد رَسَمَه للأمر بعده


فرآه ناقص الهمًة، فوكل مَنْ يؤدبه. أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو القاسم التنوخي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني قال: أخبرنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدًثنا عيسى بن محمد أبو ناظرة السدوسي قال: حدًثني قبيصة بن محمد المهلبي قال: أخبرني اليمان بن عمرو مولى ذي الرئاستين قال : كان ذو الرئاستين يبعثني ويبعث أحداثاً من أحداثه إلى شيخ بخُراسَان له أدب وحسن معرفة بالأمور، ويقول لنا: تعلموا منه الحكمة، فإنه حكيم، فكنا نأتيه، فإذا انصرفنا من عنده سألنا ذو الرئاستين، فاعترض ما حفظناه فنخبره به ، فصرنا ذات يوم إلى الشيخ فقال لنا: أنتم أدباء، وقد سمعتم الحكمة، ولكم جدات ونعم، فهل فيكم عاشق. فقلنا: لا. فقال: اعشقوا فإن العشق مطلق اللسان العي، ويفتح حيلة البليد والمختل ، ويبعث على التنظف وتحسين الثياب، وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء وشرف الهمة، وإياكم والحرام. فانصرفنا من عنده إلى ذي الرئاستين، فسألنا عما أفدنا يومنا ذلك ، فهِبنا أن نخبره، فعزم علينا، فقلنا له إنه أمرنا بكذا وكذا، وقال لنا كذا وكذا. قال: صدق واللّه، تعلمون من أين أخذ هذا؟ قلنا: لا. قال ذو الرئاستين: إن بَهْرام جور كان له ابن، وكان قد رسمه للأمر بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمَّة، ساقط المروءة، خامل النفس، سّىء الأدب، فغمًه ذلك، فوكل به المؤدبين والحكماء ومَنْ يلازمه ويعلمه، وكان يسألهم عنه فيحكون ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه، إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوماً فقال له المؤدب: قد كُنَا نخاف سوء أدبه فحدث من أمره ما صرنا إلى اليأس من صلاحه. قال: وما ذاك الذي قد حدث؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان فعشقها حتى غلبت عليه، وهو لا يهذي إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها فقال بهْرام: الآن رجوت فلانة، ثم دعا بأبي الجارية فقال: إني مُسِر إليك سراً فلا يعدونك فضمن له سره فأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها وتقع عيناه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها تجنَت عليه وصرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك، ومَن همته همة الملوك ، وأنه يمنعها من مواصلته أنه لا يصلح للملك، ثم ليعلمه خبرها وخبره. ولا يطلعها على ما أسرَّ إليه. فقبل أبوها ذلك منه. ثم قال للمؤدب الموكل بتأديبه: خَوًفه بي، وشجعه على مراسلة المرأة. ففعل ذلك، وفعلت المرأة ما أمرها به أبوها، فلما انتهت إلى التجنَي عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته لأجله ، أخذ في الأدب، وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية، وضرب الصوالجة حتى مهر في ذلك، ثم رَفَعَ إلى أبيه أنه يحتاج من الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما يقدر. فسُرّ الملك بذلك أو أمر له به، فدعا مؤدبه فقال: إن الموضع الذي وَضَع به ابني نفسه من حب هذه المرأة لا يزرى به، فتقدم إليه أن يرفع إليّ أمرها، ويسألني أن أزوجه إياها. ففعل، فرفع الفتى ذلك إلى أبيه، فدعا بأبيها فزوًجها إياه، وأمر بتعجيلها، وقال: إذا اتجمعت أنت وهي فلا تحدث شيئاً حتى أصير إليك. فلما اجتمعا صار إليه فقال: يا بني، لا يضعن منها عندك مراسلتها إياك، وليست في حبالك، فإني أنا أمرتها بذلك، وهى أعظم الناس، منَة عليك بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخَلَق بأخلاق الملوك حتى بلغت الحدّ الذي تصلح معه للملك من بعدي، فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما يستحق منك. ففعل الفتى ذلك، وعاش مسروراً بالجارية، وعاش أبوه مسروراً به، وأحسن ثواب أبيها، فرفع مرتبته وشرفه بصيانته سره وطاعته إياه، وأحسن جائزة المؤدب بامتثاله ما أمره به، وعقد لابنه على الملك بعده. قال اليمان مولى في الرئاستين: ثم قال لنا ذو الرئاستين: سلوا الشيخ الآن لِمَ حملكم على العشق. فسألنا فحدثنا بحديث بهْرام جور وابنه.
فصل في موت بهرام


قال مؤلف الكتاب : ثم إن بَهْرام في آخر مُلْكه ركب للصيد، فشدَ على عَيْر وأمعن في طلبه، فارتطم في جُبً، فغرق، فبلغ والدته فسارت إلى ذلك الجُبً بأموال عظيمة ، وأقامت قريبة منه، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على مَنْ يُخرجه منه فنقلوا من الجُب طينَاَ كثيراً وحَمْأةً حتى جمعوا من ذلك آكاماً عظاماً، ولم يقدروا على جُثة بَهْرام . واختلفوا في ملكه، فقال قوم: كان ملكه ثماني عشرة سنة، وعشرة أشهر وعشرين يوماً. وقال آخرون: كان ملكه ثلاثاً وعشرين سنة، وعشرة أشهر، وعشرين يوماً .
فصل قال بالملك بعده ابنه يَزْدَجِرْد بن بَهْرام جُور
فلما عُقِد التاج على رأسه دخل عليه العظماء والأشراف، فدعوْا له وهنأوه بالمُلك، فردَ عليهم ردّاً حسناً، وذكر أباه ومناقبه، وأنه سار فيهم بأحسن السيرة، فلم يزل رؤوفاً برعيته، مُحسناً إليهم، قامعاً لعدوِّه . وكان له ابنان يقال لأحدهما: هُرْمز، وكان ملكاً على سِجِسْتَان، والأخر يُقال له: فَيْروز، فغلب هُرْمز على المُلك من بعد هلاك أبيه يَزْدَجِرد، فهرب فَيْروز منه ولَحِقَ ببلاد الهياطلة ، وأخبر مَلِكها بقصًته وقصَّة أخيه هُرْمز، وأنه أوْلى النَّاس منه، وسأله أن يمده بجيش يقاتل لهم هرمز، فأبى، إلى أن أخبر أنّ هُرْمز ظلوم جائر، فقال: إِنّ الجوْر لا يرضاه اللّه. فأمدَ فيروز بجيش ، فأقبل بهم، وقاتل هُرْمز أخاه، فقتله وشتتّ جمعه وغلب على الملك .وكان مُلك يَزْدَجِرد ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر . وقيل: سبع عشرة
فصل ثم مَلَكَ فَيْروز بن يَزْدَجِرد بن بَهْرام جُور
بعد أن قَتَلَ أخاه. وقيل: بل حبسه لما ظفر به، وأظهر العدل، وقسم الأموال في زمان قَحط نزل بهم، ثم قاتل الهياطلة الذين كانوا أعانوه على قتال أخيه فقتلوه في المعركة .وقيل: سقط في خندق فهلك، وكان ملكه ستاً وعشرين سنة، وقيل: إحدى وعشرين سنة .
فصل ثم ملك بعده ابنه بَلاش بن فَيْروز
وكان قُبَاذ قد نازعه المُلك، فغلب بَلاش وهرب قُباذ إلى ملك الترك، فلم يزل بَلاش حسن السيرة فبلغ من مراعاته للرعيَّة أنّه كان لا يبلغه أنَّ بيتاً خرب وجَلاَ أهلُه عنه، إلا عاقب صاحب القرية التي فيها ذلك البيت على تَرْكِه إنعاشهم حتى اضطروا إلى ذلك الجلاء. وبنى بالسوَّاد مدينة اسمها اليوم، : ساباط، وهي قريبة من المدائن. وكان ملكه أربع سنين .
فصل ثم ملك بعده أخوه قُباذ بن فَيْروز
وكان قُباذُ لما هرب إلى مَلِك الترك من أخيه بَلاش ومعه جماعة يسيرة فيهم زَرْمِهْر فتاقت نفسه إلى الجماع، فشكا ذلك إلى زَرْمِهْرم وسأله أن يلتمس له امرأة ذات حسب فمضى إلى امرأة صاحب منزله، كان، رجَلاَ من الأساورة، وكانتَ له بنت فائقة في، الجمال، فتنصح لها في ابنتها، وأشار عليها أن تبعث بها إلى قباذ، فأعلمت زوجها، فلم يزل زَرمهرُ يُرَغب المرأةَ وزوجَها، ويشير عليهما، حتى قَفَلا، وصارت البنت إلى قُباذ، واسمُها: نيونْدُخْت، فغشيَها قُباذ فيِ تلك الليلة، فحملَت بأنوشِرْوانَ، فأمر لها بجائزة، وأحبها حباً شديداً ثم إن ملك الترك وجه معه جيشاً، فانصرف وسأل عن الجارية فقالِ: وضعت غلاماً، فأمر بحملها إليه، فأتت بأنوشروان تقوده إليه، فأخبرته أنه ابنه، فإذا هو قد نَزَع إليه في صورته .وورد الخبر عليه بهلاك بَلاش، فتيمًن بالمولود، وأمر بحمله، وحَمْل أمه، فلما صارا إلى المدائن، واستوثق له أمره بنى مدينة الرّجان ، ومدينة حُلوان، ومدائن كثيرة .
ولما مضى من ملكه عشر سنين أرادوا إزالته عن ملكه لاتباعه لرجل يقال له: مَزدك بن مَاردا
فصل
وكان مَزدَك رجلأ يدعو الناس إلى ملة زرادشت


الذي ذكره تقدم ، ودعواه نبوة المجوس، وكان مز دك يلبس الصوف ويتزهًد، ويُكثر الصلاة تقرباً إلى العوام، وكان هو وأصحابه يزعمون أنه مَنْ كان عنده فضل من الأموال والأمتعة والنساء فليس هو بأولى به من غيره ، وحثً النَاس على التأسي به في أموالهم وأهلهم ، وزعم أنه من البر الذي يرضاه الله ويثيب عليه، فاغتنم السفَلة ذلك وتابعوا مَزْدَكاً وأصحابه، فتَم للعَاهِر قضاء نهمته بالوصول إلى الكرائم، فابتُلَي الناس بهم، وقويَ أمرُهم، حتى كانوا يدخلون على الرجل داره فيغلبون على أمواله وأهله، وحملوا قُباذ على تزيين ذلك، وقالوا له : إِنَك قد أثمت فيما مضى، وليس يطهًرك من هذا إلا إباحةُ نسائِك، وأرادوه على أن يدفَع نفسَه إليهم فيذبحوه ويجعلوه قربانَاَ للنَار، وكان قُباذ من خيار ملوكهم حتى حمله مَزدَك على ما حمله، فانتشَرت الأطراف، وفسدت الثغور ،.
وكانت أم أنوشروان يومأ بين يدي قُباذ، فدخل عليه مزدك، فلما رآها قال لقباذ: ادفعها إِليَ لأقضي حاجتي منها. فقال: دونكها. فوثب أنوشروان، فجعل يسأله ويضرع إليه أن يهب له أمه إلى أن قبًل رجله، فتركها، فبقي ذلك في نفس أنوشروان ، فلما رأى زَرْمَهر ذلك خرجِ بمن يتابعه من الأشراف، فقتل من المزدكية ناساً كثيراً، ثم حرشت المَزْدَكية قُباذاَ على زَرْمهر فقتله، وغزا قُباذ الروم، وبنى آمد، وملك قُباذ ابنه كسرى، وكتب إليه بذلك كتاباً وختمه، وهَلَكَ بعد أن ملك ثلاثاً وأربعين سنة .
فصل ثم ملك ابنه كِسْرَى أنُوشِرْوان
بن قُباذَ بن فَيْروزَ بن يَزْدَجِرْد بن بَهْرام جُور . وولد أنُوشِرْوان باسعراس، وهي من كور نيسابور .فاستقبل الملك بجد وسياسة وحزم، ونظر في سيرة أرْدشير، فأخذ نفسه بذلك، وبحث في سياسات الأمم فاختار ما رضيه، وفرق رئاسة البلاد بين جماعة، وقوى المقاتلة بالأسلحة والكراع، وارتجع بلادأ كانت في مملكة الفرس بلغه أن طائفة من العرب أغارت على بعض حدود، السواد من ملكه، فأمر بحفر النهر المسمى بالحاجز، وإعادة المناظر والمسالح، على ما ذكرنا في أخبار ذي الأكتاف، وعرف الناس منه رأياً وحزماً وعلماً وعقلاً وبأساً مع رأفة ورحمة . فلما عُقد التاج على رأسه دخل عليه العظماء والأشراف، فدعوا له، فقام خطيباً، فبدأ بذكر نعمة الله على خلقه عند خلقه إياهم، وتوكله بتدبير أمورهم، وتقدير أقواتهم ومعايشهم، ثم أعلم الناس بما ابتلوا به من ضَياع أمورِهم، وامحاءِ دينهم، وفسادِ حالهم في أولادهم ومعايشهم، وأعلَمُهم أنه ناظر فيما يُصلح ذلك ويَحْسِمُه. ثم أمر، برؤوس المَزْدكيّة فضُرِبَتْ أعناقهم، وإبطال ملة زرادشت التي كان ابتدعها في المجوسية في زمان بشتاسب، وقد سبق ذكر ذلك كله ، وكان ممن دعا الناس إليها مزَدك ولما ولي أنوشروان دخل عليه مزدك والمنذر بن ماء السماء فقال أنُوشِروان:


قد كنت أتمنى أن أملك فأستعمل هذا الرجل الشريف، وأتمنى أن أقتل هؤلاء الزنادقة، فقال مزدك: أوتستطيع أن تقتل الناس جميعاً؟ فقال: وإنك ها هنا يا ابن الزانية، والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قَبًلْتُ رجلك إلى يومي هذا. وأمر بقتله وصلبه . وقتل من الزنادقة ما بين جازر إلى النهروان وإلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم ، وقسمت أموالهم في أهل الحاجة. وقتل جماعة ممن دخل على الناس في أموالهم، وردّ الأموال إلى أهلها، وأمر بكل مولود اختلف فيه عنده أن يلحق بمن هو منهم، إذا لم يُعرفْ أبوهُ، وأنْ يُعطَى نصيباً من مال الرجل الذي يُسندُ إليه إذا قبله الرجل، وبكل امرأة غلبتْ على نفسِها أن يُؤخَذ الغالبُ لها حتى يغرمَ لها مهرَهَا، ثم تُخير المرأة بين الإقامة عنده، وبين التزويج بغيره ، إِلَأ أن يكون لها زوج أوَّل فَتُردُ إليه، وأمر بكلّ مَنْ كان أضر برجل في ماله أو ركب مظلمة أن يُؤخذ منه الحق، ثم يُعاقب، وأمر بعيال ذوِي الأحساب الذين مات قَيمهم فكُتبوا له، فأنكح بناتهم الأكفاء، وجعل جهازهم من بيت المال، وأنكح نساءهم من بيوتات الأشراف وأغناهم ، وخَير نساء والده أن يُقِمْن مع نسائه فيواسَيْن، أو يبتغي لهنَّ أكفاء هنَ من البعولة، وأمر بكَرْي الأنهار وحفر القنيّ، وإسلاف أصحاب العمارات وتقويتهم وبإعادة كلّ جسْر قطع، أو قنطرة كسرت، أو قرية خربت أن يرد ذلك إلى أحسن ما كان عليه من الصلاح، وتفقّد الأساورة فقوَاهم بالدوابِّ والعدَة، ووكَل ببيوت النيران، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخير الحُكام والعُمال، وتقدم إلى مَنْ وُليَ منهم أبلغ تَقدُم، وبعث رجلاً من الحكماء إلى الهند فاستنَسخ له كتاب كليلة ودمنة طلبأ لما فيه من الحكمة، فلما استوثق له المُلْك ودانت له البلاد سار نحو أنطاكية بعد سنتين من مُلْكه، وكان فيها عظماء جنود قَيْصر، فافتتحها، ثم أمر أن تُصَوَّر له مدينة أنطاكيةَ على ذرعها وعدد منازلها وطرقها وجميع ما فيها وأن يبتنى له على صورتها مدينة إلى جَنْب المدائن، فبُنِيت المدينة المعروفة برومية على صورة أنطاكيَة، ثم حمل أهل أنطاكية حتى أسكنهم إياها. فلما دخلوا باب المدينة مضى أهل كل بيت منهم إلى ما يشبه منازلهم التي كانوا فيها، بأنطاكيَة، كأنَهم لم يخرجوا عنها. ثم قصد مدينة هرقل فافتتحها، ثم الإسكندرية وما دونها، وخفَف طائفة من جنوب بأرض الروم، بعد أن أذعن له قَيْصر، وحمل إليه الفدية ، ثمّ انصرف من الروم فأخذ نحو الخَزر، فأدرك منهم ما كانوا وتروه في رعيًته، ثم انصرف نحو عَدد فقتل عظماء تلك البلاد، ثم انصرف إلى المدائن، وملَك المنذر بن النعمان على العرب وأكرمه، ثم سار إلى الهياطلة مطالباً لهم بوَتر جده فيروز في القديم، وبنى الإيوان الموجود اليوم .
فصل في سبب بناء الإيوان
قال : وبينا كسرى أنوشروان جالساً في إيوانه القديِم البناء إذ وقعت عيناه على ورثة، فقال لغلام كان على رأسه: هات تلك الورثة. فمضى الغلام فلم يرها فعاد، فقال: لم أرها. فقال: ويحك، هي تلك. وأشار إليها فأبصرها الغلام في حضرته، فلما انتهى إليها لم يرها. فقام أنوشروان بنفسه، ومشى إلى البستان، فحين مد يده ليقطعها وقع الإيوان، فنظر إلى شيء من لطف الله عز وجل فعجب وسُر سروراً شديداً، وتصدَّق بمال جزيل ، ثم أعاد بناء الإيوان أفضل من بنائه الأول، وهذا هو الإيوان الموجود اليوم فلما فرغ منه رفع رأسه يومأ فرأى حمامة وحشية فوق المشرف، وإذا حيَّة عظيمة قد دنت إلى الحمامة لتثب عليها وتبتلعها، فرمى الحية بقوس البندق، فسقطت إلى الأرض وطارت الحمامة سليمة، فسُرّ بإحسانه إلى الحمام ، ثم جاءت الحمامة بعد خمسة أيام فقعدت على تلك الشرفة، فلما رآها أنوشروان أخذت ترمي حباً لا يدرون ما هو، فأخذه فزرعه في بستان داره فنبت نباتاً طيب الريح، فقال: نعم ما كافأتنا الحمامة به حين نجيناها من الهلاك فبحق قيل: لن يضيع المعروف، وأنا أسأل الله الذي ألهم هذا الطائر من شكرنا أما ألهمه، أن يلهم رعيتنا في ذبنَا عنهم، وإِخراجنا إياهم من الهلكة في دينهم ودنياهم إلى الهدى لشكرنا، وأن يلهمنا نحن الصبر على الإحسان إليهم.


ولم يزل مظفراً منصوراً يهابه الأمم ، يحضر بابه من وفدهم عدد كبير من الترك والصين والخَزر، وكان مكرماً للعلماء، وملك ثمانيا وأربعين سنة. وقيل: سبعا وأربعين سنة ، وثمانية أشهر وعشرة أيام.
ذكر طرف من أخباره
إنه كان مكتوباً على سرير كسرى: الدين لا يتم إلا بالملك، والملك لا يتم إلا بالرجال، والرجال لا يتمون إلا بالمال، والمال لا يجيء إلا بعمارة الأرض، والعمارة لا تتم إلا بالعدل.
وكان على جانبه مكتوب: عدل السلطان أنفع للرعية من خصيب الزمان. ورفع إلى كسرى أن عامل الخراج بالأهواز قد جنى فضل ثمانية آلاف درهم على ما يجب من الخراج، فوقع بردّ المال وقال: إن الملك إذا عمَر بيوت أمواله بما يأخذ من الرعية كان كمن عمَر سطح داره بما يقلعه من قواعد بنائه .ومات لكسرى ولد فلم يجزع عليه فقيل له في ذلك فقال: من أعظم الجهل شغل القلب بما لا مرد ّله. وكان يقول: الغم مدهشة للعقل، مدهشة للطبع، مقطعة للحيلة، فإذا ورد على العاقل ما يحتاج فيه إلى الحيلة قمع الحزن، وفرغ العقل للحيلة.
وقال: القليل مع قلة الهم. أهنأ من الكثير مع عدم الدعة. وقال: لما فرغت من إصلاح، الأمور الخاصة والعامة إلى قبول ما لا خير فيه إلا بالأكثر ، لكنني آثرت طاعة الله. ونظرنا في سير الروم والهند، فاصطفينا محمودها، ومن أعظم الضرر على الملوك الأنفة مع العلم.
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج قال: أخبرنا عبد العزيز بن الحسين الضراب قال: حدًثنا أبي قال: أخبرنا أحمد بن مروان قال: أخبرنا إسماعيل بن يونس قال: أخبرنا الرقاشي عن الأصمعي قال : كان لكسرى جامان من ذهب يأكل فيهما ، فسرق رجل من أصحابه جاماً وكسرى ينظر إليه، فلما رفعت الموائد افتقد الطباخ الجام ورجع يطلبه، فقال له كسرى: لا تَعْنَ، قد أخنه من لا يرده، ورآه من لا يفشي عليه. فدخل الرجل إليه بعد ذلك وقد حلَى سيفه ومنطقته ذهباً فقال له كسرى بالفارسية: يا فلان بعني السيف والمنطقة من ذاك، قال: نعم. ولم يفطن بذلك أحد غيرهما وسكت. وروى إبراهيم بن عبد الصمد قال: لما عمل كسرى القاطول أضر ذلك بأهل الأسافل، فانقطع عنهم الماء حتى افتقروا وذهبت أموالهم، فخرج أهل ذلك البلد إلى كسرى يتظلمون، فوافوه وقد خرج، فتعرضوا له وقالوا: جئنا متظلمين. فقال: ممَنْ؟ قالوا: منك. فثنى رجله ونزل عن دابته وجلس على الأرض، فأتاه بعض من معه بشيء يقعد عليه فأبى، وقال: لا أجلس إلا على الأرض إذا أتاني قوم يتظلمون مني، ثم قال: ما مظلمتكم؟ قالوا: أحدثت، القاطول فقطع عنا شربنا، وذهبت معايشنا. قال: فإني آمر بسده. قالوا: لا يحسمك هذا، ولكن مُر مَنْ يعمل لنا مجرى ماء من فوق القاطول، ففعل فعمرت بلادهم. وكان كسرى يقول: قد خفت أن يُحجب عني المظلوم. فعلق على أقرب البيوت من مجلسه ستراً وعلق عليه الأجراس، ونادى مناديه: مَنْ ظُلم فليحرك هذا الستر.
ومن الحوادث في زمانه


أنه رفع إليه صاحب الخبر بنياسبور أنه أقد ظهر رجل لا يغادر صورته شيء من صورة الملك، وأن اسمه أنوشروان، وأنه حائك، وأنه ولد في ساعة كذا وكذا من يوم كذا وكذا من سنة كذا وكذا ، فنظر أنوشروان فوجد مولده لا يغادر شيئأ من مولده، فوجّه رجلين من أهل الدين والأمانة إلى نيسابور ليكتبا إليه بخبر الرجل، فلم يلبث أن جاءه كتاب الأمينين بصدق ما كتب صاحب الخبر، وزادا: أنا سألنا عن مذهب هذا الإنسان، فأخبرونا ثقات جيرانه ومعامليه أنه من الصحة في المعاملة وصدق اللهجة والستر السداد بحيث لا يعرفون من يقاربه في أهل صناعته. فتعجب أنوشروان فكتب إلى العامل أن يدفع إلى هذا الرجل عشرة آلاف درهم، وأن يجري له ذلك، في كل سنة، وأن يخيًر إن أحب أن لا يحُوك، ويجري عليه زيادة من المال ما يكون وراء كفايته. فأحضره عامل نيسابور وأقبضه المال، ورفع مجلسه وقال: إن الملك أنوشروان يخيرك أن تدع هذه الصناعة ويزيدك ما يرضيك، فما الذي تراه، فجرى الملك خيرأ، فقال: ما أحب أن يكون مكافأتَي للملك على إغنائه إياي نقض شيء من سنته، متكلأ على مال الملك ، ولولا أن برك اسمي في مضاهاة اسم الملك قد ظهر علي لاستبدلت به، تنزيهاً لجلالة اسم الملك أن يكون مثلي سميه. فكتب بخبره إلى أنوشروان، فأمر الملك أن يجعل أنوشروان الحائك عريف الحاكة ورئيسهم، فأفاد مالاً جليلاً، ولم يدع صناعته. ومات في السنة التي مات فيها أنوشروان الملك .
ومن الحوادث: أن كسرى أنوشروان، خرج يتصيد.
أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن الحسين الخالدي قال: حدثنا المعافى بن زكريا قال: أخبرنا أحمد بن كامل قال: حدثني محمد بن موسى بن حماد القيسي قال: أخبرنا محمد بن أبي السري قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه قال: . خرج كسرى في بعض أيامه للصيد ومعه أصحابه ، فعن له صيد فتبعه حتى انقطع عن أصحابه وأظلته سحابة فأمطرت مطراً شديدأ، حال بينه وبين أصحابه، فمضى لا يدري أين يقصد، فرفع له كوخ فقصده، فإذا عجوز بباب الكوخ جالسة فقال لها: أنزل. قالت: انزل . فنزل فدخل الكوخ، وأدخل فرسه، فأقبل الليل، فإذا ابنة العجوز قد جاءت معها بقرة قد رعتها بالنهار، فأدخلتها الكوخ، وكسرى ينظر إليها ، فقامت العجوز إلى البقرة ومعها، إناء فاحتلبت البقرة لبناً، صالحأ وكسرى ينظر فقال في نفسه: ينبغي أن تجعل على كل بقرة إتاوة يعني خراجًا فهذا حلاب كبير . وأقام مكانه حتى مضى اكثر الليل فقالت العجوز: يا فلانة، قومي إلى فلانة تريد البقرة فاحتلبيها . فقامت إلى البقرة فوجدتها حائل لا لبن فيها، فنادت: يا أماه، قد والله أضمر لنا الملك شراً. فقالت: وما ذاك. قالت: هذه فلانة حائل تبيس بقطرة. فقالت لها: امكثي فإن عليك ليلًا. فقال كسرى بني نفسه: من أين علمت ما أضمرت في نفسي، أما إني لا أفعل ذلك. قال: فمكثت، ثم نادتها: يا بنية، قومي إلى فلانة فاحتلبيها . فقامت إليها فوجدتها حافل. فقالت: يا أمّاه، قد والله ذهب ما كان في نفس الملك من الشر، هذه فلانة حافل. فاحتلبتها، وأقبل الصبح وتتبع الرجال أثر كسرى حتى أتوه بركب ، فأمر بحمل العجوز وابنتها إليه، فأحسن إليهما، وقاد: كيف علمت أن الملك قد أضمر شراً، وأن الشر الذي أضمره قد رجع فيه. قالت العجوز، : إنا بهذا المكان منذ كذا وكذا، ما عمل فينا بعدل إلا أخصب بلدنا، واتسع عيشنا وما أمر فينا بجور إلا ضاق عيشنا، وانقطعت موادنا والنفع عنا.
ومن الحوادث
أن كسرى أمر جنوده أن لا يتعرضوا لزرع أحد، فمر فارس منهم بمبطخة، فأخذ بطيخة، فتعلق به صاحب البطيخة وقال : بيني وبينك الملك. فبذل له ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له إلى عشرة آلاف درهم فلم يقبل. فحمله إلى الملك فقص عليه القصة، فقال للفارس: ما حملك على ما فعلت . قال: دنو الأجل. قال: فكم بذلت فيها؟ قال: عشرة آلاف درهم وما أملك غيرها. فقال كسرى للأكار: ويحك، ما الذي زهدك في عشرة آلاف درهم، ورغبك في دم هذا البائس؟ قال: ما رغبت في دمه، ولكني كنت فقيرأ ولم أر إلا الخير في أيام الملك، فأردت أن أزيد في شرف أفعاله حتى يقال أن في أيامه بلغت بطيخة عشرة آلاف درهم . فاستحسن ذلك منه، وقال للفارس: أعطه ما بذلت. وأعطاه مثل ذلك.
ومن الحوادث في زمان أنوشروان:


ولادة عبد الله بن عبد المطلب، أبي نبينا صلي الله عليه وسلم، فإنه ولد في السنة الخامسة عشرة من ملكه ، وولد نبينا صلى الله عليه وسلم في سنة أربعين من ملك أنوشروان، وهو عام الفيل .
ومن الحوادث في زمن أنوشروان
أن ملك اليمن لم يزل متصلًا لا يطمح فيه طامح حتى ظهرت الحبشة على بلادهم في زمن أنوشروان. قال هشام بن محمد: وكان سبب ظهورهم أن ذا نواس الحميري ملك اليمن في ذلك الزمان كان يهودياً، فتقدم عليه يهودي أمن أهل نجران، يقال له: دوس من أهل نجران فأخبره أن أهل نجران قتلوا له بنتين ظلماً، فاستنصره عليهم وأهل نجران نصارى فحمى ذو نواس اليهودية، فغزا أهل نجران فأكثر فيهم القتل، فخرج رجل من أهل نجران حتى قدم على ملك الحبشة فأعلمه بما نكبوا به، وأتاه، بالإنجيل قد أحرق النار بعضه ، فقال له: الرجال عندي كثير وليس عندي سفن، وأنا كاتب إلى قيصر في البعثة إلي بسفن أحمل فيه الرجال: فكتب إلى قيصر في ذلك، وبعث إليه بالإنجيل المحرق ، فبعث له قيصر بسفن كثيرة، فبعث معه صاحب الحبشة سبعين ألفَاَ من الحبشة وافر عليهم رجَلَا من الحبشة يقال له: أرياط ، وعهد إليه: إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم، وأخرب ثُلثَ بلادهم، واسب ثلث نسائهم وأبنائهم، فخرج أرياط ومعه جنوده وفي جنوده أبرهة الأشرم، فركب البحر ، وسمع بهم ذُونُواس، فجمع إليه حِمْير ومَنْ أطاعه من قبائل اليمن فتناوشوا، ثم انهزم ذو نواس، ودخل أرياط بجموعه ،فلما رأى ذُو نُواس ما نزل به وبقومه وجَّه فرسه في البحر، ثم ضربه فخاض فيه في ضَحْضَاح حتى أفضى به إلى غَمْره فأقحمه، فكان آخر العهد به .
ووطىء أرياط اليمن بالحبشة فقتل ثلثَ رجالها، وأخرب ثلثَ بلادها، وبعث إلى النجاشيّ بثلث سباياها، فأقام أبرهة ملكاً على صنعاء ومخاليفها، ولم يبعث إلى النجاشي بشيء، فقيل للنجاشي: إنه قد خَلَعَ طاعتك، وإنه رأى أن قد استغنى بنفسه. فوجَّه إليه جيشاً عليه أرياط، فلما حل بساحته بعث إليه أبرهة: إنه يجمعني وإياك الدّين والبلد، والواجب عليَ وعليك أن تنظر لأهل بلادنا وديننا، فإن شئت فبارزني ، فأيُّنا ظفر بصاحبه كان المُلْك له، ولم يقتل الحبشة فيما بيننا، فرضيَ أرياط، فأجمع أبرهة على المكرْ به، فاتَّعدا موضعاً يلتقيان فيه فأكمن أبرهة عبداً له يقال له: أرنجدة في وَهدةٍ قريب من الموضع الذي يلتقيان فيه ، فلما التقيا سبق أرياط فزرق أبرهة بحربته، فزالت الحربة عن رأسه وشرمت أنفه، فَسُميَ: أبرهة الأشرم، ونهض الكمين من الحُفْرة فزرق أرياط فأنفذه وقتله، فقال لإرنجدة: احتكمْ. فقال: لا تدخل امرأة باليمن على زوجها حتى يُبدَأ بي. قال: لك ذلك. فغبر بذلك زماناَ، ثم إن أهل اليمن عَدَوْا عليه فقتلوه. فقاد أبرهة: قد آن لكم أن تكونوا أحراراً . فبلغ النجاشيَ قتل أرياط، فآلى ألأَ ينتهي حتى يُريق دم أبرهة ويطأ بلاده، وبلغ أبرهة آليتُه، فكتب إليه : أنها الملك، إنما كان أرياط عبدك، وأنا عبدك، قد هَم عليَ يُريد توهينَ ملكك، وقتل جندك، فسألته أن يكفَّ عن قتالي، إلى أن أوجّه إليك رسولَاَ، فإن أمرته بالكفِّ عنّي وإلّاَ سلمت إليه جميع ما أنا فيه، فأبى إلا أن يحاربني فحاربته، فظهرت عليه، وإنما سلطاني لك، وقد بلغني أنك حلفت ألّاَ تنتهي حتى تُريق دمي، وتطأ بلادي، وقد بعثت إليك بقارورة من دمي وتراب من تراب بلادي، وفي ذلك خروجك من يمينك ، فاستتم أيُّها الملك عندي يدك، فإنما أنا عبدك، وعزي عزك، فرضيَ عنه النجاشي، وأقره على عمله .
فصل قال علماء السير


لما رضيَ النجاشي عن أبرهة بنى أبرهة كنيسة لم يُرَ مثلها في زمانها ، بناها بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وحلًاها بالذهب والفضة، وحفَّها بالجوهر، وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة، وأوقد فيها المندل، ولطخ جوانبها بالمسك، وسمَاها: القُليسْ . وكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يُبْن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرفَ إليها حاج العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشيّ غضب رجل من بني فقيم ، فخرج حتى أتاها فأحدث فيها ثم أخرج، فلحق بأرضه، فخبر بذلك أبرهة فقال: مَنْ صنع هذا؟ فقيلَ: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحج إليه العرب بمكة لما سمع من قولك إني أريد أن أصرف إليه حاجَ العرب، فغضب، فجاء فقعد فيها أي أنها ليست لذلك بأهل فغضب أبرهة، وحلف ليسيرَنَ إلى البيت فيهدمه، وعند أبرهة رجال من العرب، منهم: محمد بن خُزاعيّ الذكواني وأخوه قيس، فأمَر محمداً على مضر، وأمره أن يسير في الناس يدعوهم إلى حج القلَيْس، وهي الكنيسة التي بناها .
فسارمحمد حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة وقد بلغ أهل تهامة أمره وما جاء له بعثوا رجلاً من هذيل يقال له: عروة بن حياض، فرماه بسهم فقتله، وهرب أخوه قيس فلحق بأبرهة فأخبره، فزاد ذلك أبرهة غيظاً ، وحلف ليغزوَن بني كنانة، وليهدمن البيت .
فخرج سائراً بالحبشة ومعه الفيل، فسمعت العرب بذلك فأعظموه، ورأوْا جهاده حقاً عليهم، فخرج رجل من أشراف أهل، اليمن وملوكهم يقال له: ذو نفر إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله تعالى، فقابله فهزِم ذو نفر وأصحابه، واخذ أسيراً فقال: أيها الملك، لا تقتلني، فإنَه عسى أن يكون كوني معك خيراً لك. فتركه في وثاق، فلما وصل إلى أرض خثعم عرض له نُفيَل بن حبيب الخثعمي ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله، فهزمه أبرهة وأخنه أسيراً، فقال له: لا تقتلني، فإني دليلك بأرض العرب. فتركه في الحديد، حتى إذا مرَّ بالطائف خرج إليه مسعود بن معتّب في رجال من ثقيف، فقال: أيُّها الملك، إنما نحن عبيدك، ونحن نبعث منْ يدلّك. فبعثوا معه أبا رغال، فمضى به حتى أنزله المغمَس، فمات أبو رغال هناك، فرجمت العرب قبره، فهو القبر، الذي يَرجُم الناس بالمغمَس. ولما نزل أبرهة بالمغمَس بعث رجلاً من الحبشة يقال له: الأسود بن مقصود على خيل له، حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل مكة، أصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب وهو يومئذ كبير قريش وسيدها فهمَت قريش، وكنانة، وهذيل، ومَنْ كان بالحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا أنَه لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حُناطة الحميري إلى مكة فقال: سلْ عن سيد هذا البلد وشريفهم، فقل له : إن الملك يقول لكم إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجةَ لي بدمائكم وإن لم يُرِدْ حربي فاتني به، .فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيّد قريش وشريفها، فقيل: عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فجاءه فأخبره بما قال أبرهة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، ، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعهُ فهو بيته وحرَمه، وإن يخلّ بينه وبينه، فو الله ما عندنا من دَفْع عنه.


قال: فانطلق إلى الملك، فإنه قد أمرني أن آتيَه بك فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنِيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذيِ نفْر ، وكان له صديقاً حتى دُلً عليه ، فجاءه وهو في محبسه فقال له: يا ذا نفْر، هل عندك غنَاء فيما نزل بنا: فقال له ذو نفر: ما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوّاً أو عشيّا ما عندي غناء فيما نزل بك إلاَّ أن أنيساً سائس الفيل لي صديق فسأرسل إليه فأوصيه بك، وأعظم ، عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلّمه بما تريد، ويشفع لك عنده بخيِرِ إن قدر عليه. قال: حسبي. ثم بعث إلى أنَيْس، فجاء به فقال: يا أنَيْس، إن عبد المطلب سيّد قريشَ يطعم الناس بالسّهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذنْ له عليه وانفعه بما أستطعت. قال: أفعل. فكلّم أنيس أبرهة فقال: يا أيها الملك، هذا سيّد قريش ببابك يستأذن عليك فأذَنْ له، وأحْسِن إليه. فأذن له أبرهة، وكان عبد المطلب عظيماً، وسيماً، جسيماً، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه، ونزل عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه، ثم قال لترجمانه: قل: ما حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان، فقال عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يردَ علي مائتي بعير أصابها ليِ. فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له كنت أعجبتني حيِن رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتيِ بعير أصبتها لك، وتتركُ بيتأ هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربأ سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك، أردد إليَ إبلي. وكان عبد المطلب قد ذهب معه حين مضى إلى أبرهة عمرو بن نفاثة بن عليّ وهو سيد كنانة وخويلد بن واثلهَ الهذلي وهو سيد هذيل فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تِهامة على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم .
فلما ردَ أبرهة إبل عبد المطلب انصرف إلى قُريش فأخبرهم بالخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، و التحرز في شَعَف الجبال والشعاب تخوفأ عليهم من معرة الجيش، ثم قام عبد المطّلب فأخذ بحلْقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بباب الكعبة :
يآ رب لَا أرْجُو لَهُمْ سواكَا ... يَا رَب فامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكا
إنَ عَدوَ الْبَيْتِ مَن عاداكا ... أمْنَعْهُمُ أنْ يُخْرِبُوا قُراكا
وقال أيضأ:
لا هُم إنَّ الْعَبْدَ يَم ... نَعُ رحلهُ فامْنَعْ رِحَالكْ
لا يغلبنَ صَلِيبُهُمْ ... ومِحالهمْ عَدواً محالك
قال مؤلف الكتاب: ويروى غدوأ بالغين ، يعني غدأ، وهي لغةٌ ، فإن أراد الشاعر أن مع القوم أخوة غدواً:
فلِئنْ فَعَلْتَ فربمَا ... أوْلَى فأمْر ما بدا لَكَ
جَروا جُموعَ بِلادِهِمْ ... والْفِيلَ كَيْ يسبوا عيالكْ
عَمَدُوا حِمَاكَ بكَيْدِهِمْ ... جَهْلاً ومَا رَقِبُوا جَلالكْ
إِنْ كُنتْ تَاركَهم وكَعبَتَنَا ... فامُرْ مَا بَدَا لَكْ.
ثم أرسل عبد المطلب حَلْقة الباب، وانطلق ومَنْ معه من قريش إلى شَعَف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة ، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيلَه، وعبًأ جيشه، فلما وجَّهوا الفيل أقبل نُفيل بن حَبيب الخَثْعَميّ حتى أخذ بأذن الفيل فقال: ابْرُكْ وارجعْ من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام. فبرك، ومضى نُفيل يشتدُ في الجبل، فضربوا الفيل ليقومَ فأبى، فأدخلوا محاجن في مراقيه ليقوم فأبى ، فوجّهوه إلى اليمن، فقام يهرول، ووجّهوه إلى الشام فهرول ، ووجهوه إلى المشرق فهرول ، ووجّهوه إلى مكة فبرك ، فأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف، مع كلّ طائر منهم ثلاثة أحجار: حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمّص والعَدَس، لا تصيب أحداً منهم إلّا هلك، فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه، ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى، اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل اللّه عز وجل بهم من نقمته:
أيْنَ الْمَفَرّ وَالإلهُ الطَالِبْ ... وَالأشْرَمُ الْمَغْلوبُ غَيْرُ الغَالبْ!
وقال نفيل أيضاَ:


ألا حُييتِ عَنَا يا ردينا ... نعمنا كمْ مَعَ الإصْباح عَيْنا
أتانا قَابِسٌ مِنْكُمْ عِشاء ... فَلمْ يُقدَر ْلقَابِسِكمْ لدَيْنَا
رُديْنَةُ لوْ رَأيْتِ ولَم تَرَيْه ... لدَى جَنْبِ المحصب ِما رأينا
إذأ لَعَنَرْتني وحَمِدْتِ رَايي ... ولم تأسَي عَلَى مَا فَاتَ بَيْنا
حَمِدْتُ اللّه إذ ْعَايَنْتُ طيْراً ... وخِفْت حِجَارَةً تُلْقى عَلَيْنَا
فكل القَوْم يَسْألُ عن نُفَيْل ... كأنَّ عَلَيً لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا!
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل، وأصيب أبرهة في جسم، وخرجوا به معهم تتساقط أنامله أنمُلةً أنُملة ، كلما سقطت أنملة تبعها دم وقيح ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدَثنا محمد بن سعد قال أخبرنا محمد بن عمر، عن أشياخ له: أن النجاشي وجه أرياطاً أبا صحم في أربعة آلاف إلى اليمن فغلب عليها، فقام رجل من الحبشة يقال له: أبرهة الأشرم فقتل أرياطاً، وغلب على اليمن، فرأى الناس يتجهًزون أيام الموسم فسأل: أين يذهب الناس؟ فقيل له: يحجُون بيت الله بمكة فقال: مَم هو ؟ قالوا: من حجارة. قال: وما كسوته؟ قالوا: ما، يأتي من ها هنا من الوصائل،. فقال أبرهة: والمسيح لأبنيَنَ لكم خيرآَ منه فبنى لهم بيتا عمله بالرخام الأبيض، والأحمر، والأصفر، والأسود، وحلاه بالذهب والفضة، وحفّه بالجواهر، وجعل له أبواباً عليها صفائح الذهب ومسامير الذهب، وجعل فيه ياقوتة حمراء عظيمة، وجعل له حُجَّاباً وكان يوقد فيه بالمنْدَل، ويلطخ جُمره بالمِسك، وأمر الناس أ أن، يحجوه ، فحجه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيه رجال يتعبدون، وكان نُفيل الخثعميّ يؤرًض له ما يكره، فأمهل، فلما كان ليلة من الليالي لم ير أحداً يتحرّك، فقامَ فجاء بعذِرة فلطخ بها قبلته، وجمع جِيفأ فألقاها فيه. فاخبر أبرهة بذلك ، فغضب غضباً شديداً، وقال: إنّما فعلت هذا العرب غضباً لبيتهم، لأنقضنّه حجراً حجراً. فكتب إلى النجاشيّ يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله محمود وكان فيلًا لم يُرَقط مثله عظماً وجسماً وقوة فبعث به إليه، فسار أبرهة بالناس ومعه مَلِك حِمْير، ونُفَيل بن حبيب الخثعمي، فلما دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نَعَم الناس، فأصابوا إبلًا لعبد المطلب فجاء فقال: حاجتي أن ترد إبلي. فقال: ظننتك كلمتني في البيت . فقال: إن للبيت رباً سيمنعه. فَردَتْ عليه، ، فأشعرها وجعلها هدياً وبثها، في الحرم لكي يُصاب منها شيء فيغضب رب الحرم.
فأقبلت الطير من البحر كل طائر ثلاثة أحجار:، حجَران في رجليه وحجر في مِنقاره، فقذفِتها عليهم، وبعث الله عز وجل سيلًا فذهب بهم فألقاهم في البحر، وولى أبرهة هارباَ بمن معه، فجعل أبرهة، يسقط عضواً عضواً .
فصل قال علماء السير لما هلك أبرهة


ملك النصرانية في الحبشة ابنه يكسوم، فذلّت حمير وقبائل اليمن ، و وطئتهم الحبشة ثم هلك يكسوم، وملك أخوه مسروق بن أبرهة فلما طال البلاء على أهل اليمن وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخل أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروقاً، وأخرجوا الحبشة من اليمن اثنتين وسبعين سنة توارث ذلك منهم أربعة ملوك: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم، ثم مسروق خرج سيف بن ذي يَزن الحميري، وكان يزن يكنى: أبا مُرة ، حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا إليه ما همْ فيه، وطلب إليه أن يخرجَهم عنه، و يليهم هو، ويبعث إليهم من شاء من الروم، ويكون له ملك اليمن، فلم يُشْكِه، ولم يجد عنده شيئاً مما يريد فخرج حتى قدم الحيرة على النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق فشكا إليه ما همْ فيه من البلاء والذلّ، فقال له النعمان: إن لي على كسرى وفادة في، كل عام، فأقِم عندي حتى أخرج بك معي. فأقام عنده حتى خرج به إلى كسرى، فلما قدِم النعمان على كسرى وفرغ من حاجته، ذكر له سيف ذي يزن، وما قدم له، وسأله أن يأذنَ له عليه، ففعل. وكان كسرى إنما يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجُهُ، وكان تاجُهُ مثل القنفل العظيم، مضروباً فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ والذهب والفضة، معلقاً بسلسلة من ذهب في رأس طاق مجلسه ذلك، وكانت عنقه لا تحمل تاجه، إنما يُستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه، ثم يدخل رأسه في تاجه، فإذا استوى في مجلسه كشف الثياب عنه، فلا يراه أحد إلّا برك هيبة له. فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن َ برك، ثم قال: أيُها الملك غلبتْنا على بلادنا الأغربة. فقال كسرى: أيّ الأغربة ؟ الحبشة أم السند. قال: الحبشة، فجئتك لتنصرَني عليهم، وتخرجهم عني، وتكون لك بلادي ، فأنت أحب إلينا منهم. فقال: بعدت أرضك من أرضنا، وهي أرض قليلة الخيْر، إنما بها الشاء والبعير، وذلك مما لا حاجة لنا به، فلم أكن لأورّط جيشاً من فارس بأرض العرب، لا حاجة لي بذلك. فأجيز بعشرة آلاف درهم، وكساه كسوة حسنة، فلما قبضها خرج فجعل ينثُر الورق للناس، فنهبتها الصبيان والعبيد والإماء، فلم يلبث ذلك أنْ دخل على كسرى، فقيل له: العربيّ الذي أعطيته ما أعطيته نثره للناس ونهبته العبيد والصبيان والنساء. فقال: إنّ لهذا الرجل لشأناً، ائتوني به، فلما دخل قال: عمَدت إلى حِباء الملِك الذي حبَاك به تنثره للناس قال: وما أصنع بالذي أعطاني الملك ما جبال أرضي التي جئت منها إلاّ ذهب وفضة يرغّبه فيها لما رأى من زهادته فيها إنّما جئت إلى الملك ليمنعني من الظلم، ويدفع عنّي الذلّ، فقال له كسرى: أقم عندي حتى أنظر في أمرك. فأقام عنده. وجمع كسرى مَرَازبته وأهل الرأي ممّن كان يستشيره فاستشارهم في أمره، فقال قائل: أيها الملك، إن في سجونك رجالاً قد حبستهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه، فإن هلكوا كان الذي أردت بهم ، وإن ظهروا على بلاده كان مُلكاً ازددته إلى ملكك. فقال: إنّ، هذا الرأي أحصوا لِي كمْ في سجوني من الرجال فحسبوا فوجدوا في سجونه ثمانمائة رجل، فقال: انظروا إلى أفضل رجل منهم حَسَبَاً وبيتاً فاجعلوه عليهم. فنظروا فإذا رجل يقال له: وَهْرِز. ففعلوا، وبعثه مع سيف بن ذي يزن، وأمرَهُ على أصحابه، ثم حملهم في ثماني سفر ، فغرقت سفينتان بما فيهما، فخلَصوا ستمائة، فقال وهْرز لسيف: ما عندك؟ قال: ما شئتَ من رجل عربيّ، وفرس عربيّ ثم أجعل رجلي مع رجلك حتى نموت جميعاً أو نظهر جميعاً. قال: أنصفت. فجمعَ إليه سيف مَنْ استطاع من قومه، وسمع بهم مسروق بن أبرهة، فجمع جنده من الحبشة، وسار إليهم حتى إذا تقاربت العسكران، ونزل الناس بعضهم إلى بعض بعث وَهْرِز ابناً له يقال له: نَوْزاذ على جريدة خيل ، فقال له، :


ناوشهم القتال حتى ننظر كيف قتالهم. فخرج إليهم فناوشهم فقتلوه، فزاد ذلك وَهْرِز حنقاً عليهم فقال: أروني ملكهم. فقالوا: ترى رجلًا على الفيل عاقداً تاجَه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء. قال: نعم. قالوا: ذاك ملكهم. فوقفوا طويلًا ثم قال: علام هو؟. قالوا: قد تحوّل على فرس. فقال: اتركوه. فوقفوا طويلًا، ثم قال: علام هو؟. قالوا: قد تحوّل على البغلة. فقال: ابنة الحمار ذلِّ وذلِّ ملكه، إني سأرميه، فإن رأيتم أصحابه وقوفاً لم يتحرّكوا فاثبتوا حتى أوذنكم، فإني قد أخطأت الرجل، وإن رأيتم القوم قد استداروا، و لآبوا به، فقد أصبت الرجل، فاحملوا عليهم. ثم أوْتَر قوسه وضربه فصكّ الياقوتة التي بين عينيه، فتغلغلت النِّشابة في رأسه، حتى خرجت من قفاه، فتنكّس عن دابّته، واستدارت الحبشة، فحملت عليهم الفُرْس، فانهزموا، وقتلوا وهرب شريدهم في كل وجه، فاقبل وَهْرِز يريد صنعاء يدخلها، حتى إذا أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكّسة أبداً، اهدموا الباب. فهمم باب صنعاء، ثم دخلها ناصباً رايتَه بين يديه. فلما ملك اليمن ونفى عنها الحبشة كتب إلى كسرى: إني قد ضبطت لك اليمن، وأخرجت مَنْ كان بها من الحبشة وبعث إليه الأموال. فكتب إليه كسرى أن يُملَك سيف بن ذي يزن على اليمن وأرضها، وفرض كسرى على سيف بن ذي يزن جِزْية وخراجاً يؤديه في كل عام، وكتب إلى وَهْرِز أن ينصرف إليه ففعل، وكان ذو يزن أبو سيف من ملوك اليمن . وقيل: بل الذي قدم على كسرى ذي يزن، فمات على بابه، فقدم ابنه سيف عليه، فقال: أنا ابن الشيخ اليماني الذي وعدته النصر فمات ببابك فرق له وأعانه، وجرى له ما ذكرنا. قال ابن هشام بن محمد: لما صعدت السفائن سار إليهم مسروق في ماله ألف من الحبشة وحِميْر والأعراب، ولحِق بابن ذي يزن بَشَرٌ كثير، ونزل وهرز على سيف البحر وراء ظهره، ولمّا نظر مسروق إلى قلتهم طمع فيهم، وأرسل إلى وَهْرِز وقال: ما جاء بك، وليس معك إلّا ما أرى، ومعي مَنْ ترى لقد غرّرت بنفسك وبأصحابك، فإن أحببت أذِنت لك، فرجعت، وإن أحببتَ ناجزتُك، أو أجلتك حتى تنظرَ في أمرك. فقال: بل تضرب بيني وبينك أجلًا. ففعل. فلما مضى من الأجل عشرة أيام خرج ابن وهْرِز حتى دنا من معسكر القوم فقتلوه، فلما انقضى الأجل غير يوم أمر بالسفن التي كانوا فيها فأحرقت بالنار، وما كان معهم من فضل كسوة فأحرق، ولم يدع إلا ما كان على أجسادهم، ثم دعا بكل زاد كان معهم فقال: كلوا. فلما فرغوا أمر بفضله فألقيَ في البحر، ثم قال: أما ما أحرقت من سفنكم، فإني أردت أن تعلموا أنه لا سبيل إلى بلادكم، وأمَا ما أحرقت من ثيابكم، فإنَه كان يغيظني إن ظفرت بكم الجيش، أن يصير ذلك إليهم، وأمّا ما ألقيت من زادكمِ في البحر، فإنّي كرهت أن يطمع أحد منكم أن يكون معه زاد يعيش به يوماً واحداَ، فإن كنتم تقاتلون معي وتصبرون أعلمتموني ذلك، وإن كنتم. تفعلون اعتمدت على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري فإني لم أكن لأمكنَهم من نفسي. فقالوا: بل نقاتل معك حتى نموت عن آخرنا، أو نظفَر.
فلما أصبح عبىَ أصحابه، وجعل يقول: إما ظفرتم، وإما متم كراماً. ثم رمى ملك القوم فسقط، وهزموا، وغنم من عسكرهم ما لا يحصى، وغلب على صنعاء وبلاد اليمنْ.
وقال ابن إسحاق: لما انصرف وَهْرِز إلى كسرى، وخلف سيفاً على اليمن عدا على الحبشة فجعل يقتلهم إلا بقايا ذليلة، فاتخذهم خَوَلا،. وجعل منهم قوماً يمشون بين يديه بالحراب، فلما كان يوماً في وسطهم وجأوه بالحراب فقتلوه، ووثب رجل من الحبشة فأفسد في اليمن فبلغ الأمر كسرى، فبعث إليهم وَهْرِز في أربعة آلاف من الفُرْس، وأمره ألأَ يترك باليمن أسود ولا ممن شرك فيه السودان إِلا قتله، . ففعل، فأقام فيها يَجْبِيها إلى كسرى حتى هلَك .
ولما احتضر وَهْرِز دعا بقوسه ونشابته، وقال: أجلسوني. فأجلسوه، فرمى وقال: هناك. فوقعت نشَابتُه وراءَ الدَّيْر ، فهذا هلك بعث كسرى إلى اليمن أسواراً يقال له: زين ، وكان جباراً مُسْرِفا ً فَعَزَلَهُ، واستعمل المروُزان بن وَهْرِز، فلَّما هَلَكَ أمر بعده ابنه البينجان بن المرزبان، فلما هَلك أجمّر بعده خُر خسْرَه .


ثم إن كسرى غضِب عليه، فحلف ليأتينَه به أهلُ اليمن يحملونه على أعناقهم، ففعلوا، فلما قدِموا على كسرى تلقاه رجل من عظماء فارس، فألقى عليه سيفاً لأبي كسرى، فأجاره كسرى بذلك من القَتْل ونزعه، وبعث باذان إلى اليمن، فلم يزل عليها حتى بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم .
فصل أنوشِرْوان و يخطيانوس
قال علماء السير: وكان بين كسرى أنوشِرْوان وبين يخطيانوس ملك الروم هدنة و مودعة، فوقع بين رجل كان ملَّكه ملك الروم يقال له: خالد بن جَبَلة وبين رجل كان ملَكه كسرى يقال له: المنذر بن النعمان نائرة ، فأغار خالد على حيز المنذر، فقتل من أصحابه مقتْلة عظيمة، وغَنِم أموالاً، فشكا ذلك المنذر إلى كسرى، فكتب كسرى إلى ملك الروم يذكر ما بينهما من العهد، ويعلمه ما لقي عامله المنذر، ويسأله أن يأخذ خالد بأن يرد على المنذر ما غنم من حيزه، ويدفع إليه دية مَنْ قتل، وأن لا يستخف بما كتب إليه، فيكون في ذلك انتقاض ما بينهما من العهد.
ثم واتر الكُتب بذلك فلم يحفل بها ملك الروم، فغزاه كسرى في بضعة وتسعين ألف مقاتل، فأخذ مدينة دارا، ومدينة الرهاء، ومدينة مَنْبج، ومدينة قِنسرين، ومدينة حَلب، ومدينة أنْطاكِيَة وكانت أفضل مدينة بالشام ومدينة فامِية، ومدينة حِمْص، ومدناً كثيرة، واحتوى على ما كان منها، وسَبَى أهل مدينة أنطاكِيَة، ونقلَهم إلى أرض السواد، وكان ملك الروم يؤدي إليه الخراج، وكان قُباذ قد أمر في آخر ملكه بمسْح الأرض، سهلها و وعرها، ليصح الخراج عليها، فمُسِحَت غير أن قُباذ هَلَك قبل أن يستحكم أمر المساحة، فلما ملك كسرى أمر باستتمامها وإحصاء النخل والزيتون، ثم استشار الناس وقال: نريد أن نجمع من ذلك في بيوت أموالنا ما لو أتانا عن ثَغْر أو طرف فَتق، كانت الأموال عندنا مُعَدَّة. فاجتمع رأيهم على وضع الخراج على ما يعصم الناس والبهائم، وهو الحنطة والشعير والأرز والكرم و الرطاب والنخل والزيتون فوضعوا عن كل جريب أرض رطاب سبعة دراهم، وعلى كل أربع نخلات فارسي درهماً، وعلى كل ست نخلات دقل مثل ذلك ، وعلى كلّ ستة أصول زيتون مثل ذلك، ولم يضعوا إلأَ على النخل الذي تجمعه الحديقة دون الشاذ، وألزموا الناس الجِزْية ما خلا أهلَ البيوتات والعظماء والمقاتلة والهرابذه والكتاب ومَن ْ كان في خدمة الملك، وصيروها على طبقات: اثني عشر درهماً، وثمانية، وستة، وأربعة، على قدر إكثار الرجل وإقلاله ولم يلزم الجزية مَن ْ كان له من السن دون العشرين وفوق الخمسين، واقتدى بجمهور هذه الأشياء عمر بن الخطاب رضي الله عنه . قالوا: وكان كسرى ولى رجلًا من الكتاب ذا كفاية، يقال له: بابك بن البيروان ديوان المقاتلة، فاستعرض العسكر ولم ير كسرى فيهم. فقال: انصرفوا، فاستعرضهم في اليوم التالي فلم ير كسرى فيهم، فقال: انصرفوا، وأمر مناديهم، فنادوا في اليوم الثالث: لا يتخلفن أحد، ولا من أكرم بتاج وسرير. فبلغ ذلك كسرى، فوضع تاجه، وتسلَح بسلاح المقاتلة، ثم أتى بابك ليعرض عليه، وكان الفارس يؤخذ بالسلاح التام، فجاء كسرى بسلاح يعوزه شيء يسير، فقال: أيُّها الملك، إنك واقف مقام المعْدلة التي لا محاباة فيها، فهلمَ كلما يلزمك من الأسلحة. ففعل، فلما قام بابك إلى كسرى قال: إن غِلْظتَي في الأمر الذي أغلظت فيه اليوم عليك. إنما كان لينفذ أمري الذي وضعتني له. فقال كسرى: ما غلُظ علبنا أمر أريد به تدبر صلاح رعيتنا. قالوا: ولم يكن ببلاد الفرس بناتُ آوى فتساقط إليها من بلاد الترك في زمان كسرى، فشق على كسرى، وسأل موْبَدان عن ذلك، فقال: متى تغير عدل بجور تساقط إلى أرباب ذلك ما يكرهون. فأمر كسرى عماله أن لا يتعدوا العدل .


ومن الحوادث في زمن كسرى أنوشروان : أنه غضب على وزيره بزرجمهر فقبض عليه وقال: الحمد لله الذي أظفرني بك. فقال له: فكافئه بما يحب كما أعطاك ما تحب. قال: بماذا؟ قال: بالعفو فحبسه في بيتَ كالقبر، وصفده بالحديد، وألبسه الخشن من الصوف، وأمر أن لا يزاد في كل يوم على قرصين من الخبز، وكف ملح جريش، ودورق ماء، وأن تنقل ألفاظه إليه، فأقام شهوراً لا يسمع له لفظة، فقال أنوشروان: أدخلوا عليه أصحابه، ومروهم أن يسألوه ويفاتحوه الكلام و عربونيه. فدخل عليه جماعة من المختصين به، فقالوا له: أيها الحكيم، نراك في هذا الضيق والحديد والشدة وسحنة وجهك، و صبحة جسمك على حالها لم تتغير، فما السبب؟ فقال: إني عملت جوارشنا من ستة أخلاط، فأخذت منه في كل يوم شيئأ، فهو الذي أبقاني على ما ترون. قالوا: فصفه لنا. قال: الخلط الأول: الثقة باللّه عز وجل. والثاني: علمي بأن كل مقدر كائن. والثالث: الصبر، خير ما استعمل الممتحن. والرابع: إن لم أصبر فأي شيء أعمل ولم أعين على نفسي بالجزع. والخامس: قد يمكن أن يكون في شر مما أنا فيه. والسادس: من ساعة إلى ساعة فرج. ثم إنه قتله. وكان بزرجمهر حكيماً، فمن كلامه: أنه قيل له: من أحب الناس إليك أن يكون عاقلًا. قال: عدوي، لأني أكون منه في دعة. وقال: إن كان شيء فوق الحياة فالصحة، وإن كان مثلها فالغنى، وإن كان شيء فوق الموت فالمرض، وإن كان مثله فالفقر. ووجد في مكتوب له أربع كلمات: الأولى: إذا كان الله أجل الأشياء فالعلم به أجل العلوم. والثانية: إذا كان الرزق خطاً مقسوماَ فالحرص باطل. والثالثة: إذا كانت الأمور بمقادير اللّه ومشيئته فما آفاتنا ومصائبنا إلا لعلل وأسباب عرفناها أو جهلناها. والرابعة: إذا كان الإنسان عن تركيب مختلف، فطلب الحالة الواحدة منه محال.
وقال بزرجهمر: أدل الأشياء على عقل الرجل التدبير.
وقال بزرجمهر: ينبغي للعاقل أن يكون كعابر نهر أو قاطع رحل .
وقال: مداراة الناس نصف العقل.
وقال: لا ينبغي للعاقل أن يسكن بلداً ليس فيه خمسة: سلطان صارم، وقاض عادل، وسوق قائمة، ونهر جار، وطبيب فاره.
وقال: ما أوتي رجل مثل غزيرة عقل، فإن حرمها فطول صمت، فإن حرمها فالموت أستر له.
وقال وقد سئل: الأغنياء أفضل أم العلماء؟. قال: العلماء. قيل: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر من الأغنياء يأتون، أبواب العلماء؟ قال: لمعرفة العلماء بفضل الغنى، وجهل الأغنياء بفضل العلم.
فصل امرؤ القيس
وكان في زمن كسرى أنوشروان امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو الكندي واسم أمه: تملك، وقد ذكر في قوله حيث يقول:
ألا هل أباها والحوادث حمة ... بأن امرأ القيس بن تملك ينفرا
أي ترك الحضر وسافر وهو من أهل نجد، والديار التي يصف في شعره ديار بني أسد.
وكان قُباذ قد ملًك الحارث بن عمرو على العرب، فملك ابنه حجراً على بني أسد، وكان يأخذ منهم شيئاً معلوماً فامتنعوا منه، فسار إليهم فأخذ سراتهم فقتلهم بالعصي، فسموا عبيد العصا. وأسر منهم طائفة فيهم عبيد بن الأبرص، ثم رحمهم وعفا عنهم وردهم إلى بلادهم.
ثم ملك أنوشروان فملك النعمان بن ماء السماء فهرب الحارث، واتبعته خيل المنذر ففاتهم فأدركوا ابنه عمراً فقتلوه، ثم إنهم قتلوا حجراً، وكان حجر قد طرد ابنه امرأ القيس لأجل امرأة تشبب بها في شعره يقال لها: فاطمة، وتُلقب: عنيزة، وكان يعشقها، فطلبها زماناً، فلم يصل إليها، وكان يطلب غرتها حتى كان منها، يوم الغدير ما، كان بدارة جلجل، فهو الذي يقول فيه هذا:
ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جُلجُل
وذلك أنه رأى نسوة يتمايلن في غدير، فيهن عنيزة، فأخذ ثيابهن، وأقسم لا يعطيهن حتى يخرجن فيأخذنها، فخرجن متكشفات ، فبلغ ذلك أباه، فدعا مولى له فقال: اقتل امرؤ القيس وائتني بعينيه. فذبح شاة وأتاه يعنييها، فندم حجر على ذلك فقال: أبيت اللعن، إني لم أقتله. قال: فأتني به. فانطلق فرده إليه فنهاه عن قول الشعر، ثم بلغه أنه قال:
ألا انْعِمْ صباحاً أيها الطلل البالي.


