المنتظم

الجزء الخامس
ثم دخلت
سنة تسع وعشرين
فمن الحوادث فيها:
عزل أبي موسى عن البصرة
أن عثمان رضي الله عنه عزل أبا موسى عن البصرة، وولى عبد الله بن عامر بن كرز وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة.
أخبرنا محمد بن الحسين، وإسماعيل بن أحمد، قالا: أخبرنا ابن النقور، أخبرنا المخلص، أخبرنا أحمد بن عبد الله، أخبرنا السري بن يحيى، أخبرنا شعيب، حدثنا سيف، عن محمد وطلحة، قالا:


لما ولي عثمان بن عفان أقر أبا موسى على البصرة ثلاث سنين، وعزله في الرابعة، وأمر على خراسان عمير بن عثمان بن سعد، وعلى سجستان عبد الله بن عمير الليثي، فأثخن فيها إلى كابل، وأثخن عمير في خراسان حتى بلغ فرغانة، فلم يدع دونها كورة إلا أصلحها؛ وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر التيمي، فأثخن فيها حتى بلغ النهر. وبعث إلى كرمان عبد الرحمن بن غُبَيس؛ وبعث إلى فارس والأهواز نفراً، وضم سواد البصرة إلى الحصين بن أبي الحرّ، ثم عزل عبد الله بن عمير، واستعمل عبد الله بن عامر فأقره عليها سنة ثم عزله، و استعمل عاصم بن عمرو، وعزل عبد الرحمن بن غبيس، وأعاد عدي بن سهيل بن عدي.
فلما كان في السنة الثالثة كفر أهل إيذج والأكراد، فنادى أبو موسى في الناس، وحضهم وندبهم، وذكر من فضل الجهاد في الرجلة حتى حمل رجال على دوابهم، وأجمعوا على أن يخرجوا رُجالاً. وقال آخرون: لا والله لا نعجل بشيء حتى ننظر ما صنيعه؟ فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما فعل أصحابنا.
فلما كان يوم خرج أخرج ثَقَلة من قصره على أربعين بغلاً، فتعلقوا بعنانه، وقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول، وارغب من الرجلة فيما رغبتنا فيه، فقنع القوم حتى تركوا دابته ومضوا، فأتوا عثمان بن عفان، فاستعفوه منه وقالوا: " ما كل ما نعلم نحب أن نقوله " ، فأبدلنا به، فقال: من تحبون. فقال غيلان بن خرشة: في كل أحد عوض من هذا العبد الذي قد أكل أرضنا، وأحيا أمر الجاهلية فينا، فلا ننفك من أشعري كان يعظم ملكه عن الأشعريين؟ ويستصغر ملك البصرة، وإذا أمرت علينا صغيراً كان فيه عوض منه، أو مهتراً كان فيه عوض منه؟ ومن بين ذلك من جميع الناس خير منه.
فدعا عبد الله بن عامر، فأمره على البصرة، وصرف عبيد الله بن معمر إلى فارس، واستعمل على عمله عمير بن عثمان بن سعد، فجاشت فارس، وانتقضت بعبيد الله، فاجتمعوا له بإصطخر، فالتقوا على باب إصطخر، فقتل عبيد الله وهزم جنده؛ وبلغ الخبرعبد الله بن عامر، فاستنفر أهل البصرة؟ وخرج معه بالناس وعلى مقدمته عثمان بن أبي العاص، فالتقى هو وهم بإصطخر، فقتل منهم مقتلة لم يزالوا منها في ذل، وكتب بذلك إلى عثمان رضي الله عنه.
وفي هذه السنة رجم عثمان امرأة من جهينة دخلت على زوجها فولدت له في ستة أشهر، فدخل عليه علي فقال: إن الله يقول: " وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثونَ شَهْراً " . فأرسل في أثرها فإذا قد رجمت. قاله محمد بن حبيب.
وفي هذه السنة ضاق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فوسعه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وابتدأ في بنائه في شهر ربيع الأول، وكانت القصة تحمل إلى عثمان من بطن نخل، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة فيها رصاص، وسقفه ساجاً، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كانت على عهد عمر رضي الله عنه ستة أبواب.
ورأيت لأبي الوفا بن عقيل فيِ ذكر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم كلاماً حسناً، قال في قوله: " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام " قال: هذا يتعلق بمسجد الرسول الذي في زمانه لا بما زيد فيه بعده.
وفي هذه السنة حج عثمان بالناس وضرب بمنى فسطاطاً، وأتم الصلاة بها وبعرفة، قال: إني إتخذت بمكة أهلاً فصرت من أهلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
سلمان بن ربيعة الباهلي شهد يوم القادسية، وحدث عن عمر رضي الله عنه، وولاه قضاء المدائن، وهو أول من ولي قضاء الكوفة ثم عزله عمر، فخرج غازياً للترك ثم انصرف فاستشهد بالجر من بلاد أرمينية في خلافة عثمان رضي الله عنه في هذه السنة، وقيل في سنة ثلاثين، وقيل في سنة إحدى وثلاثين.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي، أخبرنا محمد بن جعفر التميمي، حدثنا أبو القاسم بن المهدي، حدثنا أبو جعفر محمد بن زيد، حدَّثنا إبراهيم بن محمد الثقفي، حدثنا أبو إسماعيل حفص بن عمر البصري، حدَّثنا صالح بن مسلم، عن أبي وائل، قال: رأيت سلمان بن ربيعة جالساً بالمدائن على قضائها، واستقضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أربعين يوماً، فما رأيت بين يديه رجلين يختصمان، فقلنا لأبي وائل: فمم ذاك؟ قال: من انتصاف الناس منهم.
ثم دخلت


سنة ثلاثين
فمن الحوادث فيها: أن قوماً شهدوا على الوليد بن عقبة أنه شرب الخمر، فعزله عثمان رضي الله عنه، وولى سعيد بن العاص بن أبي أحيحة.
وفي هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان
وذلك أنه خرج من الكوفة يريد خراسان ومعه حذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه الحسن، والحسين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير. وخرج عبد الله بن عامر من البصرة يريد خراسان، ففعل كل واحد منهما فعلاً حسناً في البلاد من قتل وصلح.
وفي هذه السنة سقط خاتم رسول الله
صلى الله عليه وسلم من يد عثمان في بئر أريس
وهي بئر على ميلين من المدينة؟ جلس عليها عثمان فجعل يعبث بالخاتم فوقع في البئر، وكانت من أقل الآبار ماءً فنزحت ولم يوجد.
وفي هذه السنة زاد عثمان النداء الثالث على الزهراء
وهي دار له بناها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان في خلافته وكثر الناس أمر عثمان رضي اللّه عنه يوم الجمعة بالآذان الثالث، فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك.
فإن قيل: كيف صار ثلاثاً؟ قلنا: بالإقامة.
وفي هذه السنة هرب يزدجرد من فارس
إلى خراسان في قول بعض الرواة
قال: وذلك أن ابن عامر خرج إلى فارس، فهرب يزدجرد، فوجه ابن عامر في أثره من تبعه إلى كرمان، فهرب إلى خراسان.
وفي هذه السنة حج بالناس عثمان رضي الله عنه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أبي بن كعب بن قيس بن عبد المنذر شهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يكتب له الوحي، وهو أحد الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر، وأمر الله عز وجل نبيه أن يقرأ عليه القرآن، وقال عمر في حقه: هذا سيد المسلمين.
أخبرنا هبة الله بن محمد، أخبرنا الحسين بن علي، أخبرنا أحمد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، حدثنا محمد بن جعفر، أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: سمعت قتادة يحدث، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: " إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب " قال: وسماني لك؟ قال: نعم، فبكى.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر، أخبرنا الجوهري، أخبرنا ابن حيوية، أخبرنا أحمد بن معروف، أخبرنا الحسين بن الفهم، حدثنا محمد بن سعد، أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي، حدثنا سفيان الثوري، عن ابن أبجر، عن الشعبي، عن مسروق، قال: سألت أبي بن كعب رضي الله عنه عن مسألة، فقال: أكان هذا؟ قلت: لا، قال: فأحمنا حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا.
أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام، أخو حسان، وهو أبو شداد بن أوس: شهد أوس العقبة مع السبعين، وبدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أوس بن خولي بن عبد الله: شهد بدراً والمشاهد كلها، وحضر وقت غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه.
جبار بن صخر بن خنساء بن عبيد، أبو عبد الله: شهد العقبة مع السبعين، وبدراً والمشاهد كلها وتوفي في هذه السنة.
حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، يكَنى أبا محمد: شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه بكتاب، إلى المقوقس صاحب الإسكندرية. قال حاطب: فأنزلني المقوقس وأقمت عند بابه ليالي ثم أرسل إلي فقال: إني أسألك فأجبني عني، قلت: هلم، قال: أخبرني عن صاحبك، أليس هو نبياً؟ قلت: بلى قال: فما له لم يدع الله على قومه حيث أخرجوه من بلده إِلى غيرها؟ قلت: فعيسى بن مريم عليه السلام أتشهد أنه رسول الله؟ قال: نعم، قلت: فما له أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه ولم يدع عليهم فيهلكوا حتى رفعه الله إليه؟ فقال: أنت حكيم جاء من حكيم، هذه هدايا ابعث بها معك إلى محمد، وأرسل معك ببذرقة يبذرقونك إلى مأمنك، فأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث جواري منهن مارية أم إبراهيم، وواحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهم بن حذيفة، وواحدة وهبها لحسان بن ثابت.


وكان حاطب من الرماة المذكورين، وكان خفيف اللحية أجنأ، إلى القصر ما هو، شثن الأصابع، وتوفي بالمدينة في هذه السنة وهو ابن خمس وستين، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه.
عبد الله بن مظعون بن حبيب بن وهب: أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي وهو ابن ثمانين سنة.
عياض بن زهير بن أبي، شداد بن ربيعة بن هلال، يكنى أبا سعد: هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس له عقب.
مسعود بن الربيع، وقيل: ابن ربيعة بن عمرو بن سعد حليف بني عبد مناف بن زهرة، يكنى أبا عمير: أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومات في هذه السنة، وقد زاد على الستين، وليس له عقب.
معمر بن أبي سرح بن ربيعة بن هلال، يكنى أبا سعد: وبعضهم يسميه عمرو، هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم دخلت
سنة إحدى وثلاثين
فمن الحوادث فيها غزاة المسلمين الروم التي يقال لها غزاة الصواري في قول الواقدي، وقال أبو معشر: كانت سنةأربع وثلاثين.
شرح القصة أن المسلمين لما أصابوا من الروم بإفريقية خرج الروم في جمع لم يجمع مثله قط، خرجوا في خمسمائة مركب عليهم قسطنطين بن هرقل، فباتوا يضربون النواقيس، وبات المسلمون يصلون ويدعون، ثم أصبحوا فقال المسلمون: إن شئتم فالساحل حتى يموت الأعجل منا ومنكم، وإن شئتم فالبحر. قال فنخروا نخرة واحدة وقالوا: الماء. والسفن بعضها إلى بعض، واقتتلوا أشد القتال، ووثب الرجال على الرجال يضربون بالسيوف على السفن، ويتواجئون بالخناجر حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاماً حتى صارت كالخبال العظيم عند الساحل، وقتل من الفريقين خلق كثير، ثم نصر الله المسلمين فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج منهم إلا الشريد، وانهزم قسطنطين. وأقام عبد الله بذات الصواري أياماً بعد هزيمة القوم، ثم أقبل راجعاً.
وفي هذه السنة: تكلم قوم في عثمان رضي الله عنه، وكان محمد بن أبي حذيفة يقول بعد غزاة الروم: والله لقد تركنا الجهاد خلفنا، فيقال له: وأي جهاد؟ فيقول: عثمان بن عفان فعل كذا وكذا حتى أفسد الناس، فقدموا وقد أظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به، وتكلم معه محمد بن أبي بكر وذكر ما خلف به أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فبلغ ذلك عبد الله بن سعد، فقال: لا تركبا معنا، فركبا في مركب ما فيه أحد من المسلمين.
وفي هذه السنة: فتحت أرمينية على يدي حبيب بن مسلمة الفهري في قول الواقدي.
وفي هذه السنة: قتل يزدجرد ملك فارس: وقيل قتل في سنة ثلاثين.
قال ابن إسحاق: هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو، فسأل مرزبانها مالاً فمنعه، فخافوا على أنفسهم، فأرسلوا إلى الترك، فأتوه فبيتوه، فقتلوا أصحابه، وهرب حتى أتى منزل رجل ينقر الأرحاء على شط المرغاب، فأوى إِليه ليلاً، فلما نام قتله.
وقال غيره: بيته أهل مرو ولم يستجيشوا عليه الترك، فقتلوا أصحابه، وخرج هاربَاً على رجليه معه منطقته وسيفه وتاجه، حتى أتى منزل نقار على شط المرغاب، فلما غفل يزدجرد قتله النقار وأخذ متاعه وألقى جسده في المرغاب، وأصبح أهل مرو فاتبعوا أثره، حتى خفي عليهم عند منزل النقار، فأخذوه، فأقر لهم بقتله وأخرج متاعه فقتلوا النقار وأهل بيته، وأخذوا متاعه ومتاع يزدجرد، وأخرجوه من المرغاب، فجعلوه في تابوت من خشب.
فزعم بعضهم أنهم حملوه إلى إصطخر، فدفن بها في أول سنة إحدى وثلاثين. وقيل: عمل له بعض النصارى فاروشاً بمرو، فحمل جثته فدفنها فيه.
وكان ملك يزدجرد عشرين سنة؛ منها أربع سنين في دعة، وست عشرة في تعب من محاربة العرب إياه، وكان آخر مَلِك مَلَكَ من آل أردشير، وصفا الملك بعده للعرب..
فصل


وقد كان أول ملوك فارس دارا، ملك نحواً من مائتي سنة، ثم ملك بعده أردشير بن بابك، ثم سابور بن أردشير ثلاثين سنة، ثم هرمز بن سابور سنة وعشرة أيام، ثم بهرام أربعة أشهر، ثم فرسي بن بهرام تسع سنين، ثم هرمز بن نرسي سبع سنين، ثم سابور بن هرمز؛ وهو سابور ذو الأكتاف اثنتين وسبعين سنة، ثم أخوه أردشير بن هرمز أربع سنين، ثم سابور بن سابور خمس سنين، ثم بهرام بن سابور إحدى عشرة سنة، ثم يزدجرد بن سابور إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وأياماً، ثم بهرام بن يزدجرد؛ وهو بهرام جور سنتين وعشرة أشهر، ثم يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر وثمانية عشر يوماً، ثم فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة وقتل وكل من قتله مات على فراشه، ثم ملك بعده بلاش بن فيروز أربع سنين، ثم قباذ بن فيروز ثلاثاً وأربعين سنة، ثم كسرى أنو شروان سبعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر، ثم ابنه هرمز اثنتي عشرة سنة وقتل، ثم كسرى بن هرمز ثلاثينَ سنة وقتل، ثم ابنه شيرويه ثمانية أشهر، ثم ابنه أردشير سنة ثم قتل، ثم ملك بعده شهريار أربعين سنة ثم قتل، ثم بعده بوران بنت كسرى سنة وأربعة أشهر ثم قتلت، وبعدها آزر ميدخت أختها ستة أشهر وماتت، ثم بعدها يزدجرد عشرين سنة، ثم بطل ملك فارس.
وقد كان يزدجرد هذا قد وطىء امرأة فولدت له غلاماً ذاهب الشق - وذلك بعدما قتل يزدجرد - فسمي المخدع، فولد له أولاد بخراسان، فوجد قتيبة حين افتتح الصغد أو غيرها جاريتين، فقيل له: إنهما من ولد المخدع، فبعث بهما - أو بإحداهما - إِلى الحجاج بن يوسف، فبعث بهما إلى الوليد بن عبد الملك، فولدت للوليد يزيد بن الوليد الناقص.
شخوص عبد اللّه بن عامر إلى خراسان وفي هذه السنة: أعني سنة إحدى وثلاثين، خرج عبد الله بن عامر إلى خراسان، ففتح طوس وغيرها حتى بلغ سرخس، وصالح أهل مرو على ألفي ألف ومائتي ألف.
وقد أنبأنا زاهر بن طاهر، أنبأنا أبو بكر البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحاكم، قال: حدثني علي بن أحمد الجرجاني، قال: أخبرني أحمد بن عمرو بن فضالة الكندي، قال: أخبرني عمي العباس بن مصعب بن بشر، قال: حدثني أبو حامد محمد بن إبراهيم، قال: حدثني سليمان بن صالح الليثي، قال: أخبرني الهيثم بن سعد، عن المصعب بن أبي الزهراء: أن كنازاً صاحب نيسابور كتب إلى سعيد بن العاص وهو والي الكوفة، وإلى عبد الله بن عامر بن كرز وهو والي البصرة في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه يدعوهما إلى خراسان، ويخبرهما أن أهل مرو قتلوا يزدجرد، وانتدب سعيد بن العاص وعبد اللّه بن عامر، وابتدرا أيهما يسبق إليها؟ وفي جند سعيد بن العاص الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما مجاهداً، وعبد الله بن الزبير، فأتى ابن عامر دهقان، فقال له: ما تجعل لي أن سبقت بك، قال: لك خراجك وخراج أهل بيتك إلى يوم القيامة، فأخذ به في الطريق الذي أخذ فيه زياد بن زرارة أيام أبي مسلم، فأخذ به على قومس، فقدم جوين من نيسابور، ونزل إزاذوار فصالحوه، وقاتل أهل نيسابور تسعة أشهر ثم ثلمها وفتحها.
وفي رواية: أن عثمان كتب إلى عبد الله بن عامر، وإلى سعيد بن العاص: أيكما سبق إلى خراسان فهو أمين عليها ، فقدم ابن عامر نيسابور، وجاء سعيد حتى بلغ الريّ. وكانت فتوح خراسان على يدي ابن عامر، فقال له الناس: ما فتح الله عز وجل لأحد ما فتح الله عليك فارس وكرمان وسجستان وعامة خراسان، فقال: لا جرم، لأجعلن شكري لله عز وجل أن أخرج من موضعي محرماً، فأحرم من نيسابور، فلما قدم على عثمان بن عفان رضي الله عنه لامه على ما صنع وقال: ليتك تضبط من الوقت الذي يحرم منه الناس.
وكناز المذكور كان ملك تلك الديار في زمان كسرى، وهو مجوسي من عبدة النار، وكأنه أحس بغلبة المسلمين فدعاهم إليه، فلما غلبوا تقبل البلدة منهم وصالحهم على ما يؤديه.
وفي هذه السنة: حج بالناس عثمان رضي الله عنه
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عويمر بن عامر بن زيد بن قيس بن عائشة بن أمية، أبو الدرداء:


كان آخر أهل داره إسلاماً، وكان متمسكاً بصنم له، وكان عبد الله بن رواحة مؤاخياً له في الجاهلية، وأسلم ابن رواحة ودعاه فأبى وتجنبه. وجاءه يوماً فلما خرج من بيته دخل ابن رواحة فضرب الصنم بقدومه فقطعه، فقالت زوجته: أهلكتني يا ابن رواحة. فخرج، وجاء أبو الدرداء فوجد المرأة تبكي خوفاً منه، فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك ابن رواحة دخل إلى الصنم فصنع به ما ترى، فغضب غضباً شديداً، ثم فكر في نفسه، فقال: لو كان عنده خير لدفع عن نفسه. فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم. واختلفوا: هل شهد أحداً أم لا؟ وقد شهد بعد ذلك مشاهد كثيرة.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو إسحاق البرمكي، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال حدثنا أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن خثيمة، عن أبي الدرداء، قال: كنت تاجراً قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد زاولت التجارة والعبادة فلم تجتمعا، فاخترت العبادة وتركت التجارة.
قال محمد بن سعد: وأخبرنا موسى بن مسعود النهدي، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي قدامة محمد بن عبيد الحنفي، عن أم الدرداء، قالت: كان لأبي الدرداء ستون وثلاثمائة خليل في الله عز وجل يدعو لهم في الصلاة، قالت: فقلت له في ذلك، فقال: إنه ليس رجل يدعو لأخيه الغيب إلا وكل الله به ملكين يقولان: فلك مثل ذلك، أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة.
قال ابن سعد: وأخبرنا عفان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، قال: استعمل أبو الدرداء على القضاء فأصبح الناس يهنونه، فقال: أتهنوني بالقضاء وقد جعلت على رأس مهواة منزلتها أبعد من عدن، ولو علم الناس ما في القضاء لأخفوه بالدول رغبة عنه وكراهية له، ولو يعلم الناس مما في الآذان لأخذوه بالدول رغبة فيه وحرصاً عليه.
قال ابن سعد: وأخبرنا يحيى بن عباد، قال حدثنا فرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي الدرداء: أنه كان يشتري العصافير من الصبيان ويرسلهن، ويقول: اذهبن فعشن.
قال ابن سعد: وأخبرنا عبد الله بن نمير، قال: حدَثنا عمرو بن ميمون بن مهران، عن أبيه، قال: قالت أم الدرداء لأبي الدرداء: إن احتجت بعدك آكل الصدقة؟ قال: لا، اعملي وكلي، قالت: فإن ضعفت عن العمل؟ قال: التقطي السنبل ولا تأكلي الصدقة. قال: وأخبرنا. مسلمة بن إبراهيم، قال: حدثنا الضحاك بن سيار، قال: حدثنا أبو عثمان النهدي، أن أبا الدرداء كان يقول: لولا ثلاث لم أبال متى مت: لولا أن أظمأ بالهواجر، ولولا أن أعفر وجهي بالتراب، ولولا أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.
قال: وأخبرنا عفان، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا معاوية بن قرة: أن أبا الدرداء اشتكى، فدخل عليه أصحابه فقالوا: يا أبا الدرداء، ما تشتكي؟ قَال: أشتكي ذنوبي، قالوا: وما تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة، قالوا: أفلا ندعو لك طبيباً؟ قال: هو الذي أضجعني.
توفي أبو الدرداء بالشام في هذه السنة.
وقيل: في سنة اثنتين وثلاثين.
نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف من أشجع: وهو الذي خذل بين الأحزاب حتى تفرقوا، وهاجر وسكن المدينة، وكان يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد تبوكاً ليتنصر الناس،، وتوفي في زمان عثمان.
يزدجرد: وتوفي يزدجرد الملك في هذه السنة على ما سبق شرحه،.
ثم دخلت
سنة اثنتين وثلاثين
فمن الحوادث فيها: غزوة معاوية بن أبي سفيان المضيق: مضيق القسطنطينية، ومعه زوجته عاتكة بنت قرطة.
وفيها: غزا عبد الرحمن بن أي ربيعة بَلَنْجَر: فحصروها ونصبوا عليها المجانيق والعرادات، فجعل لا يدنو منها أحد إلا هلك، فقتل مِعْضَد في تلك الأيام، ثم اجتمع أهل بلنجر والترك معهم، وأصيب عبد الرحمن، وأخذ القوم جسده، فجعلوه في سفط، فهم يستسقون به ويستنصرون، وانهزم المسلمون وفيهم سلمان، الفارسي وأبو هريرة.
وفيها: فتح ابن عامر مرو الروذ وجوزجان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحصين بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف: شهد بحراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي في هذه السنة.
سلمان الفارسي، يكنى أبا عبد اللّه:


من أهل مدينة أصبهان. ويقال: من أهل رامهرمز، أسلم في السنة الأولى من الهجرة، وأول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وإنما منعه من حضور ما قبل لك أنه كان مسترقاً لقوم من اليهود فكاتبوه وأدى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابته وعتق، ولم يزل بالمدينة حتى غزا المسلمون العراق فخرج معهم وحضر فتح المدائن، وولاه إياها عمر، فنزلها حتى مات بها، وقبره الآن ظاهر.
أخبرنا هبة الله بن الحصين، قال: أخبرنا الحسن بن علي التميمي، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدَّثني أبي، قال: حدثنا يعقوب، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن عبد الله بن عباس، قال: حدَثني سلمان الفارسي، قال: كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان من قرية يقال لها جَي، وكان أبي دِهْقانَ قريته ، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما حبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها، لا يتركها تخبو ساعة.
قال: وكان لأبي ضيعة عظيمة، قال: فشغل في بنيان له يوماً، فقال لي: يا بني إني قد شغلت ببنائي هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إيايِ في بيته، فلما مررت بهم سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون.
قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فواللّه ما تركتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها، فقلت لهم: أين أصل هذا الدين. قالوا: بالشام.
قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، قال: فلما جئته قال: أي بني، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت. قال: قلت: يا أبه، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه. قلت: كلا والله إنه لخير من ديننا.
قال: فخافني فجعل في رجلي قيداً ثم حبسني في بيته. قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجاراً من النصارى فأخبروني بهم، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم. قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أ أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة. قال: فجئته فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك. قال: فدخلت معه.
قال: وكان رجل سَوْءٍ يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها شيئاً اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، قال: وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئاً قالوا: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه. قال: فأريتهم موضعه فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبداً. قال: فصلبوه ثم رجموه بالحجارة.
ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلاً ولا نهاراً منه.
قال: فأحببته حباً لم أحبه أحداً من قبله، فأقمت معه زماناً ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني كنت معك وأحببتك حباً لم أحبه أحداً من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل وهو فلان، فهو على ما كنت عليه، فالحق به.


قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره. قال: فقال لي: أقم عندي. قال: فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان، إن فلاناً أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين، وهو فلان فالحق به.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فجئت فأخبرته خبري وما أمرني صاحبي. قال: فأقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضره قلت له: يا فلان إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي إليك فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أحداً بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فاته فإنه على أمرنا. قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عند رجل على هدى أصحابه وأمرهم، واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله عز وجل، فلما احتضر قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصاني فلان إليك، فإلى من توصي بي وما تأمرني. قال: أي بني، والله ما أعلم أنه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكن قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حَرّتَينَ بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوةَ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
قال: ثم مات وغيب، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كَلْبِ تجاراً، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنمي هذهَ؟ قالوا: نعم، فأعطيتموها وحملوني حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل من يهود، فكنت عنده، ورأيت النخل ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق لي في نفسي. فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له بالمدينة من بني قريظة فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها، وبعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق. ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس غدق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال له فلان: قاتل الله بني قَيْلَة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعم أنه نبي. قال: فلما سمعتها أخذتني العُرَواء حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، ونزلت من النخلة فجعلت أقول لابن عمه: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ قال: فغضب سيدي، فلكمني لكمة شديدة ثم قال: ما لك ولهذا أقبل على عملك، قلت: لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال. وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم. قال: فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " كلوا " ، وأمسك يده فلم يأكل. قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئاً، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته به فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر أصحابه فأكلوا معه. قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان.
قال: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه عليه شملتان وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدبرت أنظر إلى ظهره هل


أرى الخاتم الذي وصف لي، فأتيته وهو جالس، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني استثبت في شيء وصف لي، قال: فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحول " فتحولت، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً.
قال: ثم قال: " كاتب يا سلمان " فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وبأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أعينوا أخاكم " . فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين وَدية، والرجل بعشرين والرجل بخمس عشرة والرجل بعشرة، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة وَدِية فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهب يا سلمان فَفقرْ لها فإذا فرغت أكون أنا أضعها بيدي " .
قال: ففقرت لها وأعانني أصحابي حتى إِذا فرغت منها جئته فأخبرته، فحرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليها فجعلنا نقرب له الوداي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي علي المال. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال: ما فعل الفارسي المكاتب؟ " قال: فدعيت له فقال: " خذ هذه فَأد بها ما عليك يا سلمان " قال: قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: " خذها فإن الله سيؤدي بها عنك " .
قال: فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية، فأوفيتهم وعتقت. فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد.
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا عاصم بن الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال: حدثنا أبو الحسن بن البراء، قال: حدثنا الفضل بن غانم، قال: حدَّثني سلمة، قال: حدثني إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن رجل من عبد القيس، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: لما قلت: وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله، أخذها رسول صلى الله عليه وسلم فقلبها على لسانه ثم قال: " خذ فأوفهم منها " ، فأوفيتهم منها حقهم.
وفي الصحيح عن سلمان أنه قال: تداولني بضعة عشر من رب إلى رب لي كله أربعين أوقية.
وروى أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سلمان سابق الفرس " .
ولما خط الخندق قطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلمان منا أهل البيت " .
قال الحسن البصري : كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان أميراً على ثلاثين ألفاً من المسلمين، وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها ويلبس فإذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من سَفِيف يديه.
وقال عبادة بن نُسَيّ: كان لسلمان خباء من عباءٍ وهو أمير الناس.
أخبرنا محمد بن ناصر أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، أخبرنا أبو بكر بن نجيب، حدثنا أبو جعفر بن ذريح، حدثنا هناد، حدثنا وكيع، عن جعفر بن برقان، عن حبيب بن أبي مرزوق، عن ميمون بن مهران، عن رجل من عبد القيس قال: رأيت سلمان في سرية هو أميرها، على حمار عليه سراويل وقدماه تذبذبان، والجند يقولون: قد جاء الأمير، فقال سلمان: إنما الخير والشر بعد اليوم.
ذكر أولاد سلمان: تزوج امرأة يقال لها بُقَيْرة. وقال أبو بكر بن أبي داود: لسلمان ثلاث بنات، بنت بأصبهان، وابنتان بمصر.
ذكر وفاته: أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا البرمكي، قال: أخبرنا أبو بكر بن بخيت، قال: حدَّثنا أبو جعفر بن ذريح، قال حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أشياخه، قال:


دخل سعد بن أبي وقاص على سلمان يعوده، فبكى سلمان فقال سعد: ما يبكيك أبا عبد الله؟ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، وترد عليه الحوض، قال: فقال كان سلمان رضي الله عنه: أما إني ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فقال: ليكن بلغَةُ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب " وحولي هذه الأساور. قال: وإنما حوله إجانة وجَفْنَة وَمَطْهَرة. قال: فقال له سعد: يا أبا عبد الله، اعهد إِلينا بعهد نأخذه بعدك، فقال: يا سعد، اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت.
ولما اشتد مرض سلمان وكان قد أصاب صُرة مسك يوم جلولاء، فقال لامرأته هاتها، فمرسها في ماء، ثم قال: انضحيها حولي، فإنه يأتيني زوار الآن يجدون الريح ولا يأكلون الطعام، فلم يمكث إلا قليلاً حتى مات.
عاش سلمان مائتين وخمسين سنة لا يشكون في هذا وبعضهم يقول: ثلاثمائة وخمسين.
وقيل انه أدرك وحي عيسى عليه السلام، والظاهر أنه توفي في زمان عثمان في سنة اثنتين وثلاثين، وقد قيل في سنة ست وثلاثين، فعلى هذا تكون وفاته في زمان علي رضي الله عنه، والأول أصح.
صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو سفيان: لم يزل على الشرك يقود الجموع لقتال النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن أسلم يوم فتح مكة، وكان الإيمان في قلبه متزلزلاً؟ فعد في المؤلفة قلوبهم،، ثم استقر إيمانه وقوي يقينه، وكان قد كف عن القتال بعد الخندق، وبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية من تمر عجوة، وكتب إليه يستهديه أدماً، فقبل هديته وأهدى إليه.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري،، قال: أخبرنا ابن حيوية، قالط: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن جعفر، قال: سمعت يعقوب بن عتبة يخبر عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران قال العباس بن عبد المطلب: واصباح قريش إن دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة. قال العباس: فأخذت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء وقلت: ألتمس حطاباً أو إنساناً أبعثه إِلى قريش، فوالله إني لفي الأراك إذا أنا بأبي سفيان بن حرب، فقلت: يا أبا حنظلة، قال: لبيك أبا الفضل، وعرف صوتي، فقال: ما لك فداك أبي وأمي، قلت: ويلك هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف، فقال: بأبي وأمي ما تأمرني، هل من حيلة؟ قلت: نعم، تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه إن ظفر بك دونه قتلت، قال: وأنا والله أرى ذلك. ثم ركب خلفي وتوجهت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه عمر بن الخطاب فعرفه وأراد قتله وقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان آخذ بلا عهد ولا عقد، قال: فقلت: إني قد أجرته، وجرى بين العباس وعمر في ذلك الكلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك، قد كان يقع في نفسي أنه لو كان مع الله إله لقد أغنى عني شيئاً، قال: " يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك، أما هذا فوالله إن في نفسي منها أشياء بعد، فقال العباس: ويحك اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تقتل. قال: فشهد شهادة الحق وقال: اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فقال العباس: يا نبي الله إنك قد عرفت أبا سفيان وحبه للشرف والفخر فاجعل له شيئاً، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق داره فهو آمن،.
قال محمد بن سعد: وأخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: حدًثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا ثابت البناني، قال: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن،؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أؤذي وهو بمكة فدخل دار أبي سفيان أمِن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " .


قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عبيد، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق السبيعي: إن أبا سفيان بن حرب بعد فتح مكة كان جالساً، فقال في نفسه: لو جمعت لمحمد جمعاً. قال: إنه ليحدث نفسه بذلك إذ ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بين كتفيه وقال: " إذن أخزاك الله " قال: فرفع رأسه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم على رأسه، فقال: ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة إن كنت لأحدث نفسي بذلك.
قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: وشهد أبو سفيان الطائف مع رسول الله ورمي يومئذ فذهبت إحدى عينيه. وشهد يوم حنين وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين مائة من الإبل وأربعين أوقية، وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية، فقال له أبو سفيان: والله إنك لكريم، فداك أبي وأمي لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، فجزاك الله خيراً. قال أنس بن مالك: ثم عمي أبو سفيان بعد ذلك.
قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن ابن المسيب، عن مبشر بن الحويرث، قال: حضرت يوم اليرموك المعركة فلا أسمع للناس كلمة ولا صوتاً إلا نقف الحديد بعضه بعضاً، إلا أني قد سمعت صائحاً يقول: يا معشر المسلمين، يوم من أيام الله أبلوا لله فيه بلاء حسناً، وإذا هو أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه يزيد.
قال محمد بن عمر: نزل أبو سفيان المدينة في آخر عمره، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين في آخر خلافة عثمان، وهو يوم مات ابن ثمان وثمانين سنة.
الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف: شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي في هذه السنة وهو ابن سبعين سنة.
عبد اللّه بن مسعود بن غافل - ويقال: عاقل - بن حبيب بن شمخ، أبو عبد الرحمن: ذكر محمد بن سعد نسبه فقال: ابن غافل بالغين والفاء. وذكره خليفة بن خياط، فقال: عاقل بالعين والقاف. وذكره محمد بن إسحاق صاحب المغازي فقال: عبد الله بن مسعود بن الحارث بن شمخ، ولم يذكر ما بين ذلك من الأسماء.
وأمه أم عبد بنت عبد ود بن سواء بن قريم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، وأمها هند بنت عبد بن الحارث بن زهرة.
أسلم بمكة قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار، قال: حدثنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدَثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن أبي النجود، عن ذر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعقبة بن أبي مُعيط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وقد فرا من المشركين، فقالا: يا غلام هل عندك من لبن تسقينا؟ فقلت: إني مؤتمن ولست بسامتكما، فقال النبي ص: " هل عندك من جَذعَةٍ لم يَنزُ عليها الفحل؟ " قلت: نعم، فأتيتهما بها، فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ثم مسح الضرْع ودعا فَجَفَلَ الضرع، ثم أتاه أبو بكر بصخرة متقعرة فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر ثم شربت، ثم قال للضرع: اقلص، فقلص. قال: فأتيته بعد ذلك فقلت: علمني من هذا القول، قال: " إنك غلام فتعلم " ، فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد.


هاجر ابن مسعود إلى الحبشة الهجرتين، ثم إلى المدينة، وشهد بدراً، وضرب عنق أبي جهل بعد أن اثبته ابنا عفراء، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صاحب سره ووساده وسواكه ونعليه وطهوره في السفر، كان يلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم نعليه، ثم يمشي أمامه بالعصا حتى إذا أتى مجلسه نزع نعليه فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا، فإذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم ألبسه نعليه ثم مشى بالعصا أمامه. وكان يستر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسلِ، ويوقظه إذا نام، ويمشي معه في الأرض، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِذْنُكَ عَليَّ أنْ تَرْفع الحِجَابَ وَأنْ تَسْمع سِوَادي حتى أنهَاك " . وكان يشبه برسول الله في هديه وسمته، وكان خفيف اللحم قصيراً شديد الأدمة، وكان من أجود الناس ثوباً وأطيبهم ريحاً، كان يعرف بالليل بريح الطيب، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن يقرأ القران كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد " .
وقال فيه عمر رضي الله عنه: كنيف مُلىء علماً.
وبعثه إلى أهل الكوفة ليقرئهم القرآن ويعلمهم الأحكام، وكتب إليه: إني والله الذي لا إله إلا هو آثرتكم به على نفسي فخذوا منه، فبث فيهم الفقه.
وكان من كبار أصحابه: الأسود بن يزيد، وعلقمة بن قيس، والربيع بن خثيم، وزيد بن وهب، والحارث بن قيس، وأبو وائل، وزر بن حبيش وغيرهم.
وكان أبو موسى يقول: لا تسألوني عن شيء وهذا الخير فيكم. وولي قضاء الكوفة وبيت مالها لعمر وصدراً من خلافة عثمان، رضي الله عنهما، ثم صار إلى المدينة فمات بها في هذه السنة، ودفن بالبقيع.
أخبرنا يحيى بن ثابت بن بندار، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرنا أبو بكر البرقاني، قال: حدًثنا أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، قال: أخبرني عبد الله بن زيدان، قال: أخبرنا محمد بن طريف، قال: حدَثنا جابر بن نوح، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: قال عبد الله: والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت وألم فيما نزلت، ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تناله المطي لأتيته.
أخبرنا ابن عبد الباقي، أخبرنا الجوهري، أخبرنا ابن حيوية، أخبرنا ابن معروف، حدثنا ابن الفهم حدثنا محمد بن سعد، قال: حدَثنا مالك بن إسماعيل، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن عامر، عن مسروق، عن عبد الله قال: حدث يوماً حديثاً، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أرعد وأرعدت ثيابه، ثم قال: أو نحو ذا أو شبه ذا.
قال ابن سعد: وأخبرنا الفضل بن دكين، قال: أخبرنا قيس بن الربيع، عن عاصم، عن ذر عن عبد الله: أنه كان يصوم يوم الاثنين والخميس.
قال الفضل: وحدَّثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: ما رأيت فقيهاً أقل صوماً من عبد الله، فقيل له: لم لا تصوم؟ فقال: إني أختار الصلاة عن الصوم، فإذا صمت ضعفت عن الصلاة.
قال المصنف: أوصى ابن مسعود إلى الزبير وابنه عبد الله أن يكفن في حلة بمائتي درهم، وقال: ادفنوني عند قبر عثمان بن مظعون، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، واختلفوا فيمن صلى عليه على ثلاثة أقوال: أحدها: عثمان، والثاني: عمار؛ ذكرهما الواقدي، والثالث الزبير، ذكره خليفة بن خياط، والأول أصح.
عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عديّ بن سهم السهمي، أخو خنيس: قديم الإسلام بمكة، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى كسرى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، ليدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فقرأه وحرقه. واختلفوا هل شهد بدراً أم لا، وشهد فتح مصر، وتوفي بها، وقبره في مقبرتها.
عبد اللّه بن ضلة، أبو برزة الأسلمي: وقال قوم: نضلة بن عبد الله. أسلم قديماً وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وقتل عبد الله بن خطل، ولم يزل يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض، فتحول فنزل البصرة حين نزلها المسلمون، ثم غزا خراسان فمات بها رضي الله عنه.
عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة: وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو، وقيل عبد الكعبة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم


حين أسلم عبد الرحمن، ويكنى أبا محمد، وأمه الشفاءُ بنت عوف بن عبد الحارث. ولد عبد الرحمن بعد الفيل بعشر سنين، وكان طويلاً، حسن الوجه، رقيق البشرة، مشرباً حمره، وأسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا ثابت وحميد، عن أنس بن مالك: أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة، فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد: أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلُوني على السوق، فدلوه على السوق، فاشترى وباع وربح، فجاء بشيء من أقط وسمن، ثم لبث ما شاء الله أن يلبث، فجاء وعليه رَدْع من زعفران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَهْيَمٌ " ، فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة، قال: " فما أصدقتها؟ " قال: " وزن نواة من ذهب، قال: " أو لم ولو بشاة " قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجراً رجوت أن أصيب تحته ذهباً أو فضة.
قال محمد بن سعد: وأخبرنا جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: إن عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة من الأنصار على ثلاثين ألفا.
قال علماء السير: شهد عبد الرحمن بدراً والمشاهد كلها، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دومة الجندل، وعممه بيد ه.
وكان له من الولد عشرين ذكراً، وثمان بنات، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك فأم الناس وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق معه ركعة ثم قضى الثانية، وقال : " ما قبض نبي قط يصلي خلف رجل صالح من أمته " .
وكان عبد الرحمن كثير الصدقة فباع أرضاً له بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك في فقراء بني زهرة، وفي ذوي الحاجة من الناس، وفي أمهات المؤمنين، فلما بعث إلى عائشة بنصيبها، قالت إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يَحْنُو عَلَيْكُن بعدي إلا الصابرون، سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.
قال محمد بن سعد: وحدثنا محمد بن كثير العبدي، قال: حدثنا سليمان بن كثير، عن الزهري، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قال: أغمي على عبد الرحمن بن عوف ثم أفاق فقال: إنه أتاني ملكان أو رجلان فيهما فظاظة وغلظة، فانطلقا بي، ثم أتاني رجلان أو ملكان هما أرفق منهما وأرحم، فقالا: أين تريدان به؟ قالا: نريد به العزيز الأمين، قالا: خليا عنه فإنه ممن كتب له السعادة وهو في بطن أمه.
توفي عبد الرحمن في هذه السنة وهو ابن خمس وسبعين سنة. وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس، وترك ذهباً قطع بالفؤوس حتى مجِلَتْ أيدي الرجال منه، وترك أربع نسوة، فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين ألفاً، وأوصى في السبيل بخمسين ألف دينار.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا الحسين بن الحسن العالي، قال: حدثنا محمد بن الحسن بن علي اليقطيني، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن أيوب المخزومي، قال: حدثنا سلمة بن حفص السعدي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا مسعر.
وأخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار، أخبرنا الجوهري، أخبرنا ابن حيوية، أخبرنا ابن معروف، حدثنا أبو علي الحسين بن محمد بن الفهم، حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا شعبة؛ كلاهما عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: رأيت سعد بن مالك عند قائمتي سرير عبد الرحمن بن عوف وهو يقول: واخِلاه.
عبد الله بن زيد بن عبد ربه، أبو محمد: شهد العقبة مع السبعين، وبدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت معه راية بني الحارث بن الخزرج في غزاة الفتح، وهو الذي رأى الآذان.
توفي بالمدينة في هذه السنة وهو ابن أربع وتسعين سنة، وصلى عليه عثمان رضي الله عنه.
العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو الفضل:


واسم أمه نُتَيْلة بنتَ جَناب بن كليب. ولد قبل ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، وكان له من الولد الفضل وهو أكبر ولده، وعبد الله وهو الحبر، وعبيد الله الجواد، وعبد الرحمن، وقثم، ومعبد، وأم حبيبة، وأم الكل لبابة بنت الحارث، وكان له من غيرها كثير، وتمام، والحارث. وكان يضرب المثل بعبد الله في العلم، وبعبيد الله في الجود أنبأنا يحيى بن الحسن، قال: أخبرنا ابن المسلمة، قال: حدثنا المخلص، قال: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي، عن أبيه، قال: دخل أعرابي دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وفي جانبها عبد الله بن عباس يفتي ولا يرجع في شيء يسأل عنه، وفي الجانب الآخر عبيد الله يطعم كل من دخل، فقال الأعرابي: من أراد الدنيا والآخرة فعليه بدار العباس، هذا يفتي ويفقه الناس، وهذا يطعم الطعام. وكان يضرب المثل ببعد ما بين قبور بني العباس، فإن عبد الله دفن بالطائف، وعبيد الله بالمدينة، والفضل بالشام، وقثم بسمرقند، ومعبد بإفريقية.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو إسحاق البرمكي، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا علي بن عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن عمه إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب: إن قريشاً لما نفروا إلى بدر فكانوا بمر الظهران هب أبو جهل من نومه، فقال: يا معشر قريش، ألا تباً لرأيكم ماذا صنعتم، خلفتم بني هاشم وراءكم، فإن ظفر بكم محمد كانوا من ذلك بنجوة، وإن ظفرتم بمحمد أخذوا ثأره منكم من قريب من أولادكم وأهليكم، فلا تذروهم في بيضتكم ونسائكم، ولكن أخرجوهم معكم وإن لم يكن عندهم غَنَاءٌ ، فرجعوا إليهم فأخرجوا العباس بن عبد المطلب ونوفلاً وطالباً وعقيلاً كرهاً.
قال ابن سعد: وأخبرنا رويم بن يزيد المقرىء، قال: حدثنا هارون بن أبي عيسى الشامي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن عكرمة، قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، فكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال متفرق في قومه، فخرج معهم إلى بدر، وهو على ذلك.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا، عن القاسم، عن ابن عباس، قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر، وكان رجلاً مجموعاً، وكان العباس جسيماً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أسرته؟ فقال: لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ولا بعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أعانك عليه ملك كريم " .
قال ابن سعد: وأخبرنا كثير بن هشام، قال: حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا يزيد بن الأصم، قال: لما كانت أسارى بدر كان فيهم العباس رضي الله عنه، فسهر النبي صلى الله عليه وسلم ليلته، فقال له بعض أصحابه: ما أسهرك يا نبي الله؟ قال: " أنين العباس " . فقام رجل فأرخى وثاقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما لي لا أسمع أنين العباس؟ فقال رجل: إني أرخيت من وثاقه شيئاً، قال: " فافعل ذلك بالأسارى كلهم " .
أنبأنا الحسين بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قال: أخبرنا أحمد بن سلمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني محمد بن الفضالة، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، قال: لقد جاء الله بالإسلام وإن جفنة العباس لتدور على فقراء بني هاشم، وإن سوطه وقيده لمعد لسفهائهم.
قال: وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في ولايتهما لايلقى العباس واحد منهما وهو راكب إلا نزل عن دابته وقادها ومشى مع العباس حتى يبلغ منزله أو مجلسه فيفارقه.
توفي العباس يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من رجب هذه السنة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وغسله علي بن أبي طالب، وصلى عليه عثمان، ودفن بالبقيع.
فطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد، أبو زيد:


شهد العقبتين، وذكر في الستة الذين أسلموا أول من أسلم من الأنصار، وكان من الرماة المذكورين. وشهد بدراً، ورمى حجراً بين الصفين، ثم قال: لا أفر حتى يفر هذا الحجر.
وشهد أحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت معه راية بني سلمة في غزوة الفتح، وجرح يوم أحد تسع جراحات، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين رجلاً إلى حي من خثعم، فقاتلوه وغنم.
توفي قطبة في هذه السنة، ولم يعقِبْ.
كعب الأحبار بن ماتع، أبو إسحاق: كان يهودياً فأسلم وقدم المدينة، ثم خرج إلى الشام فسكن حمص، فتوفي بها في هذه السنة. وقد أسند الحديث إلى عمرو، وصهيب، وعائشة.
معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، من الأزد: أسلم بمكة قديماً، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر فشهدها، وكان عمر رضي الله عنه يأكل معه ويقول: لوكان غيرك ما آكلني في صحفة، ولكان بيني وبينه قدر رمح. وكان إذا شرب من الإناء وضع عمر فمه موضع فمه فيشرب، وكان قد أسرع فيه الجذام، وكان عمر يطلب له الطب، فقدم رجلان من أهل اليمن، فقال لهما: هل عندكما من طب لهذا الرجل الصالح؟ فقالا: ما شيء يذهبه ولا يقدر عليه، ولكنا سنداويه دواء يوقفه، فقال عمر: عافية عظيمة أن يقف، قالا: هل ينبت بأرضك الحنظل؟ قال: نعم، قالا: فاجمع لنا منه، فجمع منه مكتلان، فعمدا إلى كل حنظلة فشقاها شقين، ثم أضجعا معيقيباً، ثم أخذ كل رجل منهما بإحدى قدميه، ثم جعلا يدلكان بطون قدميه بالحنظلة حتى إذا أمحقت أخذا الأخرى، وجعل معيقيباً يتنخم أخضر مراً، ثم أرسلاه، فقالا لعمر: لا يزيد وجعه. فما زال متماسكاً حتى مات رضي الله عنه.
معضد بن يزيد، أبو زياد العجلي: كان كثير التعبد، واستشهد في غزاة بلنجر في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وثلاثين
فمن الحوادث فيها: غزوة معاوية حصن المرأة من أرض الروم من ناحية مَلْطَية، في قول الواقدي.
وفيها: غزوة عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد.
وفيها: قدم عبد الله بن عامر الأحنف بن قيس إلى خراسان حين انتقض أهلها، ونبعه ابن عامر، وفتح عليهم.
وفيها سير عثمان رضي اللّه عنه من أهل العراق من سير إلى الشام فسير جماعة من أهل الكوفة كانوا يذكرون عثمان ويسبون سعداً، فكتب سعد بن أبي وقاص إِلى عثمان في أمرهم، فكتب إليه ابعثهم إلى معاوية، فلما ذهبوا إليه رأى منهم ما لا يصلح، فأبعدهم عنه، فرجعوا إلى الكوفة، فضج أهل الكوفة منهم فسيروا إلى حمص، ومن القوم مالك بن الحارث الأشتر، وثابت بن قيس النخعي، وكميل بن زياد، وزيد بن صوحان، وجندب بن زهير، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق.
وسير جماعة من أهل البصرة إلى الشام أيضاً، منهم حمران بن أبان، وكان قد تزوج امرأة في عدتها، فنكل به عثمان وفرق بينهما وسيره إِلى أهل البصرة.
أخبرنا محمد بن الحسين، وإسماعيل، قالا: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا المخلص، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا السري بن يحيى، قال: حدَّثنا شعيب، قال: حدثنا سيف، عن محمد، وطلحة:


أن عثمان سير حمران بن أبان حين تزوج امرأة في عدتها وفرق بينهما وضربه وسيره إلى البصرة ثم أذن له فقدم عليه المدينة؛ وقدم معه قوم سعوا بعامر بن عبد قيس؛ أنه لا يرى التزويج، ولا يأكل اللحم، ولا يشهد الجمعة، وكان عامر منقبضاً، وعمله كله مستعبر، فكتب إلى عبد الله بن عامر بذلك، فألحقه بمعاوية. فلما قدم عليه وافقه وعنده ثريدة، فأكل أكلاً غريباً، فعرف أن الرجل مكذوب عليه، فقال: يا هذا، هل تدري فيما أخرجت؟ قال: لا، قال: أبلغ الخليفة أنك لا تأكل اللحم وقد عرفت أنك مكذوب عليك، وأنك لا ترى التزويج ولا تشهد الجمعة. قال: أما الجمعة فإني أشهدها في مؤخر المسجد ثم أرجع في أوائل الناس، وأما التزويج، فإني خرجت وأنا يخطب عليً، وأما اللحم فقد رأيت، ولكني كنت امرأ لا آكل ذبائح القصابين منذ رأيت قصاباً يجر شاة إلى مذبحها، ثم وضع السكين على حلقها، وما زال يقول: النفاق النَّفاق حتى وجبت. قال: فارجع، قال: لا أرجع إلى بلد استحل أهله مني ما استحلوا، ولكني أقيم بهذا البلد الذي اختاره الله لي. وكان يكون في السواحل، وكان يلقى معاوية فيقول له: حاجتك؟ فيقول: لا حاجة لي، فلما أكثر عليه قال: ترد علي من حَر البصرة لعل الصوم أن يشتد علي شيئاً، فإنه يخف علي في بلادكم.
وفي هذه السنة: حج عثمان بالناس، وولد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم: أسلم عند إسلام أبيه، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولاه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم مكة، وانتقل إلى البصرة ونزلها وتوفي بها.
المقداد بن الأسود، واسم أبيه عمرو بن ثعلبة بن مالك، أبو معبد: كان حليفاً للأسود بن عبد يغوث الزهري في الجاهلية، فتبناه، وكان يقال له المقداد بن الأسود إلى أن نزل قوله تعالى: " ادعوهم لأبائهم " فقيل: المقداد بن عمرو.
وكان طويلاً، أدم، ذا بطن، كثير شعر الرأس، يصفر لحيته، مقرون الحواجب أقنأ،.
وهاجر المقداد إلى الحبشة الهجرة الثانية في قول ابن إسحاق والواقدي، ولم يذكره موسى بن عقبة، ولا أبو معشر، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً والمشاهد كلها.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، أخبرنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حيوية، أخبرنا أبو الحسن بن معروف، أخبرنا الحسين بن الفهم، حدَّثنا محمد بن سعد، أخبرنا محمد بن عبيد، والفضل بن دكين، قالا: حدثنا المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: أول من عدا به فرسه في سبيل الله عز وجل المقداد بن الأسود.
قال محمد بن سعد: وأخبرنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق، عن عبد الله، قال: شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما عُدِل به، إنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: يا رسول الله، إنا والله لا نقول لك كما قال قوم موسى: " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " ، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن خلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك وجهه وسره ذلك. شرب المقداد دهن الخروع فمات بالجرف على ثلاثة أميال من المدينة، فحمل على رقاب الرجال حتى دفن بالبقيع بالمدينة، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان ابن سبعين سنة أو نحوها.
ثم دخلت
سنة أربع وثلاثين
فمن الحوادث فيها: اجتماع المنحرفين على عثمان


أن المنحرفين عن عثمان تكاتبوا للاجتماع لمناظرته فيما نقموا عليه، وتذاكر قوم أعمال عثمان، فأجمعوا رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلاً يكلمه ويخبره بأحداثه، فأرسلوا إليه عامر بن عبد قيس، فدخل عليه، فقال: إن ناساً من المسلمين اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً فاتق الله وانزع عنها، فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عامر، فجمعهم فشاورهم في أمره، فقال عبد الله بن عامر: إني أرى أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، فلا يهم أحدهم إِلا نفسه. وقال ابن أبي سرح: أعطهم المال تعطف عليك قلوبهم. وقال معاوية: تأمر أجنادك يكفيك كل منهم من قبله. وقال عمرو بن العاص: اعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزماً وامض قدماً، فردهم عثمان إلى أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على مَنْ قبلهم، وتجمير الناس في البعوث، ورد سعيد بن العاص أميراً على الكوفة، فخرج أهل الكوفة فردوه؛ وهم يزيد بن قيس، والأشتر، وذلك يوم الجَرَعة، والجرعة مكان مشرف قرب القادسية وهناك تلقاه أهل الكوفة. فرجع إلى عثمان، وضرب الأشتر عنق غلام كان مع سعيد، فقال عثمان لسعيد: ما يريدون؟ قال: البدل، قال: فمن يريدون؟ قال: أبا موسى، فجعله عليهم.
وروى الواقدي عن أشياخه: أن جماعة اجتمعوا فكلموا علي بن أبي طالب في أمر عثمان، فدخل عليه وقال: الناس من ورائي وقد كلموني فيك، وما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلك على أمرٍ لا تعرفه، وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب. وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رحماً، وقد نلت من صهره ما لم ينالا. فقال عثمان: والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا عبت عليك إن وصلت رحماً، وسددتَ خَلة، أنشدك الله يا علي، أتعلم أن عمر ولى المغيرة أو ليس ذلك؟ قال: بلى، قال: فلم تلومني إن وليت ابن عامر في رَحِمه وقرابته؟ قال: سأخبرك، إن عمر كان كل من ولي فإنما يطأ على صِماخه، إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى غاية أنت لا تفعل رفقة بأقربائك، قال عثمان: فهل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها؟ قال: نعم، قال علي: فهل تعلم أن معاوية كان أخوف لعمر من غلامه يَرْفَأ؟ قال: نعم فهو يقطع الأمور دونك وأنت تعلمها، فيبلغك ولا تغير عليه.
ثم خرج علي، فخرج عثمان فجلس على المنبر، ثم قال: لقد عبتم علي ما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه فدِنْتم له على ما أحببتم وكرهتم، ولنت لكم، وأوطأت لكم كنفي، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي، فكفوا عليكم ألسنتكم، وطعنكم على ولاتكم، وما لي لا أصنع في فضل المال ما أريد، فلم كنت إماماً.
فقام مروان بن الحكم، فقال: إن شئتم حكمنا بيننا وبينكم السيف. فقال عثمان: اسكت لا سكت، دعني وأصحابي، ثم نزل عثمان.
وفي هذه السنة: حج بالناس عثمان، وحج أزواج النبي صلى الله عليه وسلم معه كما فعل عمر رضي الله عنهما.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
زيد بن سهل بن الأسود، أبو طلحة الأنصاري: شهد العقبة مع السبعين، والمشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدٌثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا عفان، قال: حدًثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن أبا طلحة كان يرمي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم خلفه يتترس به، وكان رامياً، وكان إذا ما رفع رأسه ينظر أين يقع سهمه فيرفع أبو طلحة رأسه ويقول: هكذا بأبي أنت وأمي لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك.
قال: وسَرَدَ الصوم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة لا يفطر إلا يوم فطر أو أضحى أو في مرض.
وقرأ هذه الآية: " انفِرُوا خِفَافاً وَثقالاً " فقال: جهزوني، فقال بنوه: قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ونحن نغزو عنك، فقال: جهزوني. فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه بها ولم يتغير.


وقيل: مات بالمدينة. وصلى عليه عثمان وهو ابن سبعين سنة.
سويد بن شعبة اليربوعي، من بني تميم: أخبرنا عبد الوهاب أبن المبارك الأنماطي، أخبرنا أبو الحسن بن عبد الجبار، أخبره أحمد بن علي التوزي، أخبره عمر بن ثابت، أخبرنا علي بن أبي قيس، حدثنا أبو بكر بن عبيد، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا الهيثم بن جميل، وأحمد بن يونس يزيد أحدهما على صاحبه، عن ابن شهاب، عن أبي حيان التيمي، عن أبيه، قال: دخلت على سويد بن شعبة، وكان من أصحاب الخطط الذين خط لهم عمر بالكوفة، فإذ هو منكب على وجهه مسجى بثوب، فلولا أن امرأته قالت: أهلي فداؤك، ما نطعمك، ما نسقيك، ما ظننت أن تحت الثوب شيئاً. فلما رآني قال: يا ابن أخي دَبِرَت الحراقفُ والصلب، فما من ضجعة غير ما ترى، والله ما أحب أني نقصت منه قلامَةَ ظُفر.
قال الأصمعي: الحرقفة، مجتمع رأس الورك ورأس الفخذين.
عبد الرحمن بن جبر بن عمرو، أبو عبس: كان هو وأبو بردة بن نيار حين أسلما يكسران أصنام بني حارثة. وشهد أبو عبس بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيمن قتل كعب بن الأشرف، وكان عمر وعثمان يبعثانه يصدق الناس.
وتوفي في هذه السنة بالمدينة، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ودفن بالبقيع وهو ابن سبعين سنة.
عبادة بن الصامت: أخبرنا ابن الحصين، أخبرنا ابن المذهب، أخبرنا أحمد بن جعفر، حدَثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، قال: سمعت سفيان بن عيينة يسمي النقباء، فسمى عبادة بن الصامت فيهم.
قال سفيان: عبادة عقبي، أحدي، بدري، شجري، وهو نقيب، توفي بالرملة بالشام في هذه السنة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
عوف بن أثاثة بن عبادة بن المطلب بن عبد مناف، ويكنى أبا عباد، ويلقب مسطحاً: شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي في هذه السنة وهو ابن ست وخمسين سنة.
كلثوم بن الحصين، أبو رهم الغفاري: أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أنبأنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أسلم أبو رهم بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وشهد معه أحداً، فرمي يومئذ بسهم فوقع في نحره، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق عليه فبرأ، وكان يسمى المنحور.
قال: وقال محمد بن عمرو: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير من الطائف إلى الجعرانة وأبو رهم إلى جنبه على ناقة له، وفي رجليه نعلان غليظان إذ زحمت ناقته ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو رهم: فوقع حرف نعلي على ساقه فأوجعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوجعتني أخر رجلك " وقرع رجلي بالسوط، فأخذني ما تقدم من أمري وما تأخر، وخشيت أن ينزل في قرآن عظيم مما صنعت، فلما أصبحنا بالجعرانة خرجت أرعى الظهر وما هو يومي فرقاً أن يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم رسول يطلبني، فلما روحت الركاب سألت، فقالوا: طلبك النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إحداهن والله، فجئته وأنا أترقب، فقال: " إنك أوجعتني برجلك فقرعتك بالسوط وأوجعتك فخذ هذه الغنم عوضاً من ضربتي " قال: فرضاه عني كان أحب إلي من الدنيا وما فيها. قال: وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومة يستنفرهم حين أراد تبوكاً.
ثم دخلت
سنة خمس وثلاثين
فمن الحوادث فيها خروج أهل مصر ومن وافقهم على عثمان رضي اللّه عنه أخبرنا محمد بن الحسين، وإسماعيل بن أحمد قالا: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا المخلص، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا السري بن يحيى، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف، عن عطية، عن يزيد الفَقْعَسي، قال: كان ابن سبأ يهودياً من أهل صنعاء، أمه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم بالبصرة، ثم بالكوفة، ثم بالشام، فلم يقدر على ما يريد، فأخرجوه حتى أتى مصر، فغمز عثمان بن عفان، وأظهر الأمر بالمعروف، وكان عمار بمصر فاستماله ابن السوداء وأصحابه، ودعوه إلى خلع عثمان فقدم المدينة.


وحدثنا سيف عن مبشر بن الفضيل، وسهل بن يوسف، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: قدم عمار من مصر وأبي شاكٍ فبلغه فبعثني إليه أدعوه، فلما دخل على سعد، قال: ويحك يا أبا اليقظان، إن كنت فينا لمن أهل الخير، فما الذي بلغني من سعيك في فساد بين المسلمين والتأليب على أمير المؤمنين، أمعك عقلك أم لا؟ فأهوى عمار إلى عمامته وغضب فنزعها وقال: خلعت عثمان كما خلعت هذه، فقال سعد: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويحك حين كبر سنك ورق عظمك ونفد عمرك، خلعت ربقة الإسلام من عنقك، فقام عمار مغضباً وأقبل سعد يبكي له، وقال، من يأمن الفتنة يا بني لا يخرجن منك ما سمعت منه.
وحدثنا سيف عن عطية، عن يزيد الفقعسي، قال: جعل أهل مصر يكتبون إلى الأمصار، قال سيف: كاتبوا أشياعهم من أهل الأمصار أن يتوافوا بالمدينة لينظروا فيما يريدون، وأظهروا أنهم يأمرون بالمعروف، ويسألون عثمان عن أشياء، فاجتمع المصريون والكوفيون بالمدينة، فخطبهم عثمان وقال: إن هؤلاء قالوا: أتم الصلاة في السفر، وكانت لا تتم، ألا وإني قدمت بلداً فيه أهلي فأتممت، قالوا: وَحَمَيْتُ حمى، وإني والله ما حميت إلا ما حمي قبلي. وقالوا: إني رددت الحكم وقد سيره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ثم رده. وقالوا: استعملت الأحداث ولم أستعمل إلا مجتمعاً مرضياً، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أسامة أشد ما قيل لي. وقالوا: أعطيت ابن أبي سرح ما أفاء الله عليه، وإني إنما نفلته خمس الخمس، وقد أنفذ مثل ذلك أبو بكر وعمر، فلما كره الجند ذلك رددته، وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإنه لم يمل معي على جور، وإنما أعطيهم من مالي ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس وما تبلغت من مال الله عز وجل بفلس فما فوقه.
وحدَّثنا سيف عن محمد وطلحة وأبي عثمان وأبي حارثة، قالوا: لما كان شوال سنة خمس وثلاثين خرج أهل مصر في أربعة رفاق على أربعة أمراء، المقلل يقول: ستمائة، والمكثر يقول: ألف. على الرفاق عبد الرحمن بن عُدَيس البكري، وكنانة بن بشر التجيبي، وعروة بن شبيم، الليثي، وأبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وسواد بن رومان الأصبحي، وزرع بن يشكر اليافعي، وقتيرة السكوني، وسودان بن حمران السكوني. وعلى القوم جميعاً الغافقي بن حرب العكي، ولم يجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب؛ وإنما خرجوا كالحُجاج، ومعهم ابن السوداء. وخرج أهل الكوفة في أربعة رفاق، وعلى الرفاق زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم وعليهم جميعاً عمرو بن الأصم، وعددهم كعدد أهل مصر، وخرج أهل البصرة في أرِبعة رفاق، وعلى الرفاق حكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح بن الحطم القيسي، وابن محرش بن عبد عمرو الحنفي، وعددهم كعدد أهل مصر، وأميرهم جميعاً حُرقوص بن زهير السعدي، سوى من تلاحق بهم من الناس فأما أهل مصر فإنهم كانوا يشتهون عليَاً، وأما أهل البصرة فإنهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فإنهم كانوا يشتهون الزبير.
فخرجوا حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث تقدم أناس من أهل البصرة، فنزلوا ذا خُشُب، وأناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص، وجاءهم أناس من أهل مصر وتركوا عامتهم بذي المرْوة. ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم، وقالا: لا تعجلوا حتى ندخل المدينة ونرتاد.
فدخل الرجلان، فلقيا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلحة والزبير وعلياً، وقالا: إنما نؤم هذا البيت، ونستعفي من هذا الوالي من بعض عمالنا، ما جئنا إلا لذلك، فاستأذنوهم للناس في الدخول، فكلهم أبى ونهى، فرجعا فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا علياً رضي الله عنه، ومن البصرة نفر فأتوا طلحة، ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير، وقال كل فريق منهم: إن بايعوا صَاحبنا وإلا كدناهم وفرقنا جماعتهم، ثم نبغتهم. فأتى المصريون علياً رضي الله عنه وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع عند عثمان، فعرضوا له، فصاح بهم فطردهم، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فارجعوا لا صحبكم الله.


وأتى البصريون طلحة وقد أرسل بنيه إلى عثمان، فعرضوا له، فصاح بهم وطردهم وقال مثل قول علي.
وأتى الكوفيون الزبير وقد سرح ابنه عبد الله إلى عثمان، فعرضوا له فصاح بهم وطردهم، وقال مثل طلحة.
خرج القوم وأروْهم أنهم يرجعون؛ فانفشوا عن ذي خشب والأعوص حتى أتوا إلى عساكرهم، وهي ثلاث مراحل كي يفترق أهل المدينة، ثم يكرون فافترق أهل المدينة لخروجهم، فكروا فلم يفجأ أهل المدينة إلا والتكبير في نواحي المدينة، فأحاطوا بعثمان وقالوا: من كف يده فهو آمن. وأتاهم الناس فكلموهم وفيهم علي، فقال علي: ما ردكم بعد ذهابكم؟ فقالوا: أخذنا مع بريد كتاباً بقتلنا هذا وعثمان يصلي بالناس وهم يصلون خلفه ويقولون، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا.
وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدهم، فخرجوا على الصعب والذلول، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح معاوية بن خديج، وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو. ولما جاءت الجمعة التي على أثر نزول المصريين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم خرج عثمان رضي الله عنه فصلى بالناس، ثم قام على المنبر، فقال: يا هؤلاء، إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فامحوا الخطايا بالصواب.
فقام محمد بن مسلمة: إنا نشهد بذلك، فأخذه حكيم بن جبلة فأقعده، فقام زيد بن ثابت فقال: ابغني الكتاب، فثار إليه محمد بن أب قثيرة فأقعده، وثار القوم بأجمعهم، فحصبوهم حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشياً عليه، فاحتمل فأدخل داره، وكان المصريون لا يطمعون في أحد من أهل المدينة أن يساعدهم إلا في ثلاثة نفر، فإنهم كانوا يراسلونهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر؛ وشمر أناس من الناس فاستقتلوا منهم سعد بن مالك، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، والحسن بن علي بن أبي طالب، فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا. ودخل علي وطلحة والزبير على عثمان يعودونه من صرعته، فصلى بهم عثمان بعدما نزلوا به في المسجد ثلاثين يوماً ثم منعوه الصلاة، فصلى بالناس أميرهم الغِافقي، دان له المصريون والكوفيون والبصريون، وتفرق أهل المدينة إلى حيطانهم، ولزموا بيوتهم، لا يخرج أحد، ولا يجلس أحد إلا وعليه سيفه يمتنع به من رهق القوم، وكان الحصار أربعين يوماً، وفيها كان القتل، ومن تعرض لهم وضعوا فيه السلاح، وكانوا قبل ذلك ثلاثين يوماً يكفون عن الناس، ويحتملون منهم الكلام.
ولما رأى زيد وزياد وعمرو الأصم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عثمان، وأنهم لا يجيئونهم رجعوا من بين أهل الكوفة، وأعاد عثمان الكتاب إلى الأمراء: إن أمر هؤلاء قد بان، وأنهم جاولوا الإسلام، ومنعوا الصلاة، وحالوا بيني وبين المسجد، ولما لم يجدوا خرجاً، قالوا: لا نرضى إلا بأن يعتزلنا، فأدركوا الفتنة قبل تدفقها، فحرض العمال أهل بلادهم، وجاء سعد، وزيد، وأبو هريرة للقتال، فقال عثمان: إن كنتم ترون الطاعة، فاغمدوا أسيافكم وانصرفوا.
وجاء كثير بن الصلت، فقال لعثمان: لو أريت الناس وجهك، فقد انكسر الناس، فقال: يا كثير، رأيتني البارحة وكأني دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: قد صبرت فلن يدركك المسلمون حتى تقتل، فارجع فإنك مفطر عندي يوم كدا وكذا، ولن تغيب الشمس والله يوم كذا وكذا، إلا وأنا من أهل الآخرة، فقالوا: نستقيل، فقال: اخرجوا عني.


ولما رأى القوم أن الناس قد ثابوا إلى عثمان وضعوا على علي بن أبي طالب رقيباً في نفر فلازمه، ورقيبه خالد بن ملجم، وعلى طلحة رقيباً فلازمه، ورقيبه سودان بن حمران، وعلى الزبير رقيباً فلازمه، ورقيبه قتيرة وعلى نفر بالمدينة، وقالوا لهم: إن تحركوا فاقتلوهم، فلما لم يستطع هؤلاء النفر غشيان عثمان بعثوا أبناءهم إلى عثمان، فأقبل الحسن بن علي، فقال له: مرنا بأمرك، فقال: يا ابن أخي، أوصيك بما أوصي به نفسي، واصبر وما صبرك إلا بالله، وجاء ابن الزبير، فقال له مثل ذلك، وجاء محمد بن طلحة فقال له مثل ذلك. وأشرف عثمان، فقال: يا أهل المدينة إني أستودعكم الله فارجعوا، ولزم عثمان الدار أربعين ليلة، فلما مضت من الأربعين ثماني عشرة ليلة قدم ركبان من الوجوه فأخبروا خبر من قد تهيأ إليهم من الآفاق: حبيب من الشام، ومعاوية من مصر، والقعقاع بن عمرو من الكوفة، ومجاشع من البصرة، فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان؛ ومنعوه من كل شيء حتى الماء، فبعث إلى علي رضي الله عنه بأنهم قد منعونا الماء، وإلى طلح والزبيب وعائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إليهم علي فقال: إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، فإن الروم لتأسِرُ فتطعم وتسقي، فقالوا: لا والله ولا نعمة عين، لا نتركه يأكل وليشرب، فرجع.
وجاءت أم حبيبة على بغلة لها برحالة، مشتملة على أداة، فقالت لهم: إن وصايا بني أمية إلى هذا الرجل فأحببت أن ألقاه فأسأله كيلا تهلك أموال اليتامى، فقالوا: كاذبة، وقطعوا حبل بغلتها بالسيف، فنذرت فتلقاها الناس.
وتجهزت عائشة خارجة إلى الحج هاربة.
وحج بالناس تلك السنة عبد الله بن عباس بأمر عثمان وهو محصور.
فلما علم المصريون أنهم مقصودان، قالوا: لا ينجينا إلا قتل هذا الرجل، فراموا الباب، فمنعهم الحسن، وابن الزبيب، ومحمد بن طلح، ومران، وسعيد بن العاصي، وكانوا مقيمين على الباب، فناداهم عثمان: الله، أنتم في حل من نصرتي، فأبوا، ففتح الباب، وخرج ومعه الترس والسيف، فبارز المصريون، وركبهم هؤلاء فتراجعوا، وأقسم على أصحابه ليدخلن إذ أبوا أن ينصرفوا، فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين، واتخذ عثمان القرآن تلك الأيام نَجياً، يصلي وعنده المصحف، فإذا أعها فقرأ فيه.
فجاء المصريون بنار فأحرقوا الباب، وعثمان في الصلاة قد افتتح طه، فما أترثه ما سمع، وما تتعتع حتى أتى عليها قبل أن يصلوا إليه. وبارز مران يومئذ فاختلف هو ورجل منهم ضربتين، فاجتر هذا أصحابه وهذا أصحابه، وَاقتحم الناس الدار من الدور التي حولها حتى ملأاها ولا يشعر الذين بالباب، فقال رجل: اخلعها وندعك، فقال: لست خالعاً قميصاً كسانين الله، فخرج ودخل آخر فلم يقتله، وجاء ابن سلام ينهاهم، فقالوا: يا ابن اليهودية، ما أنت وهذا. فأتاه الغافي وبيده حديد فضرب بها رأسه فشجها فقطر دمه على المصحف، وضرب المصحف برجله، ثم تعاونوا عليه، فضربه سودان بن حمران، فوثبت نائلة بنت الفرافصة فصاحت وألقت نفسها عليه وأخذت السيف بيدها، فتعمدها، فقطع أصابع يدها وقتله، فوثب غلام لعثمان فقتل سودان، فقتل قتيرة الغلام، فوثب غلام آخر وقتل قتيرة، ورموا بهما فأكلتهما الكلاب. ولم يغسل عثمان ولا غلاماه لكونهم شهداء، ودفنا إلى جنب عثمان بالبيت وانتهبوا متاع البيت، ومر رجل على عثمان ورأسه مع المصحف، فضرب رأسه برجا ونحاه عن المصحف، وتنادوا في الدار: أدركوا بيت المال، لا تُسبَقوا إليه، فأتوه فانتهبوه.
وقتل عثمان يوم الجمعة قبل غروب الشمس لثماني عشرة من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن يوسف الصياد، قال: أخبرنا أحمد بن يوسف بن خلاد، قال: حدثنا الحارث بن محمد، قال: حدثنا يعقوب بن القاسم الطلحي، قال: حدثنا الوليد، قال حدثنا الأوزاعي، عن محمد بن عبد الملك، عن المغيرة بن شعبة، أنه قال لعثمان حين حصر:


إنه قد نزل من الأمر ما ترى، فاختر واحدة من ثلاث: إن شئت أن نفتح لك باباً سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة فلن يستحلوك بها، وإن شئت أن تلحق الشام وفيها معاوية، وإن شئت خرجت بمن معك فقاتلناهم فإنا على الحق وهم على الباطل. فقال عثمان: أما قولك آتي إلى مكة؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يلحد بمكة رجل من قريش عليه نصف عذاب الأمة " فلن أكونه. وأما أن آتي إلى الشام، فلن أكون لأدع دار هجرتي ومجاورة نبي الله صلى الله عليه وسلم وآتي الشام. وأما قولك إني أخرج بمن معي أقاتلهم فلن أكون أول من يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بإراقة محجمة دم.
وروى الواقدي، عن أشياخ له، عن محمد بن مسلمة، قال: خرجت في نفر من قومي إلى المصريين، فعظمت حق عثمان وما في رقابهم من البيعة، وخوفتهم الفتنة، وأنه ينزع عن هذه الأمة الخصال التي نقمتم عليه، وأنا ضامن لذلك. قال القوم: فإن لم ينزع؟ قلت: فأمركم إليكم.
فانصرف القوم وهم راضون، ورجعت إلى عثمان، فقلت: أخلني، فأخلاني، فقلت: الله الله يا عثمان في نفسك، إن هؤلاء القوم إنما قدموا يريدون دمك، وأنت ترى خذلان أصحابك لك، فأعطاني الرضا وجزاني خيراً.
ثم خرجت من عنده، فأقمت ما شاء الله فيهم، فعادوا له فقال لي: ارجع إِليهم فأرددهم، قلت: لا والله، لأني ضمنت لهم أموراً تنزع عنها فلم تنزع عن حرف واحد منها. فقال له: الله المستعان. وجاءني ابن عديس وسودان، فقالا: ألم تعلم أنك زعمت أن صاحبنا نازع عما نكره؟ قلت: بلى فأخرجوا صحيفة صغيرة، وإذا قصبة من رصاص، فقالوا: وجدنا جملاً من إبل الصدقة عليه غلام عثمان، ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذا الكتاب: أما بعد؛ فإذا قدم عليك عبد الرحمن بن عديس فاجلده مائة جلدة، واحلق رأسه ولحيته وأطل حبسه حتى يأتيك أمري، وعمرو بن الحمق فافعل به مثل ذلك، وسودان مثل ذلك، وعروة مثل ذلك.
قلت: وما يدريكم أن عثمان كتب هذا؟ قالوا: فيفتات مروان على عثمان بهذا، فهذا أشر، فيخرج نفسه من هذا الأمر. ودخل علي على عثمان فأخبره بما وجدوا في الكتاب، فجعل يقسم بالله ما كتب به ولا علم ولا شور.
قال ابن مسلمة: إنه لصادق، ولكن هذا عمل مروان، فقال علي: أدخلهم إليك واعتذر إليهم، فدخلوا فما سلموا عليه بالخلافة، بل قالوا: سلام عليكم، فقلنا: وعليكم السلام، فقدموا في كلامهم ابن عديس، فذكر له أشياء من فعله، وقالوا: قد رحلنا نريد دمك فردنا علي، ومحمد بن مسلمة، وضمن لنا ابن مسلمة النزوع عما نقمناه، فرجعنا إلى بلادنا، فوجدنا غلامك وكتابك وخاتمك إلى عاملك بجلد ظهورنا والمثل بنا، فقال عثمان: والله ما كتبت ولا أمرت ولا شورت، قالوا: أيكتب مثل هذا غيرك؟ فليس مثلك يلي، اخلع نفسك، فقال: لا أنزع قميصاً ألبسنيه الله عز وجل. فخرج الكل فحاصروه.
ذكر من كان يصلي بالناس وعثمان محصور اختلف الناس في ذلك، فروى الواقدي، عن ربيعة بن عثمان، عن يزيد بن رومان: أنه لما حصر عثمان جاء المؤذن. سعد القرظ إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: من يصلي بالناس؟ فقال: ناد خالد بن يزيد، فقام فصلى بالناس.
قال الواقدي حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: جاء المؤذن إلى عثمان فأذن بالصلاة، فقال: لا أنزل، اذهب إلى من يصلي، فجاء إلى علي بن أبي طالب، وأمر سهل بن حنيف فصلى اليوم الذي حصر فيه الحصر الأخير، وهو ليلة رأى هلال في الحجة، فصلى بهم حتى إذا كان يوم العيد صلى علي العيد، ثم صلى بهم حتى قتل.
وقد روينا أن ابن عديس صلى بهم، وكنانة بن بشر خليفته.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، أخبرنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا ابن حيوية، حدَّثنا أبو بكر الأنباري، حدثنا محمد بن يونس، حدَّثنا حفص بن عمر النميري، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن هلال، قال: خرج عبد الله بن سلام إلى الناس يوم الدلج، وقال: يا قوم، والله ما قتلت أمة نبياً إلا قتل منها سبعون ألفاً، ولا قتلت أمة خليفة إلا قتل منها مكانه خمسة وثلاثون ألفاً، فأحرقوا الباب، فقال عثمان: ما عندهم بعد هذا بقية، ثم دخلوا عليه فقتلوه.
ذكر من وليه بعد موته وصفة دفنه


ذكر سيف بن عمر أن عثمان قتل يوم الجمعة، ودفن ليلة السبت في جوف الليل. قال أبو بشر العابدي: نبذ عثمان ثلاثة أيام لا يدفن، ثم إن حكيم بن حزام وجبير بن مطعم كلما عليّا في أن يأذن لهما في دفنه ففعل، فلما سُمِعَ بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة، فأرسل إليهم علي يعزم عليهم ليَكفّن عنه ففعلوا.
وقال غيره: دفن بين المغرب والعتمة، ولم يشهد جنازته إلا مروان وثلاثة من مواليه، وابنته الخامسة.
وقال الشعبي: صلى عليه مروان.
قال الواقدي: الثبت عندنا أنه صلى عليه جبير بن مطعم، وقال صالح بن كيسان: خرج حكيم بن حرام في اثني عشر رجلاً منهم الزبير.
وروى الواقدي: أنهم لما قتلوه أرادوا جز رأسه، فوقعت عليه نائلة وأم البنين، فمنعنهم، وصحن، وضربن الوجوه، وخرقن ثيابهن، فقال ابن عديس: اتركوه، فأخرج ولم يغسل إلى البقيع، فأقبل عمير بن ضابىء، فنَزَا عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه، وقال: سجنت ضابئاً حتى مات في السجن.
وكان عمر عثمان اثنتين وثمانين سنة وأشهراً. وقيل ثلاثاً وثماثين وقيل: ستاً وثمانين. وقيل ثمانياً وثمانين.
وقتل وعامله على مكة عبد الله بن الحضرمي، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي، وعلى صنعاء يعلى بن أمية، وعلى الجند عبد الله بن ربيعة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر بن كرز، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح ثم غلب محمد بن أبي حذيفة على مصر فأخرج ابن سعد، وعلى الكوفة: على صلاتها أبو موسى، وعلى حربها القعقاع بن عمرو، وعلى قرقيسياء جرير بن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وعلى همذان النُّسَير، وعلى الري سعيد بن قيس، وعلى أَصفهان السائب بن الأقرع، وعلى ماسبذان حبيش، وعلى بيت المال عقبة بن عمرو، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان.
وعمال معاوية على حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة، وعلى الأردن أبو الأعور بن سفيان، وعلى القضاء أبو الدرداء، وعلى قضاء عثمان زيد بن ثابت.
فصل
ولما قتل عثمان رضي الله عنه انتهبت داره ودار غيره، وانتهبت دار أبي هريرة.
أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدًثنا يونس، قال: حدًثنا حماد بن زيد، عن المهاجر، عن أبي العالية، عن أبي هريرة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بتمرات، فقلت: ادع الله لي فيهن بالبركة، قال: فصفهن بين يديه ثم دعا، فقال لي: اجعلهن في مزودك وادخل يدك ولا تنثره. قال: فجعلت منه كذا وكذا وسقاً في سبيل الله، وآكل وأطعم، وكان لا يفارق حقوي. فلما قتل عثمان رضي الله عنه انقطع عن حقوي وسقط.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا عبد الصمد بن المأمون، قال: أخبرنا ابن حبابة، قال: حدثنا البغوي، قال: حدثنا عبيد بن محمد العيشي، قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: حدثنا يزيد بن أبي منصور، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: أصبت بثلاث بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت صويحبه وذا يد منه، وبقتل عثمان والمزود. قالوا: وما المزود؟ قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابت الناس مخمصة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا هريرة، هل من شيء؟ " قلت: نعم، شيء من تمر في مزود، قال: " فآتني به " ، فأتيته به فأدخل يده وأخرج قبضة، فبسطها، ثم قال: ادع لي عشرة، فدعوت له عشرة فأكلوا حتى شبعوا، ثم أدخل يده فأخرج قبضة فبسطها، ثم قال: ادع لي عشرة، فدعوت له عشرة، فأكلوا حتى شبعوا، فما زال يصنع ذلك حتى أطعم الجيش كله وشبعوا، ثم قال لي: " خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض ولا تكبه " قال أبو هريرة: فقبضت على أكثر مما جئت به. قال أبو هريرة: ألا أحدثكم عما أكلت، أكلت منه حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر وأطعمت، وحياة عمر وأطعمت، وحياة عثمان وأطعمت، فلما قتل عثمان انتهبت بيتي وذهب المزود.
وفي رواية: لقد جهزت منه خمسين وسقاً فيِ سبيل الله.
فصل


ولما ضرب عثمان بالسيف اتقت نائلة بنت الفرافصة بيدها، فقطعت إصبعان من أصابعها، فلما قتل كتبت إلى معاوية: من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد. فإني أذكركم بالله الذي أنعم عليكم، وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأبعدكم عن الكفر، وأنشدكم الله فأذكركم حقه وحق خليفته أن تنصروه، وأن أمير المؤمنين بُغِي عليه وكنت مشاهدة أمره، إن أهل المدينة حصروه يحرسونه ليلهم ونهارهم قياماً على أبوابه بسلاحهم حتى منعوه الماء، ثم إنه رُمي بالنبل والحجارة، ثم أحرقوا باب الدار، ثم دخلوا عليه وأخفوا بلحيته وضربوه على رأسه ثلاث ضربات وطعنوه في صدره ثلاث طعنات، وقد أرسلت إليكم بثوبه، فحلف رجال من الشام ألا يطأوا النساء حتى يقتلوا قتلته أو تذهب أرواحهم.
فصل
وقد كان أمير المؤمنين علي يقول: إنما وهنت يوم قتل عثمان.
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أنبأنا أبو الفتح أحمد بن محمد الحداد، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن إبراهيم بن منجويه، أن الحاكم أبا أحمد محمد بن أحمد بن إسحاق الحافظ، أخبرهم قال: أخبرنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا الحسين بن عرفة، قال: حدثنا عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة، عن مجالد بن سعيد، عن عمير بن زودي، قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: هل تدرون إنما مثلي ومثلكم وقتل عثمان، كمثل ثلاثة أثواركن في أجمة: ثور أبيض، وثور أسود، وثور أحمر ومعهم فيها أسد، فكان الأسد لا يقدر منها على شيء لاجتماعهم عليه، فقال للثور الأسود والثور الأحمر: إِنه لا يدل علينا في أجمتنا هذه إلا الثور الأبيض فإنه مشهور اللون، فلو تركتماني فأكلته، وصفت لي ولكما الأجمة وعشنا فيها، فقالا له: دونك وما تريد، فأكله، ثم لبث غير كثير، فقال للثور الأحمر: إنه لا يدل علينا في أجمتنا هذه إلا الثور الأسود فإنه مشهور اللون، وإن لوني ولونك لا يشتهران، فلو تركتني لآكله صفت لي ولك الأجمة وعشنا فيها، فقال له: دونك، فأكله. ثم لبث غير كثير فقال للثور الأحمر: إني آكلك، قال: دعني حتى أنادي ثلاثة أصوات، قال: ناد، فقال: ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض، ألا إني أَكلت يوم أكل الثور الأبيض، ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض، قال: يقول علي رضي الله عنه ألا وإني إنما وُهنت يوم قتل عثمان رضي الله عنه.
ومن الحوادث في هذه السنة أعني سنة خمس وثلاثين من الهجرة خلافة علي عليه السلام أخبرنا أبو منصور، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل القطان، قال: أنبأنا عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي، قال: أنبأنا يعقوب بن سفيان، قال: سمعت، سليمان بن حرب، قال: شهد علي بدراً وهو ابن عشرين سنة، وشهد الفتح وهو ابن ثمان وعشرين سنة.
روى القزاز بإسناده عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: كنت ذات يوم جالساً بين يدي أبي، فجاءت طائفة من الكوفيين فذكروا خلافة أبي بكر وعمر وعثمان بن عفان، وذكروا خلافة علي بن أبي طالب، فزادوا وأطالوا، فرفع رأسه إليهم وقال: يا هؤلاء، قد أكثرتم القول في علي والخلافة، وإن الخلافة لم تزين علياً بل علي زينها.
قال السياري: فحدثت بهذا بعض الشيعة، فقال: قد أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض.
باب خلافة علي رضوان الله عليه
قال محمد بن الحنفية رضي الله عنه: كنت مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقةً، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تفعلوا، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك؟ قال: ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون إلا عن رضا المسلمين. فدخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعه الناس.
وقيل: أول من بايعه طلح.
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: حدثنا الحسين بن علي الطناجيري، قال: أخبرنا عمر بن أحمد بن شاهين، قال: حدًثنا محمد بن سليمان، قال: حدَثنا وهب بن بقية، قال: أخبرنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، قال:


رأى أعرابي طلحة يبايع علياً رضي الله عنه، قال: يد شلاء وأمر لا يتم.
وقال الزهري: أرسل إلى طلحة والزبير فدعاهما إلى البيعة فتلكأ طلحة، فقال الأشتر وسل سيفه: والله لتبايعن أو لأضربن به بين عينيك، فقال طلحة: وأين المذهب عنه، فبايعه وبايعه الزبير. وهرب قوم إلى الشام فلم يبايعوه، ولم يبايعه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن سلام، والمغيرة بن شعبة.
قال حبيب بن محمد الهاشمي: تربص سبعة فلم يبايعوه: سعد، وابن عمر، وصهيب، وزيد بن ثابت، ومحمد بن مسلمة، وسلمة بن سلام بن وقش، وأسامة بن زيد.
وذكر محمد بن سعد أنه بويع لعلي رضي الله عنه بالمدينة، غداة قتل عثمان، بايعه طلحة والزبير وسعد وسعيد، وجميع من كان بالمدينة، ثم ذكر طلحة والزبير أنهما بايعا كارهين، فخرجا إلى مكة وبها عائشة رضي الله عنها، ثم خرجوا إلى البصرة يطالبون بدم عثمان.
أخبرنا محمد بن الحسين، وإسماعيل بن أحمد، قالا: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا المخلص، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: أخبرنا السري بن يحيى، قال: حدَّثنا شعيب قال: حدثنا سيف بن عمر، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن سواد، وطلحة بن الأعلم، وأبو حارثة، وأبو عثمان، قالوا: بقيت المدينة بعد قتل عثمان خمسة أيام وأميرها الغافقي يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، يأتي المصريون علياً فيختبىء منهم ويلوذ بحيطان المدينة، فإذا لقوه باعدهم وتبرأ منهم ومن مقالتهم مرة بعد مرة، ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، فأرسلوا إليه حيث هو رسلاً فباعدهم وتبرأ منهم، ويطلب البصريون طلحة فإذا لقوه باعدهم وتبرأ من مقالتهم مرة بعد مرة، وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يهوَوْن، فلما لم يجدوا ممالِئاً ولا مجيباً جمعهم الشر على أول من أجابهم، وقالوا: لا نولي أحداً من هؤلاء الثلاثة، فبعثوا إلى سعد بن أبي وقاص، فقالوا: إنك من أهل الشورى، ورأينا فيك مجتمع، فأقدم نبايعك، فبعث إليهم: إني وابن عمي خرجنا منها فلا حاجة لي فيها على حال؛ وتمثل:
لا تَخلطَنَّ خَبِيثَاتٍ بِطيبَة ... واخلع ثيابك منها وانجُ عُريانا
ثم وجودا سعداً والزبير خارجين من المدينة، وطلحة في حائط له، وبني أمية قد هربوا إلا من لم يطق الهرب، وكان الوليد وسعيد ومروان قد لحقوا بمكة.
ثم إنهم لقوا عبد الله بن عمر، فقالوا: أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر، فقال: إن لهذا الأمر انتقاماً، والله لا أتعرض له، فالتمسوا غيري. فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون.
وحدثنا سيف، عن محمد وطلحة، قالا: قالوا: يا أهل المدينة قَد أَجلناكم يومكم، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلن غداً علياً وطلحة والزبير وأناساً كثيراً، فغشي الناس علياً، فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام، فقال: دعوني والتمسوا غيري، فقالوا: ننشدك الله إلا ما فعلت، فقال: قد أجبتكم لما أرى، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلا أني أسمعكم وأطوعكم.
فلما أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد، وجاء علي حتى صعد المنبر، وجاءوا بطلحة فقالوا: بايع، فقال: إني إنما أبايع كرهاً، فبايع أول الناس، وكان به شلل، فقال رجل يعتاف: إنا لله وإنا إليه راجعون، أول يد بايعت أمير المؤمنين يد شلاء، لا يتم هذا الأمر. ثم جيء بالزبير فقال مثل ذلك، ثم بايع. ثم جيء بقوم كانوا قد تخلفوا، فقالوا: نبايع على إقامة كتاب الله في القريب والبعيد، والعزيز والذليل، فبايعهم، ثم قام العامة فبايعوه.
وبويع علي رضي الله عنه يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا أحمد بن علي بن عمر المقرىء، أخبرنا علي بن أحمد بن أبي قيس، حدًثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثنا عياش بن هشام، عن أبيه، قال: بويع علي رضي الله عنه بالمدينة يوم الجمعة حين قتل عثمان، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، فاستقبل المحرم سنة ست وثلاثين.
قال غير عياش: كانت بيعته في دار عمرو بن محصن الأنصاري، ثم أحد بني عمرو بن مبذول يوم الجمعة، ثم بويع بيعته العامة من الغد يوم السبت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر اسمه ونسبه


هو علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب: عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ويكنى أبا الحسن، وأبا تراب. وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وعلي عليه السلام أول من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، وشهد المشاهد معه ولم يتخلف عن مشهد، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه في غزوة تبوك، فقال: أتخلفني في النساء والصبيان، فقال: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " .
ولما آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس آخا بينه صلى الله عليه وسلم، وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذكر صفته أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال: أخبرنا الحسين بن صفوان، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد القرشي، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي رضي الله عنهما قلت: ما كانت صفة علي؟ رضي عنه؟ قال: رجل شديد الأدمة، ثقيل العينين، ذو بطن، أصلع، إلى القصر أقرب.
قال ابن سعد: أخبرنا أبو عمر بن هارون، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: رأيت علياً رضي الله عنه وكان عريض اللحية، وقد أخذت ما بين منكَبيه، أصلع على رأسه زُغَيْبَات.
قال محمد بن سعد: وأخبرنا وهب بن جرير بن حازم، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت أبا حازم يقول: رأيت علياً أصلع، كثير الشعر، كأنما اجتاب إهاب شاة.
أخبرنا عبد الوهاب ابن المبارك، أخبرنا عاصم بن الحسن، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، حدثنا عفان بن أحمد الدقاق، حدثنا أبو الحسن بن البراء، قال: كان نقش خاتم علي رضي الله عنه " الله الملك " .
ذكر تقدم إسلامه أخبرنا عبد الرحمن القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن القاسم بن الحسن الشاهد، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن إسحاق بن محمد بن البختري، قال: أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غَرزة، قال: حدًثنا علي بن قادم، قال: أخبرنا علي بن عابس، عن مسلم، عن أنس، قال: استنبىء النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء.
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: حدَّثنا محمد بن علي الصلْحي، قال: أخبرنا أحمد بن يعقوب الجرجاني، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن معاذ الهروي ، قال: حدثنا أبو داود سلمان بن معبد السبخي، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم وعليّ ابن سبع سنين.
قال مؤلف الكتاب: وفي رواية أخرى أنه كان ابن ثمان سنين.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، أخبرنا الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حيوية، أخبرنا أحمد بن معروف، أخبرنا الحسين بن الفهمِ، حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس، قال: حدَثني أبي، عن الحسن بن زيد: أن علياً حين دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام كان ابن تسع سنين.
قال الحسن بن زيد: ويقال: عون تسع سنين، ولم يعبد الأوثان قط لصغره.
قال محمد بن سعد: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: وأصحابنا مجمعون أن أول أهل القبلة الذي استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد، ثم اختلف عندنا في ثلاثة نفر؛ أيهم أسلم أولاً، في أبي بكر، وعلي، وزيد بن حارثة، وما نجد إسلام علي صحيحاً إلا وهو ابن إحدى عشرة سنة.
ذكر غزارة علمه كان أبو بكر وعمر يشاورانه ويرجعان إلى رأيه، وكان كل الصحابة مفتقراً إلى علمه، وكان عمر يقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن.
ذكر أولاده


كان لعلي من الولد أربعة عشر ذكراً، وتسع عشرة أنثى: الحسن، والحسين، وزينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى؛ أمهم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومحمد الأكبر، وهو ابن الحنفية، وأمه خولة بنت جعفر، وعبيد الله؛ قتله المختار، وأبو بكر قتل مع الحسين، أمهما ليلى بنت مسعود. والعباس الأكبر، وعثمان، وجعفر، وعبد الله، قتلوا الحسين، أمهم أم البنين بنت حرام بن خالد، ومحمد الأصغر، قتل مع الحسين، أمه أم ولد. ويحيى وعون، أمهما أسماء بنت عميس. وعمر الأكبر، ورقية، أمهما الصهباء سبية. ومحمد الأوسط، أمه أمامة بنت أبي العاص. وأم الحسن، ورملة الكبرى، أمهما أم سعيد بنت عروة. وأم هانىء، ميمونة، وزينب الصغرى، ورملة الصغرى، وأم كلثوم الصغرى، وفاطمة، وأمامة، وخديجة، وأم الكرام، وأم سلمة، وأم جعفر، وجمانة، ونفيسة، وهن لأمهات شتى. وابنة أخرى لم يذكر اسمها هلكت وهي صغيرة. فهؤلاء الذين عرفوا من أولاد علي رضي الله عنه.
ذكر طرف من سيرته وحاله أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار، قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدًثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا الجر بن جرموز، عن أبيه، قال: رأيت علياً رضي الله عنه وهو يخرج من القص وعليه قطريتان إزار إلى نصف الساق، ورداءه مشمر، ومعه درة يمشي بها في الأسواق ويأمرهم بتقوى اللّه وحسن البيع، أوفوا الكيل والميزان، ويقول: لا تنفخوا اللحم.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، وأبو القاسم التنوخي، قالا: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثنا محمد بن علي المدائني، قال: حدثنا أبو الفضل الربعي، قال: أخبرنا أحمد بن عبد اللّه العطار، قال: حدثنا حسين الأشقر، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه رضي الله عنهما قال: كان علي رضي الله عنه يدخل السوق وبيده الدرة، وعليه عباء قطوافي، وقد شق وسطه وكفت حاشيتاه، يقول: يا أيها التجار، خذوا الحق واعطوا الحق تسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره، ونظر إلى رجل يقص، فقال له: أتقص ونحن قريب عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأسألنك فإن أجبتني وإلا جَعَفْتُكَ بهذه الدرة، ما ثبات الدين وما زواله. قال: أما ثباته فالورع، وأما زواله فالطمع، قال: أحسنت، قص فمثلك من يقص.
ومن الحوادث عند خلافته أخبرنا محمد بن الحسين، وإسماعيل، قالا: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا المخلص، قال: أخبرنا أحمد، قال: حدَّثنا السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدَّثنا سيف، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن علي بن الحسين، قال: اجتمع الناس، إلى علي رضي الله عنه، فقالوا: يا علي، إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، فإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل وأحلوا بأنفسهم، فقال لهم: يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكونا ولا نملكهم، ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عُبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضع القدرة على شيء فما ترون. قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلا رأياً ترونه أبداً إن شاء الله.
وحدًثنا سيف، عن أبي حمزة، عن رجل، قال: قال طلحة لعلي: دعني فآتي البصرة فلا يفجؤك إلا وأنا في خيل، فقال: حتى أنظر في ذلك. وقال الزبير: دعني آتي الكوفه فلا يفجؤك إلا وأنا في خيل، فقال: حتى أنظر في ذلك. وسمع المغيرة بن شعبة بذلك، فدخل عليه فقال: إن لك حق الطاعة والنصيحة، أقرر معاوية على عمُله، وابن عامر والعمال على أعمالهم، حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعة الجنود استبدلت أو تركت. فقال: حتى أنظر.


فخرج من عنده وعاد إليه من الغد، فقال: إني أشرت عليك بالأمس برأي، وإن الرأي أن تعاجلهم بالنزوع، فيعرف السامع من غيره ويستقبل أمرك، ثم خرج وتلقاه ابن عباس خارجاً وهو داخل، فلما انتهى إلى علي، قال: رأيت المغيرة خرج من عندك ففيم جاءك؟ قال: جاءني أمس بكذا واليوم بكذا، فقال: أما أمس فقد نصحك، وأما اليوم فقد غشك، قال: فما الرأي؟ قال: كان الرأي أن تخرج حين قتل الرجل أو قبله، فتأتي مكة فتدخل دارك وتغلق بابك، فإن كانت العرب جائلة مضطربة في أثرك لا تجد غيرك، فأما اليوم فإن بني أمية يستحسنون الطلب بأن يلزموك شعبة من هذا الأمر، ويشبهون على الناس.
وروى الواقدي، قال: حدًثني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: دعاني عثمان فاستعملني على الحج، فأقمت للناس الحج وقرأت عليهم كتاب عثمان إِليهم، ثم قدمت المدينة وقد بويع لعلي، فأتيته في داره، فوجدت عنده المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فحبسني حتى خرج من عنده، فقلت له: ماذا قال لك؟ قال لي مرة قبل مرته هذه: أرسل إلى عبد الله بن عامر ومعاوية وعمال عثمان، بعهودهم وأقرهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس، فأبيت هذا عليه، وقلت: لا وليت هؤلاء أبداً ولا مثلهم يولى، ثم انصرف وأنا أعرف أنه يراني مخطئاً، ثم عاد إلي الآن، فقال: رأيت بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتنزعهم وتستعين بمن تثق به.
فقلت: أما المرة الأولى فقد نصحك، وأما الأخرى فقد غشك، لأنك إذا عزلتهم يقولون هو قتل صاحبنا، ويؤلبون عليك، فقال: والله لا أولي منهم أحداً أبداً؛ فإن أقبلوا فذلك خيرٌ لهم، وإن أدبروا بذلت لهم السيف. ثم قال لي: سر إلى الشام فقد وليتكهَا، فقلت: ما هذا برأي؛ معاوية رجل من بني أمية، وهو ابن عم عثمان، وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عُنقي بعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علي، ولكن أكتب إلى معاوية فمنَه وعِده فأبى علي، وقال: والله لا كان ذلك أبداً.
ومن الحوادث في هذه السنة مسير قسطنطين ملك الروم يريد المسلمين أنه سار قسطنطين بن هرقل في ألف مركب يريد أرض المسلمين، فسلط الله عليهم قَاصِفاً من الريح فغرقهم، ونجا قسطنطين، فأتى صقلية، فصنعوا له حماماً فدخله فقتلوه فيه؟ وقالوا: قتلت رجالنا.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد سبق ذكر مقتله.
أنبأنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا عاصم بن الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: حدثنا عثمان بن أحمد، قال: حدَّثنا أبو الحسن بن البراء، قال: بلغ عثمان رضي الله عنه من العمر اثنتين وثمانين سنة، وترك قيمة ألف ألف درهم.
عامر بن ربيعة بن مالك بن عامر، أبو عبد اللّه: كان حليفاً للخطاب بن نفيل، وتبناه الخطاب، فلما نزل قوله تعالى: " ادعوهم لآبائهم " رجع عامر إلى نسبه.
وأسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين ومعه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمة العَدويْة، وهاجر إلى المدينة فلم يقدمها قبله إلا أبو سلمة، وزوجته أول ظعينة قدمت المدينة.
وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدًثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي أويس، وخالد بن مخلد البجلي، قالا: حدثنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: قام عامر بن ربيعة يصلي من الليل، وذلك حين نشب الناس في الطعن على عثمان، فصلى من الليل ثم نام، فأتي في المنام فقيل له: قم فاسأل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده. فقام فصلى ثم اشتكى، فما أخرج إلا جنازة.
قال ابن سعد: وقال محمد بن عمر: كان موت عامر بن ربيعة بعد قتل عثمان بأيام، وكان قد لزم بيته فلم يشعر الناس إلا بجنازته وقد أخرجت.
معاذ بن عفراء، أمه نسب إليها، وأبوه الحارث بن رفاعة: شهد معاذ العقبتين، وبدراً. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبعث إلى أهل بدر حللاً، فيبعث إليه ويشتري لها رقالاً فيعتقهم.