وطرده، فبلغه قتل أبيه فقال: ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، ثم آلى أن لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتى يأخذ بثأر أبيه. وخرج إلى قيصر فطلب النصر، فعشقته بنت الملك، فكان يأتيها، وفطن بذلك الطماح بن قيس الأسدي، وكان حجر قتل أباه فوشى به إلى قيصر، فهرب امرؤ القيس، فبعث قيصر في طلبه، فأدركه دون أنقرة بيوم، ومعه حلة مسمومة، فلبسها في يوم صائف، فتناثر لحمه، وتقطع جلده، فقال حين حضرته الوفاة:
وطعنة مسحنفره ... وجفنة مثعنجره
تبقى غدأ بأنقره .
وهو آخر شيء تكلم به. وكان امرؤ القيس قد ماتت أمه في صغره فأرضعه أهله بلبن كلبة، فكان إذا عرق فاح منه ريح الكلب، وكان النساء يبغضنه. وتزوج امرأة فاستطالت ليلتها معه، فقال: ما تكرهين مني؟ فقالت: إنك ثقيل الصدر، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة، ريحك ريح كلب. فطلقها. وقال مؤلف الكتاب : وقد روينا أن قوماً من اليمن أقبلوا يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلوا الطريق، وأعوزهم الماء، فإذا ركبٌ على بعير، فأنشد بعضهم يقول:
ولما رأت أنَ الشريعَة قصدها ... وأن البياضَ من فرائضها دامي
تَيَمًمَتِ العينَ التي عند ضارج ... يُفيءُ عليها الظل عَرْمَضُها طامي
فقال الراكب: مَنْ يقول هذا؟ فقالوا: امرؤ القيس. قال: ما كذب والله هذا ضارج عندكم. فمشوا، فإذا ماء عذب عليه العرمض، فشربوا ولولا ذلك لهلكوا. ولما وردوا أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أحيانا الله ببيتين من شعر امرىء القيس.
فقال: ذاك الرجل مشهور في الدنيا خامل في الآخرة، مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، معه لواء الشعراء يقودهم إلى النار . أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا أبو الجهم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار.
قال مؤلف الكتاب: واعلموا أن أوائل الشعر لم تكن إلا الأبيات اليسيرة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة له، فأول من ابتدع المعاني العجيبة والنسيب الدقيق، مع قرب المأخذ: امرؤ القيس، فمن أبياته اللطيفة البديعة قصيدته المشهورة :
قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
كأني غداة البين يوم تحملوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وقوفا ًبها صحبي علي مطيهم ... يقولون لاتهلك أسىً وتجمّل
وإن شفائي عبرة مهراقة ... فهل عند رسم دارس من معول
أغرّك مني أن حبكِ قاتلي ... وأنكِ مهما تأمري القلب يفعل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مُقتل
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصدره ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
وله فيها يصف الفرس:
مكرٍ مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
خليلي مرا بي على أم جندب ... نقضي لبانات الفؤاد المعذب
ألم تر أني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
ألا ليت شعري كيف جادت بوصلها ... وكيف يضن بالإخاء المغيب
أدامَتْ على ما بيننا من نصيحة ... أميمة أم صارت لقول المخيب
ولله عينا من رأى من تفرق ... أشت وأنأى من فراق المحصب
غداة غدوا فينا إلى بطن نخلة ... وآخر منهم جازع فخد كبكب
فإنك لم تقطع لبانة عاشق ... بمثل غدو أو رواح مؤَب
وكان لكسرى أولاد، فجعل الملك بعده لابنه هرمز.
باب عدد الأنبياء و المرسلين


أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن المهتدي قال: أخبرنا أبو الفرج الحسن بن أحمد العماني قال: حدًثنا أبو بكر محمد بن أحمد الشمشاطي قال: حدَّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: أخبرنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغسانىِ قال: حدَّثنا أبي، عن جدي، عن أبي أدريس الخولانىِ، عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً قلت: يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً " قلت: مَن كان أولهم؟ قال: آدم، قلت: يا رسول الله، أنبي مرسل؟ قال: نعم، خلقه الله تعالى بيده ونفخ فيه من روحه، وسواه قُبُلاً ، يا أبا ذر: أربعة سُريانيون: آدم، وشيث و أخنوخ وهو إدريس، وهو أول مَنْ خط بالقلم ونوح، وأربعة من العرب: هود، و شعيب، و صالح، ونبيك يا أبا ذر، وأول أنبياء بني إسرائيل: موسى، و آخرها عيسى عليه السلام، وأول المرسلين : آدم، وآخرها محمد صلي الله علية وسلم قلت : يا رسول الله كم كتاب أنزل الله عز وجل؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله عز وجل على شيث خمسين صحيفة، وعلى اخنوخ ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل أن ينزل التوراة عشر صحائف، وانزل التوراه، والإنجيل، والزبور، والفرقان، قلت: يا رسول الله، ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالًا كلها، كان فيها: أيها الملك المسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك تجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو كانت من كافر، وكان فيها أمثال، وعلى العاقل أن تكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيِ صنع الله عز وجل إليه، وساعة يخلو فيها بحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون طائعاً إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، معيلاً على شأنه، حافظاً لسانه، ومَنْ يحسب كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه.
قلت: يا رسول الله، ما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبراً كلها عجبت لمن أيقن بالقدر، ثم هو يلهو، وعجبت لمَن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدأً كيف لا يعمل .


أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو محمد بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قّال: حدَثنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا عمرو بن الهيثم وهاشم بن الهيثم قالا: أخبرنا المسعودي، عن أبي عمرو الشامي، عن عبد الله بن الخشخاش، عن أبي ذر قال: قلت للنبي صلي الله عليه وسلم: أيٌ الأنْبياء أول؟ قال: آدم عليه السلام قلت: أونبياً كان؟ قال: " نعم نبي مُكلَم قال: قلتَ: فكم المرسلين؟ قال: ثلثمائة وخمسة عشر، جمأ غفيراً " .أخبرنا أبو الهاشم هبة الله بن محمد بن الحصين قال: أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي قال: أخبرنا إسحاق بن الحسين قال: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: أخبرنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام قال: حدثنا محمد بن المنكدر، عن يزيد بن إبان، عن أنس بن مالك أنه سمعه يقول: قال رسول الله صلي الله علية وسلم " بعث الله تعالى ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل " .أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد قال: أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي قال حدثني زياد بن سعد، عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله علية وسلم: " بعث الله عَلى إثر ثَمانِيَة آلافٍ من الأنبياء، مِنهمْ أربعة آلاف نبي، مِنْ بَني إسرائيل " .وروى أبو سعيد الخدري ، عن النبي صلي الله علية وسلم أنه قال: بين يدي الرحمن تبارك وتعالى لوحاً فيه ثلثمائة وخمس عشرة شريعة، يقول الرحمن عز وجل: وعزتي وجلالي لا يأتيني عبد من عبادي لا يشرك بي شيئاً فيه واحد منكن إلا أدخلته الجنة. قال أبو الحسين بن المنادي: هذه الشرائع عائدة إلى المرسلين. وروى عكرمة، عن ابن عباس قال: لم يكن من الفرس نبي. وقال وهب بن منبه: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال، خلون من رمضان، والزبور لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة ليلة، خلت من رمضان، والقرآن لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان.
ذكر فضل هذه الأمة
أخبرنا الكروخي قال: أخبرنا أبو عامر الأزدي، وأبو بكر العورجي قالا: أخبرنا ابن الجراح قال: أخبرنا ابن محبوب قال: حدَثنا الترمذي قال: أخبرنا عبيد بن حميد قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: أخبرنا بهز بن حكيم، عن معاوية، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلي الله علية وسلم قال: " إنكم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى " .
ذكر ما بين الأنبياء من السنين
روى أبو صالح، عن ابن عباس قال: كان بين آدم إلى نوح عليهما السلام ألفا سنة ومائتا سنة، وبين نوح إلى إبراهيم عليهما السلام ألف ومائة وثلاث وأربعون سنة، ومن إبراهيم إلى موسى خمسمائة وخمس وسبعون سنة، ومن موسى إلى داوود خمسمائة وتسع وسبعون سنة، ومن داوود إلى عيسى ألف وثلاث وخمسون سنة، ، ومن عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة. وقال ابن إسحاق: بين آدم إلى نوح ألف ومائتا سنة، ومن نوح إلى إبراهيم عليهما السلام ألف ومائة واثنتان وأربعون سنة، ومن إبراهيم إلى موسى خمسمائة وخمس وستون سنة، وبين موسى وداود خمسمائة وتسع وستون سنة، ومن داوود إلى عيسى ألف وثلثمائة وست وخمسون سنة، ومن عيسى إلى محمد ستمائة سنة. وقال ابن أبي خثيمة: منذ خلق الله آدم إلى أن بعث محمداً صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة.
ذكر معايش الأنبياء
قال ابن عباس رضي الله عنه: كان آدم عليه السلام حرًاثاً، وكان نوح نجاراً، وكان إدريس خيَّاطاً، وكان صالح تاجراً، وكان إبراهيم زرَاعاً، وكان شعيب راعياً وكان موسى راعياً، وكان داوود زرّاداً، وكان سليمان ملكاً، وكان عيسى لا يخبأ شيئاً لغده، وكان نبينا صلي الله علية وسلم يرعى غنماً لأهل بيته بأجياد، وكانت حواء تغزل الشعر فتحوكه بيدها فتكسو نفسها وولدها.
ذكر مَنْ ولد مختوناً


قال مؤلف الكتاب : أما آدم فإنه خلق مختونأ، وولد شيث وإدريس ونوح، وسام، وهود، وصالح، ونبي أصحاب الرس، ولوط، ويوسف، وموسى، وشعيب، وسليمان، و زكريا، وعيسى، ونبينا مختونين مسرورين، وابتلي بالختان إبراهيم الخليل على ما سبق.
ذكر أقوام من القدماء
منهم: خالد بن سنان العبسي قال مؤلف الكتاب :ويروى أنه من الأنياء. أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار قال: أخبرنا الحسن بن أبي الحسن بن دوما قال: أخبرنا محمد بن جعفر الباقرحي قال: أخبرنا الحسن بن علي القطان قال: أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار قال: أخبرنا إسحاق بن بشر القرشي قال: أخبرنا ابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس قال : ظهرت نار بالبادية بين مكة والمدينة، وكانت طوائف من العرب يعبدونها، فقام رجل من عبس يقال له: خالد بن سنان العبسي، فأطفأها ورفع، وقال لأخوته: إني ميت، فإذا مِت فادفنوني في موضعي هذا، فإذا حال الحول فارصدوا قبري، وإذا رأيتم عيراً أبتر مقطوع الذنب عند قبري فاقتلوه وانبشوا قبري، فإني أحدثكم بكل شيء هو كائن. فمات، فدفنوه ثم رصدوا قبره عند الحول، فجاء العير فقتلوه وأرادوا أن ينبشوه، فقال اخوته إن نبشناه كانت سُبة علينا في العرب فتركوه.
فلما بُعث النبي صلي الله علية وسلم قدمت عليه بنت خالد بن سنان بعدما هاجر، فقالت: أنا بنت خالد بن سنان، فقال رسول الله صلي الله علية وسلم: " العبسي " قالت: نعم، فرحَب بها ثم قال لأصحابه إن أباها كان نبياً هلك بين مكة والمدينة، ضيعه قومه، وقص النبي صلي الله علية وسلم قصته وقال لو نبشوه أخبرهم بشأني وشأن هذه الأمة وما يكون منها " .
وبالإسناد عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: انه سُئل عن خالد بن سنان العبسي، أنبياً كان؟ قال: لا، إنما كان ألهم أمراً، لو نبشوه لبشر بالنبي صلي الله علية وسلم، وإنما ألهم الإيمان والهُدى أن غَضب لله، وأطفأ تلك النار لئلا تُعبَدُ. وروى عكرمة ، عن ابن عباس قال: قال خالد بن سنان لقومه: إني ميِّت، فإذا دفنتموني فمر علي ثلاث، فإنه ستجيء عير أبتر، فيقوم على قبري فينهق ثلاث نهقات، فخذوه واذبحوه، وابقروا بطنه، واضربوا به قبري، فإني أخرج إليكم فأحدثكم لما ينفعكم في آخرتكم ودنياكم. فجاء الحمار فنهق فقالوا: انبشوه فقال رهطه: والله لا تنبشوه فيكون علينا سُبّة، قال: وقد كان ذكر لهم أن في عكن امرأته لوحيِن إذا أشكل عليهم أمر، فنظروا فيها فإنهم سيرون ما تسألون عنه، وقال: لا تمسهما حائض. فجاءوا فسألوا امرأته عنهما، فأخرجتهما وهي حائض، فذهب ما كان فيهما، فذكروا أمره لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: " نبي ضَيعة قومه " .وروى عبد الرزاق، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاءت ابنة خالد بن سنان العبسي إلى رسول الله صلي الله علية وسلم فقال: " مرحبا بابنة أخي مرحباً بابنة أخي، نبيِ ضيعه قومه " .
وفي رواية مجاهد، عن ابن عباس قال: خالد في زمن، الفترة.
منهم: جرجيس : هو رجل صالح أدرك بقايا من حواريي عيسى عليه السلام.


روى محمد بن إسحاق ، عن وهب وغيره: أنه كان بالموصل ملك جبار، وكان جرجيس رجلاً صالحاً من أهل فلسطين فكتم إيمانه في عصبة معه يكتمون الإيمان قد أدركوا بقايا من الحواريين، وكان جرجيس كثير المال عظيم الصدقة، فدخل على ملك الموصل وقد نصب صنماً، وأوقد ناراً، وعرض الناس، فمَنْ لم يسجد للصنم ألقاه في النار، فقال له جرجيس: اعلم أنك عبد مملوك ولا تملك لنفسك شيئاً ولا لغيرك، وأن فوقك رباً هو الذي يملكك وغيرك، وإنك عمدت إلى خلق من خلقه لا يبصر ولا يسمع فجعلته فتنة للناس، فأمر الملك يخشبة فنصبت، وجُعل عليها أمشاط الحديد، وجُر عليها حتى تقطع لحمه، ونضح بالخل والخردل، فلم يمت، فضُرب في رأسه بمسامير من حديد فلم يمت، فألقاه في لوح من نحاس قد أوقدوا عليه فلم يمت، فقالوا له : ألم تجد ألم هذا العذاب؟ قال: إن ربي حمل عني عذابك وصَبرَنِي ليحتج عليك، فخَفْهُ على نفسك وملكك . فسجنه وضرب في يديه أوتاداً من حديد، وترك عليه صخرة، فأرسل إليه ملكاً فخلصه من ذلكُ، وقال له: الحق بعدوك وجاهده في الله حق جهاده، فإن اللّه يقول لك اصبر وأبشر، فإني قد ابتليتك بعدوك هذا سبع سنين يعذبك ويقتلك فيهن أربع مرات، وأرد إليك رُوحك، فإذا كانت الرابعة نقلت روحك و أوفيتك أجرك. فلم يشعروا إلا به على رؤوسهم، فقال له الملك: مَنْ أخرجك. قال: أخرجني الذيِ سلطانه فوق سلطانكم . فمدوه بين خشبتين وقطعوه نصفين، ثم قطعوه قطعاً ورموا به إلى أسد ضارية، فلما أدركه الليل جمعه الله عز وجل وردً إليه رُوحه، وأرسل الله إليه ملكاً فأطعمه وسقاه وأخرجه، وقال: الحق بعدوك فجاهده، فإذا به على رؤوسهم، فقالوا: هذا ساحر، ثم سألوه آيات فأظهرها، ثم قتلوه فعاد حيأ، فآمنت به امرأة الملك وأربعة وثلاثون ألفاً، ثم قتلوه فلم يعد.
منهم: شمشون: قال مؤلف الكتاب : كان في الفترة، وكان رجلاً صالحاً من قرية من قرى


الروم، وكان قومه يعبدون الأوثان. قال وهب بن منبه: كان يغزوهم و يجاهدهم فيقتل ويسبي ويصيب المال ولا يقاتلهم إلا بلحي جمل ، وكان قد أعطي قوة في البطش فلا يوثقه حديد ولا غيره، فلم يقدروا عليه، فدخلوا على امرأته فجعلوا لها جعلاً، فقالت: أنا أوثقه لكم، فأعطوها حبلاً وثيقاً، وقالوا: إذا نام فأوثقي يده إلى عنقه حتى نأتي فنأخذه، ففعلت، فلما هبّ جذبه بيده فوقع من عنقه ، فقال لها: لم فعلت هذا؟ قالت: أجرب به قوتك ، فأرسلت ليهم تخبرهم، فأرسلوا إليه جامعة من حديد فلما نام، جعلتها في عنقه، فلمَّا هَبَ جذبها فوقعت، وقال: لم فعلت، قالت : أجرب قوتك، ما رأيت مثلك في الدنيا يا شمشون، أما في الأرض شيء يغلبك قال: لا، إلا شيء واحد، قالت: وما هو. قال: ما أنا بمخبرك به، فلم تزل به تسأله حتى قال: ويحك إن أمي جعلتني نذراً، فلا يغلبني شيء ولا يضبطني إلا شعري، قالت: فلمَا نام، أوثقت يده إلى عنقه بشعر رأسه فأوثقه ذلك، وبعثت إلى القوم، فأخذوه، فجدعوا أنفه وأذنيه وفقأوا عينه وأوثقوه، للناس بين ظهراني المدينة، ودعا الله أن يسلطه عليهم، فأمر أن يأخذ بعمودين من عمد المدينة، كانت المدينة ذات أساطين، فأخذ بالعمودين اللذين عليهما الملك والناس الذين ينظرون إليه فجذبهما، وردّ الله عز وجل إليه بصَرَهُ، وما أصابوا من جسده ووقعت المدينة بالناس والملك فهلكوا. منهم: أصحاب الكهف : قال ابن عباس رضي الله عنه: إنهم قوم هربوا من ملكهم حين دعاهم إلى عبادة الأصنام، فَمّروا براعٍ له كلب يتبعهم على دينهم، فآووا إلى كهف يتعبدون، وكان منهم رجل يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة إلى أن جاءهم يومآ فأخبرهم أنهم قد ذكرهم الملك، فعوذوا بالله من الفتنة، فضَرب الله على آذانهم وأمر الملك، فسَد عليهم الكهف، وهو يظنهم أيقاظآ، وقد توفى الله أرواحهم، وفاة النوم وكلبهم قد غشيه ما غشيهم ثم أن رجلين مؤمنين يكتمان إيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم في لوح من رصاص وجعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه، في البنيان، وقالا: لعل الله عز وجل يطلع عليهم قوماً مؤمنين فيعلمون خبرهم. وقال ابن إسحاق: وألقى الله عز وجل في نفس رجل من أهل البلد أن يهدم ذلك البنيان، فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر عاملين ينزعان تلك الحجارة، فنزعاها، وفتحا باب الكهف، فجلسوا فرحينِ، فسلم بعضهم على بعض، لا يرون في وجوههم ولا أجسادهم شيئاً يكرهونه، إنما هُم كهيئتهم حين رقدوا، وهم يرون أن، ملكهم في طلبهم فضلوا، وقالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: انطلق فاسمع ما يذكرونه، وابتع لنا طعاماً، فوضع ثيابه، وأخذ الثياب التي يتنكر فيها وخرج، فمر مستخفيآ متخوفاً أن يراه أحد، فلما رأى باب المدينة رأى عليه علامة تكون لأهل الإيمان فعجب، وخُيل إليه أنها ليستَ المدينة التي يعرف، ورأى ناساً لا يعرفهم، فتعجب، وجعل يقول: لعلي نائم " فلما دخلها رأى قوماً يحلفون باسم عيسى فقام مسنداً ظهره إلى جدار، وقال في نفسه: والله ما أدري لما هذا إلا غشية، أمس لم يكن على وجه الأرض مَنْ يذكر عيسى إلا قتل، واليوم أسمعهم يذكرونه، لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف، و الله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا شيئاً، فقام كالحيوان، وأخرج ورقاً، فأعطاه رجلاً، وقال: بعني طعاماً. فنظر الرجل إلى نقشه فعجب ثم ألقاه إلى آخر، فجعلوا يتطارحونه بينهم ويتعجبون و يتناقدون وقالوا: إن هذا قد أصاب كنزأ ففرق منهم وظنهم قد عرفوه، فقال: أمسكوا طعامكم فلا حاجة لي إليه، فقالوا له: مَنْ أنت يا فتى، والله لقد وجدت كنزاً، وأنت تريد أن تخفيه، فشاركنا فيه، وإلا أتينا بك إلى السلطان فيقتلك. فلم يدر ما يقول " فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول: فرق بيني وبين أخوتي يا ليتهم يعلمون ما أصبت فأتوا به إلى رجلين كانا يدبران أمر المدينة، فقالا: أين الكز الذي


وجدت؟ .فقال: ما وجدت كنزاً، ولكن ما هذه ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني ولا ما أقول لكم . قال مجاهد: وكان ورق أصحاب الكهف مثل أخفاف الإبل فقالوا: منْ أنت، وما اسم أبيك فأخبرهم، فلم يجدوا مَنْ يعرفه، فقال له أحدهما: أتظن أنك تسخر منَا وخزائن هذه المدينة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار، إني سآمر بك فتعَذب عذاباً شديِدأ، ثم أوثقك حتى تعَرِّف هذا الكنز فقال تمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتم صدقتم. قالوا: سل، قال: ما فعل الملك دقيانوس، قالوا: لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملكاً يًسمَى دقيانوس، وإنما هذا ملك منذ زمان طويل، وهلكت بعده قرون كثرِة، فقال: والله ما يصدقني أحد بما أقوله، لقد كنا فتَية، وأكرهنا الملك على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت، فهربنا منه عشية أمس، فنمنا، فلما انتبهنا خرجت أشتري لأصحابي طعاماً، فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي، فانطلقوا معه وسار أهل المدينة فكان أصحابه قد ظنوا لإبطائه عليهم أنه قد أخذ، فبينما هم يتخوفون ذلك إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل، فظنوا أنهم رسل دقيانوس، فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض فسبق تمليخا إليهم وهو يبكي فبكوا معه وسألوه عن شأنه فأخبرهم، وقص عليهم النبأ كله، فعرفوا أنهم كانوا نياماً بأمر الله عز وجل، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتَصديقاً للبعث، ونظر الناس إلى المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم فأرسلوا إلى ملكهم، فجاء واعتنق القوم وبكى، فقالوا له: نستودعك الله ونقرأ عليك السلام، حفظك الله، وحفظ ملكك، فبينا الملك قائم رجعوا إلى مضاجعهم، وتوفى الله سبحانه أنفسهم، فأمر الملك أن يجعل لكل واحد منهم تابوت من ذهب، فلما أمسى رآهم في المنام، فقالوا: إنا لم نُخلق من ذهب وفضة، ولكنا خُلقنا من تراب، فاتركنا كما كُنا في الكهف على التراب، حتى يبعثنا اللّه منه، وحجبهم اللّه عز وجلّ حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجدأ يصلى فيه، وجعل لهم عيداً عظيماً يؤتى كل سنة .
ومنهم: أصحاب الأخدود: قال مؤلف الكتاب : وهم قوم خُدَت لهم أخاديد، وأوقدت فيها النيران وألقوا فيها. واختلف العلماء في سبب ذلك، فقال قوم: أريدوا على الكفر فلم يفعلوا.
وقال قوم: إن ملكهم وقع على أخته، وأخبر الناس بإباحة ذلك فلم يقبلوا . أخبرنا هبة اللّه بن محمد قال: أخبرنا الحسين بن علي التميمي قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عثمان قال: أخبرنا حماد بن سلمة قال: أخبرنا ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، وحضر أجلي، فادفع إلي غلاماً لأعلَمه السحر، فدفع إليه غلاماً وكان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب، فسمع من كلامه، فأعجبه نحوه وكلامه وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك. فإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك، فشكا ذلك إلى الراهب فقال له، : إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك، فقل حبسني الساحر، قال: فبينا هو كذلك إذ أتى ذات يوم على دابة فظيعة عظيمة قد حبست


الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا فقال اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله سبحانه أم الساحر، فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كأن أمر الراهب أحب إليك وأرضى لك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورمى بها فقتلها ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى فإن ابتليت، فلا تدل عليّ، فكان الغلام يبرىء الأكمه وسائر الأدواء ويشفْيهم، وكان للملك جليس فعمي، فسمع به، فأتاه وأتى بهدايا كثيرة، فقال: اشفني ولك ما ها هنا أجمع، قال: ما أنا أشفي أحداً، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فأمن فدعا الله له عز وجل فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان مَنْ رد عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: أنا، قال: لا، ولكن ربي وربك الله قال: أو لك رب غيري قال: نعم، قال: فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام، فبعث إليه، فقال: أي شيء بلغ من سحرك أن تبرىء الأكمه والأبرص وهذه الأدواء، قال: ما أنا أشفي أحداً، ما يشفي إلا الله، قال: أنا. قال: لا، قال: أو لك ربُّ غيري. قال: نعم ، ربي وربك الله، فأخذه أيضآ بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى الراهب، فقال: ارجع عن دينك. فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للاعمى: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه في الأرض، فقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، وقال لهم: إذا بلغتم فروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه من فوقه، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اكفنيهم اللهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك. قال: كفانيهم الله عز وجل، فبعث به مع نفر في قرقور، وقال: إذا بلغتم أو قال: إذا، لججتم به في البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فأغرقوه. فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم أكفنيهم بما شئت. فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم اللهّ عز وجل، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي قال: وما هو؟. قال: تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه، وقال: بسم اللّه رب الغلام، فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على صدغه ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر، فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخددت فيها الأخاديد واضرمت فيه النيران، وقال: مَنْ رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها قال: فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها أبقيت، فتقاعست أن يقع في النار، فقال الصبي: يا أماه أصبري فإنك على الحق .
منهم: جريج العابد : أخبرنا الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: أخبرنا وهب بن جرير قال: حدثني أبي قال: سمعت محمد بن سيرين يحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم قال: وكان في بني إسرائيل رجل عابد يقال له جريج، فابتنى صومعة فتعبدَ فيها، قال : فذكر بنو إِسرائيل يوماً عبادة جريج، فقالت بغي منهم: لئن شئتم لأفتننه، فقالوا: قد شئنا ذاك، َقال فأتته ، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها فأمكنت نفسها من راعٍ كان يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج فحملت، فولدت غلاماً، قالوا: ممَنْ، قالت: من جريج، فأتوه فاستنزلوه وشتموه وضربوه وهدموا صومعته، فقال: ما شأنكم. قالوا: إنك زنيت بهذه البغي فولدت غلاماً. قال: وأين هو هذا ؟ قالوا: هو هذا قال: فقام فصلى ودعا، ثم انصرف إلى الغلام فطعنه بإصبعه، فقال: يا غلام، باللّه مَنْ هو أبوك. قال: أنا ابن الراعي، فوثبوا إلى جريج. فجعلوا يقبلونه، وقالوا له: نبني لك صومعتك من ذهب


قال: لا حاجة لي في ذلك ابنوها من طين كما كانت. قال: وبينما امرأة في حجرها ابن لها ترضعه إذ مر بها راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا. قال: فترك ثديها فأقبل على الراكب، وقال: اللهم لا تجعلني مثله. قال: ثم عاد إلى ثديها. قال أبو هريرة: فكأني أنظر إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحكي صنع الصبي وضع أصبعه في فيه، فجعل يمصها، ثم مرت بأمة تضرب، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثلها. قال: فترك ثديها، وأقبل على الأمة وقال: اللهم اجعلني مثلها. قال: فذاك حين تراجعا الحديث، فقالت: خلفي مر الراكب ذو الشارة، فقلت اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومر بهذه الأمة فقلت: لا تجعل ابني مثلها. فقلت: اللهم اجعلني مثلها، فقال: يا أماه، إن الراكب ذا الشارة جبَّار من الجبابرة، وإن هذه الأمة يقولون زنت ولم تزن أو سرقت، ولم تسرق، وهي تقول: حسبي الله .ومنهم: برصيصا : أنبأنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي قال: أخبرنا عاصم بن علي قال: أخبرنا علي بن محمد بن بشران قال: أخبرنا أبو علي بن صفوان قال: أبو بكر بن عبيد، حدَثنا عبد الرحمن بن يونس قال: حدَّثنا سفيان بن عيينة قال: سمع عمرو بن دينار عروة بن عامر سمع عبيد بن رفاعة يبلغ به النبي صلي الله علية وسلم قال: " كان راهب في بني إسرائيل فأخذ الشيطان جارية لخنقها وألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب، فأتى بها الراهب، فأبى أن يقبلها، فلم يزالوا حتى قبلها، وكانت عنده، فأتاه الشيطان فزين له حتى وقع عليها، ثم أتاه فقال: الآن تفتضح ويأتيك أهلها فاقتلها، فإن أتوك فقل، ماتت فقتلها ودفنها، فأتى الشيطان أهلها فوسوس إليهم فألقى في قلوبهم أني أحبلتها ثم قتلتها ودفنتها، فأتاه أهلها فسألوه، فقال: ماتت. فأخذوه فأتاه الشيطان فقال: أنا أخذتها، وأنا الذي ألقيت في قلوب أهلها وأنا الذي أوقعتك في هذا فأطعني واسجد لي سجدتين فسجد له سجدتين، فهو الذي قال الله تعالى: " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف اللّه رب العالمين " .
قال مؤلف الكتاب: وقد روي هذا الحديث على صفة أخرى أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا أحمد بن الحسين بن خيرون قال: أخبرنا أبو علي بن شاذان قال: أخبرنا أبو علي الطوماري قال: أخبرنا أبو الحسن بن البراء قال: حدثنا عبد المنعم بن إدريس ، عن أبيه قال: ذكر وهب بن منبه أن عابداً كان في بني إسرائيل ، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة أخوة وكانت لهم أخت وكانت بكراً ، ليست لهم أخت غيرها، فخرج البعث عليهم فلم يدروا عند مَنْ يخلفون أختهم ولا من يأمنون عليها ولا عند من يضعونها ، فأجمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل كان ثقة في أنفسهم، فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده فأبى ذلك فلم يزالوا به حتى أطاعهم فقال: أنزلوها في بيت حذاء صومعتي فأنزلوها في ذلك البيت، ثم انطلقوا وتركوها، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانأ ينزل إليها الطعام من صومعته فيضعه عند باب الصومعة ثم يغلق بابه ويصعد في صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام قال: فتلطف له الشيطان فلم يزل يُرَغّبه في الخير ويعظم عليه خروج الجارية


من بيتها نهارأ ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها، فلما يزل حتى مشى بطعامها حتى وضعه على باب بيتها، ولا يكلمها. قال: فلبث بذلك زماناً ثم جاءه إبليس فرغَّبه في الخير والأجر وحضَه عليه، وقال: لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك. قال: فلم يزل حتى مشى إليها بطعامها حتى يضعه في بيتها. قال: فثبت بذلك زمانَاَ، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وحضه عليه: وقال له: لو كنت تكلمها وتحدثها حتى تستأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة قال: فلم يزل به حتى حدثها زماناً يطلع إليها من صومعته، قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها، وتقعد هي على باب بيتها فتحدثك كان آنس بها، فلم يزل به حتى أنزله فأجلسه على باب صومعته يحدثها وتخرج الجارية من بيتها حتى تقعد على باب بيتها، قال: فلبثا زماناً يتحادثان، ثم جاءه إبليس فرغَبه في الخير، فقال: لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريباً منها فحدثتها كان انس لها، فلم يزل به حتى فعل فلبثا بذلك زماناً، ثم جاءه إبليس فقال: لو دنوت من باب بيتها، ثم قال: لو دخلت البيت فحدثتها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن، فلم يزل به حتى دخل البيت، فجعل يحدثها نهاره كله، فإذا أمسى صعد في صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها، فلم يزل إبليس يحسنها في عينه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها، فولدت غلاماً فجاءه إبليس فقال له: أرأيت إن جاء إخوة هذه الجارية وقد ولدت منك، كيف تصنع؟ فاعمد إلى ولدها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة اخوتها، ففعل، فقال: أتراها تكتم ما فعلت. خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها، فذبحها وألقاها في الحفرة مع ابنها، فذبحها كما قلنا، فمكث بذلك ما شاء الله حتى قفل أخوتها من الغزو فجاءوا فسألوه عن أختهم فنعاها لهم وترحَم عليها وبكى، وقال: كانت. خير امرأة وهذا قبرها، فأتى أخوتها القبر، فبكوا أختهم وترحموا عليها، وأقاموا على قبرها أياماً، ثم انصرفوا إلى أهاليهم، فلما جنهم الليل وأخفوا مضاجعهم أتاهم الشيطان في النوم فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم فأخبره بقول العابد وبموتها، فكذبه الشيطان، وقال: لم يصدقكم أمر أختكم انه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاماً فذبحه وذبحها معه خوفاً منكم فألقاها في حفيرة خلف باب البيت، فأتى الأوسط في منامه فقال له مثل ذلك، ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك، فلما استيقظ القوم استيقظوا متعجبين لِمَا رأى كل واحد منهم، فأقبل بعضهم إلى بعض يقول لقد رأيت عجباً، فأخبر بعضهم بعضاً مما رأى، فقال أكبرهم: هذا حلم ليس بشيء فامضوا بنا ودعوا هذا، فقال صغيرهم: لا أمضي حتى آتي الموضع فأنظر فيه، فانطلقوا فبحثوا الموضع فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين، فسألوا عنها العابد، فصدَق قول إبليس فيما صنع بها. قال: فاستعدوا عليهم ملكهم، فأنزل من صومعته وقدموه ليُصلب، فلما أوثقوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال: قد علمت إني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى أحبلتها وذبحتها وابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك خلَصتك مما أنت فيه، فكفر العابد بالله سبحانه، فلما كفر خلَّى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه ففيه نزلت هذه الآية " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله " ، إلى قوله: " جزاء الظالمين " .
ومن ذلك: قصة سبأ :


قال علماء السير: لما ملكت بلقيس جعل قومها يقتتلون على واديهم، فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها فتركت ملكها وانطلقت إلى قصرها فنزلته، فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها، فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت، فقالوا: لترجعن أو لنقتلنك فقال: إنكم لا تطيعونني، وليست لكم عقول، فقالوا: ها إنا نطيعك، فجاءت إلى راديهم، وكانوا إذا أمطروا أتاه السيل من مسيرة ثلاثة أيام، فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمسناه، وحبست الماء عمن وراء السد، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض وبنت لمن دونه بركة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدد أنهارهم، فكان الماء يخرج بينهم بالسوية، وكانت لهم جنتان عن يمين واديهم وعن شماله، فأخصبت أرضهم وكثرت فواكههم، وإن كانت المرأة لتمر بين الجنتين والمكتل على رأسها فترجع وقد امتلأ من التمر وما مسًت بيدها شيئاً منه ولم يكن يرى في بلدهم حية ولا عقرب ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث، وتمر العرب ببلدهم وفي ثيابهم القمل فتموت القمل لطيب هوائها، وقيل لهم: كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلده طيبة أي هذه بلده طيبة ولم تكن سبخة ولا فيها مما يؤذي، وكانت ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبياً فكذبوا الرسل، ولم يقروا بنعم الله، فأرسل الله عليهم سيل العرم و العرم السكر والمساة بعث الله سبحانه جرذاً فنقبه من أسفله وأغرق به جناتهم، وخربت به أرضهم، فتبددوا في البلاد فصارت العرب تتمثل في الفرقة بسبأ .
ومن ذلك: قصة صنعا : قال علماء السير: كان رجل بناحية اليمن ببستان، وكان مؤمناً، وذلك بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، وكان يأخذ منه قدر قوته ويتصدق بالباقي، فمات عن ثلاثة بنين، فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير، وإنما كان أبونا فعل هذا، إذ كان المال كثيرأ والعيال قليلأ، فأما الآن فما نستطيع أن نفعل هذا، فعزموا على حرمان المساكين وتحالفوا بينهم ليغدون قبل خروج الناس فليصر من نخلهم، ولم يقولوا: إن شاء الله، فبعث الله تَعالى بالليل ناراً، فأحرقت، فصارت سوداء، فانطلقوا إلى جنتهم يتشاورون بينهم أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، فلما رأوها محترقة قال: قد ضللنا طريق جنتنا فليست هذه، ثم علموا أن ذلك عقَوبة، فقَالوا: بل نحن محرومون، قد حرمنا تمر جنتنا، فأخذوا يتلاومون على منع حقوق الفقراء.
ومنهم: أهل الغار: أخبرنا عبد الأول بن عيسى قال: أخبرنا الداوودي قال: أخبرنا ابن أعين السرخسي قال: أخبرنا الفربري قال: حدثنا البخارىِ قال: أخبرنا سعيد بن مريم قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة قال: أخبرنا نافع، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله علية وسلم قال: بينما ثلاثة نفر يماشون أخذهم المطر فمالوا إلى غار فىِ الجبل فدخلوه، فانحطت على فم الغار صخرة من الجبل فأطبقَت عليهم الغار،، فقال بعضهم لبعض : انظروا أعمالأ عملتموها صالحه فادعوا الله بها لعله يفرجها. فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ولى صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا أرحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وأنه نأى بي السحر فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله تعالى لهم فُرجة حتى رأوا منها السماء. وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها كأشدّ ما يحب الرجال النساء، فطلبت إليها نفسها، فأبت حتى آتيها ثمانين ديناراً، فسعيت حتى جمعت مائة دينار، فلقيتها بها، فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبد الله، اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا منها، ففرج لهم فرجة.


وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً بفرق أرزٍ ، فلفا قضي عمله، قال: أعطني حقي، فعرضت عليه حقه فتركه ورغب عنه، فلم أزال أزرعه حتى جمعت منه بقراً وراعيها، فجاءني وقال: اتق الله، ولا تظلمني، فأعطني حقي، فقلت: اذهب إلى تلك البقر وراعيها فخذها، فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقلت: إني لا أهزأ بك، فخذ تلك البقر وراعيها، فأخذها وانطلق بها، قال: كنت تعلم إني فعلت ذلك إبتغاء وجهك فافرج عنا ما بقي، ففرج الله عنهم .
ومنهم: الكفل : أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: أخبرنا أسباط مّال: أخبرنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد مولى طلحهَ، عن ابن عمر قال: لقد سمعت عن رسول الله صلى الله علية وسلم حديثاً لم أسمعه لا مرة ولا مرتين، حتى عد سبع مرات، ولكن قد سمعته أكثر من ذلك، قال: كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارأ على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت، فمال: ما يبكيك، أكرهتك. قالت: لا، ولكن هذا عمل لم أعمله قط ، وإنما حملني على ذلك الحاجة، قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ثم نزل فقال: اذهبي والدنانير لك، ثم قال: واللة لا يعصي اللة الكفل أبداً، فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه قد غفر اللّه للكفل "
حديث الأبرص و الأقرع والأعمى
أخبرنا عبد الأول بن عيسى قال: أخبرنا ابن طلحة الداوودي قال: أخبرنا ابن أعين السرخسي قال: أخبرنا الفربرىِ قال: أخبرنا البخاري قال: حدَثنا أحمد بن إسحاق قال: حدًثنا عمرو بن عاصم قال: حدًثنا همام قال: حدَّثنا إسحاق بن عبد الله قال: حدٌثني عَبد الرحمن بن أبي عمرو، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحبٌ إليك قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب، فأعطي لوناً حسنأ و جلدأ حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر شك في ذلك إسحاق في أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر، فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك اللّه لك فيها. وأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا فقد قذرني الناس، قال: فمسحه وذهب وأعطي شعراً حسنأ، قال: فأي المال أحب إليك قال البقر، فأعطاه بقرة حاملًا، قال: يبارك لك فيها. وأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك قال: يرد الله عز وجل بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه، فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك، قال: الغنم، فأعطاه شاة والدأ. فينتج هذا وولد هذا، وكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين تقطعت به الحبال في سفره فلا بلاغ إلا بإذن الله تعالى، ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن بعيراً أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرأ، فأعطاك الله، فقال لقد ورثت كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذبأ فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ذلك ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إِلا بالله وبك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها، فقال: كنت أعمى فردّ الله علي بصري، وفقيراً، فخذ ما شئت، فو الله ما أجهدك اليوم بشيء أخذته هو لله. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، وقد رضي عنك، وسخط على صاحبيك " .
ومن ذلك: حديث العقار. أخبرنا عبد الأول قال: أخبرنا الداوودي قال: أخبرنا ابن أعين قال: حدَثنا الفربري قال: حدثنا البخاري قال: حدَثنا إسحاق بن نصر قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن أمية، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلي الله علية وسلم:


" اشترى رجل من رجل عقاراً، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك، إنما اشتريت منك ولم ابتع ذهباً. وقال له: الذي له الأرض : إنما بعتك الأرض وما فيها فتحاكما إلى رجل، فقال: الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جاريِة. قال: أنكحوا الغلام الجارية، وانفقوا على أنفسهما منَّة وتصدقاً .
ومن ذلك: المستسلف المال: أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدَثني أبي قال: أخبرنا يونس بن محمد قال: حدثنا ليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلي الله علية وسلم " أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسلفه ألف دينار قال: ائتني بشهود أشهدهم. قال: كفى بالله شهيداً. قال: ائتني بكفيل. قال: كفى بالله وكيلاً. قال: صدقت. فدفعها إليه إلى أجل، فخرج في البحر، فقضى حاجته ثم التمس مركبأ يقم عليه لأجل الذي أجله، ولم يجد مركبأ، فأخذ خشبة فنقرها وأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبها ثم رجح موضعها، ثم رمى بها في البحر فقال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت من فلان ألف دينار فسألني كفيلَاَ، فقلت كفى باللّه وكيلاً، فرضي بذلك ، وسألني شهيداً، فقلت كفى بالله شهيداً، فرض بك، وإني قد جهدت أني أجد مركباً أبعث إليه بالذي له، فلم أجد مركبا، وإني قد إستودعتها. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف. وقال: وهو في ذلك يطلب مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبأ قد بماله فإذا الخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبأ، فلما كسرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار، وقال: والله ما زلى جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل هذا الذي جئت فيه قال: بل كنت بعثت إليّ بشيء، قال: ألم أخبرك بأني لم أجد مركباً قبل هذا الذي جئت فيه فإن الله عز وجل قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بمالك راشداً ومن ذلك: حديث العجوزتين : أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا أحمد بن الحسن بن خيرون قال أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان قال: أخبرنا أبو علي عيسى بن مد الطوماري قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن البراء قال: أخبرنا عبد المنعم ابن أدريس، عن أبيه قال: ذكر وهب بن منبه قال : قال أبو هريرة: قال النبي صلي الله علية وسلم " كل الأعاجيب كانت في بني إسرائيل، حدثوا عنهم ولا حرج، فلو حدثتكم حديث العجوزتين لعجبتم، قالوا: حدَّثنا يا رسول الله. قال: كان في بني إسرائيل رجل له امرأة يحبها ومعه أم عجوز كبيرة امرأة صدق، ومع امرأته أم لها عجوز كبيرة امرأة سوء، وكانت تغري ابنتها بأمِ زوجها، وكان زوجها يسمع منها وكان يحبها ، فقالت لزوجها: لا أرضى عنك أبداَ، حتى تخرج عني أمك وكلتا العجوزتين، قد ذهب بصرهما، فلم تدعه حتى خرج بأمه فوضعها في فلاة من الأرض، ليس معها طعام ولا شراب ليأكلها السباع، ثم انصرف عنها، فلما أمست غشيتها السباع فجاءها ملك من الملائكة، فقال لها: ما هذه الأصوات التي أسمع حولك قالت: خير، هذه أصوات بقر وإبل وغنم، قال: خيراً فليكن، ثم انصرف عنها وتركها، فلما أصبحت أصبح الوادي ممتلئاً إبلاً وبقراً وغنمأ، فقال ابنها: لو جئت أمي فنظرت ما فعلت، فجاء فإذا الوادي ممتلىء إبلأ وغنمأ و بقرأ، قال: أي أماه ما هذا. قالت: أي بُني هذا رزق الله وعطاؤه إذ عققَتني وأطعت امرأتك في، فاحتمل أمه وساق معها ما أعطاها الله تعالى من الإبل والبقر والغنم، فلما رجع بها إلى امرأته وبمالها قالت له امرأته والله لا أرضى عنك أو تذهب بأمي فتضعها حيث وضعت أمك فيصيبها مثل ما أصاب أمك، فانطلق بالعجوز فوضعها حيث وضع أمه، ثم انصرف عنها، فلما أمست غشيها السباع وجاءها الملك الذي أرسله الله إلى العجوز قبلها، فقال: أيتها العجوز ما هذه الأصوات التيِ أسمع حولك؟ قالت:


شر، والله وعُر، هذه أصوات سباع تريد أن تأكلني، قال: شر فليكن، ثم انصرف عنها فأتاها سَبْع فأكلها، فلما أصبح قالت له امرأته: اذهب فانظر ما فعلت أمي، فذهب لينظر فلم يجد منها إلا فضل ما ترك السبع، فرجع إلى امرأته، فأخبرها، فحزنت على أمها حزنأ شديداً، وحمل عظامها في كساء حتى وضعها بين يدي ابنتها فماتت كمدأ .
حديث العابد والرمانة : أخبرنا محمد بن عمر الأرموي قال: أخبرنا أبو الحسين بن المهتدي قال: أخبرنا أبو القامسم يحيى بن محمد بن عبد الله بن سلام البزاز قال: حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: أخبرنا الحسن بن علي القطان قال: أخبرنا أبو محفوظ بن أبي توبة قال أخبرنا أبو عبد الله بن صالح قال: حدَثنا سليمان بن هرم القرشىِ، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: خرج إلينا رسول الله صلي الله علية وسلم فقَال: " خرجٍ من عندي خليلي عليه السلام أنفاً. فقال يا محمد والذي بعثك بالحق إن لله عبدا من عباده عبد الله خمسمائة سنة على رأس جبل عرضه وطوله ثلاثون ذراعاً والبحر محيط به أربعة آلاف فرسخ من كل ناحية فأخرج الله له عيناً عذبة بعرض الإصبع يبض بماء عذب، وتسفح في أسفل جبل وشجرة رمَّان تخرج له في كل يوم رمانة فتغذيه يومه، فإذا أمسى نزل وأصاب من الوضوء وأخذ من تلك الشجرة الرمانة فأكلها ثم قام إلي الصلاةَ، فسأل ربه عز وجل عند وقت الأجل أن يقبضه ساجداً، وأن لا يجعل للأرض ولا لشيء يفسده عليه سبيلاً حتى يبعثه وهو ساجد، ففعل ونحن نمر إذا هبطنا وإذا رجعنا فنجده في العلم يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله فيقول الرب تعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: رب بعملي، فيقول: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: بل بعملي، فيقول الله تعالي أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: رب بل بعمليِ، فيقول الله تعالى للملائكة قايسوا عبدي بنعمتي كلها فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمس مائة سنة وفي الجسد فضلأ عليه فيقول: أدخلوا عبدي النار قال: فَيُجر إلى النار فيقول: يا رب برحمتك أدخلني الجنة، فيقول ردوا عبدي فيوقف بين يدي الله عز وجل، فيقول عبدي من خلقك ولم تك شيئاً فيقول: أنت يارب فيقول أكان ذلك من قبلك برحمتي، فيقول بل برحمتك، فيقول: من قواك لعبادة خمس مائة سنة، فيقول: أنت يا رب، فيقول من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح، وأخرج لك كل يوم رمانة، وإنما يخرج مرة في السنة، وسألتني أن أقبضك ساجداً ففعلت ذلك برحمتي، أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فنعم العبد كنت يا عبدي فأدخله الله الجنة، وقال جبريل عليه السلام إنما الأشياء برحمة الله تعالى يا محمد.


عابد من الرهبان : حدًثنا المبارك بن علي الصيرفي من لفظه قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن عمر السمرقندي قال: أخبرنا أحمد بن عبد الواحد قال: حدثنا جدي أبو بكر محمد بن جعفر السامري قال: أخبرنا إبراهيم بن الجنيد قال: حدثنا أبن طفر قال: حدثنا سليمان الضبعي، عن عبد الصمد بن معقل بن منبه، عن عمه وهب بن منبه قال: كان عابد من عباد بني إسرائيل يعبد الله دهراً طويلًا في صومعته فعف، وزهد حتى شكته الشياطين إلى إبليس، فقالوا: فلان قد أعيانا لا نصيب منه شيئاً، قال: فانتدب له إبليس بنفسه، فأتاه فضرب ديره، فقال: مَنْ هذا؟ قال: ابن سبيل، افتح لي حتى آوي الليلة في ديرك. قال له العابد: هذه قرى منك غير بعيدة، مل إلى بعضها فائوِ إليها، قال: اتق الله وافتح لي فإني أخاف اللصوص، والسباع، قال: ما أنا بالذي أفتح لك فسكت إبليس، ثم ضرب باب الدير، فقال: افتح لي، قال: مَنْ هذا؟ قال: أنا المسيح قال: إن تكن المسيح فليس لك لي حاجة فقد بلغت رسالات ربك فموعدك الآخرة، فسكت إبليس، ثم ضرب ديره، فقال: افتح لي قال: من أنت؟ قال: أنا إبليس، قال: ما أنا بالذي أفتح لك، فقال إبليس: لك ما لله، ولك وجعل يعاهده لا أعمل في مضرة أبداً أفتح ، قال: فنزل ففتح له الباب، وصعد إبليس فجلس بين يديه فقال: سلني عما شئت أخبرك، فقال: ما لي إليك حاجة، قال: فقام إبليس فولى فناد أقبل، فقد بدا لي أن أسألك، قال: سل ، قال: أي شيء أهون لكم في هلك ابن آدم؟ قال: السكر، فإنه إذا أسكر ابن آدم لم يمتنع منا من شيء نريده ثم لعبنا به كما يلعب الصبيان بالكرة، قال: وماذا؟ قال: الحدة لو أن ابن آدم بلغ في عبادة الله تعالى، ما يحيي الموتى بإذن الله ما يئسنا أن نصيبه في بعض غضبه قال: وماذا؟ قال: والبخل، قال: يأتي ابن آدم فنقلل نعمة الله عنده، ونكثر ما في أيدي الناس عنده حتى يبخل بحق الله في ماله فيهلك.
عابدان أخوان من بني إسرائيل : أنبأنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سلمان قال: أخبرنا أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن محمد بن شاذان قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إسحاق بن منجاب قال: أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن شاكر الريحاني قال: حدثنا الحسن بن عبد العزيز الجروي قال: أخبرنا أبو حفص النابلسي قال: أخبرنا أبو معبد قال : سمعت بلال بن سعد يقول: كان أخوان في بني إِسرائيل خرجا يتعبدان، فلما أرادت الطريق أن تفرق بينهما، قال أحدهما لصاحبه: خذ أنت في هذا الطريق وآخذ أنا في هذا الطريق، فإذا كان رأس السنة فهو الموعد بيني وبينك، فخرجا يتعبدان، فلما دنا رأس السنة اجتمعا في ذلك الموضع فقال أحدهما لصاحبه: أي ذنب فيما عملت أعظم؟ قال: بينما أنا أمشي على الطريق إذا بسنبلة فأخذتها فألقيتها في إِحدى الأرضين أرض عن يميني وأرض عن شمالي، فلا أدري هي الأرض التي ألقيتها فيها أم الأخرى، ثم قال المسؤول للسائل: أي ذنب فيما عملت أعظم، قال: كنت أقوم في الصلاة فأميل مرة على هذه الرجل ومرة على هذه الرجل فلا أدري أكنت أعدل بينهما أم لا فسمعهما أبوهما من داخل الدار، فقال: اللهم إن كانا صادقين فأمتهما فخرج فإذا بهما قد ماتا.، ثلاثة من عباد بني إسرائيل : أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال: أخبرنا شجاع بن فارس قال: أخبرنا أبو طالب العشاري قال: أخبرنا أحمد بن محمد العلاف قال: أخبرنا صفوان قال: أخبرنا أبو بكر القرشي قال: حدًثنا أزهر بن مروان قال: أخبرنا جعفر بن سليمان قال: أخبرنا أبو عمران الجنوني، عن عبد الله بن رياح الأنصاري، عن كعب قال: اجتمع ثلاثة عباد من بني إسرائيل، فقالوا: تعالوا نذكر كل واحد منا أعظم ذنب عمله، فقال أحدهم: أما أنا فلا أذكر من ذنب أعظم من أني كنت مع صاحب لي فعرضت لي شجرة، فخرجت عليه ففزع مني، وقال: الله بيني وبينك. وقال أحدهم: إنا معشر بني إسرائيل إذا أصاب أحدنا بول قطعه، فأصابني بول فقطعته فلم أبالغ في قطعه. وقال أحدهم: كانت لي والدة، فدعتني من قبل شمال الريح فأجبتها ولم تسمع فجاءتني مغضبة فجعلت، ترميني بالحجارة فأخذت عصا وجئت لأقعد بين يديها تضربني بها حتى تنزفني ففزعت مني فأصاب وجهها شجرة فشجتها، فهذا أعظم ذنب عملته.


عابد من بني إسرائيل : أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا أحمد بن أحمد الحداد قال: أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر قال: حدثنا علي بن إسحاق قال: أخبرنا حسين بن الحسن المروزي،قال: حدثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا بكار بن عبد الله انه سمع وهب بن منبه يقول: كان رجل من أفضل أهل زمانه، وكان يزار فيعُظهم، فاجتمعوا إليه ذات يوم، فقال: إنا قد خرجنا من الدنيا وفارقنا الأهل والأموال مخافة الطغيان، وقد خفت ذلك أن يكون قد دخل علينا في حالنا هذه من الطغيان أكثر مما يدخل على أهل الأموال في أموالهم إن أحدنا يحب أن يقضى له حاجته، فإن اشترى أحدنا بيعاً أن يقارب لمكان دينه، وإن لقي حق ووقف بمكان دينه فشاع ذلك الكلام حتى بلغ الملك، فعجب به الملك فركب إليه ليسلم عليه أو ينظر إليه،، فلما رآه الرجل قيل له هذا الملك: قد أتاك ليسلم عليك، فقال: وما نصنع؟ فقيل: الكلام الذي وعظت به، فسأل رده هل عندك طعام، فقال شيء من تمر الشجر، فما كنت تفطر به وامرأتي معي على مسح فوضع بين يديه فأخذ يأكل منه ، وكان يصوم النهار ولا يفطر، فوقف عليه الملك فسلم عليه فأجابه خفية، وأقبل على طعامه، يأكله، فقال الملك: فأين الرجل قيل له هو هذا الذي يأكل قال: نعم، قال: فما عند هذا من خير: فأدبر، فقال الرجل: الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك. وفي رواية: إنه قدم له بقل وزيت وحمص فجعل يجمع من البقول والطعام ويطعم اللقمة ويغمسها في الزيت فيأكل أكلًا عنيفاً، فرآه الملك فذهب عنه.
عابد آخر منهم : أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي قال: أخبرنا عبد الله بن حامد الوراق قال: حدثنا أبو حامد بن جعفر قال: حدثنا علي بن محمد بن فهيد قال: حدثنا إسحاق بن رزيق قال: حدثنا إسماعيل ابن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: كان في بني إسرائيل عابد فلبث سبعاً لم يطعم هو وعياله شيئاً. فقالت له امرأته: لو خرجت وطلبت لنا شيئاً. فخرج فوقف مع العمال فاستؤجر العمال، وصرف اللّه، عنه الرزق، فقال: والله لأعملنّ اليوم مع ربي، فجاء إلى ساحل البحر فاغتسل وما زال ، راكعاً وساجداً، حتى إذا أمسى أتى أهله، فقالت له امرأته: ماذا صنعت، فقال: قد عملتَ مع أستاذي، وقد وعدني أن يعطيني، ثم غدا إلى السوق ، فوقف مع العمال، فاستؤجر العمال وصرف الله، عنه الرزق، ولم يستأجره أحد، فقال: والله لأعملن اليوم مع ربي، فجاء إلى ساحل البحر فاغتسل، وما زال راكعاً وساجداً حتى إذا أمسى أقبل إلى منزله، فقالتَ له امرأته: ماذا صنعت، قال: إن أستاذي قد وعدني أن يجمع لي أجري، فخاصمته امرأته، وبرزت عليه، فلبث يتقلب ظهراً لبطن وبطناً لظهر، وصبيانه يتضاغون جوعاً، ثم غدا إلى السوق فاستؤجر العمال، وصرف عنه الرزق، ولم يستأجره أحد، فقال: والله لأعملن مع ربي، فجاء إلى ساحل البحر، فاغتسل وما زال راكعاً وساجداً، حتى إذا أمسى، قال: أين أمضي، تركت أقواماً يتضاغون جوعاً، ثم تحمل على جهد منه، فلما قرب من داره، سمع ضحكاً وسروراً، وسمع رائحة قديد ورائحة شواء، فأخذ على بصره وقال: أنائم أنا أم يقظان ؟ تركت أقواماً يتضاغون جوعأً، و أشم رائحة قديد ورائحة شواء، وأسمع ضحكاً وسروراً، دنا من الباب فطرق الباب، فخرجت امرأته حاسرة وقد حسرت عن ذراعيها وهي تضحك في وجهه، ثم قالت: يا فلان قد جاءنا رسول أستاذك بدنانير، ودراهم وكساء، وودك ودقيق، وقال: إذا جاء فلان فأقرئوه السلام وقولوا له: إن أستاذك يقول لك: رأيت عملك فرضيته، فإن أنت زدتني في العمل زدتك في الأجرة.


حديث يرخ : أخبرنا ابن المبارك بن علي الصيرفي قال: أخبرنا أحمد بن الحسن بن طاهر البيع قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثنا ابن رزقويه قال: أخبرنا عثمان بن أحمد قال: أخبرنا ابن البراء قال: حدثني الفضل بن حازم قال: حدثني يوسف بن غزولا اللخمي قال: حدثني مخلد بن ربيعة الربعي ، عن كعب قال: قحطت بنو إسرائيل على عهد موسى، فسألوه أن يستسقي لهم فقال اخرجوا معي إلى الجبل، فخرجوا، فلما صعد الجبل قال موسى: لا يتبعني رجل أصاب ذنباً، قال: فانصرف أكثر من نصف القوم ، ثم قال: الثانية لا يتبعني من أصاب ذنباً، فانصرفوا جميعا إلا رجل أعور، يقال له يرخ العابد، فقال له موسى: ألم تسمع ما قلت. قال: بلى قال: فلم تصب ذنبآ قال: ما أعلمه إلا شيئاً أذكره، فإن كان ذنباً رجعت، قال: ما هو؟ قال: مررت في طريق فرأيت باب حجرة مفتوح، فلمحت بعيني هذه الذاهبة شخصاً لا أعلم ما هو، فقلت لعيني أنت من بين يدي سارعت إلى الخطيئة لا تصحبيتي بعدها، فأدخلت إصبعي فيها فقلعتها، فإن كان هذا ذنباً رجعتَ، فقال موسى عليه السلام: ليس هذا ذنباً. ثم قال: إستسق يا يرخ، قال: قدوس قدوس، ما عندك لا ينفد وخزائنك لا تفنى، وأنت بالبخل لا ترضى، فما هذا الذي لا يعرف به اسقنا الغيث الساعة الساعة، قال: فانصرفا يخوضان الوحل.
قال مؤلف الكتاب: وقد روينا نحو هذه الحكاية فيما تقدم وأنها جرت لعيسى ابن مريم عليه السلام.
تائب من بني إسرائيل: أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الفقيه قال: أخبرنا محمد بن الحسين الجازري قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: أخبرنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القاضي قال: حدثنا يحيى بن صالح الوحاطي قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد الحضرمي ، عن كعب الأحبار: إن رجلأ من بني إسرائيل أتى فاحشة، فدخل نهراً يغتسل فيه، فناداه الماء يا فلان ألم تستحي ألم تتب من هذا الذنب، وقلت: إنك لا تعود فيه فخرج من الماء فزعاً وهو يقول: لا أعصي اللّه عز وجل، فأتى جبلأ فيه اثنا عشر رجَلَا يعبدون الله تعالى فلم يزل معهم حتى قحط موضعهم، فنزلوا يطلبون الكلأ، فمروا على ذلك النهر، فقال لهم الرجل: أمَّا أنا فلست بذاهب معكم، قالوا: لم؟ قال: لأن ثم من قد أطلع مني على خطيئه فأنا أستحي منه أن يراني، فتركوه، ومضوا فناداهم النهر، يا أيها العُباد، ما فعل صاحبكم، قالوا: زعم لنا، أن ها هنا من قد، اطلع منه على خطيئة فهو يستحي منه أن يراه، قال: يا سبحان الله، إن بعضكم يغضب على ولده أو على بعض قراباته، فإذا تاب ورجع إلى ما يحب أحبه وإن صاحبكم قد تاب ورجع إلى ما أحب، فأنا أحبه، فأتوه فأخبروه واعبدوا الله على شاطىء النهر فأخبروه ، فجاء معهم، فأقاموا يعبدون الله زماناً، ثم إن صاحب الفاحشة توفي، فناداهم النهر: يا أيها العُباد، غسلوه من مائي، وادفنوه على شاطئي حتى يبعث يوم القيامة مِن قربي، ففعلوا ذلك به، وقالوا: نبيت ليلتنا هذه على قبره لنبكي فإذا أصبحنا سرنا، فباتوا على قبره يبكون، فلما جاء وجه السحر غشيهم النعاس، فأصبحوا وقد أثبت اللّه عز وجل على قبره اثنتي عشرة سروة، وكان أول سرو أنبته اللّه عز وجل على وجه الأرض، فقالوا: فما أنبت اللهّ هذا الشجر فىِ هذا المكان، إلا وقد أحب عبادتنا فيه، فأقاموا يعبدون اللّه على قبره، كلما مات فيهم رجل دفنوه إلى جانبه، حتى ماتوا بأجمعهم. قال كعب: فكانت بنو إسرائيل يحجون إلى قبورهم رحمة الله عليهم.