أخبرنا محمد بن عبد الله البيضاوي، أخبرنا أبو الحسين الطيوري، أخبرنا أبو طالب العشاري، حدثنا علي بن الحسين بن سكينة، حدثنا محمد بن القاسم بن مهدي، حدَثنا علي بن أحمد بن أبي قيس، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدًثني محمد بن قدامة الجوهري، قال: حدَّثنا أبو أسامة، قال: حدًثني بعض أصحابنا، عن رقية بن مصقلة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان معاذ بن عفراء لا يدع شيئاً إلا تصدق به، فلما ولد له استشفعت عليه امرأته أخواله، فكلموه وقالوا له: إنك قد أعلت، فلو جمعت لولدك، قال: أبت نفسي إلا أن أستتر بكل شيء أجده من النار، فلما مات ترك أرضاً إلى جنب أرض لرجل. قال عبد الرحمن: وعليه ملاءة صفراء ما تساوي ثلاثة دراهم، ما تسترني الأرض بملآتي هذه، فامتنع ولي الصبيان واحتاج إِليها جار الأرض، فباعها بثلاثمائة ألف.
ثم دخلت
سنة ست وثلاثين
فمن الحوادث فيها تفريق علي رضي اللّه عنه عماله في الأمصار أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين، وأبو القاسم إسماعيل بن أحمد، قالا: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا المخلص، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا السري بن يحيى، قال: حدثنا شعيب، عن محمد وطلحة، قالا: بعث علي رضي الله عنه عماله على الأمصار؛ بعث عثمان بن حنيف على لبصرة، وعمارة بن حسان بن شهاب على الكوفة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشام.
فأما سهل فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل قالوا: من أنت؟ قال: أمير، قالوا: على أي شيء. قال: على الشام، قالوا: إن كان عثمان بعثكم فحيًهلاً بك، وإن كان بعثك غيره فارجع، قال: أو ما سمعتم بالذي كان، قالوا: بلى، فرجع إلى علي. وأما قيس بن سعد، فإنه لما انتهى إلى أيلة لقيته خيل، فقالوا: من أنت؟ قال: من قالة عثمان، فأنا أطلب من آوي إليه وأنتصر به، قالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد، قالوا: امض، فمضى حتى دخل مصر، فافترق أهل مصر فرقاً؟ فرقة دخلت في الجماعة وكانوا معه، وفرقة وقفت واعتزلت، وقالوا: إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم، وإلا فنحن على جديلتنا، وفرقة قالوا: نحن مع علي ما لم يُقِدْ إخواننا، فكتب قيس إلى علي بذلك.
وأما عثمان بن حنيف، فسار فلم يرده أحد عن دخول البصرة، ولم يوجد في ذلك لابن عامر رأي ولا حزم ولا استقلال بحرب، فافترق الناس فاتبعت فرقة القوم، ودخلت فرقة في الجماعة، وفرقة قالت: ننظر ما يصنع أهل المدينة فنصنع كما صنعوا.
وأما عمارة فأقبل حتى إذا كان بزبالة رد وانطلق عبيد الله إلى اليمن، ولما رجع سهل بن حنيف من طريق الشام دعا طلحة والزبير، فقال: إن الذي كنت أحدثكم قد وقع، وسأمسك الأمر ما استمسك، فإذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكي.
وكتب علي إلى أبي موسى ومعاوية، فكتب إليه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم، وبين الكاره منهم والراضي، وكان الرسول إلى أبي موسى معبد الأسلمي. وكان الرسول إلى معاوية سبرة الجهني، فلما قدم على معاوية لم يكتب معه شيء ولم يجبه، حتى إذا كان في الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، دعا معاوية برجل من بني عبس يُدْعَى قبيصة، فدفع إليه طُوماراً مختوماً، عنوانه: من معاوية إلى علي، فقال له إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثم أوصاه بما يقول، وسرح رسول عليّ معه، فخرجا فقدما المدينة في غرة ربيع الأول، فلما دخلا المدينة رفع العبسي الطومار كما أمره، وخرج الناس ينظرون إليه، فتفرقوا إلى منازلهم وقد علموا أن معاوية معترض، ومضى الرسول حتىٍ دخل على عليّ رضي الله عنه، فدفع إليه الطومار، ففض خاتمه فلم يجد في جوفه كتابة، فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال: نعم، إن الرسل آمنة لا تقتل؟ قال: ورائي أني تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود، قال: ممن؟ قال من نفسك، وتركت ستين ألف شيخ يبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق، فقال: أمني يطلبون عثمان، ألست موتوراً أكره قتل عثمان، اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، اخرج، قال: وأنا آمن؟ قال: وأنت آمن، فخرج العبسي، فصاحت السبئِية: هذا الكلب وافد الكلاب، اقتلوه، فنادى: يا آل مضر، إني أحلف بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خَصي، فانظروا كم الفحولة والركاب فمنعته مضر.


وحدَّثنا سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: أتى معاوية الخبر بحصر عثمان، فأرسل إِلى حبيب بن مسلمة الفهري، فقال: إن عثمان قد حصر، فأشر عليّ برجل ينفذ لأمري ولا يقصر، قال: ما أعرف ذلك غيري، قال: أنت لها، فأشر علي برجل أبعثه على مقدمتك لا تتهم نصيحته، قال: يزيد بن شجعة الحميري، فدعا بهما فقال: النجاء، سيرا فأعينا أمير المؤمنين، وتعجل أنت يا يزيد فإن قدمت يا حبيب وعثمان حي فالأمر أمره، فانفذ لما يأمرك به، وإن وجدته قد قتل فلا تدعن أحداً أشار إليه أو أعان عليه إلا قتلته. وبعث مع يزيد ألف فارس، فسار بعض الطريق، فبلغه الخبر، ثم لقيه النعمان بن بشير ومعه القميص الذي قتل فيه عثمان مخضب بالدماء وأصابع امرأته، فأمضى حبيب إلى معاوية وأقام فأتاه برأيه فرجع حتى قدم دمشق. ولما قدم النعمان بن بشير على معاوية أخرج القميص وأصابع نائلة بنت الفرافصة إصبعان قد قطعتا ببراجمهما وشيء من الكف، وإصبعان مقطوعتان من أصلهما مفترقتان، ونصف الإبهام - فوضع معاوية القميص على المنبر، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلقة فيه، والرجال من أهل الشام لا يأتون النساء، ولا يمسهم الغسل إلا من الاحتلام، ولا ينامون على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان، ومن عرض دونهم بشيء أو يفني أرواحهم، فمكثوا يبكون حول القميص سنة، والقميص موضوع كل يوم، وفي أردافه أصابع نائلة معلقة.
استئذان طلحة والزبير عليّاً وحدثنا سيف، عن محمد وطلحة قالا: استأذن طلحة والزبير علياً في العمرة، فأذن لهما، فلحقا بمكة؛ وأحدث أهل المدينة أن يعلموا ما رأي علي في معاوية ليعرفوا بذلك رأيه في قتال أهل القبلة، أيجسر عليه أو ينكل عنه، وقد بلغم أن الحسن بن علي دخل عليه ودعاه إلى القعود وترك الناس، فدسوا إليه زياد بن حنظلة التميمي - وكان منقطعاً إلى علي - فدخل عليه فجلس إليه ساعة ثم قال له علي: يا زياد، تيسر؛ فقال: لأي شيء؟ فقال: لغزو الشام، فقال زياد: الأناة والرفق أمثل، وقال هذا البيت:
ومَنْ لايُصانِعْ في أموركثيرةٍ ... يُضَرسْ بأنياب ويوطأ بمنْسِم
فتمثل عليّ وكأنه لا يريده يقول:
متى تَجمَع القلبَ الذكي وصارِماً ... وأنْفاً حَمِياً تَجْتَنِبْكَ المظَالِمُ
فخرج زياد على الناس، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم، فعرفوا ما هو فاعل، ودعا علي محمد بن الحنفية، فدفع إليه اللواء، وولى عبد الله بن عباس ميمنة، وعمرو بن أبي سلمة - أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد - ولاه ميسرته، ودعا أبا ليلى بن عمرو بن الجراح؛ ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح، فجعله على مقدمته، واستخلف على المدينة قثم بن عباس، وكتب إلى قيس بن سعد أن يندب الناس إلى الشام، وإلى عثمان بن حنيف وإلى أبي موسى مثل ذلك، وأصر على التهيؤ والتجهز، وخطب أهل المدينة فدعاهم إلى النهوض في قتال أهل الفرقة، وقال: انهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم، لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق أو تقضوا الذي عليكم.
فبينا هم كذلك إذ جاء الخبر عن أهل مكة بنحو آخر، فقام فيهم فقال: ألا وإن طلحة والزبير وأم المؤمنين قد تمالأوا على سخط إمارتي، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم.
ثم أتاه أنهم يريدون البصرة لمشاهدة الناس والإصلاح، فتعبى للخروج نحوهم، فاشتد على أهل المدينة الأمر، فتثاقلوا، فبعث إلى عبد الله بن عمر كُميْلا النَخَعِي، فجاء به فقال: انهض معي، فقال: أنا مع أهل المدينة، إنما أنا رجل منهم، فإن يخرجوا أخرج وإن يقعدوا أقعد، فرجع عبد الله إِلى أهل المدينة وهم يقولون: لا والله ما ندري كيف نصنع، فإن هذا الأمر لمشتبه علينا، ونحن مقيمون حتى يضيء لنا ويسفر.


فخرجٍ من تحت ليلته وأخبر أم كلثوم بنت عليً بالذي سمع من أهل المدينة، وأنه يخرج معتمرا مقيماً على طاعة علي ما خلا النهوض؟ وكان صدوقاً فاستقر ذلك عندها، وأصبح علي رضي الله عنه فقيل له: البارحة حدث حدثٌ وهو أشد عليك من طلحة والزبير وأم المؤمنين معاوية، قال: وما ذلك؟ فقال: خرج ابن عمر إلى الشام فأتى على السوق، ودعا بالظهر فحمل الرجال وأعد لكل طريق طُلاباً. وماج أهل المدينة، وسمعت أم كلثوم بالذي هو فيه، فأتت علياً فقالت: ما لك لا تَزَند من هذا الرجل؟ وحدثته حديثه وقالت: أنا ضامنة له، فطابت نفسه وقال: انصرفوا، إنه عندي ثقة فانصرفوا.
وكانت عائشة مقيمة بالمدينة تريد عمرة المحرم، فلما قضت عمرتها وخرجت سمعت بما جرى فانصرفت إلى مكة وهي لا تقول شيئاً، فنزلت على باب المسجد وقصدت الحجر فسُترَتْ فيه، واجتمع الناس إليها، فقالت: إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول بالأمس، فبادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، وأخذوا المال الحرام، فاجتماعكم عليهم ينكل بهم غيرهم، ويشرد بهم من بعدهم، فقال عبد الله بن عامر الحضرمي: ها أنا لها أول طالب، فكان أول منتدب.
وحدثنا سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: خرجت عائشة نحو المدينة من مكة بعد مقتل عثمان، فلقيها رجل من أخوالها، فقالت: ما وراءك. قال: قتل عثمان واجتمع الناس على علي رضي الله عنه، والأمر أمر الغوغاء. قالت: ما أظن ذلك تاماً، ردوني، فانصرفت راجعة إلى مكة حتى إذا دخلتها أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي - وكان أمير عثمان عليها - فقال: ما ردك يا أم المؤمنين؟ قالت: ردني أن عثمان قتل مظلوماً، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر، فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام.
فكان أول من أجابها عبد الله بن عامر الحضرمي، وذلك أول ما تكلمت بنو أمية بالحجاز ورفعوا رؤوسهم، وقام معهم سعيد بن العاص، والوليد بن عقبة وسائر بني أمية. وقد قدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة، ويعلى بن أمية من اليمن، وطلحة والزبير من المدينة، واجتمع ملؤهم بعد نظر طويل في أمورهم على البصرة، وقالت عائشة في مقام آخر: يا أيها الناس، إن هذا حدث عظيم وأمر منكر، فانهضوا فيه إلى إخوانكم من أهل البصرة فأنكروه، فقد كفاكم أهل الشام ما عندهم، لعل الله عز وجل أن يدرك لعثمان وللمسلمين بثأرهم.
وحدثنا سيف، عن محمد، وطلحة، قالا: كان أول من أجاب إلى ذلك عبد الله بن عامر وبنو أمية، ثم قدم يعلى بن أمية ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف، فأناخ بالأبطح معسكراً، وقدم عليهم طلحة والزبير، فلقيا عائشة رضي الله عنها، فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: إنًا تحملنا هُراباً من المدينة من غوغاء وأعراب، وفارقنا قوماً حيارى لا يعرفون حقاً ولا ينكرون باطلاً، فائتمر القوم بالشام.
فقال عبد الله بن عامر: قد كفاكم الشام من يستمر في حوزته، فقال له طلحة والزبير: فأين؟ قال: البصرة، فإن لي بها صنائع، ولهم في طلحة هوى، فقالوا: يا أم المؤمنين، دعي المدينة واشخصي معنا إلى البصرة فتنهضيهم كما أنهضت أهل مكة، فإن أصلح الله الأمر كان الذي تريدين، وإلا احتسبنا ودفعنا عن هذا الأمر بجهدنا، قالت: نعم.
فانطلقوا إلى حفصة، فقالت: رأي تبعٌ لرأي عائشة، حتى إذا لم يبقَ إلا الخروج، قالوا: كيف نستقل وليس معنا مال نجهز به الناس؟ فقال يعلى بن أمية: معي ستمائة ألف وستمائة بعير فاركبوها، فقال ابن عامر: معي كذا وكذا فتجهزوا بها.
فنادى المنادي: إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة، فمن كان يريد إعزاز الإسلام وقتال المحلين والطلب بثأر عثمان ولم يكن عنده مركب، ولم يكن له جهاز فهذا جهاز وهذه نفقة، فحملوا ستمائة رجل على ستمائة ناقة سوى من كان له مركب - وكانوا جميعاً ألفاً - وتجهزوا بالمال، ونادوا بالرحيل، واستقلوا ذاهبين.
وأرادت حفصة الخروج، فأتاها عبد الله بن عمر فطلب إليها أن تقعد فقعدت، وبعثت إلى عائشة تقول: إِن عبد الله حال بيني وبين الخروج، فقالت: يغفر الله لعبد الله.


وخرج المغيرة بن شعبة، وسعيد بن العاص معهم مرحلة من مكة، فقال سعيد للمغيرة: ما الرأي؟ قال: الرأي والله الاعتزال؟ فإنهم ما يفلح أمرهم، فإن أظفره الله أتيناه فقلنا: كان صغونا معك، فجلسا.
وأخبرنا سيف، عن محمد بن قيس، عن الأغر، قال: لما اجتمع إلى مكة بنو أمية ويعلى بن أمية، وطلحة والزبير، ائتمروا أمرهم، واجتمع ملؤهم على الطلب بدم عثمان وقتال السبئية حتى يثأروا، وأمرتهم عائشة بالخروج إِلى المدينة، واجتمع القوم على البصرة وردوها عن رأيها، وأمرت على الصلاة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، فكان يصلي بهم.
وحدثنا سيف، عن سعيد بن عبد الله، عن، ابن أبي مليكة، قال: سمعت عائشة بخبر عثمان في الطريق، فرجعت فقالت: ألا إن عثمان عدت عليه الغوغاء، وضعف عنه أِصحابه، فقتلوه مظلوماً، وإن علياً رضي الله عنه بويع فلم يقو عليهم، ولا ينبغي له أن يقيم معهم، فاطلبوا بدم عثمان، فخرجت لتنهض الناس وترجع.
خروج علي رضي اللّه عنه إلى الربذة يريد البصرة وحدَثنا سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: جاء علياً الخبر عن طلحة والزبير وأم المؤمنين، فأمر على المدينة تمام بن العباس، وبعث إلى مكة قُثَم بن العباس، وخرج وهو يرجو أن يأخذهم بالطريق، فاستبان له بالربذة أن قد فاتوه.
وحدثنا سيف، عن محمد وطلحة، قالا: خرج عليّ رضي الله عنه على تعبيته التي تعبى بها إلى الشام، وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في تسعمائة رجل، وهو يرجو أن يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج.
وحدثنا سيف، عن خالد بن مهران البجلي، عن مروان بن عبد الرحمن الخُميسي، عن طارق بن شهاب، قال: خرجنا من الكوفة معتمرين حين أتانا قتل عثمان رضي الله عنه، فلما انتهيا إلى الربذة إذا الرفاق يحدو بعضهم بعضاً، فقلت: ما هذا؟ قالوا: أمير المؤمنين، فأتيته، فلما انصرف من الصلاة أتاه ابنه الحسن، فجلس فقال: قد أمرتك فعصيتني، فتقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك. قال علي رضي الله عنه: لا تزال تَخِنّ خنين الجارية، وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان رضي الله عنه أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى يأتيك وفود العرب وبيعة كل مصر، ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يدي غيرك، فعصيتني في ذلك كله، فقال: أي بني أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان؟ فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به. وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار؛ فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع هذا الأمر. أما قولك: حين خرج طلحة والزبير فإن ذلك كان وهناً على أهل الاسلام، ولا والله ما زلت مقهوراً مذ وليت، منقوصاً لا أصل إِلى شيء مما ينبغي. وأما قولك: اجلس في بيتك؛ فكيف لي بما قد لزمني، وإذا لم أنظر فيما قد لزمني من هذا الأمر فمن ينظر فيه. فكف يا بني.
وحدثنا سيف، عن سعيد بن عبد الله، عن ابن أبي مليكة، قال: قيل لعلي بالربذة، يا أمير المؤمنين، ما فكرتك في هذا الأمر، إن البصرة لفي يديك، وإن الكوفة لفي يديك، فقال: ويحكم ابتليت بثلاثة ما رمي بمثلهم أحد قط، ابتليت بفتى العرب وأجودهم طلحة، وبفارس العرب وأحربهم الزبير، وبأم المؤمنين أطوع الناس في الناس.
دخولهم البصرة والحرب بينهم وبين عثمان بن حنيف وحدثنا سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما كان الناس بفناء البصرة لقيهم عمير بن عبد الله التميمي، فقال: يا أم المؤمنين، أنشدك الله أن تقدمي اليوم على قوم لم تراسلي منهم أحداً، فأرسلت ابن عامر وكتبت إلى رجال من أهل البصرة وإلى الأحنف بن قيس، فدعا عثمان بن حنيف عمران بن الحصين وألزه بأبي الأسود الدؤلي، فقال: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها. فخرجا فانتهيا إليها، فاستأذنا فأذن لهما، فقالا: إن أميرنا بعثنا إليك يسألك عن مسيرك، فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم، إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه وانتهبوا، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا.


فخرجا من عندها فأتيا طلحة، فقالا: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان، قالا: ألم تبايع علياً؟ قال: بلى، واللج على عنقي، وما أستقيل علياً إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان، ثم أتيا الزبير فقالا له مثل ما قالا لطلحة، فقال مثل ذلك. فنادى عثمان بن حنيف في الناس وأمرهم بلبس السلاح، وقام رجل فقال للناس: يا أيها الناس، إن هؤلاء القوم إن كانوا جاءوا خائفين فقد جاءوا من المكان الذي يأمن به الطير، وإن كانوا جاءوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلة عثمان. أطيعوني، وردوهم. فقال الأسود بن سريع: إنما فزعوا إلينا ليستعينوا بنا على قتلة عثمان، فحصبه الناس.
فتكلم طلحة فدعا إلى الطلب بدم عثمان، فتحاصب الناس، فتكلمت عائشة وقالت: ينبغي أخذ قتلة عثمان، فتحاصب القوم.
وأقبل حكيم بن جبلة، فأنشب القتال، وأصحاب عائشة كافون إلا ما دافعوا عن أنفسهم، فغدا حكيم بن جبلة يُبَرْبر وفي يده الرمح، فقال له رجل من عبد القيس: من الذي تسب؟ قال: عائشة، قال: يا بن الخبيثة، ألأم المؤمنين تقول هذا، فوضع حكيم السنان بين ثدييه فقتله. ثم اقتتلوا قتالاً شديداً، ومنادي عائشة يناشدهم ويدعوهم إلى الكف فيأبون، فقالت عائشة: لا تقتلوا إلا من قاتلكم، ونادوا: من لم يكن من قتلة عثمان فليكفف عنا، فإنا لا نريد إلا قتلة عثمان، فأنشب حكيم القتال، فاقتتلوا أشد قتال.
وكانت الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخرة سنة ست وثلاثين.
فلما نزل علي رضي الله عنه على الثعلبية أتاه الخبر بما لقي عثمان بن حنيف ثم أتاه ما لقي حكيم بن جبلة، ولما انتهوا إلى ذي قار انتهى إليه فيها عثمان بن حنيف، وليس في وجهه شعرة. وأتاه الخبر بما لقيت ربيعة، وخروج عبد القيس، وخرج إِلى علي خلق كثير من أهل الكوفة، فدعا على القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة، وقال: الق هذين الرجلين فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظم عليهما الفرقة، فخرج القعقاع حتى أتى البصرة، فبدأ بعائشة فسلم عليها، فقال: أي أماه، ما أشخصك وما أقدمك على هذه البلدة؟ قالت: أي بني، إصلاح بين الناس، قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما، فبعثت إليهما، فجاءا، فقال: إني سألت أم المؤمنين ما أشخصها فقالت: الإصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما، أمتابعين أم مخالفين؟ قالا: متابعين، قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح، فوالله لئن عرفناه لنصلحن، ولئن أنكرناه لا يصلح، قالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن، وإن أعمل به كان إحياء للقرآن، فقال: قد قتلتما قتلة أمير المؤمنين من أهل البصرة، قتلتم ستمائة إلا رجلاً، قالت أم المؤمنين: فتقول أنت ماذا. قال: أقول إن هذا الأمر دواؤه التسكين، وإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير، ودَركٌ يثأر هذا الرجل، وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه، كانت علامة الشر، فكونوا مفاتيح الخير، فقالوا له: قد أحسنت فارجع، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر، فرجع إلى علي، فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، وأقبلت وفودَ اَلبصرة نحو عليّ.
وجاءت وفود تميم وبكر، فجمع علي الناس وقام، فذكر إنعام الله تعالى على هذه الأمة بالاجتماع إلى أن قال: ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا، وحسدوا من أفاءها الله عليه، ألا وإني راحل غداً، فارتحلوا، ولا يرتحلن أحد أعان على عثمان بشيء، وليُغْنِ السفهاء عني أنفسهم.
فاجتمع نفر، منهم عِلْباء بن الهيثم، وعدي بن حاتم، وسالم بن ثعلبة القيسي، وشريح بن أوفى بن ضبيعة، والأشتر، في عدة ممن سار إلى عثمان، ورضي مسير من سار، وجاء معهم المصريون: ابن السوداء، وخالد بن ملجم، وتشاوروا، فقالوا: ما الرأي؟ وهذا والله علي وهو أبصر الناس بكتاب الله، وأقرب ممن يطلب قتلة عثمان وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، فكيف به إذا شام القوم وشامّوه، ورأوا قتلنا، وقتلنا في كثرتهم، إياكم والله ترادون. فقال الأشتر: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم، ورأيُ الناس فينا واحد، وإن يصطلحوا على دمائنا فهلموا نتواثب على علي فنلحقه بعثمان؛ فتعود فتنة يُرضَى منا فيها بالسكوت. فقال عبد الله بن السوداء: بئس الرأي رأيت، نحن نحو


من ستمائة، وهذا ابن الحنظلية وأصحابه في خمسة آلاف بالأسواق، إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلاً.
وقال علباء بن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم ودعوهم وارجعوا، فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتقون به، وامتنعوا من الناس. قال ابن السوداء: بئس ما رأيت، ودّ والله الناس أنكم على جديلة ، ولم تكونوا مع أقوام براء، ولو كان الذي تقول لتخطفكم كل شيء. وقال ابن السوداء: إذا التقى الناس غداً فانشبوا القتال، ولا تدعوهم يفرغون للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع؛ فيشغل الله علياً وطلحة والزبير، ومن رأى رأيهم عما تكرهون فتفرقوا على مثل ذلك والناس لا يشعرون.
وأصبح عليّ رضي الله عنه على ظهر، فمضى ومضى الناس، وقام علي فخطبهم وقال: يا أيها الناس، كفوا أيديكم وألسنتكم عن هؤلاء القوم فإنهم إخوانكم، ومضى حتى أطل على القوم، فبعث إليهم حكيم بن سلامة، ومالك بن حبيب، فقال: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا وأقرونا ننزل وننظر في هذا الأمر، فقال له الأحنف بن قيس: إن قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم ستقتل رجالهم وتسبي نساءهم. فقال: ما مثلي يخاف هذا منه، وهل يحل هذا إلا ممن تولى وكفر، وهم قوم مسلمون، فهل أنت مغن عني قومك. قال: نعم، فاختر مني واحدة من اثنتين؛ إما أن آتيك فأكون معك بنفسي، وإما أن أكف عنك عشرة آلاف سيف.
فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود وارتحل حتى نزل بحذاء القوم والناس لا يشكون في الصلح، ومع عائشة ثلاثون ألفاً، ومع علي عشرون ألفاً، فلما نزل الناس واطمأنوا خرج علي وخرج طلحة والزبير، فتواقفوا، وتكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمراً هو أمثل من الصلح ووضع الحرب، فافترقوا عن موقفهم على ذلك، ورجع علي إلى عسكره، ورجع وطلحة والزبير إلى عسكرهما.
أمر القتالَ وبعث عليّ من العشي عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير، وبعثاهما من العشي محمد بن طلحة إلى عليّ، وأن يكلم كل واحد منهما أصحابه، فقالوا: نعم، فلما أمسوا، أرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه، ما خلا أولئك الذين هضبوا على عثمان، فباتوا على الصلح، وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية من الذي أشرفوا عليه، والنزوع عمَّا اشتهى الذين اشتهوا، وركبوا ما ركبوا، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط،، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السر، واستسروا بذلك خشية أن يفطن لهم، فغدوا مع الغلس، وما يشعر بهم أحد غير جيراِنهم، فخرج مُضَريهم إلى مضرِيِّهم، ورَبعيهم إلى رَبعيِّهم، ويمانيهم إلى يمانيهم، حتى وضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بهتوهم وخرج الزبير وطلحة فبعثا إلى الميمنة عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وثبتا في القلب، وقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً، فقالا: قد علمنا أن علياً غير منته حتى يسفك الدماء، ويستحل الحرمة، وإنه لن يطاوعنا، ثم رجعا بأهل البصرة.
فسمع علي وأهل الكوفة الصوت، وقد وضعوا رجلاً قريباً من عليّ ليخبره بما يريدون، فلما قال: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما فاجئنا إلا وقوم منهم قد بيتونا، فرددناهم من حيث جاءوا، فوجدنا القوم على رِجْل فركبونا، وثار الناس، وقال علي لصاحب ميمنته: ائت الميمنة، ولصاحب ميسرته ائت الميسرة، ولقد علمت أن طلحة والزبير غير منتهيين حتى يسفكا الدماء، ونادى عليً في الناس: كفوا، فكان رأيهم جميعاً ألا يقتتلوا حتى يبدءوا.
وأقبل كعب بن سعد حتى أتى عائشة رضي الله عنهما، فقال: أدركي، فقد أبى القوم إلا القتال، لعل الله يصلح بك. فركبت، وألبسوا هودجها الأدراع، ثم بعثوا جملها، فلما برزت - وكانت بحيث تسمع الغوغاء - وقفت، فقالت: ما هذا؟ قالوا: ضجة العسكر، قالت: بخير أم بشر؟ قالوا: بشر. قالت: وأي الفريقين كانت منهم هذه للضجة فهم المهزومون. فما فجئها إلا الهزيمة، فمضى الزبير في وجهه، فسلك وادي السباع، وجاء طلحة سهم غَرْب يخُل ركبتَه بصفحة الفرس، فلما امتلأ مَوْزَجه دماً وثقل قال لغلامه: ابغني مكاناً أنزل فيه، وتمثل بهذا يقول:


نَدمتُ نَدَامةَ الكُسَعِي لمَا ... شَرَبت رِضَا بني سَهْم برغمي
أطعتهم بفُرْقةِ آل لأي ... فَألْقوا للسباع دمي ولَحْمِي
واقتتل الناس وأقبلوا في هزيمتهم يريدون البصرة، فلما رأوا الجمل طافت به مضر، فقالت عائشة: خل يا كعب عن البعير وتقدم بكتاب الله عز وجل فادعهم إليه، ودفعت إليه مصحفاً. وأقبل القوم وأمامهم السبئية يخافون أن يجري الصلح، فاستقبلهم كعب بالمصحف، فرشقوه رشقا واحداً، فقتلوه، ثم رموا أم المؤمنين في هودجها، فجعلت تنادي: يا بَني البقية البقية - ويعلو صوتها - اذكروا الله والحساب، ويأبون إلا إقداماً، فقالت: أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم، فضجوا بالدعاء، فسمع علي، فقال: ما هذه الضجة؟ قالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعهم، فأقبل يدعو ويقول: اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم. وأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتاب وعبد الرحمن بن الحارث: اثبتا مكانكما، فاجتلدوا قدام الجمل، والمجنبتان على حالهما.
وكان القتال الأول يتسحر إلى انتصاف النهار، وأصيب فيه طلحة رضي الله عنه، وذهب فيه الزبير، فلما أووا إلى عائشة وأبى أهل الكوفة إلا القتال، ولم يريدوا إلا عائشة، اقتتلوا حتى تحاجزوا بعد الظهر، وذلك يوم الخميس في جمادى الآخرة، فاقتتلوا صدر النهار مع طلحة والزبير، وفي وسطه مع عائشة، وتزاحف الناس، فهزمت يمن البصرة يمن الكوفة، وربيعة البصرة ربيعة الكوفة، ونهد علي بمضر الكوفة إلى مضر البصرة.
واقتتلت المجنبتان حين تزاحفتا قتالاً يشبه ما فيه القَلْبان، وأقبل أهل اليمن على راية علي فقتل على راية علي من أهل الكوفة عشرة، كلما أخذها رجل قتل قيل: وكان العشرة خمسة من همذان وخمسة من سائر اليمن.
ولما رأت الكماة من مضر الكوفة ومضر البصرة الصبر جعلوا يتوخون الأطراف: الأيدي والأرجل، فما رُئيت وقعة قط قبلها ولا بعدها، ولا يسمع بها أكثر يداً مقطوعة ورجلاً مقطوعة، منها، لا يدرى من صاحبها.
فلما ظهر الخلل في العسكرين رموا الجمل، وقالوا: لا يزول القوم أو يصرع الجمل، وأزرت مجنبتا عليّ فصارت في القلب، وكانت أم المؤمنين في حلقة من أهل النجدات والبصائر، وكان لا يأخذ أحد بالزمام إلا كان كمن يحمل الراية، وكان لا يأخذه إلا معروف عند المُطيفين بالجمل، فإن القوم ليقتتلون عليه، وما رامه أحد من أصحاب علي إلا قتل أو أفلت، ثم لم يعد. ولما اختلط الناس بالقلب جاء عدي بن حاتم فحمل عليه، ففقئت عينه ونكل.
وحدثنا سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كان لا يجيء رجل فيأخذ بالزمام حتى يقول: أنا فلان بن فلان، فجاء عبد الله بن الزبير، فقالت: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن الزبير، فقالت: واثكْل أسماء. وانتهى إلى الجمل الأشتر، وعدي بن حاتم، فخرج عبد الله بن حكيم بن حزام إلى الأشتر، فاختلفا ضربتين، فقتله الأشتر، ومضى إليه عبد الله بن الزبير فضربه الأشتر على رأسه، فجرحه جرحاً شديداً، وضرب عبد الله الأشتر ضربة خفيفة، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، وخرا إلى الأرض يعتركان.
وحدثنا سيف، عن الصعب بن عطية، عن أبيه، قال: لا والله ما بقي من بني عامر يومئذ شيخ إلا أصيب قدام الجمل.
وحدثنا سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان من آخر من قاتل ذلك اليوم زُفَر بن الحارث، فزحف إليه القعقاع، وقال: يا بجير بن دُلجة، صِحْ بقومك فليعقروا الجمل قبل أن يصابوا وتصاب أم المؤمنين، فاجتث ساق البعير وأقطع بطانه وحملا الهودج فوضعاه.
وحدثنا سيف، عن الصعب، عن أبيه، قال: لما اختلط بالجمل وعقره بجير بن دلجة، قال عليّ رضي الله عنه:
إليك أشكو عُجَرِي وَبُجَرِي ... ومَعْشَراً غَشوْا عَليً بَصَري
قَتلتُ منهمْ مُضَراً بِمُضَرِي ... شَفَيْتُ نفسي وقتلتُ مَعشري
وكان رجل يومئذ يقول: يال مضر؟ علام يقتل بعضنا بعضَاً، فنادوا لا ندري إلا أنَا إلى قضاء.
وحدَثنا سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، قال: قال طلحة يومئذ: اللهم اعط عثمان مني حتى يرضى، فجاءه سهم غرب وهو واقف، فخلى ركبته بالسرج، فمضى به إلى دار من دور البصرة خربة، فمات فيها.
وحدثنا سيف، عن فطر بن خليفة، عن أبي بشير، قال: شهدت الجمل، فوالله ما سمعت دق القصارين إلا ذكرت يوم الجمل.


وحدثنا سيف، عن محمد بن راشد السلميَ، عن ميسرة أبي جميلة، أن محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر أتيا عائشة وقد عقر الجمل، فاحتملا الهودج، فنحياه، فقال عليّ: ادخلا بها البصرة، فأدخلاها دار عبد الله بن خلف الخزاعي.
وحدَّثنا سيف، عن محمد وطلحة، قالا: أمر علي نفراً بحمل الهودج من بين القتلى، وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير، فوضعاه إلى جنب البعير، فأقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه نفر، فأدخل يده فيه، فقالت: من هذا؟ قال: أخوك البر، قالت: عققت، فأبرزوها بهودجها من القتلى، فوضعوها ليس قربها أحد، وكأن هودجها فرخ مقصب مما فيه من النبل. وجاء أعين بن ضبيعة المجاشعي حتى اطلع في الهودج، فقالت: إليك لعنك الله، فقال: والله ما أرى إلا حُميْراء، قالت: هتك الله سترك، وقطع يدك، وأبدى عورتك. فقتل بالبصرة، وسلب، وقطعت يده، ورمي به عرياناً في خربة من خراب الأزد، فارتقى إليها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: أي أماه، يغفر الله لنا ولكم، قالت: غفر الله لنا ولكم....
وحدثنا سيف، عن الصعب بن حكيم بن شريك، عن أبيه، عن جده قال: انتهى محمد بن أبي بكر إلى الهودج ومعه عمار بن ياسر، فقطعا الأنساع عن الهودج واحتملاه، فلما وضعاه أدخل محمد يده، وقال: أخوك محمد، قالت: مذمم، قال: يا أخية، هل أصابك شيء؟ قالت: ما أنت من ذلك في شيء، قال: فمن إذن، ألضلال؟ قالت: بل الهداة. وانتهى إليها علي رضي الله عنه، وقال: كيف أنت يا أماه. قالت: بخير، قال: يغفر الله لك، قالت: ولك.
وحدثنا سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما كان من آخر الليل خرج محمد بعائشة حتى أدخلها البصرة، فأنزلها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية ابنة الحارث بن طلحة، وهي أم طلحة الطلَحات.
من انهزم يوم الجمل فاختفى ومضى في البلاد ومضى الزبير في صدر يوم الهزيمة راحلاً نحو المدينة وكر عليه ابن جرموز، فطعنه فدق صلبه وأخذ رأسه.
ودخلوا على عائشة، فقالت: والله لوودت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
ودخلوا على علي فقال: لوودت أني مت قبل هذا بعشرين سنة.
وبلغ قتلى يوم الجمل عشرة آلاف، نصفهم من أصحاب عليّ، ونصفهم من أصحاب عائشة، من الأزد ألفان، ومن سائر اليمن خمسمائة، ومن مضر ألفان وخمسمائة، وخمسمائة من تميم، وألف من بني ضبة، وخمسمائة من بكر بن وائل.
وقتل من أهل البصرة في المعركة الأولى خمسة آلاف، ولم ير يوم كان أكثر من يد مقطوعة، ورجل مقطوعة لا يدرى من صاحبها منه. وقتل من أهل البصرة يومئذ عشرة آلاف من أصحاب علي خمسة آلاف، وقتل من بني عدي يومئذ سبعون شيخاً كلهم قد قرأ القرآن، سوى الشباب ومن لم يقرأ القرآن.
دخول علي رضي اللّه عنه على عائشة رضي اللّه عنها ودخل عليّ البصرة يوم الاثنين، وانتهى إلى المسجد، فصلى فيه، فأتاه الناس، ثم راح إلى عائشة على بغلته، فلما انتهى إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي وهي أعظم دار بالبصرة، وجد النساء تبكين على عبد الله وعثمان ابني خلف، قتل أحدهما مع عليَ والآخر مع عائشة، وصفية بنت الحارث تبكي مختمرة، فلما رأته قالت: يا عليّ، يا قاتل الأحبة، يا مفرق الجماعة، أيتم الله بنيك منك كما أيتمت ولد عبد الله منه، فلم يرد عليها شيئاً.
فدخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها، وقال: جَبَهَتْنَا صفية، أما إني لم أرها منذ كانت جارية حتى اليوم.
بيعة أهل البصرة علياً وقسمة ما في بيت المال عليهم ثم بايعه أهل البصرة، ونظر في بيت مال البصرة فإذا به ستمائة ألف وزيادة، فقسمها على من شهد معه، فأصاب كل رجل منهم خمسمائة خمسمائة، وقال: لكم إن أظفركم الله بالشام مثلها إلى أعطياتكم، وخاض في ذلك السبئية، وطعنوا على علي رضي الله عنه من وراء وراء.
تجهيز علي رضي اللّه عنه عائشة رضي اللّه عنها من البصرة وجهز علي عائشة بكل شيء ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع، وأخرج معها كل من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وقال: تجهز يا محمد، فبلغها، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه، جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس، فخرجت وودعوها وودعتهم وقالت: الله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي على معتبتي لمن الأخيار.


وقال علي رضي الله عنه: يا أيها الناس، صدقت والله وبرَت، ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة.
وخرجت يوم السبت لغرة رجب سنة ست وثلاثين، وشيعها علي أميالاً، وسرح بنيه معها يوماً.
وقصدت عائشة مكة، فأقامت بمكة إلى الحج، ثم رجعت إلى المدينة، وانصرف مروان والأسود بن أبي البختري إلى المدينة، ورجع علي إلى منزله.
تأمير ابن عباس على البصرة وتولية زياد الخراج وأمر على البصرة ابن، العباس، وولى زياداً الخراج وبيت المال، وأمر ابن العباس أن يسمع منه، وارتحلت السبئيةبغير إذن علي، فارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمراً إِن كانوا أرادوه.
وعلم أهل المدينة بيوم الجمل يوم الخميس قبل مغرب الشمس من نَسْر مر بما حول المدينة، معه شيء متعلقة، فتأمله الناس فوقع، فإذا هو كف فيها خاتم نقشه " عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد " وجعل من بين مكة والمدينة ممن قرب من البصرة أو بعد، يعلمون بالوقعة مما ينقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام.
أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال حدثني أبي، قال: حدثنا حسين بن محمد، قال: حدثنا الفضل بن سليمان، قال: حدثنا محمد بن أبي يحيى، عن أبي أسماء مولى أبي جعفر، عن أبي رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: " إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر " ، قال أنا يا رسول الله، قال: نعم، قال: أنا، قال: نعم، قال: فأنا أشقاهم يا رسول الله، قال: " لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إِلى مأمنها " .
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الدقاق، قال: أخبرنا أحمد بن عثمان الآدمي، قال: حدثنا محمد بن سويد، قال: حدثنا سفيان بن محمد المصيصي، قال: حدثنا يوسف بن أسباط، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ما ذكرت عائشة مسيرها قط إلا بكت حتى تبل خمارها وتقول: " ليتني كنت نسياً منسياً " .
قال سفيان: النسي المنسي الحصاة الملقاة.
أخبرنا زاهر بن طاهر، قال: أخبرنا أحمد بن الحسين البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحاكم، قال: أخبرني ليث بن طاهر المنادي، قال: أخبرنا محمد ين يعقوب، قال: حدثنا محمد بن جعفر الرافعي، قال: حدثنا عبد الله بن خلاد، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر الرقي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ولم أكن خرجت على علي رضي الله عنه كان أحب إلي من أن يكون لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة كلهم مثل أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله الأنماطي، أخبرنا أبو حامد أحمد بن الحسين المروزي، أخبرنا أحمد بن الحارث بن محمد بن عبد الكريم، قال: حدثني جدي محمد بن عبد الكريم، حدَّثنا الهيثم بن عدي، أخبرنا الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن سليمان بن صرد، قال: لما فرغ عليّ من أمر الجمل قدمت عليه البصرة فقال: بويعت ورجعت عن نصرتك، وما كنت أعرفك به، وعنده الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقلت: لا تؤنبنا واستصف كدر قلوبنا، فإن السوط يطير وعمود حربك كما هو، وقد بقي من أمرك ما تعرف به الغاش من الناصح، قال: لا، ولكن وجدنا خزاعة أقل شيء شكراً، فقلت: قد نصحنا وشكرنا من هو خير منك، لله ولرسوله. ثم قمت فأتيت ولده الحسن، فقلت: لا وصلتك رحم، تسمع أمير المؤمنين يقول لي ما يقول ثم لا تعينني عليه، فقال أبا مطرف لا يهولنك الذي سمعت، فوالله الذي لا إله غيره، لقد رأيته يوم الجمل حيث أخذت السيوف مأخذها من جماجم الرجال يتغوث بي ويقول: يا حسن، وودت أن أباك هلك قبل اليوم بعشرين سنة.
ومن الحوادث في هذه السنة قتل محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة


وكان يحرض على عثمان، وهو الذي سير المصريين إليه، فلما خرج المصريون مع محمد بن أبي بكر أقام هو بمصر، وأخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وضبطها، فلم يزل مقيماً بها حتى قتل عثمان وبويع لعلي رضي الله عنه، فأظهر معاوية له الخلاف وتابعه على ذلك عمرو بن العاص، وسار معاوية وعمرو إلى محمد بن أبي حذيفة حتى خرج إلى عريش مصر في ألف رجل، فتحصن بها، وجاءه عمرو فنصب المنجنيق عليه حتى نزل في ثلاثين من أصحاب، فأخذوه وقتلوه، هذا قول الواقدي.
وأما هشام بن محمد، فإنه يزعم أن محمد بن أبي حذيفة قتل بعد قتل محمد بن أبي بكر، وانه لما دخل عمرو بن العاص إلى مصر بعث به إلى معاوية فحبسه، وكان ابن خال معاوية، وكان معاوية يحب أن يفلت فهرب من السجن، فقال معاوية: من يطلبه؟ فخرج عبد الله بن عمر الخثعمي، فوجده، فقتله وذلك في سنة ثمان وثلاثين.
فصل في إظهار معاوية الخلاف لعليّ
وفي سبب إظهار معاوية مخالفة علي رضي الله عنه، فإنه بلغه أن علياً رضي الله عنه، قال: لا أقره على عمله، فقال معاوية: والله لا ألي له شيئاً ولا أبايعه، ولا أقدم عليه، فبعث إليه جرير بن عبد الله البجلي يدعوه إلى الطاعة فأبى، فحينئذ عزم علي رضي الله عنه على الخروج إلى صفين.
وقال سهل بن سعد: دعا عليّ رضي الله عنه قيس بن سعد الأنصاري، فقال له: سر إلى مصر فقد وليتكها، فإذا أنت قدمتها فأحسن إلى المحسن، واشتد على المريب وارفق بالعامة والخاصة. فلما قدم أخذ البيعة لعلي رضي الله عنه، واستقامت له مصر، إلا أن قرية منها يقال لها: " خِربتا " فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان رضي الله عنه، وبها رجل يقال له: يزيد بن الحارث من بني مدلج. فبعث إلى قيس: أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس. فكتب معاوية إلى قيس بن سعد: سلام عليك، أما بعد، فإنكم كنتم نقمتم على عثمان في أثرةٍ رأيتموها، أو ضربة بسوط ضربها، فإنكم قد علمتم أن دمه لم يكن يحل لكم، فتب إلى الله يا قيس بن سعد، فإنك كنت من المجلبين على عثمان بن عفان، فأما صاحبك فقد استيقنا أنه الذي أغرى الناس به، وحملهم على قتله، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل، تابعنا على أمرنا، ولك سلطان العراق إذا ظهرت ما بقيت، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان. وسلني غير هذا مما تحب.
فلما جاءه كتاب معاوية أحب أن يدافعه، فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغي كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من قتل عثمان، وذلك أمر لم أفارقه، وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى الناس بعثمان، وهذا لم أطلع عليه، وأما ما سألتني من متابعتك وعرضت علي من الجزاء فيه فهذا أمر لي فيه نظر، ولن يأتيك شيء تكرهه.
فلما قرأ معاوية الكتاب كتب إليه: أما بعد، فإني لم أرك تدنو فأعدك سلماً، ولم أرك تباعد فاعدك حرباً، وليس مثلي ينخدع ومعه عدد الرجال، وبيده أعنة الخيل.
فلما قرأ كتاب معاوية، ورأى أنه لا يقبل منه المدافعة، كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فالعجب العجيب من اغترارك وطمعك في أن تسومني للخروج من طاعة أولى الناس بالإمارة، وأقولهم للحق، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني بالدخول في طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزور، وأضلهم سبيلاً، وقولك إني مالىء عليك مصر خيلاً ورَجْلاً ، فوالله لأشغلنك بنفسك حتى تكون نفسك أهم إليك، إنك لذو جَد، والسلام.
فلما أتى معاوية كتاب قيس أيس منه، وثقل عليه مكانه.
قال الزهري: كان معاوية وعمرو بن العاص جاهدين أن يخرجا قيساً من مصر ليغلبا عليها، وكان قد امتنع منها بالدهاء والمكايدة، فلم يقدرا عليه حتى كاد معاوية قيس بن سعد من قِبَل علي، فكان معاوية يقول: ما ابتدعت مكايدة قط كانت أعجب عندي من مكايدة كدت بها قيساً من قبل علي، فكتبت إلى أهل الشام: لا تسبوا قيساً فإنه لنا شيعة، تأتينا كتبه ونصيحته سراً. ألا ترونه يحسن إلى كل راكب منكم، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم من أهل خِرِبْتَا، يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم.


فبلغ ذلك علياً فاتهم قيساً وكتب إليه يأمره بقتال أهل خِرِبْتَا، وأهل خربتا يومئذ عشرة آلاف، فأبى وكتب إلى علي: إنهم وجوه أهل مصر، وقد رضوا مني أن أؤمن سربهم، وأجري عليهم أعطياتهم، وقد علمت أن هواهم مع معاوية، فأبى علي رضي الله عنه إِلا قتالهم، وأبى قيس أن يقاتلهم، وكتب إلى علي: إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك، وابعث عليه غيري، فبعث الأشتر إِلى مصر أميراً عليها حتى إذا صار بالقلزم سقي شربة عسل فيها سم كان فيها حتفه.
فلما بلغ علياً: وفاة الأشتر بالقلزم بعث محمد بن أبي بكر أميراً على مصر. هذا قول الزهري.
وقال هشام بن محمد: إنما بعث الأشتر بعد هلاك محمد بن أبي بكر، ولما جاء علياً مقتل محمد بن أبي بكر علم أن قيساً كان ينصحه فأطاعه في كل شيء.
قال علماء السير: وكان عليَ رضي الله عنه قد كتب عهد محمد بن أبي بكر لغرة رمضان، فلم يلبث محمد شهراً كاملاً حتى بعث إلى أولئك الذين كان قيس وادعهم، وقال: يا هؤلاء، إما أن تدخلوا في طاعتنا، وإما أن تخرجوا من بلادنا، فبعثوا إليه: دعنا حتى ننظر، فأبى وبعث إليهم رجلاً فقتلوه، ثم بعث آخر فقتلوه.
وفي هذه السنة قدم ماهَويهِ مِرْزبان مَرْو على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بعد الجمل مقراً بالصلح، فكتب له عليّ كتاباً إلى دهاقين مرو والأساورة بأنه قد رضي عنه. ثم إنهم كفروا بعد ذلك.
وفي هذه السنة بايع عمرو بن العاص معاوية ووافقه على محاربة علي رضي الله عنه وكان السبب أنه لما أحيط بعثمان خرج عمرو بن العاص من المدينة، وقال: من لم يستطع نصر هذا الرجل فليهرب، فسار وسار معه ابناه، فبينما هو في بعض الأماكن مر به راكب، فقال: ما الخبر؟ قال: تركت الرجل محصوراً، ثم مكثوا أياماً فمر بهم راكب، فقال: قتل عثمان وبويع لعلي.
فارتحل عمرو وابناه يبكي بكاء المرأة ويقول: واعثماناه، حتى نزل دمشق، وبلغه مسير طلحة والزبير وعائشة، فقال: استأنِ وانظر ما يصنعون، فأتاه الخبر بأن طلحة والزبير قتلا، فارتج عليه أمره، فقيل له: إن معاوية يحرض على الطلب بدم عثمان، فقال لابنيه: ما تريان؟ فقال عبد الله: أرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه، فقال محمد: أنت ناب من أنياب العرب، فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت ولا ذكر، فقال: أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في آخرتي، وأسلم لي في ديني. وأما أنت يا محمد فأمرتني بالذي هو أنبه لي في دنياي وشر لي في آخرتي.
ثم خرج عمرو حتى قدم على معاوية، فرأى أهل الشام يحضون معاوية على الطلب بدم عثمان، فقال: عمرو أنتم على الحق، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم - ومعاوية لا يلتفت إليه - فدخل إلى معاوية فقال له: والله إن أمرك لَعَجب، لا أراك تلتفت إلى هؤلاء، أما إن قاتلنا معك فإن في النفس ما فيها حتى نقاتل من تعلم فضله وقرابته، ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا، فصالحه معاوية بعد ذلك وعطف عليه.
وفي هذه السنة خروج علي بن أي طالب إلى صفين
خرج علىِّ رضي الله عنه فعسكر بالنخَيْلَة، وقدم عبد الله بن عباس ثم نهض معه البصرة إلى الكوفة، فتهيأ منها إلى صفين، واستشار الناس فأشار عليه قوم أن يبعث الجنود ويقيم، وأشار آخرون بالسير بنفسه، فأبى إلا المباشرة، فجهز الناس، فبلغ ذلك معاوية، فدعا عمرو بن العاص فاستشاره وقال: يا أبا عبد الله جهز الناس، فجاء عمرو فحض الناس، وضعف أمر علي، وقال: إن أهل البصرة مخالفون لعلي، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة، فالله الله في حقكم أن تضيعوه.
وكتب إِلى أجناد الشام، وعقد لابنيه عبد الله ومحمد لواء، ولواء لغلامه وردان، وعقد علي لغلامه قنبر ثم قال عمرو:
كل يُغْنِيَنْ وَرْدَانُ عَنْي قَنْبَرا ... وَتُغْنِيَ السكُون عني حِمْيَرَا
إذا الكُماةُ لَبِسُوا السنورا
فبلغ ذلك عليا، فقال:
لأصْبِحَنَّ العَاصِيَ ابنَ العاصِي ... سَبْعين ألْفاً عاقِدي النّواصِي
مجَنبِينَ الخَيْلَ بالقِلاص ... مُسْتَحْقِبينَ حَلَق الدٌلاص


وجعل معاوية يتأنى في أمره ومسيره، وبعث عليّ رضي الله عنه زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف، وبعث معه شريح بن هانىء في أربعة آلاف، وخرج علي من النخَيلة بمن معه، فلما دخل المدائن شخص معه من فيها من المقاتلة، ولما عبر الفرات قدم زياداً وشريحاً أمامه، فلقيهما أبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان في جند من أهل الشام، فأرسلا إلى علي يخبرانه، فبعث علي الأشتر إلى النضر وشريح وقال: إذا قدمت عليهم، فأنت أمير، عليهم، وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن يبدأوك حتى تدعوهم وتسمع قولهم، واجعل على ميمنتك زياداً وعلى ميسرتك شريحاً، وقف من أصحابك وسطا، فإني حثيت السير في أثرك إن شاء الله تعالى.
وكتب إليهما: إني قد أمرت عليكما مالكاً، فاسمعا له وأطيعا. وقدم الأشتر على القوم، وكف عن القتال حتى إذا كان المساء حمل عليهم أبو الأعور، فثبتوا له، واضطربوا له ساعة، ثم انصرف أهل الشام، ثم خرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة الزهري في خيل ورجال، فاقتتلوا يومهم ذلك، وحمل عليهم الأشتر فقتل عبد الله بن المنذر التنوخي، وحجز الليل بينهم، فلما أصبحوا انصرف أهل الشام تحت الليل، فقدم الأشتر بمن معه، ولحقه علي، فأمر الناس فوضعوا الأثقال وذهب شباب الناس يستقون الماء، فمنعهم أهل الشام فاقتتلوا على الماء، وكان معاوية قد اختار موضعاً سهلاً إلى جانب شريعة في الفرات، ليس ثمة غيرها، فجاء أصحاب علي فأخبروه بعطش الناس، وإنهم لم يجدوا غير شريعة القوم، فقال: قاتلوهم عليها، فقال الأشعث بن قيس: أنا أسير إليهم، فقال علي: سر.
فسار في أصحابه، فثاروا في وجوههم، فتراموا بالنبل، وتطاعنوا بالرمح، واجتلدوا بالسيوف، وأتى أهل الشام يزيد بن أسد البجلي مدداً، وخرج عمرو بن العاص في جند كثير يمد أبا الأعور ويزيد بن أسيد، وجاء الأشتر يمد الأشعث بن قيس، وشبث بن ربعي، فاشتد القتال، وأنشأ عبد الله بن عوف الأزدي مرتجزاً يقول:
خلوا لنا ماءَ الفُرات الجاري ... أو أثبُتوا لجحْفَل جَرار
لكلً قَوْمٍ مسْتميتٍ شاري ... مُطاعنٍ برُمْحِه كَرارِ
ضَرابِ هاماتِ العِدَا مِغوارِ
وأتى مملوك لبعض أهل العراق فملأ قربته فشد عليه رجل من أهل الشام فضربه فصرعه، ثم أن القوم خلوا عن الماء فاجتمعت سقاة الفريقين عليه، وبعث عليّ رضي الله عنه صعصعة فقال له: ائت معاوية وقل له: إنا سرنا إليك ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وانك قدمت خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، وبدأتنا بالقتال ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك، وهذه أخرى قد فعلتموها، قد حلتم بين الناس وبين الماء، فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء حتى ننظر فيما بيننا وبينكم، فإن كان أعجب إليك أن نترك ما جئنا له ونترك الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب.
فقال معاوية لأصحابه: ما ترون. فقال الوليد بن عقبة: امنعهم الماء كما منعوه عثمان بن عفان، حصروه أربعين صباحاً يمنعونه برد الماء ولين الطعام. وقال عمرو بن العاص: خل بينهم وبين الماء، فإن القوم لن يعطشوا وأنت ريان. وقال عبد الله بن أبي سَرْح: امنعهم الماء إلى، الليل، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا، وكان رجوعهم فَلاً لهم. فقال صعصعة: إنما يمنعه الله عز وجل يوم القيامة الكفرة الفسقة أولي الفجور وشربة الخمور، فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهددونه، فقال معاوية: كفوا عن الرجل فإنه رسول.
ثم بعث من يردهم عن الماء، فأبرزهم عليً إلى القتال فاقتتلوا، فغلب أصحاب عّلي رضي الله عنه على الماء، فقال علي رضي الله عنه: خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا، وخلوا عنهم، ففعلوا.
دعاء علي معاوية إلى الطاعة والجماعة


ومكث علي يومين لا يرسل إلى معاوية ولا يرسل إليه معاوية، ثم أرسل إليه علي رسولاً يدعوه إلى الله وإلى الطاعة، فأتاه فقال: إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإن الله جازيك بما قدمت يداك، وإننا ننشدك الله أن تفرق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءها بينها، فقال للمتكلم: هلا أوصيت صاحبك بذلك؟ فقال: إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال معاوية: ونُطل دم عثمان، لا والله لا أفعل ذلك أبداً.
فاقتتلوا شهر ذي الحجة جميعه، وربما اقتتلوا في اليوم مرتين.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب بأمر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر أسلم مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ويكنى أبا رافع: وكان مملوكاً للعباس، فوهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجر بعد بدر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد أحداً والمشاهد بعدها، وزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمى مولاته.
وتوفي بعد قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
حذيفة بن اليمان - واليمان لقب - وإسمه حِسْل - ويقال: حُسَيْلُ - بن جابر بن ربيعة بن عمرو بن جروة، ويكنى أبا عبد الله، ويقال أن جروة هو اليمان: خرج حذيفة هو وأبوه فأخذهما كفار قريش، وقالوا: إنكما تريدان محمداً، فقالا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منهما عهداً ألا يقاتلا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ينصرفا إلى المدينة، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه وقالا: إن شئت قاتلنا معك، قال: بلى نفي لهم نستعين الله عليهم، ففاتهما بدرُ، وشهد حذيفة أحداً وما بعدها.
وكان حذيفة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقربه منه وثقته به، وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين الذين بخسوا بعيره ليلة العقبة بتبوك، وكانوا اثني عشر كلهم من الأنصار ومن حلفائهم، وكان حذيفة يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وأنا أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.
وولاه عمر بن الخطاب المدائن، فأقام بها إلى حين وفاته.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، قال: حدَّثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا بعث أميراً كتب إليهم: إني قد بعثت إليكم فلاناً وأمرته بكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوا، فلما بعث حذيفة كتب إليهم: إني قد بعثت إليكم فلاناً فأطيعوه، فقالوا: هذا رجل له شأن، فركبوا ليلتقوه، فلقوه على بغل تحته اكاف وهو معترض عليه رجلاه من جانب واحد، فلم يعرفوه فأجازوه، فلقيهم الناس، فقالوا: أين الأمير؟ قالوا: هو الذي لقيكم. قال: فركضوا في أثره، فأدركوه وفي يده رغيف وفي الأخرى عرق وهو يأكل، فسلموا عليه، فنظر إلى عظيم منهم فناوله العرق والرغيف. قال: فلما غفل ألقاه أو أعطاه لخادمه.
وروى هذا الحديث سلام بن مسكين، عن ابن سيرين، فقال فيه: لما قدم حذيفة المدائن استقبله الناس والدهاقين وبيده رغيف وعرق من لحم وهو على حمار على أكاف، فقرأ عهده عليهم فقالوا: سلنا ما شئت، قال: أسألكم طعاماً آكله، وعليقاً لحماري هذا ما دمت فيكم، فأقام ما شاء الله، ثم كتب إليه عمر أن أقدم، فلما بلغ قدومه عمر كمن له في الطريق في مكان لا يراه، فلما رآه عمر على الحال التي خرج من عنده عليها، أتاه فالتزمه وقال: أنت أخي وأنا أخوك.
أخبرنا عبد الوهاب الأنماطي، أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، أخبرنا علي بن أحمد الملطي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، أخبرنا ابن صفوان حدثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أسود بن عامر، عن شريك، عن الأعمش، قال: بكى حذيفة في صلاته، فلما فرغ التفت فإذا رحل خلفه، فقال: لا تعلمن هذا أحد اً.