قصّار من بني إسرائيل : أنبأنا أحمد بن أحمد بن موسى الصيرفي قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الأصفهاني قال: حدثنا أبو بكر القرشي قال: حدثني الحسن بن الصباح قال: حدثنا زيد بن الحباب قال: أخبرنا محمد بن سبط قال: حدثنا بكر بن عبد الله المزني: أن قصاراً ولع بجارية لبعض جيرانه، فأرسلها أهلها إلى حاجة لهم في قرية أخرى، فتبعها، فراودها عن نفسها، فقالت: لا تفعل لأنا أشد حباً لك منك، ولكني أخاف الله. فقال: فأنت تخافينه وأنا لا أخافه فرجع ثانية فأصابه العطش حتى كاد يتقطع عنقه، فإذا هو برسول الله لبعضر بني إسرائيل، فسأله، فقال: ما لك. قال: العطش قال: تعال حتى تدعو، حتى تظلنا سحابة حتى ندخل القرية قال: ما لي عند الله عمل فأدعو قال: فأدعو أنا، وأمِّن أنت. قال: فدعا الرسول وأمًن هو فأظلتهم سحابة، حتى انتهوا إلى القرية، فأخذ القصار إلى مكان فمالت السحابة عليه، فرجع الرسول فقال: زعمت أن ليس لك، عمل وأنا الذي دعوت وأنت الذي أمنت، فأظلتنا سحابة، ثم تبعتك لتخبرني ما أمرك، فأخبره فقال الرسول: التائب إلى الله بمكان ليس أحد من الناس بمكانه.
عابدة من بني إسرائيل يقال لها سارة : أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال: أخبرنا أحمد بن علي الثوري قال: أخبرنا عمر بن ثابت قال: أخبرنا علي بن أحمد بن أبي قيس قال: أخبرنا أبو بكر القرشي قال: أخبرنا عبد الله بن رومي قال: أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم، جمن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: أتي بامرأة من بني إسرائيل يقال لها سارة وسبعة بنين لها إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنزير فدعا أكبرهم فقرَّب إليه لحم الخنزير، فقال: كُل، فقال: ما كنت لآكل شيئاً حرَّمه الله عز وجل أبداً، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه، ثم قطعه عضو عضوآ حتى قتله، ثم دعا بالذي يليه فقال: كُل، فقال: ما كنت لأكل شيئاً حرمه الله تعالى، فأمر بقدر من نحاس فملئت زيتاً ثم أغليت حتى إذا غلت ألقاه فيها، ثم دعا الذي يليه، فمال: كُل، فقال: ما كنت لآكل شيئآ حرمه الله تعالى، فقتله، ثم دعا الذي يليه ، فقال: أنت أذل وأقل وأهولن على الله من أن آكل شيئآ حرمه الله تعالى علي فضحك الملك، ومال: أتدرون ما أراد بشتمه إياي، أراد أن يغضبني، فأعجل في قتله وليخطئه ذلك وأمر به، فجز جلدة عنقه، ثم أمر به أن يسلخ جلدة رأسه ووجهه فسلخوه سلخاً، فلم يزل يقتل كل واحد منهم بلون غير قتل أخيه حتى بقي أصغرهم، فالتفت به إلى أمه، فقال: لقد رثيت لك مما رأيت فانطلقي بابنك هذا فاخلي به وانقذيه على أن يأكل لقمة واحدة فيعيش لك قالت: نعم، فخلت به، فقالت: أي بني إنه كان لي على كل رجل من إخوتك حق، ولي عليك حقان.، وذلك إني أرضعت كل واحد حولين، فمات أبوك وأنت حمل، فأرضعتك لضعفك ورحمتي إياك أربعة أعوام فاسألك بالله وحقي أما صبرت ولم تاكل شيئآ مما حرمه الله عليك ولا تلقين أخوتك يوم القيامة، ولست معهم، فقال: الحمد له الذي أسمعني هذا منك، أما كنت أخاف أن تريديني على أن آكل مما حرمه الله، ، ثم جاءت به إلى الملك فقالت: ها هو ذا قد أردته وعرضت عليه فأمره الملك أن يأكل، فقال: ما كنت لآكل شيئآ حرمه الله علي، فقتله وألحقه بأخوته، وقال لأمهم: إني لأجدني أرثي لك، فما رأيت اليوم، ويحك، فكلي لقمة ثم أصنع بك ما شئت وأعطيك ما أحببت تعيشين به،. قالت: ما أجمع بين ثكل ولدي ومعصية الله عز وجل، فلو حييت بعدهم ما أردت ذلك، وما كنت لآكل شيئآ مما حرمه الله تعالى أبداً فقتلها وألحقها ببنيها.


عقوبة كذاب على موسى عليه السلام : أخبرنا علي بن محمد بن حسنون قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا ابن صفوان قال: حدثنا أبو بكر القرشي قال: حدثنا أبو محمد السمسار قال: أخبرنا محمد بن كثير البصري قال: حدثنا عبيد بن واقد القيسي عن عثمان بن عبد الله ، عن رجل من أهل العلم قال: كان رجل يخدم موسى عليه السلام، ويتعلم منه، قال: فاستأذنه أن يرجع إلى قريته ثم يعود إليه، فأذن له فانطلق، فجعل يقول: حدثني موسى كليم الله بكذا وكذا، وحدثني نجي الله بكذا حتى كثر ماله، وجعل موسى عليه السلام يسأل عنه، ولا يخبر بشيء فبينما موسى عليه السلام قاعد إذ مر َّبه رجل يقود خزراً في عنقه حبل والخزر لإرنب الذكر فقال: يا عبد الله من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من قرية كذا وكذا، من قرية الرجل قال: فتعرف فلانآ؟ قال: نعم، هو الذي في يدي، قال موسى: يأ رب رده إلى حاله حتى أسأله فيما صنعت به هذا، فأوحى الله تعالى إليه لو سألني آدم فمن دونه من النبيين حتى بلغ محمداً صلي الله علية وسلم لم أرده إِلى حاله، وإنما صنعت به هذا لأنه كان يطلب الدنيا بالدين.
ذو الرجل : أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ومحمد بن ناصر قالا: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني محمد بن المرزبان قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنى محمد بن الحسن عن داود بن أبي الرياد، عن أبيه قال: كان راهب يتعبد في صومعة فأشرف منها فرأى امرأة ففتن بها، فأخرج رجله من الصومعة لينزل إليها، فلما أخرج رجله نزلت عليه العصمة وأدركته السعادة فقال: يا لنفس رجل خرجت من الصومعة لتعصي الله يعود إليها ويكون في صومعتي معي، والله لا كان هذا أبداً، قال: فتركها معلقة خارج الصومعة يسقط عليها الثلوج والأمطار وتصيبها الشمس والرياح حتى تقطعت وتناثرت وسقطت ، فشكر الله ذلك من فعله، و نزل في بعض الكتب وذو الرجل يمدحه بذلك.
حديث بغي من بني إسرائيل : أخبرنا عبد الملك بن عبد الله الكروخي قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن علي العميري قال: أخبرنا محمد بن أحمد الفامي قال: أخبرنا محمد بن أحمد المرواني قاد: حدثنا محمد بن المنكدر قال: حدثني الفضل بن عبد الجبار الباهلي قال: أخبرنا إبراهيم بن الأشعث قال: أخبرنا المعمر بن سليمان. قال: سمعت أبا كعب يحدث عن الحسن قال: كانت امرأة بغي لها ثُلث الحسن لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار وإنه أبصرها عابد، فأعجبته فذهب، فعمل بيديه وعالج فجمع مائة دينار فجاء فقال: إنك قد أعجبتني فانطلقت فعملت بيدي وعالجت حتى جمعت مائة دينار، فقالت: ادفعها إلى القهرمان حتى ينقدها ويزنها ففعل فقالت: أنقدت منه مائة دينار، قال: نعم، قالت: ادخل، وكان لها من الجمال والهيئة ما الله أعلم به، وكان، لها بيت مُنَجَّد وسرير من ذهب، فقالت: هلم إلي، فلما جلس منها مجلس الرجل الخائن ذكر مقامه بين يدي الله عز وجل، أخذته رعدة، وماتت شهوته، فقال: اتركيني أخرج ولك مائة دينار، قالت: ما بدا لك، وقد رأيتني كما زعمت فأعجبتك فذهبت وعالجت وكددت حتى جمعت مائة دينار، فلما قدرت عليَّ فعلت الذي فعلت، قال: فرق من الله ومقامي بين يديه وقد بغضت إلي، قالت: لئن كنت صادقآ ما لي زوج غيرك، قال: ذريني لأخرج. قالت: لا إلا أن تجعل لي عهداً أن تتزوجني قال: لا، حتى أخرج. قالت: خَلِّ عليك، إني أحب أن تتزوجني، قال: لعل، قال: فيقبع بثوبه ثم خرج إلى بلده، وارتحلت الأخرى بدنياها نادمة على ما كان منها، حتى قدمت بلده، فسألت عن اسمه ومنزله، فدُنت عليه، فقيل له: الملكة جاءت تسأل عنك، فلما رآها شهق شهقة فمات، قال: فأسقط في يديها، فقالت: أما هذا فقد فاتني، فهل له من قريب، قيل أخوه فقير، فحضر، قالت: إني أتزوجك بحب أخيك قال: فتزوجته، فولدت له سبعة أبناء.


حديث بغي أخرى : أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي قال: أنبأنا أبو الحسين الزينبي قال: حدثنا ابن المرزبان قال: حدثني أبو أحمد الخراساني قال: حدثني أحمد بن أبي نصر قال: حدثنا إبراهيم بن خالد قال: حدثني أمية بن شبل عن عبد الله بن وهب قال إبراهيم: لا أراه إلا عن أبيه: إن عابداً من عُباد بني إسرائيل، كان يتعبد في صومعته، فجاء نفر من الغواة إلى امرأة بغي، فقالوا لها: لعلك تزيلينه فجاءته في ليلة مظلمة فنادته فأشرف عليها، فقالت له: يا عبد الله آوني إليك أما ترى الظلمة والمطر فلم تزل به حتى آواها، فاضطجعت قريباً منه، فجعلت تريه محاسن وجهها حتى دعته نفسه إليها فقال: لا والله حتى أنظر كيف صبرك على النار، فتقدم إلى المصباح فوضع إصبعاً من أصابعه فيه حتى احترقت، ثم عاد إلى صلاته، فدعته نفسه أيضاً، وعاود المصباح فوضع إصبعه الأخرى حتى احترقت، فلم تزل نفسه تدعوه وهو يعود إلى المصباح، حتى احترقت أصابعه جميعاً وهي تنظر فضعفت المرأة فماتت .
حديث عفيف منهم عن المعاصي : أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو إسحاق البرمكي قال: أخبرنا أبو الحسين الزينبي قال: أخبرنا ابن المرزبان قال: أخبرني أحمد بن حرب قال: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثني أبو عبد الله البلخي: أن شابآ كان في بني إسرائيل لم يُر شاب قط أحسن منه، وكان يبيع القفاف، فبينما هو ذات يوم يطوف بقفافه خرجت امرأة من دار ملك من ملوك بني إسرائيل فلما رأَته رجعت مبادرة، فقالت لابنة الملك: يا فلانة، إني رأيت شاباً يبيع القفاف، لم أر شيئاً أحسن منه، قالت: أدخليه فخرجت إليه، فقالت: يِا فتى أدخل، لنشتر منك، فدخل، فأغلقت الباب دونه، ثم قالت: ادخل، فدخل فأغلقت باباً آخر دونه، ثم استقبلته بنت الملك كاشفة عن وجهها ونحرها، فقال لها: اشتري عافاك الله، قالت: إما لم ندعك لهذا، إنما دعوناك لكذا يعني المراودة عن نفسه فقال لها: اتقي اللُّه، مّالت له: إِنك إن لم تطاوعني على ما أريد أخبرت الملك انك إِنما دخلت علِى تكابدني على نفسي قال: فأبى ووعظها فأبت فقال: ضعوا لي وضوءآ فقالت: أعليَّ نعلك، يا جارية ضعوا له وضوءآ فوق الجوسق مكان لا يستطيع أن يفرمنه ومن الجوسق إلى الأرض أربعون ذراعأ، فلما صار إلى أعلى الجوسق، قال: اللهم إني دعيت إلى معصية وأنا أختار أن أضر نفسي فألقيها من هذا الجوسق ولا أركب المعصية ثم قال: بسم الله وألقى نفسه من أعلى الجوسق فأهبط الله له ملك، فأخذ بضبعه فوقع قائماَ على رجليه، فلما صار إلى الأرض قال: اللهم إن شئت رزقتني رزقَاً يغنيني عن هذا القفاف قال: فأرسل الله إليه جراداً من ذهب فأخذ منه حتى ملأ ثوبه، فلما صار في ثوبه قال: اللهم إن كان هذا رزقاً رزقتنيه في الدنيا فبارك لي فيه، وان كان ينقصني مماّ لي عندك من الآخرة فلا حاجه لي فيه فنودي إن هذا الذي أَعطيناك جزء من خمسة وعشرين جزءاً لصبرك على إلقائك نفسك من هذا الجوسق، قال: اللهم لا حاجة لي فيما ينِقصني مما عندك في الآخرة قال: فرفع.


خبر ملك متزهد : أخبرنا هبة الله محمد بن الحصين قال: أخبرنا الحسن بن علي التميمي قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا المسعودي، عن سماك حرب، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه عن عبد الله بن مسعود ، قال: بينما رجل ممن كان قبلكم في مملكته فتفكر فعلم أن ذلك منقطع عنه، وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة الله، فانساب ذات ليلة من قصره فأصبح في مملكة غيره، فأتى ساحل البحر فكان يضرب اللبن بالأجر، فيأكل ويتصدق بالفضل من قوته، ، فلم يزل كذلك حتى رفع أمره إلى ملكهم، فأرسل ملكهم إليه أن يأتيه فأبى، فعاد إليه الرسول فأبى وقال: ماله وما لي، فركب الملك، فلما رآه الرجل ولّى هاربأ، فلما رأى ذلك الملك ركض في أثره فلم يحركه، فناداه: يا عبد الله، إنه ليس عليك مني بأس، فأقام حتى أدركه، فقال له: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا فلان ابن فلان صاحب ملك كذا وكذا، ففكرت في أمري فعلمت أن ما أنا فيه منقطع عني، وأنه قد شغلني عن عبادة ربي فتركته وجئت ها هنا أعبد ربي عز وجل، قال: ما أنت، بأحوج إلى ما صنعت مني. ثم نزل عن دابته فأطلقها ثم تبعه، فكانا جميعاً يعبدان الله عز وجل، فدعَوا الله أن يميتهما، فماتا. قال عبد الله: فلو كنت برميلة مصر لأريتكم قبريهما بالنعت الذي نعت لنا رسول صلي الله علية وسلم.
حديث ابن ملك متزهد منهم: أخبرنا محمد بن عبيد الله البضاوي، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين بن أخي ميمي، قال: أ خبرنا أبو علي بن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: أخبر مروان معاوية بن عمرو، قال: أخبرنا أبو بكر العجلي، قال: أخبرنا، أبو عقيل الدورقي، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: كان رجل من ملوك بني إسرائيل قد أعطي طول عمر وكثرة مال وكثرة أولاد، وكان أولاده إذا كبر أحدهم لبس ثياب، الشعر، ولحق بالجبال، وأكل من الشجر، وساح في الأرض حتى يأتيه الموت، ففعل ذلك جماعتهم حتى تتابع بنوه على ذلك، فأصاب ولداً بعد كبر، فدعا قومه وقال: إني أصبت ولداً بعدما كبرت، وترون شفقتي عليكم، وإني أخاف أن يتبع هذا، سنة إخوته، وأنا أخاف إن لم يكن عليكم أحد من ولدي بعدي، فبنوا له حائطاً فرسخاً في فرسخ، فكان فيه دهراً من دهر. ثم ركب يوماً فإذا عليه حائط مصمت، فقال: إني أحسب أن خلف هذا الحائط أناساً وعالماً آخر، فأخرجوني أزدد علماً وألقى الناس. فقيل ذلك لأبيه، ففزع وخشي أن يتبع سنة إخوته، فقال: اجمعوا عليه كل لهو ولعب، ففعلوا ذلك. ثم ركب في السنة الثانية، فقال: لا بد من الخروج، فأخبر بذلك الشيخ، فقال: أخرجوه، فحمل على عجلة وكلل بالزبرجد والذهب، وصار حوله حافتان من الناس. فبينا هو يسير إذا هو برجل مبتلى، فقال: ما هذا ؟ قالوا: رجل مبتلى، فقال: أيصيب ناساً دون ناس أو كلَّ خائف له ؟ قالوا: كل خائف له ، قال: وأنا فيما أنا فيه من السلطان؟ قالوا: نعم، قال: أفّ لعيشكم هذا، هذا، عيش كدر. فرجع مغمومأ محزوناً ، فقيل لأبيه، فقال: انشروا عليه كل لهو وباطل حتى تنزعوا من قلبه هذا الحزن والغمِ. فلبث حولاَ، ثم قال: أخرجوني، فأخرج على مثل حاله الأول، فبينا هو يسير إذا هو برجل قد أصابه الهرم ولعابه يسيل من فيه، فقال: ما هذا. قالوا: رجل قد هرم، قال: يصيب ناساً دون ناس، أو كلَّ خائف له إن هو عُمِّر؟ قالوا: كل خائف له ، قال: أفٍّ لعيشكم هذا، هذا، عيش لا يصفو لأحد، . فأخبر بذلك أبوه، فقال: احشروا عليه كل لهو وباطل. فحشروا عليه. فمكث حولاً ثم ركب على مثل حاله. فبينا هو يسير إذا هو بسرير تحمله الرجال على عواتقها، فقال: ما هذا ؟ قالوا: رجل مات، قال لهم: وما الموت؟ ائتوني به، فأتوه به، فقال: أجلسوه، فقالوا: إنه لا يجلس، قال: كلموه؟ قالوا: إنه لا يتكلم. قال: فأين تذهبون به، قالوا: ندفنه تحت الثرى، قال: فيكون ماذا بعد هذا ؟ قالوا: الحشر، قال: وما الحشر؟ قالوا:


" يوم يقوم الناس لرب العالمين " حفاة عراة مكشفي الرؤوس ، فيجزى كل واحد على قدر حسناته وسيئاته، قال: ولكم دار غير هذه تجازون فيها ؟ قالوا: نعم، فرمى بنفسه من الفرس وجعل يعفر وجهه في التراب وقال لهم: من هذا كنت أخشى، كاد هذا يأتي عليّ ، وأنا لا أعلم به، أمَا وربّ من يعطي ويحشر ويجازي، إن هذا آخر الدهر بيني وبينكم، فلا سبيل لكم عليّ بعد هذا اليوم، فقالوا: لا ندعك حتى نردّك إلى أبيك. قال: فردّوه إلي أبيه، وقد كاد ينزف دمه، فقال له: يا بنيَّ، ما هذا الجزع؟ قال: جزعي ليوم يجازى فيه الصغير والكبير على ما عملا من خير وشر. فدعا بثياب من الشعر فلبسها، وقال: إني عازم في الليل أن أخرج. فلما كان في، نصف الليل، أو قريباً منه خرج، فلما خرج من باب القصر، قال: اللهم إني أسألك أمراً ليس لي منه قليل ولا كثير، وقد سبقت فيه المقادير. إلهي لوددت أن الماء كان في الماء، وأن الطين كان في الطين، ولم أنظر بعيني إلى الدنيا نظرة واحدة. قال بكر بن عبد الله: فهذا رجل خرج من ذنب واحد، لا يعلم ما عليه فيه ، فكيف بمن يذنب وهو يعلم بما عليه، ولا يتحرج ولا يجزع ولا يتوب .
حديث أنطونس السائح: أخبر عبد الله بن علي المقري، قال: أخبرنا طراد بن محمد الزينبي، قال: أخبرنا علي بن محمد بن بشران، قال: حدثنا الحسين بن صفوان، قال: حدَّثنا أبو بكر القرشي، قال: ذكروا أن ملكاً بعد زمان المسيح عاش ثلاثمائة وعشرين سنة، فلما حضرته الوفاة بعث إلى ثلاثة نفر من عظماء أهل، مملكته، فقال لهم: قد نزلتم بي ما ترون وأنتمِ رؤوس أهل مملكتكم، ولا أعرف أحداً أولى بتدبير رعيتكم منكم، وقد كتبت عهداَ جعلته إلى ستة نفر من خياركم ليختاروا رجلًا منكم لتدبير مملكتكم، فسلموا ذلك لمن اجتمع عليه ملأكم، وإياكم والاختلاف فتهلكون أنفسكم ورعيتكم، فقالوا: بل يمن الله علينا بطول مدتك، فقال: دعوا هذه المقالة واقبلوا على ما وصفت لكم، فلم تمض غير ليلة حتى هلك، فدب أولئك الثلاثة إلى الستة، فصار كل رجلين من الستة يدعوان إلى رجل من الثلاثة، فلما رأى ذلك حكماؤهم قالوا: قد افترقت كلمتهم وبحضرتكم من لا يتهم في حكمه فمن أشار إليه منكم، سلمتم هذا الأمر له، وكان بحضرتهم رجل سائح يقال له انطونس في غار معروف قد تخلى عن الدنيا، فاجتمعت كلمتهم على الرضا بمن أشار إليه السائح، فوكلوا بالمملكة رجلاً من الستة وانطلق الثلاثة إليه يقصون عليه قصتهم، فقال: ما أرى أني انتفعت باعتزالي عن الناس، ومثلي


كمثل رجل كان في منزل غشيه فيه الذباب، فتحول إلى منزل فغشيه فيه الأسد، فقالوا: وما عليك أن تشير إلى أفضلنا في نفسك؟ قال: ما علمي بأفضلكم وأنتم جميعاً تطلبون أمراً واحداً، وأنتم فيه سواء. فطمع بعضهم إن هو أظهر الكراهية للملك أن يشير إليه، فقال: أما أنا فغير منساح لصاحبيّ هذين في الملك، ، وإن السلامة لدي لفي اعتزال هذا الأمر، قال السائح: ما أظن صاحبيك يكرهان اعتزالك، فأشر إِليَّ بأحدهما وأتركك، قال: بل تختار ما بدا لك، قال: ما أراك إلا قد نزعت عن قولك فصرتم عندي بمنزلة واحد غير أني سأعظكم وأضرب لكم أمثال الدنيا وأمثالكم فيها وأنتم أعلم، فأخبروني هل عرفتم غايتكم من العمر؟ قالوا: لا لعل ذلك يكون طرفة عين، قال: فلم تخاطرون بهذه الغرة ؟ قالوا: رجاء طول المدة، قال: كم أتت عليكم سنة ؟ قالوا: أصغرنا ابن خمس وثلاثين، وأكبرنا ابن أربعين، قال: فاجعلوا أطول ما ترجون من العمر مثل سنيكم التي عمرتم ، قالوا: لسنا نطمع في أكثر من ذلك، ولا خير في العمر بعد ذلك، قال: أفلا تبتغون فيما بقي من أعماركم ما ترجون من مُلك لا يبلى، ونعيم لا يتغير، ولذة لا تنقطع، وحياة لا يكدرها الموت، ولا تنغصها الأحزان ولا الهموم ولا الأسقام ؟ قالوا: إنا نرجو أن نصيب ذلك بمغفرة من الله ورحمة، قال: قد كان من أصابه العذاب من القرون الأولى يرجون من الله ما ترجون، و ألا يؤملون ما تؤملون، ويصيعون العمل حتى نزل بهم من العقوبة ما بلغكم يوشك من سلك المفازة بغير ماء أن يهلك عطشاً، أراكم تتكلون على الرجاء في هلاك أبدانكم، ولا تتكلون عليه في صلاح معايشكم، أرأيتك مدائنكم التي بنيتموها واعتقدتم فيها الآيات، لو قيل لكم سينزل عليكم ملك بجيوشه فيعم أهلها بالقتل، وبنيانها بالهدم، هل كنتم تطيبون نفسأ بالمقام فيها والبنيان بها؟ قالوا: لا، قال: فو الله إن أمر هؤلاء الآدميين لصائر إلى هذا، قالوا: قد أشربت قلوبنا حب الدنيا، قال: مع الأسفار البعيدة تكون الأرباح الكثيرة، فيا عجبَاَ للجاهل والعالم كيف استويا في هلاك أنفسهما، ألا أن الذي يسرق ولا يعرف عقوبة السارق أعذر من العارف بعقوبته، وإني أرى هذا العالم يبذلون أنفسهم دون أموالهم، فكأنهم لا يصدقون بما يأتيهم به أنبياؤهم. قالوا: ما سمعنا أحداً من أهل الملك يكذب شيئاً مما جاءت به الأنبياء، قال: من ذلك أشتدّ عجبي من اجتماعهم على التصديق ومخالفتهم في الفعل، قالوا: أخبرنا كيف أول معرفتك للأمور. قال: منْ قِبل الفكر تفكرت في هلاك هذا العالم، فإذا ذلك من قِبل أربعة أشياء جُعلت فيهن اللذات، وهي أربعة أبواب مركبة في الجسد، منها ثلاثة في الرأس: العينان والمنخران والحنك، وواحد في البطن وهو الفرج، فالتمست خفة المؤونة في هذه الأبواب فوجدت أيسرها مؤونة باب المنخرين، ثم التمست الخفة المؤونة الحنك، فإذا هو غذاء لا قوام للجسد إلا به، فإذا صارت تلك المؤونة في الوعاء استقرت، فتناولت ما تيسر من المطعم والمشرب، وصرت بمنزلة رجل كان يتخذ الرماد من الخلنج والصندل فثقلت عليه المؤونة، فاتخذ الرماد من الزبل والحطب. ونظرت في مؤونة الفرج فإذا هو والعينان موصلان بالقلب، فلم أجد شيئاً أصلح لهما من العزلة وَبَغض إلى منزلي الذي كان فيه مقامي مع من لا يعقل إلا أمر دنياه، فتخببت هذا المنزل فقطعت عني أبواب الخطيئة، وحسمت في نفسي لذات أربعاً وقطعتهن بخصال أربع. قالوا: ما اللذات ؟ قال: المال، والبنون، والأزواج، والسلطان ، فقطعتهن بالهموم والأحزان والخوف وذكر الموت. وقطعت ذلك أجمع بالعزلة، وأي خير في لذة والموت يعقبها، كونوا كرجل خرج مسافراً فغشي مدينته العدو فأصابوا أهلها، فحمد الله على ما صرف عنه ، ولقد عجبت كيف ينتفعون بلذتها مع همومها وأحزانها وما تجرعهم، من مرارتها بعد حلاوتها، واشتد عجبي من أهل العقول، كأنهم يريدون أن يهلكوا كما هلك صاحب الحية، قالوا: أخبرنا كيف كان أمر صاحب الحية؟.


قال: زعموا أن رجلأ كان في داره حية قد عرفوه مكانها، وكانت تلك الحية تبيض كل يوم بيضة من ذهب، فخرجت يوماً فنهشت عنزاً لهم حلوباً فهلكت، فجزع الرجل وأهله، وقالوا: الذي نصيب من الحية أفضل من ثمن العنز، فلما كان رأس الحول غدت على خمار فنهشته فقتلته، فجزع الرجل وقال: سنصبر على هذه الآفات ما لم تعدُ البهائم. ثم مر عامان لا تؤذيهم وهم مسرورون بجوارها إذ عدت على عبد الرجل فنهشته فهلك، فجزع وقال: ما آمن أن يلسع بعض أهلي فمكث حزيناً خائفَاَ وقال: أرى سم هذه الحية في مالي وأنا أصيب منها أفضل مما رأيت. فلم يلبث إِلا يسيراً حتى نهشت ابن الرجل، فارتاع ودعا بالدرياق وغيره فلم يغن عنه، وهلك الغلام، فاشتد جزع والديه ونسيا كل لذة أصاباها وقالا: لا خير لنا في جوار هذه الحية، والرأي قتلها. فلما سمعت الحيهّ ذلك تغيبت عنهم أياماً لا يرونها ولا يصيبون من بيضها، فلما طال ذلك عليهما تاقت أنفسهما إلى ما كانا يصيبان منها، فأقبلا على حجرها وجعلا يقولان: ارجعي ولا تضرينا ولا نضرك، فرجعت فمكثت عامين لا يذكرون منها شيئاً، ثم دنت إلى امرأة الرجل فنهشتها، فصاحت، فثار زوجها يعالجها بالدرياق فلم يغن عنها، وهلكت المرأة، فبقي الرجل كئيبأ، وأظهر أمر الحية لإخوانه وأهل وده، فأشاروا عليه بقّتلها، وقالوا: لقد فرطت في أمرها حين تبين لك غدرها، ولقد كنت مخاطراً بنفسك، فعزم على قتلها. فبينا هو يراصدها اطلع في، حجرها، فرأى فيه درة صافية وزنها مثقال، فلزمه الطمع وقال: لقد غير الدهر طبع هذه الحية ولا أحسب سمها إلا قد تغير، فجعل يتعاهد حجرها بالكنس والبخور ورش الماء، وعمد إلى ما كان عنده من الذهب فعمل منه حُقاً فجعل فيه ذلك الدرر وجعل الحُق تحت رأسه، فبينما هو ذات ليلة نائم ذهبت إِليه فنهشته، فجعل يستغيث بصوت عال، فأقبل عليه أهله وجيرانه يلومونه، فأخرج إليهم الحق وأراهم ما فيه، فقالوا: ما أقل غنا هذا عنك اليوم، فهلك، فقالوا: أبعده الله، هو قتل نفسه. قال: ولقد عجبت لأهل العقول يعرفون الأمر الذي ضربنا له هذه الأمثال ولا ينتفعون بالمعرفة ، ويل لهم لو قد أصابهم ما أصاب صاحب الكرم، قالوا: وكيف كان ذلك؟ قال: زعموا أنه كان رجل له كرم واسع كثير العنب، متصل الشجر، فاستأجر لكشح الكرم وقطفه ثلاثة، ووكل كل رجل بناحية، وقال: كلوا من العنب ما شئتم وكفوا عن هذه الثمار. فأخذ أحدهم على حفظ ما أمر به وقبع يأكل العنب وحده، وفعل الآخر مثل ذلك حيناً ثم تاقت نفسه إلى الثمار فتناولها، وأقبل الثالث على أكل الثمار وترك العمل ففسدت ناحيته، فقدم صاحب الكرم، فحمد الأول وأعطاه فوق أجره، وعاقب الثاني بقدر ذنبه، وبالغ في عقوبة الثالث. فهكذا أعمالكم في الآخرة يوم تجزى كل نفس ما عملت.


قال: ولقد عجبت لأهل الأمل وطمعهم في طول العمر، ووجدت أعدى الناس الأولاد، استكثر الآباء لهم وأتعبوا أنفسهم في إصلاح معايشهم بهلاك أنفسهم كصاحب السفينة، قالوا: كيف كان ذلك؟ قال: زعموا أنه كان رجل نجار يعمل بيده فيصيب كل يوم درهماً، ينفق نصفه على أب له شيخِ كبير وامرأة له وابن وبنت، ويدخر لنفسه نصفه، فعمل زماناً وعاش بخير، فنظر يوماَ فإذا هو قد استفضل مائة دينار، فقال: لو عملت سفينة واشتغلت بتجارة البحر رجوت أن أتمول، فقال له أبوه: لا تفعل، فإن رجلاً من المنجمين أخبرني أيام ولدت أنك تموت غريقَاَ، قال: فما أخبرك أَني أصيب مالًا؟ قال: بلى لذلك نهيتك عن التجارة والتمست لك عملاً تعيش فيه يوماً بيوم، قال: اتجِرُ، وان عشت عشت بخير، وإن مت تركت أولادي بخير، قال: يا ولدي لا يكونن ولدك آثر عندك من نفسك. فعمل سفينة وركب فيها بتجارة فغاب سنة، ثم قدم بمائة قنطار ذهباً، فحمد الله والده وقال: يا بني، إني كنت نذرت لله تعالى إن ردك سالمآَ أن أحرق السفينة، قال: لقد أردت هلاكي، قال: إنما أردت حياتك، فاقبل على الشكر فقد أصبت غنى الدهر، فلم يقبل، وخرج فغاب سنة وبعض أخرى، فقدم بأضعاف ما قدم به أو لمرة، فقال لأبيه: لو كنت أطعتك لم اصب هذا المال، قال: يا بُني إنما أراك تعمل لغيرك وسيجرعك ما ترى غُصة فتتمنى لو كان بينك وبين هذه البلدة جبال المشرق، قال: يا أبت أرجو أن يكون المنجم أصاب في الغنى وأخطأ في الغرق. ثم صنع سفينة أخرى، فبكى أبوه، فرق لذلك وقال: يا أبت، والله لئن ردني الله سالماً لا ركبت بحراً ما عشت، قال: يا بني، اليوم أيقنت تفقدك. فمضى، فلما توسط البحر أصابه موج فضربت إِحدى سفينته الأخرى فانصدعتا فغرقتا، فجعل يتأسف على عصيان أبيه وهلك ومن معه، فبلغ الخبر أباه فكمد حتى هلك، وقسم الميراث على امرأة التاجر وابنه وابنته، فتزوجوا وصار ذلك المال إلى أزواجهن، فكل ما يجمع الأشقياء إلى ذلك يصير. ولقد عجبت للمؤثر على نفسه المؤثر غيره، ويحك ما تبلغ بالكفاف لا تؤثر غيرك فتلقى ما لقي صاحب الحوت، قالوا: ما لقي؟ قال: زعموا أن صياد سمك أصاب في صيده حوتاً عظيماً، فقال: ما حد أحق بأكله مني، ثم بدا له فأهداه إلى جاره، فأهد الجار إلى مقعد مسكين، فجعل الصياد يندم ويقول: حرمته نفسي وصار إلى أعدى الناس لي.
ولقد عجبت لهذا الشغل الذي غرّ العقلاء و الجهال حتى هلكوا جميعاً بالرجاء والطمع كما هلك اليهودي والنصراني، قالوا: وكيف كان ذلك؟ قال: اصطحب يهودي ونصراني إلى أرض فصارا في عمران ومياه إلى أن انتهيا إلى بئر وراءها مفازة مسيرتها أربعة أيام، ومع كل واحد منهما قربته، فملأ اليهودي قربته وأراد النصراني أن يملأ قربته، فقال له اليهودي: تكفينا قربتنا هذه ولا ننقل دوابنا، فقال النصراني: أنا أعلم بالطريق، فقال اليهودي: تريد إِلا أن تشرب الماء كلما عطشت ؟ قال: نعم، فترك النصراني قربته فارغة، فلما توسط المفازة أصاب القربة سهم فنفد ما فيها، فقعدا يتلاومان، فمر بهما رجل معه ماء، فقالا: احتسب علينا شربة من ماء، فقال: هذا طريق ليس فيه حسبه، قالا له: فما دينك؟ قال: فما دينكما أنتما. قالا: فإن أحدنا يهودي والآخر نصراني فقال: اليهودي والنصراني والمسلم إذا لم يعمل بما في كتابه واتكل على الطمع لقي ما لقيتما، فقالا: هذا رجل حازم، قال: ما يغني عنكما حزمي. فينبغي للعاقل أن يأخذ بالحزم في أمر آخرته كما يأخذ بالحزم في أمر دنياه ولا يتكل على الطمع. ولقد عجبت لأهل الأعمال السيئة، يستترون من الخلق دون الخالق، كيف أمنوا أن يصيبهم ما أصاب صاحب الدير؟. قالوا: كيف كان ذلك. قال: زعموا أن رجلًا كان يبيع العسل والزيت والسمن، يشتريه نقياً ويبيعه مغشوشاً، وكان ذا لحية عظيمة، وكان أكثر من يراه يقول: لو كنت أسقفاً فما صلحت لحيتك إلا للأساقفة، فأقبل على تعلم الإنجيل والمزامير وترهب طلباً للدنيا ، فولوه أمرهم فنقص أرزاقهم، وغير مراتبهم، وتفرغ للذته، فانتدب له سياط، فجعل يلوم الرهبان ويقول: هذا ما عمل بكم حسن نظركم في طول اللحى، ثم آل أمره إلى أن أحرق. ولقد عجبت لأهل المصائب كيف ألا يستعينون بالصبر، وإنه سيآتي على


صاحب المصيبة يوم يتمنى فيه مثل ما يتمنى الأعمى في مصيبته. قالوا: وما. تمنى الأعمى؟ قال: زعموا أن تاجراً دفن مائة دينار في موضع فبصر بها جار له فأخرجها وأخذها، فلما فقدها التاجر جزع، ثم طال به العمر فعمي واحتاج، فلما حضرت جاره الوفاة أوصى برد المال إلى الأعمى، فسر سروراً شديداً إذ رد إليه المال أحوج ما كان إليها، فقال: ليت كل ما لي قبض يومئذ. وكذلك من له عمل صالح. ولقد عجبت من فقد عقولهم، كيف لا يعملون بما يعلمون، كأنهم يريدون أن يهلكوا كما هلك صاحب السيل، قالوا: وكيف كان ذلك.
قال: زعموا أن رجلا نزل بطن مسيل، فقيل له: تحول فهذا منزل خطر، قال: قد علمت، ولكن يعجبني نزهته، فقيل: إنما تطلب الرفق لصلاح نفسك فلم تخاطر بها، فغشيه السيل فذهب به، فقالوا: أبعده الله. قال أنطونس: فلو أخذنا بالحزم كنا كأصحاب أصقولية ، قيل: كيف كان ذلك؟ قال: بعث ملك أصقولية بعثاً إلى أقزوليه ، وكان المسير إليها في البحر ستين ليلة، ولا زاد معهم إلا ما حملوه معهم، وكان مع أصحاب أصقولية كاهنان، فقال أحدهما: أما إن هذا الجيش لأصقولية سيقمون على أقزولية سبعة أيام يرمونها بالمجانيق، وتفتح في اليوم الثامن، فقال الآخر: تقيمون سبعة وتنصرفون، فعمل بعضهم على قول من قال بفتحها فقالوا: لا نعني أنفسنا بحمل الزاد، وقال الآخرون: لا نخاطر، فحملوا للبدأة والرجعة. فلما نزلوها لم تفتح، فرجعوا فهلك من فرط في حمل ا لزاد. فقال النفر لأنطونس: ما أحسن كلامك وأبلغ موعظتك، فقال: أما إن حلاوة موعظتي لا تتجاوز آذانكم إن لم تعلموا أن جميع كتب الأنبياء ، إنما تجزون ما كنتم تعملون، وانظروا في أعمالكم وانصرفوا عني، فاقترعوا بينهم وملكوا أحدهم.
باب ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكرمه
ذكر نسبه : هو محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مَناف بن قُصيّ بن كِلاب بن مُرة بن كَعبْ بن لُؤَيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النّضْر بنِ كِنانة بن خُزَيْمة بن مُدْرِكةَ بن إليْاس بن مُضَر بن نِزَار بن مَعَدّ بن عَدْنان . ولا يختلف الناسبُون إلى عدنان، .
ثم يختلفون فيما بعده، فبعضهم يقول: عَدْنان بن أُد ّبن أدَد بن الهميْسع بن حميل بن النَّبت بن قَيذَار بن إسماعيل بن إبراهيم. وبعضهم يقول: عدنان بن أدد، من غير ذكر: أد.
ومن حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَعَدّ، عَدْنَانَ بنِ أعَد َبن زنْد بن يَرَى بنِ أعْرَاقِ الثرى .
قالت أم سلمة فزَنْد هو: الهَميْسَع، ويَرَى هو: نبت، وأعراق الثرى: هو إسماعيل، كذلك حكى الزبير بن بكار. وحكي أيضآ أن أعَرْاقَ الثَرَى: إبراهيم؟ لأنهم لمَّا رأوه لم تحرقه النار قالوا: ما هو إلَّا أعْرَاق الثَرىَ. قال مؤلف الكتاب: هكذا ضبطه أبو زيد.
وقد حُدثنا عن أبي أحمد العسكري قال: إنما هو زند بالنون، مثل اسم أبى دلامة.
وقال ابن إسحاق: عَدْنان بن اعُدَ بنِ مُقَوِّم بنِ ناحور بن يَتْرَح بن يَدْرُبْ بن يَشْجُبَ بن أيوب بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم. وقد ذكر بعضهم بين معد وإسماعيل أربعين أباً .
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا خالد بن خداش قال: أخبرنا عبد الله بن وهب قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: ما وجدنا أحداً يعرف ما وراء معدّ بن عدنان . قال عروة: وسمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي، حثْمة يقول: ما وجدنا في علم عالم، ولا شعر شاعر أحدآ يعرفُ ما وراء معدّ بن عدنان بثبت . وقد سبق نسب الخليل إلى آدم عليهما السلام.
فصل بين مولد نبينا محمد و آدم عليهما السلام
وبين مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبين آدم عليهما السلام مُدَّة مختلف فيها. فعلى ما روى الواقدي: أربعة آلاف وستمائة سنة، . وقال قوم: ستة آلاف ومائة وثلاث عشرة سنة .
وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: خمسة آلاف سنة وخمسمائة سنة قال : وكان من آدم إلى نوح ألفا سنة ومائتا سنة. ومن نوح إلى إبراهيم ألف سنة ومائة سنة، وثلاث وأربعون .


ومن إبراهيم إِلى موسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة، ومن موسى إلى داوود مائهَ سنة وتسع وسبعون سنة. ومن داوود إلى عيسى ألف سنة وثلاث وخمسون سنة. ومن عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة .
ذكر آباء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: قال مؤلف الكتاب أما عبد الله أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أصغر ولد أبيه ، وكان عبد الله، و الزبير، وأبو طالب: بنو عبد المطّلب لأم واحدة: واسمها فاطمة بنت عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم. هكذا قال ابن إسحاق .
وروى هشام بن محمد عن أبيه قال: عبد الله، وأبو طالب واسمه عبد مناف و الزبير، وعبد الكعبة، و عاتكة، و برّة ، و أمَيمة، ولدُ عبد المطلب إخوة لأمّ، أمهم فاطمة المذكورة .
وقال ابن إسحاق: كان عبد المطلب قد نذَر حين لقيَ من قريش عند حفر زمزم ما لَقِيَ لئن ، وُلد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتّى يمنعوه لينحرنّ أحدَهم لله عند الكعبة، فلما تموا عشرة عرف أنهم سيمنعونه، فأخبرهم بنذْرِه، فأطاعوه، وقالوا: كيف نصنع؟ قال: يأخذ كل رجل منكم قِدْحاً، ثم ليكتب فيه اسمه، ثم ائتوني به. ففعلوا، ثم أتوْه فدخل على هُبَل وقال يعني لقيّم الصنم: اضرب بقداح هؤلاء. وكان عبد الله أصغَر بني أبيه، وكان أحبّهم إلى عبد المطلب. فلمّا أخذها ليضرب بها ، قام عبد المطّلب عند الكعبة يدعو الله، ثم ضرب صاحبُ القِداح، فخرج القِدْح على عبد الله، فأخذه عبد المطلب بيده، وأخذ الشَّفْرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة، فقامت إليه قريش من أنديتها، وقالوا: ما تريد أن تصنع؟ قال: أذبحه. قالوا: لا تذبحه أبدآ حتى تُعذِر فيه، انطلق به فآتِ أبه، عَرَّافة لها تابع فسَلْها. فانطلق، فقالت له،: كم الدّية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل. قالت: فارجعوا ثم قربوا صاحبكم، وقرّبوا عشرآ من الإبل، ثم أضربوا عليه وعليها بالقِداح ، فإن خرجت على صاحبكم فزِيدُوا من الإبل حتى يَرْضى ربكم، فإنْ خرجتْ على الإبل فقد رَضِي ونجا صاحبُكم. فقرّبوا عبدَ الله وعشراً من الإبل فخرجت على عبد الله، فزادوا عشرآ فخرجت على عبد الله ، فلم يزالوا على هذا إلى أن جعلوها مائةً، فخرج القدح على الإبل. فقالوا: قد رَضيَ ربك. فقال: لا والله حتى أضرب عليها وعليه ثلاث مرات. ففعل فخرج القِدْح على الإبل، فنُحرت، ثم تُركت لا يُصدّ عنها إنسان و لا سَبُعُ .
ثم انصرف عبد المطلب بابنه فمرَّ على امرأة من بني أسد يقال لها: أم قتال بنت نوفل بن أسد بن عبد العزّى وهي أخت وَرَقَة. فقالت: يا عبد الله، أين تذهب. قال: مع أبي، فقالت : لك عندي مثل الإبل التي نُحِرتْ عنك، وَقعْ عليَّ. فقال إني مع أبي لا أستطيع فراقه . فخرج به عبد المطلب حتى أتى وهبَ بن عبد مناف بن زُهْرة، وهو يومئذ سيِّد بني زْهْرة نسباً ، فزوّجه آمنة ، وهي يومئذ أفضلُ امرأة في قُريش نسباً. فدخل عليها ، فوقع عليها مكانه، فحملتْ بنبينا محمد صلى الله علية وسلم، ثم خرج من عندها حتى أتى المرأة التي كانت عرضتْ عليه نفسها، فقال: مالك لا تَعْرِضين عليّ اليوم ما كنتِ عرضت عليَّ بالأمس؟ قالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس اليوم، لي بك حاجة. وقد كانت تَسْمع من أخيها ورقةَ بن نَوْفل، وكان قد تنصر واتَّبع الكُتبَ، فكان فيما ذكر : أنه كائن في هذه الأمة نبيّ من بني إسماعيل. قال مؤلف الكتاب : فإن قال قائل قد ذكرت في هذا الحديث أن عبد الله كان أصغر بني أبيه، وقد صحَّ أن العباس أكبر من رسول الله صلى الله علية وسلم.
فالجواب: انه كان أصغر الموجودين يومئذ من وَلَد عبد المطلب، ثم وُلد العباس بعد ذلك.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قَال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا هشام بن محمد الكلبي، عن أبي الغيّاض الخثعمي قال: مرَّ عبد الله بن عبد المطلب بامرأة من خَثْعَم يقال لها: فاطمة بنت مُرة ، وكانت أجمل، الناس، وأعفَّهم وكانت، قد قرأت الكتب، وكان شباب قريش يتحدثون إليها ، فرأت نور النبوّة في وجه عبد الله بن عبد المطلب، فقالت: يا فتى، مَنْ أنتَ؟ فأخبرها. فقالت: هل لك أن تقع عليَّ وأعطيك مائة من الإبل؟ فنظر إليها وقال:


أمَّا الحَرَامُ فالمَماتُ دونَه ... والحِلّ لا حِلّ فَأستَبِينَه
فكيف بِالأمر الذي تبغينَهْ ... يَحْمِي الكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدينَهْ
ثمّ مضى إلى امرأته آمنة بنت وهب، فكان معها، ثمَّ ذكر الخثعميَّة وجمالها وما عرضت عليه، فأقبل عليها فلم ير منها من الإقبال عليه آخِراً، كما رآه منْها أوّلاً، فقال: هل لكِ فيما قُلت لي ؟ فقالت: قد كان ذلك مرّة فاليوم لا، فذهبت مثلاً. ثم قالت: أيّ شيء صَنعتً بعدي. قال: وقعت على زوجتي آمنة بنت وهب. فقالت: إنّي والله لسْتُ بصاحبة ريبة، ولكني رأيت نور النبوّة في وجهك، فأردتُ أن يكون ذلك فيّ، وأبى الله إلَّا إن يجعله حيث جعله.
وبلغ شباب قريش ما عرضت على عبد الله بن عبد المطلب وتأبيه عليها ، فذكروا ذلك لها، فأنشأت تقول:
إني رَأيْتُ مَخيلَةً عَرَضَتْ ... فتلألأتْ بحناتِم القَطْر
فَلِمَائِهَا نُورٌ يُضِىءُ لَهُ ... ما حَوْلَهُ كإضَاءةِ الفَجْر
ورَأيْتُهُ شَرَفاً أبُوءُ بِهِ ... ما كل قادح زيح زنده يوري
للَّه ما زُهْرِيّةٌ سَلَبَت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري
وقالت أيضاً:
بني هاشم قد غادرت من أخيكُم ... أمينة إذ للباه يعتلجان
كما غادر المصباحَ بَعدَ خُبُوّه ... فتائل قد ميثت له بدهان
وما كلّ ما يحوي الفتى من تلاده ... بحزم ولا ما فاته لتوان
فأجْمِلْ إذا طالبَتَ أمراً فإنَّه ... سيكفيكيه جدان يصطرعان
سَيكفيكَهُ إمّا يَدٌ مُقْفَعِلّة ... وإما يد مبسوطة ببنان
وَلما قَضَتْ منه أمينة ماقَضَتْ ... نَبَا بصري عنه وكَلّ لساني
وأما عبد المطلب: فاسمه: شيبة الحمد، ، سمَيَ بذلك لأنه وُلد وفي رأسه شيبة.
أخبرنا هبة الله بن محمد بن الحصين قال: أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن عساكر قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي قال: أخبرنا ابن يونس قال: أخبرنا يعقوب بن محمد الزهري قال: حدَثنا عبد العزيز بن عمران بن عبد اللّه، عن جعفر، عن أبي عون، عن المسور بن مخرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: قال أبي عبد المطلب : خرجت إلى اليمن في رحلة الشتاء والصيف، فنزلتُ على رجل من اليهود يقرأ الزبور. فقال: يا عبد المطلب، ائذن لي فأنظر في بعض جسدك. فقلت : انظر ما لم يكن عورة. فنظر في منخري فقال: أجد في أحد منخريك ملكاً وفي الأخرى نبوه، فهل لك من شَاعَة؟ قلت: وما الشَاعَةُ؟ قال: الزوجة. قلت: أما اليوم فلا. قال: فإذا قدمتَ مكة فتزوج. فقدم فتزوج هالة، فولدت له حمزة، وصفية، وتزوج عبد الله آمنة، فولدت له رسول الله صلي الله علية وسلم، فكانت قريش تقول: فَلَجَ عبد الله على أبيه . قال مؤلف الكتاب : يقول العرب: فلج فلان على خصمه أي: فاز وغلب.
فصل عبد المطّلب


قال مؤلف الكتاب : وإنما قيل له عبد المطّلب؟ لأن هاشماً خرج إلى الشام في تجارة، فمر بالمدينة، فرأى سلمى بنت عمر وبعضهم يقول: بنت زيد بن عمرو بن لبيد بن حرام بن خداش بن جندب بن عدي بن النجار فأعجبته، فخطبها إلى أبيها فأنكحها منه ، وشرط عليه أن لا تلد ولدا إلَأ في أهلها ، ثم مضى هاشم لوجهه قَبْل أن يبنيَ بها، ثم انصرف راجعاً من الشام، فبنى بها في أهلها بيثرب، فحملت منه، ثم ارتحل إلى مكة وحملها معه، فلما أثقلت ردَّها إلى أهلها، ومضى إلى الشام فمات بغرة، فولدت له عبد المطلب، فمكثت بيثرب سبع سنين أو ثماني سنين ، ثم أن رجلًا من بني الحارث بن عبد مناة مر بيثرب ، فإذا غلمان ينتضلون ، فجعل شيبة إذا خَسَقَ قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيّد البطحاء . فقال له الحارثي: مَنْ أنت؟ قال: أنا شيبة. بن هاشم بن عبد مناف. فلما أتى الحارثي مكة قال للمطلب وهو جالس في الحجر: أيا أبا الحارث، تعلم أنيّ وجدت صبياناً ينتضلون بيثرب، وفيهم غلام إذا خَسَقَ قال: أنا ابن هاشم أنا ابن سيد البطحاء. فقال المطلب : واللّه لا أرجع إلى أهلي حتى آتيَ به. فقال له الحارثي: هذه راحلتي بالفناء فاركبها . فجلس المطّلب عليها، فورد يثرب عشاء، حتى أتى عدي بن النجار، فإذا غلمان يضربون كُرة بين ظهريْ المدينة، فجلس فعرف ابن أخيه. فقال للقوم: أهذا ابن هاشم؟ قالوا: نعم، هذا ابن أخيك، فإن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه، فإنها إن علمت لم تدعك وحلنا بينك وبينه. فدعاه فقال: يا ابن أخي أنا عَمّك. وقد أردتُ الذهاب بك إلى قومك. وأناخ راحلته، فما كذب أن جلس على عَجز الناقة، فانطلق به، ولم تعلم أمه حتى كان الليلُ، فقامت تدعوه فأخبرت أن عمه ذهب به، وقدِم به المطّلب ضحوة، والناس في مجالسهم، فجعلوا يقولون : مَنْ هذا وراءك؟ فيقول: عبد لي ، حتى أدخله منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم، فقالت: مَنْ هذا؟ قال: عبد لي. ثم خرج المطّلب حتى أتى الحزورة، فاشترى حُلة فألبسها شيبة، ثم خرج به حتى كان العَشي أتى مجلس بني عبد مناف، فجعل بعد ذلك يطوف في سِكَك مكة في تلك الحُلة. فيقال هذا عبد المطلب، لقوله: هذا عبدي حين سأله قومه، فقال المطّلب: في ذلك :
عَرفْتُ شَيْبَةَ والنجارُقد جعلَت ... أبناؤُهَا حَوْله بالنبْل تَنْتَضِل
قال مؤلف الكتاب: هذا حديث الواقدي، وهشام عن أبَيه. وقد رواه علي بن حرب الموصلي، عن ابن معن عن محمد بن أبي بكر الأنصاري عن مشايخ الأنصار، قالوا: تزوَّج هاشم امرأة من بني عديّ بن النجار ذات شرف، وكانت تشرط على مَنْ خطبها المقام بدار قومها فولدت له شيبة الحمد، فربيَ في أخواله مكرَّماً. فبينا هو يناضل فتيان الأنصار إذ أصاب خصلة، قال: أنا ابن هاشم. وسمعه رجل مجتاز، فلما قدم مكة قال لعمه المطَّلب: قد، مررت بدار بني قيلة فرأيت فتىً من صفته كذا، يناضِل فتيانهم فاعتزى إلى أخيك، وما ينبغي ترك مثله في الغربة . فرحل المطلب حتى ورد المدينة، فأراده على الرحلة . فقال: ذاك إلى الوالدة، فلم يزل بها حتى أذِنَتْ له، فأقبل به قد أرْدفه، فإذا لَقِيَه اللاقي ، وقال: مَنْ هذا يا مطلب. قال: عبدٌ لي فسمي عبد المطلب، فلما قدم مكة وَقَفَه على ملك أبيه، وسلمه إليه .
فصل
وكان إلى عبد المطلب بعد هلاك عمَه، المطلب ما كان إلى مَنْ قبله من بني عبد مناف من أمر السقاية والرفادة، وشرُفَ في قومه، وعَظُم خطره، فلم يكن يُعدَل به منهم أحد .وكان إذا أهلَ رمضان دخل حراء فبقي فيه طول الشهر، وكان يُطعم المساكين، ويُعظم الظلم، وُيكثر الطواف بالبيت .
فصل قيل له في منامه احفر زمزم


وعبد المطلب هو الذي اتِيَ في منامه فقيل له: احفر زمزم، قال: وما زمزم . قيل: لا تُنْزَحُ ولا تُذَمّ، تَسْقي الحَجِيجَ الأعْظَم، وهي بين الفَرْث والدم، عن نُقْرة الغراب الأعْصم أوهي شرب لكَ ولولدك، وكان غراب أعْصم لا يبرح عند الذبائح مكان الفرْث والدم، فحفرها ثلاثة أيام فبدا له الطويّ ، فكبَّر، وقال: هذا طوي إسماعيل. فقالت له قريش: أشْرِكنْا فيه فقال: ما أنا بفاعل، هذا شيء خُصِصْتُ به دونكم، فاجعلوا بيني وبيْنَكم مَنْ شئْتُم أحاكمْكم إليه ، قالوا: كاهنة بني سعد. فخرجوا إليها، فعطشوا في الطريق حتى أيقنوا بالموت، فقال عبد المطلب: والله إنّ إلقاءنا هكذا بأيدينا لعجز، ألا نضرب في الأرض، فعسى اللّه أن يرزقنا ماء. وقام إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجر من تحت خُفها عين ماء عَذْبٍ ، فكبر عبد المطلب، وكبر أصحابه وشربوا . وقالوا: قد، قَضَى لك الذي سقاك، فو الله لا نخاصمك فيها أبداً. فرجعوا، وخلوا بينه وبين زمزم. وكان عبد المطلب قد وجد في زمزم غزالين من ذهب كانت جرهم دفنتهما فيه حين أخرجت من مكة، وأسيافاً و أدرعاً، فجعل الأسياف باباً للكعبة، وضرب الغزالين صفائح في الباب فكان أول ذهب حليتها الكعبة. وقد روى ابن حبيب في حديث الغزالين شيئاً آخر، قال: كان معين بن عبد القيس مالقاً لشباب قريش يسقون عندى ويشربون وكان عيادة فتاك قريش وحلفاؤهم، منهم: أبو لهب، والحكم بن أبي العاص، والحارث بن عامر بن نوفل وغيرهم، وأقبلت عير من الشام تحمل خمرأ، فقال لهم أبو لهب: ويلكم أما عندكم نفقة. قالوا: لا. قال: فعليكم بغزال الكعبة، فإنما هو غزال أبي، وكان عبد المطلب استخرجه من زمزم ووجد بها سيوفاً والغزال، فحمله للكعبة. فانطلقوا بالليل فحمل أبو مسافع ، والحارث بن عامر على ظهورهما حتى ألقياه على الكعبة، فضرب الغزال فوقع، فتناوله أبو لهب ثم أقبلوا به فكسروه فأخفوا الذهب وعينيه، وكانت من ياقوت، وطرحوا طوقه، وكان على خشب في منزل شيخ من بني عامر، فأخذ أبو لهب العنق والرأس والقرنين، وانطلق فلم تقربهم وذهبوا فاشتروا كل خمر كان معهم وأعطوا الشنف والقرط القسيس، فافتقدت قريش الغزال، فتكلموا فيه، وجد في لبرة عبد الله بن جدعان، فمر العباس، وهو شاب بدُوْرِ بني سهم وهم يغنون ويقولون:
إِن الغزال الذي كلتم وحليته ... يعنونه بخطوب الدهر والعثر
طافت به عصبة من سر قوهم ... أهل العلا و الندا والبيت ذي السُتر
فأخبِرَ أبو طالب فجاءوا ابن جدعان وغيرهم فسمعوا الغناء، وأقبلوا من الغد ووجدوا العينين: إحداهما مقرط قرط الغزال والآخرى مشنفة بالمنفد، فهرب الحارث بن عامر، وقطعت يد الرجل، وصولح القوم على خمسين ناقة ففدوا بها الكعبة.
فصل وكانت كنْية عبد المطلب
أبا الحارث، كُني بذلك لأن الأكبر من ولده الذكور كان اسمه الحارث . قال: هشام بن محمد بن السائب: ولد لعبد المطلب عشرة بنين منهم: عبد اللهّ أبو نبينا صلي الله علية وسلم وأبو طالب، والزبير: أمهم فاطمة بنت عمرو مخزومية، والعباس، وضرار: إمهما نتيلة النمرية، و حمزة، و المقوم: أمهما: هالة بنت و هب، و أبو لهب أمه: لبنى خزاعية، والحارث: أمه صفية من بني عامر بن صعصعة، و الغيداق: أمه من خزاعة. وأما هاشم فاسمه عمرو. وإنما قيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد لقومه، وأطعمه.
فقال ابن الزًبَعْرى فيه:
عمرُو العُلا هَشَمَ الثّرِيدَ لِقَوْمهِ ... ورِجالُ مَكةَ مُسْنتَموُنَ عِجَافُ
ذلك أن قومه من قريش أصابهم قحْط، فرحل إلى فلسطين، فاشترى الدقيقَ، فقدم به مكَة، فأمر به فخبز له ثم نحر جَزُوراً، ثم اتخذ لقومه مِنْ مرقه ثريدأ لذلك الخبز..


وهو أولُ مَنْ سنَ الرحلتين لقريش رحلة الشتاء والصيف . أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن الحرثة قالت: أخبرنا علي بن الحسن بن الفضل قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن خالد قال: أخبرنا ابن المغيرة الجوهري قال: أخبرنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال: حدَثنا الزبير ابن بكار قال: حدًثني محمد بن يحيى قال حدَّثني عمران بن عبد العزيز قال : كانت قريش في الجاهلية تعتقد وكان اعتقادها أن أهل البيت منهم كانوا إذا هلكت أموالهم خرجوا إلى برازٍ من الأرض فضربوا على أنفسهم الأخبية، ثم تناوموا فيها حتى يموتوا من قبل أن يعلم بحالتهم، حتى نشأ هاشم بن عبد مناف، فلما عظم قدره قال: يا معشر قريش، إن العز مع كثرة العدد، وقد أصبحتم أكثر العرب أموالَاَ وأعزها نفراً، وإن هذا الاعتقاد قد أتى على كثير منكم، وقد رأيت رأياً. قالوا: رأيك رشد فمُرْنا نأتمر . قال: رأيت أن أخلط فقراءكم بأغنيائكم وأعمد إلى رجل غني فأضم إليه فقيراً أجمع، عيالهُ بعدد عياله، وأذره في الرحلتين، فما كان من مال الغني من فضل عاش الفقير وعياله في ظله، وكان ذلك قاطعاً للأحقاد قالوا: نعم ما رأيت. فألف بين الناس، فلما بعث الله تعالى رسوله عليه السلام، كان فيما أنزل عليه " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " ثم نزلت: " لإيلاف قريش " ، أي: لتراحمهم وتواصلهم، وإن كانوا على شرك.
فصل وكان هاشم وعبد شمس أكبر ولد عبد مناف،
وقيل: ولدا توأمين، وإن أحدهما ولد قبل صاحبه وأصبح أحدهما ملتصقة بجبهة صاحبه ، فنحِّيت عنها، فسال من ذلك دم فتُطِير من ذلك . فقيل: يكون بينهما دم. وأخوهما المطلب أصغرهم ، وأم الثلاثة: عاتكة بنت نمرة السلمية، وأخوهم: نوفل، وأمه واقدة، فسادوا كلهم بعد أبيهم عبد مناف، وكان يقال لهم: المجبرون، فلهم يقول القائل:
يا أيها الرجُلُ المُحوِّلُ رَحْلَه ... أي نزلْتَ بآلِ عَبْدِ مَنافِ
وكان أوَل منْ أخذ لقريش العِصَم ، فانتشروا من الحرم، أخذ لهم هاشم حبلاً من ملوك الشام والروم وغسان ، وأخذ لهم عبد شمس من النجاشيّ الأكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلاً من الأكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى العراق وأرض الشام، وأخذ لهم المطلب حبلاً من ملوك حمير، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن فجبر الله لهم قريش فسمُّوا المجبّرين.
فصل وولي هاشم بعد أبيه عبد مناف السِّقاية والرفادة،
وأطعم الناس، فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان ذا مال فتكلف أن يصنع صَنيع هاشم، فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم، فدعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك، فلم تدعه قريش، واحفظوه، قال: فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، تنحرها ببطن، مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين. فرضيَ بذلك أمية، وجعلا بينهما الكاهِن الخزاعيّ، فنفًرَ هاشماً عليه، فأخذ هاشم الإبل فنحرها، وأطعمها مَنْ حَضَرهُ، وخرج أميَّة إلى الشام، فأقام بها عشر سنين فكاتَ هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية . أنبأنا يحيى بن الحسن البنا. قال: أخبرنا ابن المسلمة قال: أخبرنا المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي قال: أخبرنا الزبير بن بكار قال: حدَثني عمر بن أبي بكر الموصلي قال: حدَّثني يزيد بن عبد الملك بن المغيرة، عن نوفل، عن أبيه قال : اصطلحت قريش على أن يولى هاشم بن عبد مناف السّقاية والرَفادة، وذلك أن


عبد شمس كان يسافر قبل ما يقيم بمكة، وكان رجلاً مقلأ، وكان هاشم رجلًا موسراً، وكان إذا حضر الحج قام في قريش، وقال: يا معشر قريش، إنكم جيران للهّ، وأهل بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم نفار اللّه، يعظمون حُرمة بيته، وهم ضيف اللهّ، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، وقد خصكم اللهّ بذلك، وأكرمكم به، فأكرموا ضيفه، فإنهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد، وقد أوجفوا وثقلوا وأرملوا، فاقروهم وأعينوهم، فكانت قريش ترافد على ذلك حتى إن كان أهل البيت ليرسلون بالشيء اليسير على قدرهم، وكان هاشم يخرج كل سنة مالًا كثيراً، فكان يأمر بحياض من أدم فيجعل في موضع زمزم قبل أن تحفر، ثم يستقي فيها من الآبار التي بمكة فيشرب الحاج، وكان يطعمهم قبل التروية بيوم بمكة وبمنى وبجمع وبعرَفة، وكان يثرد لهم الخبز والشحم والسمن والسويق والتمر ويحمل لهم الماء، وكان هاشم أول مَنْ سَنَ الرحلتين: رحلة إلى أرض الحبشة إلى النجاشي ورحلة إلى أرض الشام، وربما دخل على قيصر فيكرمه، فمات بغزة. قال الزبير وحدثني محمد بن حسن عن محمد بن طلحة، عن عثمان بن عبد الرحمن قال، : قال ابن عباس: واللهّ لقد علمت قريش أن أول مَنْ أخذ لها الإيلاف وأجاز لها العيرات هاشم، والله ما نبذت قريش خيلاً، ولا أناخت بعيراً بحضرٍ إلا لهاشم، والله إن أول مَنْ سقى بمكة ماء عذبَاَ وجعل باب الكعبة ذهباً لعبد المطلب. أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: أخبرنا عبيد الله بن محمد جعفر الأزدى قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال: حدَّثني محمد بن الحسين قال: أخبرنا سليمان بن حرب قال: أخبرنا أبو هلال الراسبي، عن حميد بن هلال قال: تفاخر رجلان من قريش رجل من بني هاشم ورجل من بني أمية، فقال هذا: قومي أسخى من قومك. وقال هذا: قومي أسخى من قومك. فقال: سل في قومك حتى أسأل في قومي. فافترقا على ذلك فسأل الأموي عشرة من قومه فأعطوه مائة ألف، كل واحد منهم، عشرة آلاف. قال: وجاء الهاشمي إلى عبد الله بن عباس فأعطاه مائة ألف، ثم أتى الحسن بن علي فسأله: هل أتيت أحداً قبلي؟ نعم عبد الله بن العباس فأعطاني مائة ألف. قال : فأعطاه الحسن مائة ألف وثلاثين ألفاً، ثم أتى الحسين فسأله، فقال: هل أتيت أحداً قبلي قبل أن تأتيني ؟ قال: نعم، أخاك الحسن، فأعطانىِ مائة ألف وثلاثين ألفاً، قال: لو أتيتني قبل أن تأتي أخي أعطيتك أكثر من ذلك ولكن لا أزيد على سيدي قال، : فأعطاه مائة ألف وثلاثين ألفاً. قال: فجاء الأموي بمائة ألف من عشرة. وجاء الهاشمي بثلثمائة ألف وستين ألف من ثلاثة. فقال الأموي: سألت عشرة من قومي فأعطوني مائة ألف. وقال الهاشمي: سألت ثلاثة من قومي فأعطوني ثلاثمائة ألف وستين ألفاً. قال: فعجز الهاشمي على، الأموي، فرجع الأموي إلى قومه فأخبرهم الخبر، وردّ عليهم المال فقبلوه، ورجع الهاشمي إلى قومه فأخبرهم الخبر ورد عليهم المال فأبوا أن يقبلوه، وقالوا: لم نكن لنأخذ شيئاً قد أعطيناه. .
وقد روى هشام عن أشياخ له: أن عبد المطلب بن هاشم وَحَرْبَ بن أميّة رحلا إلى النجاشي الحبشي فأبى أن ينفر بينهما فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزى بن رباح فقال لحرب: يا أبا عمرو، أتنافر رجلًا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة وأكثر منك ولداً، فنفره عليه، فقال له حرب: إن من انتكاث الزمان، أن جعلنك حكماً .
وكان أوًل مَنْ مات من ولد عبد مناف ابنه هاشم، مات بغزّة من أرض الشام، ثم مات عبد شمس بمكة فقُبر بأجياد، ثم مات نوفل بالسَلْمان من طريق العراق، ثم مات المطّلب بردْمان من أرض اليمن، وكانت الرفادة، والسقاية بعد هاشم إلى أخيه المطلب .
فصل أبطن قريش


قال هشام بن محمد السائب الكلبي انتهى الشرف من قريش في الجاهلية ووصل في الإسلام إلى عشرة رهط من عشرة أبطن وهم: هاشم، وأمية، ونوفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم. وكان من بنىِ هاشم العباس بن عبد المطلب، يسقي الحجيج في الجاهلية، وبقي ذلك له في الإسلام، وكانت له العمادة، وهي أن لا يتكلم أحد في المسجد الحرام برفث ولا هجر، ولا يُرفع صوت ، كان العباس رضي الله عنه ينهاهم عن ذلك . ومن بني أمية أبو سفيان بن حرب. كانت عنده العقاب راية قريش، وإذا كانت عند رجل أخرجها إذا حميت الحرب، فإن اجتمعت قريش على أحد أعطوه العقاب، وإن لم يجتمعوا على أحدٍ رأسوا صاحبها وقدموه. ومن بني نوفل الحارث بن عامر وكانت إليه الرفادة، وهي مال كانت تخرجه من أموالها وترفد به منقطعي الحاج. ومن بني عبد الدار عثمان بن طلحة كان إليه اللواء والسدانة مع الحجابة، ويقال والندوة في بني عبد الدار. ومن بني أسد يزيد بن ربيعة بن الأسود، وكانت إليه المشورة، وذلك أن رؤساء قريش لم يكونوا يجتمعون على أمرٍ حتى يعرضوه عليه، فإن وافقه والاهم عليه، وإلاً تخير فكانوا أعوانأ، واستشهد مع رسول الله صلى الله علية وسلم بالطائف. ومن بني تيم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كانت إليه في الجاهلية الإساف، وهي الديات والمغرم وكان إذا احتمل شيئأ يسأل فيه قريش سدنة وإحماله من ينظر فيه، وإن أحمله غيره خذلوه. ومن بني مخزوم: خالد بن الوليد كانت إليه القبة والأعنة، فأما القبة فإنهم كانوا يضربونها، ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش، وأما الأعنة فإنه كان يكون على خيل قريش في الحرب. ومن بني عدي: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كانت إليه السفارة في الجاهلية وذلك إذا وقعت بين قريش وغيرهم حرب، بعثوه سفيراً أو إن نافرهم حي المفاخرة بعثوه مفاخراً، ورضوا به. ومن بني جمح: صفوان بن أمية، وكانت إليه الأيسار، وهي الأزلام كان هو الذي يجري ذلك على يديه.
ومن بني سهم: الحارث بن قيس، وكانت إليه، الحكومة والأموال التي يسمونها لآلهتهم إليه.
فهذه مكارم قريش التي كانت في الجاهلية، وهي السقاية أو العمادة والعقاب والرفادة والحجابة والندوة واللواء والمشورة والإساف، والقبة والأعنة والأيسار والحكومة والأموال المحجرة للآلهة، وكانت إلى هؤلاء العشرة من البطون العشرة، ، وجاء الإسلام فوصل ما يصلح وصله، وكذلك كل شرف من شرف الجاهلية المحركه الإسلام فوصله، وكانوا إذأ كانت حرب اقترعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرجت القرعة عليه أحضروه صغيراً كان أو كبيراً، فلما كان يوم الفجار اقترعوا بين بني هاشم، فخرج منهم العباس، وكان صغيراً فأجلسوه على الفرس.
وأما عبد مناف: فاسمه المغيرة، وكان يقال له: القمر من جماله وحسنه، وكان قُصي فيما زعموا يقول: ولد لي أربعة فسميت اثنين بصنميِّ، وواحداً بداري، وواحداً بنفسي؟ وهم: عبد مناف، وعبد العُزى، وعبد الدار، وعبد قصي، أمهم جميعاً: حُبَّى بنتَ حُليَل بن حُبْشِية الخزاعي. ودفعت ولدها عبد مناف إلى مناف ، وكان أعظم أصنام مكة تديُّناً بذلك، فغلب عليه عبد مناف، وله قيل:
كانَتْ قُرَيش بَيْضَةً فتلفَقَتْ ... فالمحُّ خالِصَةٌ لِعَبْد ِمَنَافِ
وكانت الرياسة في بني عبد مناف، والحجابة في بني عبد الدار، فأراد بنو عبد مناف أن يأخذوا ما بيدي بني عبد الدار، فحالف بنو عبد الدار بني سهم وقالوا لهم: امنعونا من بني عبد مناف، فلما رأت ذلك أم حكيم بنت عبد المطلب عمدت إلى جفنة فملأتها خلوقاً، ثمّ وضعتها في الحجرة وقالت: مَنْ تطيب بهذا فهو مِنا. فتطيب به بنو عبد مناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، فسمُوا المطيبين. فلما سمعت بذلك بنو سهم نحروا جزوراً وقالوا: مَنْ أدخل يده في دمها، فهو منها. فأدخلتَ أيديها: بنو عبد الدار، وبنو سهم، وجمح، وعدي، ومخزوم، فلفا فعلوا ذلك وقع الشر، وسمُوا أحلافاَ. وكان عمر بن الخطاب من الأحلاف، فلما قتل صاحب الصابحة، واشتد الاختلاف فقال ابن عباس: ويحك والمختلف عليهم .
وأما قُصيّ: فله ثلاثة أسماء: زيد، وقصي، ومجمعاً. وفيه يقول الشاعر:
همام له أسماء صدق ثلاثة ... قصي وزيد ذوا لنهدى ومجمع


فأما اسمه الأصلي فزيد، وإنما قيل له: قصي لأن أباه كلاب بن مرة، وكان قد، تزوج أم قصيّ: فاطمة بنت سعدِ، فولدت لكلاب: زُهرة وزيداً، فهلك كلاب وزيد صغير، وقد شب زهرة وكبر فقدم ربيعة بن حران بن ضِنة فتزوج فاطمة أم زهرة وقصي، وزهرة رجل قد بلغ، وقصي فطيم أو قريب من ذلك فاحتملها إلى بلاده من أرض بني عذره من أشراف الشام، فاحتملت معها قُصياً لصغره، وتخلّف زُهرة في قومه فلم يبرح من مكة، فسمي زيد: قُصياً لبُعد داره عن دار قومه، فبينا قُصي بأرض قُضاعة لا ينتمي إلا إلى ربيعة بن حرام وقع بينه وبين رجل أمن قضاعة، شيء. فقال له ألا تلحق بقومك، فإنك لستَ منًا فرجع قصي إلى أنه فسألها عَمّا قال له ذلك الرجل، . فقالت له، : أنت والله أكرم منه نفساً ووالداً، أنت ابن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وقومك بمكة عند البيت الحرام وحوله. فأجمع قًصيّ الخروج إلى قومه واللحوق بهم، وكره الغربة، فقالت له أمه: لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام فتخرج في حاج العرب، فإني أخشى عليك أن يُصيبك بعض البأس، فأقام حتى دخل الشهر الحرام، فخرج في حاج العرب من، قضاعة، فقدم مكة فلما فرَغ من الحج أقام بها، فخطب إلى حُلَيْل بن حُبْشة الخزاعي ابنته حُبَّى، فزَوجه وكان خليل يلي أمر مكة، فولدت له: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، فلما انتشر ولده، وكثر ماله، وعظم شرفه هَلَكَ حُلَيْل أبن حُبْشِية، فرأى قصي أنه أوْلَى بالكعبة وأمر مكة من خُزاعة وبني بكر، وأن قريشاً صريح ولد إسماعيل بن إبراهيم، فكلَّم رجالاً من قريش وبني كنانة ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فلما قبلوا منه دعاهم إليه وبايعوه على ذلك، كتب إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة وهو ببلاد قومه يدعوه إلى نصرته والقيام معه، فقام رزاح في قُضاعة، فدعاهم إلى نصر أخيه فأجابوه. وبعض الرواة يقول: إن حليَلاَ لما ثقل جعل، ولاية البيت إلى ابنته حبى فقالت: إني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه. قال: فإني أجعل الفتح والإغلاق إلى رجل. فجعله إلى أبي غُبْشان وهو سليم بن عمرو فاشترى في ولاية البيت منه بزِقّ خمر وبعوْد . وقيل: بل بزق وكبش. فقال الناس: أخسر من صفقة أبي غُبْشان فذهبت مثلاً، قال الشاعر:
أبو غُبشان أظلم من قصي ... وأظلم من بني فهر خزاعة
فلا تلحوا قصيا ًفي شراة ... ولوموا شيخكم إن كان باعه
ثم إن قُضياً قاتل خزاعة فجلت عن مكة، فولي قصي البيت وأمر مكة والحكم بها، وجمع قبائل قريش فأنزلهم أبطح مكة، وكان بعضهم في الشعاب ورؤوس جبال مكة فقسم منازلهم بينهم ، فسُميّ مجمعاً وملّكه قومه عليهم، وفيه قيل:
وزيد أبوكُم كان يُدْعَى مُجمَعاً ... بهِ جَمَع اللَّهُ القَبَائِلَ مِن فِهْرِ
وبعضهم يقول: إن حليل بن حبشيّة أوصى قصياً حين انتشر له من ابنته الأولاد


وقال: أنت أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة. فلذلك كان طلب قصي ما طلب . وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وإذا أرادوا النَّفْر من منىً أخذت صوفة بناحيتي العقبة ، فحبسوا الناس، وقالوا: أجيزي صوفة. فلم يُجْزْ أحد من الناس حتى ينفذوا، فإذا مضت صوفة خلى سبيل الناس بعدهم، والعرب قد عرفت هذا لصوفة من عهد جرهم وخزاعة. فلما كان العام أتى قصي بمَنْ معه من قريش وكنانة وقُضاعة عِند العَقَبة وقالوا: نحن أولى بهذا منكم. فباكرهم فقاتلوه واقتتل الناس، وانهزمت صوفة، وغلبهم قُصيّ على ذلك. وانحازت خُزاعة وبنو بكر عن قصي، وعرفوا أنه سيمنعهم مثل ما منع صوفة، وأنه سيحُول بينهم وبين الكعبة، وأمرْ مكة، فلما انحازوا عنه باداهم وأجمع لحربهم فالتقوا، فاقتتلوا حتى كَثُرت القتلى في الفريقين، ثم انهم تداعوا للصلح، فحكَّموا عمرو بن عوف الكناني، فقضى بأن قُصيّاً أولى بالكعبة وأمْر مكة من خزاعة، وأن كلّ دم أصابه قُصَيُّ من خُزاعة وبني بكر موضوع، وما أصابته خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانة وقُضاعة ففيه الدّية فوَلِي قُصي البيت وأمرَ مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملّك على قومه وأهل مكة، فملّكوه، فكان قُصيّ أوّل ولد كعب بن لؤي أصاب ملكاً أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرًفادة والندوهَ واللواء، . فحاز شرف مكة كلّه، وقطع مكة أرباعاً بين قومه، فأنزل كلّ قوم من قريش منازلهم من مكِّة التي أصبحوا عليها . ويزعم الناس أن قريشاً هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قُصيّ بيده، وما كانت تُنكح امرأة ولا رجل من قريش إلا في دار قصي، ولا يتشاورون في أمر نزل بهم إلا من داره، ولا يعقدون لواء لحرب قوم إلاًَ في داره، يعقدها لهم بعض ولده، وكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتَّبع، لا يعمل بغيره تيمناً بأمره، ومعرفة بفضله وشرفه، واتخذ قصي لنفسه دار الندوهَ، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة ففيها كانت قريش تقضي أمورها . وسميت دار الندوة لأنهم كانوا ينتدون فيها أي: يجتمعون للخير والشر، والندى: مجمع القوم. فأقام قصي على شرفه لا ينازع في شيء من أمر مكة، إلا أنه قد أقر للعرب في شأن حَجّهم ما كانوا عليه، وللنَّسأه من بني مالك بن كنانة، إلى أن جاء الإسلام، وهو أوّل من أوقد النار بالمزدلفة، حيث وقف بها حتى يراها من دفع عرفه، فلم تزل توقد في تلك الليلة في الجاهلية، ولم تزل توقد على عهد رسول الله صلي الله علية وسلم وأبي بكر وعمر. قال الواقدي: وهي توقد إلى اليوم.
قالوا: فلما جمع قريشاً إلى الحرم سميت حينئذ لجمعه إياهم وكان يقال لهم قبل ذلك بنو النضر، أنبأنا أبو عبد الله البارع قال: أخبرنا ابن المسلمة قال: أخبرنا المخلص قال : أخبرنا أحمد بن سلمان الطوسي قال: أخبرنا الزبير بن بكار قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن الواقدي، عن ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل بن عوف بن الحارث: أن قريشاً شكوا إلى قصي كثرة الشجر، وأنهم لا يستطيعون، أن يبنوا منه واستأذنوه في قطعه، فنهاهم وقال: قد رأيتم مَنْ استخف بأمر الحرم كيف صار أمره فكانوا يبنون دورهم والشجر فيها، وكذلك كانوا يحرمون الصيد في الحرم. قال مؤلف الكتاب: وقد ذكرنا أنه قطع الشجر بيده.
فصل عبد الدار ولد قُصي
فلما كبر قُصي ورَقّ عظمه، ولد، كان عبد الدار بِكْره أكبر ولده وكان أضعف ولده، فقال له: والله لألحقنك بالقوم، وإن كانوا قد شَرفُوا عليك، لا يدخل أحد من الكعبة حتى تكون أنت تفتحها، ولا يعقد لقريش لواء الحرب إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة ماء إلا من سقايتك ولا تقطع قريش أمراً إلا في دارك. فأعطاه دار الندوة التي لا تقضي قريش أمراً إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والسًقاية والرفادة، وكانت الرِّفادة خرجاً تخرجه قريش فتطعم الحاج على ما سبق ذكره . ومات قصي فدُفن بالحجون فتدافن الناس بعده بالحجون.
وقال الشرقي بن قطامي لأصحابه يوماً: مَنْ منكم يعرف علي بن عبد مناف بن شيبة بن عمرو بن المغيرة بن زيد؟ قالوا: ما نعرفه. قال: هو علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، اسم أبى طالب: عبد مناف، وعبد المطلب: شيبة، وهاشم: عمرو وعبد مناف: المغيرة، وقصي: زيد.


وأما كلاب: فأمه: هند بنت سرير بن ثعلبة، وله أخوان من أبيه، وهما: تَيْم، ويقَظَة: أمهما فيما قال ابن هشام بن الكلبي أسماء بنت عديَ بن حارثة . وفي قول ابن إسحاق: هند بنت حارثة البارقية . قال: ويقال: يَقَظَةْ لهند بنت سرير، أم كلاب.
وأما مرة :فأمه وَحْشية بنت شيبان بن محارب بن فهر، وأخواه لأبيه وأمه : عدي وهُصَيْص.
وأما كعب: فأمه ماوية بنت كعب بن القين، وله أخوان من أبيه وأمه: عامر وسامة، وله أخوان من أبيه، : خزيمة وسعد. أنبأنا يحيى بن الحسين بن الغيا قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سلمان الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم قال: . كان أول من سمى يوم الجمعة كعب بن لؤي وكان يوم الجمعة يسمى عروبة، فسماه يوم الجمعة لاجتماع قريش فيه إلى كعب بن لؤي وخطبته.
قال إبراهيم فحدثني عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أول مَنْ قال: أما بعد، كعب بن لؤي. قال الزبير: كان يقول: أما بعد فاسمعوا وتعلموا وافهموا، واعلموا ليل ساج، ونهار ضاح، والأرض عماد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام وليلي يلي ما يهيج، فصِلُوا أرحامكم، والدار أمامكم والظن غير ما تقولون، حرمَكُم زينوه وعظموه، وتمسكوا به، فسيأتي له بناء عظيم، وسيخرج به نبيِّ كريم، لو كنت ذا سمع وبصرٍ ورجل تنصيت له، تنصتَ الفحل وأرقلت له أرقال الجمل فرحاً بدعوته، جذلَاَ بصرخته.
وأما لؤي: فأمه: عاتكة بنت يَخْلُد بن النضر بن كنانة، وهي أول العواتك اللائي ولدن، رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن قريش،، وله أخوان من أبيه وأمه: تَيْم وقيس.
وأما غالب: فأمه: ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة، وإخوانه من أبيه وأمه: الحارث، ومحارب، ، وأسد، وعوف وجَوْن، وذئب .
وأما فهر: فأمه جَندَلة بنت عامر بن الحارث بن مُضاض الجرهميّ كذلك قال هشام .
وقال ابن إسحاق: جندلة بنت الحارث وقال أبو عبيدة: إنها هي سلمى بنت أد بن طابخة.
وقال علماء النسب: وإلى فهر جماع قريش لأنه من لم يكن من ولد فهو لا يُدعى قرشياً، وقيل: بل اسم فهر قريش. أنبأنا يحيى بن الحسين بن البنا قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي قال: أخبرنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي، عن جدي عبد الله بن مصعب أنه سمعه يقول: اسم فهر قريش وإنما فهر لقب.
قال الزبير وحدثني الموصلي قال: قال عثمان بن أبي سليمان: اسم فهر قريش.
قال الموصلي: وقال أبو عبيدة بن عبد الله: كذلك قال الزبير.
وحدثني إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا أبو البختري وهب بن وهب، قال: حدثني ابن أخي ابن شهاب، عن عمه: أن اسم فهر الذي سمته أمه قريش، وإنما نبزته فهراً. قال: وقد اجتمع نساب قريش وغيرهم أن قريشاً إنما تفرقت عن فهر.
فصل وكان فهر في زمانه رئيس الناس بمكة،
وكان قد أقبل من اليمن حسان بن عبد كلال الحميري يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل الناس عنده، فنزل بنخلة، فأغار على سَرْح الناس، فخرجت إليه قريش وقبائل كنانة وخزيمة وأسد وجذام، ورئيسهم يومئذ هو فهرم بن مالك. فاقتتلوا قتالا شديدآ فهزمت حمير وأسر حسان، أسره الحارث بن فهر، فأقام في الأسر بمكة ثلاث سنين حتى افتدى نفسه منهم، فأخرج، فمات بين مكة واليمن .
وأما مالك : فقال هشام: أمه عِكْرِشَة بنت عَدْوان.
وقال ابن إسحاق: عاتكة بنت عَدْوان. وِقيل: إن عِكْرِشَة لقب عاتكة. وكان له أخوان يقال لأحَدِهما: يخلُد، والآخر: الصلت.
وأما النضْر : فاسمه: قيس، وأمه: بَرًة بنت مًر بن أد، بن طابخة.
فصل تسمية قريش قريشاً
واختلف العلماء في تسمية قريش قريشاً على ستة أقوال: أحدها: أنها سميت بذلك بدابة تكون في البحر تأكل دواب البحر تدعى القرش، فشبه بنو النضر بن كنانة بها لأنها أعظم دواب البحر قوة وأنشدوا:
وقريش هي التي تسكن البحر بها سُميت قريش قريشاً


أنبأنا يحيى بن الحسن بن البنا قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، ومحمد بن الحسن قالا: أخبرنا علي بن جعفر بن محمد قال: حدثني أبو سعيد المحكي عن مَنْ حدَثه : أن عبد اللهّ بن عباس دخل على معونة وعنده عمرو بن العاص فقال له عمرو: إن قريشاَ تزعم أنك أعلمها فبم سميت قريش قريشاً؟. قال: بأمرين. قال: فأبن لنا، وهل قال أحد فيه شعراً. قال: نعم، سميت قريش بدابة في البحر تسمى قريشاً، وقد قال المشمرخ بن عمرو الحميري:
وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا تت ... رك فيه لدى جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون أكلًا حشيشا
ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والحموشا
تملأ الأرض خيله ورجال ... ينحرون المطي سيرأ قميشاً
والثاني: أنها سُمَيت بذلك لأجل فهر، وقد ذكرنا أن اسمه قريش فنسبت إليه، إذ ليس من ولده من لا يسمى قريشاً. قال مؤلف الكتاب: وهذا اختيار الزبير بن بكار.
والثالث: أنها سُمًيت بذلك لأن النضر كان يسمى قريشاً. أنبأنا يحيى بن الحسن بن البنا قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سلمان الطوسي قال: أخبرنا الزبير بن بكار قال: قال محمد بن الحسن، عن نصر بن مزاحم، عن عمرو بن محمد الشعبي قال: النضر بن كنانه هو قريش وإنما سُمي قريشآ لأنه كان يقرش عن خلة الناس وحاجاتهم فيسد ذلك لماله. والتقريش: هو التفتيش، وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيزودونهم بما يبلغهم، فسمًوا بذلك من فعلهم: قريشاً. وقد قال الحارث بن حلزة في بيان القرش: إنه التفتيش حيث يقول :
أيها الناطق المقرش عنا ... عند عمرو فهل لنا إبقاء
قال الزبير: وحدثني أبو الحسن الأثرم عن أبي عبيدة معمر بن مثنى قال: منتهى مَنْ وقع عليه اسم قريش: النضر بن كنانة فولده قريش دون سائر بني كنانة، فأما من ولد كنانة سوى النضر فلا يقال لهم قريش.
والرابع: أنها سُميت بذلك بقريش بن بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة. وقيل: هو قريش بن الحارث بن يخلد. وكان قريش هذا دليل بني النضر في أسفارهم، وكان له ابن يُسمى بدراً احتفر بئر بدر.
والخامس: أن النضر خرج يوماً على نادي قومه فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر كأنه حمل قريش. ذكره ابن جرير.
والسادس: أنه من الجمع، وذلك أن قُصيآ جمع بني النضر في الحرم من تفرقهم، فذلك المتجمع هو التقرش. قاله محمد بن جبير بن مطعم. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لما نزل قُصيّ الحرم فعل أفعالاً جميلة، فقيل له: القرشي، فهو أول من سُمّي به. وأنبأنا يحيى بن الحسن الفقيه قال: أخبرنا ابن المسلمة قال: أخبرنا المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سلمان قال: أخبرنا الزبير قال: حدثني أبو الحسن الأثرم ، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال: فإنما سمي بنو النضر قريشاً لتجمعهم لأن التقرش هو التجمع.
قال الزبير: ويدل على اضطراب هذا القول أن قريشاً لم يجتمعوا حتى جمعهم قصيّ بن كلاب. وقد حدثني محمد بن الحسن المخزومي عن عبد الحكم بن سفيان عن أبي نمر قال: إنما سُميت قريش قريشاً لجمع قُصيّ بن كلاب إياهم .
وأما كنانة: فأمه عَوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان. وقيل: بل أمه هند بنت عمرو بن قيس . وأما خزيمة : فأمه: سلمى بنت أسلم بن الحافِ بن قُضاعة .
وأما مدركة : واسمه: عمرو في قول ابن إسحاق. وقال هشام بن محمد: اسمه : عمرو، وأمه: خِنْدِف، وهىِ: ليلى بنت حُلوان بن عمران بن الحافِ بن قُضاعة، وأخو مدركة لأبيه وأمه: عامر وهو طابخة وعمير وهو قمعَة ويقال له: أبو خزاعة . قال ابن إسحاق: كان مدركة وطابخة في إبل لهما، فاقتنصا صيداً، فقعدا يطبخانه، وعدتْ عادية على إبلهما ، فقال عامر لعمرو: أتدرك الإبل أو تطبخ الصيد فقال عمرو: بل أطبخ الصيد، فلحق عامر الإبل فجاء بها، فلما راحا على أبيهما فحدثاه شأنهما قال لعامر: أنت مدركة، وقال لعمرو : وأنت طابخة.


وذكر هشام بت محمد بن السائب، : أن إلياس خرج في نجعة له، فنفرت إبله من أرنب، فخرج إليها عمرو فأدركها فسمي: مدركة، وأخذها عامر فطبخها فسُمَي: طابخة، وانقمع عمير في الخباء فلم يخرج فسمي قمعة، وخرجت أمهم تمشي فقال إلياس لها: أين تخندفين؟. فسمَيت خندف، والخندفة: ضرب من المشي. قال إلياس لعمرو ابنه:
إنكَ قد أدْرَكْتَ مَا طَلَبتَا
وقال لعامر:
وأنت قد أنضجت مَا طَبَخْتَا
وقال لعمير:
وأنت قد أسَأتَ وانقمعتا
وقد قال قصي بن كلاب: أمي خندف، وإلياس أبي .
وأما إلياس : فأمه الرباب بنت حَيدَة بن معد. وذى الزبير بن بكار: أن إلياس لما أدرك أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم وسيرتهم وكان فضله عليهم، فجمعهم برأيه، وردهم إلى سنن آبائهم ، وهو أول مَنْ أهدى البُدن إلى البيت وفي زمانه وهو أول مَنْ وضع الركن للناس بعد هلاكه، حتى غرق البيت وانهدم فوضعه في زاوية البيت ، ولم تبرح العرب تعظما إلياس تعظيم أهل الحكمة كتعظيمها لقمان، وهو أول مَنْ مات بالنبل فأسفت عليه زوجته خندف أسفاً شديداً، وكانت قد نفرت في مرضه أنه إن هلك لا تقيم في بلد مات فيه أبداً، ولا يظلها أسقف بيت وأن تسيح في الأرض فخرجت سائحة حتى هلكت حزناً.
فصل قمعة بن الياس
قال مؤلف الكتاب: وكان من أولاد إلياس: قمعة، وولد لقمعة لحي، وولد له : عمرو، وهو أولى من غير دين الحنفية دين إبراهيم، وأول من نصب الأوثان حول الكعبة، وجعل البحيرة، والسائبة، والوصاية، والحام، واستخراج إساف ونائلة فنصبهما. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " أريت النار فإذا فيها عمرو ولد لحي يتأذى أهل النار بريحه وهو أول من غير دين إبراهيم ورأيته يجر قصبه في النار " . وقال ابن عباس رضي الله عنه: قدم عمرو بن لحي بهبل من الشام فنصبه على الأخشب، وأمر الناس بعبادته، وأخرج إسافاً ونائلة من البيت فنصب إسافا مقابل الركن الأسود وبين زمزيم، ونصب نائلة إليه جانب البيت وتجاه المقام، ونصب بمنى سبعة أصنام، ونصبَ مُناة على ساحل البحر، واتخذ للعزى بنخلة بيتاً يطوفون به كطوافهم بالكعبة، فكانوا إذا طافوا بالبيت لم يحلوا حتى يأتوا العُزى، فيطوفون به.
وأما مُضر : فأمه سودة بنت عك، وأخوه لأبيه وأمه: إياد، ولهما أخوان من أبيهما واسمهما: ربيعة وأنْمار. وقد قال الزبير بن بكار: إن نزار بن معد لما حضرته الوفاة أوصى بنيه، وقسم ماله بينهم، فقال: يا بنيَ، هذه القبة وهي من أدم حمراء وما أشبهها من مالي لمضر، فسُمي مضر الحمراء. وهذا الخِباء الأسود وما أشبهه من مالي لِربيعة فخفَف خيلًا دهُماً ، فسمَي ربيعة الفُرْس . وهذه الخادم وما أشبهها من مالي لإياد وكانت شمطاء فأخذ البُلْق والنَقَد من غنمه وهذه البدرة، والمجلس لأنمار يجلس فيه ، فأخذ أنمار ما أصابه. وقال: فإن أشكل عليهم في ذلك شيء واختلفتم في القِسْمة فعليكم بالأفْعَى الجُرْهمي. فاختلفوا في القِسمة، فذهبوا إلى الأفعى. فبينما هم في مسيرتهم إذ رأى مُضَر كلأ قد رُعِيَ، فقال: إنّ البعير الذي قد رَعى هذا الكلأ لأعور، وقال ربيعة: إنه أزور، وقال إياد: هو أبتر. وقال أنمار: هو شَرْود.


فلم يسيروا إلأَ قليلاً حتى لقيَهم رجل تُوضِع به راحلته، فسألهم عن البعير، فقال مُضَر: هو أعور؟ قال: نعم. وقال ربيعة: هو أزور؟ قال: نعم. وقال إياد: هو أبتر؟. قال: نعم. وقال أنبار: هو شرود؟ قال: نعم، هذه والله صفة بَعِيري، دُلّوني عليه، فحلفوا: ما رأوْه . فلزمهم وقال: كيف أصدقكم وأنتم تصِفون بعيري فساروا جميعاً حتى قدموا نجران، فنزلوا بالأفعى الجُرهمي، فنادى صاحبُ البعير: إن بعيري عند هؤلاء الأقوام لأنهم وَصَفُوا لي صفته. ثم قالوا: لم نرِه. فقال الجُرهمى: كيف وصفتموه ولم تروه ؟ فقال مضر: رأيته يرعى جانباً ويَدَعَ جانباَ، ، فعرفت أنه أعور. وقال ربيعة رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر، فعرفت أنه أفسدها بشدة وطئه لازوراره. وقال إياد: عرفت أنه أبتر باجتماع بعده، فلولا ذلك لَمصِع به. وقال أنمار: عرفت أنه شرود لأنه يرعى بالمكان الملتفّ نبته، ثم يجوزه إلى مكان آخر أرق منه، نبتاً وأخبث . فقال الجرهمى: ليسوا بأصحاب بعيرك، فاطلبه، ثم سألهم فأخبروه فرحبّ بهم، ثم قال: أتحتاجون إليً وأنتم كما أرى ثم دعا لهم بطعام فأكلوا وأكل، وشربوا وشرب، فقال مُضَر: لم أر كاليوم خمراً أجود ، لولا أنها نبتت على قَبْر، وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحماً أطيب، لولا أنه رُبي بلبن كلبة. وقال إياد: لم أر كاليوم رجلاً أسْرى لولا أنه لغير أبيه الذي يدعى له . وقال أنمار: لم أر كاليوم كلاماً أنفع في حاجتنا من كلامنا. وسمع الجُرهمي الكلام فتعجب من قولهم وأتى أمه فسألها وهددها ، فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، وكرهت أن يذهب المُلك، فأمكنتْ رجلًا من نفسها كان نزل بها، فوطئها فحملت به، وسأل القهرمان عن الخمر، فقال: من حَباة غرستُها على قبر أبيك، وسأل الراعي عن اللحم، فقال: شاة أرضعتُها بلبن كلبة، يكن وَلَد فيِ الغنم شاة غيرها. فقيل لمضر: من أين عرفت الخمر ونباتها على قبر؟ قال لأنه أصابني عليها عطش شديد، وقيل لربيعة: فبم؟. قال: ذكر كلاماً. فأتاهم الجُرهمي فقال: صفوا لي صفتكم. فقصوا عليه ما أوصاهم به أبوهم فقضى بالقبة الحمراء والدنانير والإبل وهي حُمر لمضر، وقضى بالخباء الأسود والخيل الدُّهم لربيعة، وقضى بالخادم وكانت شمطاء وبالماشيهَ البُلْق لإياد، وقضى بالأرض والدراهم لأنمار. أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه أخبرنا أحمد بن معروف قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن قال: أخبرنا خالد بن خداش قال: أخبرنا عبد الله بن وهب قال: أخبرنا سعيد بن أبي أيوب، عن عبد الله بن خالد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاتَسبوا مُضَر فَإنَهُ كَانَ قَدْ أسْلَم " َ .
وأما نزار: فإنه يكنى: أبا إياد، وقيل: أبا ربيعة، أمه: مُعَانة بنت جَوْشم .
وأما معة : فأمّه: مهدد. أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز: قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوبه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه قال: كان معد مع بخت نصَر حين غزا حُصون اليمن. قال ابن سعد: ولم أر بينهم اختلافاً أن معدَّاً من ولد قيذار بن إسماعيل . أنبأنا الحسن بن عبد الوهاب البارع قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني علي بن المغيرة قال: لما بلغ بنو معد عشرين رجَلاَ أغاروا على عسكر موسى فدعا عليهم فلم يجب فيهم ثلاث مرات، فقال: يا رب دعوتك على قوم فلم تجبني فيهم بشيء. فقال: يا موسى دعوتني على قوم هم خيرتي في آخر الزمان .


قال: الزبير: وحدثني عبد العزيز بن يحيى بن زيد الباهلي، عن سليمان بن رفاعة، عن مكحول قال: أغار الضحاك بن معد على بني إسرائيل في أربعين رجلاً من بني معد عليهم دراريع الصوف خاطمي خيلهم بحبال الليف، فقتلوا وسبوا وظفروا. فقال بنو إسرائيل: يا موسى، إن بني معد أغاروا علينا وهم قليل، فكيف لو كانوا كثيراً، وأغاروا علينا وأنت نبينا، فادع الله عليهم. فتوضأ موسى وصلى ثم قال: يا رب إن بني معد أغاروا على بني إسرائيل، فقتلوا وسبوا وظفروا، فسألوني أن أدعوك عليهم. قال: فقال الله عز وجل: " يا موسى لا تدع عليهم فإنهم عبادي وإنهم ينتهون عند أول أمري وإن فيهم نبياً أحبه و أحب أمته " .
فقال: يا رب ما بلغ من محبتك له ؟.
قال: أغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال: يا رب ما بلغ من محبتك لأمته.
قال: يستغفرني مستغفرهم فاغفر له، ويدعوني داعيهم فأستجيب له.
قال: يا رب فاجعلهم من أمتي قال: ثلثهم منهم. قال: رب اجعلني منهم. قال: تقدمته تأخروا.
وأما عدنان : فإليه اتفاق النَسَّابين على ما تقدم، ويختلفون في الأسماء التىِ بعده على ما سبق بيانه.
ذكر أمهات رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال: أخبرنا أبو محمد النحوي قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا هشام. بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه قال: أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، وأمها: بَرة بنت عبد العزىّ بن عثمان بن عبد الدار بن قُصي بن كلاب، وأمها: أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصيّ بن كلاب، وأمُّها: برة بنت عوف بن عَبيد بن عَويج بن عَدي بن كعب بن لؤي، وأمًها: قلابة بنت الحارث بن مالك بن حباشة، وأمها: أميمة بنت مالك بن غَنْم بن لحيان، وأمها دب بنت ثعلبة بن الحارث بن تميم بن سعد، وأمُّها: عاتكة بنت غاضرة بن حُطيط بن جشم بن ثقيف، وأمّها ليلى بنت عوف. وأمّ وهب بن عبد مناف بن زهرة جد رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها : قَيْلَة، ويقال: هند بنت أبي قيلة، وهو وجز بن غالب بن الحارث بن عمرو بن ملكان، وأمها: سلمى بنت لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، وأمها: ماوية بنت كعب، وأم وجْز بن غالب: السّلامة بنت واهب بن البكير، وأمها: بنت قيس بن ربيعة، وأمّ عبد منَاف بن زهرة جُمل بنت مالك، وأم زُهرة بن كلاب أم قُصي، وهي فاطمة بنْت سعْد بن سَيَل . قال محمد بن السائب: كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحآ ولا شيئآ مما كان من أمر الجاهلية .
قال ابن سعد. وأخبرنا محمد بن عمر الأسلمي قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عبد الحميد بن سهيل، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خَرَجْتُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ مِن ْ نِكَاح غَيْر ِسِفَاح " .
قال الأسلمي: وحدثني محمد بن عبد الله بن مسلم، عن عمه الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خَرَجْتُ مِنْ نِكَاح غَيْر ِسِفَاح " .
أنبأنا الحسن بن محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سلمان بن داوود قال: حدثأ الزبير بن بكار قال: ولد عبد مناف بن زهرة وهباً، وهو جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو آمنة، وأمه: قيلة بنت قيلة، واسم أبي قيلة: وجز بن غالب بن عامر بن الحارث وهو غبشان،، ووجز هو: أبو كبشة الذي كانت قريش تنسب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم له، لأنه جده من قبل أمه، والعرب تظن أن أحداً لا يعمل شيئآ لا يعرف منزعه شبهه، فلما خالف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دين قريش قال مشركو قريش ندعوه أبا كبشة لأن أبا كبشة خالف الناس بعبادة الشعرى، وهو أول منْ عبد الشعرى، وكان يقول: إن الشعرى يقطع السماء عرضا ولا أرى في السماء شمساٌ ولا قمرآ ولا نجماً يقطع السماء عرضاً غيرها، والعرب تسميها: العبور لأنها تعبر السماء عرضاً وكان أبو كبشة سيداً في خزاعة لم يعيروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقص كان فيه ، ولكن لما خالف دينهم نسبوه إلى خلاف أبي كبشة، فقالوا: خالف كما خالف.


ذكر الفواطم والعواتك اللائي ولدن رسول اللّه
صلى الله عليه وسلم
قال مؤلف الكتاب : والعاتكة في كلام العرب: الطاهرة.


أخبرنا ابن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا هشام بن محمد السائب الكلبي، عن أبيه قال: أم عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصيّ، وقد وَلَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، هُضَيْبَة بنت عمرو بن عتُوارة بن عائش بن ظَرِب بن الحارث بن فهر، وأمّها ليلى بنت هلال بن وُهَيْب بن ضبة بن الحَارِث بن فهر وأمّها سَلْمَى بنْت مُحارب بن فهْر، وأمّها عاتِكة بنت يَخْلُد بن النَّضْر بن كنانة، وأم عمرو بن عُتوارة بن عائش بن ظِرب بن الحارث بن فهر عاتكة بنت عمرو بن سعْد بن عوف بن قَسيّ، وأمّها فاطمة بنت بلال بن عمْرو بن ثُمالة من الأزد، وأمّ أسد بن عبْد العزى بن قُصي، وقد وَلَدَ النَّبي صلى الله عليه وسلم الحظيا، وهي رَيْطة بنت كعب بن سعد بن تيم بن مُرة، وأمّ كعب بن سعد بن تيم نُعْمُ بنت ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر، وأمّها ناهية بنت الحارث بن منقذ بن عَمْرو بن مَعيص بن عَامر بن لُؤيّ، وأمّها سلمى بنت ربيعة بن وُهَيْب بن ضِباب بن حُجير بن عبد مَعيص بن عامر بن لؤيّ، وأمها خديجة بنت سعد بن سهم، وأمّها عاتِكة بنت عَبدة بن ذكوان بن غاضرة بن صعصعة، وأم ضِباب بن حجير بن عَبْد بن معيص فاطمة بنت عوف بن الحارث بن عبد منَاة بن كنانة، وأمّ عبيد بن عويج بن عدي بن كعب، وقد وَلَدَ النَبي مَخْشِيَّة بنت عمرو بن سلول بن كعب بن عمرو من خزاعة، وأمّها الربعة بنت حُبْشِية بن كعب بن عمرو، وأمها عاتِكة بنت مُدْلِج بن مُرَّة بن عَبد مَناة بن كنانة، فهؤلاء من قِبَل أمّه صلي الله عليه وسلم. وأمّ عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهي أقرب الفواطم إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم، وأمها صخرة بنت عبد بن عمران بن مخزوم، وأمها تَخْمر ُبنت عبد بن قُصي، وأمها سَلمى بنت عامرة بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر، وأمها عاتكة بنت عبد الله بن واثلة ابن ظَرِب بن عَيَاذَةَ بن عمرو بن قيس، ويقال: عبد الله بن حرب بن وائلة، وأم عبد الله بن وائلة بن ظَرِب فاطمة بنت عامر بن ظَرِب بن عَيَاذة، وأم عمران بن مخزوم سُعدى بنت وهب بن تيم بن غالب، وأمها عاتكة بنت هلال بن وُهيب بن ضبّة، وأم هاشم بن عبد منَاف بن قُصي عاتكة بنت مُرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة. بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خَصَفَةَ بن قيس بن عيلان، وهي أقرب العواتك إلى النبي صلي الله عليه وسلم، وأم هلال بن فالج بن ذكوان فاطمة بنت بُجيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة، وأم كلاب بن ربيعة مجد بنت تيم الأدرم بن غالب، وأمّها فاطمة بنت معاوية بن بكر بن هوازن، وأم مُرَّة بن هلال بن فالج عاتكة بنت عدي بن سهم من أسلمَ، وهم إخوة خزاعة، وأمّ وُهيب بن ضبة بن الحارث بن فهْر عاتكة بنت غالب بن فهر، وأم عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم فاطمة بنت ربيعة بن عبد العزى بن رزام بن حَجْوش بن معاوية بن بكر بن هوازن، وأم معاوية بن بكر بن هوازن عاتكة بنت سعد بن هذيل بن مدركة، وأمّ قُصي بن كلاب فاطمة بنْت سعد بن سَيَل من الجَدَرَة من الأزد، وأم عبد منَاف بن قُصي حُبّى بنت حُليل بن حُبْشية الخزاعي، وأمّها فاطمة بنت نصر بن عوف بن عمرو بن لحي من خزاعة، وأم كعب بن لؤي ماوية بنت كعب بن القين، وهو النعمان بن جَسْر بن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف قضاعة، وأمّها عاتكة بنت كاهل بن عذرة، وأمّ لؤي بن غالب عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة، وأمّ غالب بن فهْر بن مالك ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وأمّها سلمى بنت طابخة بن إلياس بن مضر، وأمّها عاتكة بنت الأسد بن الغوث. قال ابن سعد: وأنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبيّ عن أبيه: أنّ عاتكة بنت عامر بن الظرب من أمهات النَبيً صلى الله عليه وسلم، قال: أم برة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب أميمة بنت مالك بن غَنَم بن سويد بن حُبْشيّ بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان، وأمها قِلابة بنت الحارث بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان، وأمّها دبّ بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، وأمها لُبْنى بنت الحارث


بن نُمير بن اسيّد بن عمرو بن تميم، وأمها فاطمة بنت عبد الله بن حرب بن وائلة، وأمّها زينب بنت مالك بن ناضرة بن غاضرة بن حُطيط بن جُشَم بن ثقيف، وأمّها عاتكة بنت عامر بن ظَرِب، وأمها شقيقة بنت معْن بن مالك من باهلة، وأمها سَودة بنت أسَيد بن عمرو بن تميم. فهؤلاء العواتك وهن ثلاث عشرة، والفواطم وهن عشر.ن نُمير بن اسيّد بن عمرو بن تميم، وأمها فاطمة بنت عبد الله بن حرب بن وائلة، وأمّها زينب بنت مالك بن ناضرة بن غاضرة بن حُطيط بن جُشَم بن ثقيف، وأمّها عاتكة بنت عامر بن ظَرِب، وأمها شقيقة بنت معْن بن مالك من باهلة، وأمها سَودة بنت أسَيد بن عمرو بن تميم. فهؤلاء العواتك وهن ثلاث عشرة، والفواطم وهن عشر.
ذكر ما جرى لآمنة في زمان حملها لرسول اللّه
صلى الله عليه وسلم
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر بن واقد قال: حدَثني علي بن يزيد بن عبد اللّه بن وهب بن ربيعة، عن أبيه، عن عمته قال: كنا نسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حملت به آمنة بنت وهب كانت تقول: ما شعرت أني حملت به، ولا وجدت له ثقلة كما تجد النساء إلا أني قد أنكرت رفع حيضتي وربما كانت ترفعنىِ وتعود، ، وأتاني آت وأنا بين النائم واليقظان فقال: هل شعرت أنك حملت ؟ فكأني أقول: ما أدري، فقال: إنك قد حملت بِسيد هذه الأمًة ونبيها. وذلك يوم الإثنين. قالت: فكان ذلك ممِّا يَقًنَ عندي الحملَ، ثمً أمهلني حتى إذا دنت ولادتي أتاني ذلك الآتي فقال: قولي أعيذه بالواحد الصمَد من شر كل حاسد، قالت: فكنتُ أقولُ ذلك. فذكرت ذلك لنسائي فقُلنَ لي: تعلقي حديداً في عَضُدَيْكِ وفي عنقكِ، قالت: ففعلت فلم يكن تُرِكَ عليّ إلاً أياماً فأجده قد قُطع، فكنت لا أتعلقه وقال ابن واقد: وحدثني محمد بن عبد اللّه، عن الزهري قال: قالت آمنه: لقد عَلقْتُ به فما وجدتُ مَشَقَةً حتى وضعته .
قال ابن سعد: وأخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي قال: أخبرنا همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد اللّه قال: قالت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قد حملت الأولاد فما حملت سخلة أثقلَ منه .
قال ابن سعد: قال محمد بن عمر الأسلمي: وهذا مما لا يُعرف عندنا ولا عند أهل العلم، لم تلد آمنة ولا عبد الله بن عبد المطلب غير رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
قال الأسلمي: وحدثنيِ قيس مولى عبد الواحد، عن سالم، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: أمِرَتْ آمنه وهي حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمه أحمد .
ذكر وفاة عبد اللّه
قال مؤلف الكتاب: ولد عبد اللّه لأربع وعشرين سنة مضت منَ ملك كسرى أنوشروان، فبلغ سبع عشرة، ثم تزوّج آمنة فلمَا حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم توفي.
وأخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا ابن خيثمة قال: وأخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر بن واقد قال: حدَثني موسى بن عبيدة الرَبَذِي، عن محمد بن كعب قال: وأخبرنا سعيد بن أبي زيد، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قالا: خرج عبد الله إلى الشام إلى غزة في عيرِ من عِيَرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبدُ الله بن عبد المطلب يومئذ مريض، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عديّ بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً، ومضى أصحابه فقدموا مكة، فسألهم عبد المطلب عن عبد الله، فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار، وهو مريض. قال: فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي ودفن في دار النابغة، وهو رجل من بني عدي بن النجار، في الدار التي إذا، دخلتها فالدويرة عن يسارك. وأخبره أخواله بمرضه، وبقيامهم عليه ، وما ولوا من أمره، وأنهم قبروه، فرجع إلى أبيه فأخبره، فَوَجدَ عليه عبد المطّلب وإخوته وأخواته، وجدآ شديداً، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، يومئذ حَمْل، ولعبد الله يوم تُوفي خمس وعشرون سنة .


قال الواقْدي: ترك عبد الله أم أيْمن وخمسة أجمال أوارِك يعني تأكل الأراك وقطعة غنم، فورث ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكانت أم أيمن تحضنه ، واسمها: بركة .
قال مؤلفه : وقد روينا عن الزهري: أن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله إلى المدينة يمتار له تمراً فمات. والأول أصح . وروي لنا: أن عبد الله توفي بعد ما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرين شهراً. وقيل: سبعة أشهر. والأول أصح .
ذكر مولده عليه السلام
قال مؤلف الكتاب : وُلد عليه السلام في يوم الإثنين لعشر خلون من ربيع اللأول عام الفيل .
وقيل: لليلتين خلتا منه . وقيل: لإحدى عشرة ليلة خلت منه . وقال ابن عباس: وُلد يوم الجمعة يوم الفيل ، وكان قدوم الفيل وهلاك أصحابه يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم وكان أول المحرم تلك السنة الجمعة وذلك في عهد كسرى أنوشروان لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملكه. وقد حكى أبو بكر الحيري: أن شيخاً من الصالحين حكى له أنه رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المنام قال: قلت: يا رسول اللّه، بلغني أنك قلت: " ولدتُ في زمن الملك العادل " وإني سألت الحاكم أبا عبد الله الحافظ عن هذا الحديث فقال: هذا كذب لم يقله رسول اللّه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صدق أبو عبد الله " .
أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن عبد العزيز العكبري قال: أخبرنا أبو الحسن بن بشران قال: أخبرنا عمر بن الحسن الشيباني قال: حدَثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال: أخبرني محمد بن صالح القرشي قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدَثني ابن أبي سبرة، عن ابن جعفر محمد بن علي قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لعشر خلون من ربيع الأول، وكان قدوم الفيل للنصف من المحرم، فبين الفيل وبين مولد رسول اللَه عليه الصلاة والسلام خمس وخمسون ليلة وكان بين الفيل والفجار عشرون سنة، وكان بين الفجار وبنيان الكعبة خمس عشرة سنة. أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا عاصم بن الحسن قال: أخبرنا ابن بشراق قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن البراء قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإثنين لثمان خلون من ربيع الأول يوم العشرين من نيسان. أنبأنا يحيى بن الحسن بن البنا قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سلمان الطوسي قال: أخبرنا الزبير بن بكار قال: حدَثني محمد بن حسن، عن إبراهيم بن محمد، عن صالح بن إبراهيم، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن حسِّان بن ثابت قال: إني لغلام يَفَعة ابن سبع أو ثمان، إذا يهودي بيثرب يصرخ ذات، غداة: يا معشر يهود، فلما اجتمعوا قالوا: ما لك ويلك، ؟ قال: طَلَع نجم أحمد الذي ولد به هذه الليلة. قال: فأدركه اليهودي ولم يؤمن به . قال ابن جرير: وقيل إنه وُلد عليه السلام في الدار التي تعرف بدار محمد بن يوسف الثقفي. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وهبها لعقيل بن أبي طالب، فلم تزل في يد عقيل حتى توفي، فباعها ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج فبنى داره التي يقال لها: دار ابن يوسف، وأدخل ذلك البيت في الدار حتى أخرجته الخيزران فجعلته مسجدآ يصلى فيه
ذكر ما جرى عند وضع آمنة لرسول اللّه
صلى الله عليه وسلم
روى عثمان بن أبي العاص قال: حدَثتني أمي أنها شهدت، ولادة آمنه لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان ذلك ليلة ولدته قالت فما شيء أنظر إليه من البيت إلًا نورٌ وإنَي لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني، لأقول: لَيَقَعُنَّ عليَّ .


أنبأنا عبد الوهاب الحافظ قال: أخبرنا عاصم بن الحسن قال: أخبرنا الحسن بن بشران قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: أخبرنا أبو الحسن بن البراء قال: قالت آمنة ولدته جاثياً على رُكْبَتَيْه ينظر إلى السماء، ثم قبض قبضة من الأرض، وأهوى ساجداً، ووُلد وقد قُطعت سراره، فغطين عليه إناء فوجدته قد تفلق الإناء عنه وهو يمص إبهامه يشخب لبناً، وكان بمكة رجل من اليهود حين وُلد، فلما أصبح قال يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود. قالوا: لا نعلمه. قال: وُلد الليلة نبي العرب، به شامة بين منكبيه سوداء ظفراء، فيها شعرات فرجع القوم فسألوا أهليهم . فقيل: ولد الليلة لعبد المطلب غلام. فلقوا اليهودي فأخبروه، فنظر إليه فقال: ذهبت النبوهْ من بني إسرائيل، هذا الذي سر أحبارهم، أفرحتم يا معشر قريش واللّه لَيَسْطُوَنَ بكم سطوةً يخرج نبأها من المشرق إلى المغرب .
أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا عفان بن مسلم. وقال حدًثنا حمّاد بن سلمة، عن أيوب، عن عكرمة . أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولدتًه أمه وضعته تحت بُرمَةٍ فانفلقت عنه. قالت: فنظرت إليه فإذا هو قد شقّ بَصَرهُ بنظره إلى السماء . قال ابن سعد: وأخبرنا سعيد بن منصور قال: حدَّثنا فرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رَأت أمّي كَأنّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَام " .
قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عمرو بن واقد قال: حدثني علي بن يزيد بن عبد اللّه بن وهب بن زَمْعة، عن أبيه، عن عمّته قالت: لما ولدت آمنة بنت وهبِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى عبد المطّلب، فجاءه البشير وهو جالسٌ في الحِجْر معه ولده ورجال من قومه، فأخبره أنّ آمنة قد وَلَدَتْ غلاماً فسُرً بذلك عبد المطّلب وقام هو ومَنْ معه فدخل عليها فأخبرته بكلّ ما رأت، وما قيل لها وما أمرتْ به، فأخذه عبد المطّلب فأدخله الكعبة وقام عندها يدعو اللّه ويشكر ما أعطاه . قال ابن واقدٍ : أخبرت أن عبد المطلب قال يومئذ :
الحَمْدُ للّه الذي أعطاني ... هذا الغُلامَ الطيبَ الأردان
قد سادَ في المهدِ على الغلمان ... أعيذُهُ بالبيت ذي الأركانِ
حتى أراهُ بالغَ البُنْيَانِ ... أعيذُهُ مِنْ شَرً ذي شنْآنِ
مِنْ حَاسِدٍ مضطَرِبِ العِنَانِ
ذكر الحوادث التي كانت ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك الحافظ قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن محمد بن فهد العلاف قال: أخبرنا أبو الفرج محمد بن فارس الغوري قال: أخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد بن علي بن أبي قيس قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال: حدَّثنا علي بن حرب قال حدًثنا يعلى بن عمران البجلي قال: حدَثني مخزوم بن هانىء، عن أبيه وأتت له خمسون ومائة سنةٍ قال: لما كانت الليلةُ التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارْتَجَسَ إيوانُ كِسْرى، وسقَطَتْ منه أربع عشرةَ شرفة ، وغاضت بحيرة سَاوَة، وخمدت نارُ فارس ولم تخمُدْ قبلَ ذلك بألف عام، ورأى الموبِذَان إبلاً صِعَاباً تقود خيلاً عِرَاباً قد قطعت دِجْلةَ وانتشرت في بلادها.
فلما أصبح كسرى أفْزعه ما رأى، فتصبر عليه تَشجُعا، ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومَرَازَبَتِهِ ، فلبس تاجه، وقعد على سريره، وجمعهم إليه، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا إلا أن يُخبرنا الملك. قال المصنف رحمه الله : رأى كسرى ارتجاس الإيوان وسقوط الشرف فحسب لا المنام، فالمنام للموِبذان وهو قاضي قضاتهم .