أخبرنا محمد بن أبي القاسم، أخبرنا أحمد بن أحمد بن عبد الله الأصبهاني، أخبرنا عبد الرحمن بن العباس، أخبرنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، أخبرنا محمد بن يزيد الآدمي، حدثنا يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن كثير، عن زياد مولى ابن عباس، قال: حدًثني من دخل على حذيفة في مرضه الذي مات فيه، فقال: لولا أني أرى هذا اليوم آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة لم أتكلم به، اللهم إنك تعلم إني كنت أحب الفقر على الغنا، وأحب الذلة على العز، وأحب الموت على الحياة، حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، ثم مات رحمه الله. أخبرنا القزاز، قال أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا الحسن بن أبي بكر، أخبرنا عبد الله بن إسحاق البغوي، أخبرنا يحيى بن أبي طالب، أخبرنا علي بن أبي عاصم، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن أبي وائل، عن خالد بن ربيع العبسي، قال: سمعنا بوجع حذيفة فركب إليه أبو مسعود الأنصاري في نفر أنا فيهم إلى المدائن، فأتيناه في بعض الليل، فقال: هل جئتمٍ بأكفاني؟ قلنا: نعم، قال: فلا تغالوا بكفني، فإن يكن لصاحبكم عند الله خير يبدل خيراً من كسوتكم وإلا يسلب سلباً سريعاً، ثم ذكر عثمان، فقال: اللهم لم أشهد، ولم أقتل، ولم أرض.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أخبرنا ابن الفضل، قال: حدثنا ابن درستويّه، قال: حدثنا يعقوب، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: حدثنا سعيد بن أوس، عن بلال بن يحيى، قال: عاش حذيفة بعد قتل عثمان أربعين ليلة.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب قال: أخبرنا ابن بشران، قال: أخبرنا الحسين بن صفوان، قال: حدثنا القرشي، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: مات حذيفة سنة ست وثلاثين. اجتمع على ذلك الواقدي، والهيثم بن عدي.
الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وأمه صفية بنت عبد المطلب، ويكنى أبا عبد الله: أسلم بعد أبي بكر، وكان رابعاً أو خامساً، وهو يومئذ ابن ست عشرة سنة، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعاً، ولم يتخلف عن غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلاً ليس بالطويل ولا بالقصير، إلى الخفة ما هو في اللحم، خفيف اللحية، أسمر اللون، أشعر، وله من الولد أحد عشر ذكراً، وتسع نسوة: عبد الله، ومصعب، وعروة، والمنذر، وعاصم، والمهاجر، وخديجة الكبرى، وأم الحسن، وعائشة، وأمهم أسماء بنت أبي بكر. وخالد، وعمرو، وحبيبة، وسودة، وهند؛ وأمهم أم خالد، وهي بنت خالد بن سعيد بن العاص. ومصعب، وحمزة ورملة وأمهم أم الرباب بنت أنيف. وعبيدة، وجعفر؛ وأمهما زينب بنت مرثد. وزينب؛ وأمها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. وخديجة الصغرى، وأمها الحلال بنت قيس.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: حدثني همام، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كانت على الزبير رَيْطَة صفراء مُعْتجراً بها يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكة نزلت من السماء على سيماء الزبير " .
قال محمد بن سعد: وأخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يأتيني بخبر القوم؟ يوم الأحزاب، فقال الزبير: أنا، قال: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا، قال: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن لكل نبي حوارياً، وإن حواري الزبير " .
قال ابن سعد: وأخبرنا عفان، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لأبي يوم الأحزاب: قد رأيتك يا أبه تحمل على فرس لك أشقر، قال: قد رأيتني أي بني. قلت: نعم، قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع لي أبويه يقول: فداك أبي وأمي " .
قال ابن سعد: وأخبرنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، قال:


لما وقف الزبير يوم الجمل في دعاني فقمت إلى جنبه، فقال: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلوماً، وإن من أكبر همي لديني، أفترى ديننا يبقي من مالنا شيئأ؟ ثم قال: يا بني بع واقض ديني وأوص بالثلث، فإن فضل من مالنا من بعد قضاء الدين شيء فثلثه لولدك. وله يومئذ تسع بنات، قال: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عن شيئ منه فاستعن عليه مولاي. قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبه قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه، فيقضيه.
قال: وقتل الزبير ولم يدع ديناراً ولا درهماً إلا أرضين فيهما الغابة، وإحدى عشرة داراً بالمدينة، ودارين بالبصرة، وداراً بالكوفة، وداراً بمصر.
قال: وإنما كان دينه الذي كان عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكن هو سلف، إني أخشى عليه الضيعة، وما ولي إمارة قط ولا جباية ولا خراجاً ولا شيئاً إلا أن يكون في غزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
قال عبد الله بن الزبير: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير، فقال: يا ابن أخي كم على أخي من الدين؟ فكتمته وقلت مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تتسع لهذه، فقال: أفرأيتك إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي، وكان الزبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بن الزبير بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقال: من كان له على الزبير شيء فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد الله بن جعفر - وكان له على الزبير أربعمائة ألف - فقال لعبد الله بن الزبير: إن شئتم تركتها لكم وإن شئتم فأخروها فيما تؤخرون، إن أخرتم شيئاً، فقال عبد الله بن الزبير: لا، قال: فاقطعوا لي قطعة، فقال له عبد الله: لك من ها هنا إلى ها هنا، قال: فباعه منها بقضاء دينه، فأوفاه وبقي منها أربعة أسهم ونصف.
قال: فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن زمعة، قال: فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم مائة ألف، قال: كم بقي. قال: أربعة أسهم ونصف، قال: فقال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهماً بمائة ألف، وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهماً بمائة ألف، وقال ابن زمعة: قد أخذت سهماً بمائة ألف، فقال معاوية: فكم بقي؟ قال: سهم ونصف، قال: أخذته بخمسين ومائة ألف.
قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف، فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه، قال بنو الزبير: أقسم بيننا ميراثنا، قال: لا والله لا أقسم بينكم ميراثكم حتى أنادي في الموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه. قال: فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضت أربع سنين قسم بينهم.
قال: وكان للزبير أربع نسوة، قال: وربع الثمن فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائة ألف. قال: فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف.
قال علماء السير: حضر الزبير يوم الجمل، ثم بدا له أن يقاتل فركب فرسه وانطلق يريد المدينة فلحقه قوم فقاتلوه، وحمل عليه عمرو بن جرموز فطعنه فأثبته فوقع فاعتوروه وأخذوا سيفه، وأخذ ابن جرموز رأسه فحمله إلى علي وأتى بسيفه فأخفه علي رضي الله عنه، وقال: سيف والله طال ما جلا به عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرب. وقال: بشر قاتل ابن صفية بالنار، وجلس يبكي عليه هو أصحابه، وقال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله: " ونزعنا ما في صدورهم من غل " .
ودفن الزبير بوادي السباع، وكانت عنده عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكان أهل المدينة يقولون: من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة، لأنها كانت عند عبد الله بن أبي بكر، فقتل عنها، ثم كانت عند عمر بن الخطاب فقتل عنها، ثم عند الزبير فقتل عنها وهو ابن أربع وستين سنة.
زيد بن صوحان بن حجر بن الهجرس، يكنى أبا عائشة، وأبا عبد الله: سمع عمر وعلياً رضي الله عنهما. وكان يصوم بالنهار ويقوم الليل.


أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا محمد بن الحسين القطان، قال أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال أخبرنا أحمد بن الخليل البرجلاني أبو النصر، قال: أخبرنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، قال: كان زيد بن صوحان يقوم الليل ويصوم النهار، فإذا كانت ليلة الحمعة أحياها، فإنه كان ليكرهها إذا جاءت، مما كان يلقى فيها، فبلغ سلمان ما كان يصنع، فأتاه فقال: أين زيد؟ قالت امرأته: ليس ها هنا، قال: فإني أقسم عليك لما صنعت طعاماً ولبست محاسن ثيابك، ثم بعثت إلى زيد، فجاء زيد وقرب الطعام، فقال سلمان: كل يا زيد، فقال: إني صائم، قال: كل يا زيد لا تنقص دينك، إن شر السير الحقحقة، إن لعينك عليك حقاً، وإن لبدنك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، كل يا زيد، فأكل، وترك ما يصنع.
قتل زيد يوم الجمل، فقال: ادفنوني في ثيابي، فإني مخاصم، ولا تغسلوا عني دماً، ولا تنزعوا عني ثوباً.
طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن تيم بن مرة، يكنى أبا محمد: وأمه الصعبة بنت عمار الحضرمي وأمها عاتكة بنت وهب بن قصي بن كْلاب. وكان وهب صاحب الرفادة دون قريش كلها.
وكان لطلحة من الولد محمد، وهو السجاد، وبه كان يكنى، قتل معه يوم الجمل، وعمران؛ وأمهما حمنة بنت جحش. وموسى، وأمه خولة بنت القعقاع بن معبد، وكان يقال للقعقاع تيار الفرات من سخائه. ويعقوب وكان جواداً قتل يوم الحرة، وإسماعيل، وإسحاق؛ وأمهم أم أبان بنت عقبة بن ربيعة. وزكريا، ويوسف، وعائشة، أمهم أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق. وعيسى ويحيى، وأمهما سعدى بنت عوف. وأم إسحاق تزوجها الحسن بن علي، فولدت له طلحة ثم توفي عنها، فخلف عليها الحسين بن علي فولدت له فاطمة، والصعبة، ومريم، وصالح الأمهات.
وكان طلحة آدم كثير الشعر ليس بالجعد القطط، ولا بالسبط، حسن الوجه، دقيق القرنين لا يغير شعره.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدَّثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، قال: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بُصْرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: فقلت: نعم أنا، فقال: هل ظهر أحمد بعد. قال: قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه، قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعاً حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبأ وقد تبعه ابن أبي قحافة. قال: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر، فقلت: اتبعت هذا الرجل. قال: نعم، فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق، فأخبره طلحة بما قال الراهب، فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الراهب، فسُر َرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
فلما أسلم أبو بكر وطلحة بن عبيد الله أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم، وكان نوفل بن خويلد يدعى أسد قريش، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين.
قال علماء السير: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين طلحة وسعيد بن زيد، وبعثهما رسول صلى الله عليه وسلم يتحسسان خبر العير، فخرجا ففاتتمهما بدر، فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهامهما وأجورهما، فكانا كمن شهدها.
وشهد طلحة أحداً، وثبت يومئذ حين ولى الناس، ورمى مالك بن زهير يوم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتقى طلحة بيده عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابت خنصره فشلت إصبعاه، وجرح يومئذ أربعاً وعشرين جراحة، وقع منها في رأسه شجه، فلما كسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج في وجهه احتمله طلحة ورجع به القهقرى، كلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوجب طلحة " .


أخبرنا محمد بن عبد الباقي، أخبرنا الجوهري، أخبرنا ابن حيوية، أخبرنا أحمد بن معروف، أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: أخبرنا، محمد بن سعد، أخبرنا الفضل بن دكين، عن سفيان بن عيينة، عن طلحة بن يحيى، قال: حدثتني جدتي سعدى ابنة عوف المرية، قالت: دخلت على طلحة ذات يوم، فقلت: مالي أراك مهموماً؟ قال: عندي مال قد أهمني، فقسمته. فسألتها: كم كان المال؟ قالت: أربعمائة ألف.
قال ابن سعد: وأخبرنا روح، قال حدَّثنا هشام بن عروة، عن الحسن، أن طلحة باع أرضاً له من عثمان بن عفان بسبعمائة ألف، فحملها إليه، فلما جاء بها، قال: إن رجلا يبيت هذه عندي في بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله الغرير بالله، فبات ورسله تختلف بها في سكك المدينة حتى أسحر وما عنده منها درهم. حضر طلحة يوم الجمل، فرماه مروان بن الحكم فأصاب ساقه، فلم يزل ينزف الدم، فقال: اللهم خذ لعثمان مني حتى يرضى، فمات وهو ابن أربع وستين سنة. وقيل: اثنتين وستين.
وترك طلحة من العين ألفي ألف درهم ومائتي ألف دينار، وترك عروضاً كثيرة، وقومت أصوله وعقاره ثمانين ألف ألف درهم.
وقال عمرو بن العاص: حدثت أن طلحة ترك مائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير ذهب. وسمعت أن البهار جلد ثور.
توفي يوم الجمل على ما سبق شرحه.
عبد الله بن بديل بن ورقاء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى أهل اليمن، وشهد مع علي رضي الله عنه صفين، وقتل هناك.
عبد الرحمن بن عُديس البلوي: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. وروى عنه عليه السلام.
وشهد فتح مصر، واختط بها، وكان رئيس الخيل التي سارت من مصر إلى عثمان، وقتل بفلسطين في هذه السنة، كان قد سجن فهرب فأدركه فارس، فقال له: اتق الله في دمي فإني من أصحاب الشجرة، فقال: الشجر في الجبل كثير، فقتله.
عمرو بن أبي عمرو بن ضبة، أبو شداد: شهد بدراً وتوفي في هذه السنة.
قدامة بن مظعون بن حبيب، أبو عمر: هاجر إِلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وشهد أحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتوفي في هذه السنة وهو ابن ثمان وستين سنة.
كعب بن سور بن بكر بن عبد اللّه بن ثعلبة الأزدي: ولاه عمر قضاء البصرة، وكان سبب توليته إياه ما أخبرنا به أبو الفضل بن ناصر، قال: أخبرنا ثابت بن بندار، وأحمد بن علي بن سوار، ومحمد بن عبد الله الباقر، قالوا: حدثنا محمد بن عبد الواحد بن رزمة، قال: أخبرنا أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي، قال: حدَّثني محمد بن منصور بن يزيد، قال: حدًثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني إبراهيم الحزامي، عن محمد بن معن الغفاري، قال: أتت امرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله تعالى، فقال لها: نعم الزوج زوجك، فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب، فقال له كعب الأزدي: يا أمير المؤمنين، هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه، قال له عمر: كما فهمت كلامها فاقض بينهما، فقال كعب: علي بزوجها، فأتي به، فقال له: امرأتك هذه تشكوك، قال: أفي طعام أو شراب، قالت المرأة ترتجز:
يا أيها القاضي الحكيم رَشَدُه ... ألْهَى خليلي عن فراشي مَسجده
زهدَهُ في مضجعي تَعَبُده ... نهاره وليله ما يرقده
فلستُ في أمر النساء أحْمَده ... اقض القضاء يا كعب لا تردده
فقال زوجها:
أزهدني في فرشها وفي الحجل ... أني امرؤ أذهلني ما قد نزل
في سورة النحل وفي السبع الطول ... وفي كتاب الله تخويف جلل
فقال كعب:
إن لها عليك حقاً يا رجل ... تصيبها في أربع لمن عقل
فاعطهت ذاك ودع عنك العلل
ثم قال: إن الله قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك، ولها يوم وليلة، فقال عمر: والله ما أدري من أي أمر بك أعجب، أمن فهمك أمرهما أم من حكمك؟ إذهب فقد وليتك قضاء البصرة.


قال علماء السير: فلما قدم طلحة والزبير وعائشة يرجي الله عنهمٍ البصرة دخل كعب إلى بيت وطين عليه، وجعل فيه كوة يتناول منها طعامه وشرابه اعتزالا للفتنة، فقيل لعائشة: إن كعب بن سور إن خرج معك لم يتخلف من الأزد أحد، فركبت إليه فنادته فلم يجبها، فقالت: يا كعب ألست أمك ولي وعليك حق، فكلمها، فقالت: إنما أريد أن أصلح بين الناس، فخرج فأخذ المصحف فنشره ومشى بين الصفين يدعوهم إلى ما فيه، فجاءه سهم غرب فقتله. وكان خيراً صالحاً وليس له حديث.
هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وهو المعروف بالمر: قال: وهو أخو نافع بن عتبة، وابن أخي سعد بن أبي وقاص. أسلم يوم فتح مكة، وحضر مع عمه سعد حرب الفرس بالقادسية، فلما هزم الله العدو، ورجعوا إلى المدائن اتبعهم سعد والمسلمون، فدل علج من أهل المدائن سعداً على مخاضة، فخاضوا وأتوا المدائن فحاصروها وهاشم فيهم. وقتل بصفين مع علي رضي الله عنه.
ثم دخلت
سنة سبع وثلاثين
فمن الحوادث فيها
وقعة صفين
وذلك أن علياً رضي الله عنه ومعاوية توادعا على ترك الحرب في شهر المحرم طمعاً في الصلح، واختلفت بينهما الرسل، فلم تنفع.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا محمد بن أحمد المقدمي، قال: أخبرنا إبراهيم بن عبد الرحيم، قال: أخبرنا أبو معمر، قال: حدَّثنا أبو أسامة، عن يزيد بن مردانية، قال: حدَّثني آخي سعيد بن مردانية، قال: أخبرنا عمرو بن حريث، قال: قال عدي بن حاتم الطائي: كنا بصفين في يوم حار مع علي رضي الله عنه، فقصدته وهو في سبعمائة من ربيعة، فقلت له: ألا تروح إلى القوم، فأما لنا وأما علينا، فسكت فلم يجبني، فقلت: ما لي أراك مخيماً، ألا تروح إلى القوم فأما لنا وأما علينا، فقال: ادن منا يا ابن حاتم، فتخطيت الناس إليه حتى وضعت يدي على ركبته، فقال لي: يا عدي، إن معاوية مع قوم يطيعونه، وأنا مع قوم يعصوني، فأما الذين معي فأشد مكايدة من الذين مع معاوية، فعذرته ورحمته رحمة شديدة ما رحمت أحداً مثلها قط.
قال علماء السير: فتناهدوا عند انسلاخ المحرم، وبات علي رضي الله عنه عنه يعبي الكتائب، ويقول: لا تقاتلوهم إلا أن يبدأوكم، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم.
وبعث على خيل أهل الكوفة الأشتر، وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالة أهل الكوفة عمار بن ياسر، وعلى رجالة أهل البصرة قيس بن سعد وهاشم بن عتبة مع ابنه.
وبعث معاوية على ميمنته ابن ذي الكلاع الحميري، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى مقدمته أبو الأعور السلمي، وكان على خيول الشام كلها عمرو بن العاص، ومسلمة بن عقبة على رجالة أهل دمشق، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلهم. وبايع رجال من أهل الشام على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم وكانوا خمسة صفوف.
ثم اقتتلوا فكانوا يتبارزون، التقوا جميعاً في بعض الأيام، لا ينصرف بعضهم عن بعض إلا إلى الصلاة، وكثرت القتلى بينهم، ثم تحاجزوا عند الليل، ثم أصبحوا على القتال، وكان عليّ رضي الله عنه يتقدم حتى أن النبل لتمر بين عاتقه ومنكبه، وكان معاوية يقول: أردت أن أنهزم، فذكرت قول ابن الإطنابة، والإطنابة امرأة من بَلْقِيْن وهو:
أبتْ لي عِفّتي وحَياء نَفْسي ... وإقدامي على البَطَل المُشيح
وإعطائي على المَكْروهِ مالي ... وأخذي الحَمْدَ بالثمَنِ الربيح
وقَوْلي كُلًما جَشَأت وجاشَتْ ... مكانَكِ تُحْمدي أو تستريحي
فيمنعني هذا القول من الفرار.
وكان عمار يقول: والله لو ضربونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أنا على الحق وهم على الباطل. وكان يصيح بعمرو بن العاص: يا عمرو، بعت دينك بمصر تباً لك تباً طالما بغيت في الإسلامٍ عوجاً. ثم قال لأصحابه: لقد قاتلت صاحب هذه الراية - يعني عمرو بن العاص - ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الرابعة.


وكان عليَ رضي الله عنه يحمل ويضرب حتى ينثني سيفه، فقتل عمار، فقال عبد الله بن عمرو لأبيه: يا أبه، قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ويحك تقتلك الفئة الباغية " فقال عمرو: أتسمع ما يقول عبد الله، فقال معاوية: إنك شيخ أخرق، ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض في بولك، أو نحن قتلنا عماراً، إنما قتل عماراً من جاء به.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، أخبرنا الجوهري، أخبرنا ابن حيوية، أخبرنا ابن معروف، أخبرنا الحسين بن الفهم، أخبرنا محمد بن سعد، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: إني لأسير مع معاوية في منصرفه عن صفين بينه وبين عمرو بن العاص، فقال عبد الله بن عمرو: يا أبه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " ويحك يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية " فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع مايقول هذا؟ قال: فقال معاوية: ما تزال تأتينا بهنة تدحض بها في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به.
قال علماء السير: ولما قتل عمار حمل عليّ رضي الله عنه وأصحابه، فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض، وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية، وعلي رضي الله عنه يقول:
أضْرِبُهُمْ ولا أرى معاويَهْ ... الجاحِظَ العَيْنِ العظيمَ الحَاوِيَهْ
ثم نادى علي: يا معاوية، علام يقتل الناس بيننا، هلم أحاكمك إلى الله، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور، فقال له عمرو: أنصفك الرجل، فقال معاوية: إنك تعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله، قال له عمرو: ما يجمل بك إلا مبارزنه، فقال معاوية: طمعت فيها بعدي.
ثم اقتتل الناس ليلة إلى الصباح، وهي ليلة الهرير، حتى تقصفت الرماح، ونفذ النبل، وصار الناس إلى السيوف، وأقبل علي رضي الله عنه يسير في الناس ويحرض، والأشتر في ميمنته، وابن عباس في الميسرة، وعلي في القلب، والناس يقتتلون من كل جانب.
أنبأنا عبد الوهاب الحافظ، أخبرنا عاصم بن الحسين، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا عثمان بن أحمد، أخبرنا أبو الحسن بن البراء، قال: لما ولي علي رضي الله عنه أقام بالمدينة أربعة أشهر، ثم خرج إلى البصرة، وكانت وقعة الجمل في سنة ست وثلاثين، ثم رجع علي إلى الكوفة، ثم سار إلى صفين، وكانت الحرب سنتين، وقتل بصفين سبعون ألفاً: خمسة وأربعون ألفاً من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفاً من أهل العراق، منهم خمسة وعشرون بدرياً. وكان المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام، وكان فيه تسعون وقعة، وفي سنة ثمان وثلاثين التقى الحكمان.
أخبرنا الحافظ بن عبد الوهاب وابن ناصر قالا: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، أخبرنا ابن حيويه، خبرنا أبو بكر بن الأنباري، أخبرنا محمد بن أحمد المقدمي، أخبرنا أحمد بن سعد الزهري، أخبرنا إسحاق بن أبي إسرائيل، أخبرنا حماد بن زيد، عن هشام عن محمد بن سيرين، قال: قتل يوم صفين سبعون ألفاً، ما عرفت عدتهم إلا بالقصب، كان يوضع على كل قتيل قصبة.
فصل
فلما رأى عمرو بن العاص أن أمر العراق قد اشتد وخاف الهلاك، قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعاً، ولا يزيدهم إلا فرقة، قال: نعم قال: نرفع المصاحف ثم نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم فإن أبى بعضهم أن يقبل، وقال بعضهم: بل نقبل، فتكون فرقة تقع بينهم، وإن قالوا: نقبل، رفعنا هذا القتال إلى أجل.
فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا كتاب الله بيننا وبينكم، من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام، ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق. فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت، قالوا: نجيب إلى كتاب الله ونثيب إليه، فقال علي رضي الله عنه: ما رفعوها إلا خديعة، فقالوا له: ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله، فقال: إني إنما أقاتلهم بحكم الكتاب، فقال له مسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي، أجب إِلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا ندفعك برمتك إلى القوم، أو نفعل ما فعلنا بابن عفان إنه أبى علينا أن نعمل بما في كتاب الله فقتلناه، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك. قال: أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم، قالوا: فابعث إلى الأشتر فليأتك.


فأرسل إليه، فقال للرسول: إني قد رجوت أن يفتح الله لي فلا تعجلني. فارتفع الرهج من قبل الأشتر، فقال القوم: ما نراك أمرته إلا بالقتال، فقال: هل رأيتموني ساررته؟ قالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا اعتزلناك فبعث إليه: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت. فلما بلغه ذلك، قال: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم، قال: أما والله لقد ظننت حين رفعت أنها ستوقع اختلافاً وفرقة، فقال له الرسول: أتحب أن تظفرها هنا وتسلم أمير المؤمنين إلى عدوه؟ فأقبل حتى انتهى إليهم، فقال: يا أهل العراق، يا أهل الذل والوهن، أحين قهرتم القوم رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، أمهلوني فإني قد رأيت النصر، فقالوا: إذاً ندخل معك في خطيئتك، فقال: خدعتم والله فانخدعتم، فسبوه وسبهم. وقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكماً.
فقال الأشعث: يا معاوية، لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ قال: لنرجع إلى أمر الله به، تبعثون رجلاً ترضون به، ونبعث منا رجلاً، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه.
فجاء الأشعث إلى علي فأخبره، فقال الناس: قد رضينا، فقال أهل الشام: فإنا قد اخترنا عمرو بن العاص، فقال الأشعث وأولئك الذين صاروا خوارج بعد: فإنا رضينا بأبي موسى الأشعري، فقال علي: إنكم عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن، إني لا أرى أن أولي أبا موسى، فقال أولئك: إنا لا نرضى إلا به، قال: فهذا ابن عباس، قالوا: لا نريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحد منكما بأدنى منه إِلى الآخر، قال: فإني أجعل الأشتر، قالوا: وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ قال: فاصنعوا ما شئتم، فقال الأحنف لعلي رضي الله عنه: إنك قد رميت بحجر الأرض، فإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إِلا رجل يدنو منهم حتى يصير في أكفهم، ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلني حكماً فاجعلني ثانياً أو ثالثاً فإنه لن يعقد عقدة إِلا حللتها، ولن يحل عقدة أعقدها إِلا عقدت لك أخرى أحكم منها. فأبى الناس إلا أبا موسى.
فكتبوا: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين . فقال عمرو: اكتب اسمه و اسم أبيه، وهو أميركم، أما أميرنا فلا، فقال الأحنف بن قيس: لا تمح اسم " إمارة المؤمنين " فإني أخاف إن محوتها لا ترجع إليك أبداً، فأبى ذلك علي، فقال له الأشعث: امحُ هذا الاسم برحه الله، فَمُحِيَ، فقال علي: الله أكبر، سنة بسنة، والله إني لكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إذ قالوا: لست رسول الله، ولا نشهد لك به، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
فكتب: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين، إنا ننزل عند حكم الله وكتابه، نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله عز وجل - وهما أبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص - وما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة. وأخذ الحكمان من عليّ ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقه أنا على ما في هذه الصحيفة، وأجلا القضاء إلى رمضان، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على تراض منهما. وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشر خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، فإن لم يجتمعا بذلك اجتمعا من العام المقبل.
وخرج الأشعث بذلك الكتاب يقرؤه على الناس، ويعرضه عليهم، فمر به على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية، فقرأه عليهم، فقال عروة: تحكمون في أمر الله الرجال، لا حكم إلا لله، ثم سل سيفه فضرب به عجز دابته، فغضب للأشعث قومه وناس كثير من أهل اليمن، ثم سكتوا.
وأذن علي بالرحيل، فمضى علي على طريق البر على شاطىء الفرات حتى انتهى إلى هِيتَ وعلى صَنْد ودَاء.
وقال سيف الضبي: أقاموا بصفين سبعة أو تسعة أشهر. وكان بينهم القتال نحو سبعين زحفاً، وقتل في ثلاثة أيام نحو سبعين ألفاً من الفريقين.


قال الزهري: بلغني أنه كان يدفن في القبر خمسون.
قال ربيعة بن لقيط: مطرت السماء عليهما دماً كانوا يأخذونه بالآنية.
ذكر خروج الخوارج على أمير المؤمنين رضي اللّه عنه.
لما رجع علي رضي الله عنه من صفين فدخل الكوفة لم تدخل معه الخوارج، وكانوا من وقت تحكيمه يردون عليه ولا يرضون بفعله، فلما رجع باينوه فأتوا حروراء، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً، وقالوا: لا حكم إلا لله - وكان ذلك أول ظهورهم - ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري، والأمر شورى.
فبعث علي رضي الله عنه عبد الله بن العباس إلى الخوارج، فقال: ما نقمتم من الحكمين.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، قال: أخبرنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا موسى بن مسعود، قال: أخبرنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل سماك، قال: قال ابن عباس: لما اعتزلت الخوارج وأجمعوا أن يخرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتيته يوماً قبل الظهر، فقلت له: يا أمير المؤمنين، أبرد بالصلاة لعلي أدخل على هؤلاء القومٍ فأكلمهم، فقال: إني أخاف عليك، فقلت: كلا، وكنت حسن الخلق، لا أوذي أحدا، فأذن لي فدخلت عليهم فلم أر قوماً أشد منهم اجتهاداً جباههم قرحة من السجود، وأيديهم كأنها نقر الإبل، وعليهم قمص مُرَحًضَةٌ مشمرين، مشهمة وجوههم من السهر، فسلمت عليهم، فقالوا: مرحباً بابن عباس، ما جاء بك. فقال: أتيتكم من عند المهاجرين والأنصار، ومن عند صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم، فقالت طائفة منهم: لا تخاصموا قريشاً، فإن الله تعالى يقول: " بل هم قوم خصمون " فقال اثنان أو ثلاثة: لنكلمنه، فقلت: هاتوا ما نقمتم على صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ثلالاً، أما إحداهن: فإنه حكم الرجال في أمر الله، وقد قال الله تعالى: " إن الحكم إلا للّه " ، فما شأن الرجال والحكم؟ فقلت: هذه واحدة، قالوا: وإنه قاتل ولم يُسْب ولم يغنم، فلئن كانوا مؤمنين ما حل لنا قتالهم وسبيهم. قالوا: ومحى نفسه من أَمير المؤمنين، فإذا لم يكن أمير المؤمنين فإنه أمير الكافرين. فقلت لهم: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، أنا أقرأ عليكم في كتاب الله ما ينقض قولكم، إن الله صير من حكمه إلى الرجال في ربع درهم ثمن أرنب، وتلى قوله تعالى: " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم... " الآية. وفي المرأة وزوجها: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماَّ من أهله وحكماً من أهلها. فنشدتكم الله، هل تعلمون حكم الرجال في إصلاح ذات بينهم، وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في أرنب وبضع امرأة، فأيهما ترون أفضل؟ قالوا: بل هذه، قلت: خرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يُسْبِ ولم يغنم، فتسبون أمكم عائشة، فوالله إن قلتم ليست بأمنا لقد خرجتم من الإسلام، وإن قلتم لنسبينها ونستحل منها ما نستحل من غيرها خرجتم من الإسلام، أخرجت من هذه. قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم: محى نفسه من أمير المؤمنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية كاتب أبا سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو، فقال: يا علي اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقالوا: ما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم ما قاتلناك، فقال: امح يا عليّ واكتب: هذا ما كاتب عليه محمد بن عبد الله، فوالله لرسول الله صلى الله عليه وسلم خير من علي وقد محى نفسه.
فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم فتقاتلوا.


قال علماء السير: وجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى القوم وابن عباس يكلمهم، فقال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء، قال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتك يوم صفين، قال: أنشدكم بالله، أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني عرفتهم أطفالاً ورجالاً، فكانوا شر أطفال وشر رجال، امضوا على حقكم، فإنما رفعهم المصاحف خديعة، فرددتم علي رأيي وقلتم: لا بل نقبل منهم، فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في القرآن، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء. قالوا له: فخبرنا، أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟ فقال: إنا لسنا حكمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين، لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال، ادخلوا مصركم، فدخلوا من عند آخرهم.
وقال الخوارج منهم: كان الأمر كما وصفت، ولكن كان ذلك كفراً منا، فقد تبنا إلى الله منه، فتب كما تبنا نبايعك، وإلا فنحن مخالفون. فانصرف علي بأصحابه، فقال قوم: إِنه أقر لهم بالخطأ، فصعد المنبر فذكر أمرهم فعابه، فوثبوا من نواحي المسجد يقولون: لا حكم إلا لله، فقال عليّ: كلمة حق أريد بها باطل.
وفي هذه السنة كان اجتماع الحكمين فبعث عليّ رضي الله عنه أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانىء الحارثي، وفيهم أبو موسى الأشعري، وبعث معهم عبد الله بن عباس يصلي ويلي أمورهم، ولم يحضر علي وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام، ثم جاء معاوية، واجتمعوا بأذرج، وشهد معهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة في جماعة كثيرة. وخرج عمرو بن سعد بن أبي وقاص، فأتى أباه وهو بالبادية، فقال: يا أبت، قد بلغك ما كان بين الناس بصفين، وقد حكموا وقد شهدهم نفر من قريش، فاشهدهم فإنك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد أهل الشورى، أحق بالخلافة، فقال: لا أفعل، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إِنه تكون فتنة خير الناس فيها الخفي التقي " .
والتقى الحكمان، فقال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، أرأيت أول ما يقضى به الحق أن يقضى لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قال: وما ذاك؟ لست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وافوا وقدموا للموعد؟ قال: بلى، قال عمرو: اكتبها فاكتبها أبو موسى، قال: ألست تعلم أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوماً؟ قال: أشهد قال: أفلست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال: بلى، قال: فإن الله عز وجل قال: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً " ، فما يمنعك من معاوية ولي عثمان، وبيته في قريش كما قد علمت، فإن قال الناس ليس له سابقة فلك حجة وهي أن تقول: إني وجدته ولي عثمان المظلوم، والطالب بدمه، وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لم أكن لأوليه، وأدع المهاجرين الأولين والأنصار، ولو خرج لي من سلطانه ما كنت لأرتشي في حكم الله، ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب.
فأبى عمرو وقال: أخبرني عن رأيك، قال: رأي أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا، فقال له عمرو: فإن الرأي ما رأيت، فأقبلا إلى الناس فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع، فتكلم أبو موسى فقال: رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة، فقال عمرو: صدق وبر، يا أبا موسى، تقدم فتكلم. فتقدم أبو موسى ليتكلم فدعاه ابن عباس فقال له: ويحك، والله إني لأظنه قد خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم بذلك قبلك، فإني لا آمن أن يخالفك، فقال: إنا قد اتفقنا.
فتقدم أبو موسى، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إِنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد اجتمع عليه رأي ورأي عمرو، وهو أن نخلع علياً ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر، فيولوا منهم ما أحبوا عليهم، وإني قد خلعت علياً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً، ثم تنحى.


وأقبل عمرو فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم، وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه، فقال له أبو موسى: مالك، لا وفقك الله، غدرت وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب إن تَحمِل عليه يلهث أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
وحمل شريح بن هانىء على عمرو فقنعه بالسوط، وحمل على شريح ابن لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم. فالتمس أهل الشام أبا موسى فركب راحلته ولحق بمكة. وكان يقول: اطمأننت إلى عمرو وظننت أنه لن يؤثر شيئاً على نصح الأمة، ولقد حذرنيه ابن عباس.
وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية وسلموا عليه بالخلافة وقام معاوية عشية في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، من كان متكلماً في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، قال ابن عمر: فأطلعت حويتي فأردت أن أقول: يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام، ثم خشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجماعة ويسفك فيها دم وأحمل فيها على غير رأي، وذكرت ما وعد الله في الجنان فأمسكت. قال عمرو بن العاص: بلغني أن عتبة بن أبي سفيان قال لعبد الله بن عباس: ما منع عليًا أن يبعثك مكان أبي موسى، فقال عبد الله: منعه والله من ذلك حاجز القدر، وقصر المدة، ومحنة الابتلاء، أما والله لو بعثني لاعترضت في مدارج نفس عمرو ناقضاً ما أبرم ومبرماً لما نقض، أسف إذا طار وأطير إذا أسف، ولكن مضى قدر وبقي أسف، والآخرة خير لأمير المؤمنين.
وقال خريم بن فاتك الأسدي هذه الأبيات:
لو كان للقوم رأي يرشدون به ... أهل العراق رموكم بابن عباس
لله در أبيه أيما رجل ... ما مثله لفصال الأمر للناس
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن ... لم يمر ما ضرب أخماس لأسداس
أخبرنا أبو القاسم الحريري، قال: أخبرنا أبو طالب العشاري، قال: حدثنا أبو الحسن الدارقطني، قال: حدَّثنا أبو الحسين إبراهيم بن بيان الرزاد، قال: حدثنا أبو سعيد الخرقي، قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي، قلت: ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: يا بني، إيش أقول فيهما، أعلم أن عليُّا كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه عيباً فلم يجدوا، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فوضعوا له فضائل كيداً منهم له. أو كما قال.
وفي هذه السنة بعث علي رضي اللّه عنه بعد مرجعه من صفين جعدة بن هبيرة المخزومي إلى خراسان فانتهى إلى قوم قد كفروا وامتنعوا، فرجع، فبعث مكانه خليد بن قرة اليربوعي، فحاصر أهل نيسابور حتى صالحوه، وصالحه أهل مرو فأصاب جاريتين من أبناء الملوك فنزلتا بأمان، فبعث بهما إلى علي رضي الله عنه فأعطاهما بعض الدهاقين.
وفي هذه السنة اجتمعت الخوارج على حرب عليَ رضي الله عنه وتأهبوا لذلك وشرح القصة: انه لما أراد علي رضي الله عنه أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج: زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعيدي، فدخلا عليه، فقالا: لا حكم إلا لله، فقال علي: لا حكم إلا لله، فقال له حرقوص: تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا، قال لهم: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهوداً ومواثيقاً، وقد قال الله تعالى: " وأوفُوا بعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتم وَلاَ تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوكِيدهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إن الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ " ، فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه، فقال له علي: ما هو ذنب ولكن عجز من الرأي، وضعف من العمل وقد نهيتكم عنه، فقال له زرعة: أما والله يا علي، لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله قاتلتك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه، فقال علي: بؤساً لك، ما أشقاك، كأني بك قتيلاً تسفي عليك الريح، فقال: وددت أن قد كان ذلك.
فخرج علي يوماً فخطب، فقالوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا الله، وصاح منهم رجل بعليّ رضي الله عنه، فقال: " ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " فقال علي: " فاصبر إن وعد اللّه حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون " .


فاجتمعت الخوارج فيِ منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا التي الرضا بها والركون بها والإيثار إياها عناء وتبار آثر عنده من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق، فاخرجوا بنا إلى إخواننا من بين أهل هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد، وإلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة، والأحكام الجائرة.
فقال حرقوص بن زهير: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
فقال حمزة بن سنان الأسدي: يا قوم، إِن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم هذا رجلاً منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها، وترجعون إليها.
فبعثوا إلى زيد بن حصن الكناني، وكان من رؤوسهم، فعرضوها عليه فأبى، وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي، فقال: هاتوها، أنا والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت، وذلك بعدما عرضوها على حرقوص، فأبى وعرضوها على حمزة فأبى، وعرضوها على شريح بن أوفى العبسي فأبى ولم يقبلها غير ابن وهب الراسبي، وقال ما قال.
ثم أنهم اجتمعوا في منزل زيد بن حصن، فقال: إن الله قد أخذ عهودنا ومواثيقنا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال: " ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فاولئك هم الكافرون " " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الظالمون " " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " فاشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والفعل، وإن جهادهم حق على المؤمنين، وأقسم بالذي تعنو له الوجوه، وتخشع له الأبصار إني لو لم أجد على تغيير الجور، وقتال القاسطين أحداً مساعداً لمضيت فرداً حتى ألقى ربي ليرى أني قد عبرت إرادة رضوانه.
فقال عبد الله بن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها. فقال شريح: اخرجوا إلى المدائن فلننزلها ولنأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا في أهل البصرة فيقدمون علينا، فقال زيد: إنكم إن خرجتم يرى لكم جماعة تبعتم، ولكن اخرجوا وُحْداناً، فأما المدائن فإن بها قوماً يمنعونها منكم، ولكن اكتبوا إلى إخوانكم من أهل البصرة فأعلموهم بمخرجكم، وسيروا حتى تنزلوا جسر النهروان، قالوا: هذا الرأي. وأجمعوا على ذلك، وكتبوا إلى أهل البصرة، وخرجوا ليلة السبت وُحْداناً يتسللون، فبلغ خبرهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكتب إليهم وهو بالنهر.
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصن وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس. أما بعد، فإن هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمين قد خالفا كتاب الله، واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنة، ولم ينفذا للقرآن حكماً، فبرىء الله منهما ورسوله والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا فإنا سائرون إلى عدونا ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه والسلام.
فكتبوا إليه: أما بعد، فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
فلما قرأ كتابهم أيس منهم.
ولقي الخوارج في طريقهم عبد الله بن خباب، فقالوا: هل سمعت من أبيك حديثاً يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثناه؟ قال: نعم، سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، قال: فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول. قالوا: أنت سمعت هذا من


أبيك يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فقدموه على شفير النهر فضربوا عنقه، فسال دمه كأنه شراك نعل، ونقروا أم ولده عما في بطنها، وكانت حبلى، ونزلوا تحت نخل مواقر، فسقطت رطبة، فأخذها أحدهم فقذف بها في فيه، فقال أحدهم: بغير حلها وبغير ثمن، فلفظها من فيه. واخترط أحدهم سيفه فأخذ يهزه، فمر خنزير لأهل الذمة، فضربه، فقالوا له: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير فأرضاه من خنزيره.
وكان علي رضي الله عنه قد تجهز للخروج إلى قتال الشام، وندب الناس، فاجتمع معه ثمانية وستون ألفاً، فلما سمع الناس خبر هؤلاء قالوا: لو سار بنا إلى هؤلاء فبدأنا بهم ثم وجهنا إلى المُحِلين، فبلغه قولهم، فقال: إن غير هؤلاء أهم إلينا ؟فسيروا إِلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين، فقالوا: سر بنا حيث أحببت.
فلما بلغه قتلهم عبد الله بن خباب بعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتب بخبرهم، فلما دنا منهم يسألهم قتلوه. فأتى الخبر علياً، فقام الناس إليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا، سربنا إلى القوم، فإذا : فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام.
فنادى بالرحيل وخرج، ثم بعث إِليهم: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم ثم نكف عنكم، واخرجوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فبعثوا إليه كلنا قتلهم، وكلنا نستحل لدمائهم ودمائكم.
وفي رواية أخرى أن علياً أتاهم فوقف عليهم، فقال: أيتها العصابة التي أخرجتها اللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، إني نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، تلفيكم الأمة غداً بغير بينة من ربكم، وإن الحكمين اختلفا وخالفا كتاب الله والسنة، فنبذنا أمرهما ونحن على الأمر الأول، فما الذي بكم؟ ومن أين أتيتم فقالوا: إنا لما حكمنا أثمنا وكلنا بذلك كافرين وقد تبنا قال: إِذا تبت كما تبنا، فنحن منك وإلا فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء، فقال علي رضي الله عنه: أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر، أبعد إِيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين.
فتنادوا: لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيأوا للقاء الرب، الرواح الرواح إلى الجنة. فخرج علي فعبأ الناس، فجعل على ميمنته حجر بن عدي، وعلى ميسرته شبث بن ربعي - أو معقل بن قيس الرياحي - وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة قيس بن سعد.
وعبأت الخوارج، فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن، وعلى ميسرتهم شريح بن أوفى العبسي، وعلى خيلهم حمزة بن سنان، وعلى رجالتهم حرقوص بن زهير. ودفع علي إلى أبي أيوب الأنصاري راية أمان، فناداهم أبو أيوب: من جاء هذه الراية منكم ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إِخواننا في سفك دمائكم، فقال فروة بن نوفل: والله ما أدري على أي شيء نقاتل علياً، لا أرى إلا أن أنصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو أتباعه. فانصرف في خمسمائة فارس.
وخرجت طائفة أخرى متفرقين، فنزلوا الكوفة، وخرج إلى عليَ منهم نحو من مائة، وكانوا أربعة آلاف، فكان الذين بقوا مع عبد الله بن وهب ألفين وثمانمائة، فزحفوا إلى علي فقال علي لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدأوكم، فتنادوا: الرواح الرواح، فشدوا على الناس، فلم تثبت خيل عليَ لشدتهم، فاستقبلت الرامية وجوههم بالنبل وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة فأناموهم، ولم يقتل من أصحاب علي رضي الله عنه إلا سبعة أولهم يزيد بن نويرة.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا أحمد بن الحسين بن محمد بن عبد الله بن خلف العكبري، أخبرنا جدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حاتم المدني، قال:


أول قتيل قتل عن أصحاب علي يوم النهروان رجل من الأنصار يقال له: يزيد بن نويرة، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مرتين شهد له يوم أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جاز التل فله الجنة " . فقال يزيد بن نويرة: يا رسول الله، إنما بيني وبين الجنة هذا التل، ثم أخذ سيفه فضارب حتى جاز التل، فقال ابن عم له: يا رسول الله، أتجعل لي ما جعلت مثل ما جعلت لابن عمي يزيد؟ قال: " نعم " ، فقاتل حتى جاز التل، ثم أقبلا يختلفان في قتيل قتلاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: " كلاكما قد وجبت له الجنة، ولك يا يزيد على صاحبك درجة " ، قال: فشهد يزيد مع علي فكان أول قتيل من أصحاب علي يوم النهروان.
قال علماء السير: وخرج عليّ في طلب ذي الثدية، فوجده في حفرة على شاطىء النهر قتيلاً، فلما استخرج نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة له حلمة عليها شعيرات سود، فقال علي: الله أكبر، والله ما كَذبْتُ ولا كُذِبت، أما أما والله لولا أن تنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمن قاتلهم مستنصراً في قتالهم.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن إبراهيم البزاز، قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن عثمان النسوي، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا أصبغ بن الفرح، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن بشر بن سعيد، عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أن الحرورية لما خرجت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقالوا: لا حكم إلا الله، قال علي رضي الله عنه: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لنا ناساً إني لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم، لا يجاوز هذا منهم - وأشار إلى حلقه - من أبغض خلق الله إليه، فيهم أسود، إحدى يديه كأنها طُبي شاة، أو حلمة ثدي، فلما قتلهم قال: انظروا، فنظروا فلم يجدوا شيئاً، فقال: ارجعوا، والله ما كذبت - مرتين أو ثلاثاً - فوجدوه في حفرة، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه. قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي رضي الله عنه فيهم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا أبو القاسم الأزهري، قال: أخبرنا علي بن عبد الرحمن البكائي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي، قال: أخبرنا يحيى بن عبد الحميد الحمامي، قال: أخبرنا خالد بن عبيد الله عن عطاء بن السائب، عن ميسرة، قال: قال أبو جحيفة: قال علي رضي الله عنه حين فرغنا من الحرورية: إن فيهم رجلاً مخدجاً، ليس في عضده عظم، ثم عظمه أو عضده حلمة كحلمة الثدي، عليها شعيرات طوال عقف، فالتمسوه فلم يجدوه، وأنا فيمن يلتمس. قال: فما رأيت علياً جزعاً قط أشد من جزعه يومئذ، فقالوا: ما نجده يا أمير المؤمنين، قال: ويلكم ما اسم هذا المكان؟ قالوا: النهروان، قال: كذبتم إنه لفيهم، فثورنا القتلى فلم نجده، فعدنا إليه فقلنا: يا أمير المؤمنين ما نجده، قال: ويلكم ما اسم هذا المكان؟ قالوا: النهروان. قال: صدق الله ورسوله وكذبتم إِنه لفيهم فالتمسوه، فالتمسناه في ساقية، فوجدناه فجئنا به، فنظرت إلى عضده ليس فيها عظم، وعليها. حلمة كحلمة ثدي المرأة، عليها شعرات طوال عقف.
قال علماء السير: ثم قام علي رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله عز وجل قد أحسن بكم، وأعز نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إِلى عدوكم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نفدَتْ نيالُنا، وكلت سيوفنا، فارجع إلى مصرنا، واستعد بأحسن عدتنا. فأقبل حتى نزل النخَيلة، فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم، ويوطنوا على الجهاد أنفسهم وأن يقلوا زيارة أبنائهم ونسائهم حتى يسيروا إِلى عدوهم، فأقاموا أياماً ثم تسللوا فدخلوا إلا قليلاً منهم، فلما رأى ذلك دخل الكوفة وانكسر رأيه في المسير.
وقد ذهب قوم إلى أن هذه الوقعة بالخوارج كانت في سنة ثمان وثلاثين.
وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وثلاثين