فبينا هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النار ، فازداد غماً إلى غمه، فقال الموبذان: وأنا أصلح الله الملك قد رأيت في هذه الليلة. وقص عليه الرؤيا في الإبل، فقال: أي شيءٍ يكون هذا يا مُوْبذان ؟ فقال: حادث يكون من عند العرب. فكتب عند ذلك إلى النعمان بن المنذر: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد: فوجهْ إلي رجلاً عالماً بما أريد أن أسأله عنه. فوجه إليه عبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بُقَيْلَة الغساني. فلما قدم عليه، قال له: هل عندك علم بما أريد أن أسألك عنه قال: ليخبرني الملك. قال: فإن كان عندي منه علم أخبرته ، وإلا أخبرته بمن يعلمه، فأخبره بما رأى، فقال: علم ذلك عند خالٍ لي يسكن مشارف الشام، يقال له: سَطِيح. قال: فاته فاسأله عما سألتك عنه وائتني بجوابه.
فركب عبد المسيح راحلته حتى قدم على سطيح، وقد أشفى على الموت، فسلم عليه. وحياه، فلم يخبر سطيح جواباً، فأنشأ عبد المسيح يقول:
أصم أمْ يَسْمَعُ غِطْريفُ اليَمَنْ ... أمْ فاد فَازلم به شَأْوُ العَنن
يا فَاصِلَ الخطَةِ أعْيَتْ مَنْ وَمَن ... وَكَاشِف الكرْبَةِ عَنْ وَجْهٍ غَضن
أتَاكَ شَيْخُ الحَيَ مِنْ آل سَنَن ... وَامه من آل ذْئِبِ بن حَجن
أزْرَقُ بَهْمُ النَابِ صَوَارُ الأذُن ... أبيضُ فَضْفَاضُ الرًداءِ والبَدن
رسولُ قَيْل العُجْم يَسْري بالرسَن ... لا يرهب الرعْدَ ولا رَيْبَ الزَمن
فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه وقال: عبد المسيح، على جمل مسيح، إلي سطيح، وقد أوفى على الصريح، بعثك ملك بني ساسان لإرتجاس الأيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموُبِذَان، رأى إبلًا صِعَاباً، تقود خيلًا عِرَابأ، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها. يا عبد المسيح، إذا كثرت التَلاوة، وظهر صاحبُ الهِرَاوةَ، وفاض وادى السمَاوة، وغَاضَت بُحَيْرة ساوَة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاماً، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه، فصار عبد المسيح إلى أهله وهو يقول:
شَمر ْفَإِنَّكَ مَاضِي الهَمً شِمير ... لا يُفْزعَنَك َ تَفْرِيقٌ وتَغْيير
إنْ يُمْس مُلْكُ بني ساسان أفْرَطَهُم ... فإِن ذَلِكَ أطْوَار دَهَارير
فَرُبَّما رُبَّمَا أضْحَوْا بِمَنْزِلةٍ ... يَهاب صَولَتَهَا الأسْدُ الَمَهاصير
منهم أخُو الصَرْح بَهْرَام وإخْوتُه ... والهُرْمُزَان وسَابُور وسَابورُ
والنَاسُ أولاد عَلاَّتٍ فَمَنْ عَلِمُوا ... أنْ قد أقَل فَمَحْقُور وَمَهْجُور
وَهم بنو الامَ إِمَّا إِن رَأوْا نَشَباً ... فَذَاكَ بالغَيْبِ مَحْفُوظٌ وَمَنْصُورُ
والخيرُ والشَرُّ مَقْرُونَانِ من قَرَن ... والخيرُ مُتًبعٌ والشَّرُّ مَحْذُورُ
فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بقول سطيح، فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً قد كانت أمور، فملك منهم أربعة عشر، عشرةً في أربع سنين، ومَلَكَ الباقون إلى خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه .
ذكر أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم
روى حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنا مُحمَدٌ ، وَأحْمَدُ، وَالحَاشِرُ، والمُقفّي، ونَبي الرحْمَةِ " . وروى جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنا مُحَمّدٌ ، وَأحْمَدُ، وَالحَا شِرُ، وَالمَاحِي، وَالخَاتِمُ، وَالعَا قِبُ " .
قال مؤلف الكتاب: ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم : نبي التوبة، ونبي الملاحم، والشَاهد، والمبشر، والنذ ير، والضحوك، والقتال، والمتوكل، والفاتح، والأ مين، والخاتم، والمصطفى، والرسول، والنبي الأمي، والقُثم " .
والحاشر: الذي يحشر الناس على قدميه يقدمهم وهم خلفه. والمقفي: آخر الأنبياء وكذلك العاقب. والملاحم: الحروب. والضحوك: اسمه في التوراة وذلك أنه كان طيب النفس فكهاًالقُثَم: من القثم ، وهو الإعطاء، وكان أجود الخلق صلى الله عليه وسلمِ.
ذكر صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم


أخبرنا هبة الله بن محمد قال: أخبرنا الحسن بن علي التميمي قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: حدَثنا عبد الله بن أحمد قال: حدًثني أبي قال: أخبرنا أبو سلمة قال: أخبرنا سليمان بن بلال. قال: حدَثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك ينعت رسول الله عليه وسلم. يقول: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رَبْعَة من القَوْم، ليس بالقصير ولا بالطويل البائن، أزْهَرَ ليس بالآدَم ولا الأبيض الأمْهَق ، رَجِلُ الشعر، ليس بالسًبِطِ ولا بالجَعْدِ القَطَطِ " . أخبرنا عمر بن أبي الحسن البسطامىِ قال: أخبرنا أحمد بن منصور الخليلي قال: أخبرنا علي بن أحمد القداعي قال: أخبرنا الهيثم بن كليب قال: حدَّثنا أبو عيسى، عن يونس، عن عمر بن عبد الله مولى غُفْرة قال: حدثني إبراهيم بن محمد من ولد علي بن أبي طالب قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لم يكن بالطويل الممَغَّط ولا بالقصير المتردد، كان رَبْعًةَ من القوم، لم يكن بالجَعْد القَطَط ولا بالسبْط، كان جُعْداً رَجلَاَ فلم يكن بالمطهم ولا بالمتكلم، وكان في وجهه تدوير، أبيض مُشْرَبَةٍ حمرة، أدعج العينين، أهْدب الأشفار، جليل المشاش والكتِدِ، أجرد،، ذو مسربه ، شثن الكَفَين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنّما ينحط في صَبَب، وإذا التفت التفت معاً، بين كَتِفَيْه خاتم النبوة، وهو خاتَم النبيين، أجود الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وألْينهم عريكهَ، وأكرمهم عِشْرهَ ، مَنْ رآه بديهة هابه، ومَنْ خالطه معرفة أحبه. يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى الله عليه وسلم . قال الترمني: سمعت أبا جعفر محمد بن الحسين يقول: سمعت الأصمعي يقول : الممغَّط: الذاهب طولاً.
والمتردد: الداخل بعضه في بعض قِصَراً.
وأما القطط: فشدة الجعودة.
والرَجِلُ : الذي في شعره جعودة أي تثنٍ قليل.
والمطهم: المبدن الكثير اللحم.
والمتكلثم: المدور الوجه.
والمشرب: الذي في بياضه حمرة.
والأدعج: الشديد سواد العين .
والأهدب: الطويل الأشفار.
والكتد: مجتمع الكتفين وهو الكاهل.
والمسربة: الشعر الدقيق الذي كأنه قضيب من الصدر إلى السُّرة.
والشثن: الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين.
والتقلع: أن يمشى بقوة. والصبب: الحدور. يقول: انحدرنا في صبب. وقوله: جليل المشاش: يريد رؤوس المناكب.
والعشرة: الصحبة .
والبديهة: المفاجأة.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا جرير بن حازم قال: حدًثني مَنْ سمع الزهري يحدث: أن يهودياً قال: ما كان بقي شيء، من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة إلا رأيته إلا الحلم، فإني أسلفته ثلاثين ديناراً إلى أجل معلوم، وتركته حتى إذا بقي من الأجل يومٌ أتيته فقلتَ: يا محمد، أقضي حقي، فإنكم معاشر بني عبد المطلب مَطْل. فقال عمر: يا يهودى الخبيث، أما واللّه لولا مكانه لضربتُ الذي فيه عيناك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " غَفَرَ اللًه ُ لَكَ يَا أبا حَفْصٍ، نَحْنُ كُنا إلى غَيْرِ هَذَا مِنْكَ أحوج إلى أن تَكُونَ أمَرْتَني بقَضَاءِ ما عَلَيّ، وَهُو َإلى أنْ تكُونَ أعَنْتَهُ في قَضاءِ حَقه أحْوَجُ " .
قال: فلم يزده جهلي عليه إلأَ حلماً. قال: " يا يهوديّ، إِنَما يَحِلّ حَقكَ غَداً " . ثم قال : " يا أبا حفصٍ اذْهَبْ به إلى الحائِطِ الذي كان سَألَ أوّلَ يَوْمٍ، فَإنْ رَضِيَهُ فَأعْطِهِ كذا وكذا صاعاً، وزِدهُ لِما كلت لَهُ كذا وكذا صاعاً، فَإِنْ لَم ْ يَرْضَ ذلك فأعْطِهِ مِنْ حائط كذا وكذا " .
فأتى به الحائط فرضي تَمْر فأعطاه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أمره من


الزيادة. فلما قبض اليهودي تمره قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، وأنّه والله ما حملني على مارأيتني صنعتَ يا عمر إلا أني قد كنتُ رأيت في رسول الله صلى الله عليه وسلم صفته في التوراة كلها إلا الحلم، فاختبرتُ حلمه اليوم فوجدتُه على ما وصف في التوراة، وإني أشهدك أن هذا التمر وشطر مالي في فقراء المسلمين. قال عمر: أو بعضهم. قال: أو بعضهم، فأسلم أهل بيت اليهودى كلهم إلا شيخاً كان، ابن مائة سنة فعسا على الكفر.
قال ابن سعد: وحدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن موسى بن يعقوب الزَّمَعي، عن سهل مولى عُتيبة: أنه كان نصرانياً، وكان يتيماً في حجر أمه وعمّه، فكان يقرأ الإنجيل، قال: فأخذت مصحفاً لعمي فقرأته حتى مرت بي ورقة: فأنكرت كتابتها حين مرت بي، ومَسِسْتُها بيدي، قال: فنظرت، فإذا فَصُولُ الورقة، ملصقة، ففتقتُها فوجدتُ فيها نعت محمّد صلى الله عليه وسلم: لا قصير ولا طويل، أبيض، ذو ضفيرين بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتبَاء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشاة، ويلبس قميصاً مرقوعاً، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد. قال: فجاء عمي فرأى الورقة فضربني وقال: مالك وفتح هذه الورقة. فقلت: فيها نعت النبيّ أحمد صلى الله عليه وسلم. وقال: إنه لم يأت بعد .
قال محمد بن سعد: وأخبرنا يزيد بن هارون، وهاشم بن القاسم قالا: حدَثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون قال: أخبرنا هلال، عن عطاء بن يسار وقال: سُئل عبد الله بن عمرو بن العاص عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل واللّه، إنه موصوف في التوراة بصفته في القرآن " يايهُا النَبيُّ إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً وَنَذِيراً " وهي في التوراة : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، ، أنت عبدى ورسولي، سميتُك المتوكل، ليس بفظ ولا غليط ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى اقيم به الملة العَوْجاء، بأن يقولوا لا إله إِلا الله، فيفتح به أعيناً عُمياً، وآذاناً صُماً، وقلوباً غُلْفأ . قال وهب بن منبه: أوحى اللهّ تعالى إلى شعيا: إني مبعث نبياً أمياً، أفتح به اذانَاَ صُماً، وقلوباً غُلفاً، وأعيناً عمياً، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، وملكه بالشام، عبدي المتوكل المصطفى، المرفوع الحبيب المجيب، لا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، رحيم بالمؤمنين وليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوَال للخنا، أسدده لكل جميل وأهب له كل خلق كريم، أجعل السكينة لباسَه، والبر شعاره، والتقوى ضميره. والحكمة مقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمغفرة، والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملّته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلّف به بين قلوب مختلفة ، وأهواءٍ متشتّتة وأمم متفرقة. أجعل أمته خير أمةٍ أخرجت للناس تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، توحيداً لي، وإيمانَاَ بي، وإخلاصاً لي، وتصديقاً لِما جاءت به رسلي وهم دعاة الشمس، طوبى لتلك القلوب .
ذكر الحوادث التي كانت في عام ولادته
صلى اللّه عليه وسلم
قال مؤلف الكتاب : من أعظم الحوادث في عام ولادته قصة الفيل وقد ذكرناه.
ومن الحوادث عامئذ يوم جَبلة . قال أبوعبيدة : أعظم أيام العرب يوم جبلة، وكان عامَ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان لعامرٍ ، وعبس على، ذبيان، وتميم، وقد قال الرضي في ذلك:
فمن إباءِ الأذى حلت جماجمها ... على مناطلها عبسٌ وذبيانُ


ومن ذلك: رضاع ثويبة له أيامأ ثم قدوم حليمة لرضاعه . أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أيامأ، ثم قدمت حليمة بنت أبي ذؤيب واسمه: عبد الله بن الحارث بن شِجْنَة وزوجها الحارث بن عبد العُزىّ بن رفاعة. واسم إخوته من الرضاعة: عبد الله بن الحارث وأنيسة بنت الحارث، وجُدامة بنت الحارث، وهي: الشَيْماء غَلب ذلك على اسمها، فلا تعرفُ إلأ به، ويزعمون أن الشيماء كانت تحضنه مع أمها، إذ كان عندهم، وأن الشيماء سُبيت يوم حنين فقالت: أعلموا أني أخت نبيكم. فلما اتي بها عرفها، فأعتقها. وكانت حليمة من بني سعد بن بكر .
أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن سعد قال: حدًثنا محمد بن عمر بن واقد قال: حدَّثني موسى بن أبي شيبة، عن عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك، عن بَرة بنت تَجْرَاهً قالت: أول مَنْ أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُويبة بلبن ابن لها، يقال له: مسْرُوح، أياماً قبل أن تقدم حليمة، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب رضي اللهّ عنه،، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي .
وقد ذكرنا أن عبد المطلب تزوج هالة وزوج ابنه عبد الله: آمنة في مجلس واحد فولد حمزة، ثم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابنها مسروح أياماً، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عُرضت عليه ابنة حمزة ليتزوجها: " إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي، أرضعتني وإياه ثويبة " . وأعتق أبو لهب ثويبة وكانت ثويبة تدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما تزوَج خديجة فيكرمها النَّبي صلى الله عليه وسلم وتكرمها خديجة، وهي يومئذ أمة، ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليها بعد الهجرة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر.
قال مؤلفه : ولا نعلم أنها قد أسلمت، بل قد قال أبو نعيم الأصفهاني حكى بعض العلماء أنه قد اختلف في إسلامها. أخبرنا علي بن عبد الله الذغواني قال: أخبرنا عبد الصمد بن علي بن المايون قال: أخبرنا عبيد الله بن محمد بن حبابة قال: أخبرنا يحيى بن صاعد قال: أخبرنا الحسن بن أبي الربيع قال: حدثنا وهب بن حزم قال: حدَثنا أبي، عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن عروة قال : كانت ثويبة لأبي لهب فأعتقها، فأرضعت النبي صلي الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله في النوم فقال: ماذا لقيت يا أبا لهب؟ فقال: ما رأيت بعدكم روحاً غير أنى سقت في هذه مني بعتقي ثويبة. وأشار إلى ما بين الإبهام والسبابة.
حديث حليمة أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون قال: أخبرنا محمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني وأبو طالب علي بن محمد اليماني قالا: أخبرنا محمد الحسين السلمي قال: أخبرنا عبد الله بن زيدان قال: أخبرنا هارون بن إدريس السلمي قال: أخبرنا عبد الرحمن يعني المحاربي عن محمد بن إسحاق قال: حدَّثني جهم بن أبي جهم الجمحي، عن عبد اللّه بن جعفرعن حليمة ابنة الحارث أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته السعدية قالتَ: خرجت في نسوة من بني سعد بن بكر بن هوازن تلتمس الرضعاء بمكة، فخرجت على أتَانٍ لي قَمْرَاءَ قد أذَمًتْ بالركب قالت: وخرجنا في سنة شَهْبَاءَ ، لم تبقِ لنا، شيئاً أنا وزوجي الحارث بن عبد العُزىّ، قالت: ومعنا شَارف لنا والله لم تَبِضَ علينا بقَطْرة مِن لبن، ومعي صبي ما ننام ليلنَا من بكائه، وما في ثديّ من لبن يُغْنِيه، ولا في شَارِفَنا من لبن يُغَذَيه، إلا أنا نرجو، فلما قدمنا مكة لم يبْق منا امرأة إلأ عُرِض عليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَتأبَاهُ وإنما كُنَا نَرْجُو الكرامة في رضاعة مَنْ نُرضع له من أبي المولود، فكان نبينا صلي الله عليه وسلم، فقلنا: ما عسى أن تَصْمع لنا امُّه ؟ فكُنَا نأبى، حتى لم يبق من صويحباتي امرأة إلا أخذت رضيعأ غيري. قالت: فكرهت أن أرجع ولم آخذ شيئاً، وأخذ صويحباتي، فقلت لزوجي


الحارث: واللّه لأرجعنَ إلى ذلك اليتيم فلآخذنَه. قالت: فأتيته فأخذته، ثم رجعت إلى رحلي. فقال لي زوجي: قد أخذتِه. قالت: قلت: نعم، وذاك أني لم أجد غيره. قال: قد أصبت عسى الله أن يجعل لنا فيه خيراً. قالت: والله ما هو إلا أن وضعته في حجري، فاقبل عليه ثَدياي بما شاء من لبن فَشَرِبَ حتى رَوِي، وشرِبَ أخوه حتى رَوِيَ، وقام زوجي الحارث إلى شارفنا فإذا هي ثَجَّاء فحلب، علينا ما شئنا فشرب حتى روي وشربتَ حتى رويت.
قالت: فمكثنا بخير ليلة شباعاً رواء. قالت: فقال زوجي: والله يا حليمة ما أراك إلا قد أصبت نَسَمةً مباركةً، قد نام صبياننا، وقد روينا.
قالت: ثم خرجنا فو الله لخرجت أتاني أمام الركب، قد قطعتهم حتى ما يتعلق بها منهم أحد، حتى إنهم ليقولون: ويحك يا بنت الحارث، كفىِ عنا، أليست هذه أتَانُكَ التي خرجت عليها؟ فأقول: بلى والله، فيقولون: إن لها لشأنا حتى قحمت منازلنا من حاضر منازل بني سعد بن بكر. قالت: فقدمنا على أجدب أرض الله. قالت: فو الذي نفس حليمة بيده إن كانوا ليسرحون أغنامهم إذا أصبحوا وأسرح راعي، غنيمتي، وتروح غنمي حُفلاً بطانأ، وتروح أغنامهم جياعاً هلكى، ما بها من لبن فنشرب ما شئنا من اللبن، وما من الحاضر من أحد يحْلب قطرة ولا يجدها. قالت: فيقولون لرعاتهم: ويلكم ألا تسرحون حيث يسرح راعي حليمة. فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه، وتروحُ أغنامهم جياعاً ما لها من لبن وتروح غنمي حُفلأ لَبَناً.
قالت: وكان يشب في اليوم شباب الصبي في الشهر ويشب في الشهر شباب الصبي في سنة. قالت: فبلغ سنتين وهو غلام جَفْر. قالت: فقدمنا به على أمه، فقلت لها، وقال لها زوجي: دعي ابني فلنرجع به، فإنا نخشى عليه وباء مكة. قالت: ونحن أضن شيء به لما رأينا من بركته صلى الله عليه وسلم. فلم نزل بها حتى قالت: ارجعي به.
قالت: فمكث عندنا شهرين، قالت فبينما هو يلعب يوماً مع إخوته خلف البيت إذ جاء أخوه لم يشتد، فقال لي ولأبيه: أدْركا أخي القرشي فقد جاءه رجلان فأضْجَعاهُ فَشَقا بَطْنَه.
قالت فخرجت وخرج أبوه يشتد نحوه، فانتهينا إليه وهو قائم ممتقع لونه، فاعتنقته واعتنقه أبوه وقال: مالك يا بني؟ قال: أتاني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني، والله ما أدري ما صنعا. قالت: فاحتملناه ورجعنا به. قالت: يقول زوجي يا حليمة، والله ما أرى الغلام إلا قد أصيب، فانطلقي فلنرده إلى أمه قبل أن يظهر به ما نتخوسْ عليه. قال: فرجعنا به إلى أمه. فقالت: ما ردكما وكنتما حريصين عليه؟ فقلنا: لا والله إلا أنا كفلناه وأدَينا الذي علينا من الحق فيه ثم تخوفنا عليه الأحداث، فقلنا يكون عند أمه. قالت: والله ما ذاك بكما، فأخبراني خبركما وخبره، قالت: والله ما زالت بنا حتى أخبرناها خبره. قالت: أتخوفتما عليه. لا والله إن لابني هذا شأناً لا أخبركما عنه. إني حملت به فلم أحمل حملًا قط هو أخف منه، ولا أعظم بركة منه، ولقد وضعته فلم يقع كما يقع الصبيان، لقد وقع واضعاً يده في الأرض رافعاً رأسه إلى السماء. دعاه والحقا بشأنكما .
ذكرما جرى في السنة الثالثة من مولده صلى الله عليه وسلم قال مؤلف الكتاب: من ذلك شقّ صدره، وقد ذكرناه، وظاهر هذا الحديث أن آمنة حملت غير رسول اللة. وقد قال الواقدي: لا يعرف عنه أهل العلم أن لآمنة وعبد اللة ولداً غيررسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما حليمة: فهي بنت أبي ذويب واسمه: عبد العُزَى بن الحارث بن شجنة بن جابر السعدية، قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تزوجِ خديجة، فشكت إليه جدب البلاد، فكلّم خديجة فأعطتها أربعين شاة، وأعطتها بعيراَ، ثم قدمت عليه بعد النبوة فأسلمت وبايعت، وأسلم زوجها الحارث بن عبد العُزى .


أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد اللّه بن أحمد قال: أخبرني أبىِ قال: أخبرنا حيوة. وزيد بن عبد ربه قالا: أخبرنا بقية قال: حدَثني يحيى بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن أبي عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد السلمي: أنه حدَثهم أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول اللة ؟ قال: " كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بُهم لنا، ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخي اذهب فاتنا بزادٍ من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فاقبل طائران أبيضان كأنهما نسران فقال أحدهما لصاحبه: هو هو؟ قال: نعم. فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني إلى القفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين. فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء وثلج فغسلا به، جوفي، ثم قال: ائتني بماء بَرَد فغسلا به قلبي ثم قال ائتني بالسكينة. فذراها في قلبي ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه . فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة، وقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفة واجعل ألفأ من أمته في كفة فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أشفق أن يخرً علي بعضهم. ثم قال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم.
ثم انطلقا وتركاني وقد فرقت فَرقاً شديداً، ثم انطلقت إلى أمي، فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون التبس بي فقالت: أعيذك بالله فحملتني على الرحل وركبت خلفي، حتى إذا بلغنا إلى أمي فقالت: أديتُ أمانتي وذمتي، وحدثتها الحديث، فلم يرعها ذلك، وقالت: إني رأيت حين خرج مني نوراً أضاءت منه قصور الشام .
وروي عن، مكحول، عن شداد بن أوس قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل شيخ من بني عامر فقال: يا ابن عبد المطلب، إني أنبئت أنك0 تزعم أنك رسول الله إلى الناس، فأنبئني بحقيقة ذلك وبدو شأنك.
" يا أخا بني عامر، إن حقيقة قولي وبدو شأني دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى بن مريم، وإن أمي لما وضعتني كنت مسترضعاً في بني ليث بن بكر، فبينا أنا ذات يوم منتبذٌ من أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان، إذ أنا برهط ثلاثة معهم طست من ذهب مليء ثلجاً، فأخفوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هراباً حتى انتهوا إلى شفير الوادي، ثم أقبلوا على الرهط فقالوا: ما أربكم إلى هذا الغلام؟ فإنه ليس منا، هذا ابن سيد قريش، وهو مسترضع فينا، غلام يتيم ليس له أب، فماذا يرد عليكم قتله؟ فإن كنتم لا بد قاتليه فاختاروا منا أينا شئتم فاقتلوه. فلما رأى الصبيان أن القوم لا يحيرون إليهم جواباً انطلقوا هراباً مسرعين إلى الحي، يستصرخونهم، فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعاً لطيفاً، ثم شق ما بين مفرق رأسي إلى منتهى عانتي، وأنا أنظر إليه، ولم أجد لذلك مساً، ثم أخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها، ثم أعادها مكانها ثم قام الثاني منهم فقال لصاحبه: تنح. فنحاه عني، ثم أدخل يده من جَوفي فأخرج قلبي، وأنا أنظر إليه، فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها، ثم قال: قال بيمينه ويساره كأنه يتناول شيئاً فإذا أنا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه فختم به، قلبي فامتلأ نوراً، ثم أعاده مكانه، فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهراً، ثم قال الثالث لصاحبه: تنح فنحاه عني ، فأمر بيده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، ثم أخذ بيدي فانهضني من مكاني إنهاضاً لطيفاً، ثم قال للأول للذي شق بطني: زنه بعشرة من أمته. فوزنني بهم فرجحتهم. ثم قال: زنه بمائة من أمته. فوزنني بهم فرجحتهم. ثم قال: زنه بألف من أمته فوزنني بهم فرجحتهم . فقال: دعوه، فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم.


قال: ثم ضموني إلى صدورهم ، وقبَّلوا رأسي وبين عيني ، ثم قالوا: يا حبيب لم تُرعْ إنك لو تدري ما يراد بك من الخير ولو علمت ما يراد بك، لقرت عيناك. قال: فبينا نحن كذلك إذا أنا بالحي قد جاءوني بحذافيرهم، وإذا أمي وهي ظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وهي تقول: يا ضعيفَاَ. فأكبوا عليً، وقبّلوا رأسي وما بين عيني، فقالوا: حبذا أنت من ضعيف. ثم قالت ظئري: يا وحيداً. فأكبوا على فضموني وقبّلوا ما بين رأسي وعيني، ثم قالت ظئري: يا يتيماً يا مستضعفآ أنت من بين أصحابك فقتلت لضعفك. ثم ضمتني إلى صدرها، فو الذي نفسي بيده انني لفي حجرها وإن يدي لفي يد بعضهم، فجعلت ألتفت إليهم وظننت أن القوم يبصرونهم ، فإذا هم لا يبصرونهم، فقال بعض القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لمم أوطائف من الجن، فانطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه فقلت ما بي من، شيء مما يذكر. فقال أبي وهو زوج ظئري: ألا ترون كلامه كلام صحيح ، إني لأرجو أن لا يكون با بني بأس. فاتفقوا على أن يذهبوا بي إلى الكاهن ذهبوا بي إليه، فقصُوا عليه قصتي، فقال: اسكتوا حتى اسمع من الغلام، فإنه أعلم بأمره منكم. فسألني فقصصت عليه أمري، فوثب إليَّ وضمني إلى صدره، ثم نادى بأعلى صوته: يال العرب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فو اللات والعزى لئن تركتموه وأدرك ليبدلنّ دينكم. ثم احتملوني فذاك بدو شأني " .
أخبرنا محمد، بن عبد الباقي البزاز قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدَثني عبد اللّه بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما قامت سوق عكاظ انطلقت حليمة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عَرًاف من هذيل يريه الناسُ صبيانهم. قال: فلما نظر إليه صاح: يا معشر هذيل، يا معشر العرب، فاجتمع إليه الناس من أهل الموسم. فقال: اقتلوا هذا الصبي. فانسلت به حليمة، فجعل الناس يقولون: أي صبي. فيقول: هذا الصبي. فلا يرون شيئاً. قد انطلقت به أمه. فيقال له: ما هو ؟ فيقول: رأيت غلاماً، وآلهته، ليقتلن أهل دينكم، وليكسرن آلهتكم، وليظهرن أمره عليكم. فطلب بعكاظ، فلم يوجد ورجعت به حليمة إلى منزلها، وكانت بعد ذلك لا تعرضه لعرافٍ ولا لأحد من الناس .
قال محمد بن عمر: وحدثني زياد بن سعد بن عيسى بن عبد الله بن مالك قال: جعل الشيخ الهُذَليّ يصيح: يال العرب، يال هذيل، إن هذا لينتظر أمراً من السماء. وجعل يغري بالنبي لله، فلم يَنْشَبْ أن وَلهَ وذهب عقله حتى مات كافراً .
قال محمد بن عمر: وحدثني معاذ بن محمد بن أبي رباح، عن ابن عباس قال : خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته مع أخته، فقالت: في هذا الحر فقالت أخته: يا أماه، ما وجد أخي حراً، رأيت غمامة تُظِل عليه فإذا وقف وقفت، وإذا سار سارت معه ، حتى انتهى إلى هذا الموضع. وهذا كان في السنة الثالثة من مولده صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه السنة: من مولده صلى الله عليه وسلم وُلد أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
ذكر ما جرى في السنة الرابعة من مولده صلى الله عليه وسلم قال مؤلف الكتاب: قد ذكرنا أن شق صدره عليه الصلاة والسلام، كان في سنة ثلاث من مولده. وقد، قيل: في سنة أربع.


أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر، عن أصحابه قال: مكث عندهم سنتين حتى فُطم، وكان ابن أربع سنين فقدموا به على أمه وهم، زائرون لها به، وأخبرتها حليمة خبره، وما رأوا من بركته، فقالت آمنة: ارجعي بابني فإنىٍ أخاف عليه وباء مكة، فو الله ليكونن له شأن فرجعت به ولما بلغِ أربع سنين كان يغدو مع أخيه وأخته في البَهْم قريباً من الحي، فأتاه المَلَكان هناك فشقَا بطنه وأستخرجا عَلَقَة سَوْداءَ فطرحاها وغسلا بطنه بماء الثلج في طَست من ذهب، ثم وُزِن بألف من أمته فوزنهم، فنزلت به إلى أمه امنة بنت وهب فأخبرتها خبره، ثم رجعت به أيضاً ، وكان عندها حولًا أو نحوها لا تدعه يذهب مكانأ بعيدأ، ثم رأت غمامة تظِلّه، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، فأفزعها ذلك أيضاً من أمره فقَدِمَتْ به إلى أمه لترده وهو ابن خمس سنين، فأضلها في الناس، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطلب فأخبرته فالتمسه عبد المطلب فلم يجده، فقام عند الكعبة فقال:
لاهم أد راكبي مُحمداَ
أدهِ إليَّ واصْطَنِعْ عِنْدي لَدا
أنت الذي جعلته لي عَضُدَا "
قال مؤلف الكتاب : وقد رُوي لنا أن عبد المطلب بعثه في حاجة له فضاع فقال هذا .
قال: وقد روينا أن حليمة قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقد تزوًج خديجة، فشكت إليه جدب البلاد وهلاك الماشية، فكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خديجة فيها، فأعطتها أربعين شاة ويعيراً موقعاً للظعينة وانصرفت إلى أهلها ثم قدمت عليه بعد الاسلام فاسلمت هي وزوجها وبايعاه .
أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا عبد اللّه بن نمير قال: أخبرنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن المنكدر قال: استأذنت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم كانت أرضعته فلما دخلت عليه قال: " أمّي أمي " وعَمَدَ إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه . وقد روي لنا أنها جاءت إلى أبي بكر فأكرمها. وإلى عمر رضي اللّه عنهما ففعل مثل ذلك .
ذكر الحوادث التي كانت سنة خمس من مولده عليه السلام أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال أخبرنا علي بن محمد، عن محمد بن الفضل، عن أبي حازم قال: قدم كاهن مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن خمس سنين، وقد قدمت به ظئره إلى عبد المطلب، وكانت تأتيه به في، كل عام، فنظر إليه الكاهن مع عبد المطلب فقال: يا معشر قريش، اقتلوا هذا الصبي، فإنه يفرّقكم ويقتلكم فهرب به عبد المطلب، فلم تزل قريش تخشى من أمره ما كان الكاهن حذرهم ، ذكر الحوادث في سنة ست من مولده صلى الله عليه وسلم أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف الخشاب قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدَثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمرو قال: أخبرنا محمد بن عبد الله، عن الزهري قال:


وأخبرنا محمد بن صالح، عن عاصم، عن عمرو بن قتادة قالوا: حدَثنا عبد الرحمن بن عبد العزيزعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: حدَثنا هاشم بن عاصم الأسلمي عن أبيه عن ابن عباس دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب، فلما بلغ ست سنين خرجت به إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم به، ومعه أم أيمن حاضنته وهم على بعيرين، فنزلت به في دار النابغة فأقامت به عندهم شهراً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أموراً في مقامه ذلك، فلما نظر إلى أطم بني عدى بن النجار وعرفه قال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذه الأطام، وكنت مع غلمان من أخوالي نطير طائراً كان يقع عليه، ونظر إلى الدار فقال: ها هنا نزلت بي أمي، وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله بن عبد المطّلب، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه.
قالت أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله، من كلامه، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانوا بالأبواء توفيت أمه آمنة بنت وهب، فقبرها هنالك، فرجعت به أم أيمن إلى مكة، وكانت تحضنه مع أمه، ثم بعد أن ماتت.
فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية بالأبواء قال: " إِن الله قد أذن لمحمدٍ في زيارة قبر، أمه " فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلحه وبكى عنده وبكى المسلمون لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل له: فقال: " أدركتني رحمة رحمتها فبكيت " .
قال محمد بن سعد: وأخبرنا قبيصة بن عقبة قال: حدثنا سفيان بن سعيد الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: لما فتح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكة أتى جذم قبر أمه فجلس إليه وجلس الناس حوله، فجعل كهيئة المخاطب، ثم قام وهو يبكي، فاستقبله عمر. وكان من أجْرأ الناس عليه، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي أبكاك ؟ قال: " هذا قبر أمي، سألت ربي الزيارة فأذن لي، وسألته الاستغفار فلم يأذن لي، فذكرتها فوقفت فبكيت " فلم يُرَ يوماً، أكثر باكيأ من يومئذ .
قال ابن سعد: هذا غلط ليس قبرها بمكة إنما قبرها بالأبواء. أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا عاصم بن الحسين قال: أخبرنا أبو الحسن بن بشران قال: أخبرنا ابن السماك قال: حدَّثنا ابن البراء قال: حدثني الحسين بن جابر وكان من المجاورين بمكة : أنه رفع إلى المأمون أن السيل يدخل قبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم لموضع معروف هناك، فأمر المأمون بإحكامه . قال ابن البراء: وقد وصف لي وأنا بمكة موضعه، فيجوز أن تكون توفيت بالأبواء ثم حملت الى مكة فدفنت بها .
ذكر الحوادث التي كانت سنة سبع من مولده صلى الله عليه وسلم
من ذلك كفالة عبد المطلب له
أخبرنا محمد بن أبى طاهر البزاز قال:. أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدَثنا محمد بن سعد قال: حدَثنا محمد بن عمر بن واقد قال: حدَثني محمد بن عبد الله قال: أخبرني الزهري.
قال: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن حمزة، عن عبد اللّه. قال: وحدَثنا هاشم بن عاصم الأسلمي، عن المنذر بن جَهْم قال: وأخبرنا معمر، عن أبي نجيح، عن مجاهد قال: وأخبرنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن ابي الحويرث قال: وأخبرني ابن أبي سبرة، عن سلمان بن سُحيم، عن نافع بن جبير دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب وضمه ورقَ عليه رِقة لم يَرقها على ولده، وكان يقربه منه ويدنيه ويدخل عليه اذا خلا واذا نام وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب اذا رأى ذلك: دعوا ابني، إنه ليُؤنسُ مُلكاً. وقال قوم من مدلج لعبد المطلب: احتفظ به، فإنا لم نَر قدماً أشبه بالقدم التي في المقام منه. فقال عبد المطلب لابنه أبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء، فكان أبو طالب يحتفظ به.
وقال عبد المطلب: لأم أيمن وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بركة، لا تغفلي


عن ابني، فإنني وجدته مع غلمان قريباً من السدرة فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة، وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلا قال: عليَ بابني. فيؤتى به إليه. فلفَا حضرت عبد المطلب الوفاةُ أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله وحياطته .
ومن ذلك خروج عبد المطلب برسول الله
صلى الله عليه وسلم عن منام رقيقة
أخبرنا عبد الله بن علي المقرىء، ومحمد بن ناصر الحافظ قالا: أخبرنا طراد بن محمد قال: أخبرنا علي بن محمد بن بشران قال: أخبرنا الحسن بن صفوان قال: حدثنا عبد الله بن محمد القرشي قال: أخبرنا زكريا بن يحيى الطائي قال: حدَثني زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب قال: قال عمي عروة بن مضرس.
تحدث نخرمة بن نوفل عن أمه رقيقة ابنة صفي بن هاشم وكانت لِده عبد المطلب قالت: تتابعت على قريش سنون أقحلت الضَرْع وأدقًت العظم. فبينا أنا نائمة اللهم أو مهمومة إذا هاتف يصرخ بصوت حَمل يقول: يا معشر قريش، إن هذا النَّبيَّ المبعوث فيكم قد أظلتكم أيامه، وهذا إبان نجومه فحيهلا بالحَيَا والخصب، ألا فانظروا رجلًا منكم وسيطاً عظاماً جسَاماً، أبيض بَضاً أوطفَ الأهداب، سهل الخدين، أشمَّ العرنين، له فخر يكظم عليه، وسنة تهدي إليه فليَخْلص هو وولده، وليهبط إليه من كل بطن رجل، فليسنوا من الماء، وليمسوا من الطيب، ثم ليستلموا الركن، ثم ليرتقوا أبا قُبيس، فليستسق الرجل، وليؤمِّن القوم، فغِثْتم ما شئتم. فأصبحتُ عَلم الله مذعورة، وقد اقشعر جلدي ووَله عقلي، واقتصصت رؤياي، فو الحرمة والحَرَم ما بقي أبْطحي إلا قال: هذا شَيْبة الحمد.
فتتامَّت إليه رجالات قريش، فهبط إليه من كل بطن رجل، فسنوا ومسُّوا واستلموا، ثم ارتقوا أبا قُبَيس وطبقوا جانبيه فما يَبْلغ سعيهم مُهْلةً، حتى إذا استووا بذروة الجبل قام عبد المطلب، ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام قد أيفع أو كَرب، فقال: " اللهم ساد الخلة، وكاشف الكربة، أنت معلم غير مَعلم، ومسؤول غير مبخل، وهؤلاء عبادك وإماؤك بغدرات حرمك يشكون إليك سنتهم، أذهبت الخف والظلف، اللهم فأمطرنا غيثا مغدقاً ممرعاً " .
فو الكعبة ما زالوا حتى تفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي بثجيجه، فلسمعت شِيخان قريش وجلتها: عبد الله بن جُدعان، وحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة، يقولون لعبد المطلب: هنيئاً لك أبا البطحاء. أي: عاش بك أهل البطحاء. وفي ذلك تقول رقيقة:
بشَيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... لما فقدْنا الحيا وأجلوَذ المطرُ
فجاد بالماء جَوْني له سَبل ... سحاً فعاشتَ به الأنعام والشجر
منّاً من اللة بالميمون طائره ... وخيْر مَنْ بشرت يوماً به مُضر
مَبَارَكُ الأمر يُسْتسقى الغمام به ... ما في الأنام له عِدْلٌ ولا خطر
ومن الحوادث هذه السنة
تهنئة سَيْف بن ذي يَزَن بالمُلك
خروج عبد المطلب لتهنئة سَيْف بن ذي يَزَن بالمُلك، وتبشير سَيْف عبد المطلب بأنه سيظهر رسول الله من نسْله: أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا عاصم بن الحسن قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد البراء قال: حدثني يزيد بن رجاء الغنوي قال: حدَثني أبو الصهباء أحمد بن محمد العبدي قال: حدثني ابن مزروع الكلبي عن أبيه قال: لما ملك سَيْف بن ذي يَزَن أرض اليمن وقتل الحَبَش وأبادهم، وفدت إليه أشراف العرب ورؤساؤهم ليهنئوه بما ساق الله عز وجل إليه من الظفر، ووفد وفد، قريش وكانوا خمسة من عظمائهم : عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبد الله بن جدعان، وخويلد بن أسد، ووهب بن عبد مناف بن زهرة . فساروا حتى وافوا مدينة صنعاء، وسَيْف بن ذي يَزَن نازل بقصر يسمى غُمْدَان وكان أحد القصور التي بنتها الشياطين لبلقيس بأمر سليمان، فأناخ عبد المطلب وأصحابه، واستأذنوا على سيف فأذن لهم، فدخلوا وهو جالس على سرير من ذهب وحوله أشراف اليمن على كراسي من الذهب وهو متضمخ بالعنبر، وبصيصُ المسك يلوح من مفارق رأسه فحيٌوه بتحية الملك، ووضعت لهم كراسي الذهب، فجلسوا عليها إلا عبد المطلب، فإنه قام ماثلًا بين يديه واستأذنه في الكلام، فقيل له: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فتكلم.


فقال: أيها الملك، إن الله قد أحلك محلًا رفيعاً صعباً منيعاً شامخاً باذخأ منيفاً وأنْبتَك مَنْبتاً طابت أرومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فَرْعه في أطيب مغرس وأعذب منبت، فأنت أيها الملك ربيع العرب الذي إليه الملاذ، وذروتها الذي إلي المعاد، وسلفك لنا خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، لن يهلك مَنْ أنت خلفه، ولن يَخْمل من أنت سلفه، ونحن أيها الملك أهل حَرَم الله وسدنة بيت الله، أوفدنا إليك الذي أبْهَجنا مِن كشف الضر الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد الترزئة .
فقال سيف: أنتم قريش الأباطح. قالوا: نعم.
قال: مرحباً وأهلأ، وناقة ورَحْلًا ومُناخَاَ سهلأ، وملكأ سَمحلًا يعطي عطاءً جزلًا، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف فضلكم، فأنتم أهل الشرف والحمد والثناء والمجد فلكم الكرامة ما أقمتم، والحباء الواسع إذا انصرفتم. ثم قال لعبد المطلب: أيهم أنت. قال: أنا عبد المطًلب بن هاشم. قال: إياك أردت، ولك حشدت، فأنت ربيع الأنام، وسيد الأقوام، انطلقوا فانزلوا حتى أدعو بكم . ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم، فأقاموا شهراً لا يدعوهم، حتى انتبه لهم ذات يوم فأرسل إلى عبد المطلب: ائتني وحدَك من بين أصحابك فأتاه فوجده مستخلياً لا أحد عنده، فقربه حتى أجلسه معه على سريره، ثم قال له: يا عبد المطلب، إني أريد أن ألقي إليك من علمي سراً لو غيرك يكون لم أبح به إليه، غير أني رأيتك معدنه، فليكن عندك مصوناً حتى يأذن الله عز وجل فيه بأمره، فإن الله منجز وعده، وبالغ أمره. قال عبد المطلب: أرشدك الله أيها الملك.
قال سيف: أنا أجد في الكتب الصادقة، والعلوم السابقة التي اختزنَاها لأنفسنا، وسترناها عن غيرنا خبراً عظيماً وخطراً جسيماً، فيه شرف الحياة، وفخر الممات للعرب عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة.
فقال عبد المطلب: أيها الملك، لقد أبتُ بخير كثير ما آب به وافد، ولولا هيبة الملك وإعظامه لسألته أن يزيدني من سروره إياي سروراً.
فقال سيف: نبي يُبعث من عقبك، ورسول من فرعك، اسمه محمد وأحمد وهذا زمانه الذي يولد فيه، ولعله قد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، وباعثه جهاراً، وجاعل له أنصاراً يُعِزً بهم أولياءه ويُذل بهم أعداءه، تخمد عند مولده النيران، ويُعبد الواحد الديان، ويزجر الكفر والطغيان، ويكسر اللات والأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
قال عبد المطلب: علا كعبك، ودام فضلك، وطال عمرك، فهل الملك سارى بإفصاح تفسيروإيضاح؟ فقال سيف: والبيت ذي الحُجُب، والآيات والكتب إنك يا عبد المطلب لجده بلا كذب . فخَر عبد المطلب ساجداً فقال: ارفع رأسك، ثلج صدرُك، وطال عمرك وعلا أمرك، فهل أحسست شيئاً مما ذكرت؟ قال عبد المطلب: نعم أيها الملك، كان لي ولد كنت به، معجباً فزوجه كريمة من كرائم قومي تسمى: آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته: محمداً وأحمد مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه.
قال: هو هو لله أبوك، فاحذر عليه أعداءه ، وإن كان الله لم يجعل لهم سبيلاً، ولولا علمي بأن الموت مجتاحي قبل ظهوره لسرت بخيلي ورجلي حتى أجعل مدينة يثرب دار ملكي، فإني أجد في كتب آبائي أن بيثرب، استتباب أمره، و أهل دعوته ونصرته، وفيها موضع قبره، ولولا ما أجد من بلوغه الغايات، وأن الآفات، وأن أدفع عنه العاهات، لأظهرت اسمه، وأوطأت العربَ عقِبه وإن أعش فسأصرف ذلك إليه، قم فانصرف ومَنْ معك من أصحابك. ثم أمر لكل رجل منهم بمائتي بعير وعشرة أعبُدٍ من الحبش وعشرة أرطال من الذهب، وحلتين من البرود، وأمرلعبد المطلب بمثل جميع ما أمر لهم، وقال له: يا عبد المطلب، إذا شب محمد وترعرع فأقدم علي بخبره. ثم ودعوه وانصرفوا إلى مكة.
وكان عبد المطلب يقول: لا تغبطوني بكرامة الملك إياي دونكم، وإن كان ذلك جزيلاً، وفضل إحسانه إلي، وأن كان كثيراً، أغبطوني بأمرٍ ألقاه إلي فما فيه شرفٌ لي ولعقبي من بعدي فكانوا يقولون له: ما هو؟ فيقول لهم: ستعرفونه بعد حين.
فمكث سيف باليمن عدة أحوال، وإنه ركب يوماً كنحو ما كان يركب للصيد، وقد كان اتخذ من السودان نفراً يجهزون بين يديه بحرابهم، فعطفوا عليه يوماً فقتلوه، وبلغ كسرى أنوشروان فرد إليها وهرز وأمره أن لا يدع أسود إلا قتله .


قال مؤلف الكتاب: وقد روي لنا أن هذه الوفاة إلى ابن ذي يزن كانت في سنة ثلاث من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، روينا ذلك عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، والرواية التي ذكرنا آنفاً أصح، لأن في الروايتِين يقول عبد المطلب: توفي أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه. وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تمت حتى بلغ ست سنين.
ذكر الحوادث التي كانت في سنة ثمان من مولده صلى الله عليه وسلم
منها موت عبد المطلب
روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر قال: كان عبد المطلب يوصي برسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب. وذلك أن أبا طالب وعبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا لأمٍ وأب.
قال مؤلف الكتاب: قلت : وقد كان الزبير عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمهما أيضاً لكن كفالة أبي طلب له لسبب فيه ثلاثة أقوال: أحدها: وصية عبد المطلب لأبي طالب.
والثاني: أنهما اقترعا فخرجت القرعة لأبي طالب.
والثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاره.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا ابن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال أخبرنا محمد بن سعد قال أخبرنا محمد بن عمر بن واقد وقال: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري قال: وحدثني عبد الله بن جعفر بن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله قال: وأخبرنا هشام بن الأعصم الأسلمي، عن المنذر بن جهم قال: وحدًثنا معمرعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: وأخبرنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن أبي الحويرث قال: وأخبرنا ابن أبي سبرة، عن سلمان بن سحيم عن نافع بن جبير دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: لما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلي الله عليه وسلم وحياطته، ولما نزل بعبد المطلب الوفاة قال لنسائه ابكينني، وأنا أسمع فبكته كل واحدة منهن بشعر، فلما تسمع قول أميمة وقد أمسك لسانه جعل يحرك رأسه أي قد صدقتِ، وقد كنتُ كذلك وهو قولها:
أعَيْنَي جُودا بدمع دِرَر ... عَلى طيبِ الخِيم وَالمُعْتَصَرْ
عَلى مَاجِدِ الجَد ّواري الزنادِ ... جميل المُحيا عَظِيم الخَطَر
عَلى شَيْبَة الحَمِد ذي المَكرُمَاتِ ... وفي المَجدِ والعز والمُفْتَخَرْ
وذي الحلم والفضل في النائبات ... كثيرِ المَكارِم جَم الفَخَرْ
له فضلُ مَجْدٍ عَلى قوْمِه ... مُبِينٍ يَلُوحُ كضَوء القَمَرْ
أتَتْهُ المَنَايَا فَلَمْ تُشْوِه ... بصَرْفِ الليالي وَرَيْبِ القَدَر
قال: ومات عبد المطلب وهو يومئذ ابن اثنتين وثمانين سنة.
ويقال: ابن مائة وعشر سنين . وقيل: ابن مائة وعشرين سنة.
وسئل رسول الله صلي الله عليه وسلم أتذكر موت عبد المطلب ؟ قال: " نعم أنا يومئذ ابن ثمان سنين " .
قالت أم أيمن: رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم يومئذ يبكي خلف سرير عبد المطلب . وقد أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا عاصم بن الحسن قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: أخبرنا عثمان بن محمد الدقاق قال: أخبرنا أبو الحسن بن البراء قال: توفي عبد المطلب ورسول الله صلي الله عليه وسلم قد أتى عليه ثمانية وعشرون شهراً. قال وهذا المحفوظ من القول.
قال مؤلف الكتاب : والقول الأول أصح.
وتوفي عبد المطلب في ملك هُرْمز بن أنو شروان، وكان قد مات قبل ذلك أنو شروان وعلى الحيرة قابوس بن المنذر.
ومن الحوادث كفالة أبي طالب رسول الله
صلي الله عليه وسلم
أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر بن واقد قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، مجاهد قال.
وأخبرنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن عطاء، عن ابن عباس قال. وأخبرنا محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن حبيبة دخل حديث بعضهم في أحديث، بعض قالوا :


لما تُوًفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله صلي الله عليه وسلم إليه فكان يكون معه وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبه حباً شديداً لا يحبًه ولدَه ، وكان لا ينام إلا جنبه، ويخرج فيخرج معه، وصب به أبو طالب صبابة لم يُصب مثلها بشيء قط، كان يخصه بالطعام، وإذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فُرادى لم يشبعوا، وإذا معهم رسول الله صلي الله عليه وسلم شبعوا، فكان إذا أراد أن يُغَذيَهُم قال: كما أنتم حتى يحضُر ابني فيأتي رسول الله صلي الله عليه وسلم فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، وإذا لم يكن معهم لم يشبعوا، فيقول أبو طالب: إنّك لمبارك وكان الصبيان يصبحون رُمْصاً شُعثاً، ويصبح رسول الله صلي الله عليه وسلم دهيناً كحيلًا .
قال محمد بن سعد: وحدًثنا عثمان بن عمر بن فارس قال: أخبرنا ابن عون، عن عمرو بن سعيد قال: كان أبو طالب تُلقى له وسادة يقعد عليها، فجاء النبي صلي الله عليه وسلم وهو غلام فقعد عليها، فقال أبو طالب: وإله ربيعة، إن ابن أخي ليُحسن بنعيم . قال محمد بن سعد: وأخبرنا إسحاق الأزرق قال: أخبرنا عبد الله بن عون، عن عمرو بن سعيد: أن أبا طالب قال: كنت بذي المجاز، ومعي ابن أخي يعني النبي صلي الله عليه وسلم فأدركني العطش، فشكوت إليه فقلت: يا ابن أخي قد أدركني العطش. وما قلت له ذاك، وأنا أدري أن عنده شيئأ إلا الجَزَع، قال: فثنى وَرِكه، ثم نزل فقال: يا عَم أعَطِشْت ؟ قال: قلت: نعم: فأهوى بعقبه إلى الأرض، فإذا بالماء فقال: اشْرَبْ يَا عم فشربت .
قال محمد بن سعد: وأخبرنا محمد بن عمر قال: حدًثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سَبْرة، عن حسين بن عبد الله بن العباس، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: حدثتني أم أيمن قالت: كان بِبُوانة صنمٌ تحضره قريش وتعظمه، وتنسك له النسَائكَ، ويحلقون رؤوسهم عنده، ويعكفون عنده يوماً إلى الليل، وذلك يوماً في السنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه وكان يكلم رسول الله أن يحضر ذلك العيد مع قومه، فيأبى رسول الله ذلك، حتى رأيت أبا طالب غضب عليه،، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب ، وجعلن يقلن: إنًا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، وجعلن يقلن: ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا، ولا تكثرلهم جمعا. فلم يزالوا به حتى ذهب عنهم، فغاب ما شاء الله، ثم رجع إلينا مرعويأ فقالت له عماته : ما دهاك ؟ قال: إني أخْشَى أنْ يَكونَ بي لَمم. فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذى رأيت ؟ قال: إني كلما دَنَوْتُ صَنَم مِنْهَا تَمَثل لي رجُلٌ أبْيَضُ طَويلٌ يصيح بي: وَرَاءَكَ يا مُحَمد، لاتَمسهُ قالت فما عاد إلى عيدٍ لهم حتى تنبأ صلي الله عليه وسلم.
ومن الحوادث هلاك حاتم الطائي
وهو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرىء القيس، وأمه: غنية بنت عفيف، من طيء، ويكنى: أبا سفانة ؟ وهي ابنته، وأبا عدي.
وسفًانة هي التي أتت رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت: هلك الوالد ومات الوافد .
وكان شاعراً جواداً، إذا سئل أعطى ووهب، واذا غنم انهب، ومر في سفر له على عيره وفيهم أسير، فاستغاث به وما حضره فكاكه. فقال: أسأت إِلي حين فوهت باسمي، وما أنا ببلاد قومي وليس عندي ما أفديك به. ثم اشتراه وخلأه، وأقام مكانه في القيد حتى أتي بفدائه.
وقسم ماله بضع عشرة مرة، وكان له قدور عظام بفنائه على الأثافي لا تزل، فإذا أهل رجب نحر كل يوم، وأطعم، فكان أبوه جعله في إبل له وهو غلام، فمر به عبيدة بن الأبرص وبشر بن أبي حازم والنابغة الذبياني يريحون النعمان، فقالوا: هل من قري؟ فقال: تسألون عن القراء وأنتم ترونْ الإبل والعنز فنحر لكل رجل منهم بعيراً ولم يعرفهم، ثم سألهم عن أسمائهم فتسموا له، ففرًق الإبل فيهم والغنم، وبلغ ذلك أباه فجاءه فقال ما فعلت الإبل ؟ قال: يا أبه طوقتك مجد الدهر طوق الحمامة. وحدَّثه بما صنع. قال: إذن لا أساكنك. قال إذن لا أبالي، فاعثر له. وقال حاتم يذكر قول ابيه فيه :
واني لعف الصبر مشترك الغنى ... تَرُوك لشكل لايوافقه شكلي
ولي نيقةٌ في البذل والجود لم يكن ... تأنقها فيمنْ مضى أحد قبلي
وما ضرني أن سارسعد بأهلِه ... وخلفني في الدار ليس معي أهلي


فما من كريم غاله الدهرُمرة ... فيذكرها إلا تردد في البذل
وما من بخيل غاله الدهر مَرةً ... فيذكرها إلا تردد في البخل
أخبرنا عبد الله بن علي المقري، والحسن بن أحمد بن محبوب قالا: أخبرنا طراد بن محمد قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن جعفر الحودي قال: أخبرنا أبو بكر القرشي قال: حدثني عمر بن بكير، عن أبي عبد الرحمن الطائي، عن ملحان بن عركر بن حلبس الطائي، عن أبيه، عن جده وكان أخا عدي بن حاتم لأمه قال: قيل لنوار امرأة حاتم: حدثينا عن حاتم.
قالت: كل أمره كان عجباً أصابتنا سنة خصت كل شيء. قال: فاقشعرت لها الأرض، واغبرت لها السماء، وضنَت المراضع على أولدها ، وراحت الإبل ما تبض بقطرة، وأنا لفي ليلة صنبرة بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغى الصبية من الجوع: عبد الله، وعدي، وسفانة، فو الله إن وجدنا شيئاً نعللهم به فقام إلى أحد الصبيين فحمله، فقمت إلى الصبية فعللتها، فو الله إن سكتا إلا بعد هدأة من الليل، ثم عدنا إلى الصبي الآخر فعللناه حتى سكت، وما كاد ثم افترشنا قطيفة لنا شامية ذات خمل فأضجعنا الصبيان عليها ونمت أنا وهو في حجرة والصبيان بينناْ، ثم أقبل علي يعللني لأنام وعرفت ما يريد، فتناومت. فقال: ما لك، أنمت ؟ فسَكتُ. فقال: ما أراها الا قد نامت وما بي من نوم ، فلما ادلهم الليل، وتهورت النجرم، وهدأت الأصوات، وسكنت الرجل إذا جانب البيت قد رفع، فقال: مَنْ هذا ؟ فولى حتى إذا قلت قد أسحرنا أو كدنا عاد فقال: مَنْ هذا. قالت: جارتك فلانة يا أبا عمي ما وجدت على أحدٍ معولاً غيرك ، أتيتك من عند صبية يعوون عواء الذئب من الجوع. قال: اعجليهم علي قالت: النوار، فوثبت فقلت: ماذا صنعت، فو الله لقد تضاغى أصبيتك فما وجدت ما تعللهم به، فكيف بهذه وبولدها ؟! فقال: اسكتي، والله لأشبعنك وإياهم إن شاء الله قالت: فأقبلت تحمل اثنين وتمشي جنبتيها أربعة، كأنها نعامة حولها رئالها. قالت: فقام إلى فرسه فوجأها بحربته في لبته، ثم قدح زنده وأورى ناره، ثم جاء بمدية فكشط عن جلده، ثم دفع المدية إلى المرأة ثم قال: دونك، ثم قال: ابعثي صبيانك. فبعثتهم، ثم قال: سوءة، أتكلون شيئاً دون أهل الصرِم، فجعل يطيف بهم حتى هبوا، فأقبلوا عليه فقسمه فيهم وأعطانينه، والتفع في ثوبه، ثم اضطجع ناحية ينظر إلينا لا والله ما ذاق منه مزعة، ولأنه أحوج إليه منهم، ، فأصبحنا وما على الأرض منه إِلا عظم أوحافر .
قال أبو عبد الرحمن الصرِم الأبيات العشر أو ونحوها ينزلون في جانب.
فصل أم حاتم
وكانت أم حاتم لا تدخر شيئاً سخاء وكرماً، وكان اخوتها يمنعونها من ذلك، وتأبى فحبسوها في بيت سنة يرزقونها فيه شيئاً معلوماً، فلما ذاقت طعم البؤس وأخرجوها فأعطوها صرمة من مالها فأتتها امرأة فسألتها، فقالت: دونك الصرمة، فقد والله مسني من الجوع ما آليت معه أن لا أمنع سائلاً .
ومن الحوادث أيضاً في سنة ثمان من مولده صلي الله عليه وسلم
موت كسرى أنو شروان وولاية ابنه هرمز
فإنه مات في سنة ثمان من مولد نبينا صلي الله عليه وسلم، وولي ابنه هرمز فكان يحسن إلى الضعفاء ، ويؤثر العدل، فكان إذا سافر نادى مناديه في الجند: أن تحاموا مواضع الحرث. فكانوا يضبطون دوابهم عن الفساد فيها ، حتى إن ابنه ابرويز كان معه في سفر قعا مركوبه فوقع في حرث، فأفسد، فأمر هرمز أن يجدع أذنيه، ويبتر ذنبه، ويغرم ابنه ما أفسد الفرص. ففعلوا ذلك. ومر بعض أصحابه بكرم فأخذ عناقيد حصرم، فاستغاث صاحب الكرم، فخاف عقوبة هرمز، فدفع إليه منطقة محلاة ذهباً، ليسكت عنه، ، ورأى قبوله ذلك مِنَةً عليه.
وكان هرمز يميل على أهل الشرف والبيوتات، فقتل منهم ثلاثة عشر ألفاً وستمائة رجل وقصر بالأساصرة، وأسقط كثيراً من العظماء فتغيروا عليه وكان قد عزل يَزَن عن اليمن، واستعمل مكانه المرزوان، فخالفه أهل جبل يقال له الصانع، فامتنعوا من حمل الخراج إليه، فأقبل نحوهم، فإذا خيل لا يطمع في دخوله إلا من باب واحد، يمنع ذلك الباب رجل واحد يصعد جبل يحاذيه، وبين رأس الجبلين قريب إلا أنه لا يطمع فيه، فضرب فرسه فوثب المضيق ، فإذا هو على رأس الحصن، فقالوا: هذا شيطان فقتل وسبا .


ومن الحوادث في سنة تسع من مولده
صلي الله عليه وسلم
انزعاج هرمز بكثرة مَنْ يقصده ويعاديه وفى رواية: أن أبا طالب خرج برسول الله صلي الله عليه وسلم إلى بصرى وهو ابن تسع.
ومن الحوادث في سنة عشر من مولده
صلي الله عليه وسلم
الفجار الأول وكانت الحرب فيه ثلاثة أيام، وكان أول أمر الفجار ابن بدر بن معشر الغفاري كان منيعاً مستطيلاً بمنعته على مَنْ ورد عكاظ فاتخذ مجلساً بسوق عكاظ، وقعد فيه، وجعل يبذخ على الناس ويقول:
نحن بنو مدركة بن خندف ... من يضعوا في عينه لا يطرف
وهو باسط رجله وجعل يقول: أنا أعز العرب، فمَنْ زعم أنه أعز العرب فليضربها بالسيف. فوثب رجل من بني نصر بن معاوية يقال له الأحمر بن مازن، فضر به بالسيف على ركبته، فأندرها ثم قال:
خذها إليك أيها المخندف
ثم قام رجل من هوازن فقال:
نحن ضربنا ركبة المخندف ... اذ مدها في أشهر المعرف
ثم كان اليوم الثاني من الفجار الأول: وكان سبعه ذلك: أن شباباً من قريش من بني كنانة رأوا امرأة من بني عامرٍ وسيمةً جالسة بسوق عكاظ في درع، فأطافوا بها وسألوها أن تسْفر فأبت، فقام أحدهم فجلس خلفها، وحل طرف درعها وشده إلى ما فوق عجزها بشوكة، فلما قامت انكشف درعها عن دبرها، فضحكوا وقالوا: منعتينا النظر إلى وجهك وَجُدْتِ لنا بالنظر إلى دُبرك. فنادت: يا آل عامر. فتنادوا بالسلاح وحملتْ كناتة ، فاقتتلوا قتالاً شديداً ووقعت بينهم دماء، فتوسطها حرب بن أمية وأرضى بني عامر من مُثلة صاحبتهم.
ثم كان اليوم الثالث من أيام الفجار الأول: وكان سببه: أنه كان لرجل من بني جشم بن بكر دين على رجل من بني كنانة. فلواه به، فجرت بينهما خصومة، واجتمع الحيان، فاقتتلوا، وحمل ابن جدعان ذلك من ماله .
ومن الحوادث سنة احدى عشرة من مولده
صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم
أخبرنا ابن الحصين قال ؟ أخبرنا الحسن بن علي بن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز قال: أخبرنا يونس بن محمد قال: حدثنا معاذ بن محمد بن كعب قال: حدثني أبو محمد بن معاذ بن أبي كعب: أن أبا هريرة كان جريئاً على أن يسأل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله، ما أول ما رأيت من أمر النبوة ؟ فاستوى جالساً وقال: لقد سألت أبا هريرة، إني لفي صحراء ابن عشر سنين وأشهر، فإذا بكلام فوق رأسي، وإذا برجل يقول لرجل: هو هو ؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها بخلقٍ قط، وأرواح لم أجدها من خَلق قط، وثياب لم أرها على أحدٍ قط ، فأقبلا إليَّ يمشيان حتى إذا أخذ كل واحدٍ منهما بعضدي، لا أجد لأحدهما مسًاً، فقال أحدهما لصاحبه: اضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر، فقال أحدهما لصاحبه: أفرق صدره فجرى أحدهما إلى صدري، ففرقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغل والحسد فأخرج شيئاً كرضة العلقة، ثم نبذها فطرحها، فقال له: ادخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة، ثم هز أبهام رجلي اليمنى فقال: أغد وأسلم، فرجعت بها أغدو رأفة على الصغير ورحمة الكبير.
ومن الحوادث التي كانت في سنة ثلاث عشرة
من مولده صلي الله عليه وسلم
عزم أبو طالب أن يسافر برسول اللّه صلي الله عليه وسلم معه إلى بصرى وتهيأ لذلك قال مؤلف الكتاب : لما أتت له اثنتا عشرة سنة وشهران وعشرة أيام ارتحل به أبو طالب إلى الشام. فروى ابن اسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر قال: لمَا تهيأ أبو طالب للخروج إلى الشام أصبً به رسول الله صلي الله عليه وسلم فرقَّ له أبو طالب، وقال: والله لأخرجنً به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً، فخرج به معه، فلمَا نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بَحيرَا وهو في صومعة له، وكان ذا علم في النصرانيه ، ولم يزل في تلك الصومعة راهباً، إليه يصير علمهم. عن كتاب فيما يزعمون أنهم، يتوارثونه كابراً عن كابرٍ .


أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزازِ قال: أخبرنا الحسين بن علي الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدَثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنا محمد بن صالحٍ، وعبد الله بن جعفر الزهري.
قال محمد بن عمر: وأخبرنا ابن أبي حبيبة، عن داوود بن الحصين قال: لمَا خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله صلي الله عليه وسلم في المرة الأولى وهو ابن أثنتي عشرة سنة، فلما نزل الركب بصرى من الشام وبها راهب يقال له بَحَيرا في صومعة له، وكان علماء النصارى يكونون معه في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يحرسونه قال : فلما نزلوا ببحيرَا، وكان كثيراً ما يمرَون به لا يكلمهم، حتى إذا كان ذلك العام، ونزلوا منزلًا قريباً من صومعته قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا، فصنع لهم طعاماً، ثم دعاهم، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله صلي الله عليه وسلم من بين القوم، حتى نزلوا تحت الشجرة، ئم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة، واحتضنت أغصان الشجرة على النبي صلي الله عليه وسلم حين استظل تحتها، فلما رأى بَحيَرا ذلك نزل من صومعته، وأمر بذلك الطعام، فاتي به، فأرسل إليهم فقال: إنىِ قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروه كلكم ولا تخلفوا منكم صغيراً ولا كبيراً، حُرأ ولا عبداً فإن هذا شيء تكرمونني به.
فقال رجَلٌ : إن لك لشأناً يا بَحَيرا، ما كنت تصنع بنا هذا، فما شأنك اليوم ؟! قال: فإني أحببت أن أكرمكم، ولكم حق. فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلي الله عليه وسلم لحداثة سِنَه ؟ لأنه ليس في القوم أصغر سنأ منه في رحالهم تحت الشجرة ، فلمَا نظر بَحَيرا إلى القوم فلم ير الصفة التي يعرف ويجدها عنده وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحدٍ من القوم، ويراها متخلفة على رأس الشجرة على رسول اللة صلي الله عليه وسلم قال بَحَيرا: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي.
قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سناً في رحالهم. فقال: ادعوه فليحضر طعامي، فما أقبح أن تحضروا طعامي ويتخلف رجل واحد، مع أني أراه من أنفسكم.
فقال القوم: هو أوسطنا نسباً، وهو ابن أخي هذا الرجل يعنون أبا طالب وهو من ولد عبد المطلب.
فقال الحارث بن عبد المطلب: والله إن كان بنا للوم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا ثم قام إليه واحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام، والغمامة تسير على رأسه، وجعل بَحَيرا يلحظه لحظاً شديداً، وينظر إلى أشياء في جسده قد كان يجدها عنده من صفته، فلمّا تفرقوا عن طعامهم قام إليه الراهب فقال: يا غلام أسألك بحق اللات والعُزى ألا أخبرتني عمَا أسألك؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم :لا تسْألْني باللات والعُزْى، فَو َالله ما أبْغَضْت ُ شَيْئاً بُغْضَهُما.
قال: فبالله ألا أخبرتني عما أسألك عنه ؟ قال: سَلْني عَمَا بَدَا لكَ. فجعل يسأله عن أشياء، من حاله حتى نومه، فجعل رسول الله يخبره فيوافق ذلك ما عنده ، ثم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النّبوة بين كتفيه على موضع الصفّة التي عنده، فقبل موضَع الخاتم.
فقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدراً. وجعل أبو طالب لِما يرى من أمر الراهب يخاف على ابن أخيه.
فقال الراهب لأبي طالب: ما هذا الغلام منك. قال أبو طالب: ابني قال: ما هو بإبنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً قال: فابن أخي، قال: فما فعل أبوه. قال: هلك وأمه حُبلى. قال: فما فعلت أمه ؟ قال: توفيت قريباً. قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت لَيَبْغُنه عَنَتاً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا، وما روينا عن ابائنا، واعلم أني قد أديت إليك النصيحة.
فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعاً وكان رجال من يهود قد رأو رسول الله ، وعرفوا صفته، وأرادوا أن يغتالوه ، فذهبوا إلى بَحَيرا، فذاكروه أمره ، فنهاهم أشد النهي، وقال لهم: أتجدون صفته ؟ قالوا: نعم، قال: فما لكم إليه سبيل.
فصدقوه وتركوه، ورجع به أبو طالب، فما خرج به سفراً بعد ذلك خوفاً عليه
ذكر الحوادث في سنة أربع عشرة من مولده


صلى اللّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم
منها الفجار الأخير قال مؤلف الكتاب : وكان هذا الفجار بين هوازن وقريش، وحضره رسول الله صلي الله عليه وسلم وله أربع عشرة سنة، وقال: " كنت أنَبِّل على أعمامي يوم الفجار يعني: كنت أناولهم النبل وقد روي: أن هذه الحرب كانت ولرسول الله صلي الله عليهوسلم عشرون سنة عن عبد الله بن يزيد الهذلي. وإنما سُمَي الفجار لأن بني كنانة وهوازن استحلوا الحرم ففجروا .
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزاز قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو طاهر عمر بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدَثنا الضحاك بن عثمان قال: أخبرنا محمد بن عمر بن واقد قال: حدَّثني الضحاك بن عثمان عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة.
قال: محمد بن عمر: وأخبرنا موسى بن محمد بن عمرو، أخبرنا موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال. وأخبرنا عبد الله بن يزيد الهذلي، عن يعقوب بن عتبة الأخنسي قال: وغير هؤلاء أيضاً قد حدثني ببعض هذا الحديث قالوا : كان سبب حرب الفجار أن النعمان بن المنذر بعث بلطيمة له إلى سوق عكاظ للتجارة، أجارها له الرحال عُروة بن عُتبة بن جعفر بن كلاب، فنزلوا على ماء يقال له: أوارة، فوثب البرَّاض بن قيس أحد بني بكر بن عبد مناة بن كنانة وكان خليعأ على عروة فقتله، وهرب إلى خيبر واستخفى بها، ولقي بشربن أبي حازم الأسدي الشاعر فأخبره الخبر، وأمره أن يعلم ذلك عبد الله بن جُدعان، وهشام بن المغيرة، وحرب بن أمية، ونوفل بن معاوية، وبلعاء بن قيس، فوافى عكاظ فآخبرهم، فخرجوا مواثلين منكشفين إلى الحرم، وبلغ قيسأ الخبر آخر ذلك اليوم، فقال أبو براء: ما كنا من قريش إلا في خدعةٍ ، فخرجوا في آثارهم، فأدركوهم وقد دخلوا الحرم، فناداهم رجل من بني عامرٍ يقال له: الأدرم بأعلى صوته: إن ميعاد ما بيننا وبينكم هذه الليالي من قابل.
ولم يقم تلك السنة سوق عُكاظ فمكثت قريش وغيرها من كنانة وأسد بن خزيمة، ومَنْ لحق بهم من الأحابيش يتاهبون لهذه الحرب، ثم حضروا من قابل ورؤساء قريش: عبد الله بن جدعان، وهشام بن المغيرة وحرب بن أمية، وأبو أحيحة سعيد بن العاص، وعُتبة بن ربيعة، والعاص بن وائل، ومعمر بن حبيب الجمحي، وعكرمة بن عامر ابن هشام، ويقال: بل أمرُهم إلى عبد الله بن جُدعان. وكان في قيس: أبو براء عامر بن مالك بن جعفر، وسبيعُ بن ربيعة ودريد بن الصَمَة ومسعود بن معتِّب، وعوف بن أبي حارثة فهؤلاء الرؤساء.
ويقال: بل أمرهم جميعاً إلى أبي براء، وكانت الراية بيده وهو سوى صفوفهم، فالتقوا وكانت الدبرة أول النهار لقيس على قريش وكنانة ومن انضوى إليهم، ثم صارت الدبرة آخر النهار لقريش وكنانة على قيس، فقتلوهم قتلأ ذريعاً، حتى نادى عتبة بن ربيعة يومئذ وإِنَّه لشاب ما كملتَ له ثلاثون سنة إلى الصلح، فاصطلحوا على أن عدّوا القتلى وودَت قريش لقيس ما قتلت، وانصرفت قريش.
وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم وذكر الفجار فقال: " قَدْ حَضَرْتُهُ مَعَ عُمُومَتي وَرَمَيْتُ فِيهِ بِأسْهُمٍ وَمَا أحب إنّي لَمْ أكنْ فَعَلْتُ " فكان يوم حضر ابن عشرين سنة .
قال مؤلف الكتاب : هكذا روي لنا، والأول أصح.
ذكر الحوادث في سنة خمس عشرة من مولده
صلي الله عليه وسلم
في هذه السنة: قامت سوق عكاظ، وهي سوق كانوا يبيعون فيها ويشترون. وقد روي أن قس بن ساعده الأيادي كان يقف بسوق عكاظ ويعظ الناس، وكان خطيباً بليغاً، وشاعراً حكيماً. ويقال: انه أول مَنْ علا على شرف وخطب عليه، وأول من قال في كلامه " أما بعد " وأول مَنْ أتكأ عند خطبته على سيف أو عصا، ورآه رسول الله صلي الله عليه وسلم بعكاظ.


وقد روينا من حديثه من طرق، ولكن ليس فيها ما يثبت . فمنها: ما روى أبو صالح عن ابن عباس قال: لمًا قدم وفد أيادٍ على رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " ما فعل قس بن ساعدة؟ " قالوا: مات. قال: " كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق ، وهو يتكلم بكلام له حلاوة، ما أجدني أحفظه " . فقال رجل من القوم: أنا أحفظه، سمعته يقول: أيها الناس، احفظوا وعوا مَنْ عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحار تزخر، ونجوم تزهر، وضوء وظلام، وبر وآثام، ومطعم وملبس، ومشرب ومركب، مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا، وإله قس ما. على وجه الأرض دين أفضل من دين قد أظلكم زمانه، وأدرككم أوانه، فطوبى لمَنْ أدركه واتبعه، ووبل لمَنْ خالفه، ثم إنه أنشأ وجعل يقول:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بَصَائر
لما رأيت موارداً للم ... وت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يمضي ... الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر
أيقنت إني لامحالة ... حيث صارالقوم صائر
سكنوا البيوت فوطنوا ... إن البيوت هي المقابر
فقال النبي صلي الله عليه وسلم: " يرحم الله قسًا، إني لأرجو أن يبعثه الله يوم القيامة أمة وحده " . فقال رجل: يا رسول الله، لقد رأيت من قسٍ عجباً قال: " وما رأيت. قال: بينا أنا بجبل يقال له سمعان في يوم شدديد الحر، إذا أنا بقسٍ تحت ظل شجرة عندها عين ماء وحوله سباعٌ ، كلما زأر سَبْعٌ منها على صاحبه ضربه بيده وقال: كف حتى يشرب الذى وَرَدَ قبلك. ففرِقت، فقال: لا تخف، وإذا بقبرين بينهما مسجد، فقلت له: ما هذان القبران ؟ فقال: هذان قبرا أخوين كانا لي، فاتخذت بينهما مسجداً أعبد اللّه فيه حتى ألحق بهما، ثم ذكر أيامهما ثم أنشأ يقول:
خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما
جرى النوم بين الجلد والعظم منكما ... كأن الذي يسقي العقار سقَاكما
ألم تريا أني بسمعان مًنفردٌ ... ومالي فيه من خليلٍ سواكما
أقيم على قبريكما لست بارحاً ... طوال الليالي أو يُجيبُ صداكما
كأنكما والموت أقرب غاية ... بجسمي من قبريكما قد أتاكما
فلو جعلت نفس لنفس وقاية ... لجُدت بنفسي أن تكون فداكما
سأبكيكما طول الحياة وما الذي ... يردُّ على ذي عولة إن بكاكما
فقال النبي صلي الله عليه وسلم: " رحم الله قساً " وقد روي أن هذه الأبيات لعيسى بن قدامة الأسدي، وأنه كان له نديمان فماتا، فكان يجلس عند القبرين وهما براوند في موضع يقال له: حراف، ونصب على القبرين حتى يقضي وطره، ثم ينصرف وينشد هذه الأبيات، وفيها زيادة وهي:
خليليَ هبا طال ما قد رقدتما ... أجدكما ما تقضيان كراكما
ألم تعلما ما لي براوند كلها ... ولابخراق من صديق سواكما
أقيم علي قبريكما لست بارحاً ... طوال الليالي أو يجيب صداكما
جرى النوم مجرى اللحم والعظم منكما ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما
فأي أخ يجفوأخاً بعد موته ... فلست الذي من بعد موتٍ جفاكما
أصُبَ على قبريكما من مدامةٍ ... فإِل أَتذوقا أرومنها ثراكما
لطول منام لاتجيبان داعياً ... خليليَ ماهذا الذي قددها كما
قضيت بأني لا محالة هالك ... وأني سيعروني الذي قد عراكما
سأبكيكما طول الحياة وما الذي ... يرد على في عول إن بكاكما
ومن الحوادث في سنة ست عشرة
من مولده صلي الله عليه وسلم.
فمن ذلك : تهيؤ الخوارج من كل وجه على هرمز بن كسرى أنو شروان .
ومن الحوادث سنة سبع عشرة
من مولده صلى اللّه عليه وعلى أله وسلم.


قال مؤلفه : خرج في هذه السنة ملك الترك واسمه، شابة على هرمز بن كسرى، حتى صار إلى هراة في ثلاث مائة ألف مقاتل، وخرج ملك الروم عليه فصار إلى الضواحي في ثمانين ألف مقاتل. وخرج ملك الجزر في جمع عظيم.
وخرج رجلان من العرب يقال لأحدهما عباس الآحول والاخر عمرو الأزرق، فنزلا في جمع عظيم من العرب على، شاطىء الفرات، وشنّوا الغارة على أهل السواد، واجترأ أعداء هرمزٍ عليه، وغزوا بلاده، وأرسل شابة ملك الترك إلى هرمز يؤذنه بإقباله، ويقول: رمُوا القناطر لأجتاز عليها إلى بلادكم، وافعلوا ذلك في الأنهار التي عليها مسلكي من بلادكم، إلى بلاد الروم لأني أريد أن أسير من بلادكم إليها. فاستعظم هرمز ما ورد عليه من ذلك، وشاور فيه، فأجمع رأيه على القصد إلى ملك الترك، فوجه إليه رجلًا يقال له: بهرام في إثني عشر ألف رجل، وعرض هرمز من بحضرته، فكانوا سبعين ألف مقاتل ، فمضى بهرام بمَنْ معه معداً حتى جاز هراة، ونزل بالقرب من ملك الترك وجرت بينهم وسائل وحروب، فقتل بهرام شابة برمية منه واستباح عسكره، ووجّه ابنه أسيراً إلى هرمز مع أموال وجواهر وآنية وأمتعة كانت وَقْرَ مائتي ألف وخمسين ألف بعير، فشكر هرمز بهرام بسبب الغنائم التي صارت إليه، وخاف بهرام وجنوده سطوة هرمز فخلعوا هرمز وأقبلوا نحو المدائن وأظهروا الامتعاض مما كان من هرمز، وأن ابنه أبرويز أصلح للمُلْك منه، وساعدهم على ذلك جماعة ممّن كان بحضرة هرمز، فهرب أبَرْوِيز بهذا السبب إلى أذربيجان خوفاً من هُرْمز فاجتمع إليه هناك عدة من المرازبة والأضبَهْبَذْين، فأعْطوْه بَيْعَتَهُم، ووثب العظماء والأشراف بالمدائن فخلعوا هرمز وسملوا عينيه وتركوه. وبلغ الخبر أبرويز، فأقبل بمن شايعه من أذربيجان إلى دار الملك مُسابقاً لبهرام، فاستولى على الملك وتحرز من بهرام، والتقى هو وهُو على شاطىء النَّهْروَان، فجرتْ بينهما مناظرةٌ ودعا أبَرْوِيزُ بهرامَ إلى أن يؤمَنَهُ، ويرفع مرتَبَتَه، فلم يقبل ذلك، وجرت بينهما حروبٌ شديدة اضطرت أبَرْوِيز إلى الهرب إلى الروم مستغيثاً بملكها.
ذكر الحوادث في سنة ثمان عشرة
من مولده صلي الله عليه وسلم
وصول أبَرْوِيز بن هُرْمز إلى ملك الروم مستغيثاً، فقبله وزوَجه ابنته، وكان هرمز حينئذ مخلوعاً مسمول العينين .
من الحوادث في سنة تسع عشرة
من مولده صلي الله عليه وسلم.
هلاك هرْمز بن كسرى، فإنهم قتلوه بعد خلعه، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة وسبعة أشهر، وعشرة أيام . وقال هشام بن محمد: كانت ولايته اثنتي عشرة سنة .
وفيها: ولي ابنه أبَرْويز وكان يُسمى كسرى أيضاً، وكان من أشدّ ملوكهم بطشاً وأنْفذهم رأيَاَ، وأبْعدهم غوْراً، وبلغ من النًجدة والظًفَر، وجمْر الأمْوال ما يتهيًأ لملك أكثر منه، ولذلك سُمي أبرويز، وتفسيرُه بالعربية: " المظفر " .
واجتمع له تسعمائة وخمسون فيَلاَ واتري الذكورة على الأناث، ووضعت عنده فيلة وهي لا تتلاقح بالعراق، فكان أحدً الناس قامةً وأبرعهم جمالاً لا يحمله إلا فيل ؟ وكان قد استوحش من أبيه هرمز، وخاف فهرب إلى أذربيجان، فبايعه جماعة ممن كان هناك، ثم وثب قوم علىِ أبيه هرمز فسملوه، فقدم أبرويز، فتولى وتوج بتاج الملك وجلس على سريره وقال: إِنَ ملتّنا إيثارَ البِرّ، ومن رأينا أن نعمل بالخير ، وأن جدَنا كِسْرى بن قُباذ كان لكم بمنزلة الوالد، وأن هرمز أبانَا كان قاضياً عادلاً، فعليكم بلزوم السمع والطاعة.
فلما كان في اليوم الثالث أتى أباه فسجد له، وقال: عمَرك الله أيها الملك إنك تعلم أنَي برىء مما أتى إليك المنافقون، وأني إنَّما تواريت ولحقت بأذربيجان خوفاً من إقدامك على قتلي. فصدًقه هرمز، وقال له: إن لي إليك " يا بني حاجتين: إحداهما: أن تنتقم لي ممَن عاون على خلْعِي والسَّمْل لعيني، ولا تأخذك فيهم رأفة، والأخرى: أن تُؤْنسنِي كلَّ يوم بثلاثة نفر لهم إصابة رأي، وتأذن لهم في الدخول عليَّ فتواضع له أبَرْويز وقال: عمَّرك الله أيُّها الملك، إن المارق بهرام قد أظلَنا معه النّجده، ولسنا نقدر أن نمدً يداَ إلى من آتى إليك بما آتى فإن أدالنِي الله على المنافق فأنا خليفتُك، وطوْع يدك.


ثم أقبل بهرام نحو المدائن، فخرج إليه أبرويز فالتقيا، فقال له أبرويز: إنك يا بهرام ركن لمملكتنا وسنادٌ لرعيتنا، وقد رأيْنا أن نخْتار لك يوماً صالحاً لنُولِّيَكَ فيه أصْبَهبذة بلاد الفرس جميعاَ. فقال له بهرام: لكنِّي أختار لك يوماً أصلبك فيه.
فاغتاظ أبرويز، ولم يظهر عليه أثر ذلك، وتفرقّا على الاستجاشة، ثم خاف من بهرام فأحْرَزَ نساءَه، وشَخصَ إلى ملك الروم، فلما خرج بأصحابه من المدائن خافوا من بهرام أن يردّ هرمز إلى الملك ويكتُب إلى ملك الروم، عنه في ردّهم فَيُتْلَفوا، فأعلموا أبَرْوِيز وسألوه الإذن في إتلاف هرمز فلم يحر ْجواباً فانصرفوا فاتلفوه خَنْقَاَ، ثم رجعوا إلى أبرويز وقالوا: سِرْ على خير طائر. فساروا ولحقهم خيلَ بهرام. عند دير، فقال رجل مع أبرويز: أعطني بزتك وأخرج بمَنْ معك، فلبسها واطلع من فوق الدَّير يوهمهم أنه أبرويز، وقال: أنظرونا إلى غدٍ ليصير في أيديكم سلماً. فأمسكوا وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية، وكاتب مَوْريق ملك الروم وسأله نصرته، فأجابه وبعث إليه أخاه في ستين ألف مقاتل.
فاما بهرام فإنه دخل دور الملك بالمدائن، وقعد على سرير الملك وتتوج، وانقاد له الناس خوفاً منه. وأما أبرويز فإنه اجتمع إليه خلق كثير فسار بهم وخرج إليه بهرام، وجرت بينهم حروبٌ شديدة وتبارزوا، فأخذ أبرويز رُمْح بهرام من يده، وضرب به رأسه حتى انقصف، فاضطرب على بَهرام أمره ورحل نحو الترك، وصار أبرويز إلى المدائن، ففرق في جنود الروم عشرين ألف ألف وصرفهم إلى ملكهم، وأقام بهرام في الترك مكرماً عند ملكهم حتى احتال له أبَرْوِيز بتوجيه رجل يقال له هُرْمز ووجَّهه بجوْهر نفيس وغيره، فاحتال لخاتون امرأة الملك ولاطفها بذلك الجوهر وغيره، حتَى دَسَّت لبهرام مَنْ قتله، فعلم الملك فطلَق زوجته ذكر قصة شيرين


وذكر أهل العلم بالسير: أن شيرين وُلدت بالمدائن، وكانت يتيمة في منزل رجل من الأشراف، وكان أبرويز صغيراً يدخل منزل هذا الرجل فيلاعب شيرين ويمازحها وتمازحه، فأخذت في قلبه موضعاً ونهاها الذي هي في منزله عن التعرض لأبرويز، ثم راها يوماً، قد أخذت من أبرويز ختماً كان في إصبعه، فقال: ألم آمرك بترك التعرض لهذا الصبي ، ولا تعرضينا للهلكة. ثم أمر بعض مَنْ يثق به أن يحملها إلى شاطىء الفرات ويغرقها فحملها إلى شاطىء الفرات ليغرقها فقالت له: ما الذي ينفعك من غرقي. فقال لها: إني قد حلفت لمولاي ولا بد فقالت: فما عليك أن تأتي موضعاً من الفرات فيه ماء رقيق فتقذف بي فيه، وتتركني وتمضي، فإن نجوت لم أظهر دمت باقية لم يكَن عليك شيء. قال: أفعل ذلك. فأتى موضعاً فيه الماء إلى الركبة، فزجها فيه وتركها تضطرب، ثم ولى عنها، لا يلتفت. ثم وافى مولاه فأخبره، وحلف له أنه غرقها ثم أنها خلصت من الماء، فأتت بعض الديارات التي على شاطىء الفرات، فآوت إليه، وأعلمت الرُّهبان أنها قد وهبت نفسها لله تعالى، فأحسنوا إليها، فلما استقر الملك لأبرويز بعد أبيه هُرْمز وجًه برسله إلى قيصر، فاجتاز الرُسُل بالدير، فسألت شيرين عن ذلك، فاعلمت أن القوم رسل أبرويز الملك، ومعهم هدايا إلى قيصر، وأخبروها بملكه وما آل إليه أمرُهُ، فوجهت إلى رئيس الرُّسل متنصحة له تخبره أنها أمة الملك أبرويز، وسألته إيفاد رسول إليه تخبره بمكانها، ووجَّهت معه بذلك الخاتم فأنفذ الرجل رسوله قاصداً إلى الملك يخبر خبر شيرين ومكانها والخاتم، فلمَا وَرَدَ الرسول على أبرويز أمر للرسول بمال عظيم، وجعل له رتبة جليلة ببشارته، ووجه معه بخدم ومراكب وهوادج وكساء وحُليِّ وطيب ووصائف، حتى أتوه بشيرين، فَوَرَدَ عليه من الفرح ما لم يفرح بشيء مثله، وكانت من أكمل النساء كمالًا وجمالاً وبراعة، وذكر أبرويز أنه ما جامعها قط إلا وجدها كالعفراء، وكان قد شرط على نفسه أن لا يأتي حرة ولا أمة مرة واحدة إلا أتاها قبل ذلك ، وعهد كل واحد لصاحبه أن لا يجتمع مع أحد لباضعه، فلما هلك أبرويز أرادها شيرويه فأبتْ، وعرّفته العهود فرماها بكل معضلة من الفجور، وبعث الشعراء على ذمَها، فلما لج، ولم يجد عنه محيداً بعد أن غصبها جميع مالها وضياعها، فقالت: افعل ما سألت بعد أن تقضي لي ثلاث حوائج: تردّ عليَ أموالي وضياعي، وتُسلَم لي قتلة زوجي، وتدعو العظماء والأشراف فترقى المنبر فتبرئني مما قُذفت به من الفجور. ففعل ذلك، فقتلت قتلة زوجها بأفحش قتل ووقفت ضياعها، وفرقت مالها في أهل الحاجة فقال لها: هل بقيِت لك حاجة ؟ فقالت: نعم، إن الملك أوفى عني وديعة وجعلها أمانة في عنقي إن أنا تزوجت أن أردها إليه، فتأمر بفتح الناووس حتى أدفعها إليه. ففتح لها الناووس ، فدخلت وقلعت فص خاتم في يدها تحته سُمّ ساعةٍ فمصته، ثم اعتنقت أبرويز ولفَت عليه يِديها ورجليها حتى ماتتَ، فلما أبطأت على الحواضن والخدم صاحوا بها فلم تجب، فدخلوا فوجدوها ميتة معانقة لأبرويز فأخبروا شرويه فندم ندامة لا توصف، وجعل يأكل أصابعه على صنيعها.
ومن الحوادث في سنة عشرين
من مولده صلي الله عليه وسلم
حرب الفجار الثاني عند بعض الرواة. وقد سبق ذكره.
ومن الحوادث هذه السنة حلف الفضول وحضره رسول الله صلي الله عليه وسلم قاله أبن قتيبة. سببه: أن قريشاً كانت تتظالم في الحرم فقام عبد اللة بن جدعان والزبير بن عبد المطلب ؟ فدعوا إلى التحالف على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم، فأجابوهما، وتحالفوا في دار ابن جدعان .
أنبأنا يحيى بن الحسين بن البنا قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي قال: أخبرنا الزبير بن بكار قال: حدًثنىِ أبو الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة قَال: كان سبب حلف الفضول أن رجلاً من أهل اليمن قدم مكة ببضاعة فاشتراها رجل من بني سهم فلوى الرجل بحقه، فسأله ماله فأبى عليه، فسأله متاعه، فأبى عليه، فقام على الحجر وجعل يقول :
بال قُصيٍّ لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنَفر
أقائم من بني سهم بذمتهم ... أم ذاهب في ضلال ماد مُعْتمر


قال: وقال بعض العلماء: إن قيس بن شبة السلمي باع متَاعاً من ابيّ بن خلف فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بنىِ جمح فلم يقم بجواره ، فقال قيس بن شبة :
يال قصيّ كيف هذا فْي الحرم ... وحرمة البيت وأخلاقه الكرم
أظلم لايمنع مني من ظلم
فقام العباس وأبو سفيان حتى ردا عليه، فاجتمعت بطون من قريش في دار عبد اللّه بن جُدْعان فتحالفوا على رد المظالم بمكة وأن لا يُظلم أحد إلا منعوه وأخذوا له بحقه، وكان حلفهم في دارعبد الله بن جدْعان. فقال رسول اللهصلي الله عليه وسلم : " لقد شهدتُ حلْفاً في دارعبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حُمْر النعم، ولو دعيت به لأجبت " .
فقال قوم، من قريش: هذا والله فضْل من الحلف فسمَي حلف الفًضول .
قال الزبير: وقال آخرون: تحالفوا على مثل حلف تحالف عليه قوم من جُرْهم في هذا الأمر، أن لا يقروا ظلماً ببطن مكة إلا غيروه، وأسماؤهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن بضاعة، والفضل بن قضاعة.
قال مؤلف الكتاب : والله أعلم أي ذلك كان.
قال الزبير: وحدثني عبد العزيز ابن عم العنسي قال: أهل حلف الفضول : بنو هاشم، وبنو المطلب، وبنو أسد بن عبد العُزّى، وبنو زهرة، وبنو تيم ؟ تحالفوا بينهم بالله أن لا يُظلم أحدا إلا كنا حميةً مع المظلوم على الظالم حتى نأخذ له مظلمته ممَن ظلمه، شريفاً كان أو وضيعاً .
قال الزبير: وحدثني إبراهيم بن حمزة، عن جدي عبد الله بن مصعب، عن أبيه قال: إنما سمَي حلف الفضول: أنه كان فى جُرْهم رجال يردون المظالم يقال لهم: فضيل، وفضال، ومفضل، وفضل، فلذلك سُمَي: حلف الفضول .
قال: وحدثني محمد بن حسن، عن نوفل بن عمارة، عن إسحاق بن الفضل قال: إنَما سمت قريش هذا الحلف حلف الفضول: أن نفرأ من جُرْهم يقال لهم: الفضل، وفضال، والفضيل، تحالفوا على مثل ما تحالفت عليه هذه القبائل .
قال: وحدثني محمد بن حسن ، عن نصر بن مزاحم، عن معروف بن خربوذ قال: تداعت بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد، وتيم فاحتلفوا على أن لا يدعوا بمكة كلها ولا في الأحابيش مظلوماً يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا إليه مظْلمته أو يُبْلوا في ذلك عفراً، وكره ذلك سائر المطيبين والأحلاف بشرهم وسمّوه حلف الفضول ٍعيبَاَ لهم، وقالوا: هذا من فضول القول، فسُمَي حلف. الفضول .
أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني الضحاك بن عثمان، عن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن أبيه قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: كان حلف الفضول منصرف قريش من الفجار ورسول الله صلي الله عليه وسلم يومئذ ابن عشرين سنه.
وأخبرني غير الضحاك قال: كان الفجار في شوال، وهذا الحلف في في القعدة، وكان أشرف حِلف كان قط، وأول مَنْ دعى إليه الزبير بن عبد المطلب، فاجتمعت بنو هاشم، وبنو زهرة، وتيم، في دار عبد الله بن جُدْعان، فصنع لهم طعاماً، فتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بَل بحرٌ صوفة، وفي التآسي في المعاش، فسمًت قريش ذلك الحلف: حلف الفضول . قال محمد بن عمر: فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن عبد الرحمن بن زاهر، عن جبير بن مطعم قال:، قال: رسول الله صلي الله عليه وسلم: " مَا أحب أن لي بحِلْفٍ حَضَرْتُهُ في دَارِ عبد الله بن جُدْعَان حُمْرَ النعَم ولو دُعِيت لَه لأجَبْتُ وَهُو َحِلْفُ الفُضُول " .
قال محمد بن سعد، قال ابن عمر: ولا يعلم أحد سبق بني هاشم بهذا الحلف . " ومن الحوادث من هذه السنة أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا عاصم بن الحسين قال: أخبرنا أبو الحسن بن بشران قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: أخبرنا أبو الحسن بن البراء قال: سأل عبد اللة بن الزبير عبيد بن عمير عن مبعث النبي صلي الله عليه وسلم قال: أحدثك عن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وآله وأزواجه رضي اللّه عنهم:


أن رسول الله صلي الله عليه وسلم شكى وهو يومئذٍ ابن عشرين سنة إلى عمه أبي طالب فقال: " إني منذ ليالٍ يأتيني آتٍ معه صاحبان فينظرون إلي ويقولون: هو هو ولمَ يأن له. فإذا كان رأيك لرجل منهم ساكت فقد هالني ذلك " .
فقال: يا بن أخي، ليس بشيء حلمت ثم رجع إليه بعد ذلك، فقال: " يا عم، سطا بي الرًجُل الذي ذكرت لك، فأدخل يده في جوفي حتي إني لأجد برْدها " فخرج به عمه إلى رجل من أهل الكتاب يتطبب بمكة، فحدَثه، وقال: عالجه. فصوب به، وصعًد وكشف عن قدميه، وكشف بين كتفيه، وقال: يا عبد مناف، ابنك هذا طيبٌ طيبٌ ، للخير فيه علامات، إن ظفرت به يهود قتلته، وليس الذي يرى من الشيطان، ولكنه من النواميس الذين يتجسسون القلوب للنبوة.
فرجع فقال رسول اللة صلي الله عليه وسلم : " فما أحسست حساً ما شاء الله، حتى رأيت في منامي رجلاً وضع يده على منكبي، ثم دخل يده فأخرج قلبي، ثم قال: قلب طيب في جسدٍ طيب. ثم رده، فاستيقظت " قال: " ثم رأيت وأنا نائم سقف البيت الذي أنا فيه نُزعت منه خشبة، وأدخل سلم فِضة، ونزل منه رجلان، أحدهما جانباً والآخر الى جنبي، فنزع ضلع جنبي، ثم استخرج قلبي، فقال: نعم القلبُ قلبه، قلب رجل صالح، ونبي مُبلغ، ثم ردا قلبي إلى مكانه وضلعي، ثم صعدا والسقف على حاله، فشكوت إلى خديجة فقالت: لا يصنع الله بك إلا خيراً.
قال مؤلف الكتاب: وسنة إحدى، واثنتين، وثلاث وأربع لم يجُز ما يكتب فاسقطته .
ذكر الحوادث التي كانت في سنة خمس وعشرين
من مولده صلي الله عليه وسلم
فمن ذلك خروجه إلى الشام في المرة الثانية في تجارة لخديجة وتزويجه بها رضي الله عنها:.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزاز قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف الخشَاب قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني موسى بن شَيْبَة، عن عميرة بنت عُبيد الله بن كعب بن مالك، عن أمّ سعْد بنت سعْد بن الرَّبيع، عن نفيسة بنت مُنية أخت يعلى بن مُنية قالت: لما بلغ رسول الله صلي الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة قال له أبو طالب: أنا رجل فقير لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وهذه عِير قومك قد حضَر خروجُها إلى الشام، وخديجة بنت خُوَيْلد تبعث رجالأ من قومك في عيَراتها ، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك، فبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، فأرسلت إليه في ذلك، وقالت: أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك.
فقال له أبو طالب: هذا رزق قد ساقه الله إليك، فخرج مع غلامها ميسَرَة، وجَعَل عُمُومَتُه يُوصُونَ به أهْلَ العِير حتى قَدِما بُصْرَى من أرض الشام، فنزلا في ظل شجرة فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه قط إلا نبي ّ؟ ثم قال لمَيْسَرَة: أفي عينيه حُمْرَة ؟ فقال: نعم، لا تفارقه. قال: هو نبي، وهو آخر الأنبياء. ثم باع سلعته، فوقع بينه وبين رجل تلاحٍ فقال له: احلف باللات والعزى. فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم : " مَا حَلَفْتُ بِهمَا قَط،. وإنّي لأمُر فَأُعْرِض عنهما " فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة: هذا والله نبي تجده أحبارنا منعوتَاَ في كتبهم، وكان مَيْسَرَة إذا كانت الهاجرة، واشتَدّ الحر يرى مَلَكَين يُطلاَّنِ رسول الله صلي الله عليه وسلم من الشمس، فوعى ذلك كله مَيْسَرَة، وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، ودخل مكة في ساعة الطهيرة، وخديجة في عُلّية لها فرأت رسول الله صلي الله عليه وسلم، وهو على بعيره، وملكان يظَلأن عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها رسول الله صلي الله عليه وسلم، فخبرها بما ربحوا في تجارتهم ووجههم، فسُرت بذلك، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وأخبرها بما قال الراهب نسطور، وبما قال الاخر الذي خالفه في البيع.


وكانت خديجة امرأةً حازمة جادة شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذٍ أوسط قريش نسبأ، وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً، وكل قومهما كان حريصاً على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوا ذلك وبذلوا الأموال، فأرسلتني دَسيساً إلى محمد صلي الله عليه وسلم بعد أن رجع من الشام، فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تَزوَج ؟. قال: مَا بِيَدي مَا أَتَزَوًجُ به. قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلي الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب ؟ قال: فَمَنْ هِيَ؟ قلت: خديجة. قال: وكَيْفَ لي بِذَلِكَ. قال: قلت: علي قال: أفْعَلُ، فذهبت فأخبرتها فأرسلت إليه أن أتت الساعة كذا وكذا. فأرسلت إلى عمَّها عمرو بن أسد ليزوجها. فحضر ودخل رسول الله صلي الله عليه وسلم في عمومته، فتزوَجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذٍ بنت أربعين سنة .
وقد روى قوم : أن خديجة سقت أباها الخمر فلما صحا ندم.
قال الواقدي: هذا غلط والصحيح عندنا المحفوظ عند أهل العلم أن عمها زوًجها، وأن أباها مات قبل الفجار. وذكر ابن فارس: أن أبا طالب خطب يومئذ فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معد، وعنصر مُضر، وجعلنا حضنة بيته، وسوَاس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوباً، وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد اللّه لا يوزن به رجل إلا رجح به، وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل، وأمرٌ حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل.
فتزوجها رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وكانت خديجة قد ذُكرت أول ما ذكرت للازواج لورقة بن نوفل، فلم يُقْضَ بينهما نكاح، فتزوجها أبو هالة، واسمه: هند، وقيل: مالك بن النباش فولدت له هند وهالة وهما، ذكران، ثم خلف عليها بعده عتيق بن عائد المخزومي، فولدت له جارية اسمها: هند. وبعضهم يقدم عتيقاً على أبي هالة ثم تزوجها رسول الله صلي الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: فولدت له ولده كلهم إلا إبراهيم: زينب ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، والقاسم وبه كان يُكنى، والطاهر، والطيب. وهلك هؤلاء الذكور في الجاهلية، وأدرك الإناث الإسلام فأسلمن وهاجرن معه. وقال غيره : الطيب والطاهر: لقبان لعبد الله، وولد في الإسلام. وأما منزل خديجة فإنه يعرف بها اليوم، اشتراه معاوية فيما ذكر، فجعله مسجداً يُصلي فيه الناس وبناه على الذي هوعليه اليوم، ولم يغيره.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان أول ولد ولد لرسول الله صلي الله عليه وسلم بمكة قبل النبوة : القاسم، وبه كان يُكنى، ثم وُلد له زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم، ثم ولد له في الإسلام عبدا لله فسُمَي الطيب والطاهر، وأمهم جميعاً خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم، وكان أول من ماتَ من ولده: القاسم، ثم مات عبد الله بمكة، فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع ولده فهو أبتر، فأنزل الله عز وجل " إن شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ " .
قال محمد بن سعد: وأخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: مات القاسم وهو ابن سنتين . وقال محمد بن عمر: وكانت سلمى مولاة صفية بنت عبد المطلب تُقَبل خديجة في ولادها ، وكانت تعق عن كل غلام شاتين، وعن الجارية شاة وكان، بين كل وَلَدَيْن لها سنة، وكانت تسترضع لهم، وتُعِد ذلك قبل ولادتها.
ذكر الحوادث في سنة إثنتين وثلاثين
من مولده صلي الله عليه وسلم


فيها: خلعت الروم ملكها واسمه موريق، وملكَوا مكانه فوقا، ثم قتلوه، وأبادوا ورثته سوى ابن له هرب إلى كسرى فآواه، وتوجه. وملكه على الروم، ووجه معه ثلاثة نفر من قواده من جنود كثيفة ، أمَا أحدهم فكان يقال له : رُميوزان، ووجهه إلى بلاد الشام فدوَخها حتى انتهى إلى أرض فلَسْطين وورد مدينة بيْت المقدس وأخذ أسقُفَها ومَنْ كان فيها من القِسِّيسين وسائر النصارى بخشبة الصليب، وكانت قد دُفنت في بستان في تابوت من ذهب، وزُرعَ فَوْقها مبقلة، فدلُّوه عليها، فحفر فاستخرجها، وبعث بها إلى كِسْرى في سنة أربع وعشرين من ملكه وأما القائد الآخر: فكان يقال له شاهين، فسار حتى احتوى على مصر و الإسكندرية وبلادِ النُوبة، وبعث إلى كسرى بمفاتيح مدينهْ، إسكندرية في سنة ثمان وعشرين من ملكه.
وأما القائد الثالث فكان يقال له: فَرهان، فإنَه قصد القسطنطينية حتى أناخ على ضَفًة الخليج القريب منها وخيم هنالك، فأمره كسرى فخرب بلاد الروم غصباً مما انتهكوا من موريق وانتقاماً له منهم، ولم يخضع لابن موريق من الروم أحد، غير أنَهم قتلوا فوقا، وملًكوا عليهم رجلاً يقال له: هِرَقْل. فلما رأى هِرَقْل ما فيه الروم من تَخْريب فارس بلادهم ، وقتلهم إياهم، وسبيهم لهم، تضرع إلى الله تعالى وسأله أن يُنْقِذه وأهل مملكته من جنود فارس، فرأى من منامه رجلًا ضخم الجثة عليه بِزة، قائماً في ناحية، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه، وقال لهرقل: إني قدْ أسلمته في يدك. فلم يقصُص رؤْياه تلك في يقظته على أحدٍ ، فرأى الثانية في منامه أن الرجل الذي رآه في نومه جالسأ في مجلس رفيع، وأن الرجل الداخل عليهما أتاه وبيده سلسلة طويلة فألقاها في عُنُق صاحب المجلس وأمكنه منْه ، وقال له: ها أنذا قد دفعتُ إليك كِسْرى بِرمَتِهِ فأغْزُه فإن شئت فإنك مدال عليه، ونائل أمْنيتك في غَزَاتك فلما تتابعت عليه هذه الأحلام قصها على عظماء الروم وذوي الرأي منهم فأشاروا عليه أن يغزوَه، فاستعد هِرَقْل واستخلف ابناً له على مدينة قسطنطينية ، فسار حتى أوغل في بلاد أرمينية ونزل نَصيبين بعد سنةٍ ، فلما بلغ كسرى نزول هِرَقْل في جنوده بنصيبين وجَّه لمحاربته رجلًا من قواده يقال له: راهزار في اثني عشر ألف فارس، وأمره أن يقيم بنِينَوَى في مدينة الموصل على شاطىء دجلة، ويَمنَعَ الروم أن تجوزها، فنفذ راهزار لأمْر كسرى وعسكر حيث أمره، فقطع هِرَقْل دِجْلة في موضع آخر إلى الناحية التي كان فيها جند فارس ، فأذْكى راهزار عليه العيون، وأخبروه أنه في سبعين ألفَاَ وأيقن بالعجز عنه، فكتب إلى كسرى يخبره بعجزه، وكتب كسرى: إنكم إن عجزتم عن الروم لم تعجزوا عن بذل دمائكم في طاعتي، فناهَضَ الروم، فقتل ومعه ستة آلاف رجل وانهزم الباقون، فبلغ ذلك كسرى فتهيأ وتحصن بالمدائن لعجزه، وسار هرقل حتى قارب المدائن، فلما استعد كسرى لقتاله انصرف إلى أرض الروم .
قال عكرمة : كانت في فارس امرأة لا تَلِدُ إلا الأبطال، فدعاها كسرى، فقال: إني أريد أن أبْعَثَ إلى الروم جيشاً وأستعْمِل عليهم رجلًا من بنيك فأشِيري علي أيهم أستعمل. فقالت: هذا فَرخان أنفذُ من سِنان، وهذا شَهْربَراز أحْلم من كذا. قال: فإني قد استعملت الحليم، فاستعمل شَهْربَراز، فسار إلى الروم بأرض فارس وظهر عليهم، فقتَّلهَم وخَرب مدائِنهُم، وقطع زيتونَهم.


فلمَّا ظهرت فارس على الروم، جلس فَرخان يشرب، فقال لأصحابه: رأيتُ كأني جالس على سرير كسرى، فبلغت كِسْرى فكتب إلى شَهْرَبراز إذا أتاك كتابي هذا فابعث إلي برأس فَرخان. فكتب إِليه: أيها الملك إنك لن تجد مثل فَرخان، إن له نكايةً وصوْتاً في العدو فلا تفعل. فكتب إليه: إن في رجال فارس خَلفاً منه، فعجل علي برأسه. فراجعه، فغضب كِسْرى ولم يجِبْه، وبعث بريداً إلى أهْل فارس: إِني قد نزعت عنكم شَهْربَراز، واستعملتُ عليكم فَرُّخان. ثم دفع إلى البريد صحيفةً أخرى صغيرة، وقال: إذا ولي فَرخان الملك وانقادَ له أخوه، فأعطِه هذه الصحيفة . فلما قرأ شَهْرَبراز الكتاب، قال: سمعاً وطاعةً، ونزل عن سريره وجلس فَرخان، فدفع الصحيفة إليه فقال: ائتوني بشَهْربَراز فقدمه ليضرب عُنُقُه. فقال: لا تعجل عليً حتى أكتب وصِيًتي، قال: نعم. فدعا بالسفَط فأعطاه ثلاث صحائف، وقال: كل هذا راجعتُ فيكَ الملك، وأنت أردتَ أن تقتلني بكتاب واحدٍ ، فرد المُلْكَ إلى أخيه، وكتب شَهْربَراز إلى قيْصر ملك الرُّوم: إن لي إليك حًاجةً لا تحملها البُرُد، ولا تبلّغها الصحف، فالقَنِي، ولا تلقني إلا في خمسين فارساً، فإني ألقاك في خمسين فارسياً. فأقبل قيْصَرُ في خمسمائة ألف رومي وجعل يَضعُ العُيون بين يديْه في الطريق، وخاف أن يِكون قد مَكَرَ به، حتى أتته عُيُونه أنه ليْس معه إلا خمسون رجلًا، ثم بُسِط لهما والتقيا في قُبًه ديباج ضُربت لهما مع كل واحد منهما سكين، فدعا تُرْجُماناً بينهما، فقال شَهْرَبراز: إن الذين خربوا مدائِنَك أنا وأخي بكيْدنا وشجاعتنا، وإن كسرى حسدنا، فأراد أنْ أقتل أخي، فأبَيْتُ، ثم أمر أخِي أن يقتلني، فقد خلعناه جميعاً، فنحنُ نقاتله معك. قال: قد أصبتُما، ثم أسر أحدهما إلى صاحبه: أن السًر بين اثنين، فإذا جاوز اثنين فَشَا. قال: أجَلْ، فقتلا الترْجمان جميعاً بسكينيهما، فكان هذا أحد أسباب هلاك كسرى .
ذكر الحوادث سنة خمس وثلاثين
من مولده صلي الله عليه وسلم
في هذه السنة هدمت قريش الكعبة قال ابن اسحاق: كانت الكعبة رَضْمأ فوق القامة، فأرادت قريش رفعها وتسقيفها، وكان نفر من قريش وغيرهم قد سرقوا كنز الكعبة، وكان يكون في بئر في جوف الكعبة، فهدموها لذلك، وذلك في سنة خمس وثلاثين من مولد رسول الله صلي الله عليه وسلم.
وروى هشام بن محمد عن أبيه قال: كان إبراهيم وابنه اسماعيل يليان البيت، وبعد إسماعيل ابنه نبت، ثم مات نبت ولم يكثر ولد إسماعيل فغلبت جرْهم على ولاية البيت، فقال عمرو بن الحارث بن مضاض من ذلك :
وكنا ولاةَ البيت من بَعْد نابت ... نطوفُ بذاك البيت والخير ُظاهر
وكان أوَل مَنْ ولي البيت من جُرْهم مضاض، ثم وليه بعده بنوه كابراً عن كابرٍ ، حتى بغت جُرْهم بمكة واستحلوا حرمتها، وأكلوا مال الكعبة الذي يُهدى إليها، وظلموا مَنْ دخل مكة، ثم لم يتناهوا حتى جعل الرجل منهم، إذا لم يجد مكانأ يزني فيه دخل الكعبة فزنا.
فزعموا أن إسافاً بغى بنائلة في جوف الكعبة فمُسِخا حجرين، وكانت مكة في الجاهلية لا ظلم فيها ولا بغي، ولا يستحل حرمتها ملك إلا هَلَك مكانه ، فكانت تسمى: الباسة، وتسمى: بكة، كانت تبُك أعناق الجبابرة الذين يبغون فيها، ولما لم تنته خرْهم عن بغيها، وتفرق أولاد عمرو بن عامر عن اليمن، فانخزع بنو حارثة بن عمرو قاطنو تهامة، فسميت خزاعة، لأنهم انخزعوا، وبعث الله عز وجل على جُرْهم الرعاف والنمل، فأفناهم، فاجتمعت خزاعة ليجلوا من بقي، ورئيسهم يومئذٍ عمرو بن ربيعة بن حارثة، وأمه فهيرة بنت عامر بن الحارث بن مُضاض، ، فاقتتلوا، فلما أحسق عامر بالهزيمة خرج بغزَالي الكعبة وحجر الركن ، وجعل يلتمس التوبة، فلم تقبل توبته، فألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في زمزم، وخرج مَنْ بقي مِنْ جُرْهم إلى أرض الحبشة . فجاءهم سيل فذهب بهم . وولي البيت عمرو بن ربيعة.
وقيل: بل وليه عمرو بن الحارث الغساني. فقال عمرو بن الحارث في ذلك:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يَسْمُر بمكة سامر
بلى نحن كُنًا أهلها فأزالنا ... صُروفُ الليالي والجُدود العَوائر
وقال عمرو أيضاً:


يا أيها الناس سيروا إن قَصْركم ... أن تُصبحوا ذات يوم لا تَسيرونا
حًثوا المطي وأرْخوا من أزمتها ... قبلَ الممات وَقَضوا ما تقضونا
كُنا أناسأ كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا.
وكان يقول: اعملوا لآخرتكم، وأفرغوا من حوائجكم في الدنيا. فوليت خزاعة البيت، غير أنه كان في قبائل مُضر ثلاث خلال : الإجارة بالحج للناس من عرفة، وكان ذلك إلى الغوث بن مُر، وهو صوفة، فكانت إذا كانت الإجارة قالت العربُ: أجيري صوفة .
والثانية: الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى، فكان ذلك إلى بني زيد بن غزوان، فكان آخر مَنْ ولي ذلك منهم أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحارث بن وابش بن زيد.
والثالثة النسيء للشهور الحُرم، وكان ذلك إلى القلمس، وهو حذيفة بن فقيم بن عدي من بني مالك بن كنانة، ثم في بيته حتى صار ذلك إلى جُرْهم أبي ثمامة، وهو جنادة بن عوف بن أمية بن فلخ بن حذيفة فقام عليه الإسلام فلما، كثرت معه تفرقت .
وأما قريش: فلم يفارقوا مكة، فلما حفر عبد المطلب زمزم وجد غزالي الكعبة اللذين كانت جُرْهم دفنتهما فيه، فاستخرجهما قال ابن اسحاق: وكان الذي وجد عنده كنز الكعبة دويك مولى لبني ملج من خزاعة، فقطعت قريش يده، وكان البحر قد رمى سفينة إلى جدة، فتحطمت " فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، وكانت حيًة تخرج من بئر الكعبة التي يُطْرح فيها ما يُهدى لها كل يوم، فتتشرَق على جدار الكعبة ، وكانوا يهابونها، ذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احْزَأئَتْ وكَشَتْ وفتحت فاها، فبينا هي يوماً تتشرق على جدار الكعبة، بعث الله عليها طائرأ فاختطفها، فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون اللَهُ قد رضي ما أردنا عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية . وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة، ورسول الله صلي الله عليه وسلم عامئذ ابن خمس وثلاثين سنة.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قام أبو وَهْب بن عَمْرُو بن عمير بن عائد بن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر، قريش، لا تدخلوا في بنائها من كَسْبكم إلا طَيباً، ولا تدخلوا فيها مهر بغي، ولا بيع رباً، ولا، مظلمة أحد من الناس. قال: والناس يَبخلَون هذا الكلام للوليد بن المغيرة، وأبي وهب خال أبيرسول الله صلي الله عليه وسلم.
ثم إن الناس هابوا هَدْمها وفَرقُوا منه. فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدأ في هَدْمها فأخذ المِعولَ، ثم قّام عليها وهو يقول: اللهم لا تُرَعْ اللهم لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنَيْن فتربص الناسُ به تّلك اللَيلةَ، وقالوا: ننظر، فإن أُصيب لم نهدم منها شيئاً، وردَدْناها كما كانت، وإنْ لم يُصِبْه شيء ، فقد رضي اللة عز وجل ما صنعناه. فأصبح الوليد غادياً على عمله، فهدم والناس معه، وتحرك حجر فانتقضت مكة بأسرها وما زالوا حتى انتهى الهدم إلى الأساس، فأفضوا إلى حجارة خُضْر كأنها أسنمة ثم بنوا، حتى إذا بلِغ البنيان موضع الركن اختصموا فيه كل قبيلة تُريد أن ترفعه، حتى تواعدوا للقتال، وقرَبت بنو عبد الدار جَفْنة مملوءة دماً، وأدخلوا أيديهم في الدم، وتعاقدوا على الموت، فسُموا لعْقَة الدم، فمكثوا أربع ليال أوخمس ليالٍ كذلك، ثم تشاروا وكان أبو أمية بن المغيرة أمير قريش حيئذٍ فقال: اجعلوا بينكم أول مَنْ يدخل من باب هذا المسجد، فكان أوَل مَنْ دخل عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا به، هذا محمد، فلما انتهى إلهم وأخبروه الخبر قال: " هلم إليّ ثوباً. فاتي به، فأخذ الركن فوَضَعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم قال: ارفعوه جميعاً، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه بيده، ثم بنى عليه وكانت قريش تسمي رسول اللة صلي الله عليه وسلم قبل أن ينزل الوحي: الأمين .


أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا عمر بن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن سعد. قال: أخبرنا محمد بن عمر بن واقد قال: حدثني عبد الله بن يزيد الهذلي، عن أبيه، وعبد الله بن يزيد الهذلي، عن أبي غطفان، عن ابن عباس قال: وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: كانت الجُرْف مطلة على مكة، وكان السيل يدخل من أعلاها حتى يدخل البيت، فانصدع فخافوا أن ينهدم، وسرق منه حليه وغزال من ذهب كان عليه در وجوهر، وكان موضوعاً بالأرض، فأقبلت سفينة في البحر فيهما روم، ورأسهم باقوم، وكان بانياً فجنحتها الرّيح إلى الشَعَيْبة، وكانت مرسى السفن قبل جدة فتحطمت السفينة، فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى السفينة فابتاعوا خشبها وكلموا الرومي باقومَ، فقدم معهم، وقالوا: لو بنينا بيتَ ربّنا. فأمروا بالحجارة تُجمع، فبينا رسول الله صلي الله عليه وسلم ينقل معهم وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة وكانوا يضعون أُزْرهم على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم فلُبط به ونودي: عورتك فكان ذلك أول ما نودي. فقال أبو طالب: يا ابن أخي، اجعل إزارك على رأسك، قال: ما أصابني ما أصابني إلا في تعديَ، فما رويت لرسول الله صلي الله عليه وسلم عورة بعد ذلك، فلما اجمعوا على هدمها قال بعضهم: لا تُدخلوا في بنائها من كسبكم الأ طيباً ما لم تقطعوا فيه رحماً، ولم تظلموا فيه أحداً، فبدأ الوليد بن المغيرة بهدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها يطرح الحجارة وهو يقول: اللَّهم اللهم لا تُرع إنما نريد الخير، فهدم وهدمت معه قريش، ثم أخفوا في بنائها وميزوا البيت واقترعوا عليه، فوقع لعبد مناف وزُهرة ما بين الركن الأسود إلى ركن الحِجر وجهُ البيت، ووقع لبني أسد بن عبد العُزى وبني عبد الدار ما بين ركن الحجر إلى ركن الحجر الأخر، ووقع لتيم ومخزوم ما بين ركن الحجر إلى الركن، الركن اليماني. ووقع لسهم وجُمح وعدى وعامر بن لؤي ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود فبنوا، ولما انتهوا إلى حيث يُوضع الركن من البيت. قالت كل قبيلة: نحن أحق بوضعه، فاختلفوا حتى خافوا القتال، ثم جعلوا بينهم أول مَنْ يدخل من باب بني شَيْبَة، فيكون هو الذي يضعه قالوا: رضينا وسلمنا . فكان رسول الله صلي الله عليه وسلم أوًل مَنْ دخل من باب بني شَيْبة ، فلما رأوه قالوا: هذا هو الأمين قد رضينا بما قضى بيننا ، ثم أخبروه ، فوضع رسول الله صلي الله عليه وسلم رداءه وبسطه في الأرض، ثمَّ وضع الركن فيه ، ثُمَ قال: ليأت من كل رُبع من أرباع قريش رجل ، وكان في ربع عبد مناف عتبة بن ربيعة، وكان في الربع الثاني: أبو زمعة ، وكان من الربع الثالث : أبو حذيفة بن المغيرة ، وكان فى الربع الرابع: قيس بن عدي، ثم قال رسول اللّه صلي الله عليه وسلم: " ليَأخُذْ كُل رَجُلٍ مِنْكُمْ بِزَاوِيَة من زَوَايَا الثّوْب، ثُم ارْفَعُوهُ جَميعا ً " . فرفعوه، ثم وضعه رسول اللّه صلي الله عليه وسلم بيده في موضعه ذلك، فذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي صلي الله عليه وسلم حجراً يشد به الركن فقال العباس بن عبد المطلب: لا، وناول العباس حجراً فشد به الركن فغضب النجدي حين نُحِّي، فقال رسول الله صلي الله عليه سلم : " إنهُ لَيْسَ يَبْني مَعَنَا في البَيْتِ إلا مِنا، ثم بنوا حتى انتهوا إلى موضع السقف وسقفو البيت وبنوه على ستة أعمدة واخرجوا الحجر من البيت . "


قال محمد بن عمر: وأخبرنا ابن جريج عن الوليد بن عطاء عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللّه صلي الله عليه وسلم : " إن قَوْمَك اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَانِ الكَعْبَةِ، ولوْلا حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بالشًرْكِ أعَدْتُ فيهِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ فإنْ بَدَا لَقوْمِكِ مِنْ، بَعْدي أَنْ يَبْنُوهُ فَهَلمي أُرِيكِ مَا تَرَكُوا مِنه " فأراها قريباً من سبع أذرع في الحجر. قالت: وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم في حديثه: " وَلَجَعَلْتُ لهَا بَابَينِ مَوْضُوعَيْنِ في الأرْض شَرْقيأ وغَرْبياً أتدْرِينَ لِمَ كَانَ قَوْمُك رَفَعُوا بَابَها ؟ فقلت: لا أدري، فقال: " تعَززاً الأ يَدْخُلهَا إلأ مَنْ أرادُوا " وكان الرجل إذا كرهوا أن يدخل تركوه حتى إذا كاد يدخل دفعوه حتّى يسقط . أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا أبو منصور بن عبد العزيز العكبري قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: أخبرنا عمر بن الحسين الشيباني قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال: أخبرني محمد بن صالح القرشي قال: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثني ابن أبي سُبرة، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: بنيت الكعبة ورسول اللة صلي الله عليه وسلم ابن خمس وثلاثين سنة .
فصل في هذه السنة وُلدَتْ فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم وفيها: مات زيد بن عمرو بن نفيل، وكان يَطْلُب الذَين وقدم الشام فسأل اليهود النصارى عن الدين والعلم، فلم يُعْجِبْه دينهم فقال له رجل من النصارى: أنت تلتمس دين إبراهيم. فقال زيد : وما دين إبراهيم ؟ قال: كان حنيفاً لا يَعْبُدُ الأ اللَهَ وحده لا شريك له، كان يُعادي مَنْ عَبَدَ من دون الله شيئاً، ولا يأكل ما ذُبح على الأصنام. فقال زيد: هذا الذي أعرف، وأنا على هذا الدين، فأما عبادة حجر أو خشبة أنْحِتُها بيدي فهذا ليس بشيء. فرجع زيد إلى مكه، وهو على دين إبراهيم، وكان يقول: هذه الشاة خلقها الله ، وأنزل من السماء ماء فأنبت لها الأرض ثم تذبحونها على غير اسمه ينكر عليهم ذلك ولقي رسول الله صلي الله عليه وسلم فَقدَمً إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم . سُفرةً فيها لحم فقال: إني لا آكل مما تذبحون على أصنامكم ولا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه .
أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني علي بن عيسى الحكمي، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة قال: كان زيد بن عمرو بن نفيل يطلب الذَين، وكره النصرانية واليهودية، وعبادة الأوثان. والحجارة، وأظهر خلاف قومه واعتزل آلهتهم، وما كان يعبد آباؤهم ولا يأكل ذبائحهم. فقال لي: يا عامر، إني خالفت قومي واتبعت ملَّة إبراهيم، وما كان يعبد ولده إسماعيل من بعده. فقال: وكانوا يصلون إلى هذه القبلة، وأنا انتظر نبياً من ولد إسماعيل يُبْعَثُ، ولا أرانىِ أدْركه، فأنا أُؤمن به، وأصَدقه، وأشهد أنه نجي، فإن طالت بك مدة فرأيته، فأقْرِئْهُ منَي السلام.
قال عامر: فلما تنبأ رسول الله صلي الله عليه وسلم أسلمت وأخبرته بقول زيد وأقْرأتُه منه السلام، فرد عليه رسول الله السلام، وترحم عليه، وقال: " قد رأيتُه في الجنة يسْحَبُ ذُيولاً " .
أنبأنا علي بن عبيد الله الفقيه قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن النقور قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن هارون الضبي قال: أخبرنا أبو بكر بن محمد بن محمد بن بكر التمار وقال: أخبرنا أبو داوود سليمان بن الأشعث قال: حدثنا وهب بن بقية، عن خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أسامة بن زيد قال:


خرج رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو مرد في خلفه، فلقيه زيد بن عمرو بن نفيل فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم : " ما لي أرى قومك قد سبقوك ؟ " قال : لأني أراهم على ضلال، فخرجت أبتغي الدين، فأتيت على أحبار يثرب فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي فخرجت حتى أحبار الشام، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ما هذا الذي ابتغي من الدين فخرجت ، حتى قدمت على أحبار وائلة فوجدتهم كذلك، فقال لي حبرُ من أحبار أهل الشام: إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحداً يعبد الله به إلا شيخأ بالحيرة أفقدمت عليه، فقال: إنك لتسأل عن دين هو دين الله عز وجل ودين ملائكته، وإنه خرج في زمانك نبي أو خارج قد خرج نجمه، ارجع فصدقه وآمِنْ به. فرجعت.
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لزيد : " يأتي يوم القيامة أمةً وحده " قال أبو داود: وحدثنا يحيى بن معين قال: حدثنا الحجاج بن محمد قال: أخبرنا المسعودي، عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد، عن جده قال: خرج زيد بن عمرو وورقة بن نوفل يطلبان الدين، حتى أتيا الشام فتنصر ورقة، ومضى زيد حتى انتهى إلى الموصل، فمر على راهب فقال له الراهب: من أين أقبل صاحب البعير؟ قال : من بني إبراهيم. قال: وما الذي تطلبُ؟ قال: الدين. قال ؟ الذي تطلب يوشك أن يظهر بأرضك، فعاد فسجد نحو الكعبة.
قال أبو داوود : وأخبرنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن عروة: أن زيد بن عمرو وورقة بن نوفل ذهبا نحو الشام في الجاهلية يلتمسان الدين، فأتيا على راهب فسألاه عن الدين فقال: إن الدين الذي تطلبان لم يجىء بعد وهذا زمانه، فإن الدين يخرج من قبل تيماء، فرجعا، فقال ورقة: أما أنا قائم على نصرانيتي حتى يبعث هذا الدين وقال زيد: أما أنا فأعبد رب هذا البيت حتى يبعث هذا الدين . ومات زيد فرثاه ورقة فقال
رشدت وانعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنُوراً من النار حاميأ
دعاءك ربأ ليس رب كمثلِه ... وتركَك أوثان الطواغي كما هيا
قال أبو داوود: وحدثنا محمد بن العلاء قال: أخبرنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش، ما منكم اليوم أحد، على دين إبراهيم غيري. وكان يحيي الموْءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: مهلاً لا تقتلها، أنا أكفيك مؤونتها. فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها.
ومن شعرزيد بن عمرو بن نفيل حيث يقول :
وأنت الذي من فضل مَن ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولاً مناديا
فقلت له: فاذهب وهارون فادعُوا ... إلى اللّه فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له: آأنت أمسكت هذه ... بلا عمد أكرم بمَنْ كان بانيا
وقولا له آأنت سوَّيت هذه ... بلا وتدٍ حتى استقرت كما هيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرا ... فتصبح منه البقل تهتز رابيا
ومن شعره:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخراً ثقالا
دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبال
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الريح تصرف حالاً فحالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذباً زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة ... أناخت فصبت عليها سجالا
ومن الحوادث في سنة ثمان وثلاثين
من مولده صلي الله عليه وسلم
قال مؤلف الكتاب : في هذه السنة رأى الضوء والنور، وكان يَسْمع الصوت ولا يدري ما هو.
أخبرنا الحصين قال أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أخبرنا أبو كامل قال: حدثنا حماد قال: أخبرنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: أقام النبي صلي الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة، سبع سنين يرى الضوء والنور، ويسمع الصوت، وثمان سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشراً.
ولم يقع سنة تسع و ثلاثين، ما يُكتب.
ذكر الحوادث في سنة أربعين


من مولده صلي الله عليه وسلم
فيها: قتل كسرى أبرويز النعمان بن المنذر: فإنه غضب عليه فقتله قبل المبعث بتسعة أشهر.
وكان السبب: أنه كان عند ملوك الأعاجم صفة من النساء مكتوبة عندهم، وكانوا يبعثون بتلك الصفة إلى الأرضين، غير أنهم لم يكونوا يتناولون أرض العرب بشيء من ذلك، فبدا للملك أن يطلب النساء، فكتب بتلك الصفة إلى الأرضين فقال زيد بن عدي لأبرويز: عند عبدك النعمان بن المنذر بنات عمه وأهل بيته أكثرمن عشرين امرأة على هذه الصفة. قال: فتكتب فيهن.
قال: لا تفعل أيها الملك، فإن شر شيء في العرب أنهم يتكرمون فىِ نفسهم عن العجم، فأنا كره أن يغيبَهنَ. فبعث به إليه، فقال: إن الملك قد احتاج إِلى نساء لأهله وولده ، وأراد كرامتك. فقال: أما في عين السواد وفارس ما تبلغون به حاجتكم ؟ ويعني بالعين: البقر، ثم كتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي ، فسكت كسرى على ذلك شهراً، والنعمان يتوقع ويستعد، حتى أتاه كتاب كسرى أن أقبك فللمك إليك حاجة، فحمل سلاحه وما قدرعليه ، فلحق بجبل طيء فأبت طيء أن تمنعه، وقالوا: لا حاجة لنا بمعاداة كسرى ولم يقبله غير بني رواحة بن عبس، فنزل بطن في قار، ثم رأى أنه لا طاقة له بكسرى فرحل إليه، فلما بلغ كسرى مجيئهُ قال: اجعلوا على طريقه ألف جارية عذراء فىِ قمص رقاق وغيبوا عنهن الناس إلا الخصيان، فأقبل ينظر إليهن حتى وقف بين يدي كسرى وبينهما ستر رقيق، فقال: إن الذي بلغك عني باطل: فقال كسرى ؟ حسبي ما سمع به الناس. ثم أمر به فقُيد وبُعث إلى خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع طاعون فمات به . وقيل: بل رماه بين يدي الفيلة فداسته حتى هلك . فقال الشاعر فيه:
لهفي على النعمان من هالك ... لم نستطع تعداد ما فيه
لم تبكه هندٌ ولا أختها ... حرقة واستعجم ناعيه
بين فُيول الهند يخبطنه ... مختبطاً تدني نواحيه
وروى عبد الله بن عبد الحميد الدمشقي قال : كان للنعمان بن المنذر يومان : يوم بؤس ويومُ كرمٍ، وكان لا يأخذ أحداً يوم بؤسِهِ إلا قتله، فأتي برجل يوم بؤسِهِ، فقال له ؟ أما علمت أن هذا يوم بؤسي ؟ قال: بلى. قال : فما حملك على ذلك وأنت تعلم أني أقتلك ؟. قال: أيها الملك إن لي ابنة عم ميعادي وإياها اليوم، فعرضت على نفسي أن أتخلف مع الحياة، أو أخرج فأنال حاجتي وأقتل فاختارت الخروج مع القتل. قال النعمان: فاذهبوا به فاضربوا عنقه. فقال الرجل: أيها الملك دعني أذهب فأنال حاجتي وشأنك والقتل. قال: ومنْ يضمن لي أن ترجع إلي . فالتفت إلى كاتب النعمان فقال: هذا يضمنني. قال: أتضمنه قال: نعم.
قال: إن لم، يجيء قتلتك. قال: نعم. فضرب له النعمان أجلًا وخلى سبيله ، ثم إن الرجل أتى بعد ذلك فقال له النعمان: ما حملك على المجيء وأنت تعلم أني أقتلك ؟ قال ؟ خفت أن يقال ذهب الوفاء. فالتفت إلى كاتبه وقال له: ما حملك على أن تضمن مَنْ لا تعرف وأنت تعلم أنه إن لم يعد قتلتك . قال: أيها الملك، خفت أن يقال ذهب الكرم. قال النعمان: وأنا أيضاً أخاف أن يقال: ذهب العفو، خلوا سبيله.
أخبرنا سعيد بن أحمد بن الحسن البناء قال: أخبرنا عاصم بن الحسن قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: حدثنا الحسين بن صفوان قال: أخبرنا أبو بكر القرشي قال: حدثني عبد الرحمن بن عبيد الله بن قريِب الأصمعي قال: أخبرنا عمي قال: أخبرنا عامر بن عبد الملك قال: خرج زياد حتى أتى حُرقة ابنة النعمان بن المنذر، وقد لبست المسوح، فقال: حدثيني عن أهلك، فقالت: أصبحنا وما في العرب أحد إلا يرجونا أو يخافنا، وأمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا.
قال القرشي: وحدثني أحمد بن الوليد قال: أخبرنا أحمد بن زيد قال: أخبرنا علي بن حرملة، عن مالك بن مغول، عن الشعبي، عن إسحاق بن طلحة قال: دخلت على حرقة بنت النعمان، وقد ترهبت في دير لها بالحيرة، وهي في ثلاثين جارية لم يُر مثل حسنهن. فقلت: يا حُرقة، كيف رأيت عثرات الملك ؟. قالت : الذي نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه أمس ، وأنشدت تقول:
وبتنا نسوسُ الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقةٌ تتنصّف.
فأفٍ لدُنْيَا لا يدوم نعيمهما ... تقلب أحيانأ بنا وتصرف.