حج بالناس عبيد الله بن عباس، وكان عامل علي على اليمن ومخاليفها، وكان عامله على مكة والطائف، قُثَم بن العباس، وعلى المدينة سهل بن حنيف، وقيل: كان عليها تمام العباس. وكان على البصرة عبد الله بن العباس، وعلى قضائها أبو الأسود الدؤلي وعلى مصر محمد بن أبي بكر. ولما شخص علي إلى صفين استخلف على الكوفة. مسعود الأنصاري، وعلى خراسان خليد بن قرة اليربوعي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الربيع بنت معوذ بن عفراء أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثت عنه. وكانت تغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخدم القوم وترد القتلى والجرحى إلى المدينة.
خباب بن الأرت بن جندلة: كان قد أصابه سِباء فبيع بمكة واشترته أم أنمار، وهي أم سباع الخزاعية. ويقال: بل أم سباع بن عبد العزى واحدة.
وكانت ختانة بمكة، وهي التي عنى حمزة بن عبد المطلب حين قال لسباع بن عبد العزى وأمه أم أنمار: هلم يا ابن مقطعة البظور، فانضم خباب بن الأرت إلى آل سباع، وادعى حلف بني زهرة بهذا السبب. وكان يكنى أبا عبد الله وأسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وقبل أن يدعو فيها، وكان من المستضعفين الدين يعذبون بمكة ليرجع عن دينه. وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، أخبرنا الجوهري، أخبرنا ابن حيوية، أخبرنا أبو الحسن بن معروف، أخبرنا الحسين بن الفهم، حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا حيان بن علي، عن مجالد، عن الشعبي، قال: دخل خباب بن الأرت على عمر فأجلسه على متكئه، وقال: ما على الأرض أحد أحق بهذا المجلس من هذا إلا رجل واحد، قال له خباب: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: بلال، قال: فقال خباب: يا أمير المؤمنين، ما هو بأحق مني، إن بلالاً كان له من المشركين من يمنعه الله به ولم يكن لي أحد يمنعني، فلقد رأيتني يوماً أخذوني وأوقدوا لي ناراً ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري، قال: ثم كشف عن ظهره فإذا هو قد برص.
قال محمد بن سعد: وأخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي، قال: حدثنا مسعر بن كدام، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: عاد خباباً نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أبشر يا أبا عبد الله، إخوانك تقدم عليهم غداً، فبكى وقال: عليها من حالي، أما إنه ليس بي جزع، ولكن ذكرتموني أقواماً وسميتموهم لي إِخواناً، لان أولئك مضوا وأجورهم كما هي، وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا بعدهم.
توفي خباب بالكوفة في هذه السنة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وهو أول من دفن بظهر الكوفة.
خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن عامر، أبو عمارة، وهو ذو الشهادتين: أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عمه - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرساً من رجل من الأعراب، فاستتبعه رسول صلى الله عليه وسلم ليعطيه ثمنه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي، وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يلقون الأعرابي يساومونه الفرس ولا يشعرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه رسول الله صلى الله عليه وسلم به. فلما زاده نادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه وإلا بعته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع قول


الأعرابي حتى أتاه الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست قد ابتعته منك؟ " فقال الأعرابي: لا والله ما بعتكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلى قد ابتعته منك " فطفق الناس يلوذون برسول الله وبالأعرابي وهما يتراجعان، وطفق الأعرابي يقول: هلم شهيد اً يشهد لك، فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقل إلا حقاً، حتى جاء خزيمة بن ثابت، فاستمع مراجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي، فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً يشهد أني قد بايعتك، فقال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟ قال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
قال محمد بن عمر: لم يسم لنا أخو خزيمة الذي روى هذا الحديث، وكان له أخوان، يقال لأحدهما وَحْوَح ولا عقب له، وعبد الله وله عقب.
وفي طريق آخر أنه قال: أنا أصدقك بخبر السماء، ولا أصدقك بما تقول.
قال محمد بن عمر: وكانت له راية بني خطمة في يوم الفتح، وشهد صفين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل يومئذ.
سفينة - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه مهران، ويكنى أبا عبد الرحمن: اشترته أم سلمة فاعتقته واشترطت عليه يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عاش.
أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: حدثنا ابن معروف، قال: حدثنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا خرج بن نباته، قال: حدثنا سعيد بن جهمان، قال: سألت سفينة عن اسمه، فقال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة، قلت: وبما سماك سفينة؟ قال: خرج معه أصحابه فثقل عليهم متاعهم فقال لي: ابسط لي كساك، فبسطه، فحولوا فيه متاعهم ثم حملوه علي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احمل فما أنت إلا سفينة " .
قال محمد بن سعد: وأخبرنا عبد الله بن موسى، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن المنكدر، عن سفينة: أنه ركب في البحر، فانكسرت بهم، قال فتعلقت بشيء منها حتى خرجت إلى جزيرة، فإذا فيها الأسد، فقلت: أبا الحارث؟ إنما سفينة مولى رسول صلى الله عليه وسلم، فطأطأ رأسه وجعل يدفعني بجنبيه، يدلني على الطريق فلما خرجت إلى الطريق همهم فظننت أنه يودعني.
سحيم، عبد بني الحَسْحاس: اشتراه عبد الله بن عامر، فأهداه إلى عثمان بن عفان فرده عليه وقال: لا حاجة لنا فيه، وله أشعار كثيرة وأخبار أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، أخبرنا الجوهري، أخبرنا ابن حيوية، حدثنا محمد بن خلف، قال: قال ابن الأعرابي: كان سُحيم حبشياً وقد أدرك الجاهلية.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز، عن أبي محمد الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حيوية، أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إسحاق المكي، حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز، عن خاله يوسف بن الماجشون، قال: اشترى عبد الله بن أبي ربيعة سحيماً عبد بني الحسحاس، وكتب إلى عثمان بن عفان: إني قد ابتعت لك غلاماً حبشياً شاعراً، فكتب إليه عثمان: لا حاجة لي به، فإنما قصارى العبد الشاعر، إن شبع تشبب بنسائهم، وإن جاع يهجوهم، فرده عبد الله فاشتراه رجل من بني الحسحاس. وكان حبشياً أعجمي اللسان ينشد الشعر.
قال الزبير: وحدَّثني عمر بن أبي بكر، عن أبي صالح الفقعسي، قال: كان سحيم عبداً لبني الحسحاس حبشياً شاعراً، وكان يهوى ابنة مولاه عميرة بنت أبي معبد، ويكني عن حبها إلى أن خرج مولاه أبو معبد سفراً، وخرج به معه، وكان أبو معبد يتشوق إلى ابنته ويقول:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا
يردد النصف ولا يزيد عليه ثم قال: ابعد يا سحيم، فهيج منه ما كان باطناً فقال:
عميرة ودع إن تجهزت غادياً ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
ثم بنى عليها وأتمها قصيدة وفحش فيها فقال:
وبتنا وسادانا إلى عَلَجانَة ... وحِقف تهاداهُ الرياح تهاديا
توسدني كفاً وتثني بمعصم ... علي وتحوي رجلها من ورائيا


وهبت شمالاً آخر الليل قرة ... ولا ثوب إلا درعها وردائيا
فما زال ثوبي طيبَاً من نسيمها ... إلى الحول حتى أنهج الثوب باليا
قال: فذهب به أبو معبد إلى المدينة ليبيعه بها، فقال بعد أن أخرجه بها:
وما كنت أخشى معبداً أن يبيعني ... بشيء ولو أمست أنامله صفرا
أخوكمٍ ومولى مالكم وربيبكم ... ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا
أشوقا ولما يمض لي غير ليلة ... فكيف إذا سار المطي بنا عشرا
قال: فرق له ورده، وآل أمر سحيم أنه أحب امرأة من أهل بيت مولاه، فأخذوه وأحرقوه.
وقال ابن قتيبة: سقوه الخمر وعرضوا عليه نسوة، فلما مرت به التي كان يتهم بها أهوى إليها فقتلوه.
عبد اللّه بن الأرقم بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة: أسلم يوم الفتح، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر رضي الله عنه. وكُتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب فقال: من يجيب؟ فقال ابن الأرقم: أنا، فأجاب عنه ثم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه وأنفذه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعجبه ذلك ويقول: أصاب ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل ذلك في قلبه، فلما ولي عمر استعمله على بيت المال، وقال عمر: ما رأيت أحداً أخشى لله منه.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزاز، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا بن حيوية، قال: حدثنا ابن معروف قال: حدثنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المنصور، أبيها قال: ولى عمر بن الخطاب بيت مال المسلمين عبد الله بن الأرقم الزهري، وكان عمر رضي الله عنه يستسلف من بيت المال، فإذا أخرج العطاء جاء عبد الله فتقاضاها فيقضيه، فلما ولي عثمان أقره على بيت المال، وكان يستسلف منه ثم يقضيه كعمر، ثم اجتمع عند عثمان مال كثير وحضر خروج العطاء، فقال له عبد الله: أد المال الذي استسلفت، فقال له عثمان: ما أنت وذاك، وإنما أنت خازن، فخرج عبد الله حتى وقف على المنبر فصاح بالناس، فاجتمعوا فأخبرهم بما قال عثمان وقال: هذه مفاتيح بيت مالكم.
قال مؤلف الكتاب: ولما رد المفاتيح استخزن عثمان زيد بن ثابت.
عبد اللّه بن خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة: ولد في زمان رسول الله، وكان موصوفاً بالخير والصلاح، وورد المدائن وقتله الخوارج وهو بالنهروان.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني الحسن بن محمد الخلال، حدًثنا عبد العزيز بن أبي صابر الدلال، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا أبو خيثمة علي بن عمرو بن خالد الحراني، حدَّثني أبي، حدثنا الحكم بن عبدة الشيباني البصري، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أبي الأحوص، قال: كنا مع عليّ يوم النهروان، فجاءت الحرورية فكانت من وراء النهر، فقال144 و الله رجل من وراء النهر، فأعادوا عليه هذه المقالة ثلاثاً، كل ذلك يقول لهم علي مثل قوله الأول، قال فقالت الحرورية بعضهم لبعض:يرى علي أنا نخافه، فأجازوا، فقال علي لأصحابه: لا تحركوهم حتى يحدثوا حدثاً، فذهبوا إلى منزل عبد الله بن خباب وكان منزله على شط النهر فأخرجوه من منزله، فقالوا: حدثنا بحديث حدثكه أبوك سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حدثنا أبي، أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي " ، فقدموه إلى الماء فذبحوه كما تذبح الشاة، فسال دمه في الماء مثل الشراك ما أمذ قر.


قال الحكم: فسألت أبا أيوب: ما أمذ قر؟ قال: ما اختلط. قال: وأخرجوا أم ولده فشقوا عما في بطنها، فأخبر علي بما صنعوا، فقال: الله أكبر، نادوهم اخرجوا لنا قاتل عبد الله بن خباب، قالوا: كلنا قتله، فناداهم ثلاثاً كل ذلك يقولون هذا القول. فقال علي لأصحابه: دونكم القوم، قال: فما لبثوا أن قتلوهم، فقال علي: اطلبوا في القوم رجلاً يده كثدي المرأة، فطلبوه ثم رجعوا إليه فقالوا: ما وجدنا، فقال: والله ما كذبت وما كذبت، وإنه لفي القوم. ثلاث مرات يجيئونه فيقول لهم هذا القول. ثم قام هو بنفسه، فجعل لايمر بقتلى جميعاً إلا بحثهم فلا يجده فيهم حتى انتهى إلى حفرة من الأرض فيها قتلى كثير، فأمر بهم فبحثوا فوجد فيهم، فقال لأصحابه: لولا أن تنتظروا لأخبرتكم بما أعد الله تعالى لمن قتل هؤلاء.
عبد الله بن سعد بن أبي سرح
بن الحارث بن حبيب بن خزيمة
أسلم قديماً. أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال:أسلم عبد الله بن سعد قديماً، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سميع عليم " ، فيكتب " عليم حكيم " . فيقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقره، فافتتن عبد الله بن سعد، وقال: ما يدري محمد ما يقول، إني لأكتب له ما شئت، هذا الذي يوحي إليّ كما يوحى إلى محمد. وخرج هارباً من المدينة إلى مكة مرتداً، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح، فجاء إلى عثمان بن عفان - وكان أخاه من الرضاعة - فقال: يا أخي إني والله اخترتك على غيرك فاحبسني ها هنا، واذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيً، فإن محمداً إن رآني ضرب الذي فيه عيناي، فإن جرمي أعظم الجرم، وقد جئت تائباً، فقال عثمان: بل اذهب معي، فقال: والله لئن رآني ليضربن عنقي فقد أهدر دمي وأصحابه يطلبونني في كل موضع، فقال عثمان: انطلق معي فلا يقتلنك إن شاء الله، فلم يرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعثمان آخذاً بيد عبد الله ابن أبي سرح واقفين بين يديه، فأقبل عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أمه كانت تحملني وتمشيه، وترضعني وتفطمه، وكانت تلطفني وتتركه فهبه لي، فاعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عثمان كلما أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام، وإنما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم إرادة أن يقوم رجل فيضرب عنقه لأنه لم يؤمنه. فلما رأى ألا يقوم أحد وعثمان قد أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه وهو يقول: يا رسول الله تبايعه فداك أبي وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم " ، ثم التفت إلى أصحابه فقال: " ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله " - أو قال: الفاسق - فقال عباد بن بشر: ألا أومأت إلي يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه - ويقال: قاله أبو اليسر، ويقال: عمر بن الخطاب، ولعلهم قالوا جميعاً - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِني لا أقتل بالإشارة " .
وقال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذٍ : " إِن النبي لا تكون له خائنة الأعين " فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وجعل عبد الله بعد ذلك كلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفر منه، فقال عثمان: يا رسول الله، نراه يفر منك كلما رآك، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " أو لم أبايعه وأؤمنه " قال: بلى ولكنه يتذكر عظم جرمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام يَجُبُّ ما قبله " فرجع عثمان إلى عبد الله بن سعد فأخبره فكان بعد ذلك يأتي فيسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس.
وشهد عبد الله فتح مصر، واختط بها، وولاه إياها عثمان، وغزا إفريقية وأرض النوبة وذات الصواري من أرض الروم في البحر، ثم وفد على عثمان، فلما رجع منعه ابن أبي حذيفة من دخول الفسطاط، فمضى إِلى عسقلان فأقام بها ولم يبايع لعلي ولا لمعاوية. توفي بها في هذه السنة، عمار بن ياسر بن مالك بن كنانة بن قيس، يكنى أَبا اليقظان:


أسلم بمكة قديماً في دار الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلاً، وهو معدود في السابقين الأولين من المهاجرين عذب في الله بمكة وأسلم هو وأبوه وأمه سمية مولاة أبي حذيفة بن المغيرة، وكانت قريش تعذبهم في الرمضاء ليرجعوا عن دينهم، ومر النبي صلى الله عليه وسلم بهم وهم يعذبون، فقال: " اصبروا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة " .
وكان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول، وهو أول من بنى مسجداً في بيته يصلي فيه. شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً والمشاهد كلها، وكان طويلاً أدماً مضطرباً، أشهل العينين، بعيد ما بين المنكبين، لا يغير شيبه.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم، حدثنا أحمد بن حازم، أخبرنا قبيصة، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن هانىء بن هانىء، عن عليّ رضي الله عنه قال: استأذن عمار على النبي صلى الله عليه وسلم فعرف صوته، فقال: " مرحباً بالطيب بن المطيب " أخبرنا الكروخي، أخبرنا أبو عامر الأزدي، وأبو بكر العزرجي، قالا: أخبرنا الجراحي، قال: حدثنا الغنوني، قال: حدثنا الترمذي، قال: حدَّثنا سفيان بن رافع، قال: حدثنا أبي، عن الحسن بن صالح، عن أبي ربيعة الأيادي، عن الحسن،، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة نفر: علي، وعمار، وسلمان " .
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، أخبرنا الجوهري، أخبرنا ابن حيوية، أخبرنا أحمد بن معروف، حدثنا الحسين بن الفهم، حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني يعقوب بن عبد الله القمَي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، أنه قال وهو يسير إلى صفين على شط الفرات: اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردى فأسقط فعلت، ولو أعلم أنه أرضى لك عني أن أوقد ناراً عظيمة فأقع فيها فعلت، اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن ألقي نفسي في الماء فأغرق نفسي فعلت، فإني لا أقاتل إِلا أريد وجهك، وأنا أرجو ألا تخيبني وأنا أريد وجهك.
وقال ابن سعد: وأخبرنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا شعبة، قال: أنبأني عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة يقول: رأيت عمار بن ياسر يوم صفين شيخاً في يده الحربة، وإنها لترعد، فنظر إلى عمرو بن العاص ومعه الراية، فقال: إن هذه الراية قد قاتلت بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهذه الرابعة، والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعرفت أن مصلحتنا على الحق وأنه على الضلالة.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا الحسن بن علي المعمري، حدثنا محمد بن سليمان بن أبي رجاء، حدثنا أبو معشر، حدثنا جعفر بن عمرو الضمري، عن أبي سنان الدؤلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رأيت عمار بن ياسر دعا بشراب فأتي بقدح من لبن فشرب منه، ثم قال: صدق الله ورسوله، اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن آخر شيء تزوده من الدنيا صحفة لبن " .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا ابن بشران، قال: أخبرنا أبو الحسين بن صفوان، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: عمار بن ياسر من عبس من اليمن، حليف لبني مخزوم، ويكنى أبا اليقظان، قتل بصفين مع أمير المؤمنينعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه سنة سبع وثلاثين وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، ودفن هناك.
قال ابن سعد: وحدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا الحسن عن الحسن بن عمارة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة: أن علياً صلى على عمار ولم يغسله.


قال مؤلف الكتاب: وقد قيل إن عماراً قتل وهو ابن إحدى وتسعين سنة. وقيل: أربع وتسعين، قتله أبو عادية المزني، طعنه برمح فسقط، فلما وقع أكب عليه رجل آخر فاجتز رأسه، وأقبلا يختصمان فيه، كلاهما يقول: أنا قتلته، فقال عمرو بن العاص: والله إن يختصمان إلا في النار، فسمعها منه معاوية، فلما انصرف الرجلان قال معاوية لعمرو: ما رأيت مثل ما صنعت قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما: إنكما تختصمان في النار، فقال عمرو: هو والله ذاك، والله إنك لتعلمه، ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة.
ثم دخلت
سنة ثمان وثلاثين
فمن الحوادث فيها مقتل محمد بن أبي بكر رضي اللّه عنهما قد تقدم ذكرنا السبب في عزل قيس بن سعد عن مصر وتولية محمد بن أبي بكر.
قال الزهري: لما حدِثَ قيس بن سعد بمجيء محمد بن أبي بكر، وأنه قادم عليه أميراً، تلقاه وخلا به، وقال له: إنك جئت من عند امرئ لا رأي له، وليس عزلكمٍ إِياي بمانعي أن أنصح لكم، وإني أدلك على الأمر الذي كنت أكايد به معاوية وعمراً فكايدهم به، فإنك إِن تكايدهم بغيره تهلك، وحدثه بما كان يصنع، واغتشه محمد، وخالف ما أمره به، فلما استقر محمد نهض بأهل مصر إلى قتال أهل خربتا، وهُزِمَ محمد، ولما قدم قيس بن سعد المدينة خافه مروان والأسود بن البخترى حتى إذا خاف أن يؤخذ ويقتل ركب راحلته فلحق بعلي رضي الله عنه.
فكتب معاوية إلى مروان والأسود يتغيظ عليهما ويقول: أمددتما علياً بقيس بن سعد ومكايده، فوالله لو أمددتموه بمائة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لي من إخراجكما قيساً إلى علي. فلما جاء قتل محمد عرف علي أن قيساً كان يداري أموراً كثيرة، وأن من أشار إِليه بعزل قيس لم ينصحه، فبعث الأشتر.
وقد ذكرنا أن قوماً يقولون: إنما بعث محمداً بعد الأشتر، والله أعلم.
ولما انصرف الحكمان بايع أهل الشام معاوية بالخلافة ولم يزدد معاوية إلا قوةً، واختلف الناس بالعراق على عليّ رضي الله عنه، فما كان لمعاوية هم إلا مصر، وكان يرجو أنه إذا أظهر عليها ظهر على حرب علي لعظم خراجها، وكان عمرو بن العاص صالح معاوية حين بايعه على قتال علي رضي الله عنه على أن له مصر طُعْمة ما بقي. فلما أراد معاوية أخذ مصر استشار أصحابه، فقال عمرو: أرى أن نبعث جيشاً كثيفاً عليهم رجل حازم صارم تأمنه وتثق به فيأتي مصر، فإنه سيأتيه من كان على مثل ذلك فتظاهره على عدوك، فقال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: ما أعلمه، قال معاوية: بلى، فكاتب من بها؛ فأما شيعتنا فنأمرهم بالثبات على أمرهم ونمنيهم قدومنا عليهم، وأما عدونا فندعوهم إلى صلحنا ونمنيهم شكرنا ونخوفهم حربنا، فإن صلحوا لنا وإلا كان حربهم من وراء ذلك، فقال عمرو: اعمل بما ترى، فوالله ما أرى أمرك وأمرهم يؤول إلا إلى الحرب.
فكتب معاوية إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري، وإلى معاوية بن حُديج السكوني الكندي، أما بعد: فإن الله تعالى قد ابتعثكما لأمر أعظم به أجركما، ورفع به ذكركما، طلبكما بدم الخليفة، فابشرا برضوان الله. فقدم به رسوله إلى مصر ومحمد بن أبي بكر أميرها، فكتبا إليه: عجل بخيلك ورَجْلك يفتح الله عليك. فبعث عمرو بن العاص في ستة آلاف، فخرج فإجتمع إليه العثمانية، وكتب إلى محمد بن أبي بكر: تنح عني بدمك فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، وكتب إليه معاوية: إني لا أعلم أحداً كان أعظم على عثمان بلاء منك، فلا تظنن أني نائم عنك. فبعث الكتابين إلي علي وكتب إليه: أما بعد، فإن ابن العاص قد نزل أراضي مصر، واجتمع إليه أهل البلد، وقد رأيت من قبلي بعض الفشل، فإن كان لك في أرض مصر حاجة فأمدني بالرجال والأموال.


فكتب إليه علي: اصبر لعدوك وإن كانت فئتك أقل الفئتين، فإني باعث إليك الناس، وانتدب إلى القوم كنانة بن بشر، وقام علي رضي الله عنه فحث الناس على مصر، فتقاعدوا، فعاد يحثهم، فخرج نحو من ألفين، فقال: أف لكم، وقام محمد خطيباً، فقال: إن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة قد ساروا إليكم بالجنود فمن أراد فليخرج إليهم، انتدبوا رحمكم الله مع كنانة بن بشر. فانتدب معه نحو من ألفي رجل. وخرج محمد في ألفي رجل، وأقبل عمرو فطرد أصحابه كنانة، فبعث إلى معاوية بن حديج فأحاط أصحابه بكنانة فقاتل حتى قتل، وتفرق عن محمد أصحابه، فخرج يمشي حتى انتهى إلى خربة، فأوى إليها، وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد حتى انتهى إلى علوج على قارعة الطريق، فسألهم: هل مر بكم أحد تستنكرونه؟ فقال أحدهم: لا والله إلا أني دخلت تلك الخربة فإذا فيها رجل جالس، فقال ابن حديج: هو هو ورب الكعبة، فدخلوا عليه واستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً وأقبلوا به نحو الفسطاط، فوثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر - وكان في جند عمرو بن العاص - وقال: أيقتل أخي صبراً، ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه، فبعث إليه: إن عمرو بن العاص يأمرك أن تأتيه بمحمد بن أبي بكر، فقال: أكذاك قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا عن محمد، هيهات. فقتال محمد: اسقوني من الماء، فقال معاوية: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبداً، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائماً، أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك في جوف حمار ثم أحرقه بالنار. فلما بلغ الخبر عائشة جزعت عليه جزعاً شديداً، وقنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية وعمرو، وقبضت عيال محمد إليها وولده، وكان القاسم بن محمد في عيالها، وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية بقتل محمد وكنانة.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، عن أبي القاسم بن أبي عبد الله بن مندة، قال: أخبرنا أبي قراءة عليه، قال: أخبرنا أبو سعيد بن يونس الحافظ، قال: حدثنا أسامة بن أحمد التجريبي، قال: حدًثني زيد بن أبي زيد بن أبي العمر، عن أحمد بن يحيى ابن زيد، عن إسحاق بن الفرات، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: بعث معاوية بن حديج بمولى له يقال له سليم إِلي المدينة بشيراً بقتل محمد بن أبي بكر ومعه قميص محمد بن أبي ودخل به دار عثمان، فاجتمع إليه آل عثمان من رجال ونساء وأظهروا السرور بمقتله، وأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان بكبش يشوى، وبعثت بذلك إلى عائشة وقالت: هكذا شوي أخوك، فلم تأكل عائشة شواء حتى لحقت بالله عز وجل.
وأما محمد بن أبي حديقة فقد زعم قوم أنه قتل بعد قتل ابن أبي بكر. وقال آخرون: بل قتل قبل ذلك في سنة ست وثلاثين، وقد سبق ذكر ذلك فيما قدمنا.
وفي هذه السنة بعد مقتل محمد بن أبي بكر وجه معاوية عبد اللّه بن عمرو بن الحضرمي إلى البصرة، فوجه علي رضي اللّه عنه أعين بن ضبيعة المجاشعي لإخراج ابن الحضرمي من البصرة مدداً لزياد شرح القصة: لما قتل محمد بن أبي بكر خرج ابن عباس من البصرة إلى علي بالكوفة واستخلف زياداً، وقدم ابن الحضرمي من قبل معاوية، فنزل في بني تميم، فأرسل زياداً إلى حُضَين بن المنذر، ومالك بن مسمع، فقال: أنتم يا معاشر بكر بن وائل من أنصار أمير المؤمنين، وقد نزل ابن الحضرمي حيث ترون، وأتاه من أتاه، فامنعوني حتى يأتيني رأي أمير المؤمنين، فقال حضَين: نعم، وقال مالك - وكان رأيه مائلاً إلى بني أمية، وكان مروان لجأ إليه يوم الجمل: هذا أمرٌ لي فيه شركاء، أستشير وأنظر. فلما رأى زياد تثَاقُل مالك خاف أن تختلف ربيعة، فأرسل إلى نافع بن خالد فسأله أن يمنعه، فأشار عليه نافع بصَبرة بن شَيْمان الحُداني، فأرسل إليه زياد فقال: ألا تجيرني وبيت مال المسلمين، قال: بلى إن حملته إلي ونزلت داري، ففعل وحول معه المنبر، وتحول معه خمسون رجلاً، فكان زياد يصلي الجمعة في مسجد الحداني.


وكتب زياد إلى علي رضي الله عنه: إن ابن الحضرمي قد أقبل من الشام، فنزل في بني تميم، ونعى ابن عفان، ودعى إلى الحرب وبايعته تميم وجُل أهل البصرة، ولم يبق معي من أمتنع به، فاستجرت لنفسي ولبيت المال بصبرة بن شيمان، فوجه علي أعين بن ضبيعة، وكتب إلى زياد: إني قد وجهت أعين ليعرض بقومه عن ابن الحضرمي، فإن فرق جمعه فهو ما نريد، وإن ترقت إليهم الأمور فانهض إِليهم وجاهدهم، وإن رأيت ممن قبلك تثاقلاً، فدارهم وطاولهم، وكأنك بجنود الله قد أظلتك.
فقدم أعين فأتى زياداً فنزل عنده، ثم أتى قومه فجمع رجالاً ونهض إلى ابن الحضرمي، فدعاهم فشتموه وناوشوه وانصرف عنهم، فدخل عليه قوم فقتلوه، فلما قتل أعين، أراد زياد قتالهم، فأرسل بنو تميم إلى الأزد: إنا لم نعرض لجاركم ولا لأحد من أصحابه، فماذا تريدون من جارنا، وكرهت الأزد القتال، وقالوا: إن عرضوا لجارنا منعناه، وإن كفوا عنا كففنا عن جارهم، فأمسكوا. وكتب زياد إلى علي بقتل أعين، وأخبره أنه لم يخف معه ممن تقوى به على قتالهم، فكتب إليه علي يصوّب رأيه، وبعث إليه حارثة بن قدامة في خمسين من بني تميم، وشريك بن الأعور في خمسمائة، فقدم حارثة البصرة، فقال له زياد: احذر أن يصيبك ما أصاب صاحبك فسار حارثة إلى قومه فقرأ عليهم كتاب عليّ رضي الله عنه، فأجابه أكثرهم، فسار إلى ابن الحضرمي فحصره في داره ثم أحرق عليه الدار وعلى من معه، وكانوا سبعين رجلاً، وقيل: أربعين، وتفرق الناس، ورجع زياد إلى دار الإمارة.
وكان من الحوادث في هذه السنة
إظهار الخِرًيت بن راشد في بني ناجية الخلاف على علي
رضي الله عنه.
وذلك أنه كان مع الخريت من بني ناجية ثلاثمائة، وكانوا قدموا على علي من البصرة، فأقاموا معه بالكوفة، وخرجوا إليه يوم الجمل، وشهدوا معه صفين، فلما حكم علي جاءه الخريت فقال: والله يا علي لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك، وإني لمفارق لك. فقال علي: ثكلتك أمك، إذاً تعصي ربك، وتنكث عهدك، ولا تضر إلا نفسك، لم تفعل ذلك؟ قال: لأنك حكمت في الكتاب، وضعفت عن الحق. ثم أنه فارقه وخرج بأصحابه، فقال زياد بن حفصة: يا أمير المؤمنين، إنا نخاف أن يفسد علينا جماعة كبيرة فأذن لي في اتباعهم أردهم عليك إن شاء الله، قال: فاخرج في آثارهم راشداً، فخرج في آثارهم وقد جمع الخريت جموعاً فاقتتلوا وانهزم الخريت، ثم عاد وجمع واستغوى الناس وحرضهم على قتال علي، فلقيه أصحابه فقتلوه.
وفي هذه السنة.
حج بالناس قُثَم بن العباس بأمر علي رضي الله عنه، وهو عامله على مكة، وكان على اليمن عبيد الله بن العباس، وعلى البصرة عبد الله بن العباس. وأما خراسان فكان عليها خليد بن قرة اليربوعي. وقيل: ابن أبزي.
وأما مصر فكانت بيد معاوية بن أبي سفيان، وعماله عليها من جهته كما ذكرنا في استملاكها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أسماء بنت عميس أسلمت بمكة قديماً، وبايعت وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فولدت له هناك عبد الله، ومحمداً، وعوناً، ثم قتل عنها جعفر فتزوجها أبو بكر فولدت له محمد بن أبي بكر، ثم توفي عنها وأوصى أن تغسله، ثم تزوجت بعده بعلي بن أبي طالب، فولدت له يحيى وعوناً.
سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم، أبو سعد: شهد بدراً وأحداً، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وبايعه على الموت، وجعل ينضح عنه بالنبل، وشهد الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد يوم صفين مع علي.
وتوفي بالكوفة في هذه السنة، فصلى علي عليه وكبر عليه خمساً، وقيل: ستاً، وقال: إنه بدري.
صهيب بن سنان بن مالك، أبو يحيى: وأصله من النمر بن قاسط، وكان أبوه أو عمه عاملاً لكسرى على الأبلة، وكانت منازلهم بأرض الموصل، فأغارت الروم عليهم فسبت صهيباً وهو غلام صغير، فنشأ بالروم، فابتاعته كلب منهم، ثم قدمت به مكة، فاشتراه عبد الله بن جدعان منهم، فأعتقه، فأقام معه بمكة إلى أن هلك عبد الله بن جدعان. وبعث النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله به من الكرامة، ومن به عليه من الإسلام.
وأما أْهل صهيب وولده فيقولون: بل هرب من الروم حين بلغ، فقدم مكة فحالف عبد الله بن جدعان فأقام معه إلى أن هلك.


وكان صهيب رجلاً أحمر شديد الحمرة، ليس بالطويل ولا بالقصير، بل هو إلى القصر أقرب، وكان كثير شعر الرأس، وكان يخضب بالحناء، ولما أسلم عذب فصبر، وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عمر رضي الله عنه لأهل الشورى ليصلي بكم صهيب، فصلى بهم المكتوبات، وقدموه فصلى على عمر رضي الله عنه.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: أخبرنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبد الله بن أبي عبيدة، عن أبيه، قال: قال عمار بن ياسر: لقيت صهيباً بن سنان على باب دار الأرقم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقلت: ما تريد؟ فقال: ما تريد أنت؟ فقلت: أردت أدخل على محمدٍ فأسمع كلامه، قال: وأنا أريد ذلك، قال: فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفون. فكان إسلام عمار وصهيب بعد بضع وثلاثين رجلاً.
قال محمد بن سعد: وأخبرنا سليمان بن حرب، وعفان، وموسى بن إسماعيل، قالوا: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرني علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: أقبل صهيب نحو المدينة مهاجراً، واتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته، ثم قال: يا معاشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي، ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع " قال: ونزل قوله تعالى: " وَمِنَ النًاس منْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاةِ اللهِ واللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ " .
توفي صهيب في هذه السنة، وهو ابن سبعين سنة، ودفن بالبقيع في المدينة.
صفوان بن بيضا - أخو سهيل: شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي في رمضان هذه السنة، وليس له عقب.
محمد بن أبي بكر: وقد ذكرنا صفة قتله، وإن معاوية بن حديج أحرقه بالنار، وكان قتله في صفر من هذه السنة.
ثم دخلت
سنة تسع وثلاثين
فمن الحوادث فيها تفريق معاوية جنوده في أطراف علي رضي الله عنه ومن ذلك: أنه وجه النعمان بن بشير في ألفي رجل إلى عين التمر، وكان بها مالك بن كعب مسلحة لعلي في ألف رجل، فأدن لهم علي فأتوا الكوفة، وأتاه النعمان ولم يبق معه إلا مائة رجل، فكتب مالك إلى علي يخبره بأمر النعمان ومن معه، فخطب علي بالناس وأمرهم بالخروج، فتثاقلوا، فقال: يا أهل الكوفة، كلما سمعتم بجيش من جيوش الشام أظلكم، انجحرى كل امرئ منكم في بيته انجحار الضب في جحره، والضبع في وجارها؛ المغرور والله من غررتموه، ولمن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب: لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النخاء، إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا منيت به منكم. وواقع مالك النعمان بن بشير في تلك العصابة القليلة، فوجه إليه مخنف ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلاً، فانتهوا إلى مالك واصحابه، وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا، فلما رآهم أهل الشام ظنوا أن لهم مدداً وانهزموا، وتبعهم مالك، فقتل منهم ثلاثة نفر، ومضوا على وجوههم.
ومن ذلك: أنه وجه معاوية في هذه السنة سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل، وأمره أن يأتي هيت ويمضي حتى يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها. فسار حتى أتى هيت فلم يجد بها أحداً، ثم أتى الأنبار وبها مَسلَحة لعلي تكون خمسمائة رجل، وقد تفرقوا فلم يبق منهم إلا مائة رجل، فقاتلهم، فصبر لهم أصحاب علي مع قلتهم ثم حملت عليهم الخيل والرجالة فقتلوا صاحب المسلحة، وهو أشرس بن حسان البلوي في ثلاثين رجلاً، وحملوا ما كان في الأنبار من الأموال ورجعوا إلى معاوية وبلغ الخبر علي، فخرج حتى أتى النخَيلة، فقال له الناس: نحن نكفيك؛ قال: ما تكفونني ولا أنفسكم؛ وسرح سعيد بن قيس في أثر القوم، فخرج في طلبهم حتى جاز هيت، فلم يلحقهم فرجع.


ومن ذلك: أنه وجه معاوية في هذه السنة عبد الله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تَيْماء، وأمره أن يُصَدِّق من مر به من أهل البوادي، وأن يقتل من امتنع من عطائه صدقة ماله، ثم يأتي المدينة ومكة والحجاز يفعل ذلك. واجتمع إليه خلق كثير من قومه، فلما بلغ ذلك عليًّاً رضي الله عنه وجه المسيب بن نحية الفَزَاري في ألفي رجل، فسار حتى لحق ابن مسعدة بتيماء، فاقتتلوا حتى زالت الشمس قتالاً شديداً، فدخل ابن مسعدة وعامة من معه إلى الحصن وهرب الباقون نحو الشام، وانتهبت الأعراب إبل الصدقة التي كانت مع ابن مسعدة، وحصره ومن كان معه المسيب ثلاثة أيام، ثم ألقى الحطب على الباب وألهب فيه النار، فلما أحسوا بالهلاك أشرفوا على المسيب فقالوا: يا مسيب، قومك، فرق لهم، فأمر بالنار فأطفئت، وخرج ابن مسعدة ليلاً بأصحابه فلحقوا بالشام.
ومن ذلك: أنه وجه معاوية في هذه السنة الضحاك بن قيس وأمره بالمرور بأسفل واقصة، وأن يغير على كل من مر به ممن في طاعة علي رضي الله عنه من الأعراب، ووجه معه ثلاثة آلاف رجل، فسار وأغار على مسالح علي رضي الله عنه، وأتى على عمرو بن عميس بن مسعود، وكان في خيل علي وهو يريد الحج، فأغار على من كان معه، وحبسه عن المسير، فلما بلغ ذلك علياً سرّح حُجْر بن عدي الكندي في أربعة آلاف، فلحق الضحاك بتدْمُر، فقتل منهم تسعة عشر رجلاً، وقتل من أصحابه رجلان، وحال بينهم الليل، فهرب الضحاك وأصحابه، ورجع حُجْر ومن معه.
وفي هذه السنة وجه ابن عباس زياداً عن أمر علي رضي اللّه عنه إلى فارس وذلك أنه لما قتل ابن الحضرمي اختلف الناس على علي رضي الله عنه، وطمع أهل فارس وأهل كرمان، فغلب أهل كل ناحية على ما يليهم وأخرجوا عمالهم، فاستشار علي رضي الله عنه في رجل يوليه فارس حين امتنعوا من أداء الخراج، فقال له جارية بن قدامة: ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صليب الرأي، عالم بالسياسة، كافٍ لِمَا وليَ؟ قال: من هو؟ قال: زياد، قال: هو لها، فولاه فارس وكرمان، ووجهه في أربعة آلاف، فدوَّخ تلك البلاد حتى استقاموا وأدوا الخراج.
فقال أهل فارس: ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي. وذلك أنه لما قدم فارس بعث إلى رؤسائها فوعد من نصره ومناهم، وخوف قوماً وتوعدهم، وضرب بعضهم ببعض، ودل بعضهم على عورة بعض، فهربت طائفة وأقامت طائفة، وقتل بعضهم بعضاً، وصفت له فارس، فلم يلق فيها حرباً، وفعل مثل ذلك بكرمان، ثم رجع إلى فارس، فسار في كورها ومناهم فسكن الناس إلى ذلك، واستقامت له البلاد، وأتى اصطخر فنزلها وحصن قلعتها، وحمل إليها الأموال فكانت تسمى قلعة زياد، ثم تحصن فيها بعد ذلك منصور اليشكري، فهي اليوم تسمى قلعة منصور.
وفي هذه السنة سار معاوية إلى دجلة ونظر إليها ثم رجع.
واختلف العلماء فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقيل: عبيد الله بن عباس، وقيل: عبد الله بن عباس.
قال الواقدي: بعث عليّ رضي الله عنه على الموسم سنة تسع وثلاثين عبد الله بن عباس، وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي ليقيم الحج للناس، فلما اجتمعا بمكة تنازعا ولم يسلم أحد منهما إلى صاحبه، فاصطلحا على شيبة بن عثمان ابن أبي طلحة.
وكان عمال علي رضي الله عنه في الأمصار في هذه السنة الذين ذكرنا أنهم كانوا عماله في سنة ثمان وثلاثين، غير أن ابن عباس كان شخص في هذه السنة عن عمله بالبصرة، واستخلف زياد بن سمية على الخراج، وأبا الأسود الدؤلي على القضاء في البصرة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
سعد القرظ، مولى عمار بن ياسر كان يؤذن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه بقباء، فلما ولي عمر رضي الله عنه أنزله المدينة وكان يؤذن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوارث أولاده الأذان بعده، وكان يحمل العنزة بين يدي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في العيد.
عقبة بن عمرو بن ثعلبة، أبو مسعود البدري: قد ذكر جماعة من العلماء أنه شهد بدراً، والصحيح أنه لم يشهدها، وإنما نزل ماء بدر فقيل البدري أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا أبو سعيد الصيرفي، قال: سمعت ألا العباس أبا العباس بن محمد الدوري يقول:


قيل ليحيى بن معين: أبو مسعود البدري شهد بدراً؟ فقال: ما شهد بدراً وشهد العقبة.
أنبأنا القزاز،قال: أخبرنا الخطيب، قال: أخبرنا علي بن محمد السمسمار، قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان الصفار، قال: حدثنا عبد الباقي بن نافع: أن أبا مسعود البدري توفي سنة تسع وثلاثين.
ثم دخلت
سنة أربعين
فمن الحوادث فيها توجيه معاوية بسر بن أبي أرطأة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز فساروا من الشام إلى المدينة وعامل علي رضي الله عنه على المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصاري، ففر منهم أبو أيوب فأتى عليًا بالكوفة، ودخل بسر المدينة، فصعد منبرها، ولم يقاتله بها أحد، ودعاهم إلى البيعة فبايعوه. وأرسل إلى بني سلمة فقال: والله ما لكم عندي من أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله، فانطلق جابر إلى أم سلمة زوج النبي ، فقال لها: إني خشيت أن أقبل وهذه بيعة ضلالة، قالت: أرى أن تبايعِ فإني قد أمرت ابني عمرو بن أبي سلمة أن يبايع، فأتاه جابر فبايعه. وهدم بسر دوراً بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، ثم مضى إلى اليمن وعليها عبيد الله بن العباس عامل علي رضي الله عنه ففر إلى الكوفة حتى أتى علياً رضي الله عنه، واستخلف مكانه عبد الله بن عبد المدان الحارثي، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه وقتل جماعة من شيعة علي رضي الله عنه.
وبلغ خبره إلى علي رضي الله عنه، فوجه حارثة بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين، فسار حارثة حتى أتى نجران، فأخذ ناساً من شيعة عثمان فقتلهم وهرب بسر وأصحابه فاتبعهم حتى بلغ مكة، ثم سار إلى المدينة وأبو هريرة يصلي بالناس، فهرب منه.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا الحسين بن عبد الجبار، قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن محمد النصيبي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، قال: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن النضر، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا زائدة عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأرقم - أو ابن الأقمر قال: خطب بنا علي رضي الله عنه يوم جمعة فقال: نبئت أن بسراً قد طلع اليمن، وإني والله أحسب أن سيظهر هؤلاء القوم عليكم وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم لإمامكم وطاعتهم، وخيانتكم وأمانتهم، وإفسادكم في أرضكم وإصلاحهم، قد بعثت فلاناً فخان وغدر، وبعثت فلاناً فخان وغدر، وحمل المال إلى معاوية حتى لو ائتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته، اللهم قد أمتهم أسيموني، وكرهتهم وكرهوني، اللهم فأرحني منهم وأرحهم مني، فما صلى الجمعة الأخرى حتى قتل.
وفي هذه السنة جرت بين علي رضي اللّه عنه ومعارة مهادنة بعد مكاتبات كثيرة على وضع الحرب بينهما، ويكون لعلي العراق، ولمعاوية الشام، ولا يدخل أحدهما على صحبه في حملة بجيش ولا غارة.
قال ابن إسحاق: لما لم يعط أحد الفريقين صاحبه الطاعة، كتب معاوية إلى علي رضي الله عنه: أما إذا شئت فلك العراق ولي الشام، وكف هذا السيف عن هذه الأمة ولا ترق دماء المسلمين. ففعل ذلك علي رضي الله عنه، وتراضوا على ذلك.
وفي هذه السنة خرج عبد الله بن العباس من البصرة ولحق بمكة وذلك أنه جرى بينه وبين أبي الأسود كلام، فكتب أبو الأسود إلى علي رضي الله عنه: إن ابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك، فلم يسعني كتمانك ذلك، فكتب إلى ابن عباس في ذلك، فكتب ابن عباس: إن الذي بلغك باطل، فكتب إليه: فأعلمني ما أخذت؟ ومن أين أخذت؟ وفيم وضعت؟. فكتب ابن عباس: ابعث إلى عملك من أحببت، فإني ظاعن عنه. ورحل بمال.
قال أبو عبيدة: كانت أرزاقاً قد اجتمعت.
وقال أبو عبيدة في رواية أخرى: إن ابن عباس لم يبرح من البصرة حتى قتل عليّ رضي الله عنه، فشخص إلى الحسن فشهد الصلح بينه وبين معاوية، ثم رجع إلى البصرة وثَقَلُه بها فحمله وحمل مالاً من بيت المال قليلاً، وقال: هي أرزاقي.
وقد أنكر المدائني هذا وقال: إِن علياً قتل وابن عباس بمكة، وإن الذي شهد الصلح بين الحسن ومعاوية عبيد الله بن العباس.
وفي هذه السنة قتل علي رضي الله عنه


وكان عامله في هذه السنة على مكة والطائف قثم بن العباس، وعلى المدينة أبو أيوب الأنصاري، وقيل سهل بن حنيف حتى كان من أمر بسر بن أرطأة ما تقدم ذكره. وكان عامله على البصرة عبد الله بن العباس على خلاف قد سبق ذكره.
فلما قتل علي رضي الله عنه بويع للحسن بن علي عليهما سلام الله.
ذكر خلافة الحسن بن علي رضي اللّه عنهما
وكان يكنى أبا محمد، وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد في رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذنه، وعق عنه بكبش وسماه حسناً، وكان علي رضي الله عنه قد سماه حرباً. وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابني هذا سيد " وحج خمس عشرة حجة ماشياً وخرج لله من ماله مرتين، وقاسم الله ماله ثلاث مرات.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: علي بن القاسم الشاهد، قال: حدثنا علي بن إسحاق المادرائي، قال: أخبرنا جعفر، قال: حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث، قال: رأيت أبا بكر يحمل الحسن بن علي على عاتقه وهو يقول: بأبي شبيه بالنبي، ليس شبيهاً بعلي، وعلي معه يتبسم.. " .
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، أخبرنا أبو عمر بن مهدي، حدَّثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي، حدثنا محمد بن إِسماعيل الراشدي، حدثنا علي بن ثابت العطار، حدثنا عبد الله بن ميسرة، وأبو مريم لأنصاري، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حاملاً الحسن بن علي رضي الله عنهما وهو يقول: اللهم إني أحبه فأحبه " .
أنبأنا عبد الوهاب الأنماطي، قال: أخبرنا عاصم بن الحسن، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: حدثنا عثمان بن أحمد، قال: أخبرنا أبو الحسن بن البراء قال: أرخى الحسن بن علي رضي الله عنهما ستره على مائتي حرة.
ذكر مبايعة الحسن رضي اللّه عنه
أول من بايعه قيس بن سعد، قال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتال المخالفين، فقال له الحسن: على كتاب الله وسنة رسول الله، فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط، فبايعه وسكت.
قال الزهري: كان تحت يد قيس بن سعد في زمان علي أربعون ألفاً، فلما قتل واستخلف الحسن، كان الحسن لا يريد القتال وإنما أراد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية ثم يدخل في الجماعة، وعلم أن قيساً لا يوافقه على رأيه، فنزعه وأمر عبيد الله بن عباس، فلما علم عبيد الله بالذي يريد الحسن كتب إلى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه على الأموال التي أصاب، فشرط له معاوية ذلك.
ذكر خروج الحسن لحرب معاوية قال إسماعيل بن راشد: لما بايع الناس الحسن خرج بالناس حتى نزل المدائن، وبعث قيس بن سعد بن عبادة على مقدمته في اثني عشر ألفاً، فأقبل معاوية في أهل الشام حتى نزل مَسكِن، فبينا الحسن في المدائن إذ نادى منادي العسكر: ألا إن قيس بن سعد قد قتل، فانفروا، فنفروا ونهبوا، سرادق الحسن حتى نازعوه بساطاً كان تحته، وخرج الحسن حتى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن، وكان عم المختار بن أبي عبيد - واسمه سعد بن مسعود - عاملاً على المدائن، فقال له المختار وهو غلام شاب: هل لك في الغِنَى والشرف؟ قال: وما ذاك؟ قال: تُوثِق الحسن وتستأمن به إلى معاوية، فقال له سعد: عليك لعنة الله. فلما رأى الحسن تفرق الناس عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح. ثم قام الحسن في أهل العراق فقال: يا أهل العراق إن شحي بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي.
قال هلال بن خباب: لما قتل علي لاضي الله عنه توجه الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى المدائن، فلحقهما الناس بساباط، فحمل على الحسن رجل فطعنه في خاصرته، فسبقهم حتى دخل قصر المدائن، فاولم فيه نحواً من أربعين ليلة، ثم وجه ألى معاوية فصالحه. وحج بالناس في هذه السنة المغيرة بن شعبة، وأظهر أن معاوية أمره ذلك.
وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء
قال سعيد بن عبد العزيز: كانت رضي الله عنه يدعي بالعراق أمير المؤمنين، وكان معاوية يدعي بالشام الأمير، فلما قتل علي رضي الله عنه دعي معاوية بأمير المؤمنين.


ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم القبطي، مولى رسول الله، يكنى أبا رافع شهد فتح مصر واختط بها، وروى عنه من أهلها علي بن رباح، وصار أبو رافع بعد ذلك إلى علي بن أبي طالب، فولاه بيت مال الكوفة. وتوفي بالكوفة في هذه السنة رضي الله عنه.
الأشعث بن قيس بن معدي كرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة، أبو محمد قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة، ثم رجع إلى اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد فأخذ وحمل إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه مقيداً، فأسلم ومن عليه وزوجه أخته.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد مع سعد قتال الفرس بالعراق، وكان على راية كندة بصفين مع علي رضي الله عنه، وحضر قتال الخوارج بالنهروان، وورد المدائن ثم عاد إلى الكوفة فأقام بها حتى مات في الوقت الذي صالح فيه الحسن معاوية، وتوفي ابن ثلاث وستين سنة.
بشير بن عبد المنذر، أبو لبابة: رده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروحاء حين خرج إلى بدر، واستعمله على المدينة وضرب له بسهمه وأجره، فكان كمن شهدها، وشهد أحداً، واستخلفه على المدينة حين خرج إلى غزاة السويق، وكانت معه راية بني عمرو بن عوف في غزاة الفتح، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع المشاهد، ولما استشاروه ببني قريظة أشار إليهم أنه الذبح، ثم ندم فارتبط إلى اسطوانة حتى تاب الله عليه.
تميم بن أوس بن خارجة بن سويد الداري، ويكنى أبا رقية: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة الداريين عند منصرفه من تبوك، فأقاموا حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: أخبرنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني العطاف بن خالد، عن خالد بن سعيد، قال: قال تميم الداري: كنت بالشام حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إلى بعض حاجتي، فأدركني الليل، فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي الليلة. قال: فلما أخذت مضجعي إذ مناد ينادي لا أراه: عِذ بالله فإن الجن لا تجير أحداً على الله، فقلت: ما تقول؟ قال: قد خرج رسول الله الأمين وصلينا خلفه بالحجون وأسلمنا واتبعناه ووهن كيد الجن ورميت بالشهب، وانطلق إلى محمد فأسلم، فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهباً وأخبرته الخبر، فقال: قد صدقوك، نجده قد خرج من الحرم وهو خير الأنبياء فلا تسبق إليه، قال: فتكلفت الشخوص حتى جئت رسول صلى الله عليه وسلم وأسلمت.
قال محمد بن سعد: وأخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أخبرنا خالد الحداء، عن أبي قلابة، قال: كان تميم الداري يختم القرآن في سبع ليال.
قال علماء السير: استأذن تميم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقص على الناس، فأذن له، فلما قتل عثمان رضي الله عنه تحول إِلى الشام.
الحارث بن خزمة بن عدي بن أبي بن غنم، أبو بشير: شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي في هذه السنة، وهو ابن سبع وستين سنة.
خارجة بن حذافة بن غانم: شهد الفتح بمصر، واختط بها، وكان أمير المدد الذين أمد بهم عمر بن الخطاب. وكان على شرطة مصر في إمرة عمرو بن العاص لمعاوية، قتله خارجي بمصر وهو يظن أنه عمرو بن العاص.
خوات بن جبير، أبو عبد الله، وقيل أبو صالح الأنصاري المديني: صاحب ذات النحْيَيْنِ في الجاهلية التي ضرب بها المثل، فقيل: " أشْغَلُ مِنْ ذات النحيين " .
أسلم خوات وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فأصابه بالروحاء حجر، فكسر، فرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وضرب له بأجره وبسهمه فكان كمن شهدها.
وذكر البخاري في تاريخه: عن ابن عيينة أنه شهد بدراً.
وقد شهد أحدأ والمشاهد بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما قصة ذات النحيين:


فأنبأنا أبو الفضل محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بن عبد الله الحبال، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الأشبيلي، وأبو الحسن الحصيب بن عبد الله بن محمد القاضي، وأبو علي محسن بن جعفر بن أبي الكرام، قالوا: أخبرنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن أحمد السمرقندي، قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن داود المنقري البصري، قال: حدًثني عيسى بن إبراهيم، قال: حدثنا عفيف بن سالم الموصلي، عن عثمان بن واقد، قال: قال خوات بن جبير: كنت صاحب ذات النحيين في الجاهلية - والنحي الزق الصغير - وإني أتيت سوق عكاظ فإذا أنا بجارية معها نِحْيان من سمن كأنها فلقة قمر، فقلت لها: من أنت؟ قالت: أنا سلمى بنت يعار الخثعمية، فقلت: لعل سمنك هذا مشوباً؟ فقالت: سبحان الله، أو تشيب الحرة؟ فقلت لها: انزلي إلى بطن الوادي لأذوق سمنك، فنزلت فأخذت إحدى النحْيَيْنِ فذقته، ثم قلت لها: ما هذا بمشوب، ثم دفعته إليها في يدها مفتوحاً، ثم أخذت الآخر فذقته ثم دفعته إليها في يدها اليسرى، ثم شددت عليها فقضيت منها حاجتي، وكرهت أن ترسله، وكان قوت أهلها، فذهبت مثلاً: " أشغل من ذات النّحْيَين " ثم أسلمت وهاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا في بعض طريق المدينة إذا أنا ببغي من بغايا الجاهلية قد كانت لي خلاً فحجبني إسلامي عنها، ودعتني نفسي إليها، فلم أزل ألتفت إليها حتى تلقاني جدار بني جذرة، فسالت الدماء وهشم وجهي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الحالة، فقال: " مهيم " فأخبرته، فقال: " فلا تعد، إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً عجل له عقوبته في الدنيا.
ثم مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ليالٍ وأنا جالس مع نسوان من نسوان أهل المدينة تناشدنني وتضاحكنني وتمازحنني، قال: فعلمت أنه قد رآني، قال: فمضى ولم يقل شيئاً، فلما أن كان من الغد غدوت عليه، فلما رآني قال: " يا خوات أما آن لذلك البعير أن يرجع عن شروده " قال: قلت: والله يا رسول الله ما شرد منذ أسلمت، قال: " صدقت إلى ذلك المجلس فإنه مجلس الشيطان " .
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: قد فسر هذا الحديث أبو عبيدة الهروي وقال: عرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصته مع ذات النحْيَيْنِ. قال: وأراد بقوله: " شروده " أنه لما فعل ذلك شرد في الأرض خوفاً، وليس هذا بشيء، فإنه ما كان ليعيره بشيء كان في الجاهلية وإنما لامه على مجالسته النسوان بعد الإسلام. وقد روى ذلك لنا في حديث أبين من هذا.
أنبأنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن النقور، قال: أخبرنا القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد الأسدي، قال: حدثنا زكريا بن يحيى بن الحارث البصري، قال: حدثنا وهب بن جرير، عن أبيه، قال: سمعت زيد بن أسلم يحدث أن خوات بن جبير، قال: نزلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، فخرجت من خبائي، فإذا أنا بنسوة يتحدثن فأعجبني فرجعت، فاستخرجت حلة من عيبتي فلبستها، ثم جلست إليهن فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبته، فقال لي: " يا عبد الله ما يجلسك إليهن " ؟ قال: فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله جملٌ لي شرود أبتغي له قيداً قال: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعته، فألقى إلي رداءه ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ ثم جاء فقال: " أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟ " قال: فتعجلت إلى المدينة، فاجتنبت المسجد ومجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما طال ذلك علي تحينت ساعة خلوه للمسجد فجعلت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره فجاء فصلى ركعتين خفيفتين ثم جلس، وطولت رجاء أن يذهب ويدعني، فقال: " طول يا أبا عبد الله ما شئت، فلست بنازح حتى تنصرف " فقلت: والله لأعتذرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبرئن صدره. قال: فانصرفت، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: " أبا عبد الله ما فعل شراد الجمل؟ " فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت، فقال: " رحمك الله " مرتين أو ثلاثاً، ثم أمسك عني فلم يعد.
توفي خوات بن جبير بالمدينة في هذه السنة وهو ابن أربع وسبعين سنة، وكان رَبْعة من الرجال.
علي بن أي طالب رضي اللّه عنه:


كان السبب في قتله أن عبد الرحمن بن ملجم، والبرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر التميمي اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم، ثم ذكروا أمر النهر فترحموا عليهم، وقالوا: والله ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئا، كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلال فالتمسنا قتلهم فأرحنا منهم البلاد، وأخذنا بثأر إِخواننا. فقال ابن ملجم: أما أنا فأكفيكم علي بن أبي طالب، وكان من أهل مصر. وقال البرك بن عبد الله: أنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا وتواثقوا لا يَنْكُص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذوا أسيافهم فسموها واتعدوا لسبع عشرة من رمضان أن يثب كل واحد منهم على صاحبه. وأقبل كل منهم إِلى المصر الذي هو فيه يطلبه.
فأما ابن ملجم وكان عداده في كنده، فخرج فلقي أصحابه بالكوفة، وكاتمهم أمره كراهية أن يظهروا شيئاً من أمره، ثم أنه رأى ذات يوم أصحاباً له من تيم الرباب - وكان علي رضي الله عنه قتل منهم يوم النهر عدة فذكروا قتلاهم، ولقي من يومه ذلك امرأة من تيم الرباب يقال لها: " قطام " . وقد قتل علي أباها وأخاها يوم النهر - وكانت فائقة الجمال - فلما رآها التبست بعقله ونسي حاجته التي جاء لها، فخطبها، فقالت: لا أتزوجك حتى تشتفي لي، قال: وما تشائين، قالت: ثلاثة آلاف، وعبد، وقينة، وقتل علي فقال: والله ما جاء بي إلى هذا المصر إِلا قتل عليّ " فلك ما سألت " قالت: إني أطلب لك من يسند ظهرك ويساعدك على أمرك، وبعثت إلى رجل من قومها من تيم الرباب يقال له: " وردان " فكلمته، فأجابها، فأتى ابن ملجم رجلاً من أشجع يقال له: شبيب بن بجرة، فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ فقال: وما ذاك؟ قال: قتل علي، قال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئاً فرياً إذاً، كيف تقدر على علي؟ قال: أكمن له في المسجد فإذا خرج إلى صلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا بأنفسنا وأدركنا ثأرنا، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها، قال: ويحك لو كان غير علي أهون علي، قد عرفت بلاءه في الإسلام، وسابقته مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجدني أنشرح صدراً لقتله. قال: أتعلم أنه قتل أهل العباد المصلين، قال: بلى، قال: فنقتله بمنْ قتل من إخواننا فأجابه، فجاؤا قطام وهي في المسجد الأعظم معتكفة، فقالوا: قد اجتمع رأينا على قتل علي، قالت: فإذا أردتم ذلك فأتوني، فعادوا ليلة الجمعة التي قتل في صبيحتها علي، فقال: هذه الليلة التي واعدت فيها أن يقتل كل واحد منا صاحبه، فأخذوا أسيافهم ووقفوا مقابل السدة التي يخرح منها عليّ رضى الله عنه، فلما خرج ضربه شبيب بالسيف، فوقع سيفه في الطاق، وضربه ابن ملجم بالسيف. وهرب وردان حتى دخل منزله، فدخل عليه رجل، فقال: ما هذا السيف، فأخبره فقتله، وخرج شبيب نحو أبواب كنده في الغلس، وصاح الناس فلحقه رجل من حضرموت - يقال له عويم - وفي يد شبيب السيف، فأخذه، فلما رأى الناس قد أقبلوا وسيف شبيب في يده خشي على نفسه فتركه ونجا بنفسه، ونجا شبيب في غمار الناس، فشدوا على ابن ملجم، فأخذوه. وتأخر علي ودفع في ظهر جعدة بن هبيرة بن أبي وهب، فصلى بالناس الغداة، ثم قال علي رضي الله عنه: علي بالرجل، فأدخل عليه فقال: أي عدو الله، ألم أحسن إليك؟ قال: بلى، قاد: فما حملك على هذا؟ قال: شحذت سيفي هذا أربعين صباحاً، وسألت الله أن يقتل به شر خلقه، فقال: لا أراك إلا مقتولاً له، ولا أراك إلا من شر خلق الله.


أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا الحسن بن محمد النصيبي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سويد، قال: حدَّثنا ابن الأنباري، قال: حدٌثني أبي، قال: حدَّثنا أحمد بن عبيد، عن الهيثم، قال: حدثني رجل من بجيلة، عن مشيخة قومه: إن عبد الرحمن بن ملجم رأى امرأة من تيم الرباب يقال لها:، قطام، كانت من أجمل النساء، ترى رأي الخوارج، قد قتل قومها على هذا الرأي يوم النهروان، فلما أبصرها عشقها فخطبها، فقالت: لا أتزوجك إلا على ثلاثة آلاف، وقتل علي بن أبي طالب، فتزوجها على ذلك، فلما بنى بها قالت: يا هذا قد فَرَعت فافرَع، فخرج ملتبساً سلاحه، وخرجت فضربت له قبة في المسجد، وخرج علي رضي الله عنه يقول: الصلاة الصلاة، فاتبعه عبد الرحمن فضربه بالسيف على قرن رأسه، فقال الشاعر في ذلك:
ولم أر مهراً ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام بيناً غير معجم
ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وقتل علي بالحسام المصَمم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ... ولا قتل إلا دون قتل ابن ملجم
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني علي بن القاسم البصري، قال: حدثنا علي بن إسحاق المادرائي، قال: أخبرنا الصنعاني محمد بن إسحاق، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبان الوراق، قال: حدثنا ناصح أبو عبد الله المحلمي، عن سماك، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: " من أشقى الأولين؟ " قال: عاقر الناقة، قال: " فمن أشقى الآخرين؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: " قاتلك " .
قال محمد بن الحنفية: والله إني لأصلي في تلك الليلة التي ضرب فيها علي في رجال كثيرة ما هم إلا قياماً وركوعاً وسجوداً، وما يسأمون من أول الليل إلى آخره، إذ خرج علي لصلاة الغداة، فجعل ينادي: أيها الناس، الصلاة الصلاة، إذ نظرت إلى بريق السيف، وسمعت: الحكم لله لا لك يا علي ولا لأصحابك، فرأيت سيفاً وسمعت عليًا يقول: لا يفوتنكم الرجل، وشد الناس عليه من كل جانب، فلم أبرح حتى أخذ ابن ملجم وأدخل إلى علي رضي الله عنه، فدخلت فيمن دخل، فسمعت عليًا يقول: النفس بالنفس، إن هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي وكان ابن ملجم مكتوفاً بين يدي علي رضي الله عنه، فنادته أم كلثوم بنت علي وهي تبكي: أي والله، ويلك قتلت أمير المؤمنين، قال ما قتلت إلا أباك، قالت: إني لأرجو ألا يكون عليه بأس، قال: فما لك تبكين، والله سممته شهراً، ولو كانت هذه الضربة بجميع أهل الأرض ما بقي منهم أحد.
قالوا: يا أمير المؤمنين: إِن فقدناك أنبايع الحسن؟ فقال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر. ثم دعا حسناً وحسيناً، فقال: أوصيكم بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا، ولا تبكيا على شيء زوى عنكما، ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض.
وذلك في رمضان، وغسله الحسن والحسين عليهما السلام، وعبد الله بن جعفر، وكفن في ثلاثة أثواب وكبر عليه الحسن تسع تكبيرات.
أخبرنا الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا شريك عن عمران بن ظبيان، عن أبي يحيى، قال: لما ضرب ابن ملجم علياً رضي الله عنه قال عليّ رضي الله عنه: افعلوا له كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل برجل أراد قتله، فقال: اقتلوه، ثم حرقوه.
وذكر أبو الحسن المدائني أن ابن ملجم لما ضرب عليّ بن أبي طالب، قال ابن ملجم: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه " . وآخر ما تكلم به علي رضي الله عنه " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " .
فصل
واختلف العلماء في وقت قتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. فقال أبو معشر والواقدي: قتل يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان.
وقال المدائني: يوم الجمعة لإحدى عشرة. قال: وقد قيل في ربيع الآخر.
فصل
واختلف في سن عليّ رضي الله عنه:


فأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أقال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر الواقدي، قال: حدَّثنا أبو بكر عبد الله بن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي رضي الله عنهما: كم كان سن علي رضي الله عنه يوم قتل؟ قال: ثلاثاً وستين سنة، قلت: أين دفن؟ قال: بالكوفة ليلاً وقد غُبِّي عني دفنه.
وفي رواية عن جعفر بن محمد، قال: كان سن عليّ رضي الله عنه ثمانياً وخمسين سنة.
وذكر محمد بن سعد: إنه لما مات علي رضي الله عنه أخرج ابن ملجم من الحبس، فقالوا: نشفي نفوسنا منه، فقطع عبد الله بن جعفر يديه ورجليه، فلم بجزع ولم يتكلم، فكحل عينيه بمسمار محمي فلم يجزع، وأخرج لسانه ليقطع، فجزع وقال: أكره أن أكون في الدنيا فواقاً لا أذكر الله، فقطعوا لسانه ثم أحرقوه.
فصل واختلفوا في موضع دفنه عليه السلام.
فأخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أَبو بكر أحمد بن علي الخطيب، قال: أخبرنا حمزة بن محمد بن طاهر، قال: أخبرنا الوليد بن بكر، قال: حدثنا علي بن أحمد بن زكريا، قال: حدثنا أبو مسلم صالح بن أحمد بن عبد الله العجلي، قال: حدثني أبي، قال: علي بن أبي طالب قتل بالكوفة، قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي، وقتل عبد الرحمن الحسن بن علي، ودفن بها، ولا يعلم أين موضع قبره.
وفي رواية: أنه دفن مما يلي قبلة المسجد.
وقيل: عند قصر الإمارة.
وقالا أبو نعيم الفضل بن دكن: حوله ابنه الحسن إلى المدينة، فدفن بالبقيع عند قبر فاطمة عليها السلام.
وفي رواية: أنهم خرجوا به يريدون المدينة، فضل البعير الذي هو عليه، فأخذته طيء يظنونه مالاً. فلما رأوه دفنوا الصندوق بما فيه.
كان هذه الروايات رواها أبو بكر الخطيب.
وقال: حكى لنا أبو نعيم الحافظ، قال: سمعت أبا بكر الطلحي يذكر أن مطيناً كان ينكر أن يكون القبر المزور بظاهر الكوفة قبر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يقول: لو علمت الرافضة قبر من هذا لرجمته بالحجارة؟ هذا قبر المغيرة بن شعبة.
والله أعلم أي الأقوال أصح.
أما البرك بن عبد اللّه: فإنه مضى تلك الليلة، فقعد لمعاوية، فلما خرج ليصلي الغداة شد عليه بسيفه فوقع السيف في أليته، فأخذ، فقال له: إن عندي خبراً أسرك به، فإن أخبرتك فنافعي ذلك عندك؟ قال: نعم، قال: إن أخاً لي قتل عليًّا في هذه الليلة، قال: فلعله لم يقدر على ذلك، قال: بلى، إن علياً يخرج ليس معه أحد يحرسه، فأمر به معاوية فقتل.
وبعث معاوية إلى الطبيب، فلما نظر إليه قال: اختر إحدى خصلتين: إما أن أحمي حديدة وأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع عنك الولد وتبرأ، فإن ضربتك مسمومة، فقال معاوية: أما النار فلا صبر لي عليها، وأما انقطاع الولد فإن في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني، فسقاه تلك الشربة فبرأ ولم يولد له بعدها. وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورة، وحرس الليل، وقيام الشرطة على رأسه إذا سجد.
وأما عمرو بن بكر: فجلس لعمرو تلك الليلة فلم يخرج، وكان اشتكى بطنه، فأمر خارجة بن حذافة صاحب شرطته، فخرج ليصلي، فشدد عليه وهو يرى أنه عمرو، فضربه، فأخذه الناس وانطلقوا به إلى عمرو، فقال: من هذا؟ فقالوا: عمرو، قال: فمن قتلت؟ قالوا: خارجة، قال: أما والله يا فاسق ما أردت غيرك، فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة. فقتله عمرو.
لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب، أبو عقيل الشاعر: كان يقال لأبيه ربيعة المقترين، لجوده وسخائه، قدم في وفد فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم وذلك بعد وفاة أخيه أربد وعامر بن الطفيل، ثم هاجر وحسن إسلامه، ونزل الكوفة في أيام عمر، وكان من الشعراء المجودين في الجاهلية وفي الإسلام. وقال له المغيرة: أنشدني ما قلت من الشعر في الجاهلية والإسلام، فقال: قد أبدلني الله بذلك سورة البقرة وآل عمران.
وقال أبو عبيدة: لم يقل لبيد في الإسلام إلا بيتاً واحداً، وهو هذا:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى لبست من الإسلام سربالا


قال عمرو بن شيبة، حدثني عبد الله بن محمد بن حكيم، قال: كان لبيد من أجواد العرب، وكان قد آلى ألا تهب الصبا إِلا أطعم، وكان له جفنتان يُغْدَا بهما ويراح في كل يوم على أهل مسجد قومه، فهبت الصبا يوماً والوليد بن عقبة على الكوفة، فصعد الوليد المنبر فخطب الناس، ثم قال: إن أخاكم لبيد بن ربيعة نذر في الجاهلية ألا تهب الصبا إِلا أطعم، وهذا يوم من أيامه، وقد هبت الصبا فأعينوه، وأنا أول من فعل، ثم نزل عن المنبر، فأرسل إليه بمائة بكرة، وكتب إليه بأبيات قالها:
ما أرى المجزار يشحذ شفرتيه ... إذا هبت رياح أبي عقيل
أشم الأنف أصيد عامري ... طويل الباع كالسيف الصقيل
فقال لابنته: أجيبيه، فلعمري لقد عشت برهة وما أنحني بجواب شاعر، فقالت:
إذا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبتها الوليد
أشم الأنف أروع عبشمياً ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركباً ... عليها من بني حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيراً ... نحرناها وأطعمنا الثريدا
فعد إن الكريم له معادٌ ... وظني بابن أروى أن تعودا
فقال لبيد: لقد أحسنت لولا إنك استطعمتيه فقالت: إن الملوك لا تستحي من مسألتهم، فقال: وأنت في هذا يا بنية أشعر.
ولما بلغ لبيد سبعاً وسبعين سنة، قال:
باتت تشكِّى إلي النفس مجهشة ... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
فإن تراءى ثلاثاً تبلغي أملاً ... وفي البلاد وفاء للثمانينا
فلما بلغ التسعين، قال:
كأني قد جاوزت تسعين بعدما ... خلعت بها عن منكبي ردائيا
فلما بلغ مائة وعشراً قال:
أليس في مائه قد عاشها رجل ... وفي تكامل عشر بعدها عمر
فلما جاوزها قال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد
أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط: أسلمت بمكة، وبايعت قبل الهجرة، وهي أول من هاجر من النساء بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، هاجرت في هدنة الحديبية.
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن بيان، قال: أخبرنا أبو منصور أحمد بن محمد السواق، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن مالك، قال: أخبرني إبراهيم الحربي، قال: حدثنا محمد بن صالح، عن محمد بن عمر، عن ربيعة بن عثمان وقدامة، قالا: لا نعلم قرشية خرجت من بين أبويها مسلمة مهاجرة إلا أم كلثوم.


قالت: كنت أخرج إلى بادية لنا فيها أهلي فأقيم بها الثلاث والأربع، وهي ناحية التنعيم، ثم أرجع إلى أهلي فلا ينكرون ذهابي البادية، حتى أجمعت المسير، فخرجت يوماً من مكة كأني أريد البادية، فلما رجع من تبعني إذا رجل من خزاعة قال: أين تريدين؟ قلت: وما مسألتك ومن أنت؟ قال رجل من خزاعة إطمأننت إليه لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده - فقلت: إني إمرأة من قريش، وإني أريد اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا علم لي بالطريق، فقال: أنا صاحبك حتى أوردك المدينة، ثم جاءني ببعير فركبته فكان يقود بي البعير، ولا والله ما يكلمني بكلمة حتى إذا أناخ البعير تنحى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيد بالشجر، وتنحى إلى فيء شجرة حتى إذا كان الرواح خدج البعير فقربه وولى عني، فإذا ركبت أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى أنزل، فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله من صاحب خيراً، فدخلت على أم سلمة وأنا متنقبة، فما عرفتني حتى كشفت النقاب فالتزمتني وقالت: هاجرت إلى الله وإلى رسوله؟ قلت: نعم، وأنا أخاف أن يردني كما رد أبا جندل وأبا بصير، وحال الرجال ليس كحال النساء، والقوم مصبحي قد طالت غيبتي عنهم اليوم خمسة أيام منذ فارقتهم، وهم يتحينون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبوني فإن لم يجدوني رحلوا. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، فأخبرته خبر أم كلثوم، فرحب بها وسهل، فقلت: إني فررت إليك بديني فامنعني ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني ولا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة وضعف النساء على ما تعرف، وقد رأيتك رددت رجلين حتى امتنع أحدهما، فقال: " إن الله عز وجل نقض العهد في النساء " وحكم في ذلك بحكم رضوه كلهم وكان يرد النساء، فقدم أخواها الوليد وعمارة من الغد، فقالا: أوف لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه، فقال: " قد نقض الله ذلك " فانصرفا.
قال مؤلف الكتاب: ومعنى نقض العهد في النساء، نزول الامتحان في حقهن، وذلك أنه كان يقول للمرأة: والله ما أخرجك إلا حب والله ورسوله والإسلام، ولا خرجت لزوج ولا مال، فإذا قالت ذلك تركت ولم ترد.
وكانت أم كلثوم عذراء، فتزوجها زيد بن حارثة، فلما قتل عنها، تزوجها الزبير فولدت له، ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له، ثم تزوحها عمرو بن العاص فماتت عنده..
ثم دخلت
سنة إحدى وأربعين
فمن الحوادث فيها:
تسليم الحسن رضي الله عنه الأمر لمعاوية
وذلك أن الحسن لما تفرق الناس عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح، فبعث معاوية إليه عبد الله بن عامر، وعبد الرحمن بن سمرة، فقدما عليه المدائن، فأعطياه ما أراد وصالحاه على أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف في أشياء اشترطها، وكان معاوية قد أرسل إليه قبل ذلك صحيفة بيضاء وكتب إليه اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فاشترط أضعاف الشروط التي سألها معاوية قبل ذلك، وأمسكها عنده وأمسك معاوية صحيفة الحسن التي كتب إليه فيها، فلما اِلتقيا سأله الحسن أن يعطيه الشروط التي شرط في الصحيفة، فأبى معاوية وقال: لك ما كنت تسألني.
وكان الصلح بينهم بمسكن، ثم دخلوا الكوفة، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: مر الحسن أن يقوم فيخطب، فكره معاوية ذلك وقال: ما تريد بهذا؟ قال: أريد أن يبدو عيه في الناس. فخرج معاوية فخطب ثم قال: قم يا حسن فتكلم، فقام فقال: أما بعد، فإن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، والدنيا دوَل، وإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وَإنْ أدرِي لعًله فِتْنَة لَكمْ وَمَتَاعُ إلَى حِينٍ " . فقال معاوية: اجلس.
ثم خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر من الكوفة إلى المدينة، وسلم الكوفة إلى معاوية لخمس بقين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين.
وقيل في ربيع الآخر، ويقال: في غرة جمادى الأولى.
ولما رحل الحسن تلقاه قوم فقالوا: يا مذل العرب.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا إبراهيم بن مخلد بن جعفر، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكمي قال: حدَّثنا عباس بن محمد، قال: حدثنا أسود بن عامر، قال: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا أبو روق الهمذاني، قال: أخبرنا أبو العريف، قال:


كنا على مقدمة الحسن بن علي في اثني عشر ألفاً بمسكن مستميتين من الجد على قتال أهل الشام وعلينا أبو العمرطة، فلما جاءنا صلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ، فلما قدم الحسن بن عليّ على الكوفة، قال له رجل منا يقال له أبو عامر سفيان بن الليل: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال: لا تقل ذلك يا أبا عامر، لست بمذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك.
باب ذكر خلافة معاوية
وهو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. . وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، واستكتبه النبي صلى الله عليه وسلم، وولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه مكان أخيه يزيد لما مات، فلم يزل كذلك خلافة عمر، وأقره عثمان وأفرد له جميع الشام، وقد ذكرنا ما جرى له مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من القتال ومصالحة الحسن إياه، ومبايعته له بالخلافة، وذلك في سنة إحدى وأربعين، فسمي عام الجماعة، فاستعمل على القضاء فضالة بن عبيد، فلما مات استقضى أبا إدريس الخولاني، وكان على شرطته قيس بن حمزة، وكان كاتبه وصاحب أمره سرحون بن منصور الرومي.
وكان معاوية أول من اتخذ الحرس، وأول من حزم الكتب ثم ختمها؛ لأنه كان قد أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم ففض عمرو الكتاب وجعل المائة مائتين، فلما رفع حسابه إلى معاوية أنكر ذلك وأمر عمراً بردها وحبسه، فأداها أخوه عبد الله بن الزبير عنه.
وفي هذه السنة جرى الصلح بين قيس بن سعد ومعاوية وذلك أن قيس بن سعد كان على شرطة جيش علي رضي، الله عنه وهم أربعون ألفاً فتعاقدوا هم وهو على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي رضي الله عنه على أموالهم ودمائهم وما أصابوا في الفتنة، فأرسل معاوية إلى قيس يذكره الله تعالى، ويقول: على طاعة من تقاتل وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك، فأبى أن يلين له، فأرسل إليه معاوية بسجل قد ختم عليه في أسفله، وقال: اكتب في هذا السجل ما شئت فهو لك، فقال عمرو: لا تعطه، وقاتله، فقال: على رسلك، فإنا لا نخلص إلى قتال هؤلاء حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشام، فما خير العيش بعد ذلك، وإنى لا أقاتله حتى لا أجد بداً من قتاله، فلما بعث إليه معاوية ذلك السجل اشترط لنفسه ولشيعة عليِّ ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يسأل معاوية في سجله مالاً، وأعطاه معاوية ما سأل، فدخل قيس بن سعد ومن معه في طاعة معاوية.
وفي هذه السنة غلب حمران بن أبان على البصرة وذلك أنه لما صالح الحسن معاوية، وثب حمران على البصرة فأخذها، فبعث إليه معاوية بسر بن أرطأة، فصعد حمران إلى المنبر وشتم علياً رضي الله عنه، ثم قال: أنشد الله رجلاً عليماً أني صادق إلا صدقني، أو كاذب إلا كذبني، فقال أبو بكرة: لا نعلمك إلا كاذباً، فأمر به يخنق، فقام أبو لؤلؤة الضبي فرمى بنفسه عليه فمنعه، فأعطاه أبو بكرة - بعد ذلك مائة جريب، فقيل لأبي بكرة: ما أردت بهذا؟ فقال: يناشدنا بالله ثم لا نصدقه، فأقام بسر بالبصرة ستة أشهر وفي هذه السنة ولي معاوية بن عامر البصرة، وحرب سجستان وخراسان وسبب ذلك أن معاوية أراد أن يوجه عتبة بن أبي سفيان على البصرة، فقال له ابن عامر: إن لي بها أموالأ وودائع فإن لم توجهني عليها ذهبت، فولاه البصرة فقدمها في آخر سنة إحدى وأربعين وإليه على خراسان وسجستان، فولى حبيب بن شهاب شرطته - وقيل: قيس بن الهيثم - واستقضى عميرة بن يثربي.
وفي هذه السنة.
حج بالناس عتبة بن أبي سفيان. في قول أبي معشر. وقال الواقدي: بل عنبسة بن أبي سفيان.
وفي هذه السنة ولد علي بن عبد الله بن عباس، وقيل: بل ولد في سنة أربعين.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب، وأمه العجلة بنت العجلان: أخبرنا يحيى بن الحسن، أخبرنا ابن المسلمة، أخبرنا المخلص، أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي، حدثنا الزبير بن بكار، قال: كان ركانة بن عبد يزيد أشد الناس، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن صرعتني آمنت بك، فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك ساحر، ثم أسلم بعد، ونزل المدينة فمات بها في أول خلافة معاوية.


أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن ربيعة الكلابي، عن أبي الحسن العسقلاني، عن أبي جعفر محمد بن ركانة، عن أبيه: أنه صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: أن ركانة هذا كان لا يصرعه أحد. وأسلم يوم الفتح.
رفاعة أبن رافع بن مالك بن العجلان: شهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح أبو وهب: أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي، قال: أخبرنا أبو بكر الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدَّثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، عن عبد الله بن الزبير، قال: لما كان يوم الفتح هرب صفوان بن أمية بن خلف حتى أتى الشعبية، فقال عميربن وهب اللخمي: يا رسول الله، إن سيد قومي خرج هارباً ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه، فأمنه فداك أبي وأمي، قال: قد أمنته. فخرج عمير بن وهب في أثره فأدركه، فقال: جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس، وقد أمنك، فقال: لا والله حتى تأتيني منه بعلامة أعرفها، فرجع عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: " خذ عمامتي " ، وهو البرد الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة معتجراً به برد حبرة، فخرج عمير فأعطاه البرد فعرفه فرجع معه، وانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس العصر، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ صفوان بن أمية: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني ببردك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمراً وإلا سيرتني شهرين، قال: " انزل أبا وهب " قال: لا والله حتى يتبين لي، قال: لك تسير أربعة أشهر، فنزل صفوان، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هوازن، وخرج معه صفوان واستعاره رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحاً، فأعاره مائة درع بأداتها، وشهد معه حنين والطائف وهوكافر، ثم رجع الجعرانة، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها ومعه صفوان جعل، صفوان ينظر إلى شعب ملاء نعم وشاء ورعاء، فأدام إليه النظر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه، فقال: أبا وهب، يعجبك هذا الشعب، قال: نعم، قال: هو لك وما فيه، فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأسلم مكانه وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً مع المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين خمسين بعيراً.
قال محمد بن عمر: لم يزل صفوان صحيح الإسلام، ولم يبلغنا أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ولا بعده، ولم يزل مقيماً بمكة إِلى أن مات بها في أول خلافة معاولة.
عثمان بن طلحة بن أي طلحة بن عبد العزى: أنبأنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدَّثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا إِبراهيم بن محمد العبدري، عن أبيه، قال: قال عثمان بن طلحة:


لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة ودعاني إلى الإسلام، فقلت: يا محمد، العجب لك حيث تطمع أن أتبعك وقد خالفت دين قومك وجئت بدين محدث، وفرقت جماعتهم، فانصرف، وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الإثنين والخميس، فأقبل يوماً يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فغلظت له ونلت منه، وحلم عني، ثم قال: يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت " ، فقلت له: لقد هلكت قريش يومئذٍ وذلت، قال: " بل عزت " . ودخل الكعبة، فوقعت كلمته مني موقعاً ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال، فأردت الإسلام، فإذا قومي يزئروني زئراً شديداً، فلما هاجر جعلت قريش تشفق من رجوعه عليها، فهم على ما هم عليه حتى جاء إلى بدر، فخرجت فيمن خرج، وشهدت المشاهد كلها معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام القضية غير الله قلبي ودخلني الإسلام، وجعلت أفكر فيما نحن عليه وما نعبد من حجر لا يسمع ولا يبصر، وأنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وظلف أنفسهم عن الدنيا، فيقع ذلك مني، ولم يعزم، إلى أن آتيه حتى انصرف إلى المدينة راجعاً، ثم عزم لي على الخروج إليه، فأدلجت، فألقى خالد بن الوليد فاصطحبنا حتى نزلنا الهدة، فما شعرنا إلا بعمرو بن العاص فانقمعنا منه وانقمع منا، ثم قال: أين يريد الرجلان؟ فأخبرناه، فقال: وأنا أريد الذي تريدان، فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام وأقمت معه حتى دخلت معه في غزوة الفتح ودخل مكة وقال لي: " يا عثمان، ائت بالمفتاح " فأتيِت به، فأخذه مني ثم دفعه إليّ، فقال: " خذها تالدة خالدة لا ينزعها إلا ظالم " .
قال محمد بن عمر: وكان قدوم عثمان المدينة فيِ صفر سنة ثمان، ولم يزل مقيماً بالمدينة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى مكةَ، فنزلها حتى مات بها في أول خلافة معاوية.
عمرو بن الأسود السكوني: كان حسن السمت والهدي، أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدَّثني أبي، قال: حدثنا أَبو اليمان، قال: أخبرنا أبو بكر بن حكيم بن عمير، وضمرة بن حبيب، قالا: قال عمر بن الخطاب: من سره ألط ينظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود.
قال المصنف: كان عمرو إذا خرج من بيته إلى المسجد قبض يمينه على شماله مخافة الخيلاء، وكان يشتري الحلة بمائتي درهم، ويصبغها بدينار ويخمرها النهار كله ويقوم فيها الليل كله.
وقد أسند عن معاذ، وعثمان، والعرباض، وغيرهم عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى: أمها أم كرز بنت الحضرمي، أسلمت وبايعت وهاجرت، فتزوجها عبد الله بن أبي بكر وجعل لها بعض أرضيه على ألا تتزوج بعده، فلما توفي بعث إليها عمر وقال: إنك قد حرمت على نفسك ما أحل الله لك، فردي المال وتزوجي، فتزوجها عمر، فأرسلت إليها عائشة أن ردي علينا أرضنا أنبأنا الحسن بن محمد البارع، قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قال: حدثنا أحمد بن سليمان بن داود الطوسي، قال: حدًثنا الزبير بن بكار قال: حدَّثنا محمد بن الضحاك الحزامي، عن أبيه، وأحمد بن عبيد الله، عن عبد الله بن عاصم بن المنذر - يزيد أحدهما على صاحبه - قال: تزوج عبد الله بن أبي بكر الصديق عاتكة بنتَ زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت حسناء ذات خلق بارع، فشغلته عن مغازيه، فأمره أبوه بطلاقها وقال: إنها قد شغلتك عن مغازيك، فقال:
يقولون طلقها وخضم مكانها ... مقيماً عليها الهم أحلام نائم
وإن فراقي أهل بيت جمعتهم ... على كره مني لإحدى العظائم
ثم طلقها فمر به أبوه وهو يقول:
لم أرمثلي طلق العام مثلها ... ولامثلها في غير جرم يطلق
لها خلق جزل ورأي ومنصب ... وخلق سوي في الحياة مصدق
فرق له أبوه وأمره بمراجعتها، ثم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاة فأصابه سهم فمات منه فقالت زوجته عاتكة تبكيه:
رزيت بخير الناس بعد نبيهم ... وبعد أبي بكر وماكان قصرا
وآليت لا تنفك عيني حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا


فلله عينا من رأى مثله فتى ... أكر وأحمى في الهياح وأصبرا
إذا شرعت فيه الأسنة خاضها ... إِلى الموت حتى يترك الرمح أحمرا
ثم تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأولم، وكان فيمن دعا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: يا أمير المؤمنين دعني أكلم عاتكة، فقال: كلمها يا أبا الحسن، فأخذ علي رضي الله عنه بجانب الخدر، ثم قال: يا عدية نفسها، تقولين:
آليت لاتنفك عيني قريرة ... عليك ولاينفك جلدي أصفرا
فبكت، فقال عمر: ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن، كل النساء تفعلن هذا ثم قتل عنها، ثم تزوجها الزبير، فكانت تخرج إلى المسجد وكان يكره خروجها ويحرج من منعها، فخرجت ليلة إلى المسجد، وخرج الزبير فسبقها إلى مكان مظلم، فلما مرت به وضع يده على بعض جسدها، فرجعت تتشنج ثم لم تخرج بعد ذلك، فقال لها الزبير: مالك لا تخرجين إِلى المسجد كما كنت تفعلين؟ فقالت: فسد الناس، فقال: أنا فعلت ذلك، فقالت: أليس يقدر غيرك أن يفعل مثله، ولم تخرج حتى قتل عنها الزبير.
ثم دخلت
سنة اثنتين وأربعين
فمن الحوادث فيها غزو المسلمين الروم إن المسلمين غزوا الروم فهزموهم هزيمة منكرة، وقتلوا جماعة من بطارقتهم.
وفيها ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة.
فاستقضى مروان بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وعلى مكة خالد بن العاص بن هشام، وكان على الكوفة من قبله المغيرة بن شعبة، وعلى القضاء شريح، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وعلى قضائها عميرة بن يثربي، وعلى خراسان قيس بن الهيثم من قبل عبد الله بن عامر.
وفيها تحركت الخوارج الذين كانوا انحازوا عمن قتل منهم بالنهروان، ومن كان ارتُث من جرحاهم بالنهروان، فبرىء، وعفا عنهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
وكان حيان بن ظبيان السلمي يرى رأي الخوارج، وكان ممن ارتث يوم النهروان، فعفا عنه علي رضي الله عنه في أربعمائة عفى عنهم من المرتثين يوم النهر، فلبث في أهله شهراً أو نحوه، ثم خرج إلى الري في رجال كانوا يرون ذلك الرأي، فلم يزالوا مقيمين بالريّ حتى بلغهم قتل علي رضي الله عنه، فدعا أصحابه أولئك وكانوا تسعة عشر رجلاً، فأتوه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الإخوان من المسلمين، إنه قد بلغني أن أخاكم ابن ملجم قعد لعلي عند أغباش الصبح، فشد عليه فقتله، فأخذ القوم يحمدون الله على قتله، فقال حيان: إنه والله ما تلبث الأيام لابن آدم حتى تذيقه الموت، فيدع الدنيا التي لا يبكي عليها إلا الفجرة، فانصرفوا رحمكم الله إلى مصرنا فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لا عذر لنا في القعود، وولاتنا ظلمة، وسنة الهدى متروكة، فإن ظفرنا الله بهم يشفي صدور قوم مؤمنين، وإن نقتل فهي مفارقة الظالمين ففيها راحة، ولنا في أسلافنا الصالحين أسوة. فقالوا: كلنا قابل منك ما ذكرت وحامد رأيك، فرد بنا المصر فإنا راضون بهديك.
فخرج وخرجوا معه مقبلين إلى الكوفة، فأحب العافية، وأحسن في الناس السيرة، ولم يفتش على أهل الأهواء عن أهوائهم، وكان يقال له: إن فلاناً يرى رأي الشيعة، وفلاناً يرى رأي الخوارج، فيقول: قضى الله، ألا تزالون مختلفين، وسيحكم الله بين عباده، فأمنه الناس، وكانت الخوارج يلقي بعضهم بعضاً، ويتذاكرون مكان إخوانهم بالنهروان، ويرون في جهاد أهل القبلة.
ففزعوا إلى ثلاثة نفر المستورد بن عُلّفة التيمي، وحيان بن ظبيان، ومعاذ بن حصن الطائي، فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان، فتشاوروا فيمن يولون عليهم، فقال لهم المستورد: أيها المؤمنون، ما أبالي من كان منكم الوالي، وما شرف الدنيا نريد، وما إلى البقاء فيها من سبيل، فقال حيان: أما أنا فلا حاجة لي فيها، وأنا بك، وبكل امرىء من إخواني راض، فانظروا من شئتم منكم فسموه، فأنا أول من يتابعه.


فقال معاذ بن حصين: إذا قلتما هذا وأنتما سيدا المسلمين، فمن يرأس المسلمين وليس كلكم يصلح لهذا الأمر، وإنما ينبغي أن يلي على المسلمين إذا كانوا سواء في الفضل أبصرهم بالحرب، وأفقههم في الدين، وأنتما بحمد الله ممن يرضى بهذا الأمر فليتوله أحدكما، قالا: فتوله أنت، فقد رضيناك، فأنت والحمد لله الكامل في دينك ورأيك. فقال: أنتما أسن مني، فليتوله أحدكما. فقال جماعة من الخوارج: قد رضينا بكم أيها الثلاثة، فولوا أيكم أحببتم، فليس في الثلاثة رجل قال لصاحبه: تولها فإني بك راض، ثم بايعوا المستورد، وذلك في جمادى الآخرة، ثم أجمعوا على الخروج في غرة هلال شعبان سنة ثلاث وأربعين.
وفي هذه السنة قدم زياد على معاوية
من فارس بعد أن كان قد امتنع بقلعة من قلاعها أكثر من سنة، فصالحه معاوية على مال يحمله إليه وكان سبب ذلك؛ أن عبد الرحمن بن أبي بكرة كان يلي ما كان لزياد بالبصرة، فبلغ معاوية أن لزياد أموالاً عند عبد الرحمن، وخاف زياد على أشياء كانت في يدي عبد الرحمن لزياد، فكتب إليه يأمره بإحرازها، وبعث معاوية المغيرة بن شعبة لينظر في أموال زياد، فقدم البصرة، وأخذ عبد الرحمن وكتب إلى معاوية: إني لم أصب في يدي عبد الرحمن شيئاً يحل لي أخذه، وكتب معاوية إلى زياد: علام تهلك نفسك أقبل فأعلمني علم ما صار إليك من المال وما خرج من يديك وما بقي عندك وأنت آمن فأتاه فأخبره فصدقه، ثم سأله أن يأذن له في نزول الكوفة، فأذن له فشخص إليها.
وفي هذه السنة حج بالناس عنبسة بن أبي سفيان
وفيها: ولد الحجاج بن يوسف.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم، أبو عبد اللّه: أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: حدثنا ابن معاوية، قال: حدثنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدًثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عمرو بن العاص:


كنت للإسلام مجانباً معانداً، حضرت بدراً مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحداً فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت، فقلت في نفسي: كم أوضع؟ والله ليظهرن محمد على قريش فلم أحضر الحديبية ولا صلحها، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلح، ورجعت قريش إلى مكة، فجعلت أقول: يدخل محمد إلى مكة بأصحابه، ما مكة لنا بمنزل ولا الطائف، وما شيء خير من الخروج، وأنا بعد نأي عن الإسلام، أرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم، فقدمت مكة، فجمعت رجالاً من قومي كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، ويقدموني فيما نابهم، فقلت لهم: كيف أنا فيكم؟ قالوا: ذو رأينا ومدد وهننا مع يمن نَقِيبة وبركة أمر، قلت: تعلمن والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً، وإني قد رأيت رأياً، قالوا: ما هو؟ قلت: نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يديه محمد، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا، قالوا: هذا الرأي، قلت فاجمعوا ما تهدون له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا أدماً كثيراً ثم خرجنا فقدمنا على النجاشي فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه بكتاب كتبه إِليه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري، ولو قد دخلت على النجاشي سألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سررت قريشاً وكنت قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي، أهديت لي من بلادك شيئاً؟ قلت: نعم أيها الملك، أهديت لك أدماً كثيراً، ثم قربته إليه فأعجبه، وفرق منه أشياء بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضع، فلما رأيت طيبة نفسه قلت: أيها الملك، إني رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل هو عدونا، وقد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله، فغضب ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة أنه كسره، وابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي وأصابني من الذل ما لو شقت الأرض دخلت فيها فرقاً منه، فقلت له: أيها الملك، لو ظننت أنك تكره ما قلت. ما سألتك إياه. قال: فاستحيا وقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى أعطيكه لتقتله؟ قال عمرو: وغير الله قلبي عما كنت عليه وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب والعجم وتخّالف أنت، قلت: وتشهد أيها الملك بهذا؟ قال: نعم أشهد به عند الله يا عمرو أطعه واتبعه، والله إنه لعلى الحق، وليظهرن على كل من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قلت: أفتبايعني له على الإسلام، قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ودعي لي بطست فغسل عني الدم وكساني ثياباً وكانت ثيابي قد امتلأت من الدّم فألقيتها ثم خرجت إلى أصحابي، فلما رأوا كسوة الملك سروا بذلك، وقالوا: هل أدركت من صاحبك ما أردت؟ فقلت لهم: كرهت أن أكلمه في أول مرة وقلت: أعود إليه قالوا: الرأي ما رأيت، وفارقتهم وكأني أعمد لحاجة، فعمدت إلى موضع السفن فوجدت سفينة قد شحنت تدفع، فركبت معهم ودفعوها من ساعتهم حتى انتهوا إلى الشعبية، فخرجت بها ومعي نفقة واتبعت بعيراً وخرجت أريد المدينة حتى أتيت على مر الظهران، ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة إذا رجلان قد سبقا في بعير كبير يريدان منزلاً وأحدهما داخل في خيمة والآخر قائم يمسك الراحلتين، فنظرت فإذا خالد بن الوليد، أبا سليمان قال: نعم، قلت: أين تريد؟ قال: محمداً، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طعم، والله لو أقمنا لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها، قلت: والله وأنا قد أردت محمداً وأردت الإسلام.


وخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعاً في المنزل ثم ترافقنا حتى قدمنا المدينة، فما أنسى قول رجل لقينا ببئر أبي عتبة يصيح: يا رباح يا رباح، فتفاءلنا بقوله وسررنا، ثم نظر إلينا فسمعته يقول: قد أعطيت مكة المقادة بعد هذين، فظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد، ثم ولى مدبراً إلى المسجد سريعاً، فظننت أنه يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، وكان كما ظننت، وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا، ونودي بالعصر فانطلقنا جميعاً حتى طلعنا عليه صلى الله عليه وسلم وإن لوجهه تهللاًّ والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا، فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان فبايع، ثم تقدمت، فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياء منه، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم يغفر لي ما تأخر، فقال: إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها " فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد أحداً من أصحابي في أمر حربه من حيث أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بن الخطاب بتلك الحال.
قال عبد الحميد: أخبرني أبي: أنهم قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان.
قال علماء السير: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في وجوه منها غزاة ذات السلاسل، وأمده فيها بثمانين منهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، ومنها إلى صنم هديل، وهو سواع فكسره، وإلى بني فزارة فصدقهم.
واستعمله أبو بكر على الشام وأمده بخالد بن الوليد فكان أمير الناس يوم أجنادين ويوم فحل، وفي حصار دمشق حتى فتحت. وولاه عمر وعثمان، ثم مال إلى معاوية وكان أحد الحكمين على ما سبق ذكره.
ذكر وفاته: كان عند الموت يقول: كأن على عنقي جبال رضوى، وكأن في جوفي الشوك، وكأن نفسي تخرج من ثقب إبرة، واعتق كل مملوك له.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن الفتح، قال: أخبرنا أبو الحسين ابن أخي ميمي، قال: أخبرنا جعفر بن محمد الخواص، قال: أخبرنا ابن مسروق، قال: حدثني عمر بن محمد، قال: حدثني محمد بن دينار، قال: حدثنا محمد بن عبيد أبو عبد الرحمن. العتبي، قال: حدثني أبي، قال: دخل ابن عباس على عمرو بن العاص يعوده، فقال: كيف تجدك يا أبا عبد الله؟ قال أجدني قد أفسدت ديني بدنياي، أصلحت من دنياي قليلاً وأفسدت من آخرتي كثيراً، فوددت أن الذي أفسدت هو الذي أصلحت، أن الذي أصلحت هو الذي أفسدت، ولو كان ينجيني ترك ما في يدي لتركته، ولو كنت أدرك ما أطلب طلبت، فقد صرت كالمنجنيق بين السماء والأرض، لا يرقى بيد، ولا يرقى برجل، فهو متحير بين الحياة والموت، ويأمل أن يكون في الموت راحته، ويخاف مما قدمت يده، فعظني يا ابن أخي، فقال: يا أبا عبد الله، إن شئت أن تبكي بكيت، فلست تدري متى يقع الأمر وأنت تأمرنا بالرحيل وأنت مقيم، ولو دعوت دعوة لا تلقي صولها إلى يوم القيامة. قال: فغضب عمرو وقال: تؤنسني من نفسي وتؤنسني من رحمة ربي، اللهمِ خذ مني حتى ترضى فقال ابن عباس: هيهات يا عبد الله سلفت جديداً وتعطي خلقاً، فقال عمرو: مالي ولك يا ابن عباس، ما سرحت كلمة إلى ربي إلا أخذت بغيها، ثم تمثل عمرو:
كّم عائد رجلاً وليس يعوده ... إلا لينظر هل يراه يفرق


أخبرنا أبو الحسن الأنصاري، قال: أخبرنا علي بن عبد الله النيسابوري، قال: أخبرنا عبد الغافر بن محمد، قال: أخبرنا ابن عمروية، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد شعبان،. قال: أخبرنا مسلم بن الحجاج، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا الضحاك - يعني أبا عاصم - قال: حدثنا حيوية بن شريح، قال: حدثنا يزيد بن أبي حبيب، قال: أخبرنا ابن شِماسة المَهْريّ، قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما تَعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أني قد كنت على أطباق ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ولا أحب إلي من أن يكون استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو، قلت: أردت أن أشترط، قال: ماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله " وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني عنه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه فلومت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء بعد، فلست أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.
توفي عمرو بن العاص في هذه السنة بمصر وهو واليها، وقيل: في سنة ثلاث وأربعين، وكان قد عمل على مصر لعمر رضي الله عنه أربع سنين، ولعثمان أربع سنين، ولمعاوية سنتين إِلا شهراً.
ثم دخلت
سنة ثلاث وأربعين
فمن الحوادث فيها غزوة بسر بن أبي أرطأة الروم حتى بلغ القسطنطينية، فيما ذكر الواقدي.
وفيها ولى معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص مصر بعد موت أبيه، فوليها له نحواً من سنتين.
وفيها قتل المستورد بن علفة الخارجي فيما ذكر هشام بن الكلبي، وقال قوم: قتل في سنة اثنتين وأربعين.
ذكرُ سبب قتله
قد ذكرنا اجتماع بقايا الخوارج الذين كانوا ارتثوا يوم النهر، واعتمادهم على الثلاثة الذين هذا أحدهم، ومبايعتهم المستورد، وأن ذلك كان في جمادى، وأنهم ، اجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان على الخروج في شعبان، فبلغ خبرهم إلى المغيرة بن شعبة، فقال لصاحب الشرطة: سر بالشرطة حتى تحيط بدار حيان بن ظبيان فآتني به، فأتاه ومعه نحو من عشرين من أصحابه، فانطلق به إلى المغيرة بن شعبة، فقال لهم: ما حملكم على ما أردتم من شق عصا المسلمين؟ قالوا: ما أردنا من ذلك من شيء، قال: بل بلغني وصدق ذلك عندي اجتماعكم، فقالوا: أما اجتماعنا فإن حيان بن ظبيان أقرأنا للقرآن فنحن نجتمع في منزله فنقرأ القرآن عليه، قال: إذهبوا بهم إلى السجن، فلم يزالوا فيه نحواً من سنة.
وسمع إخوانهم بأخذهم، فخرج المستورد فنزل داراً بالحيرة، وكان إخوانه يختلفون إليه ويتجهزون، فلما كثر اختلاف أصحابه إليه قال: تحولوا بنا عن هذا المكان فإني لا آمن أن يطلع عليكم، فإنهم لفي ذلك يقول بعضهم لبعض: نأتي مكان كذا وكذا، ويقول بعضهم: نأتي مكان كذا وكذا، إذ أشرف عليهم حجًار بن أبجَر وإذا بفارسين قد أقبلا فدخلا الدار، ثم جاء آخر، ثم جاء آخر، وكان خروجهم قد اقترب، فقال حجار لصاحب الدار: ويحك ما هذه الخيل الذي أراها تدخل هذه الدار، فقال: لا أدري إلا أن الرجال يختلفون إلى هذه الدار رجالاً وفرساناً، فركب حجار حتى انتهى إلى بابهم، وإذا عليه رجل منهم، فإذا أتى إنسان استأذن، فقال له: من أنت؟ قال: حجار بن أبجر، فدخل يستأذن له، فدخل خلفه فإذا الرجل يقول لهم: قد جاء حجار فقالوا: والله ما جاء لخير، فقال حجار: السلام عليكم ثم انصرف، فقال بعضهم لبعض: أدركوه فاحبسوه فإنه مؤذن بكم، فخرح منهم جماعة إليه، فإذا هو قد ركب فرسه، فقالوا: لم يأت لشيء يروعكم، قالوا: أفتؤمننا من الإذن بنا؟ قال: أنتم آمنون، ثم تفرقوا عن ذلك المكان.