وذلك أنه لما هلك النعمان بن المنذر قيل لكسرى: إن ماله وبيته عند هانىء بن مسعود البكري، فكتب إِليه كسرى ليبعث ذلك إليه فأرسل إليه: ليس عندي مال . فأعاد الرسول : قد بلغني أنه عندك. فقال: إن كان الذي بلغك كاذباً فلا تأخذ بالكذب، وإن كان صادقاً فذلك عندي أمانة، والحُر لا يُسَلَم أمانته. فعبر كسرى الفرات ودعا إياس بن قبيصة الطائي، وكان قد أطعمه ثمانين قرية على شط الفرات، فشاوره فقال: ما ترى ؟ فقال: إن تطعني فلا يعلم أحد لأي شيء عبرت، وقطعت الفرات، فيرون أن شيئاً من أمر العرب قد كرثك ولكن ترجع فتعرض عنهم وتبعث عليهم العيون حتى ترى منهم غفلة، ثم ترسل قبيلة من العجم فيها بعض القبائل التي تلتهم من أعدائهم فيوقعون بهم.
فقال له كسرى : قد بلغني أنهم أخوالك وأنت لا تألوهم نصحاً.
فقال إياس: رأي الملك أفضل. فبعث الهرمزان في ألفين من خيول الأعاجم، وبعث ألفاً من إياد، وألفاً من بهزى عليهم خالد البهزاني، فلما بلغ بكر بن وائل خبر القوم أرسلوا إلى قيس بن مسعود بن هانىء بن مسعود ، فقدم ليلًا، فأتى مكانأ خفيأ من بطن في قار فنزله، وأرسل إلى هانىء فقال: إنه قد حضر من الأمر ما ترى. فقال له : أرسل إلي الحلقة وهي عشرة آلاف سكة، وانثرها في بني شيبان. فقال له هانىء إنها أمانة فقال قيس : إنكم إِن هلكتم فسيأخذون الحلقة وغيرها، وإن ظهرتم فما أقدرك على أن تأخذها من قومك فأخرجها فنثرها، وأمرهم فنزلوا من بطن في قار بين الجهتين فقدمت الأعاجم عليهم، وهم مستعدون، فاقتتلوا ساعة فانهزمت الأعاجم. وقيل: إن حديث في قار كان في سنة سبع من الهجرة، والله أعلم .
ومن الحوادث في هذه السنة ما أخبرنا به محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن سعد قال: حدثنا محمد بن عمر قال: حدئني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه أنه قال: كنا جلوساً، عند صنم بِبُوانة قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر نحرنا جُزوراً فإذا بصائح يصيح من جوف واحدة : اسمعوا إلى العجب ، ذهب استراقُ السمع ونُرمى بالشهب لنبي بمكة اسمه أحمد ، مهاجره إلى يثرب، قال: فأمسكنا وعجبنا، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم .
باب ذكر أمارات النبوة
قال مؤلف الكتاب: ما زالت الأنبياء قبل ظهور نبينا صلى الله عليه وسلم وعُلماء الكتُب تَعِد بِه ، حتى كانوا يقولون: قد قرب زمانه، وفي هذا الزمان يظهر.
أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني ابي قال: حدثني يعقوب قال: أخبرنا أبي، عن ابن إسحق قال: حدثني صالح بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد ، عن سلمة بن سلامة بن وقش قال: كان لنا جار من اليهود في بني عبد الأشهل قال : فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، حتى وقف على مجلس ، بني عبد الأشهل قال سلمة: وأنا يومئذٍ أحدث من فيه سناً علي بردة مضطجع فيها بفناء أهلي فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار. فقال: ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان لا يرون أن البعث كائناً، بعد الموت. فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائناً بأن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها، بأعمالهم ؟ قال: نعم، والذي نحلف به لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا تحدونه ثم تدخلونه إياه، فتطبقونه عليه، وأن تنجوا من بين تلك، النار غداً. قالوا له: ويحك وما آيةُ ذلك ؟ قال : نبي يُبعثُ من نحو هذه البلاد. وأشار بيده نحو مكة واليمن. قالوا : ومتى نراه ؟ قال: فنظر إِلي وأنا أحدثهم سناً فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمرُه يدركه. قال سلمة: فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو حيَ بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغياً وحسداً. فقلنا: ويلك يا فلان، ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال: بلى وليس به .


أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا عاصم بن الحسين قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: أخبرنا أبو الحسن بن البراء قال أخبرنا الفضل بن غانم قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحق، عن عاصم بن عمر بن قتاده، عن رجل من قومه قال: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة إيانا وهداه لما كُنا نسمع من يهود، كُنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا : إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، وكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم فلما بعث الله عز وجل رسوله أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتواعدونا، فبادرناهم إليه، وآمنا به، وكفروا، ففينا وفيهم نزلت هذه الآيات " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم " إلى قوله " ولعنة الله على الكافرين " .
وعن عاصم عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي: هل تدرون عما كان إسلام ثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد، وأسد بن عبيد، نفر من بني ذهل أخوة بني قريظة ، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا ساداتهم في الإسلام. قال قلت: لا أدري، قال: فإن رجلاً من يهود من أهل الشام يقال له: ابن الهيبان، قم علينا قبل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلاً قط كان يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: أخرج يابن الهيبان فاستسق لنا. فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة فنقول له: كم ؟ فيقول : صاعاً من تمر أو مدَين من شعير. قال: فيخرج ذلك ، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي لنا، فو الله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويُسقىَ، قد فعل ذلك غير مرةٍ ، ولا مرتين، ولا ثلاثاً. قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال ؟ يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض الجوع والبؤس ؟ قال: قلنا: أنت أعلم. قال: فإنى إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظلكم زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم زمانه فلا يسبقنكم أحد إليه يا معشر اليهود، فإنه يبعث يسفك الدماء، ويسبي الذراري والنساء ، ممَّنْ خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه. فلما بعث الله رسوله وحاصر بني قريظة قالا هؤلاء الفتية وكانوا شباباً أحداثاً: يا بني قريظة، والله إنه النبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان قالوا: ليس به. قالوا: بلى والله إنه لهو بصفته. فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم.
ومن الأمارات رجفة عظيمة أصابت الشام قال مؤلف الكتاب : كان الرهبان يعدُونها لعلامة ظهوره، وكانوا يقولون إنه شاب قد دخل في الكهولة يجتنب المحارم والمظالم، ويصل الرحم، ويأمر بصلتها، وهو متوسط في العشيرة صلى الله عليه. أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا عبد المحسن بن علي قال: أخبرنا عبد الكريم بن محمد بن أحمد المحاملي قال: أخبرنا الدار قطني قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سالم المخزومي قال: أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب المدني قال: أخبرنا إسحاق العدوي قال: حدثني عثمان بن الضحاك الحزامي قال: حدثني أبي، عن مخرمة بن سليمان، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن أبيه قال: قال طلحة بن عبد الله : حضرت سوق بصرى، فإذا براهب في صومعته يقول: اسألوا أهل الموسم، هل فيكم أحد من أهل الحرم ؟ قال طلحة: فقلت نعم أنا. قال لي: هل ظهر بمكة بعْد أحمد ؟ قلت: وما أحمد ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ. قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال الراهب، فخرجت حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث ؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبأ، وتابعه ابن أبي قحافة. فخرجت حتى أتيت أبا بكر فأخبرته وقلت له: هل تابعت الرجل قال: نعم، فانطلق فبايعه، فإنه يدعو إلى الحق، فذهب أبو بكر رضي الله عنه معه قال طلحة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبر الراهب وما قال لي.


أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزاز قال: أخبرنا أبو محمد الحسين بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا محمد بن سعد قال حدثنا محمد بن عمر قال: حدثني سلمان بن داود بن الحصين، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال: لما قدم تبع المدينة ونزل بقناة بعث إِلى أحبار يهودٍ وقال: إني مُخرب هذا البلد حتى لا يقوم به يهودية ويرجع الأمر إلى دين، العرب. قال: فقال له سامول اليهودي وهو يومئذٍ أعلمهم : أيها الملك، إن هذا بلد يكون إليه مهاجرة نبي من بني إسماعيل ، مولده بمكة، إسمه أحمد، وهذه دار هجرته، وإن منزلك هذا الذي أنت به يكون، من القتلى والجراح أمر كثير في أصحابه وفي عدوهم قال تبع : ومَنْ يقاتله يومئذٍ وهو نبي كما تزعمون ؟ قال: يسير إليه قومه فيقتتلون ها هنا. قال: فأين قبره ؟ قال: بهذا البلد، قال: فإذا قوبل فلمن تكون الدبرة ؟ قال: تكون له مرة وعليه مرة، وبهذا المكان الذىِ أنت به يكون عليه، ويقتل به أصحابه مقتلة لم يقتلوا في موطنٍ ، ثم يكون له العاقبة، ويظهر ولا ينازعه هذا الأمر من أحدٍ . قال: وما صفته ؟ قال: رجل ليس بالطويل ولا بالقصير ، في عينيه حُمرة، يركب البعير، ويلبس الشملة، سيفه على عاتقه، لا يبالي مَنْ لاقى من أخ، أو ابن عم، أوعم ، حتى يظهر أمره. قال تبع: ما إلى هذه البلدة من سبيل، وما كان ليكون خرابها إلا على يدي. فخرج تبع منصرفاً إلى اليمن .
قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال كان الزبير بن باطا أعلم اليهود ، يقول: إِني وجدت سِفراً كان يختمه علي فيه ذكر أحمد، نبي يخرج بأرض القَرَظ، صفته كذا وكذا، فتحدث به الزبير بن باطا بعد أبيه، والذي يومئذٍ ، لم يُبعث فما هو إلا أن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة حتى عمد الى ذلك السفر فمحاه، وكتم شأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وقال: ليس قال محمد بن عمر: وحدثني الضحاك بن عثمان ، عن مَخْرَمَة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس قال: كانت يهود قُريظة، والنضير، وفدك، وخيبر، يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، قبيل أن يُبعث وأن دار هجرته المدينة. فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أحبار اليهود: وُلد أحمد الليلة، هذا الكوكب قد طلع، فلما تنبأ قالوا: تنبأ أحمد، قد طلع الكوكب، كانوا يعرفون ذلك ويُقرون به ويصفونه، وما منعهم من اتباعه إلا الحَسَد والبغي .
قال محمد بن عمر: وحدثني ابن أبي ذئب، عن مسلم بن حبيب عن النضر بن سفياق الهذلي، عن أبيه قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام، فلما كنا بين الزرقاء ومعان، وقد عرسنا من الليل إذا بفارس يقول : أيها النيام هبوا فليس هذا بحين رقاد ، قد خرج أحمد، وطُردت الجن كل مُطَرد، ففزعنا ونحن رفقة أجرًارة، كلهم قد سمع هذا ، فرجعنا إِلى أهلنا فإذا هم يذكرون اخلافاً بمكة بين قريش بنبي خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد .
قال محمد بن سعد : وأخبرنا علي بن محمد بن عمار بن ياسر وغيره، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سكن يهودي بمكة يبيع بها تجارات، فلما كانت ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال في مجلس من مجالس قريش: هل فيكم من مولود ولد هذه الليلة. قالوا ؟ لا نعلمه، قال: انظروا يا معشر قريش وأحْصُوا ما أقول لكم: ولد الليلة نبيَ هذه الأمة : أحمد، به شامة بين كتفيه فيها شعرات. فتصدع القوم من مجالسهم وهم يتعجبون من حديثه، فلما صاروا في منازلهم وذكروا لأهاليهم، فقيل لبعضهم: وُلد لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام سماه محمداً فأتوا اليهودي في منزله، فقالوا: أعلمت أنه وُلد فينا مولود ؟ فقال: بعد خبري أم قبله ؟ قالوا: قبله، واسمه أحمد. قال: فاذهبوا بنا إليه فخرجوا معه حتى دخلوا على أمه فأخرجته إليهم، فرأى شامة في ظهره، فغشي على اليهودي، ثم أفاق فقالوا: مالك ؟ قال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل، وخرج الكتاب منهم، وهذا مكتوب يقتلهم ويبز أخبارهم، فازت العرب بالنبوَة ، أفرحتم يا معشر قريش ؟ أما والله ليَسطَون بكم سطوة يخرج نبؤها من المشرق إلى المغرب .


قال: وأخبرنا علي بن محمد بن سلمة بن عثمان، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: كانت العرب تسمع من أهل الكتاب ومن الكهًان أن نبئاً يُبعث من العرب اسمه محمد، فسمَّى من بلغه ذلك من العرب ولده محمداً، طمعاً في النبوة .
أخبرنا أبو غالب محمد بن الحسن الماوردي قال: أخبرنا القاضي أبو محمد همام بن محمد بن الحسن الأيلي قال: حدثنا أبو عبد الله الحسن بن علي بن مهدي قال: أخبرنا أبو علي أحمد بن الحسين بن شعبة قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن حسان الأنصاري قال: حدثنا بشر بن حجر الشامي قال: أخبرنا علي بن منصور الأنباري، عن غياث بن عبد الرحمن الرقاشي عن محمد بن كعب القرظي قال: بينما عمر بن الخطاب قاعد في المسجد إذ مرً به رجل في مؤخر المسجد فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، أتعرفُ المارَّ ؟ قال: فمن هو؟ قال: سواد بن قارب، وهو رجل من أهل اليمن له فيهم شرف وموضع، وهو الذي أتاه ريبة بظهور النبي صلى الله عليه وسلم . فقال عمر: علي به. فدعى به، فقال ؟ أنت سواد بن قارب ؟، قال: نعم. قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك. فغضب غضباً شديداً وقال: يا أمير المؤمنين، ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت. فقال عمر: يا سبحان الله، والله ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك، أخبرني بإشارات أتتك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم. قال: نعم، يا أمير المؤمنين بينا أنا ذات ليلة، بين النائم واليقظان إذ أتاني آتٍ ، فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فافهم، واعقل إن كنت تعقل، إِنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى اللة عز وجل وإلى عبادته، ثم أنشأ الجني، يقول:
عجبتُ للجن وتَجْساسها ... وشدها العيسَ بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... مَا خير الجن كأرجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسمُ بعينيك إلى راسها
قال: فلم أرفع لقوله رأساً، وقلت: دعني أنام، فإني أمسيت ناعساً، فلما كان في الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: ألم أقل لك يا سواد بن قارب قم فافهم، واعقل ان كنت تعقل، قد بعث نبي من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته، ثم أنشأ الجني، يقول:
أعجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوي إِلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذا بها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأذنابها
قال: فلم أرفع بقوله رأساً. فقلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعساً، فلما كان الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: ألم أقل لك يا سواد بن قارب، قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بُعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وأخبارها ... وشدها العيس بأكراها
تهوي إِلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها واحجارها
قال: فوقع في قلبي حُب الإسلام، ورغبت فيه، فلما أصبحت شددت علي راحلتي وانطلقت متوجهاً إلى مكة، فلمَا كنت ببعض الطريق أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر إلى المدينة، فقدمت المدينة ، فسألت عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقيل لي: في المسجد، فأتيت إلى المسجد فعقلت ناقتي، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس حوله، فقلت: تسمع مقالتي يا رسول الله. فقال لأبي بكر: أدنه أدنه، فلم يزل بىِ حتى صرت بين يديه، فقلت: اسمع مقالتي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هات، فأخبرني بإتيانك رئيك. فقلت:
أتاني نجي بعد هدء ورَقْدة ... ولم أك فيما قد بلوتُ بكاذب
ثلاث ليالٍ قوله كل ليلة ... أتاك رسولٌ من لؤيَ بن غالب
فشمرتُ عن ذيلي الإزار ووسطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا رب غيره ... وإنك مأمونَ على كل غائب
وأنك أدْنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مُرسل ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب


وكن لي شفيعأً يوم لا ذو شفاعة ... سواك لمغن عن سواد بن قارب
قال: ففرح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بإسلامي فرحاً شديداً وأصحابه حتى رئي الفرح في وجوههم. قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فالتزمه وقال: قد كنت أحب أن أسمع هذا منك .أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدَّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن قريشاً أتوا كاهنة، فقالوا: أخبرينا بأقربنا شبهاً بصاحب هذا المقام. فقالت : إِن أنتم جررتم كساء على هذه السهلة، ثم مشيتم عليها نبأتكم. فجروا، ثم مشى الناس عليها، فأبصرت أثر محمدٍ صلى الله عليه وسلم فقالت: هذا أقربكم شبهآ به، فمكثوا بعد ذلك عشرين سنة أو قريبآ من عشرين سنة أو ما شاء الله، ثم بعث صلى الله عليه وسلم .
باب ذكر الحوادث الكائنة في زمان نبينا
ذكر ما جرى في السنة الأولى من زمان النبوة
قال مؤلف الكتاب : لما تمت له صلى الله عليه وسلم أربعون سنة، ودخل في سنة إحدى وأربعين يوم واحدٌ أوحى الله عز وجل إليه ولد في سنة عشرين من ملك كسرى، أبرويز، وكان قد حبب إليه الخلوة، وكان ينفرد في جبل حراء يتعبد .
أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز قال: أخبرنا أحمد بن معررف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدًثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قَعْنَب قال: حدَثنا سليمان بن بلال، وأخبرنا معن، عن مالك بن أنس جميعآ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك يقول : بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة .
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك الحافظ قال : أخبرنا عاصم بن الحسن قال: أخبرنا محمد بن أحمد البراء قال: بَعَثَ الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم وله يومئذ أربعون سنة ويوم، فأتاه جبريل عليه السلام ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بحراء، وهو أول موضع نزل فيه القرآن به نزل: " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " فقط.
ثم فحص بعقبه الأرض، فنبع منها ماء فعلمه الوضوء والصلاة. ركعتين.
وروى أبو قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: " ذاك يوم وُلدت فيه، ويوم بعثت فيه " .
قال مؤلف الكتاب : واختلفوا أي الاثنين كان على أربعة أقوال : أحدها: لسبع عشرة خلت ، من رمضان، وقد ذكرناه عن ابن البراء.
وأخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا الحارث قال: أخبرنا ابن سعد قال: أخبرنا الوادي قال: حدًثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن أبي جعفر قال: نزل المَلَك على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان .
والقول الثاني: أن القرآن نزل لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان. رواه قتادة عن أبي الجلد.
والثالث : لثمان عشرة خلت من رمضان. رواه أيوب، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي.
والقول الرابع : أنه كان في رجب.
أخبرنا سعد الخير بن محمد الأنصاري قال: أخبرنا عبد الله بن علي الأبنوسي قال: أخبرنا عبد الملك بن عمر الرزاز قال: أخبرنا أبو حفص بن شاهين قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله لبزار قال أخبرنا علي بن سعيد الرقي قال: أخبرنا ضمرة بن أبي شوذب، عن مطر الوراق عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال : مَنْ صام يوم سبعة وعشرين من رجب كتب له صيام ستين شهراً، وهو اليوم الذي نزل فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة أول يوم هبط فيه.


أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا أبو علي بن المذهب قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك قال: حدَثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري قال: أخبرني عروة، عن عائشة أنها قالت: أول ما بدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يأتي حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده بمثلها حتى فجأه الحق، وهو في غار حراء فجاءه المَلَك فيه فقال: اقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارىء قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت ما أنا بقارىء ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: إقرأ فقلت: ما أنا بقارىء. فأخذني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان " حتى بلغ " ما لم يعلم " فرجع بها ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة فقال: " زملوني زملوني " فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال : أيا خديجة مالي وأخبرها الخبر ، قال: قد خشيت على نفسي، فقالت له: كلاَّ أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرًحم، وتُصدق الحديث، وتَحْمل الكًلَ، وتَقْري الضيف، وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ، وهو ابن عم خديجة، وكان امرءاً تنصًر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم،. اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: يا بن أخي ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له ورقة: هذا الناموس الأكبر الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً أكون حياً حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو مخرِجيَ هم ؟. قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، فإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزًرأ. ثم لم يَنْشَب ورقة أن توفي.
وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنَاَ غَدَا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق ، الجبال فكلما أوْفى بذروة جبل كي، يلقي نفسه منه تبدَى له جبريل عليه السلام فقال له: يا محمد، إنك لرسول الله حقاً. فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا بمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة تبدى له جبريل فقال مثل، ذلك . أخبرنا عبد الأول بن عيسى قال: أخبرنا أبو المظفر قال: أخبرنا ابن أعين قال: أخبرنا الفربري قال: حدَثنا البخاري قاله: حدَثنا يحيى بن بكر قال: أخبرنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه:، فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي، فإذا المَلَك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثيت منه رعباً، فرجعت فقلت: زملوني زملوني لم فدثروني فأنزل اللّه عز وجل " يأيها المدثر " . قال مؤلف الكتاب : هذا حديث متفق على صحته، والذي قبله.
وقد روي ابن إسحاق، عن إسماعيل إبن أبي حكيم مولى الزبير أنه حدَّث عن خديجة انها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : فيما يثبته فيما أكرمه الله عزً وجل به من نبوته يا بن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك. قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبريل فقال: يا خديجة، هذا جبريل. قالت: فقم فاجلس على فخني اليسرى فقام فجلس فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم قالت: فتحول إلى فخذي اليمنى فتحول فقالت: هل تراه ؟ قال نعم. قالت: فتحول فاجلس في حجري. فجلس فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم، فألقت خمارها وقالت: هل تراه ؟ قال: لا. قالت: يا بن عم اثبت وأبشر، فوالله إنه لَمَلك وما هو بشيطان . أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي البزاز قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدَثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا عفان بن مسلم قال: أخبرنا حمَّاد بن سلمة قال: حدَثنا علي بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالحجون وهو مكتئب حزين، فقال: " اللهم أرني


اليوم " آية لا ابالي مَنْ كَذًبَني بَعْدَهَا مِنْ قَوْمي " فإذا شجرة من قبل عقبة المدينة فناداها فجاءت تشق الأرض حتى انتهت إليه، فسلمت عليه، ثم أمرها فرجعت فقال: " ما أبالي مَنْ كذَبني بعدها من قومي " .
أخبرنا علي بن عبد العزيز السماك قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن محمد بن الطيب قال: أخبرنا عثمان بن يوسف العلاف: أخبرنا أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد قال: أخبرنا عبد الملك بن محمد قال: حدثني عبيد الله بن محمد وابو ربيعة وداود بن شبيب قالوا: أخبرنا حماد بن زيد، عن علي بن زيد بن رافع، عن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون فقال: اللَهم أرني آية لا ابالي مَنْ كذَّبني بَعْدَهَا من قريش، فقيل له: ادع هذه الشجرة فدعاها فأقبلت تجر عروقها تقطعها، ثم أقبلت تجز الأرض حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قالت: ما تشاء ؟ ما تريد ؟ قال: ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها، فقَال: والله ما أبالي مَنْ كَذَبني مِن قريش.
فصل قرين رسول الله من الملائكة قال مؤلف الكتاب : وقد اختلف الناس فيمن كان قرين رسول الله صلى الله عليه وسلم من الملائكة مدة نبوته. فأخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا يعلى بن أسيد قال: حدَثنا وهيب بن خالد، عن داوود بن أبي هند، عن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنَةَ فكان معه إسرافيل ثلاث سنين . ثم عزل عن إسرافيل وقرن به جبريل عليه السلام عشر سنين بمكة، وعشر سنين مهاجره بالمدينة.
قال ابن سعد: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر فقال: ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن إسرافيل قرن بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن علماءهم وأهل الستر منهم، يقولون: لم يقرن به غير جبريل من حين أنزل عليه بالوحي إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم .
فأما صفة نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم فأخبرنا عبد الأول قال: أخبرنا المظفر قال: أخبرنا ابن أعين قال: أخبرنا الفربري قال: أخبرنا البخاري قال: أخبرنا عبد اللّه بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة : أن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحياناً يَأتيني في مِثْل صَلْصَلَةِ الجَرَس وَهُوَأشدهُ عليَ فيفْصُم عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وأحْياناً يَتَمَثَّلُ لِي المَلَكُ رجلًا فَيُكلَمُني فأعي مَا يَقُولُ " .
قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً .قال مؤلفه : أخرجاه في الصحيحين.
وفيهما: من حديث يعلى بن أمية: أنه كان يقول لعمر رضي الله عنه : ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم و بالجعرانة جماءه رجل فسأله عن شيء فجاءه الوحي، فأشارعمر إلى يعلى أن تعال، فجاء يعلَى فأدخل رأسه، فإذا هو محمرّ الوجه يغطّ كذلك ساعة، ثم سُري عنه .


وقد، أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: أخبرنا أبو النضر قال: أخبرنا عبد الحميد قال: أخبرنا شهر قال: حدَثني عبد الله بن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته بمكة جالس إذ مر به عثمان بن مظعون. فتكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله : ألا تجلس، قال: بلى قال : فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله، فبينا هو يحدثه إذ شَخَصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فنظر ساعة إلى السماء ، فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض فتحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره، وأخذ ينفض راسه كأنه يستفقه، ما يقول له وابن مظعون ينظر فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له شَخَصَ بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة ، فاتبعه بصره حتى توارى في السماء ، فاقبل عثمان بجلسته الأولى فقال : يا محمد، فيما كنت أجالسك وآتيك. وما رأيتك تفعل كفعلك الغداة قاله: " وما رأيتني فعلت ؟ " قال: رأيتك تشخص ببصرك إلى السماء ، ثم وضعته حيت وضعته على يمينك فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنفض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك. قال: " وفطنت لذلك ؟ " قال عثمان: نعم. قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " أتاني رسوِل الله آنفَاَ وأنت جالس قال: رسول الله ؟ قال: نعم قال: فما قال لك ؟ قال: " إِنَ اللّه يأمُر بالعَدْل والإحسان وإيتاء ذِي القًربىَ ويَنْهى عن الفَحْشَاء والمُنْكر والبَغْي يعِظكم لعلكم تذكَرون " .
قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم .أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال أخبرنا باسناده . وقال أبو أرْوَى النوسي: رأيت الوحي ينزل على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنه على راحلته فترغو وتفتل يديها حتى أظن أن ذراعها ينفصم، فربما بركت وربما قامت مُؤَتدة يديها، حتى يسرى من ثقل الوحي ، وإنه لينحدر منه مثل الجمان. رواه ابن سعد . قال: وأخبرنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة قال: كان إذا أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وُقذ لذلك ساعة كهيئة السكران .
فصل وكان من الحوادث في مبعثه صلى الله عليه وسلم
رمي الشياطين بالشهب
بعد عشرين يوماً من المبعث
أخبرنا عبد الأول بإسناده ، عن ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم ؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء. قال : فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن. قالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا، " إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " وأنزل الله على نبيه : " قل أوحي إليَ أنه استمع نفر من الجن " .
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر بإسناد له، عن، محمد بن سعد، بإسناده عن ابن عباس قال: لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم زُجر الجن ورُمُوا بالكواكب، وكانوا قبل ذلك يستمعون، لكل قبيلٍ من الجن مُقْعد يستمعون فيه، فأول من فزع لذلك أهل الطائف، فجعلوا يذبحون لآلهتهم، من كان له إبل وغنم كل يوم، حتى كادت أموالهم تذهب، ثم تناهوا، فقال بعضهم لبعض : ألا ترون معالم السماء كما هي، لم يذهب منها شيء. وقال: إبليس: هذا أمر قد حدث في الأرض ائتوني من كل أرض بتربة. فكان يؤتى بالتربة فيشمها ويلقيها حتى أتي بتربة تهامة فشمها وقال: ها هنا الحدث .


قال محمد بن سعد: وأخبرنا علي بن محمد، عن يحيى بن معين، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس قال: إن أول العرب فزع لرمي النجوم ثقيف، فأتوا عمرو ابن أمية قالوا ألم تر ما حدث. قال: بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يُهْتَدى بها ويُعْرَف بها أنواء الصيف والشتاء انتثرت، فهو طَي الدنيا، وذهاب هذا الخَلْق الذي فيها، وإن كانت نجوماً غيرها فأمرُ أراد اللة بهذا الخلق، ونبي يُبعث في العرب، فقد تحدِّث بذلك. قال: وأخبرنا محمد بن عمر قال: حدًثني عبد اللّه بن يزيد الهذلي، عن سعيد بن عمرو الهذلي ، عن أبيه قال: حضرت مع رجال من قومي صنم سُوَاع وقد سقنا إليه الذبائح، فكنت أول مَنْ قَرب له بقرة سمينة فذبحتها على الصنم، فسمعنا صوتاً من جوفها: العجب كل العجب خروج نبي بين الأخاشب يحرم الزنا ويحوم الذبائح للأصنام، وحُرست السماء، ورُمينا بالشهُب. فتفرقنا وقدمنا مكة فسألنا، فلم نجد أحدأ يخبرنا بخروج محمد صلى الله عليه وسلم ، حتى لقيفا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فقلنا : يا أبا بكر، أخرج أحد بمكَة يدعو إلى الله تعالى يقال له أحمد؟ فقال: وما ذاك ؟ فأخبرته الخبر. فقال: نعم هذا رسول الله، ثم دعانا إلى الإسلام فقلنا: حتى ننظر ما يصنع الناس ويا ليت أنا أسلمنا يومئذ، فأسلمنا بعده.
فصل أوَّل مَنْ أسلم
واختلف العلماء في أوَّل مَنْ أسلم، فالمشهور: أنه أبو بكر، وقيل: علي، وقيل: خديجة. وقيل: زيد، رضي الله عنهم. وقيل: أول مَنْ أسلم من الرجال: أبو بكر، ومن الصبيان: علي، ومن النساء: خديجة، ومن الموالي: زيد، ثم أسلم بلال، والزبير، وعثمان، وابن عروة، وسعد، وطلحة. أخبرنا ابن الحصين بإسناد له،، عن حية العوفي قال : رأيت علياً عليه السلام ضحك على المنبر لم أره ضحك ضحكاً قط أكثر منه، حتى بدت نواجذه ، ثم قال: ذكرت قول أبي طالب ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن نصلي ببطن نخلة، فقال: ماذا تصنعان بابن أخي ؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقال: ما بالذي تصنعان من باس أو ما بالذي تقولان بأس ولكني لا والله لا تعلوني استي أبداً، وضحك تعجباً بقول أبيه، ثم قال: لا أعرف أن عبداً لك من هذه الأمة عبدك قبلي غير نبيك ثلاث مرات لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعاً.
وقال أحمد: حدَثنا يعقوب، حدَثنا أبي، عن ابن. اسحاق، وحدثنا يحيى بن أبي الأشعث، عن إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي، عن أبيه، عن جده قال: كنت امرءاً تاجرأ فقدمت الحج، فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امرأ تاجراً، قال: فو الله إني لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباءٍ قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رأها قام يصلي ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل فقامت خلفه تصلي.
ثم خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء فقام بعد يصلي، قال: فقلت للعباس: يا عباس، ما هذا ؟ قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي قال: قلت: مَنْ هذه المرأة ؟ قال: هذه امرأته خديجة بنت خويلد ،. فقلت: مَنْ هذا الفتى ، قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عمه. قلت: فما الذى يصنع. قال يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه يفتح عليه كنوز كسرى أو قيصر. قال: فكان عفيف وهو ابن عم للأشعث بن قيس يقول: وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه لوكان الله رزقني الإسلام، يومئذ فأكون ثانياً مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فصل
وكان من الحوادث عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
تغير أحوال كسرى المسمى أبرويز


وكانت دجلة تجري قديماً في أرض كوجى في مسالك محفوظة إلى أن تصب في بحر فارس، ثم غوِّرت وجرت صَوْب واسط فأنفق الأكاسرة على سدها وإعادتها إلى مجراها القديم، فغرم على ذلك أموالأ كثيرة، ولم يثبت السد. فلمَا ولي قباذ بن فيروز انبثق في أسافل كسكر بثق عظيم، وغلب الماء فأغرق عمارات كثيرة، فلما ولي أنو شروان بنى مُسَنًيات ، فعاد بعض تلك العمارة، وبقيت على ذلك إلى ملك أبرويز بن هُرْمز بن أنو شروان، وكان من أشد القوم بطشاً، وتهيأ له ما لم يتهيأ لغيره، فسكر دجلة العوراء، وأنفق عليها ما لا يُحصى، وبنى طاق مجلسه، وكان يعلق فيه تاجه ويجلس والتاج فوق رأسه معلق من غير أن يكون له على رأسه ثقل .
قال وهب بن منبه: وكان عنده ثلثمائة وستون رجلًا من الحزاة وهم العلماء من بين كاهن وساحر ومنجم، وكان فيهم رجل من العرب يقال له: السائب يعتاف اعتياف العرب قلما يخطىء، بعث به إليه باذان من اليمن فكان كسرى إذا حزبه أمر جمع كُهَّانه وسحرته ومنجميه فقال: انظروا في هذا الأمر ما هو. فلما أن بعَث الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فًي أصبح كسرى ذات غداة قد انفصمت طاق من وسطها وانخرقت على دجلة العوراء شاه بشكست يقول: الملك انكسر. ثم دعا كهانه وسحرته ومنجميه ودعا السائب معهم، فأخبرهم بذلك، وقال: انظروا في هذا الأمر فنظروا، فأظلمت عليهم الأرض فتسكعوا في عملهم، فلم يمض لساحرٍ سحره، ولا لكاهن كهانته، ولا لمنجم علم نجومه.
وبات السائب في ليلة ظلماء على ربوة من الأرض يرفق برقاً نشأ من قبل الحجاز، ثم استطار حتى بلغ المشرق، فلما أصبح ذهب ينظر إلى ما تحت قدميه، فإذا روضة خضراء. فقال فيما يعتاف: لئن صدق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق تخْصب عنه الأرض كأفضل ما أخصبت عن ملك كان قبله.
فلما اجتمع الحزاة قال بعضهم لبعض: والله ما حيل بينكم وبين علمكم إلا لأمرٍ جاء من السماء وإنه لنبي قد بُعث، أوهو مبعوث يسلب هذا الملك ويكسره، وإن نعيتم إلى كسرى ملكه ليقتلنكم، فأقيموا بينكم أمراً تقولونه فجاءوا كسرى فقالوا له: قد نظرنا هذا الأمر فوجدنا حسابك الذين وضعت على حِسابهم طاق ملكك وسكرت دجلة العوراء، ووضعوه على النحوس وإنا سنحسُب لك حساباً، تضع بنيانك فلا يزول، قال: فاحسبوا. فحسبوا له ثم قالوا: ابنه، فبناه. فعمل في دجلة ثمانية أشهر، وانفق فيها من الأموال ما لا يدرى ما هو، حتى إذا فرغ قال لهم:، أجلس على سورها،. قالوا: نعم فأمر بالبسط والفرش والرياحين. فوضعت عليها وأمر بالمرازبة فجمعوا له، وجمع اللعًابون وخرج حتى جلس عليها، فبينا هو هنالك انشقت دجلة وانهار البنيان من تحته، فلم يستخرج إلا بآخر رمق، فلما أخرج قتل من الحزاة قريباً من مائة، وقال تلعبون بي ؟ قالوا: أيها الملك، أخطأنا كما أخطأ مَنْ كان قبلنا ولكنا سنحسب لك حساباً حتى تضعها على الوفاق من السعود.
قال: انظروا ما تقولون. قالوا: فإنا نفعل، فحسبوا له، ثم قالوا له : ابنه فبنى وأنفق من الأموال ما لا يدرى ما هو ثمانية أشهر، ثم قال: أفأخرج فأقعد ؟ قالوا: نعم. فركب برذوناً له وخرج يسير عليها إذ انشقت دجلة بالبنيان ، فلم يدرك إلا بآخر رمقِ، فدعاهم فقال ؟ والله لأمرنَ على آخركم، ولأترعن أكتافكم، ولأطرحنًكم تحت أيديَ الفيلة أو لتَصْدُقني ما هذا الأمر الذي تلفقون به علي؟.
قالوا : لا نكذبك، أيها الملك أمرتنا حين انخرقت عليك دجلة وانفصمت طاق مجلسك أن ننظر في عملنا فنظرنا، فأظلمت علينا الأرض وأخذ علينا بأقطار السماء ، فلم يستقم منا لعالم علمه، فعلمنا أن هذا لأمرٍ حدث من السماء، وأنه قد بُعث نبي وهو مبعوث، فلذلك حيل بيننا وبين علمنا، فخشينا إن نَعَيْنَا إليك مُلْكك أن تقتلنا، فعللناك عن أنفسنا بما رأيت، فتركهم ولهى عنهم وعن دجلة حتى غلبته . أنبأنا بهذا الحديث: أبو البركات عبد الوهاب الأنماطي بإسناد له عن أبي بكر بن أبي الدنيا. حدَثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدَّثنا إبراهيم بن سعد قال: قال: ابن إسحاق: كان من حديث كسرى قبل أن يأتيه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ِ فيما بلغني أنه كان سَكَر دجلة العوراء ، فألقى فيها من الأموال ما لا يدرى ما هو وذكر الحديث بعينه .


وقال ابن اسحاق: وحدًثني من لا أتهم، عن الحسن البصري: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله ، ما حجة الله على كسرى فيك ؟ قال: بعث اللة عز وجل إليه ملكاً فأخرج يده من سور جدار بيته الذي هو فيه تلألأ نوراً ، فلما رآها فزع فقال: لم ترع يا كسرى، إن الله قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتاباً، فاتبعه تسلم دنياك وآخرتك. قال: سأنظر .روى ابن اسحاق، عن عبد اللة بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: بعَث الله عز وجل إلى كسرى وهو في بيت من بعض، بيوت إيوانه الن!ي لا يدخل عليه فيه، فلم يرعه إلا به قائمأ على رأسه في يده عصا بالهاجرة في ساعته التي كان يقيل فيها، فقال: يا كسرى، أتسلم أو أكسر هذه العصا ؟ فقال: بَهَل َ بَهَل.
فانصرف عنه فدعا حراسه وحجابه فتغيظ عليهم ، وقال : مَنْ أدخل هذا الرجل عليَ. قالوا: ما دخل عليك أحد ولا رأيناه. حتى إذا كان العام القابل أتاه في الساعة التي أتاه فيها، فقال له كما قال له، ثم قال له: أتسلم أو أكسر هذه العصا ؟ فقال: بَهَل بَهَل ، فخرج عنه فدعا كسرى حجابه وبوابيه، فتغيظ عليهم، وقال لهم كما قال لهم في النوبة الأولى . فقالوا: ما رأينا أحداً دخل عليك. حتى إذا كان في العام الثالث أتاه في الساعة التي جاءه فيها، وقال له كما قال، ثم قال: أتسلم أو أكسر هذه العصا ؟ فقال : بَهَل بَهَل. فكسر العصا، ثم خرج، فلم يكن إلا تهور ملكه، وانبعاث ابنه والفرس حتى قتلوه .
قال الزهري: حدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث بهذا الإسناد، عن أبي سلمة فقال: ذكرى لي أن الملك إنما دخل عليه بقارورتين في يده، ثم قال : أسلم، فلم يفعل، فضرب أحدهما على الأخرى فرضَّهما، ثم خرج فكان من هلاكه ما كان . أنبأنا عبد الوهاب بإسناد له عن ابن أبي الدنيا قال: حدَّثني أبو صالح المروزي قال: سمعت حاتم بن عطاء قال: سمعت خالد بن ويدة وكان رأساً في المجوسية فأسلم قال: كان كسرى إذا ركب ركب أمامه رجلان، فيقَولان له ساعةً بساعة : أنت عبد ولستَ برب فيشير برأسه: أي نعم، قال: فركب يوماً فقالا له ذلك، فلم يشر برأسه، فشكيا ذلك إلى صاحب شرطته فركب صاحب ، شرطته ليعاتبه، وكان كسرى قد نام، فلما وقع صوت حافر الدواب في سمعه استيقظ ، فدخل عليه صاحب شرطته فقال: أيقظتموني ولم تدعوني أنام، إني رأيت أنه رقي بي فوق سبع سموات فوقفت بين يدي الله تعالى ، وإذا رجل بين يديه عليه إزار ورداء ، فقال لي: سلم مفاتيح خزائن أرضي إلى هذا ، ألست المأمور كذا ؟ فلم يغير فإلى إن أردت أن أقول استردها منه فايقظتموني. قال: وصاحب الإزار والرداء، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر الحوادث في السنة الرابعة من النبوة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستر النبوة ويدعو إلى الإسلام سراً، وكان أبو بكر رضي الله عنه، يدعو أيضاً مَنْ يثق به من قومه ممن يغشاه، ويجلس إليه، فلما مضت من النبوة ثلاث سنين نزل قوله عز وجل: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " ، فأظهر الدعوة.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر بإسناده إلى محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدَّثنا حارثة بن أبي عمران، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: أمر رسول الله صلى عليه وسلم أن يصدع بما جاءه من عند الله، وأن ينادي الناس بأمره، وأن يدعوهمِ إلى الله سبحانه وتعالى، وكان يدعو من أول ما أنزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفياً، إلى أن أمر بظهور الدعاء.
قال محمد بن عمر: وحدثني معمر، عن الزهري، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام سراً وجهراً، فاستجاب لله من شاء من أحداثِ الرجال وضعفاء الناس، حتى كثر مَنْ آمن به، وكفار قريش غير مكترثين لما يقول، فكان إذا مر عليهم في مجالسهم يقولون: إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء. فكان كذلك حتى عاب آلهتهم التي يعبدونها دون اللّه، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر، فَشَنِفوا لرسول الله عند ذلك وعادَوْه.


قال محمد بن عمر: وحدثني ابن موهب عن يعقوب بن عتبة قال: لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام ومَنْ معه فشي أمرهم بمكة، ودعا بعضهم بعضاً وكان أبو بكر يدعو ناحية سرّاً، وكان سعيد بن زيد، مثل ذلك، وكان عثمان مثل ذلك، وكان عمر بن الخطاب يدعو علانية، وحمزة بن عبد المطلب وأبو عبيدة بن الجراح، فغضبت قريش، وظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحسدُ والبغي.
قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت بين شر جَارَيْنِ: بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي، فيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: " يا بني عبد مناف، أي جوار هذا! " .
ثم يلقيه بالطريق. أو كما قالت.
أخبرنا عبد الحق بإسناد له، عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: " مرةً بسوق في المجاز وأنا في بياعة لي، فمر وعليه حلة حمراء، وهو ينادي بأعلى صوته: " يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا " ورَجُل يتبعه بالحجارة قد أدمى كعبيه وعرقوبيه، وهو يقول: يا أيها الناس لا تطيعوه، فإنه كذاب. قلت: مَنْ هذا؟ قالوا: غلام بني عبد المطلب. قلت: فمن هذا الذي يتبعه يرميه بالحجارة؟ قالوا: هذا عمه عبد العزى وهو أبو لهب فلما ظهر الإسلام، وقدم المدينة أقبلنا في ركب من الربذة حتى نزلنا قريباً من المدينة، ومعنا ظعينة لنا قال: فبينا نحن قعودُ إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم. فرددنا عليه، فقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة. قال: ومعنا جمل أحمر. قال: تبيعوني جملكم؟ قلنا: نعم. قال: بكم. قلنا: بكذا وكذا صاعاً من تمر. قال: فما استوضعنا شيئاً، وقال: قد أخذته، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا قليلاً فتلاومنا بيننا فقلنا: أعطيتم جملكم مَنْ لا تعرفونه، فقالت الظعينة: لا تتلاوموا، فقد رأيت وجه رجل ما كان ليحقركم، ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه، فلما كان العشاء أتانا رجل فقال: السلام عليكم، أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، فإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا. قال: فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا، فلما كان من الغد دخلنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: " يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول ابنك وأباك وأختك وأخاك وأدناك وأدناك " .
وروى سعي بن جبير، عن ابن عباس قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا فقال: " يا صباحاه " فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ قال: أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ألا تصدقوني؟ قالوا: بلى. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد: قال أبو لهب: تباً لك، ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله تعالى " تبت يدا أي لهب وتب " إلى آخر السورة.


وروى ابن عباس، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، قال: لما أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم " وانذر عشيرتك الأقربين " دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: " يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت حتى أتاني جبريل فقال: يا محمد، إنك إن لا تفعل ما تؤمر به يعذبك الله فاصنع لهم صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرتُ به. ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون، فيهم أعمامه أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت له، فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جرة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: " خذوا باسم الله " فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وما أرى إلا مواضع أيديهم وأيم الله الذي نفس علي بيده، إن كان الرجل منهم، ليأكل ما قدمت لجميعهم. ثم قال: " إسق القوم " فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم، بدره أبو لهب الكلام، فقال: سحركم صاحبكم - فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " الغد يا علي إن هذا الرجل سبقني إِلى ما سمعت من القول فأعد لنا من الطعام مثل ما صنعت، ثم أجمعهم لي " . ففعلت وجمعتهم فأكلوا وشربوا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي " فأحجم القوم، فقلت وأنا أحدثهم سناً: أنا يا نبي الله. فقام القوم يضحكون.
وذكر ابن جرير: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب واستخفوا من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون فذاكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فاقتتلوا فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلحْي جمل فشجه فكان أول دم أهريق في الإسلام.
قال ابن اسحاق: ولما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام لم يردوا عليه كل الرد، حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك نادوه واجتمعوا على خلافه، ومنعه عمه أبو طالب فمضى إِلى أبي طالب رجال من أشرافهم: كعتبة، وشيبة، وأبي جهل، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً وردهم رداً جميلاً، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم سرى الأمر بينه وبينهم، حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، فأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، وحض بعضهم بعضاً عليه، ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا طالب، إن لك نسباً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على شتم آبائنا وسفه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى نكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.


ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ولا خذلانه، إلا أنه قال له: يا بن أخي، إن قومك جاؤني فقالوا لي كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله ومسلمة، وأنه قد ضعف عن نصرته، فقال: " والله يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام، فلمَّا ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا بن أخي. فاقبل فقال: اذهب فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء، أبداً.
وقال السدي: بعثوا رجلاً إلى أبي طالب فقال له: هؤلاء مشيخة قومك يستأذنون عليك. فقال: أدخلهم. فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، ومُره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه. فبعث إليه أبو طالب، فلما جاء قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم، وقد سألوك النصف أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك فقال: " يا عم، أو لا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها " ؟ قال: وإلى ما تدعوهم؟ قال: " أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم " فقال أبو جهل: ما هي وأبيك لنعطيكهما وعشر أمثالها؟ قال: " يقولون لا إله إلا الله " قال: فتفرقوا وقالوا سلنا غير هذه فقال: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي، ما أسألكم غيرها " فغضبوا وقاموا من عنده، وقالوا: لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا. ونزل قوله تعالى " وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على ألهتكم " .
قال ابن إسحاق: فلما عرفت قريش أن أبا طالب لا يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أبهى فتى في قريش وأجمله، فخذه فاتخذه ولداً، وسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفَه أحلامهم، فنقتله فإنما رجل كرجل فقال: والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبداً. فقال مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً. فقال أبو طالب لمطعم: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك. قال: فجنت الحرب حينئذ وتنابذ القوم ووثب كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله منهم لعمه أبي طالب، وقام أبو طالب في بني هاشم وبني عبد المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه، وقاموا معه فأجابوا إلى ما دعاهم إليه من الدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ما كان من أبي لهب، فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم وحدتهم عليه جعل يذكر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه فيهم ليسدد لهم رأيهم.
ومن الحوادث العجيبة أن أكثم بن صيفي الحكيم لما سمع بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يأتيه فمنعه قومه.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد بإسناده عن علي بن عبد الملك بن عمير، عن أبيه قال:


بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يَدَعوهْ، وقالوا: أنت كبيرنا لم يكن لتخف إِليه. قال: فليأت مَنْ يبلغه عني ويبلغني عنه، فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك مَنْ أنت، وما أنت، وبماذا أجبت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا محمد بن عبد الله، وأنا عبد الله ورسوله، ثم تلا عليهم هذه الآية: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " ، قالا: وفد علينا هذا القول، فردده عليهم حتى حفظوه قال: فلما أتيا أكثم قالا: قد سألناه عن نسبه فوجدناه واسط النسب في مضر وقد رمى إلينا كلمات حفظناهن فلما سمعهن أكثم قال: يا قوم أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤساء، ولا تكونوا أذناباً، وكونوا فيه أولاً ولا تكونوا فيه أخراً، ولم يلبث أن حضرته الوفاة، فأوصى فقال: أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإنها لا يبلى عليها أصل، ولا يهيض عليها فرع، وإياكم ونكاح الحمقى، واعلموا أن سوء جهل الغني يورث سرحاً، وأن سوء جهل الفقير يضع الشرف، وأن العدم عدم العقل لا عدم المال، واعلموا أنه لن يهلك امرؤ عرف قدره، واعلموا أن مقتل الرجل بين لحييه، وأن قول الحق لم يترك لي صديقاً.
وذكر أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري: أن أكثم بن صيفي سمع بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه مع ابنه حبيش: باسمك اللهم، من العبد إلى العبد، أما بعد: فبلغنا ما بلغك الله، فقد بلغنا عنك خير، فإن كنت أريت فأرنا، وإن كنت علمت فعلمنا وأشركنا في خيرك والسلام.
فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم: " من محمد رسول الله إلى أكثم بن صيفي، أحمد الله إليك، إن الله أمرني أن أقول لا إله إلا الله وليقر بها الناس، والخلق خلق الله، والأمر كله لله، وهو خلقهم وأماتهم، وهو ينشرهم وإليه المصير. بادابه المرسلين ولتسلن عن النبأ العظيم، ولتعلمن نبأه بعد حين " .
فقال لابنه: ما رأيت منه، قال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها. فجمع أكثم بني تميم، وقال: لا تحقرن سفيهاً، فإن مَنْ يسمع يخل، وإن مَنْ يخل ينظر وإن السفيه واهي الرأي وإن كان قوي البدن، ولا خير فيمن عجز رأيه ونقص عقله. فلما اجتمعوا دعاهم إلى إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام مالك بن عروة اليربوعي مع نفر من بني يربوع فقال: خرف شيخكم، إنه ليدعوكم إلى الغبار، ويعرضكم للبلاء، وأن تجيبوه تفرق جماعتكم وتظهر أضغاثكم، ويذلل عزكم، مهلا مهلًا. فقال أكثم بن صيفي: ويل للشجي من الخلي، يا لهف نفسي على أمر لم أدركه ولم يَفُتْني ما آسَى عليك بل على العامة، يا مالك إن الحق إذا قام دفع باطل وصرع صرعى قياماً، فتبعه مائة من عمرو وحنظلة، وخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في بعض الطريق، عمد حبيش إلى رواحلهم فنحرها وشق ما كان معهم من مزادة وهرب، فأجهد أكثم العطش فمات، وأوصى مَنْ معه بإتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأشهدهم أنه أسلم. فأنزل فيه: " ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى اللّه ورسوله ثم يدركه الموت، فقد وقع أجره على اللّه " .
فهاتان الروايتان تدلان على أن أكثم بن صيفي أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روينا أنه مات قبل ذلك.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: كان أكثم بن صيفي من كبار الحكماء، وعاش مائتي سنة، وله كلام مستحسن.


فمنه: من عتب على الدهر طالت معتبته، ومن رضي بالقسم طابت معيشته، والدنيا دول، فما كان منها لك أتاك على ضعفك، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك، والحسد داء ليس له شفاء، من يصحب الزمان يرى الهوان، ولم يفت من لم يمت، وكل ما هو آت قريب ومن أمنه يؤتى الحذر، دخل الطريق لمن لا يضيق لوسع يجدأ ودع البر ينحو عليه العدو " كفوا ألسنتكم، فإن مقتل الرجل بين فكيه، وفي طلب المعالي تكون العزة، ومن قنع بما هو فيه قرت عينه، ولم يهلك من مالك ما وعظك، لا تغضبوا من اليسير فإنه يجني الكثير، وألزموا النساء المهنة، وأكرموا الخيل، ونعم لهو الحرة المغزل، وحيلة من لا حيلة له الصبر، المكثار حاطب ليل، أشد الناس مؤونة أشرافهم، ومن التواني والعجز أنتجت الهلكة، وأحوج الناس إلى الغنى من لم يصلحه إلا الغناء، وحب المدح رأس الضياع، ورضى الناس لا يدرك، فتحر الخير بجهدك، ولا تكره سخط من رضاه الجور، معالجة العفاف مشقة، فنعوذ بالصبر وآخر الغضب، فإن القدرة من ورائك غي، الصمت خير من عي المنطق، خير القرناء المرأة الصالحة، ليس للمختال في حسن الثناء نصيب، ولا تمام لشيء من العجب، ومن أتى المكروه إلى أحد فبنفسه بدأ، وأقل الناس راحة الحسود، يا بني سودوا أعقلكم، فإن أمر مسير القوم إذا لم يك عاقلا كان آفة لمن دونه، والتفاضل من فعل الكرام، والصدق في بعض المواطن عجز، والمن يذهب للصنيعة، ومَنْ سلك الجدد أمن العثار، ومَنْ شدد تفر، ولقاء الأحبة مسلاة للهم، ومَنْ ظلم يتيماً ظلم أولاده، من سل سيف البغي أغمد في رأسه.
وممن توفي في هذه السنة ورقة بن نوفل بن عبد العزي بن قصي كان قد كره عبادة الأوثان، فطلب الدين في الآفاق وفي الكتب، وكانت خديجة تسأله عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول لها: ما أراه إلا نبي هذه الأمة الذي بَشَر به موسى وعيسى. نبأنا الحسين بن محمد البارع بإسناد له عن ابن شهاب عن عروة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة فيما بلغنا، فقال: " لقد رأيته في المنام عليه ثياب بيض، وقد أظن أنه لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض " .
قال الزبير: وحدثني عمي مصعب بن عبد الله، عن الضحاك، عن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: قال عروة: كان بلال لجازية من بني جمح بن عمر، وكانوا يعذبونه برمضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء ليشرك بالله، فيقول: أحد أحد، فيمر عليه ورقة وهو على ذلك فيقول: أحد أحد يا بلال، والله لئن قتلتموه لاتخذنه حناناً يعني لأتسمَحنَ به.
قال: وقال ورقة في ذلك شعراً وهو:
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركمُ أحد
لا تعبدن إلهاً غير خالقكم ... فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد
سبحان ذي العرش سبحانا نعود له ... رب البرية فرد واحد صمد
سبحانه ثم سبحاناً نعود له ... وقبل سبحه الجودي والحمد
مسخر كلٌ ما تحت السماء له ... لا ينبغي أن يساوي ملكه أحد
لاشيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والإنس والجن فيما بينها برد
أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوماً كما وردوا
ذكر الحوادث التي كانت سنة خمس من النبوة
من ذلك: الهجرة إلى أرض الحبشة لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة لم تنكر عليه قريش، فلما سب آلهتها أنكروا عليه، وبالغوا في إيذاء المسلمين فأمرهم رسول الله بالخروج إلى أرض الحبشة، فخرج قوم وستر القوم الباقون إسلامهم، فكانت أرض الحبشة متجر قريش، فخرج في الهجرة الأولى أحد عشر رجلاً وأربع نسوة سِراً، فصادف وصولهم إلى البحر سفينتين للتجارة فحملوهم فيهما إلى أرض الحبشة، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة من حين تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت قريش في آثارهم فقاتلوهم، وهذه تسميتهم:


عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو حذيفة بن عتبة، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، والزبير بن العوام. ومصعب بن عمير. وعبد الرحمن بن عوف. وأبو سلمة بن عبد الأسد، ومعه امرأته سلمة بنت أبي أمية. وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، ومعه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة. وأبو سَبرة بن أبي رهم. وحاطب بن عمرو بن عبد شمس. وسهيل بن بيضاء. وعبد الله بن بيضاء. وعبد الله بن مسعود.
فأقاموا عند النجاشي آمنين، فلما نزلت سورة النجم، وسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد معه المشركون، فبلغ ذلك أهل الحبشة فقالوا: إذا كانوا قد آمنوا فلنرجع إلى عشائرنا. وكانوا قد خرجوا في رجب، فأقاموا شعبان ورمضان، وقدموا في شوال فلقيهم ركب فسألوهم، فقالوا: ذكر محمد آلهتهم فتابعوه، ثم عاد عن ذكرها فعادوا له بالشر، فلم يدخل أحد منهم مكة إلا عبد الله بن مسعود فإنه مكث قليلاً ثم رجع إلى أرض الحبشة فسطت بهم عشائرهم وآذوهم، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج مرة أخرى إلى أرض الحبشة، فخرج خلق كثير وهذه تسميتهم: أسماؤهم على حروف المعجم: الأسود بن نوفل. أسماء بنت عميس. بركة بن يسار. تميم بن الحارث، ويقال: بن نمير، وانفرد ابن إسحاق فقال: بشر. جابر بن سفيان بن معمر. جعفر بن أبي طالب، جنادة بن سفيان. جهم بن قيس. الحارث بن حاطب. الحارث بن خالد التميمي. الحارث بن عبد قيس بن عامر. حاطب بن الحارث، ومات بالحبشة. حاطب بن عمرو. الحجاج بن الحارث السهمي. حرملة بنت عبد الأسود. حطاب بن الحارث، ومات بالحبشة. حسنة أم شرحبيل. خالد بن سفيان الجمحي. خالد بن سعيد بن العاص. خالد بن حرام بن خويلد. خزيمة بن جهم. خنيس بن جذامة. ربيعة بن هلال. رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. رملة بنت أبي عوف. ريطة بنت الحارث. الزبير بن العوام. السائب بن الحارث. السائب بن عثمان بن مظعون. سعيد بن خولة. سعيد بن الحارث بن قيس. سعيد بن عبد قيس الفهري. سعيد بن عمرو التميمي، ويقال: اسمه معيد. سفيان بن معمر الجمحي. السكران بن عمرو. سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي. سليط بن عمرو العامري. سويبط العبدري. سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. سهل بن بيضاء. سهلة بنت سهيل. شرحبيل بن حسنة. شماس بن عثمان. طليب بن أزهر. طليب بن عمير. عامر بن ربيعة. عامر بن أبي وقاص. عامر بن عبد الله. أبو عبيدة بن الجراح. عبد الله بن جحش. عبد الله بن الحارث بن قيس. عبد الله بن حذافة السهمي. عبد الله بن سفيان. عبد الله بن سهيل بن عمرو. عبد الله بن شهاب. عبد الله بن عبد الأسد. أبو سلمة عبد الله بن قيس بن موسى. عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى. عبد الله بن مسعود. عبد الرحمن بن عوف. عبد الله بن مظعون. عتبة بن غزوان. عبيد بن مسعود. عثمان بن عفان. عثمان بن مظعون. عثمان بن ربيعة بن وهبان. عثمان بن عبد غنم الفهري. عدي بن نضلة. عروة بن أبي أثابة. عمار بن ياسر. عمر بن رباب. عمرو بن أمية بن الحارث. عمرو بن جهم. عمرو بن الحارث بن زهير. عمرو بن سعيد بن العاص. عمرو بن عثمان بن كعب التيمي. عمرو بن أبي سرح، وقيل: اسمه معمر. عمير بن رباب السهمي. عميرة بنت السعدي. عياض بن زهير. عياش بن أبي ربيعة. فاطمة بنت صفوان بن أمية. فاطمة بنت المجلل. وقيل: المحلل. فراس بن النضر بن الحارث. فكيهة بنت يسار. قدامة بن مظعون. قيس بن حذافة السهمي. قيس بن عبد الله. من بني أسد بن خزيمة. ليلى بنت أبي خيثمة. مالك بن ربيعة. محمد بن حاطب. محمُية بنت جزء السهمي. مصعب بن عمير. المطلب بن أزهر. معبد بن الحارث السهمي، ويقال: ابن معمر. معتب بن عوف. معمر بن عبد الله بن نضلة. ومعيقيب بن أبي فاطمة. المقداد بن الأسود. نبيه بن عثمان بن ربيعة. هاشم أبي حذيفة المخزومي. هبار بن سفيان. هشام بن أبي العاص بن وائل، هاشم عتبة بن ربيعة. هُمينة بنت خلف، ويقال: أمينة. هند بنت أبي أمية. يزيد بن زمعة الأسود. أبو الروم بن عمير. أبو سبرة بن أبي رهم. أبو قليهة. أبو قيس بن الحارث. كلثوم بنت سهيل بن عمرو. فهؤلاء جملة الذين هاجروا إلى الحبشة الهجرة الأولى والآخرة على خلاف في بعضهم.
ذكر من وُلد بالحبشة للمسلمين


عبد الله، وعوف، ومحمد: أولاد جعفر بن أبي طالب. سعيد وأمه: ابنا خالد سعيد بن العاص. عبد الله بن المطلب، محمد بن أبي جعفر، محمد بن حاطب زينب بنت أبي سلمة، موسى، وعائشة، وزينب: أولاد الحارث بن خالد.
قال محمد بن إسحاق: كان جميع مَنْ لحق بأرض الحبشة من المسلمين سواء أبناؤهم الذين خرجوا بهم صغاراً أو ولدوا بها نيفاً وثمانين رجلاً إن كان عمار منهم وابن إسحاق يشك في عمار. وذكر الواقدي أنهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلاً، النساء إحدى عشرة قرشية، وسبع غرائب، فلما سمعوا بمهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، وثمان نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس منهم سبعة، وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً.
فصل
قال مؤلف الكتاب : ولما خرج المسلمون إِلى الحبشة ومنع الله تعالى نبيه عليه السلام بعمه أبي طالب، ورأت قريش أن لا سبيل لهم عليه رموه بالسحر والكهانة والجنون، وقالوا: شاعر، ثم بالغوا في أذاه.
فما فعلوه: ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حضرت قريشاً وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صرنا إليه من هذا الرجل، قد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا وعاب آلهتنا وقيل: ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى أستلم الركن، ثم مر طائفاً بالبيت، فلما مر غمزوه ببعض القول، قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فوقف فقال: " ألا تسمعون يا معاشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذًبْح " .
قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما بينهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، وحتى أن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما كان يجد من القول حتى أنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً، فو الله ما كنت جهولاً.
فانصرف رسول الله حتى إِذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم.
فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما كان، يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم أنا الذي أقول ذلك " فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ مجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله. ثم انصرفوا عنه.
أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: حدَّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر بن أبي خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاهدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: لو قد رأينا محمداً قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت فاطمة تبكي حتى دخلت على أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش من قومك في الحجر قد تعاهدوا أن لو رأوك قاموا إليك يقتلونك، فليس معهم رجل إلا قد عرف نصيبه من بدنك. فقال: " يا بنية أرني وضوءاً " فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: هو هذا، هو هذا. فخفضوا أبصارهم وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه أبصارهم، ولم يقم منهم رجل فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها. وقال: " شاهت الوجوه " فما أصاب رجل منهم حصاة إلا قتل يوم بدرٍ كافراً " .