وبلغ خبرهم المغيرة فحذر الناس أن يؤويهم، وبعث المستورد إِلى أصحابه اخرجوا، فاتعدوا سوراً، وخرجوا إليها متقطعين من أربعة وخمسة. فبلغ الخبر المغيرة، فبعث معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، وقال له: يا معقل إني قد بعثت معك فرسان أهل المصر، ثم أمرت بهم فانتخبوا انتخاباً، فسر إلى هذه العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا، وشهدوا علينا بالكفر، فادعهم إلى التوبة وإلى الدخول في الجماعة، فإن فعلوا فاقبل منهم، وأكفف عنهم، وإن لم يفعلوا فناجزهم واستعن بالله عليهم، فقال له: هل بلغك - أصلحك الله - أين منزل القوم. قال: نعم، كتب إليّ سماك بن عبيد القيسِي، وكان عاملاً له على المدائن، يخبرني أنهم ارتحلوا حتى نزلوا بهرسير، وأنهم أرادوا أن يعبروا إلى المدينة العتيقة التي بها منازل كسرى، فمنعهم سماك أن يجوزوا، فنزلوا بمدينة بهرسير مقيمين، فاخرجوا إليهم، وانكمش في آثارهم ولا تدعهم والإقامة في بلد أكثر من الساعة التي تدعوهم فيها، فإن قبلوا وإلا فناهضهم، فإنهم لن يقيموا ببلد يومين إلا أفسدوا كل من خالطهم، فخرج من يومه فبات بسورا، فبعث المغيرة مولاه وراداً إِلى المسجد فقام فقال: أيها الناس، إن معقل قد سار إلى هذه العصبة المارقة وهو بائت الليلة بسورا، فلا يتخلف عنه أحد من أصحابه ألا وإن الأمير يخرج على كل رجل من المسلمين ويعزم عليهم أن يبيتوا بالكوفة، وأيما رجل من هذا البعث وجدناه بعد يومنا هذا بالكوفة فقد أحل بنفسه.
قال عبد الرحمن بن جندب، أعن عبد الله بن عقبة، الغنوي، قال،: كنت فيمن خرج مع المستورد، وكنت أحدث رجل منهم، فخرجنا حتى أتينا الصًراة، فأقمنا بها حتى تتامت جماعتنا، ثم خرجنا حتى انتهينا إلى بَهُرسير، فدخلناها، ونذر بنا سماك بن عبيد العبسي، وكان على المدينة العتيقة، فلما ذهبنا لنعبر الجسر إليهم قاتلنا عليه، ثم قطعه علينا، فأقمنا ببهرسير. قال: فدعاني المستورد فقال لي أتكتب يا أبن أخي؟ قلت: نعم، فدعا بِرَق ودواة، وقال: اكتب: من عبد الله المستورد أمير المؤمنين إِلى سماك بن عبيد، أما بعد. فإنا نقمنا على قومنا الجور في الأحكام وتعطيل الحدود والاستئثار بالفيء، وإنا ندعوك إلى كتاب الله، وسنة نبيه وولاية أبي بكر وعمر، والبراءة من عليِّ وعثمان، لإحداثهما في الدين، وتركهما حكم الكتاب فإن تقبل فقد أدركت رشدك، وإن لا تقبل فقد أبلغنا في الإعذار إليك، وقد آذناك بحرب، ونبذنا إليك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين.
ثم قال المستورد،: انطلق بهذا الكتاب إلى سماك، فادفعه إليه واحفظ ما يقول لك، والقني.
فقلت له: أصلحك الله، لو أمرتني أن أستعرض دجلة فألقي نفسي فيها ما عصيتك، ولكن ما آمن أن يتعلق بي سماك فيحبسني عنك، فإذا أنا قد فاتني ما أرجو من الجهاد. فتبسم وقال: يا ابن أخي، إنما أنت رسول والرسول لا يعرض له ولو خشيت ذلك عليك لم أبعثك. فخرجت حتى عبرت إليهم في معبر، فقالوا: من أنت؟ فقلت: رسول أمير المؤمنين المستورد، فلما وصلت إلى سماك أريته الكتاب، قال: اذهب إلى صاحبك فقل له: اتق الله وارجع عن رأيك هذا، وأدخل في جماعة المسلمين، ثم قال لأصحابه: إنهم خلوا بهذا. فأخذوا يقرءون عليه القرآن، ويتخشعون ويتباكون، فظن أنهم على شيء، ثم قال: انطلق يا بني إلى صاحبك، إنما تندم لو قد اكتنفتكم الخيل، وأشرعت في صدوركم الرماح، هناك تمنى أنك كنت في بيت آبائك. فانصرفت من عنده إلى صاحبي، فأخبرته، فقال: " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم " .
فمكثنا يومين أو ثلاثة، فاستبان لهم مسير معقل بن قيس إلينا، فجمعنا المستورد وقال: أشيروا علي، فقال بعضنا: والله ما خرجنا نريد إلا الله وقد جاءونا فأين نذهب عنهم. وقالت طائفة: بل نعتزل ونتنحى، وندعو الناس.
فقال: يا معشر المسلمين، إني والله ما خرجت ألتمس الدنيا ولا البقاء، وما أحب أنها لي بحذافيرها، وما أحب إلا التماس الشهادة، وإني قد نظرت فيما استشرتكم به فرأيت ألاٌ أقيم لهم حتى يقدمون علي وهم جامون، ولكني رأيت أن أسير حتى أمعن فإنهم إذا بلغهم ذلك خرجوا في طلبنا فتقطعوا وتبددوا، فعلى ذلك الحال ينبغي لنا أن نقاتلهم، فأخرجوا بنا على إسم الله.


فخرجنا فمضينا على شاطىء دجلة حتى انتهينا إلى جرجَرايا، فعبرنا دجلة، فمضينا كما نحن في أرض جُوخَى حتى بلغنا المذار، فأقمنا.
وقال عبد الله بن الحارث: كنت في الذين خرجوا مع معقل حين خرج، وكان أول منزل نزلناه سورا.
قال: فمكثنا به يوماً حتى اجتمع إليه جل أصحابه، ثم خرجنا مسرعين مبادرين لعدونا أن يفوتنا ثم سرنا حتى دنونا من المدائن، فاستقبلنا الناس يخبروننا أنهم قد ارتحلوا، فشق ذلك علينا وأيقنا بالعناء وطول الطلب.
وجاء معقل حتى نزل على باب مدينة بهرسير، فخرج إليه سماك فسلم عليه، وبعث إليه ما يصلح الجند، فأقام ثلاثاً. ثم جمع أصحابه وقال: إن هؤلاء المارقة إنما خرجوا على وجوههم إرادة أن تتعجلوا في آثارهم فتقطعوا، وتبددوا، وإنه ليس شيء يدخل عليكم من ذلك إلا وقد يدخل عليهم مثله، فخرج بنا من المدائن، فقدم بين يديه أبو الرواغ. في ثلاثمائة فارس، واتبع أثره فلحقهم أبو الرواغ بالمذار مقيمين، فاستشار أصحابه في قتالهم قبل قدوم معقل عليه، فقال: بعضهم: أقدم بنا، وقال آخرون: حتى يأتينا أميرنا، فبات أصحاب أبي الرواغ يتحارسون، فخرج القوم عليهم وهم عدتهم هؤلاء ثلائمائة، وهؤلاء ثلاثمائة، فلما اقتربوا شدوا على أصحاب أبي الرواغ، فانهزموا فصاح أبو الرواغ: يا فرسان السوء، قبحكم الله، الكرة الكرة، فحمل وحمل أصحابه ثم انكشفوا، فقال أبو الرواغ: ثكلتكم أمهاتكم، انصرفوا بنا فلنكر قريباً من القوم حتى يأتينا أميرنا، فما زالوا يطاردونهم وينحاز أبو الرواغ وأصحابه.
وبلغ الخبر إلى معقل، فأسرع في نحو من سبعمائة فارس من أهل القوة والشجاعة، فلما وصل شدوا عليه، فانجفل عامة أصحابه فنزل وقال: الأرض الأرض، ونزل معه أبو الرواغ ونحو من مائتي فارس، فلما غشيهم المستورد وأصحابه استقبلوهم بالرماح والسيوف، فانجفلت خيل معقل ثم كرت، وأقبل شريك بن الأعور مدداً لمعقل، فرأى المستورد ما لا يطيق، فذهب بأصحابه في الليل، فعادوا إلى جَرْجَرايا فتبعهم أبو الرواغ فقاتلهم قتالاً شديداً وظنوا أن معقلاً يأتي بعده، فذهبوا حتى قطعوا دجلة، وسار أبو الرواغ في آثارهم، وجاء معقل متبعاً آثار أبو الرواغ، فانصرفوا إلى ساباط، ثم اقتتلوا، فهلك الخوارج، وصاح المستورد: يا معقل ابرز لي، فبرز له فأشرع المستورد الرمح في صدر معقل حتى خرج السنان من ظهره، وضربه معقل بالسيف على رأسه فخرّا ميتين وتبدد من بقي.
وفي هذه السنة
حج بالناس مروان بن الحكم، وكان على المدينة. وكان على مكة خالد بن العاص بن هشام، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى قضائها شريح، وعلى البصرة وفارس وسجستان وخراسان عبد الله بن عامر، وعلى قضائها عمير بن يثربي.
ذكر من توفي في هذه السنة
عبد الله بن سلام، يكنى أبا يوسف: وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وهو من ولد يوسف بن يعقوب بن إِسحاق بن إبراهيم.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدَّثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: حدثنا عوف، عن زرارة بن أبي أوفى، عن عبد الله بن سلام، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس نحوه وقالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجئت أنظر إليه،فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فأول شيء قال: " يا أيها الناس، افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام قال محمد بن سعد: وأخبرنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، وحميد، عن أنس، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عبد الله بن سلام بقدومه، فأتاه فقال: إني سائلك


عن أشياء لا يعلمها إلا نبي، فإن أخبرتني بها آمنت بك، وإن لم تعلمني عرفت أنك لست بنبي، قال: " وما هن،؟ فسأله عن الشبه وعن أول شيء يأكله أهل الجنة، وعن أول شيء يحشر الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخبرني بهن جبريل آنفاً " قال: ذاك عدو اليهود، قال: " أما الشبه فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ذهب بالشبه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل ذهب بالشبه. وأما أول شيء يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما أول شيء يحشر الناس، فنار تجيء من قبل المشرق فتحشرهم إلى المغرب " . فآمن وقال: أشهد أنك رسول الله، وقال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن سمعوا بإسلامي بهتوني فأخبئني عندك، وابعث إليهم فسلهم عني، فخبأه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث إليهم فجاءوا، فقال: " أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ " قالوا: هو خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وعالمنا وابن عالمنا، فقال: " إن رأيتم إن أسلم فتسلمون " ؟، قالوا: " أعاذه الله من ذلك، فقال: " يا عبد الله اخرج إليهم، فخرج إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا، وجاهلنا وابن جاهلنا، فقال ابن سلام: قد أخبرتك يا رسول الله أن اليهود قوم بهت.
توفي عبد الله بن سلام بالمدينة في هذه السنة.
عبد الرحمن بن عسيلة، أبو عبد الله الصنابحي: أسند عن أبي بكر الصديق، ومعاذ، وعبادة في آخرين. وكان عبادة يقول: من سره أن ينظر إلى رجل كأنما رقي به فوق سبع سموات فعمل على ما رأى فلينظر إلى هذا.
ثم دخلت
سنة أربع وأربعين
فمن الحوادث فيها: دخول المسلمين مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بلاد الروم ومشتاهم بها.
وفيها غزا بسر بن أبي أرطأة البحر قال عبد الملك بن عمير: قرأت في ديوان معاوية بعد موته، كتاباً من ملك الصين، فيه: من ملك الصين الذي على مربطه ألف فيل، وبنيت داره بلبن الذهب والفضة، ويخدمه بنات ألف ملك، والذي له نهران يسقيان الألوة، إلى معاوية.
وفيها عزل عبد اللّه بن عامر عن البصرة.
وكان سبب عزله أن ابن عامر كان ليناً لا يأخذ على أيدي السفهاء ولا يعاقب، ففسحت البصرة بذلك، وقدم ابن الكواء - واسمه عبد الله أبن أبي أوفى على معاوية، فسأله عن الناس، فقال: أما البصر فقد غلب عليها سفهاؤها وعاملها ضعيف، فعزله معاوية، وبعث الحارث بن عبد الله الأزدي.
وفي هذه السنة استلحق معاوية نسب زياد ابن سمية بأبيه أبي سفيان شهد لزياد رجل من البصرة، وكان الحسن البصري يذم هذا من فعله، ويقول: استلحق زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " .
وأخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا هشيم، قال: حدَّثنا خالد الحذاء، عن أبي عثمان، قال: لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة، فقلت: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمع أذني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " من ادعى أباً في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام " فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذه السنة عمل معاوية المقصورة بالشام، وعملها مروان بالمدينة.
وفيها: حج معاوية بالناس، وكان عماله على البلاد في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها غير البصرة، فكان عليها الحارث الأزدي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
رملة بنت أبي سفيان بن حرب، وهي أم حبيبة تزوجها عبد الله بن جحش، وهاجر بها إِلى أرض الحبشة، فولدت هناك منه حبيبة وقيل: إنها ولدتها بمكة، وهاجرت بها، ثم تنصر عبد الله بن جحش وثبتت على دينها، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أن يزوجه أم حبيبة، فزوجه إياها، وبعث بها إليه في سنة سبع، وقد سبق شرح هذه القصة.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، عن أبي محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا محمد بن عبد اللّه، عن الزهري، قال:


لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزو مكة، فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية، فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه، فقال: يا بنية، أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك، فقال: يا بنية، قد أصابك بعدي شر.
قال محمد بن عمر: وحدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عوف بن الحارث، قال: سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة رضي الله عنها عند موتها، قالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحللك من ذلك، فقالت: سررتني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة، فقالت لها مثل ذلك.
وتوفيت سنة أربع وأربعين.
ثم دخلت
سنة خمس وأربعين
فمن الحوادث فيها
ولاية زياد البصرة
إن معاوية ولى الحارث بن عبد الله الأزدي البصرة، فأقام بالبصرة أربعة أشهر وعزله وولى زياداً، فقدم زياد إلى الكوفة ينتظر إلى أمر معاوية، فظن المغيرة أنه قدم والياً عليها فقال لوائل بن حجر الحضرمي: إعلم لي علمه، فأتاه فلم يقدر منه على شيء، وقدم رسول معاوية إلى زياد: أن سر إلى البصرة، فقدمها في آخر شهر ربيع الآخر أو غرة جمادى الأولى من هذه السنة، واستعمله على خراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان.
فلما قدم البصرة وجد الفسق فيها ظاهراً، فخطب فقال في خطبته: كأنكم لم تسمعوا ما أعد الله من الثواب لأهل طاعته، والعذاب لأهل معصيته، أيكونون كمن طرفَ عنه الدنيا وسدًت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية.
قال الشعبي: ما سمعت متكلماً قط تكلم فأحسن إِلا أحببت أن يسكت خوفاً أن يسيء إلا زياداً، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلاماً.
وما زال زياد يشدد أمر السلطان، وتجرد السيف، فخافه الناس خوفاً شديداً حتى إن الشيء كان يوجد فلا يتجاسر أحد أن يرفعه حتى يأتيه صاحبه، واستعان زياد بعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عمران بن حصين ولاه قضاء البصرة، والحكم بن عمرو الغفاري ولاه خراسان، وسمرة بن جندب، وعبد الرحمن بن سمرة، وأنس بن مالك.
وفي هذه السنة شتى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالشام وفيها: حج بالناس مروان بن الحكم وكان على المدينة، وكانت الولاة والعمال على الأمصار من تقدم ذكرهم في السنة قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حفصة بنت عمر بن الخطاب كانت عند خنيس بن حذافة السهمي، وهاجرت معه إلى المدينة، فمات عنها بعد الهجرة، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم من بدر فتزوجها.
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقها، فقال له جبريل: راجعها فإنها صوامة قوامة.
وفي رواية أنه أراد طلاقها، فقال جبريل: لا تطلقها فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة.
توفيت في شعبان هذه السنة، وهي بنت ستين سنة. وقيل: ماتت في خلافة عثمان بالمدينة.
زيد بن ثابت بن زيد بن لوذان، أبو سعيد: كان يكتب الوحي.
أنبأنا عبد الوهاب الحافظ، أخبرنا عاصم بن الحسن، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا عثمان بن أحمد بإسناده عن الحسن بن البراء، قال: كان زيد بن ثابت ترجمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتبه إلى الملوك، وتعلم الفارسية في ثمان عشرة ليلة من رسول كسرى، وتعلم الرومية والحبشية والقبطية من خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قال: قال زيد بن ثابت:


كانت وقعة بغاث وأنا ابن ست سنين، وكانت قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن إحدى عشرة سنة، وأتى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: غلام من الخزرج قد قرأ ست عشرة سورة، فلم أجز في بدر ولا أحد، وأجزت في الخندق.
قال ابن سعد: وحدثنا محمد بن معاوية، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب يهود، وقال: " إني لا آمنهم أن يبدلوا كتابي " فقال: فتعلمته في بضع عشر.
قال ابن سعد: وقال محمد بن عمر كان زيد يكتب كتاب العربية وكتاب العبرانية، وأول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، وكان ممن ينقل التراب يومئذ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعلمهم بالفرائض زيد " واستعمله عمر على القضاء.
قال ابن سعد: وأخبرنا عفان، قال: حدَّثنا شعبة، عن ابن إسحاق، أنه سمع مسروقاً يقول: أتيت المدينة فسألت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا زيد بن ثابت من الراسخين في العلم.
قال ابن سعد: وحدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: حدًثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عباس: أنه أخذ لزيد بن ثابت بالركاب، فقال: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا يفعل بعلمائنا وكبرائنا.
قال ابن سعد: وأخبرنا أبو معاوية الضرير، قال: حدثنا الأعمش، عن ثابت بن عبيد، قال: كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته، وأزمته إذا خرج إلى الرجال.
قال:وأخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: حدثنا هشام بن حسان، قال: حدثنا محمد بن سيرين، قال: خرج زيد بن ثابت يوم الجمعة فاستقبله الناس راجعين، فدخل داراً، فقيل له: فقال: من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله.
قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: حدًثنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن السباق، عن زيد بن ثابت، قال: أرسل إِلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن، وإني أخشى أن يذهب كثيراً من القرآن، فإني أرى أن يجمع القرآن، وأنت رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فتتبع القران فاجمعه. قال زيد: فوالله لوكلفني نقل جبل أنقله حجراً حجراً ما كان أثقل علي مما أمرني به، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب والأكتاف وصدور الرجال، فوجدت آخر سورة التوبة مع خريمة بن ثابت: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم. . . . " الآيتين.
قال علماء السير: أتى خريمة بن ثابت بهاتين الآيتين، قال زيد: من يشهد معك، قال: عمر أنا. وكان أبو بكر قد قال: إِذا أتاكم أحد بشيء من القرآن تنكرانه فشهد عليه رجلان، فأثبتاه. ولما نسخ عثمان المصاحف أمر أبي بن كعب أن يملي وزيداً أن يكتب، وكان عمر رضي الله عنه يستخلف زيداً على المدينة إذا سافر، ولما حوصر عثمان كان زيد يذب عنه، ودخل عليه فقال: هذه الأنصار يقولون جئنا لننصر الله مرتين، فقال عثمان: أما القتال فلا.
توفي زيد بالمدينة في هذه السنة وهو ابن ستة وخمسين سنة، ومات قبل أن تصفر الشمس، فلم يخرج حتى أصبح، فصلى عليه مروان.
وقيل: إنه توفي سنة خمس وخمسين. وقيل: سنة إحدى وخمسين. وقال ابن عباس: لقد مات اليوم علم كثير، وقال أبو هريرة: مات خير هذه الأمة.
سلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة، أبو عوف: شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بالمدينة في هذه السنة وهو ابن سبعين سنة، وانقرض عقبه.
عاصم بن عدي، أبو عمرو: خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر على قباء أهل العالية لشيء بلغه عنهم، وضرب له بسهمه وأجره، وكان كمن شهدها، وشهد أحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ومعه مالك بن الدخشم فأحرقا مسجد الضرار.
وتوفي وهو ابن مائة وخمس عشرة سنة.
ثم دخلت
سنة ست وأربعين
فمن الحوادث فيها أنه شتى المسلمون بأرض الروم واختلفوا في أمرهم، فقيل: مالك بن عبد الله، وقيل: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وقيل: مالك بن هبيرة الفزاري.


وفيها انصرف عبد الرحمن بن خالد بن الوليد من بلاد الروم إلى حمص وكان قد عظم شأنه بالشام، ومال أهلها إليه لموضع غنائه عن المسلمين وآثار أبيه حتى خافه معاوية وخشي على نفسه. منه لميل الناس إليه، فدس إليه عدي بن أثال شربة مسمومة فقتله بها، فمات بحمص، وخرج خالد بن عبد الرحمن بن خالد فقتل ابن أثال وفيها: حج بالناس عتبة بن أبي سفيان، وكان العمال والولاة الذين كانوا في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
سالم بن عمير بن ثابت شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد البكائين الذين جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يخرج إلى تبوك يستحملونه، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فولوا وأعينهم تفيض من الدمع سراقة بن كعب بن عمرو شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة أسلم بالمدينة على يدي مصعب بن عمير قبل إسلام أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله غير تبوك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة، وكان محمد فيمن قتل كعب بن الأشرف. وبعثه رِسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القرطاء سرية في ثلاثين راكباً من الصحابة، فسلم وغنم وبعثه إلى ذي القصة سرية في عشرة، وتوفي بالمدينة في صفر هذه السنة، وهو ابن سبع وسبعين سنة.
ويقال: في سنة ثلاث وأربعين.
هرم بن حيان العبدي كان عاملاً لعمر بن الخطاب، ولقي أويساً القرني، وكان من الخائفين.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن شبل، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن أصبغ الوراق، عن أبي نصرة: أن عمر بعث هرم بن حيان على الخيل، فغضب على رجل فأمر به فوجئت عنقه، ثم أقبل على أصحابه، فقال: لا جزاكم الله خيراً ما نصحتموني حين قلت، ولا كففتموني عن غضبي، والله لا ألي لكم عملا، ثم كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، لا طاقة لي بالرعية، فابعث إلى عملك. أخبرنا عبد الله بن علي المقري، قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن أحمد الخياط، قال: أخبرنا أبو طاهر أحمد بن الحسن الباقلاني، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: حدثنا دعلج، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الصائغ، قال: حدثنا جعفر الفريابي، قال: حدثنا إبراهيم بن عثمان بن زياد، قال: حدَّثنا مخلد بن حسين، عن هشام، عن الحسن، قال: خرج هرم بن حيان، وعبد الله بن عامر يؤمان الحجاز فجعلت أعناق رواحلهما تخالجان الشجر، فقال هرم لابن عامر: أتحب أنك شجرة من هذه الشجر، فقال ابن عامر: لا والله لما أرجو من ربي، فقال هرم: لكني والله لوددت أني شجرة من هذه الشجر أكلتني هذه الناقة، ثم قذفتني بعراء، ولم أكابد الحساب، يا ابن عامر إِني أخاف الداهية الكبرى، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قال الحسن: وكان هرم أفقه الرجلين وأعلمهما بالله.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا أبو إسحاق بن حمزة، قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدثنا سعيد بن سليمان، عن عبد الواحد بن سليمان، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن، قال: مات هرم في يوم صائف شديد الحر، فلما نفضوا أيديهم من قبره جاءت سحابة تسير حتى قامت على قبره، فلم تكن أطول منه ولا أقصر حتى روته ثم انصرفت.
ثم دخلت
سنة سبع وأربعين
فمن الحوادث فيها مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم، ومشتى أبي عبد الرحمن القيني بأنطاكية.
وفيها عزل عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن مصر ووليها معاوية بن حُدَيج.
واختلفوا فيمن حج بالناس في هذه السنة. فقال الواقدي عتبة بن أبي سفيان. وقال غيره: عنبسة بن أبي سفيان.
وكانت العمال والولاة هم الذين كانوا في السنة التي قبلها، غير مصر فإنها لمعاوية بن حديج.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد، أبو علي المنقري، ويقال: أبو قبيصة:


كان قد حرم الخمر في الجاهلية، وذلك أنه شرب فسكر، فعبث بذي محرم منه، فهربَ، فلما أصبح قيل له في ذلك، فقال:
رأيت الخمر مصلحة وفيها ... مقابح تفضح الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتي ... ولا أشفي بها أبداً سقيما
ثم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم، فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا سيد أهل الوبر " ، وقال له: " اغتسل بماء وسدر " .
وكان جواداً، وهو الذي قيل فيه لما مات:
وما كان قيس موته موت واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
نزل البصرة، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد القاري، قال: أخبرنا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل، قال: أخبرنا أبي، قال: حدثنا أحمد بن مروان، قال: حدثنا أحمد بن عباد التميمي، قال: حدثنا أبو عثمان المازني، قال: سمعت الأصمعي يقول: سمعت عمرو بن العلاء، وأبا سفيان بن العلاء، يقولان: قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم، قال: من قيس بن عاصم المنقري، لقد اختلفنا إليه في الحكم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه، بينما نحن عند قيس بن عاصم، وهو قاعد في قبائه محتب بكسائه أتته جماعة فيهم مقتول ومكتوف، فقالوا: هذا ابنك قتله ابن أخيك، فوالله ما حل حبوته حتى فرغ من كلامه ثم التفت إلى ابن له في المسجد، فقال: أطلق عن ابن عمك ووار أخاك واحمل إلى أمه مائة من الإبل، فإنها غريبة، وأنشأ يقول:
إني امرؤ لا شائن حسبي ... دنس يغيره ولا أفن
من منقر في بيت مكرمة ... والغصن ينبت حوله الغصن
خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه أعفة لسن
لا يفطنون لعيب جارهمُ ... وهمُ بحسن جواره فطن
وروى حكيم بن قيس أن أباه لما احتضر أومأ إلى بنيه وهم اثنان وثلاثون ذكراً، فجمعهم وقال: يا بني سودوا عليكم أكبركم، فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم، وإذا سودوا أصغرهم أزري بهم عند أكفائهم، وعليكم بالمال واصطناعه فإنه مأبهة للكريم ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم ومساءلة الناس فإنها من أخس مكسبة الرجل، ولا تنوحوا عليّ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه، ولا تدفنوني حيث تشعر بي بكر بن وائل، فإني كنت أعاديهم في الجاهلية، فرثاه الشاعر يقول:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ماشاء أن يترحما
تحية من ألبستَه منك نعمة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
فما كان قيس هلْكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
ثم دخلت
سنة ثمان وأربعين
فمن الحوادث فيها مشتى أبي عبد الرحمن القيسي بأنطاكية، وغزوة مالك بن هبيرة اليشكري البحر، وغزوة عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر البحر.
وفيها: وجه زياد غالب بن فضالة الليثي على خراسان، وكانت له صحبة.
وفيها: حج بالناس مروان بن الحكم، وكان يتوقع العزل لموجدة كانت من معاوية عليه، وإرتجاعه، فدك منه، وكان وهبها له. وكان عمال الأمصار في هذه السنة الذين كانوا في السنة التي قبلها.
ولم نعلم من مات من الأكابر في هذه السنة قبلها، إلا أن في تاريخ موت المغيرة اختلافاً قد ذكرناه.
ثم دخلت
سنة تسع وأربعين
فمن الحوادث فيها مشتى مالك بن هبيرة الفزاري بأرض الروم وغزوة يزيد بن شجرة الرهاوي في البحر.
وفيها: غزا يزيد بن معاوية أرض الروم حتى بلغ القسطنطينية ومعه ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري.
وفيها: عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة في ربيع الأول، وأمر عليها سعد بن أبي وقاص، وكانت ولاية مروان المدينة لمعاوية ثمان سنين وشهرين وكان على قضاء المدينة لمروان حين عزل عبد الله بن الحارث بن نوفل، فلما ولى سعد عزله واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن.
وفيها: وقع الطاعون بالكوفة، فهرب المغيرة بن شعبة، فلما ارتفع الطاعون قيل لو رجعت، فقدمها، فطعن فمات.
وقد قيل: مات المغيرة سنة خمسين.
وفي هذه السنة أعني سنة تسع وأربعين


ضم معاوية الكوفة إلى زياد، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة، واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة، وستة أشهر بالبصرة.
وفيها: حج بالناس سعيد بن العاص، وكان العمال فيها هم العمال في التي قبلها، إلا أن في تاريخ موت المغيرة اختلافاً قد ذكرناه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهما: ولد سنة ثلاث من الهجرة، وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين يشبه ما كان أسفل من ذلك، وكان له من الولد خمسة عشر ذكراً، وثمان بنات.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: حدثنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا علي بن محمد، عن خلاد بن عبيدة، عن علي بن زيد، قال: حج الحسن خمس عشرة حجة ماشياً وإن النجائب لتقاد معه.
وخرج من ماله لله مرتين، وقاسم الله ماله ثلاث مرات، حتى أنه كان ليعطي نعلاً ويأخذ نعلاً.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن سلمان، قال: أخبرنا أبو نعيم الأصبهاني، قال: حدثنا محمد بن علي، قال: حدثنا أبو عروبة الحراني، قال: حدثنا سليمان بن محمد بن خالد، قال: حدًثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد بن إسحاق، قال: دخلت أنا ورجل على الحسن نعوده، فقال: قد ألقيت طائفة من كبدي وإني قد سقيت السم مراراً فلم أسق مثل هذه المرة ثم دخلت عليه من الغد وهو يجود بنفسه والحسين عند رأسه، فقال: يا أخي من تتهم؟ قال: لم، لتقتله؟ قال: نعم، قال: إن يكن الذي أظن فالله أشد بأساً وأشد تنكيلاً، وإن لم يكن فلا أحب أن يقتل بي بريء، ثم قضى رضي الله عنه.
أخبرنا محمد بن عبد الملك بن خيرون، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدَّثني أبو عبد اللُه اليماني، قال: حدثنا محمد بن سلام الجمحي، عن ابن جعدة، قال: كانت جعدة بنت الأشعث بن قيس تحت الحسن بن علي فدس إليها يزيد أن سمي حسناً حتى أتزوجك، ففعلت، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء بما وعدها، فقال: إنا والله لم نرضك للحسن أفنرضاك لأنفسنا.
مرض الحسن أربعين يوماً، وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة، وهو ابن سبع وأربعين سنة، وصلى عليه سعيد بن العاص بالمدينة، ودفن بالبقيع، وقيل: إنه توفي في سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين.
ثم دخلت
سنة خمسين
فمن الحوادث فيها غزاة بسر بن أبي أرطأة وسفيان بن عوف الأزدي أرض الروم.
وفيها: كانت غزاة فضالة بن عبيد البحر. وقيل: إنما كانت في السنة التي قبلها.
وفيها خطب زياد بالكوفة بعد أن ضمت إليه مع البصرة.
فقال: إن الأمر أتاني وأنا بالبصرة، فأردت أن أشخص إليكم في ألفين من شرطة البصرة، ثم ذكرت أنكم أهل حق فأتيتكم في أهل بيتي، فحُصِب وهو على المبنر، فدعا قوماً من خاصته فأمرهم أن يأخذوا بأبواب المسجد، فمن حلف أنه ما حَصبه خلاه، ومن لم يحلف حبسه حتى صاروا إِلى ثلاثين. وقيل: ثمانين، فقطع أيديهم على المكان. واتخذ مقصورة.
وفي هذه السنة أمر معاوية بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يحمل إلى الشام فَحُول، فكسفت الشمس حتى رُئيت النجوم بادية فأعظم الناس ذلك، فقال: لم أرد حمله، إنما خفت أن يكون قد أرِض، فنظرت إليه. ثم كساه. رواه الواقدي.
وروي: أن عبد الملك بن مروان هم بالمنبر فقال له قبيصة: أذكرك، الله أن نفعل، فإن معاوية حركه فكسفت الشمس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف على منبري إثماً فليتبوأ مقعده من النار " ، فتخرجه من المدينة وهو مقطع الحقوق بينهم بالمدينة، فأقصر.
فلما كان الوليد وحج هم بذلك. فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: كلم صاحبك يتق الله ولا يتعرض لسخطه، فكلمه فأقصر. فلما حج سليمان بن عبد الملك أخبره عمر بن عبد العزيز بما كان من عبد الملك والوليد، فقال: ما كنت أحب أن يذكر هذا عن عبد الملك ولا عن الوليد، ما لنا ولهذا، أخذنا الدنيا فهي في أيدينا ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام فنحمله، هذا لا يصح وفي هذه السنة.


عُزِلَ معاوية بن حُدَيْج عن مصر وولي مسلمة بن مخلد مصر وإفريقية والمغرب كله وكان معاوية بن أبي سفيان قد بعث قبل أن يولي مسلمة مصر وإفريقية عقبة بن عامر الفهري إِلى إفريقية فافتتحها واختط بها قيروانها، وكان موضعه غيضة لا تُرام من السباعٍ والحيات وغير ذلك من الدواب، فدعا الله فلم يبق منها شيء إلا خرج منها هاربا، حتى إن السباع كانت تحمل أولادها.
قال علي بن أبي رباح: نادى عقبة: إنا نازلون فارحلوا - أو قال: فاظعنوا - فخرجن من جحرهن هوارب.
وفي هذه السنة.
غزا الحكم بن عمرو الغفاري أهل جبل الأشل.
فغنم، فكتب إليه زياد: إِن أمير المؤمنين كتب إلي أن أصطفي له الصفراء والبيضاء. فلما وصل الكتاب إليه قال للناس: أغدوا على غنائمكم، وعزل الخمس، وقسم بينهم الغنائم. فكتب إليه زياد: والله إن بقيت لك لأقطعن منك طابقاً. فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك. فمات بمرو.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا أبو الحسين بن المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله الأنماطي، قال: أخبرنا أبو حامد بن الحسين، قال: أخبرنا أحمد بن الحارث بن محمد بن عبد الكريم المروزي، قال: حدثني جدي محمد بن عبد الكريم، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، قال: أخبرنا هشام بن حسان الفردوسي، قال: حدثنا محمد بن سيرين، قال: كنا عند عمران بن حصين في حلقته في المسجد، إذ مر بنا الحكم بن عمرو الغفاري وقد عقد له زياد بن أبي سفيان على خراسان، فقيل لعمران: هذا الحكم استعمل على خراسان، فقال: علي به. فلما جاء قال: يا حكم، أتذكر حديثاً سمعته أنا وأنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وما هو؟ قال: سمعناه يقول: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " . قال: نعم، قال: إذا شئت فقم، قال: فأتى خراسان فأصاب بها غنائم كثيرة، فكتب إليه زياد: أما بعد، فإن أمير المؤمنين كتب إلي أن أصطفي له البيضاء والصفراء، ولا أعلمن ما قسمت بين الناس ذهباً ولا فضة. فلما جاءه الكتاب قال للناس: اغذوا على غنائمكم فخذوها، ثم كتب إلى زياد: جاءني كتاب الأمير يذكر أن أمير المؤمنين كتب إليه أن يصطفي بالصفراء فلا يعلمن ما قسمت بين الناس ذهباً ولا فضة، وإني وجدت كتاب الله قد سبق كتاب أمير المؤمنين، ووالله الذي لا إله إلا هو لو أن السماوات والأرض كانتا رتقاً على عبد اتقى الله لجعل له من ذلك مخرجاً، والسلام.
وفي هذه السنة استعدت بنو نهشل وفقيم على الفرزدق زياد بن أبي سفيان لموضع هجائه إياهم، فطلبه فهرب منه إلى سعيد بن العاص وهو والي المدينة من قبل معاوية مستجيراً به فأجاره.
وفي هذه السنة. حج بالناس معاوية.
وقيل: يزيد. وكان الوالي على المدينة سعيد بن العاص، وعلى الكوفة والبصرة والمشرق وسجستان وفارس والهند زياد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، أبو محمد: كان أبوه من أشراف قريش، وقدم جبير في فداء أسارى بدر، قال: فنمت في المسجد بعد العصر، فأقيمت المغرب، فقمت فزعاً بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد، فذاك أول يوم دخل الإسلام في قلبي. وأسلم قبل الفتح، ونزل المدينة، ومات في وسط خلافة معاوية.
جويرية بنت الحارث بن أي ضرار: سبيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، فأدى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها. وكانت كثيرة التسبيح والتقديس والذكر. وتوفيت في هذه السنة، وهي بنت خمس وستين سنة،.
حسان بن ثابت ابن المنذر، بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عمي بن عمرو بن مالك بن النجار، أبو الوليد الأنصاري: كان من فحول شعراء الجاهلية، وكان يضرب روثة أنفه من طوله ويقول: ما يسرني به مقول من العرب، والله لو وضعته على شعر لحلقه أو على صخر لفلقه. وكان يفد على ملوك غسان، ويمدحهم.


أسلم قديماً ولم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً؟ كان يُجبن عاش ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام، ووهب له رسول الله صلى الله عليه وسلم شيرين أخت مارية، فولدت له عبد الرحمن، وكانت له بنت تقول الشعر، وكان ربما قال بيتاً فوقف ما بعده عليه فقالته، فقال لها: لا قلت شعراً وأنت حيّة، فقالت: لا بل أنا لا أقول الشعر وأنت حي. وكان للمشركين من الشعراء الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ أبو سفيان بن الحارث، وعمرو بن العاص، وابن الزبعرى، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حسان، وابن رواحة، وكعب بن مالك. وكان حسان يذكر عيوب القوم وآثامهم، وكان ابن رواحة يعيرهم بالكفر، وكان كعب يذكر الحرب ويقول: فعلنا بهم وفعلنا، ويتهددهم، فكان أشده عليهم قول حسان، وأهونه قول ابن رواحة. فلما أسلموا كان أشده عليهم قول ابن رواحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال للأنصار: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلاحهم وأنفسهم أن ينصروه بألسنتهم. فقال حسان: أنا لها، قال: كيف تهجوهم وأنا منهم، قال: إني أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين.
أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا موسى بن داود، قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان منبراً فيالمسجد ينافح عنه بالشعر، ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل ليؤيد حسان بروح القدس ينافح عن رسول الله " .
وقال حسان في فتح مكة:
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعين الله فيه من يشاء
وقال الله قد سيرت جنداً ... هم الأنصار عرضتها اللقاء
وجبريل أمين الله فينا وروح ... القدس ليس به كفاء
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخب هواء
يعني أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فإنه كان يهاجي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم.
ولحسان:
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري ما تكدره الدلاء
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الطبري، قال: أخبرنا ابن الفضل، قال: أخبرنا ابن درستويه، قال: أخبرنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، عن أبيه، قال: عاش حسان بن ثابت مائة سنة وأربع سنين، وعاش أبوه ثابت مائة سنة وأربع سنين، وكان عبد الرحمن إذا حدَّثنا بهذا الحديث اشرأب لها وثنى رجليه على مثلها، فمات وهو ابن ثمان وأربعين.
الحكم بن عمرو الغفاري: صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض، ثم تحول إلى البصرة، فولاه زياد بن أبي سفيان خراسان. وقد ذكرنا قصته في تلك الولاية آنفاً. وتوفي بخراسان سنة خمسين.
دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد:.
أسلم قديماً ولم يشهد بدراً، وشهد ما بعدها، وكان جبريل يأتي في صورته، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية وحده، وبعث معه " كتاباً إلى قيصر.
صفية بنت حُيَيّ بن أخطب من سبط هارون بن عمران: كان اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، وقيل: اشتراها من دحية بسبعة أرس


فأسلمت وأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها مهرها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر خضرة قريباً من عنقها، فقال: ما هذا؟ فقالت رأيت في المنام قمراً أقبل من يثرب فوقع في حجري، فذكرت ذلك لزوجي كنانة، فقال: أتحبين أن تكوني تحت هذا الملك الذي يأتي من المدينة؟ فضرب وجهي. فلما رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيبر وقد طهرت، مال يريد أن يعرس بها، فأبت، فلما كان بالصهباء عرس بها هناك، فقال: ما حملك على ما صنعت في المنزل الأول؟ قالت: خشيت عليك قرب يهود، فزادها ذلك عنده. توفيت في هذه السنة، ودفنت بالبقيع.
عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، يكنى أبا سعيد وكان اسمه عبد الكعبة، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، واستعمله عبد الله بن عامر على سجستان، وغزا خراسان وفتح بها فتوحاً، ثم رجع إلى البصرة، فأقام بها حتى مات.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا الأزهري، أخبرنا محمد بن العباس، أخبرنا إبراهيم بن محمد الكندي، حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى، قال: مات عبد الرحمن بن سمرة سنة خمسين.
وقال خليفة بن خياط: سنة إحدى وخمسين.
عمرو أبن أمية، بن خويلد، أبو أمية الضمري: شهد بدراً وأحداً مع المشركين، وكان شجاعاً، ثم أسلم، فأول مشهد شهده في الإسلام بئر معونة، فأسرته بنو عامر يومئذ، فقال له عامر بن الطفيل: إنه قد كان على أمي نسمة فأنت حر عنها، فلما انصرف من بئر معونة لقي رجلين من بني كلاب، فقتلهما، وقد كان لهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمان فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما القتيلان اللذان خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببهما إلى بني النضير يستعينهما في ديتهما. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية ومعه سلمة بن أسلم بن حريش الأنصاري سرية إلى مكة إلى أبي سفيان بن حرب، فعلم بمكانهما، فطُلبا، فتواريا، وظفر عمرو بن أمية في تواريه ذلك في الغار بناحية مكة بعبيد الله التيمي، فقتله ومضى فأنزل خبيباً عن خشبته. وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، ويحمل بقية أصحابه إلى المدينة.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا عمرو بن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا نوح بن يزيد، قال: أخبرنا إبراهيم بن سعد، قال: حدثنيه ابن إسحاق، عن عيسى بن معمر، عن عبد الله بن عمرو بن الفغواء، عن أبيه، قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بمكة وذلك بعد الفتح، فقال: التمس صاحباً، قال: فجاءني عمرو بن أمية، فقال: بلغني أنك تريد الخروج وتلتمس صاحباً، قلت: أجل، قال: فأنا لك صاحب، قال: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد وجدت صاحباً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا وجدت صاحباً فأذني، فقال: من؟ قلت: عمرو بن أمية، فقال: إذا هبطت إلى بلاد قومه. فاحذره، فإنه قد قال القائل: أخوك البكري فلا تأمنه.
قال: فخرجنا حتى جئت الأبواء، قال: إني أريد حاجة إلى قومي بودان فتلبث لي، قال: قلت راشداً، فلما ولى ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشددت على بعيري ثم خرجت أوضعه حتى إذا كنت بالأضافر إذا هو يعارضني في رهط. قال: فأوضعت فسبقته، فلما رآني قد فته انصرفوا، وجاءني فقال: كانت لي إلى قومي حاجة، قلت: أجل. ومضينا حتى قدمنا مكة، فدفعت المال إلى أبي سفيان.
عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه: وأمه فاطمة بنت أسد، وكان أسن ولد أبي طالب بعد طالب، وكان بينه وبين طالب عشر سنين، ثم بينه وبين جعفر عشر سنين، ثم بين جعفر وبين علي عشر سنين، وكان علي رضي الله عنه أصغرهم سناً وأقدمهم إسلاماً.
وأخرج عقيل يوم بدر مع المشركين مكرهاً، فشهدها وأسر، ففداه العباس. ومات عقيل بعدما عمي بصره في خلافة معاوية.
عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان: شهد بدراً وأحداً والخندق وذهب بصره.
أم شريك، واسمها غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية:


وهي التي وهبت نفسها للنبي. صلى الله عليه وسلم واختلفوا هل قبلها أم لا؟ على قولين، أحدهما أنه قبلها ودخل عليها، والثاني أنه لم يقبلها، فلم تتزوج حتى ماتت.
أخبرنا المحمدان أبن ناصر وابن عبد الباقي، قالا: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد، قال: حدثنا أحمد بن فرح، قال: حدثنا أبو عمر المقري، قال: حدثنا محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: وقع في قلب أم شريك الإسلام فأسلمت وهي بمكة، وكانت تحت أبي العكير الدوسي، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعوهن وترغبهن في الإسلام حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا ولكنا سنردك إليهم. قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء، ثم تركوني ثلاثاً لا يطعموني ولا يسقوني، وكانوا إذا نزلوا منزلاً أوثقوني في الشمس واستظلوا منها وحبسوا عني الطعام والشراب فبينما هم قد نزلوا منزلاً وأوثقوني في الشمس إذا أنا بأبرد شيء على صدري فتناولته فإذا هو دلو من ماء فشربت منه قليلاً ثم نزع عني ثم عاد فتناولته ثم رفع، ثم عاد فتناولته ثم رفع مراراً ثم نزل فشربت حتى رويت ثم أفضيت سائره على جسمي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه، قلت: لا والله ولكنه كان من الأمر كذا وكذا، قالوا: إن كنت صادقة لدينك خير من ديننا، فلما نظروا إلى أسقيتهم وجدوها كما تركوها، فأسلموا عند ذلك وأقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم بغير مهر، فقبلها ودخل عليها كعب بن مالك بن أبي كعب، أبو عبد الرحمن: شهد العقبة وأحداً وما بعدها سوى تبوك، فإنه أحد الثلاثة الذين تخلفوا عنها وأنزلت توبته، وقد ذكرناها فيما تقدم، وكان قد ذهب بصره.
وتوفي في هذه السنة وهو ابن سبع وسبعين.
المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك، أبو عبد الله: كان أصهب الشعر جعداً، أقلص الشفتين، ضخم الهامة، أهتم، عبل الذراعين، بعيد ما بين المنكبين.
أخبرنا أبو بكر محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني محمد بن سعيد الثقفي، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد الملك بن عيسى، وعبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى، ومحمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه، وغيرهم، قالوا: قال المغيرة بن شعبة:


كنا قوماً من العرب متمسكين بديننا، ونحن سدنة اللات، فأجمع نفر من بني مالك الوفود على المقوقس وأهدوا له هدايا، فأجمعنا الخروج معهم فاستشرت عمي عروة بن مسعود فنهاني وقال: ليس معك من بني أبيك أحد، فأبيت إلا الخروج معهم وليس معهم أحد من الأحلاف غيري حتى دخلنا الإسكندرية، فإذا المقوقس في مجلس مطل على البحر، فركبت زورقاً حتى حاذيت مجلسه، فنظر إلي فأنكرني وأمر من يسألني من أنا وما أريد فسألني المأمور فأخبرته بأمرنا وقدومنا عليه، فأمرنا أن ننزل في الكنيسة، وأجرى علينا ضيافة ثم دعانا فدخلنا عليه، فنظر إلى رأس بني مالك، فأدناه إليه فأجلسه معه ثم سأله: أكل القوم من بني مالك؟ قال: نعم إلا رجلاً واحداً من الأحلاف فعرفه إياي، فكنت أهون القوم عليه، ووضعوا هداياهم بين يديه فسر بها وأمر بقبضها، وأمر لهم بجوائز وفضل بعضهم على بعض وقصر بي وأعطاني شيئاً قليلاً لا ذكر له، وخرجنا وأقبلت بنو مالك يشترون لأهليهم وهم مسرورون، ولم يعرض علي رجل منهم مواساة، وخرجوا وحملوا معهم الخمر، فكانوا يشربون وأشرب معهم. وتأبى نفسي أن ينصرفوا إلى الطائف بما أصابوا وما حباهم الملك، ويخبرون قومي بتقصيره بي وازدرائه إياي، فأجمعت على قتلهم، فلما كنا ببُساق تمارضت وعصبت رأسي، فقالوا لي: مالك؟ قلت: أصدع، فوضعوا شرابهم ودعوني، فقلت رأسي يصدع، ولكني أجلس فأسقيكم، فلم ينكروا شيئاً، فجعلت أسقيهم وأشرب القدح بعد القدح، فلما دبت الكأس فيهم اشتهوا الشراب، فجعلت أصرف لهم وأترع الكأس فيشربون ولا يدرون، فأهمدتهم الكأس حتى ناموا ما يعقلون، فوثبت إليهم فقتلتهم جميعاً وأخذت جميع ما كان معهم، فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فأجده جالساً في المسجد مع أصحابه، وعلي ثياب سفري، فسلمت بسلام الإسلام، فنظر إلي أبو بكر بن أبي قحافة - وكان بي عارفاً - فقال: ابن أخي عروة، قلت: نعم، جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله الذي هداك للإسلام " ، فقال أبو بكر: أمن مصر أقبلتم؟ قلت: نعم، قال: فما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ قلت: كان بيني وبينهم بعض ما يكون بين العرب ونحن على دين الشرك فقتلتهم وأخذت أسلابهم، وجئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخمسها أو يرى فيها رأيه، فإنما هي غنيمة من مشركين وأنا مسلم مصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إسلامك فنقبله ولا آخذ من أموالهم شيئاً ولا أخمسه لأن هذا غدر، والغدر لا خير فيه " . قال: فأخذني ما قرب وما بعد، وقلت: يا رسول الله إنما قتلتهم وأنا على دين قومي ثم أسلمت حيث دخلت عليك الساعة قال: فإن الإسلام يجب ما قبله. قال: وكان قد قتل منهم ثلاثة عشر إنساناً، فبلغ ذلك ثقيفاً فتداعوا للقتال ثم اصطلحوا على أن يحمل عني عروة بن مسعود ثلاث عشرة دية.
قال المغيرة: وأقمت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى اعتمر عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة - وكانت أول سفرة خرجت معه فيها، وكنت أكون مع أبي بكر الصديق وألزم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يلزمه.
وبعثت قريش عام الحديبية عروة بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليكلمه، فأتاه فكلمه وجعل يمس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة قائم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنع في الحديد. فقال لعروة وهو يمس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم: كف يدك قبل أن لا تصل إليك، فقال عروة: من هذا يا محمد، ما أفظه وأغلظه؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، فقال عروة: يا غدر ما غسلت عني سوءتك بالأمس. وانصرف عروة إلى قريش فأخبرهم بما كلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وشهد المغيرة بعد ذلك المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحمل وضوء رسول


الله صلى الله عليه وسلم، ولما توفي رسول الله بعثه أبو بكر الصديق إلى أهل البحرين، ثم شهد اليمامة، ثم شهد فتوح الشام مع المسلمين، ثم شهد اليرموك وأصيبت عينه يومئذٍ ، ثم شهد القادسية، وكان رسول سعد إلى رستم، وولي لعمر فتوحاً وولي له البصرة نحواً من سنتين، ففتح بيسان وغيرها، وفتح سوق الأهواز، وغزا نهر تيري، وفتح همدان وشهد نهاوند. وكان عمر قد كتب: إن هلك النعمان فالأمير حذيفة، وإن هلك حذيفة فالأمير المغيرة.
وكان المغيرة أول من وضع ديوان البصرة وجمع الناس ليعطوا عليه، وولي الكوفة لعمر بن الخطاب، فقتل عمر وهو عليها، ثم وليها بعد ذلك لمعاوية، فابتنى بها داراً ومات بها وهو وال عليها.
وبالإسناد حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء العجلي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: إن المغيرة أحصن مائة امرأة ما بين قرشية وثقفية.
وأخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا الحسين بن أبي بكر، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي، قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: توفي المغيرة بن شعبة سنة خمسين وهو ابن سبعين سنة. وتوفي سنة خمسين.
وقيل: سنة تسع وأربعين.
وكذلك قال خليفة بن خياط، وأبو حسان الزنادي.
ثم دخلت
سنة إحدى وخمسين
فمن الحوادث فيها مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم، وغزاة بُسْر بن أبي أرطأة الصائفة.
وفيها: مقتل حجر بن عدي.
وسببه: أن معاوية بن أبي سفيان لما ولى المغيرة بن شعبة الكوفة فقال له: قد أردت أن أوصيك بأشياء كثيرة، فأنا تاركها اعتماداً على بصرك بما يرضيني ويسدد سلطاني، فأقام المغيرة على الكوفة عاملاً لمعاوية سبع سنين وأشهراً وهو حسن السيرة، إلا أنه لم يدع الدعاء لعثمان والوقيعة في علي رضي الله عنه، وكان حجر بن عدي إذا سمع ذلك قال: أنا أشهد أن من تعيبون لأحق بالفضل وأن من تزكون لأولى بالذم، فيقول له المغيرة: ويحك اتق غضب السلطان وسطوته، فقام المغيرة يوماً فأثنى على عثمان، فصاح به حجر: إنك قد حبست أرزاقنا وأصبحت مولعاً بتقريظ المجرمين، وقام معه أكثر من ثلاثين يقولون: صدق حجر، فمر لنا بأعطياتنا، فنزل المغيرة ودخل عليه قومه فقالوا: علام تترك هذا الرجل يجترىء في سلطانك، ولو بلغ معاوية كان أسخط له عليك، فقال لهم المغيرة: إني قد قتلته، إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيهاً بما ترونه يصنع بي، فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شر قتلة، إنه قد اقترب أجلي، ولا أحب أن أبتدىء أهل هذا المصر بقتل خيارهم، فيسعدوا بذلك وأشقى، ويعز في الدنيا معاوية ويذل يوم القيامة المغيرة، ولكني قابل من محسنهم، وعاف عن مسيئهم، وواعظ شقيهم حتى يفرق بيني وبينهم الموت، وسيذكروني، ولو قد جربوا العمال بعدي.
فلما هلك المغيرة وولي زياد بن أبي سفيان قام فذكر عثمان وأصحابه فقرظهم وذكر قتلتهم ولعنهم، فقام حجر ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة، فقال: ويل أمك يا حجر، " سقط بك العشاء على سرحان " .
وفي رواية أخرى: أن زياداً خطب فأطال الخطبة وأخر الصلاة، فقال له حجر بن عدي: الصلاة فمضى في خطبته، ثم قال: الصلاة، فلما خشي الفوت ضرب بيده إلى كف من الحصا، وثار إلى الصلاة، وثار الناس معه، فنزل زياد فصلى بالناس، ثم كتب إلى معاوية في أمره، فاستشهد عليه جماعة من أهل مصره، منهم أبو بردة بن أبي موسى أنه خلع الطاعة ودعا إلى الفتنة. فكتب إليه معاوية أن شده في الحديد ثم احمله إلي فبعثه إليه مع جماعة ممن يرى رأيه، فاستوهب بعضهم وبقي بعضهم، فقيل لهم تبرأوا من علي حتى يطلقكم، فلم يفعلوا.
فلما دخل حجر على معاوية قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له معاوية: لا والله لا أقيلك ولا أستقيلك، أخرجوه فاضربوا عنقه، فأخرج، فقال: دعوني أصلي ركعتين، فصلاهما، ثم قال لمن حضره من أهله: لا تطلقوا عني حديداً، ولا تغسلوا عني دماً، فإني ألاقي معاوية غداً على الجادة. ثم قدم فضربت عنقه، وقتل معه جماعة من أصحابه ممن يرى رأيه. ولما لقيت عائشة أم المؤمنين معاوية قالت: يا معاوية، أين كان حلمك عن حجر، فقال لها: يا أم المؤمنين، لم يحضرني رشيد.
قال ابن سيرين: فبلغنا أنه لما حضرته الوفاة جعل يغرغر بالموت ويقول: يومي منك يا حجر يوم طويل.