قال أحمد: وحدثنا علي بن عبد الله هو ابن المديني قال: أخبرنا الوليد بن مسلم قال: حدثني الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير قال: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي قال: حدثني عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول صلى الله عليه وسلم. قال: بينا رسول الله بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى به في عنقه، فخنقه به خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللّه، وقد جاءكم بالبينات من ربكم " .
قال أحمد: وحدثنا وهب بن جرير قال: أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس وسلا جزورٍ قريب منهم فقالوا: مَنْ يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره؟ فقال عقبة بن أبي معيط: أنا. فأخذه فألقاه على ظهره فلم يزل ساجداً حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم عليك بالملأِ من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة. اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بأبي بن خلف " أو أمية بن خلف .
فقال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعاً، ثم سحبوا إلى القليب غير أبي أو أمية فإنه كان رجلاً ضخماً فتقطع. أخرجه البخاري ومسلم.
وانفرد بالذي قبله البخاري رحمه الله.
فصل
قال مؤلف الكتاب : فلما كثرت أنواع الأذى التي لقيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين استتر في دار الأرقم بن أبي الأرقم وهي التي تسمى الآن دار الخيزران.
فصل
قال مؤلف الكتاب : فلما استقر قرار المهاجرين إلى الحبشة اجتهد المشركون في كيدهم، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي بهدايا ليسلمهم إليهم.
أخبرنا هبة الله بن محمد بن الحصين قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن علي قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: أخبرني يعقوب قال: حدٌثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أم سلمة قالت:


لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى، فلما بلغ ذلك قريشَاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا له هداياهما يستطرف من متاع مكة وأمروهم أمرهم وكان أعجب ما يأتيهم منها الأدم، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا بذلك عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وأمروهم أمرهم ، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم، فخرجا فقدما على النجاشي فدفعا إلى كل بطريق هديته وقالا لهم: إنه قد صبأ إلى بلاد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه تسليمهم إلينا ولا نكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيباً. فقالوا: نعم. ثم قربا هداياهم إلى النجاشي، فقبلها منهم تكلما، فقالا له: إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لنردهم إليهم، فهم أعلى بهم وأعلم بما عابوا عليهم. فقال بطارقته: صدقوا فأسلمهم إليهما. فغضب النجاشي وقال: لا وأيم الله، إذن لا أسلمهم إليهما ولا أكاد قوماً جاورني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان سلمتهم إليهما، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني. ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما أن جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ فقالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه وقد دعى النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم، فقال: ما هذا الدين الذيِ فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين اخر من هذه الأمم؟ قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب. فقال له: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، وكنا على ذلك حتى بعَثَ الله تعالى إلينا رسولاً منا نعرف صدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباءنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن: الفواحش، وقول الزور وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا: أن نعبد الله لا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاءنا به فعبدنا الله عز وجل وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم الله علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن يستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال لهم النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله عز وجل؟ فقال له جعفر: نعم: قال: فاقرأه عليَ فقرأ عليه صدراً من " كهيعص " ، فبكى النجاشي حتى خضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى، ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فو الله لا أسلمكم إليهما أبداً. قالت: فلما خرجنا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً أعيبهم عنده بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل، فإن لهم أرحاماً. قال: فو الله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عمَّا يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم، فسألهم عنه؟ قالت: ولم يزل بنا مثلها، فاجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟


قالوا: نقول والله فيه ما قال الله عز وجل، وما جاء به نبينا، كائن في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم. قال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم: " هو عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول " قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. ثم قال: إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي والسيوم الآمنون من سلمِ عزم، من سلم عزم، من سلم عزم، ما أحب أن أدير ذهباً وإني أذيت منكم رجلاً. والدير بلسان الحبشة: الحبل، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين، مردوداً عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده بخير دار وخير جار.وا: نقول والله فيه ما قال الله عز وجل، وما جاء به نبينا، كائن في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم. قال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم: " هو عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول " قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. ثم قال: إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي والسيوم الآمنون من سلمِ عزم، من سلم عزم، من سلم عزم، ما أحب أن أدير ذهباً وإني أذيت منكم رجلاً. والدير بلسان الحبشة: الحبل، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين، مردوداً عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده بخير دار وخير جار.
قالت: فو الله إنا على ذلك فأنزل به من ينازعه في ملكه.
قالت: فو الله ما علمنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفاً أن يظهر ذلك الملك على النجاشي فلا يعرف من حقنا ما كان يعرفه.
قال: فسار النجاشي وبينهما عرض النيل، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير: أنا قالت: وكان من أحدث القوم سناً. قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم.
قالت: ودعونا الله عز وجل للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده، فاستوثق له أمر الحبشة. فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
فصل وفي هذه السنة توفيت سمية بنت خياط
مولاة حذيفة بن المغيرة، وهي أم عمار بن ياسر، أسلمت بمكة قديماً، وكانت ممن يعذب في الله عز وجل لترجع عن دينها فلم تفعل، فمر بها أبو جهل فطعنها في قلبها فماتت وكانت عجوزاً كبيرة، فهي أول شهيدة في الإسلام. ومن الحوادث في سنة ست من النبوة فمن ذلك: إسلام حمزة وعمر: وقيل إن ذلك في سنة خمس.
وأما سبب إسلام حمزة: فروى ابن إسحاق: أن أبا جهل مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس عند الصفا، فأذأه وشتمه ونال منه بعض ما يكره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مولاة لعبد اللّه بن جدعان في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك، ثم انصرف فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحاً قوسه راجعاً من قنص له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة، فلما مر بالمولاة قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد أنفاً من أبي الحكم بن هشام وجده ها هنا جالساً فسبه وأذاه وبلغ منه، فلم يكلمه محمد، فاحتمل حمزة الغضب، فخرج سريعاً، فدخل المسجد، فرأى أبا جهل جالساً في القوم فضربه بالقوس ضربة شجه بها شجة منكرة وقال له: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول؟ فرد ذلك علي إن استطعت. وتم حمزة على إسلامه، فعرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز، وأن عمه حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون وأما سبب إسلام عمر: ففيه ثلاثة أقوال، سنذكرها في باب خلافة عمر رضي اللّه ومن الحوادث في سنة سبع من النبوة


وقعة بعاث: وكانت بين الأوس والخزرج.
أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي البزاز قال: أنبأنا أبو إسحاق البرمكي قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحسين بن الهثيم قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال زيد بن ثابت: كانت وقعة بعاث ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، قد تنبأ، ودعا إلى الإسلام، ثم هاجر بعدها بست سنين إلى المدينة، وكان حضير أبو أسيد بن حضير رئيس الأوس يوم بعاث، وقد قيل إنها كانت، قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين.
أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا أبو علي بن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرنا أبي، عن إسحاق قال: حدثني حسين بن عبد الرحمن عن محمود بن لبيد قال: لما قدم أبو الجليس أنس بن نافع ومعه فتية من بني عبد الأشهل منهم: إياس معاذ يلتمس الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، فسمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم: " هل لكم إلى خير مما جئتم له " ؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: " أنا رسول الله، بعثني الله إلى العباد، أدعوهم أن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئاً، وأنزل علي كتاب كريم ثم ذكر الإسلام، وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الجليس حفنة من البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا إلى المدينة.
وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، فلم يلبث إياس بن معاذ أن هلك.
قال محمود بن لبيد: فأخبرني مَنْ حضره من قومي عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره، ويحمده، ويسبحه حتى مات، وما كانوا يشكون أنه قد مات مسلماً لقد كان يستشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر ما جرى من الحوادث في السنة الثامنة من النبوة
قال مؤلف الكتاب: فيها نزل قول الله تعالى: " غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون " ، وكانت بين فارس والروم حروب قد أشرنا إليها فيما تقدم.
قال يحيى بن يعمر: بعث قيصر رجلاً يدعى قطمه بجيش من الروم وبعث كسرى بشهربراز، فالتقيا بأذرعات وبصرى وهما أدنى الشام إليكم فلقيت فارس الروم، فغلبتهم فارس، ففرح بذلك كفار قريش وكرهه المسلمون فأنزل الله تعالى " غلبت الروم في أدنى الأرض " الآيات.وقال علماء السير: وقد فرح المشركون وشق على المسلمين لأن فارس لم يكن لهم كتاب، وكانوا يجحدون البعث، ويعبدون الأصنام، وكان الروم أصحاب كتاب، فقال المشركون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم، فإن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فنزلت هذه الآية، فخرج بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى المشركين، فقالوا: هذا كلام صاحبك، فقال: الله أنزل هذا فقالوا لأبي بكر: نراهنك على أن الروم لا تغلب فارس، فقال أبو بكر: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فقالوا: الوسط من ذلك ست، فوضعوا الرهان وذلك قبل أن يُحرم الرهان وكان الرهن عشر قلائص إلى عشر قلائص، فرجع أبو بكر إلى أصحابه فأخبرهم، فلاموه، وقالوا: هلا أقررتها كما أقرها الله لو شاء أن يقول ستاً، فخرج أبو بكر: أزيدكم في الخطر وأزيدكم في الأجل إلى تسع سنين. فقهرهم أبو بكر وأخذ رهانهم، فظهرت الروم على فارس بعد سبع سنين، ووافق التقاؤهم يوم بدر.
ومن الحوادث في هذه السنة


أنه لما أسلم حمزة وعمر رضي الله عنهما، وحمى النجاشي من عنده من المسلمين، وحامى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب فشا الإسلام في القبائل، واجتهد المشركون في إخفاء ذلك النور، " ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره " واجتمعت قريش واستمرت بينها أن يكتبوا كتاباً يتعاهدون فيه على أن لا ينكحوا لبني هاشم وبني عبد المطلب ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فكتبوا بذلك صحيفة، وتوافقوا عليها، وعلَّقوها فيِ جوف الكعبة، توكيداً لذلك الأمر على أنفسهم، فلما فعلوا ذلك انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه، وخرج من هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهر المشركين، فأقاموا على ذلك ثلاث سنين.
وروى الواقدي عن أشياخه أنهم حصروهم في أول سنة سبع من النبوة وقطعوا عنهم الميرة والمارة، فكانوا لا يخرجون إلا من هو منهم، حتى بلغهم الجهد، وسُمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب، فمن قريش مَنْ سره ذلك، ومنهم مَنْ ساءه، وكان خروجهم في السنة العاشرة، وكان هشام بن عمرو بن ربيعة أفضل قريش لبني هاشم حين حصروا في الشعب، أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعام، فعلمت بذلك قريش، فمشوا إليه، فكلموه في ذلك، فقال: إني عائد بشي بخالفكم، ثم عاد الثانية، فأدخل حملاً أو حملين ليلاً فغالظته قريش وهموا به، فقال أبو سفيان بن حرب، دعوه رجل وصل رحمه أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل، كان أجمل بنا ثم أن هشاماً أسلم يوم الفتح.
واختلف العلماء في سبب نقض حكم الصحيفة
على قولين
أحدهما: أن الله تعالى أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على أمر صحيفتهم، وأن الأرضة قد أكلت ما كان فيها من جور وظلم، وبقي ما كان فيها، من ذكر الله تعالى، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، فقال أبو طالب: أحق ما تخبرني به يا ابن أخي. قال: نعم والله. فذكر ذلك أبو طالب لأخوته وقال: والله ما كذبني قط. قالوا: فما ترى؟ قال: أرى أن تلبسوا أحسن ثيابكم، وتخرجوا إلى قريش، فتذكروا ذلك لهم من قبل أن يبلغهم الخبر. فخرجوا حتى دخلوا المسجد، فقال أبو طالب: إنَا قد جئنا لأمر فأجيبونا فيه. قالوا: مرحباً بكم وأهلاً. قال: إن ابن أخي قد أخبرني - ولم يكذبني قط - أن اللّه عز وجل قد سلَّط على صحيفتكم الأرَضة، فلحست كل ما فيها من جَوْر أو ظلم أو قطيعة رحم ، وبقي فيها كل ما ذُكر به اللّه ، فإن كان ابن أخي صادقاً نزعتم عن سوء رأيكم، وإن كان كاذباً دفعته إليكم فقتلتموه واستحييتموه إن شئتم. قالوا: قد أنصفت. فأرسلوا إلى الصحيفة، فلما فتحوها إذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط في أيدي القوم، ثم نكسوا على رؤوسهم. فقال أبو طالب: هل تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة؟ فلم يراجعْهُ أحد منهم، ثم انصرفوا. رواه محمد بن سعد عن أشياخ له.


والثاني: أن هشام بن عمرو بن الحارث العامري. مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة، فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت، لا يباعون، ولا يُبْتَاع منهم، ولا ينكِحون ولا ينكَح إليهم، أما إِني أحلِفُ بالله: لو كان أخوك أبو الحكَم بن هشام ثم دعوتَه إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك منهم أبداً. قال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع؟ إنما أنا رجلٌ واحد، والله لو كان معي آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها. قال: قد وجدت رجلاً. قال: مَنْ هو؟ قال: أنا. قال: أبغنا ثالثاً. فذهب إلى المُطعم بن عدي فقال: يا مطعم، أقَدْ رَضيت أن يهلِك بَطْنَان من بني عبد مناف وأنت موافق لقريش في ذلك؟ قال: ويحك، ماذا أصنعِ؟ إنما أنَا رجلٌ واحد. قال: قد وجدت ثانياً. قال: مَنْ هو؟ قال: أنا. قال: أبغنا ثالثاً. قال: قد وجدت. قال: مَنْ هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: أبغنا رابعاً. فذهب إلى أبي البختري بن هشام. فقال له نحواً مما قال لمطعم بن عدي. فقال: فهل من أحد يُعين على هذا؟ قال: نعم. قال: مَنْ هو؟ قال: زهير، والمطعم، وأنا معك، قال: أبغنا خامساً. فذهب إلى زمعة بن الأسود، فكلمه وذكر له قرابتهم. فقال: وهل لك معين؟ قال: نعم. فسمى له القومَ، فاتعدوا خَطْم الحَجون التي بأعلى مكة، واجتمعوا هنالك وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضُوها. فقال زهير: أنا أبدؤكم. فلما أصبحوا غَدوْا إلى أنْديتهم ، وكانت قريش قد تجاوزت الكعبة، فكان شق البيت لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود واليماني لبني مخزوم وتيم وقبائل من قريش ضموا إليهم، وكان ظهر البيت لبني جمح وبني سهم، وكان شق الحجر - وهو الحطيم - لبني عبد الدار، ولبني أسد بن عبد العزى، وبني عدي بن كعب، فغدا زهير فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، إنّا نأكل الطعام، ونشرب الشراب، ونلبس الثَيابَ، وبنو هاشم هَلْكى، لا يباعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تُشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظَّالمة. فقال أبو جهل: كذبتَ، والله لا تُشقّ. فقال زمعَة بن الأسود: أنت والله أكذبُ، ما رَضينا كتابتها حين كتبت. فقال أبو البخترِي: صَدَقَ زمعَةُ، لا نرضى ما كتب فيها ولا نُقرّ به: فقال المطعم: صدقتُما وكذب مَنْ قال غيرَ ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كُتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمرٌ قُضِيَ بليل وتُشُووِرَ فيه بغير هذا المكان، فقام المُطعم إلى الصحيفة ليشقَها، فوجد الأرَضة قد أكلتها، إلا ما كان من " باسمك اللهم " .
وقد كتبها منصور بن عِكرمة بن هاشمُ، فشلت يده.
هذا قول ابن إسحاق.
فصل ضماد الأزدي وقدم على رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم ضماد الأزدي.
أخبرنا سعد الخير بن محمد الأنصاري، قال: أخبرنا علي بن عبد اللهّ النيسابوري، قال: أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، قال: أخبرنا محمد بن عيسى ابن عمرويه الجلودي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، قال: حدثنا مسلم بن الحجاج قال: أخبرنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: أخبرنا داوود، عن عمرو بن سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن ضماداً قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يُرقِي من هذه، الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: لو أني رأيت هذا الرجل، لعل الله، أن يشفيه على يدي. قال: فأتيته فقلت: يا محمد إني أرقي من الريح، وإن الله عز وجل يشفي على يدي مَنْ يشاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله نحمده ونستعينه، مَنْ هداه اللهّ فلا مضل له، ومَنْ يضلل اللة فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد " .
قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء.
فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام. فبايعه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فمروا بقومه، فقال صاحب الجيش: هل أصبتم عن هؤلاء شيئاً؟.
فقال رجل منهم: أصبت مطهرة.


فقال: ردوها، فإن هؤلاء قوم ضماد..
ذكر الحوادث في السنة العاشرة من النبوة
وفاة أبي طالب منها: موت أبي طالب، فإنه توفي للنصف من شوال في هذه السنة، وهو ابن بضع وثمانين سنة.
ولما مرض أبو طالب دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام.
فأخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزاز، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال أخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر بن واقد قال: حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده عبد الله بن أبي أمية وأبا جهل بن هشام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عم، قل: لا إِلَهَ إِلا اللّهُ، كَلِمَة أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللّه " .
فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملّة عبد المطّلب؟.
قال: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويقول: " يَا عَم، قُلْ: لا إِلَهَ إلا اللّه، أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله. " ويقولان له: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ حتى قال آخر كلمة تكلّم بها: أنا على ملة عبد المطلب. ثم مات.
فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " لأسْتَغْفِرَن لَكَ مَا لَمْ أنْهَ عنك " .
فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حتى نزلت هذه الأية: " مَا كَان لِلنبيَ والَذِينَ آمَنُوا أن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أولِي قُرْبىَ مِنْ بَعدِ مَا تَبَيًنَ لَهُمْ أنهُمْ أصْحَابُ الجَحِيم " .
قال محمد بن عمر: وحدثني محمد عبد الله بن أخي الزهري، عن أبيه، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعير العُذريّ آلا، قال: قال أبو طالب: با ابن أخي، واللّه لولا رَهْبَة أن تقول قريش: وهرني الجَزَع، فتكون سبة عليك وعلى بني أبيك لفعلت الذي تقول، وأقررتُ عينك لما أرى من شكرك ووجْدك ونصيحتك لي.
ثم إن أبا طالب دعا بني عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد أوما اتبعتم، أمره، فاتبعوه وأعينوه تَرْشُدوا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لِمَ تأمرهم بها وَتَدَعهَا لِنفسك؟ " فقال أبو طالب: أما إنك لو سألتني الكلمة وأنا صحيح لتابعتُك على الذي تقول، ولكني أكره أن أجَزع عند الموت، فترى قريش أني أخذتُها جَزَعاً ورددتُها في صحتي.
قال محمد بن عمر: وحدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه قال: أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب فبكى ثم قال: " اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِه، غَفَرَ اللهُ لَهُ وَرَحِمَهُ " .
قال ففعلت. قال، وجعل رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم يستغفر له أيّاماً ولا يخرج من بيته، حتى نزل عليه جبريل عليه السلام بهذه الآية: " مَا كَان لِلنبِيَ وَالذِينَ آمَنُوا أن يَسْتًغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أولِي قرْبَى " .
قال علي: وأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلت.
قال محمد: وأخبرنا الفضل بن دُكَين قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن عمك الشيخ الضالّ قد مات.
قال: اذهب فَوَاره ِوَلاَ تُحَدِثن شَيْئَاً حَتًى تأتِيَنِي.
فأتيته، فقلت له، فأمرني فاغتسلت، ثم دعا لي بدعواتٍ ما يسرني ما عُوِّضَ بِهنّ من شيء.
أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: أخبرنا إبراهيم ابن أبي العباس قال: أخبرنا الحسن بن يزيد الأصم، قال: سمعت إسماعيل السُدي يذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي قال: لما توفي أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن عمك الشيخ قد مات.
قال: " اذهب فواره، ولا تحدث شيئاً حتى تأتيني " قال: فاغتسلت ثم أتيته، فدعا لي بدعوات ما يسرني أني لي، بها حمر النعم وسودها.


قال: وكان علي رضي الله عنه إذا غسل الميت، اغتسل وقال ابن عباس: عارض رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة أبي طالب وقال: " وصلت رحمك، جزاك الله خيراً يا عم " .
وفاة خديجة رضي اللّه عنها ومن الحوادث: وفاة خديجة رضي اللة عنها، بعد أبي طالب بأيام.
أخبرنا ابن عبد الباقي قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أمامة قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: حدثنا محمد بن عمر بن واقد، عن محمد بن صالح بن دينار، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، والمنذر بن عبد الله عن بعض أصحابه، عن حكيم بن حزام، قال: وحدثنا محمد بن عبد الله عن أبيه، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَيْر قال: لما توفي أبو طالب وخديجة، وكان بينهما شهر وخمسة أيام، اجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان، فلزم بيته، وأقل الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع به، فبلغ ذلك أبا لهب، فجاءه فقال: يا محمد، امض لما أردت وما كنت صانعاً إذ كان أبو طالبِ حياً فاصنعه، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت. وسب ابنُ العيطلة النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبَل عليه أبو لهب، فنال منه، فولى وهو يصيح: يا معشر قريش، صبأ أبو عتبة.
فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب، فقال: ما فارقت دين عبد المطب، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد. فقالوا: قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياماً يذهب ويأتي، لا يعترض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب، إلى أن جاء عُقبة بن أبي مُعيط وأبو جهل إلى أبي لهبٍ فقالا له: أخبرك ابن أخيك، أين مدخل أبيك؟ فقال له أبو لهب: يا محمد، أين مدخل عبد المطلب؟ قال: " مَعَ قَوْمِه " .
قال: فخرج إليهما أبو لهب وقال: قد سألته، فقال مَعَ قَوْمِه.
فقالا: إنه يزعم أنه في النار. فقال: يا محمد، أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نَعَمْ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى مِثْل مَا مَاتَ عَلَيْهِ عَبْدُ المُطَلِب دَخَل النار.
فقال أبو لهب: واللّه لا برحتُ لك عدوًاً أبداً، وأنت تزعم أن عبد المطلب في النَار، فاشتد عليه هو وسائر قريش.
قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن أبي الحُويرث، عن محمد بن خبير بن مطعم قال: لما توفي أبو طالب تناولت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج حينئذ إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة في ليال بقين من شوّال سنة عشر.
قال محمد بن عمر - بغير هذا الإسناد - : فأقام بالطائف عشرة أيام.
وقال غيره: شهراً لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلمه فلم يجيبوه، وخافوا على أحداثهم فقالوا: يا محمد، اخرج من بلدنا والحقْ لمُجابك من الأرض، وَأغْروْا به سفهاءهم. فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى إن رجليه لَتدميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شُج في فأسه شجاجاً. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعاً، إلى مكة وهو محزون، فلما نزل نخلة قام يصلّي، فصُرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نَصيبين، فاستمعوا وأقاموا بنخلة أياماً فقال له زيد: كيف تدخل عليهم وهم أخرجوك؟ فأرسل رجلاً من خزاعة إلى مطعم بن عدي أدخُل في جوارك، قال: نعم.
قال محمد بن كعب القرظي: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عَمَد إلى نفرٍ من ثَقيف - وهم قادة ثقيف وأشرافهم يومئذ - وهم أخوة ثلاثة: عَبْد يا لَيْل، ومسعود، وحَبيب أولاد عمرو بن عُمير، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله عز وجل، وكلمهم بما جاء له من نُصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه؟ فقال أحدهم: هو يَمرُط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وقال آخر: أما وجد الله أحداً يُرسله غيرك.
وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمةً أبداً، لئن كنتَ رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرُدّ عليك الكلام، ولئن كنتَ تكذب على اللّه ما ينبغي لي أن أكلمك.


فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من نصر ثقيف، وأغرَوا به سفهاءهم يسبونه ويَصيحون به، حتى اجتمع إليه الناس، وألجأوه إلى حائط لعُتبة بن ربيعة وشَيْبَة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثَقيف مَنْ كان يتبعه، فَعَمَد إلى ظلّ حَبَلةٍ من عنب، فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه ويَرَيَان ما لقي من سُفهاء ثقيف، فلما اطمأن قال فيما ذكر لي: " اللهم إليك أشْكو ضَعْف قُوتي، وقِلَّة حيلتي، وهَواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربي، إلى مَنْ تَكِلُنِي، إلى بعيد فيجهّمني، أم إلى عدوٍ ملَكْتَه أمري، فإن لم يكن بك عليٌ غَضَب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وَجْهك الذي أشرقتْ له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخره من أنْ تنزل بي غضَبك، أو تحلّ عليً سُخْطك، لك الرضى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك " .
فلما رأى ابنا ربيعة - عُتْبة وشَيْبة - ما لَقي؟ تحركت له رحمُهما، فَدَعوا غلاماً لهما نَصرانياً يقال له: عِدَاس، وقالا له: خذ قِطْفاً من هذا العنب وَضَعه في ذلك الطَّبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه - ففعل ثم أقبل به حتى وَضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال: " بسم الله " ثم أكل.
فنظر عدَاس إلى وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ومِنْ أي البلاد أنت، وما دينك؟ " قال: أنا نَصْراني، وأنا رجل من أهل نِينوى.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يُونُس بن متى " ؟.
قال له: وما يُدْريك ما يونسُ بن متى؟.
قال: ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي.
فأكب عداس على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقبل رأسَه ويَدَيْه ورجليه.
قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمّا غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما قالا له: ويلك يا عداس، ما لك تقبل رأسَ هذا الرجل ويدَيه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني، بأمر لا يعلمه إلا نبي.
رجوعه من الطائف ومن الحوادث: أنه لما رجع من الطائف لم يمكنه دخول مكة إلا بجوار، وذلك أنه لما دنا من مكة علم أن قومه أشد عليه مما كانوا، فأرسل بعض أهل مكة إلى الأخنس بن شريق فقال له: " هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالة ربي " ؟.
فقال له الأخنس: إن الحليف لا يجير على الصريح.
قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: تعود؟ قال: نعم. قال: فأت سُهَيْل بن عمرو فقل له: إن محمداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلِّغ رسالات ربي؟ فقال له ذلك، فقال: إِن بني عامر بن لؤيّ لا تجير على بني كعب. فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره. قال: تعود؟ قال: نعم. قال: إئت المطعم بن عدي فقل له: إن محمداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟ قال: نعم فليدخل.
فرجع فأخبره وأصبح المطعم بن عدي قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه، فدخلوا المسجد فلما رآه أبو جهل قال أمجير أم متابع؟ قال: بل مجير، قال: أجرنا مَنْ أجرت؟ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وأقام بها، وكان يقف بالموسم على القبائل فيقول: " يا بني فلان، إني رسولُ الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً " فكان يمشي خلفه أبو لهب فيقول: لا تطيعوه.
وأتى رسول اللهّ كندة في منازلهم فدعاهم إلى الله عز وجل، فأبوا، وأتى كلباً في منازلهم فلم يقبلوا منه، وأتى بني حَنيفة في منازلهم، فردوا عليه أقبح رد، وأتى بني عامر بن صعصعة، وكان لا يسمع بقادم من العرب له اسم وشرف إِلا دعاه وعرض عليه ما عنده.
وقال جابر بن عبد اللهّ: مكث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ، ومَجَنَة وفي المواسم يقول: " مَنْ يؤويني، مَنْ ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ " حتى بعثنا الله إليه فأويناه وصدقناه.
تزويج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها ومن الحوادث في هذه السنة: تزويج رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم عائشة وسودة. وكانت عائشة بنت ست سنين حينئذ.


أخبرنا هبة الله بن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا محمد بن بشير قال: أخبرنا محمد بن عمرو قال: أخبرنا أبو سلمة ويحيى قالا: لما هلكت خديجة رضي الله عنها جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول اللّه، ألا تتزوج؟ قال: " مَنْ؟ " قالت: إن شئت بكراً، وإن شئت ثيباً. قال: " مَنْ البكر؟ " قالت: ابنة أحب خلق الله عز وجل إليك عائشة، بنت أبي بكر.
قال: " وَمَنْ الثيب " ؟ قالت: سودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول. قال: " فاذهبي فاذكريهما علي " .
فدخلت بيت أبي بكر فقالت: يا أم رومان، ماذا أدخل اللّه عز وجل، عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟. قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة. قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي. فجاء أبو بكر فقالت: يا أبا بكر، ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة. قال: وهل تصلح له، إنما هي ابنة أخيه. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك. قال: " ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك، وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي " . فرجعت، فذكرت ذلك له، فقال: انتظري. وخرج.
قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي كان قد ذكرها على ابنه، فوالله ما وعد وعداً قط فأخلفه تعني أبا بكر.
فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الفتى، فقالت: يا ابن أبي قحافة، لعلك مُصْبي صاحبنا ومدخله في دينك الذي أنت عليه أن تزوج إليك. قال أبو بكر للمطعم بن عدي: أبقَوْل هذه تقول قال: إنها تقول ذلك؟ فخرج من عنده وقد أذهب الله عز وجل ما كان في نفسه من عدته التي وعده، فرجع فقال لخول: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته، فزوجها إياه وعائشة يومئذٍ، بنت ست سنين.
ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة وقالت: ماذا أدخل الله عز وجل عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه. قالت: ودِدت، ادخلي إلى أبي فاذكري ذلك له وكان شيخاً كبيراً قد أدركه السن. قد تخلف عن الحج، فدخلت عليه، فحيته بتحية الجاهلية، فقال: مَنْ هذه؟ قالت: خولة بنت حكيم. قال: فما شأنك؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة. قال: كفؤ كريم، ماذا تقول صاحبتك؟ قالت: تحب ذلك. قال: ادعيها لي. فدعوتها، فقال: يا بنية، إن هذه تزعم أن محمداً بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك، وهو كفؤ كريم، أتحبين أن أزوجكه ؟ قالت: نعم. قال: ادعيه لي. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه.
ذكر مَنْ توفي في هذه السنة من الأكابر
خديجة بنت خويلد
بن أسد بن عبد العزى بن قصي وتكنى أم هند
أخبرنا يحيى بن علي بن المدبر قال: أخبرنا أبو منصور بن عبد العزيز العكبري قال: أخبرنا أبو أحمد: عبيد الله بن محمد القرشي قال: حدثنا جعفر بن محمد الكالدي قال: حدثني محمد بن أحمد السجستاني قال: أخبرنا عمرو بن إسماعيل بن مجالد قال: أخبرني، أبي، عن مجالد، عن الشعبي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن عليها الثناء، فذكرها يوماً من الأيام، فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أخلف الله لك خيراً منها؟.
قالت: فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: " لا والله، ما أخلف الله لي خيراً منها، لقد آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني، ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء " .
قالت: فقلت: بيني وبين أنفسي: لا أذكرها بسوء، أبداً.
أنبأنا يحيى بن الحسين البنا قال: أخبرنا أبو جعفر قال: أخبرنا المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الألوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني محمد بن حسن، عن علي بن المغيرة، عن ابن أبي داوود قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة بنت خويلد وهي في مرضها الذي توفيت فيه، فقال لها: " يا لكره مني ما أرى منك يا خديجة وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران وكلثم أخت موسى، وآسيا امرأة فرعون " .


قالت: وقد فعل الله ذلك يا رسول الله؟ قال: " نعم " قالت: بالرُفاء والبنين.
قال مؤلف الكتاب: توفيت خديجة في هذه السنة وهي بنت خمس وستين. ودفنت بالحجون، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها، ولم يكن يومئذ سُنّة الجنازة الصلاة عليها.
السكران بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود: أسلم، قديماً بمكة، وهاجر إلى الحبشة ومعه امرأته سودة بنت زمعة، فمات في هذه السنة بأرض الحبشة.
وقيل: بمكة، فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة.
عبد مناف، أبو طالب: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبق ذكره.
ذكر الحوادث سنة إحدى عشرة من النبوة
بدء إسلام الأنصار مِن ذلك: خرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المَوْسم يعرض نفسه على القبائل كما كان يصنع في كَل مَوْسم، فبينا هو عند العقبة لَقِي رهطاً من الخزرج فقال: " مَنْ أنتم؟ " قالوا: من الخزرج. قال: " أفلا تجلسون أكلمكم؟ " . قالوا: بلى.
فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعَرَض عليهم الإسلامَ، وتلى عليهم القرآن، وكان أولئك يسمعون من اليهود أنه قد أظل زمان نبيٍّ يبعثُ، فلما كلمهم قال بعضهم لبعض: والله إنه النبي الذي يعدكم به يهود، فلا تسبُقنكم إليه. فأجابوه وانصرفوا راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا، وكانوا سِتةً وهم: أسعدُ بن زُرارة، وعوفُ بن الحارث - وهو ابن عَفْراء - ورافعُ بن مالك بن العجلان ، وقُطْبهُ بن عامر بن حَديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رئاب.
فلما قدموا، المدينة إلى قومهم ذكَروا لهم رسول الله، ودعوهم إلى الإسلام حتى أفشا، فيهم، فلم تبقَ دارٌ من دور الأنصار إِلا وفيها ذكرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري قال: أخبرنا أبو العسكري قال: أخبرنا صالح بن أحمد بن أبي مقاتل البغدادي قال: أخبرنا عبد الجبار بن كثير بن سيار التميمي قال: حدَّثنا محمد بن بشران، الصنعاني أخبرنا أبان بن عبد الله البجلي، عن إبان بن ثعلب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: حدثنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه، وأبو بكر، حتى دفعنا إلى مجلسٍ من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر فسلم ووقفت أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال علي: وكان أبو بكر مقدماً في كل خير، وكان رجلاً نسابة، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة. قال: وأي ربيعة أنتم؟ قالوا: ذُهل الأكبر. قال أبو بكر: هامتها أو مِن لهازمها؟ قالوا: بل من هامتها العظمى. قال: فمنكم عوف الذي يقال له لا حُر بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا. قال: فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا لا قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفُسَهَا؟ قالوا: لا. قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قال: لا. قال: فمنكم أخوال الملوك من كِنْدة قالوا: لا. قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال: فلستم من، ذهل الأكبر، أنتم من، ذهل الأصغر. فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له: فيَ دغْفَل حين بقل عارضه، فقال:
إن على سائلنا أن نسأله ... والعَبْولا تعرفه أو تحمله
يا هذا، إنك قد سألتنا، فأخبرناك، ولم نكتمك شيئاً، فممَنْ الرجل؟ فقال أبو بكو: من قريش. فقال الفتى: بَخ بَخ أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة. فقال الفتى: أمكنت والله الرامي من سواء النقرة، فمنكم قصي، الذي جمع القبائل من فهر، فكان يدعى في قريش مجمعاً. قال: لا.
قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه فقيل فيه: بيت
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
قال: لا. قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب، مطعم طير السماء الذي كان وجهه يضيء في الليلة الظلماء. قال: لا. قال: أفمن الندوة أنت قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا.
وزاد غيره: قال: فأنت إذاً من زمعات قريش.
قال: فاجتذب أبو بكر زمام الناقة ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الغلام:


صادف در السيل دراً يدفعه ... يهيضه حيناً وحيناً يصدعه
أما والله لوثبت. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال علي رضي الله عنه: فقلت: يا أبا بكر، لقد وقعت من الأعرابي على باقعة قال: أجل يا أبا الحسن، ما من طامة إِلا وفوقها طامة، والبلاء مُوَكل بالمنطق.
قال: فدُفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم ودنا فقال: مَمنْ القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة.
فقال: يا رسول الله ما وراء هؤلاء من قومهم شيء، هؤلاء غرر الناس، وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك. قال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ قال مفروق: إنا لنزيد على ألفٍ، ولن تغلب ألفٌ من قلة. فقال أبو بكر: فكيف المنعة فيكم؟ قال: علينا الجهد ولكل قوم جهد. قال: كيف الحرب بينكم؟ قال: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من الله عز وجل يُديلنا مرةً ويديل علينا أخرى، لعلك أخو قريش. قال أبو بكر، رضي الله عنه: وقد بلغكم أنه رسول الله فها هوذا. قال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلى ما يدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس، وقام أبو بكر يظله بثوبه، فقال: " أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله وإلى تؤوني وتنصروني، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسله، وامتنعت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد.
فقال مفروق: وإلى ما تدعونا أيضاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قُلْ تَعَالَوْا أتْلُ مَا حرمَ رَبُكُمْ عَلَيْكُمْ ألا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً " الآية.
فقال مفروق: إلى ما تدعونا أيضاً؟ فوالله ما سمعت كلاماً هو أجمل من هذا، ولو كان من كلام أهل الأرض لفهمناه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِن اللَهَ يَأمُرُ بِالْعَدْل وَالإحسَانِ " الآية.
فقال مفروق: دعوت واللهّ إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفِكَ قوم كذبوك وظاهروا عليك، وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.
فقال ابن قبيصةُ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى تركنا ديننا واتباعنا إياك، ولكن نرجع وترجع، وننظر وتنظرُ، وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.
فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب جوابُ هانئ بن قبيصة، وإنا إنما نزلنا بين صَرْيَيِّ اليمامة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما هاَتان الصريان؟ " .
قال: مياه العرب ما كان منها مما يلي أنهار كسرى فَذَنبُ صَاحِبهِ غير مغفور، وعذره غير مقبول، وإنما نزلنا على عهد أخذه كسرى علينا، أن لا نحدث حدثاً، ولا نؤوي مُحدثاً، فأنا أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه تكرهه الملوك، فإن شئت نؤويك، وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإذ دين الله تعالى لن ينصره إلا مَنْ أحاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ " .
فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذلك.
فتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا أرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إلَى اللهِ بِإذْنه وَسِرَاجاً منِيراً " . ثم نهض قابضاً على يد أبي بكر وهو يقول: " أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها، يدفع الله بها بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون فيما بينهم " .
فما برحنا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا صدقاً صبراً.
ذكر الحوادث في سنة اثنتي عشرة من النبوة
الإسراء والمعراج فمن ذلك: المعراج.
قال الواقدي: كان المَسْرَى في ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان في السنة الثانية عشرة من النبوة، قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً.
وروي عن أشياخ أخر قالوا: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة سبعة عشر من شهر ربيع الأول، قبل الهجرة بسنة.
وقال مؤلف الكتاب: ويقال إنه كان ليلة سبع وعشرين من رجب.


أخبرنا هبة الله بن محمد قال: أخبرنا الحسن بن علي التميمي قال: أخبرنا أحمد بن جعفر قال: أخبرنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا عفان قال: أخبرنا همام بن يحيى قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك: أن مالك بن صعصعة حدثه: أن نبي اللّه صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسرِي به، قال: " بينما أنا في الحَطِيم - وربما قال قتادة: في الحجر - مضطجع إذ أتاني آتٍ فجعل يقول لصاحبه: الأوسط بين الثلاثة. قال: فأتاني فقدَّ - وسمعت قتادة يقول: فشق - ما بين هذه إلى هذه " .
قال قتادة: فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني؟ قال: من ثغرة نَحْره إلى شعرته. وقد سمعته يقول: من قصته، إلى شعرته.
قال: فاستخرج قلبي قال: " فأتيت بطست من ذهب مملوءة إيماناً، وحكمة، فغسل قلبي ثم حُشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل، وفوق الحمار، أبيض. قال: فقال للجارود: أهو البراق يا أبا حمزة؟ قال: نعم يقع خطوُه عند أقصى طرفِهِ.
قال: " فحُمِلت عليه، فانطلق بي جبريل عليه السلام حتى أتى بي إلى السماء الدنيا، فاستفتح، فقيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمدٌ . قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. فقيل: مرحباً به، ونعم المجيء جاء.
قال: " ففتح لنا، فلما خلصت فإذا فيها آدم عليه السلام. فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم صعد حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، فقيل له: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، ونعم المجيء جاء، قال: ففتح. قال: فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، فقال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما. قال: فسلمت عليهما فردا السلام، ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد حتى أتى السماء الثالثة، فاستفتح، فقيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، ونعم المجيء جاء " .
قال: " ففتح، فلما خلصت، إذا يوسف. قال: هذا يوسف فسلم عليه. فسلمت عليِه فرد السلام، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح. فقيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، ونعم المجيء جاء.
قال: ففتح، فلما خلصت إذا إدريس قال هذا إدريس، فسلم عليه. فسلمت عليه فرد السلام قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
قال: " ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح، فقيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد. قيل أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل، مرحباً به، ونعم المجيء جاء " .
قال: " ففتح، فلما خلصت فإذا هارون قال: هذا هارون فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد السلام، وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
قال: " ثم صعد حتى أتى إلى السماء السادسة، فاستفتح. قيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، ونعم المجيء جاء " .
قال: ففتح، فلما خلصت، فإذا أنا بموسى. قال: هذا موسى فسلم عليه. فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
قال: " فلما تجاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك قال أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها أمتي.
قال: " ثم صعد حتى أتى إلى السماء سابعة، فاستفتح. فقيل: مَنْ هَذا؟ قال: جبريل. قيل: وَمَنْ معك؟ قال: محمد. قيل أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قال: مرحباً به، ونعم المجيء جاء.
قال: ففتح، فلما خصلت فإذا إبراهيم. فقال: هذا أبوك، إبراهيم فسلم عليه. قال: فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح.
قال: " ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. فقال: هذه سدرة المنتهى.
قال: " وإذا أربعة أنهار: نهران بأطنان، ونهران ظاهران. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ " قال: أما الباطنان: فنهران في الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات.
قال: " ثم رفع إلى البيت المعمور " .
قال قتادة: وحدثنا الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه رأى البيت


المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون منه.
ثم رجع إلى حديث أنس، قال: ثم أتيت بإناء من خمرٍ، وإناء من لبن، وإناء من عسل! قال: فأخذت اللبن.
قال: هذه الفطرة أنت عليها وأمتك،.
قال: " ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم وليلة " .
قال: " فرجعت، فمررت على موسى، فقال: بِمَ أمرتَ؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم وليلة. فقال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني قد خبرتُ الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل، أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك.
قال: " فرجعت، ، فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال: بِمَ أمرت؟ قلت: أمرت بأربعين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم، فإني جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك قال: " فرجعت، فوضع عني عشراً أخر، فرجعت إلى موسى، فقال: بِمَ أمرت؟ قلت: بثلاثين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع لثلاثين صلاة كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك " .
قال: " فرجعت، فوضع عني عشراً أخر، فرجعت إلى موسى، فقال: بِمَ أمرت؟ قلت: أمرت بعشرين صلاة كل يوم. فقال: إن أمتك لا تستطيع لعشرين صلاة كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف " .
قال: فرجعت، فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بِمَ أمرت؟ قلت: بعشر صلوات كل يوم. فقال: إن أمتك لا تستطيع لعشر صلوات كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك عز وجل فسله التخفيف لأمتك " .
قال: فرجعت، فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال: إن أمتك لا تستطيع لخمس صلوات كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك " .
قال: قلت: قد سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم. فلما نفذت نادى منادٍ : قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي " .
أخرجاه في الصحيحين.
وبالإسناد قال أحمد : وأخبرنا محمد بن جعفر قال: أخبرنا عوف، عن زُرَارَة بن أوفى، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما كان ليلة أسري بي، وأصبحت بمكة فظِعْت بأمري وعرفت أن الناس مُكَذَبي " .
قال: فقعد معتزلاً حزيناً، فمر به أبو جهل فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم " .
قال: وما هو؟ قال: " إني أسري بي الليلة " قال: إلى أين؟.
قال: " إلى بيت المقدس " .
قال: ثم أصبحت بين ظَهْرَانَيْنَا؟.
قال: " نعم " .
قال: فلم يُرِ أن يُكذَبه مَخَافَةَ أن يَجْحَدَ الحديثَ إن دعى قومه إليه.
قال: أرأيت إن دعوت قومك، أتحدثهم ما حدثتني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم " .
فقال: يا معشر بني كعب بن لؤي.
حتى انتفضت إليه المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما. قال: حدث قومكَ بما حدثتني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أسريَ بي الليلة " .
قالوا: إلى أين؟ قال: " إلى بيت المقدس " .
قالوا: ثم أصبحت بين ظَهْرَانَيْنَا؟! قال: " نعم " .
قال: فمن بين مُصَفقٍ، وواضع يده على رأسه متعجباً للكذب زَعَم.
قالوا: أو تستطيع أن تنعت لنا المسجدَ - وفي القوم مَنْ قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذهبت أنعت، فما زلت أنعتُ حتى التبس علي بعضُ النعتِ " .
قال: " فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وُضِعَ دُون دارِ عُقَيْل - أو عِقَال - فنعتُّه وأنا أنظر إليه " .
قال: وكان مع هذا نعت لم أحفظه، فقال قوم: أما النعُت فواللّه لقد أصاب.
ذكر العقبة الأولى ومن الحوادث في هذه السنة: خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم عامئذ إلى الموسم وقد قدم وفد من الأنصار اثني


عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة، وهم: أسعدُ بن زرارة، وعوف ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة، ورافع بن مالك بن العجلان، وذكوان بن عبد قَيْس بن خَلَدة، وعُبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة بن خَزَمة ، وعباس بن عُبادة بن نَضَلة، وعقبهً بن عامر بن نابئ، وقُطْبة بن عامر بن حَديدة، وأبو الهيثم بن التَيهان واسمه: مالك، وعُوَيم بن ساعدة.
فبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فروى عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى ونحن اثنا عشر رجلاً أنا أحدهم، فبايعناه على بَيْعة النساء، على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نَسْرق، ولا نَزْني. ولا نقتل أولادنا، ولا نأتَي ببهتان نَفْتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف وذلك قبل أن تُفْرَضَ الحربُ.
قال: فإن وَفَيتم بذلك فلكم الجنة، وإن غَشيتم شيئاً فأمركم إلى الله، إن شاء غَفَر، وإن شاء عذب.
فلما انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث معهم مُصعب بن عُمير إلى المدينة يفقه أهلها ويقرئهم القرآن، فنزل على أسعد بن زرارة - وكان يُسمى بالمدينة: المقرئَ - فقال سعد بن معاذ يوماً السيد بن جدير: ائت أسعد بن زرارة فازجره عنَا، فإنه قد بلغني أنه قد جاء بهذا الرجل الغريب معه ليُسفَه ضعفاءنا.
فذهب أسَيْد بن حُضير إلى أسعد وقال: ما لنا ومالك، تأتينا بهذا الرجل الغريب يسفه ضعفاءنا.
فقال: أو تجلسُ فتسمع، فإن رضيتَ أمراً قبلته، وإن كرهته كُف عنك ما تكره؟ فقال: أنصفتم. فجلس فكلَّمه مصعب وعرض عليه الإسلام، وتلى عليه القرآن، فقال: ما أحسن هذا وأجمله، كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين؟ قالا له: تتطهر، وتطهر ثيابك، وتشهد بشهادة الحق. ففعل وخرج، وجاء سعد بن معاذ، فعرض عليه مصعب الإسلام فأسلم، ثم جاء حتى وقف على بني عبد الأشهل فقال: أي رجل تعلمونني؟ قالوا: نعلمك والله خيرنا وأفضلنا، قال: فإنَ كلامَ نسائكم ورجالِكم علي حرامٌ حتى تؤمنوا باللّه وحده وتصدقوا محمداً. فوالله أمسى في دار بني عَبْدِ الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً، ولم يزل مصعب يدعو الناس إلى الإسلام حتى كثر المسلمون وشاع الإسلام، ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة قبل بيعة العقبة الثانية.
ذكر الحوادث التي كانت في سنة ثلاث عشرة من النبوة من ذلك: ذكر العقبة الثانية خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموسم، فلقيه جماعة من الأنصار، فواعدوه بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فاجتمعوا فبايعوه.
قال كعب بن مالك : خرجنا في حُجاج قومنا حتى قَدِمنا مكة وواعَدْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَقَبة من أوسط أيام التشريق فلما فرغنا إلى الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حزام: أبو جابر، وكنا نكتم مَنْ معنا من المشركين من قومنا أمَرنا، فقلنا: يا أبا جابرة إنك سيد من ساداتنا وشريفٌ من أشرافنا، وإِنَا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حَطباً للنار غداً.
ثم دَعَوْناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، فأسلم وشهد معنا العَقبة. وكان نقيباً، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رِحالنا، حتى إذا مضَى ثلثُ الليل خَرجْنَا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نَتَسلَلُ تَسَلل القَطا، حتى اجتمعنا في الشعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا: نُسَيبة بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرو بن عدي وهي: أم منيع، فاجتمعا بالشِّعب نَنتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له.


فلما جلس كان أول مَنْ تكلم العباس، فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمُّون هذا الحيَّ من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوسها - إن محمداً منَا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممَنْ هو على مثل رأينا فيه، وهو في عز من قومه ومَنعةٍ في بلده، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم تَرَوْن أنكم وافُون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممَنْ خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتمِ ترون أنكم مُسْلموه وخاذِلوه بعد الخروج إليكم، فمِن الآن فدَعُوه، فإنه في عزٍّ ومَنعةٍ مِن قومه وبلده.
قال: فقلنا: إِنَا قد سَمِعنا ما قلت: فتكلمْ يا رسول الله وخُذْ لنفسك وربك ما أحببتَ.
قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن ودعى إلى الله تبارك وتعالى، ورَغب في الإسلام، ثم قال: " أبايعكم على أن تَمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم " .
قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: والذي بعثك بالحق، لنمنعنَك مما نمنع منه أزرَنَا ، فبايعْنَا يا رسول الله ، فنحن والله أهل الحرب وأهل الحَلْقة، ورثناها كابراً عن كابرٍ .
قال: فاعترض القولَ، والبَراءُ يكلَم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيِّهَان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الناس حبالاً ونحن قاطعوها - يعني: اليهود - فهل عسيتَ إن نحن فَعَلْنا ذلك ثم أظهرك اللهُ أن ترجع إلى قومك وتدَعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " بل الدم الدم، والهَدْم الهَدْم ، أنتم مني وأنا منكم، أحارب مَنْ حاربتم، وأسالم مَنْ سالمتم " .
وقال: أخرجوا إِليَ اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم " .
فأخرجوا اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
وقال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزام: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: للنقباء: " أنتم على قومكم بما فيهم كُفَلاء كَكَفالة الحوارييًن لعيسى بن مَرْيم وأنا كفيل على قومي " ، قالوا: نعم.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن القوم لما اجتمعوا لبَيْعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العباس بن عُبادة بن نَضْلة: يا معشر الخزرج، هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حَرْبِ الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهكَتْ أموالُكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسْلَمتموه، فمن الآن، فهو والله خزْي الدنيا والآخرة إن فعلتم، وإن كنتم تَروْن أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكة الأموال، وقَتْل الأشراف، فخذُوه، فهو والله خيرُ الدنيا والآخرة.
قالوا: فإِنَا نأخُذه على مُصيبة الأموال، وقَتْل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله، إن نحن وفَّينا؟ قال: " الجنَة " . قالوا: ابسط يدَك. فبَسط يدَه، فبايعوه.
فأما عاصم بن عمر بن قتادة فقال: والله ما قال العباس ذلك إلا ليَشدَّ بالعقدِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أعناقهم.
وأما عبد الله بن أبي بكر فقال: والله ما قال العباس ذلك إلا ليؤخَر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبيّ بن سلَول، فيكون أقوى لأمر القوم. والله يعلم أي ذلك كان.
فبنُو النخار يزعُمون أن أبا أمامة، أسعد بن زرارة، كان أوَل من ضرب على يَديه، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهَيْثم بن التَيَهان.
وقال كعب بن مالك: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البَراءُ بن مَعْرور، ثم بايع القوم.
فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العَقَبة، بأنفذ صوت سمعتُه قطُّ: يا أهل الجَباجب ، هل لكم في مُذَمَم، والصباة معه قد اجتمعوا على حَرْبكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما يقول عدو الله، هذا أزبّ العقبة، اسمع أي عدو اللهّ، أما واللّه لأفرغَنّ لك " .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارفضًوا إِلى رحالكم " فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق، لئن شئت لنميلن غداً على أهل مِنَىَ بأسْيافنا؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم تُؤْمَر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم " !.


فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جِلة قُرَيش، حتى جاؤونا في مَنازلنا، فقالوا: يا معشر الخَزْرج، إِنَا قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتُبايعونه على حَرْبنا، وإنه والله ما مِن حيّ أبْغَضَ إلينا، أن تَنشَب الحرب بيننا وبينهم، منكم.
قال: فانبعث مَنْ هناك من مُشْركي قَوْمنا يَحْلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء، وما عَلِمْنَاه. قال: وصدَقوا لم يَعْلَموا. قال: وبعضُنا ينظر إلى بعضٍ.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد اللهّ بن أبي بكر بن حرام: أن قريشَاً أتوا عبد الله بن أبي بن سَلول، وذكروا له ما قد سمعوا من أصحابه، فقال: إن هذا الأمر جَسيم، وما كان قومي ليتفوتوا علي بمثل ذلك، وما علِمته. فانصرفوا عنه.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن الحسين قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن الحسين المروزي قال: أخبرنا أحمد بن الحارث بن محمد بن عبد الكريم قال: حدثني جدي محمد بن عبد الكريم قال: أخبرنا الهيثم بن عدي قال: أخبرنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس قال: تفاخرت الأوس والخزرج، فقال الأوس. منا أربعة ليس فيكم مثلهم: منا مَنْ اهتز عرش الرحمن لموته: سعد بن معاذ، ومنا غسيل الملائكة: حنظلة بن أبي عامر، ومنا مَنْ حمت لحمه الدبر: عاصم بن أبي ثابت، ومنا من جعلت شهادته شهادة رجلين: خزيمة بن ثابت.
فقالت الخزرج: منا أربعة كلهم جمع كتاب الله الذي ارتضاه لنفسه وأنزله على نبيه ولم يجمعه رجل منكم: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء.
ذكر أهل العقبة وهي العقبة الثانية. قال مؤلف الكتاب: ذكرتهم على حروف المعجم: أبي بن كعب أسعد بن زرارة، أسيد بن حُضير، أوس بن ثابت، أوس بن يزيد، البراء بن معرور، بشير بن البراء، بشير بن سعد أبو النعمان، بهز بن الهيثم، ثابت بن الجذْع، ثعلبة بن عبد ثعلبة بن غنمة، جابر بن عبد الله بن عمرو، جُبار بن صخر، الحارث بن قيس، خالد بن زيد أبو أيوب، خالد بن عمرو بن أبي بن كعب، خالد بن عمرو بن عدي. شهد العقبة في قول الواقدي وحده. خالد بن قيط بن مالك، ولم يذكره أبو معشر وابن عقبة. خارجه بن زيد، خديج بن سالم، خديج بن سلامة، خلاد بن سويد، ذكوان بن عبد قيس، رافع بن مالك، رفاعة بن رافع، رفاعة بن المنذر، رفاعة بن عمرو، زياد بن لبيد، زياد بن سهيل أبو طلحة، سعد بن زيد الأشهلي، ذكره الواقدي وحده، سعد بن خيثمة، سعد بن الربيع، سعد بن عبادة، سلمة بن سلامة، سليم بن عمرو، سنان بن صَيفي، سهل بن عتيك، شمر بن سعد، صَيْفي بن سَواد، الضحاك بن حارثة، الضحاك بن زيد، الطفيل بن النعمان، الطفيل بن مالك، عُبادة بن الصامت، عباد بن قيس، العباس بن عبادة، عبدُ الله بن أنيس، عبد الله بن جبير، عبد الله بن الربيع، عبد الله بن رواحة، عبد الله بن زيد، عبد الله بن عمرو بن حزام، عبس بن عامر، عبيد بن التيهان، وبعضهم يقول: عتيك، عقبة بن عمرو، أبو مسعود، عقبة بن وهب، عمارة بن حزم، عمرو بن الحارث، عمرو بن غزية، عمرو بن عمير، عمير بن الحارث، عوف بن الحارث، ويعرف بابن عفراء، عويمر بن ساعدة، فروة بن عمرو بن ودقة، قتادة بن النعمان، ولم يذكره ابن إِسحاق، قطبة بن عامر بن حديدة، قيس بن عامر، قيس بن صَعْصَعة، كعب بن عمرو، كعب بن مالك، مالك بن التيهان أبو الهيثم، مالك بن عبد الله بن خثيم، مسعود بن يزيد، معاذُ بن جبل، معاذ بن عفراء، معاذُ بن عمرو بن الجَموح، معقل بن المُنْذر، معن بن عدي، مسعود بن الحارث بن عفراء، ذكره ابن إسحاق وحده. المنذر بن عمرو، النعمان بن حارثة. النعمان بن عمرو، ذكره ابن إسحاق وحده. هانئ بن نِيار، يزيد بن ثعلبة، يزيد بن جذام، ولم يذكره ابن عقبة والواقدي، يزيد بن عامر بن حديدة، يزيد بن المنذر، أبو يسار بن صيفي أبو عبد الرحمن بن يزيد، وشهدها امرأتان: نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي.
قال مؤلف الكتاب: وقد ذكرناهما في حديث كعب بن مالك.
وقال ابن إسحاق: لُسيبة - باللام - وأختها ابنتا كعب.
قال: وإنما شهدها سبعون رجلاً وهاتان الإمرأتان.


قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر قال: ونَفَر الناسُ من مِنَىَ، فتبطن القوم الخبر، فوجدوه قد كان، فخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سَعْد بن عُبادة بالحاجر، والمنذر بن عمرو، وكلاهما كان نقيباً، وأما المنذر فأعجزَ القومَ، وأما سَعد فأخَذوه ورَبطوا يَدَيْه إلى عُنقهِ بِنِسْع رحلِهِ، ثم أقْبَلوا به حتى أدْخلوه مكَة يَضْربونه، وَيجْذِبونه بجمَته، وكان ذا شعرٍ كثير.
قال سعد: فوالله إني لفي أيْديهم إذ طَلع علي نَفرٌ من قُرَيش فيهم رجل أبيضُ وَضِيء شَعْشَاع حُلو من الرجال.
قال: قلت: إِنْ يكن عند أحدٍ من القوم خَير، فعند هذا؟ فلما دنا مني رفع يدَه فَلَكمَني لكمةً شديدة. قال: قلت في نفسي: والله ما عندهم بعد هذا خَيْر. قال: فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ ولّى رجل منهم، مِمَّنْ معهم فقال: وَيحك، أما بينك وبين أحد من قُرَيش جوار ولا عَهْد؟ قال: قلت: بلى والله، لقد كنت أجيراً لمجبير بن مطعِم بتجارته، وأمنعه ممن أراد ظلمه ببلادي، وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس. قال: ويحك، فاهتف باسم الرجلين فاذكر ما بينك وبينهما. قال: فعلت، وخرجِ ذلك الرجلُ إليهما، فوجَدهما في المسجد، عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلاً من الخَزْرج الآن يُضْرَب بالأبطَح، وأنه لَيَهْتِف بكما، يذكر أن بينه وبينكما جواراً. قالا: ومَنْ هو؟ قال: سعد بن عُبادة. قالا: صدق والله، إن كان ليجير تِجَارتنا، ويمنع أن يُكْلِمُونا ببلده.
فجاءا فخلصا سعداً من أيديهم، فانطلق. وكان الذي لَكَمَ سعداً: سُهَيلُ بن عمرو، فلما قدم أهل العقبة المدينة أظهروا الإسلام بها، وبقي أشياخ على شركهم، منهم: عمرو بن الجَمُوح، وكان ابنه مُعاذٌ قد آمن وَشَهِدَ العقبة.
قال ابن إسحاق: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج إلى المدينة، فخرجوا إرسالاً، فكان أول مَنْ هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش: أبو سلمة، كان هاجر إلى المدينة قبل بيعة العقبة بسنة، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكة من أرض الحبشة، فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجراً.
ثم كان أول من قدم المدينة من المهاجرين بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة معه امرأتُه ليلى بنت أبي حَثْمة، ثم عبد الله بن جحش، ثم تتابعت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إرسالاً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا أخذ وحُبس أو فُتن، إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر، وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحباً " فيطمع أبو بكر أن يكون هو فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد صارت له منعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، وعرفوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً، وأصابوا منعةً، فحددوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع أن يلحق بهم، فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمره صلى الله عليه وسلم.