وروى أبو جعفر الطبري قال: قال أبو مخنف عن الصعقب بن زهير، عن الحسن قال: أربع خصال كن في معاوية، لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة: ابتز هذه الأمة أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا من الصحابة وذوي الفضل واستخلف ابنه بعده سكيراً جهيراً، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعى زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ، وقتل حجراً فيا ويلاً له من حجر وأصحابه.
وفي هذه السنة
وجه زياد الربيع بن زياد الحارثي إلى خراسان أميراً بعد موت الحكم بن عمرو الغفاري وكان الحكم قد استخلف على عمله أنس بن أبي إياس فعزله زياد وولى خليد بن عبد الله الحنفي أشهراً ثم عزله، وولى خراسان الربيع بن زياد في أول سنة إحدى وخمسين فنقل الناس عيالاتهم إلى خراسان فوطنوها، ثم غزا الربيع حين قدم إلى خراسان ففتح بلخ صلحاً، وفتح قهستان عنوة، وكانت بناحيتهم أتراك فقتلهم وهزمهم، وكان ممن بقي منهم نيزك طرخان فقتله قتيبة بن مسلم في ولايته.
وكان الربيع قد قطع النهر فغنم وسلم، وكان الحكم بن عمرو قطع النهر قبله في ولايته إلا أنه لم يفتح.
فذكر المديني أن أول من شرب من النهر مولى للحكم، اغترف بترسه فشرب ثم ناول الحكم فشرب وتوضأ وصلى من وراء النهر ركعتين.
وفيها: حج بالناس يزيد بن معاوية، وكان العامل على المدينة سعيد بن العاص، وكان على الكوفة والبصرة والمشرق كله زياد. . وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة عميرة بن يثربي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جعفر بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: قدم مع أبيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلما، وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحنيناً وثبت يومئذٍ .
جرير بن عبد الله بن مالك بن نصر بن ثعلبة، وقيل: جرير بن عبد اللّه بن جابر بن مالك، يكنى أبا عمرو، وقيل: أبا عبد الله: قدم المدينة في رمضان سنة عشر فأسلم، وقال: لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي ثم حللت عيبتي ولبست حلي، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فسلمت عليه، فرماني الناس بالحدق فقلت لجليسي: هل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمري شيئاً؟ قال: نعم، ذكرك فأحسن الذكر بيننا، وهو يخطب قال: " سيدخل عليكم من هذا الفج أومن هذا الباب - الآن من خير ذي يمن، على وجهه مسحة ملك " ، فحمدت الله على ما أبلاني.
ولما جاء جرير يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بسط له ثوباً ليجلس عليه، وقال: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه " وكان جرير سيداً في قومه.
وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هدم ذي الجلسة، وهو بيت لخثعم كان يسمى الكعبة اليمانية، فأضرمه بالنار.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: حدثنا ابن الفهم، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا وهب بن جرير، قال: أخبرنا شعبة عن مغيرة، عن الشعبي: أن عمر كان في بيت ومعه جرير بن عبد الله فوجد ريحاً، فقال: عزمت على صاحب هذه الريح لما قام فتوضأ، فقال جرير: يا أمير المؤمنين، أو يتوضأ القوم جميعاً، فقال عمر: رحمك الله، نعم السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام.
قال ابن سعد: وقال يزيد بن جرير عن أبيه، أن عمر قال له والناس يتحامون العراق، وقتال الأعاجم: سر بقومك فما غلبت عليه فلك ربعه، فلما جمعت الغنائم - غنائم جلولاء - ادعى جرير أن له ربع ذلك كله، فكتب سعد إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب عمر: صدق جرير وقد قلت ذلك له، فإن شاء أن يكون قاتل هو وقومه على جعل فاعطوه جعله، وأن يكون قاتل لله ولدينه وحسبه فهو رجل من المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم.
فلما قدم الكتاب على سعد أخبر جريراً بذلك، فقال جرير: صدق أمير المؤمنين، لا حاجة لي به، بل أنا رجل من المسلمين.
قال علماء السير: شهد جرير مع المسلمين يوم المدائن، فلما مصرت الكوفة نزلها، فمكث بها إِلى خلافة عثمان، ثم بدت الفتنة فانتقل إلى قرقيسيا وسكنها إلى أن مات ودفن بها. أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر، قال: حدثنا عمر بن أحمد، قال: حدثنا خليفة، قال:


نزل جرير قرقيسيا فمات بها سنة إحدى وخمسين.
وكذلك قال محمد بن المثنى.
وقال هشام بن محمد الكلبي: مات سنة أربع وخمسين.
حارثة بن النعمان بن نفع، أبو عبد الله الأنصاري: شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا حيوية، قال: أخبرنا معروف، قال: حدثنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: قال حارثة رأيت جبريل مرتين حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، مر بنا في صورة دحية، وحين رجعنا من خيبر مررت وهو يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسلم، فقال جبريل: من هذا؟ قال: حارثة، قال: لو سلم لرددنا عليه.
قال ابن سعد: وقال الواقدي: كانت لحارثة منازل قرب منازل النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكان كلما أحدث النبي صلى الله عليه وسلم أهلاً تحول عن منزل بعد منزل حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: القد استحييت من حارثة مما يتحول لنا عن منازله.
قال ابن سعد: وأخبرنا عبد الرحمن بن يونس، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، قال: حدثني محمد بن عثمان، عن أبيه. أن حارثة بن النعمان كان قد كف بصره، فجعل خيطاً من مصلاه إلى باب حجرته، ووضع عنده مكتلاً فيه تمر وغير ذلك، فكان إذا سأل المسكين أخذ من ذلك التمر ثم أخذ على ذلك الخيط حتى يأخذ إلى باب الحجرة فيناوله المسكين، فكان أهله يقولون: نحن نكفيك، فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن مناولة المسكين تقي ميتة السوء " .
حجر بن عدي: وقد سبقت قصة قتله آنفاً: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: أسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها.
وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طلحة، يتجسسان خبر العير ففاتتهما بدر، فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسها مهما وأجورهما. وقدما المدينة في اليوم الذي لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين ببدر. وشهد سعيد أحداً والخندق والمشاهد بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي بالعقيق في هذه السنة، وغسله سعد بن أبي وقاص، وحمل إلى المدينة فدفن بها وهو ابن بضع وسبعين سنة. وكان رجلاً طوالاً، أدم أشعر.
عبد اللّه بن أنيس بن أسعد بن حرام، أبو يحيى: شهد العقبة مع السبعين، وكان يكسر أصنام بني سلمة هو ومعاذ بن جبل لما أسلما. ولم يشهد بدراً، لكنه شهد أحداً وما بعدها، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرية وحده إلى سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي وأمره أن يقتله، فخرج فقتله ثم قدم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه مخصراً - يعني عصا - فقال: خذ هذه تنخصر بها يوم القيامة فإن المنخصرين يومئذٍ قليل " فلما حضرته الوفاة أمر أن تدفن معه في أكفانه، ومات بالمدينة في خلافة معاوية.
نفيع بن الحارث، أبو بكرة: ويقال: اسمه مسروح، ويقال: نفيع بن مسروح، وأمه سمية، وهو أخو زياد ابن سمية بن أبي سفيان لأمه. كان عبداً لبعض أهل الطائف، فلما حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى مناديه: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج بضع عشر منهم أبو بكرة، تدلى من بكرة، فكني أبا بكرة.
وكان يقول: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن البصرة، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، قال: حدثنا إِبراهيم بن أحمد بن يحيى المزكي، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي، قال: أخبرنا الحسن بن سعيد المخزومي، قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن عيينة بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبي، قال: لما اشتكى أبو بكرة عرض عليه بنوه أن يأتوه بطبيب فأبى، فلما نزل به الموت وعرف الموت من نفسه وعرفوه منه، قال: أين طبيبكم ليردها إن كان صادقاً، قالوا: وما يغني الآن، قال: وقبل الآن.
قال: وجاءت ابنته أمة الله، فلما رأت ما به بكت، فقال: أي بنية لا تبكي، قالت: يا أبه، فإذا لم أبك عليك فعلى من أبكي؟ فقال: لا تبكي، فوالذي نفسي بيده ما على الأرض نفس أحب إليٌ أن تكون قد خرجت من نفسي هذه، ولا نفس هذا الذباب الطائر.


وأقبل على حمران بن أبان وهو عند رأسه، فقال: لا أخبرك مم ذاك، خشيت والله أن يجيء أمر يحول بيني وبين الإسلام، ثم جاء أنس بن مالك فقعد بين يديه وأخذ بيده وقال: إن ابن أمك زياد أرسلني إليك يقرئك السلام وقد بلغه الذي نزل بك من قضاء الله تعالى، فأحب أن يحدث بك عهداً وأن يسلم عليك وأن يفارقك عن رضى، قال: أفمبلغه أنت عني؟ قال: نعم، قال: فإني أحرج عليه أن يدخل لي بيتاً ويحضر لي جنازة، قال: لم يرحمك الله وقد كان لك معظماً ولبنيك واصلاً، قال: في ذلك غضبت عليه، قال: ففي خاصة نفسك، فما علمته إِلا مجتهداً، قال: فأجلسوني، فأجلسوه فقال: نشدتك بالله لما حدثتني عن أهل النهر، أكانوا مجتهدين؟ قالوا: نعم، قال: أفأصابوا أم أخطأوا، قال: هو ذاك، ثم قال: أضجعوني. فرجع أنس إلى زياد فأبلغه، فركب متوجهاً إلى الكوفة فتوفي، فقدم بنوه أبا برزة فصلى عليه.
ثم دخلت
سنة اثنتين وخمسين
فمن الحوادث فيها غزوة سفيان بن عوف الأزدي ومشتاه بأرض الروم، وأنه توفي بها، واستخلف عبد الله بن مسعدة الفزاري. هذا قول الواقدي.
وقال غيره: بل الذي شتا بأرض الروم في هذه السنة بالناس بسر بن أبي أرطأة ومعه سفيان بن عوف، وغزا الصائفة في هذه السنة محمد بن عبد الله الثقفي. وفيها حج بالناس سعيد بن العاص، وكان العمال في هذه السنة العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
خالد بن يزيد بن كليب بن ثعلبة، أبو أيوب الأنصاري، الخزرجي: حضر العقبة، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضر مع علي بن أبي طالب حرب الخوارج بالنهروان، وورد المدائن في صحبته.
أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر،قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي؟ قال: حدثنا أبو سعيد مولي بني هاشم، قال: حدثنا ثابت - يعني أبا زيد - قال: حدثنا عاصم، عن عبد الله بن الحارث، عن أفلح مولى أبي أيوب، عن أبي أيوب.
أن رسوك الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم أسفل الدار وأبو أيوب في العلو، فانتبه أبو أيوب ذات ليلة فقال: يمسي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباتوا في جانب فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أسفل أرفق بي " ، فقال أبو أيوب: لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول أبو أيوب في السفل والنبي صلى الله عليه وسلم في العلو.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أبن معروف، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسلمة، قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا بكر بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عيسى بن المختار، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من خيبر ومعه صفية دخل الفسطاط معه السيف واضعاً رأسه على الفسطاط، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع الحركة، فقال: " من هذا؟ " فقال: أنا أبو أيوب، فقال: ما شأنك؟ فقال: يا رسول الله، جارية شابة حديثة عهد بعرس وقد صنعت بزوجها ما صنعت فلم آمنها، قلت إن تحركت أكون قريباً منك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا أيوب " ، مرتين.
قال ابن معروف: وحدثنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال:. قال الواقدي: توفي أبو أيوب حين غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية في خلافة أبيه معاوية سنة اثنتين وخمسين، وصلى عليه يزيد، وقبره بأصل حصن القسطنطينية بأرض الروم، فلقد بلغنا أن الروم يتعاهدون قبره ويرمونه، ويستسقون به إذا قحطوا.
وقد قال أبو زرعة الدمشقي أنه مات أبو أيوب سنة خمس وخمسين، والأول أثبت.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: أخبرنا ابن الفضل، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا صفوإن بن صالح، قال: حدثنا الوليد، قال: حدثني شيخ من أهل فلسطين:


أنه رأى بنية بيضاء دون حائط القسطنطينية، فقالوا: هذا قبر أبي أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبيت تلك البنية، فرأيت قبره في تلك البنية وعليه قنديل معلق بسلسلة.
عبد اللّه بن قيس بن سليم، أبو موسى الأشعري: أمه ظبية بنت وهب بن عك، أسلمت وماتت بالمدينة.
وكان خفيف الجسم قصيراً أثط، قدم مكة فحالف سعيد بن العاص فأسلم بمكة وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم قدم مع أهل السفينتين ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر.
ذكره الواقدي، ولم يذكره ابن عبيد وابن إسحاق وأبو معشر فيمن هاجر إلى الحبشة.
وقال أبو بكر بن عبد الله بن جهم: ليس أبو موسى من مهاجرة الحبشة، وليس له حلف في قريش، وكان قد أسلم بمكة قديماً ثم رجع إلى بلاد قومه، فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين جعفر وأصحابه من أرض الحبشة، ووافق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، ولما دنا أبو موسى وأصحابه من المدينة جعلوا يرتجزون ويقولون:
غَداً نَلْقَى الأحِبَّه مُحَمَداً وحزْبَه
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أنبأنا أبو إسحاق البرمكي، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، المسجد، فسمع قراءة رجل، فقال: " من هذا؟ " . قيل عبد الله بن قيس، فقال: " لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود " .
قال محمد بن سعد: وأخبرنا يزيد وعفان، قالا: أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: كان أبو موسى إذا نام يلبس ثياباً عند النوم مخافة أن تنكشف عورته.
قال ابن سعد: وأخبرنا عبد الوهاب، عن إسماعيل بن سلمة، عن ابن سيرين، قال: قال أبو موسى: إني لأغتسل في البيت الخالي فيمنعني الحياء من ربي أن أقيم صلبي.
أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي: قال: حدثنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كتب عمر في وصيته: أن لا يقر لي عامل كثر من سنة، وأقروا الأشعري - يعني أبا موسى - أربع سنين.
توفي أبو موسى في هذه السنة، وقيل: في سنة اثنتين وأربعين.
عبد اللّه بن مغفل، أبو سعيد: وكان من البكائين، ومن الذين بعثهم عمر إلى البصرة يفقهونهم.
أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا عمر بن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هوذة، قال: حدثنا عوف، عن خزاعي، بن زياد، قال: أري عبد الله بن مغفل أن الساعة قد قامت والناس يعرضون على مكان، قال: قد علمت أنه من جاز ذلك المكان نجا، فذهبت أدنو منه، فقال: وراءك، أتريد أن تنجو وعندك ما عندك، كلا والله، قال: فاستيقظت من الفزع، فأيقظ أهله وعنده في تلك الساعة عيبة مملوءة دنانير، فقال: يا فلانة، أرني تلك العيبة قبحها الله وقبح ما فيها فما أصبح حتى قسمها، فلم يدع منها ديناراً.
فلما كان المرض الذي مات فيه أوصى أهله، قال: لا يليني إلا أصحابي، ولا يصلي علي ابن زياد، فلما مات أرسلوا إلى أبي برزة وعائذ بن عمرو، ونفر من أصحاب رسول الله، فولوا غسله وتكفينه، فلما أخرجوه إذا بابن زياد في موكبه بالباب، فقيل له: إنه قد أوصى أن لا تصلي عليه، فسار معه حتى بلغ حذاء البيضاء، فمال إلى البيضاء وتركه.
توفي عبد الله بالبصرة.
عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن عبد نهم، أبو نجيد: أسلم قديماً، وغزا مع رسول الله غزوات، ولم يزل في بلاد قومه ثم تحول إِلى البصرة، فنزلها إلى أن مات بها.
أنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: حدثنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا عارم بن الفضل، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين، قال: ما قدم من البصرة أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يفضل على عمران بن حصين.


قال ابن سعد: وأخبرنا وهب بن جرير بن حازم، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت حميد بن هلال يحدث عن مطرف، قال: قال لي عمران بن حصين: أشعرت أنه كان يسلم علي فلما اكتويت انقطع التسليم، فقلت: أمن قبل رأسك كان يأتيك التسليم أم من قبل رجليك؟ قال: لا بل من قبل رأسي، فقلت: لا أرى أن تموت حتى يعود ذلك.
فلما كان بعد قال لي: أشعرت أن التسليم عاد لي. قال: ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى مات.
قال: وقلت لعمران: ما يمنعني من عيادتك إلا ما أرى من حالك، قال: لا تفعل، فإن أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل.
معاوية بن حُديج بن جفنة، أبو نعيم: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر، وكان الوافد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفتح الإسكندرية، وكان أعور؛ ذهبت عينه في حرب النوبة مع عبد الله ابن سعد بن أبي سرح سنة إِحدى وثلاثين، وولي الإمرة على غزو المغرب سنة أربع وثلاثين، وسنة أربعين وسنة خمسين.
روى عنه علي بن رباح، وعبد الرحمن بن سماعة، وسويد بن قيس وغيرهم.
توفي في هذه السنة.
هانىء بن نيار بن عمرو بن عبيد، أبو بردة: وهو خال البراء بن عازب، شهد العقبة مع السبعين وبدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت معه راية بني حارثة في غزوة الفتح.
ثم دخلت
سنة ثلاث وخمسين
فمن الحوادث فيها مشتى عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي بأرض الروم وفيها: فتحت رُودُس، وهي جزيرة في البحر، فتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي، فنزلها المسلمون، وزرعوا، واتخذوا بها الأموال والمواشي، وكان لهم ناطور يحذرهم من يريدهم من البحر بكيد، وكانوا أشد شيء على الروم، يعترضونهم في البحر فيقطعون سفنهم، وكان معاوية يدر لهم العطاء، فلما مات معاوية. أقفلهم يزيد بن معاوية.
وقيل: هذا كان في سنة أربع وخمسين.
قال الأصمعي: وكان بالكوفة طاعون زياد الذي مات فيه في هذه السنة.
وقيل: كان في سنة أربع.
وفيها: حج بالناس سعيد بن العاص، وكان هو العامل على المدينة، وكان على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى البصرة سمرة ين جندب. وعلى خراسان خليد بن عبد الله الحنفي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جبلة بن الأيهم كان ملك غسان، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب بإسلامه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له هدية، ثم لم يزل مسلماً حتى كان في زمان عمر رضي الله عنه فوطىء رجل من مزينة، فوثب المزني فلطمه، وكان ذلك بدمشق، فأخذ الرجل فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة بن الأيهم، قال: فليلطمه، قالوا: وما يقتل؟ قال: لا، قالوا: فما تقطع يده؟ قال: لا، إنما أمر الله عز وجل بالقود، قال جبلة: أترون أني جاعل وجهي نداً لوجه جدر جاء من عمق - يعني موضعاً في ناحية المدينة - بئس الدين هذا. ثم ارتد نصرانياً، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر فشق ذلك عليه.


وروي لنا خبره على غير هذا الوجه، وأنه أسلم في زمن عمر. قال أبو عمرو الشيباني: كتب جبلة إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له عمر، فخرج إليه في خمسمائة من بنيه حتى إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بذلك، فسر عمر وبعث إليه بإنزال، وأمر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا الديباج والحرير، وركبوا الخيل معقودة أذنابها وألبسوها قلائد الذهب والفضة، ولبس جبلة تاجه وفيه قرط مارية، وهي جدته، ودخل المدينة فلم يبق بها بكر ولا عانس إلا خرجت تنظر إليه وإلى زيه، فلما انتهى إلى عمر رحب به وألطفه وأدنى مجلسه، ثم خرج عمر إلى الحج، فحج معه جبلة، فبينما هو يطوف بالبيت وطىء إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنفه، فاستعدى عليه عمر، فبعث إلى جبلة، فقال له: ما هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه تعمد حل إزاري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف، فقال له عمر: قد أقررت، فإما أن ترضي الرجل وأما أن أقيد منك، قال جبلة: تصنع بي ماذا. قال: آمر بهشم أنفك كما فعلت، قال؟ كيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك. قال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقى، قال جبلة: قد ضننت أني أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية، قال عمر:، دع ذا عنك فإنك إن لم ترض الرجل، اقتدته منك، قال: إذاً أتنصر، قال: إن تنصرت ضربت عنقك لأنك قد أسلمت فإن ارتددت قتلتك.
فلما رأى الجد من عمر قال: أنا ناظر في هذا ليلتي هذه، وقد اجتمع بباب عمر من حي هذا وحي هذا خلق كثير حتى كادت تكون بينهم فتنة، فلما أمسوا أذن له عمر في الانصراف حتى إذا نام الناس تحمل بخيله ورواحله إلى الشام فأصبحت مكة بلاقع منهم، فلما أتى الشام تحمل في خمسمائة رجل من قومه حتى أتى القسطنطينية فدخل إلى هرقل فتنصر هو وقومه، فسر بذلك وظن أنه فتح من الفتوح، وأجرى عليه ما شاء، جعله من سماره.
وذكر ابن الكلبي أن الفزاري لما وطىء إزار جبلة، فلطمه جبلة، فلكل جبلة كما لطمه، فوثب عليه غسان فهشموا أنفه وأتوا به عمر، وذكر في الحديث مثل ما تقدم.
أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ، خبرنا عبد القادر بن محمد بن يوسف، أخبرنا الحسن بن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر بن حيوية، حدثنا العباس بن العباس بن المغيرة، حدًثنا محمد بن موسى بن هارون، حدثنا أحمد بن يزك، حدَّثنا هشام بن محمد الكلبي، عن أبيه، قال: ذكروا أنه لما أسلم جبلة بن الأيهم الغساني، وكان من ملوك جفنة، وذلك في خلافة عمر، وكتب إلى عمر بإسلامه، ويستأذنه في القدوم عليه، فسر عمر بذلك وأذن له في القدوم، فخرج في خمسين ومائة من أهل بيته حتى إذا قارب المدينة عمد إلى أصحابه فحملهم على الخيل وقلدها قلائد الفضة، وألبسهم الديباج والحرير، ولبس تاجه وفيه قرط مارية جدته، وبلغ عمر، فبعث إليه بالنزل هنالك، ثم دخل المدينة في هيئته، فلم تبق بكر ولا عانس إلا خرجت تنظر، فدخل على عمر فرحب به، ثم أقام أياماً، وأراد عمر الحج، فخرج معه، وكان الناس يتعجبون من هيئته، فبينا هو يطوف بالبيت وطىء رجل من بني فزارة إزاره من خلفه فانحل، فرفع يده فهشم أنف الفزاري، فمضى يستعدي عمر عليه، فبعث إليه، فأتى فقال: هشمت أنف الرجل؟ قال: نعم، اعتمد حل إزاري، ولولا حرمة الكعبة لضربت بالسيف بين عينيه، فقال عمر: أما أنت فقد أقررت، فإما أن ترضي الرجل وإلا أقدته منك، قال: أو خطر هو لي؟ قال: نعم، قال: كيف وأنا ملك وهو سوقة؟ قال عمر: الإسلام جمعكما، قال: والله لقد ظننت أني أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية، قال عمر: هو ما ترى، فقال: إذن أتنصر، قال: إن فعلت قتلتك. واجتمع من حي الفزاري وحي جبلة على باب عمر خلق كثير، فقال: أنا أنظر في هذا الأمر ليلتي هذه. فانصرف إلى منزله، فلما ادلهم الليل تحمل بأصحابه إلى الشام في خمسمائة حتى دخل القسطنطينية في زمن هرقل فتنصر وقومه فأقطعه هرقل ما شاء، وأجرى عليه ما شاء وجعله من سماره.


فمكث دهراً ثم كتب عمر إلى هرقل كتاباً وبعثه مع رجل من أصحابه، فأجاب هرقل بما أراد عمر، ثم قال للرجل: هل لقيت ابن عمك جبلة؟ قال: لا، قال: فالقه قال: فأتيته، فما أخالني رأيت ثياب هرقل من السرور والبهجة ما رأيت من ثياب جبلة، فاستأذنت، فأذن وقام ورحب بي عانقني وعاتبني في ترك النزول عليه، فإذا هو في بهو عظيم من التماثيل والهول مالا أحسن أصفه وهو على سرير من ذهب، له أربع قوائم رأسه من ذهب، وإذا هو رجل أصهب ذو سبال، وإذا هو قد أمر بالذهب الأحمر فسحل فذر في لحيته، واستقبل عين الشمس ثم أجلسني على كرسي من ذهب، فلما تبينته انحدرت عنه وقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، وسألني عن الناس وألحف في السؤال عن عمر، ثم عرفت الحزن فيه، فقلت: ما يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام؟ قال: بعد الذي كان؟ قلت: نعم، قد كان الأشعث بن قيس ارتد وضربهم بالسيوف ومنعهم الزكاة ثم دخل في الإسلام، وزوجه أبو بكر الصديق أخته، فقال: دع هذا عنك، ثم أومأ إلى وصيف قائم على رأسه فولى، فما شعرنا إلا بالصناديق يحملها الرجال، فوضعت أمامنا مائدة من ذهب فاستعفيت منها، فأتى بمائدة خلنج، فوضعت أمامي وسعى علينا من كل حار وبارد في صحاف من ذهب وفضة، ودارت علينا الخمر فاستعفيت منها، ثم أتي بطست من ذهب وأبريق من ذهب. ثم أومأ إلى وصيف له فما كان إلا هنيهة حتى أقبلت عشر جوار، فقعد خمس عن يمينه وخمس عن يساره على كراسي العاج، وإذا عشر أخر أحسن من الأول، فقعد خمس عن يمينه وخمس عن يساره، ثم أقبلت جارية من أحسن ما تكون من الجواري، بطائر أبيض، وفي يدها اليمنى جام من ذهب فيه مسك وعنبر سحيقان، وفي يدها اليسرى جام من فضة فيه ماء ورد، ما لم أشم مثله، فنقرت الطائر فوقع في الجام فتقلب فيه ثم في الجام الآخر فتقلب فيه، ثم سقط على صليب في تاج جبلة، ثم حرك جناحيه فنثر ذلك على رأس جبلة ولحيته، ثم شرب جبلة خمراً ثم استهل واستبشر، ثم قال للجواري: أطربنني، فخفقن بعيدانهن، فاندفعن يغنين
لله در عصابة نادمتهم ... يوماً بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة عند قبر أبيهمُ ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ماتهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
فطرب، ثم قال: هل تعرف لمن هذا الشعر؟ قلت: لا، قال: قاله حسان بن ثابت، قال: هو حي؟ قلت: نعم، أما إنه ضرير كبير.
ثم قال: أطربنني، فغنين:
لمن الدار أقفرت بمغان ... بين قرع اليرموك والضمان
ذاك مغن لآل جفنة في الدهر ... محاه تعاقب الأزمان
فقال: أتعرف قائل هذا، ذاك حسان ثم سكت طويلاً ثم قال: ابكينني. فوضعن عيدانهن ونكسن رؤوسهن وقلن:
تنصرت الأشراف من عار لطمة ... وما كان فيها لو صبرت على ضرر
تكنفني فيها لحاج ونخوة ... وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فياليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر
وباليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر
وياليت لي بالشام أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعة ... وقد يصبر العود الكبير على الدبر
ثم انصرف الجواري، ووضع يده على وجهه يبكي حتى نظرت إلى دموعه تجول كأنها اللؤلؤ، وبكيت معه ثم نشف دموعه بكمه، ومسح وجهه وقال: يا جارية هاتي، فأتته بخمسمائة دينار هرقلية، فقال: ادفع هذه إلى حسان بن ثابت وأقرئه مني السلام. ثم قال: هاتي، فأتته بمثلها، فقال: خذها صلة لك، فأبيت وقلت: لا أقبل صلة رجل ارتد عن الإسلام، فقال: أقرىء على عمر والمسلمين السلام - فجئت إلى عمر فأخبرته، فقال: ورأيته يشرب الخمر، فقلت: نعم، فقال: أبعده الله، تعجل فانيه بباقيه.
وفي رواية أخرى أن الرسول من حمير اسمه جثامة بن مساحق الكناني.


وروى عبد الله بن مسعدة الفزاري، قال: وجهني معاوية إلى ملك الروم، فدخلت عليه، فإذا عنده رجل على سرير من ذهب دون مجلس الملك، فقلت: من أنت يا عبد الله، فقال: أنا رجل غلب علي الشقاء، أنا جبلة بن الأيهم، إذا صرت إلى منزلي فالقني. فلما انصرف إلى منزله أتيته فلقيته على شرابه وعنده قينتان تغنيانه بشعر حسان، فقال لي: ما فعل حسان؟ قلت: شيخ كبير قد عمي، فدعى بألف دينار فدفعها إليَ وأمرني أن أدفعها إليه وقال: أترى صاحبك يفي إن خرجت إليه؟ قلت: قل ما شئت أعرضه عليه، قال: يعطيني الثنية فإنها كانت منازلنا، وعشرين قرية من الغوطة، ويفرض لجماعتنا، ويحسن جوائزنا. قلت: أبلغه. فلما قدمت على معاوية، قال: وعدت أنك أجبته إلى ما سأل فأجيزه له. وكتب إليه معاوية يعطيه ذلك، فوجده قد مات.
الربيع بن زياد الحارثي: وكان عامل زياد على خراسان، فبقي سنتين وأشهراً، ومات. وكان الربيع قد خرج يوم جمعة، فقال: أيها الناس، قد ملكت الحياة وأنا داع فأمنوا، ثم رفع يديه بعد الصلاة، وقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلاً، فأمن الناس، فخرج فسقط وحمل إلى بيته، واستخلف ابنه.
وفي رواية: استخلف خليد بن عبد الله الحنفي وأقره زياد.
رويفع بن ثابت بن السكن: له صحبة، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر، واختط بها داراً، ومنزله باق.
روى عنه مرثد بن عبد الله اليزني وغيره. وله بالمغرب ولايات وفتوح. توفي ببرقة وهو أمير عليها لمسلمة بن مخلد الأنصاري أمير مصر في هذه السنة.
زياد بن سمية، وهو الذي يقال له ابن أبيه: وكان أحمر اللون، في عينه اليمنى انكسار.
قال سفيان بن عيينة: أول من ضرب الدنانير والدراهم زياد.
وقال أبو رجاء: عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة وولاها زياداً، قالوا: فملك العراق خمس سنين.
وكتب إلى معاوية: إني قد ضبطت لك العراق بشمالي وبقيت يميني فارغة فاشغلها بالحجاز، فكتب له عهده، فلما بلغ ذلك أهل الحجاز أبى نفر منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، فذكروا ذلك له، فقال: ادعوا الله عليه يكفيكموه، فاستقل القبلة واستقبلوا، ودعا ودعوا، فخرجت طاعونة على إِصبعه، فأرسل إلى شريح وكان قاضيه، فقال: قد أمرت بقطعها فأشر علي، فقال شريح: إني أخشى أن تكون الجراح على يدك والألم في قلبك، وأن يكون الأجل قد دنا وتلقى الله أجذم وقد قطعت يدك كراهية لقائه، أو أن يكون في الأجل تأخير وقد قطعت يدك فتعيش أجذم ويعير ولدك فتركها. وخرج شريح فسألوه فأخبرهم بما أشار عليه، فقالوا: هلا أشرت عليه بقطعها، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المستشار مؤتمن " .
ثم عزم زياد على قطعها وقال: أنام والطاعون في لحاف، فلما نظر إِلى النار والمكاوي جزع، فترك ذلك فحضرته الوفاة، فقال له ابنه: يا أبه، قد هيأت لك ستين ثوباً أكفنك فيها، فقال: يا بني قد دنا من أبيك لباس خير من لباسه هذا، وسلب سريع؛ فمات لثلاث خلون من رمضان بالثوير بجانب الكوفة، وكان قد توجه يريد الحجاز والياً عليها، فلما بلغ الخبر ابن عمر، قال: اذهب إليك ابن سمية، لا الدنيا بقيت لك، ولا الآخرة أدركت.
أخبرنا محمد بن ناصر، أخبرنا أبو الحسن بن عبد الجبار، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله الأنماطي، أخبرنا أبو حامد أحمد بن الحسين المروزي، قال: أخبرنا الحارث بن محمد بن عبد الكريم، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، قال: حدثنا مجالد، عن الشعبي، قال: حدَّثنا عجلان مولى زياد وحاجبه، قال: كان زياد إذا خرج إلى المسجد مشيت أمامه حتى يدخل، وإذا دخل مشيت أمامه حتى يخرج، وإذا دخل مجلسه فعلت ذلك به، فدخل يوماً مجلسه، فإذا ضوء في الحائط مثال ثلاثين، فنظر إليه فقال: يا عجلان، هل يصل إلى هذا المجلس ضوء من موضع؟ قلت: لا، قال: فما هذا؟ ثم قال: هيه، هذا والله أجلي، نعيت إلى نفسي ثلاثين سنة، والله ما أطمع فيها ثلاثين شهراً، والله يفعل ما يريد، أثلاثون يوماً، والله يفعل ما يشاء قال عجلان. فمات والله في آخر يوم من الثلاثين يوماً.


أخبرنا إسماعيل بن محمد، أخبرنا محمد بن هبة الله العكبري، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، حدثنا ابن صفوان، حدًثنا، أبو بكر القرشي، قال: حدثني أبي، عن هشام بن محمد: حدثني يحيى بن ثعلبة الأنصاري، عن أمه عائشة، عن أبيها عبد الرحمن بن السائب الأنصاري، قال: جمع زياد أهل الكوفة، فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرضهم على البراءة من علي رضي الله عنه. قال عبد الرحمن: فإني لمع نفر من أصحابي من الأنصار والناس في أمر عظيم، فهومت تهويمة، فرأيت شيئاً أقبل، طويل العنق مثل عنق البعير، أهدب أهدل، فقلت: ما أنت؟ فقال: أنا النفاد ذو الرقبة بعثت إلى صاحب هذا القصر. فاستيقظت فزعاً، فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: لا، فأخبرتهم، وخرج علينا خارج من القصر فقال: إن الأمير يقول لكم انصرفوا عني فإني عنكم مشغول، وإذا الطاعون قد أصابه، فأنشأ عبد الرحمن يقول:
ما كان منتهياً عما أراد بنا ... حتى تناوله النفاد ذو الرقبه
وأثبت الشق منه ضربة ثبتت ... كما تناول ظلماً صاحب الرحبه
قال أبو بكر القرشي: حدثني زكريا بن يحيى، عن عبد السلام بن مظهر، عن جعفر بن سليمان، عن عبد ربه أبي بن كعب الجرموزي: أن زياداً لما قدم الكوفة قال: أي أهل البلد أعبد؟ قالوا: فلان الحميري، فأرسل إليه، فأتاه فإذا له سمت ونجو، فقال زياد: لو مال هذا مال أهل الكوفة معه، فقال له: إني بعثت إليك لأمولك وأعطيك على أن تلزم بيتك فلا تخرج، قال: سبحان الله، والله لصلاة واحدة في جماعة أحب إلي من الدنيا كلها، ولزيارة أخ في اله وعيادة مريض أحب إلي من الدنيا كلها، وليس إلى ذلك سبيل. قال: فاخرج فصل في جماعة، وزر إخوانك، وعد المريض، والزم لسانك، قال: سبحان الله، أرى معروفاً لا أقول فيه، أرى منكراً لا أنهى عنه، فوالله لمقام من ذلك واحد أحب إلي من الدنيا كلها. قال جعفر: أظن الرجل أبو المغيرة، فقال: السيف، فأمر به، فضربت عنقه، قال جعفر: فقيل لزياد: أبشر، قال: كيف وأبو المغيرة في الطريق.
أنبأنا الجريري، عن العشاري، قال: أخبرنا علي بن الحسين، قال: أخبرنا محمد بن القاسم بن مهدي، قال: حدثنا علي بن أحمد بن أبي قيس، قال: حدَّثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني سعيد بن يحيى، قال: حدثنا عمي عبد الله بن سعيد، عن زياد بن عبد الله، عن عوانة، قال: حدثني عبد الرحمن بن الحسين، عن القاسم بن سليمان، قال: وقع طاعون بالكوفة فبدأ زياد، فخرج من الكوفة، فلما ارتفع الطاعون رجع فخرج طاعون بأصبعه. قال سليم: فأرسل إليّ فأتيته، فقال: يا سليم، أتجد ما أجد من الحر؟ قلت: لا، قال: والله إني لأجد في جسدي حراً كأنه النار، واجتمع إليه مائة وخمسون طبيبً، منهم ثلاثة من أطباء كسرى، فخلا سليم بطبيب من أطباء كسرى فسأله عنه، فقال له الطبيب ما به وهو ميت، فمره بالوصية صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم: كان يحيي الموءودة في الجاهلية، ثم جاء الإسلام فأسلم.


روى أبو عبده، عن عقال بن شبة، قال: قال صعصعة: خرجت باغياً ناقتين لي فرفعت لي نار فسرت نحوها وهممت بالنزول، فجعلت النار تضيء مرة وتخبو أخرى، فلم تزل تفعل ذلك حتى قلت: اللهم لك علي إن بلغتني هذه النار أن لا أجد أهلها يوقدونها لكربة: إلا فرجتها عنهم، قال: فلم أسر إِلا قليلاً حتى أتيتها، فإذا حي من بني أنمار، وإذا بشيخ يوقدها في مقدم بيته، والنساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض قد حبستهن ثلاث ليال، فسلمت، فقال الشيخ: من أنت؟ فقلت: أنا صعصعة بن ناجية، فقال: مرحباً بسيدنا، ففيم أنت يا بن أخي؟ فقلت: في بغاء ناقتين لي، قال: قد وجدتهما بعد أن أحيي الله بهما أهل بيت من قومك، وقد تجناهما وعطفت إحداهما على الأخرى، وهم شأنك في أدنى الإبل، قال: ففيم توقد نارك منذ الليلة، قال: أوقدتها لامرأة ماخض قد حبستنا منذ ثلاث ليال، قال: فقال النساء: قد جاء الولد، فقال الشيخ: إن كان غلاماً فوالله ما أدري ما أصنع به، وإن كانت جارية فلا أسمعن صوتها إلا قتلتها، فقلت، يا هذا، ذرها فإنها ابنتك ورزقها على الله، فقال أقتلها، فقلت: أنشدك الله، فقال: إني أراك بها حفياً فاشترها مني، قلت: إني أشتريها منك، فقال: ما تعطيني؟ قلت: أعطيك إحدى ناقتي، قال: لا، قلت: أزيدك الأخرى، فنظر إِلى ، جملي الذي تحتي، فقال: لا إلا أن تزيدني جملك هذا فإني أراه حسن اللون شاب السن، فقلت: هو لك على أن تبلغني أهلي، قال قد فعلت. فابتعتها منه، وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ليحسنن برها وصلتها ما عاشت حتى تبين عنه أو يدركها الموت، فلما برزت من عنده حدثت نفسي وقلت: إن هذه مكرمة ما سبقني إِليها أحد من العرب، ثم قلت: اللهم إن لك علي أن لا أسمع برجل من العرب يريد أن يئد بنتا له إلا اشتريتها بلقوحة، جمل فبعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم وقد أحييت مائة موءودة إلا أربعاً لم يشاركني في ذلك أحد حتى أنزل الله عز وجل تحريمه في القرآن.
وفي رواية أخرى: أنه جاء الإسلام وقد أحيى ثلائمائة وستين موءودة.
وفي رواية أربعمائة.
وقدم على رسول الله فأسلم وتعلم القرآن وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع، فقال: " لك أجر ذلك إذ من الله عليك بالإسلام " . ثم توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة أربع وخمسين
فمن الحوادث فيها: مشتى محمد بن مالك بأرض الروم، وصائفة معن بن يزيد السلمي وفيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة واستعمل مروان وسبب ذلك أن معاوية كان يُغرِي بين مروان وسعيد بن العاص، فكتب إلى سعيد وهو على المدينة: اهدم دار مروان، فلم يهدمها، فأعاد إليه الكتاب مرة بعد مرة فلم يفعل، فعزله، فلما ولى مروان كتب إليه اهدم دار سعيد، فركب وجاء بالفَعَلة، فقال له سعيد: أتهدم داري؟ قال: كتب إلي أمير المؤمنين، ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت، قال: ما كنت لأفعل، قال: بلى والله. فجاءه بكتاب معاوية في ذلك فرجع ولم يهدمها.
وقال الواقدي: كتب إليه: اقبض أموال مروان واجعلها صافية، واقبض فدك منه، وكان وهبها له. فراجعه سعيد وقال: قرابته قريبة، فأعاد إليه الكتاب فأبى وأخذ الكتابين فوضعهما عند جارية له، فلما عزل وولي مروان كتب معاوية إلى مروان يأمره بقبض أموال سعيد بن العاص بالحجاز، فأرسل إليه بكتاب مع ابنه عبد الملك وقال: لو كان غير كتاب أمير المؤمنين. ، لتجافيته. فدعى، سعيد بالكتابين اللذين كتب بهما إليه في أموال مروان، فذهب بهما إلى مروان، فقال: هو كان أوصل لنا منه إليه، وكف عن قبض أموال سعيد.
وفي هذه السنة عزل معاوية سمرة بن جندب عن البصرة وولى عبد الله بن عمرو بن غيلان وكان سمرة خليفة زياد على البصرة، فلما مات زياد أقره معاوية ستة أشهر ثم عزله، فقال سمرة بن جندب: والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبداً.
وفي هذه السنة ولى معاوية عبيد اللّه بن زياد خراسان.
وذلك أنه لما مات زياد، وفد عبيد الله على معاوية، فقال له معاوية: من استخلف أخي على عمله بالكوفة؟ قال: عبد الله بن خالد بن أسيد، قال: وعلى البصرة سمرة بن جندب، فقال: لو استعملك أبوك لاستعملتك.


وكان معاوية إذا أراد أن يولي رجلاً من بني حرب ولاه الطائف، فإن رأى فيه ما يعجبه ولاه مكة معها، فإن أحسن الولاية جمع له معها المدينة، فكان إذا ولى الطائف رجلاً قيل: هو في أبي جاد، وإذا ولاه مكة قيل: هو في القرار، فإذا ولاه المدينة قيل: هو قد حذق.
فولى معاوية عبيد الله بن زياد خراسان وهو ابن خمسة وعشرين سنة، فقدمها وقطع النهر إلى جبال بخارى، ففتح راميثن، ونصف بَيْكَنْد - وهما من بخارى - ولقي الترك ببخارى ومع ملكهم امرأته، فلما هزمهم الله أعجلها المسلمون عن لبس خُفيْها، فلبست أحدهما وبقي الآخر، فأصابه المسلمون، فقوموا الجورب بمائتي ألف درهم. وأقام بخراسان سنتين.
وفيها: حج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم وكان هو على المدينة، وكان على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، وقيل: بل كان الضحاك بن قيس. وكان على البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان.
ذكر من توفي في هذه السنة
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكنى أبا عبد الله أصابه سبي فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقه، فلم يزل معه حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل حمص فمات في هذه السنة.
الحارث بن ربعي، أبو قتادة الأنصاري: قال الواقدي: اسمه النعمان.
وقال الهيثم بن عدي: اسمه عمرو. والأول أصح.
شهد ما بعد بدر، وحضر مع علي قتال الخوارج بالنهروان. وقد قيل أنه مات في خلافته وصلى عليه، ولا يصح ذلك بل عاش بعده.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، قال: توفي أبو قتادة بالمدينة سنة أربع وخمسين، وهو ابن سبعين سنة.
حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى: ولد قبل الفيل باثنتي عشرة سنة، وكان آدم شديد الأدمة خفيف اللحم.
أنبأنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، أخبرنا المخلص، أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي، حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني مصعب بن عثمان، قال: دخلت أم حكيم بن حزام الكعبة معها نسوة من قريش وهي حامل بحكيم بن حزام، فضربها المخاض في الكعبة، فأتيت بنطع حيث أعجلتها الولادة، فولدت حكيم بن حزام في الكعبة على النطع وكان حكيم من سادات قريش في الجاهلية والإسلام.
قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك، عن أبيه، قال: لم يدخل دار الندوة أحد من قريش للمشورة حتى يبلغ أربعين سنة إلا حكيم بن حزام، دخلها وهو ابن خمس عشرة سنة.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدَّثنا المنذر بن عبد الله بن المنذر عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، قال: سمعت حكيم بن حزام، يقول: ولدت قبل قدوم أصحاب الفيل بثلاث عشرة سنة وأنا أعقل حين أراد عبد المطلب أن يذبح ولده عبد الله حتى وقع نفره، وذلك قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين.
قال محمد بن عمر: شهد حكيم بن حزام مع أبيه حرب الفجار، وقتل أبوه حزام في الفجار الأخير، وكان حكيم يكنى أبا خالد وكان له جماعة من الولد كلهم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا يوم الفتح.
قال محمد بن عمر: وأخبرنا إبراهيم بن جعفر بن محمود، عن أبيه وغيره، قالوا: بكى حكيم بن حزام، فقال له ابنه: ما يبكيك يا أبه؟ قال: خصال كلها أبكاني، أما أولها: فبطء إسلامي حتى سبقت في مواطن كلها صالحة، ونجوت يوم بدر ويوم أحد، فقلت: لا أخرج من مكة ولا أوضع مع قريش ما بقيت، فأقمت بمكة ويأبى الله أن يشرح قلبي للإسلام وذلك أني أنظر إلى بقايا من قريش لهم أسنان متمسكين بما هم عليه من أمر الجاهلية فأقتدي بهم، ويا ليت أني لم أقتد بهم، فما أهلكنا إلا اقتداؤنا بآبائنا وكبرائنا، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جعلت أفكر، وأتاني أبو سفيان بن حرب، فقال: أبا خالد، والله إني لأخشى أن يأتينا محمد في جموع يثرب، فهل أنت تابعي إلى شرف نتروح الخبر؟ قلت: نعم. قال: فخرجنا نتحدث ونحن مشاة حتى إذا


كنا بمر الظهران إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدهم من الناس، فلقي العباس بن عبد المطلب أبا سفيان، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى مكة فدخلت بيتي وآمن الناس، فجئته صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالبطحاء وأسلمت وصدقته وشهدت أن ما جاء به حق، وخرجت معه إلى حنين. فأعطى رجالاً من الغنائم والأموال، وسألته حينئذ فألحقت المسلة.
قال محمد بن عمر: وحدثني معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، وعروة بن الزبير، قالا: حدًثنا حكيم بن حزام، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بحنين مائة من الإبل فأعطانيها، ثم سألته مائة فأعطانيها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإسراف نفس لم يبارك فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، فاليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول " .
فكان حكيم يقول: والذي بعثك بالحق لا أزرأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر الصديق يدعو حكيماً ليعطيه فيأبى أن يقبل منه شيئاً، وكان عمر يدعو حكيماً إلى عطائه فيأبى أن يأخذه، فيقول: أيها الناس أشهدكم على حكيم أني أدعوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذه، فلم يزرأ حكيم أحداً من الناس شيئاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي.
قال محمد بن سعد: وأخبرنا عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة وحمل على مائة بعير، ثم أعتق في الإسلام مائة رقبة وحمل على مائة بعير، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت شيئاً كنت فعلته في الجاهلية أتحنث به، هل لي فيه من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أسلمت على ما سلف لك من خير " أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا ابن المسلمة، قال: أخبرنا المخلص، قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: وحدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: جاء الإسلام وفي يد حكيم الرفادة ودار الندوة بيده، فباعها بعد من معاوية بمائة ألف درهم فقال له عبد الله بن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى يا ابن أخي، إني اشتريت بها داراً في الجنة، أشهد أني قد جعلتها في سبيل الله.
وكان يفعل المعروف ويصل الرحم، عاش ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام.
قال الزبير: وحدثني يعقوب بن محمد بن عيسى، قال: حدثني عثمان بن عمر بن عثمان بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبيه، عن أبي بكر بن سليمان، قال: حج حكيم بن حزام معه مائة بدنة قد أهداها، وجِللِها الحبرة، وكفها على أعجازها، ووقف مائة وصيف يوم عرفة في أعناقهم أطوقة الفضة قد نقش في رؤوسها عتقاء الله من حكيم بن حزام، وأعتقهم وأهدى ألف شاة.
قال الزبير بن بكار: وأخبرني إبراهيم بن حمزة، أن مشركي قريش حصروا بني هاشم في الشعب، وكان حكيم بن حزام تأتيه العير تحمل الحنطة من الشام فيقبل بها إلى الشعب، ثم يضرب أعجازها فتدخل عليهم فيأخذون ما عليها من الحنطة.
قال الزبير: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن الواقدي، عن الضحاك بن عثمان قال: قال حكيم بن حزام: كنت أعالج البز في الجاهلية، وكنت رجلاً تاجراً أخرج إلى اليمن وإلى الشام في الرحلتين، وكنت أربح أرباحاً كثيرة فأعود على فقراء قومي ونحن لا نعبد شيئاً نريد بذلك ثراء الأموال والمحبة في العشيرة، وكنت أحضر للأسواق، وكان لنا ثلاثة أسواق: سوق بعكاظ يقوم صبح هلال ذي القعدة، فيقوم عشرين يوماً ويحضرها العرب، وبها ابتعت زيد بن حارثة لعمتي خديجة بنت خويلد وهو يومئذ غلام، فأخذته بستمائة درهم، فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة سألها زيداً، فوهبته له فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها ابتعت حلة ذي يزن، كسوتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أحداً قط أجمل ولا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحلة.


قال: ويقال: إن حكيم بن حزام قدم بالحلة في هدنة الحديبية وهو يريد الشام في عير، فأرسل بالحلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها، وقال: إلا أقبل هدية مشرك، قال حكيم: فجزعت جزعاً شديداً حيث رد هديتي، وبعتها بسوق النبط من أول سائم سامني، ودس رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها زيد بن حارثة فاشتراها، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها بعد.
وكان سوق مَجَنةَ تقوم عشرة أيام حتى إِذا رأينا هلال ذي الحجة انصرفنا وانتهينا إلى سوق في المجاز تقام ثمانية أيام.
وكل هذه الأسواق ألقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المواسم يستعرض القبائل قبيلة قبيلة يدعوهم إلى الله تعالى، فلا أرى أحداً يستجيب، وقريش أشد القبائل عليه حتى بعث ربه عز وجل قوماً أراد بهم كرامة هذا الحي من الأنصار فبايعوه وآمنوا به وبذلوا له أنفسهم وأموالهم، فجعل الله له دار هجرة. فلما حج معاوية سامني بداري بمكة فبعتها منه بأربعين ألف دينار، فبلغني أن ابن الزبير يقول: ما يدري هذا الشيخ ما يبيع ليردن عليه بيعه. فقلت: والله ما ابتعتها إلا بزق من خمر.
وكان حكيم يشترىِ الظهر والأداة والزاد ثم لا يجيئه أحد يستحمله في السبيل إلا حمله. وكان معاوية عام حج مر به وهو ابن عشرين ومائة سنة، فأرسل إليه بلقوح يشرب من لبنها وذلك بعد أن سأله أي الطعام يأكل، فقال: أما مضغ فلا مضغ بي، فأرسل إِليه بلقوح، وصله، فأبى أن يقبلها وقال: لم آخذ من بعد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، قد دعاني أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى حقي فأبيت.
توفي بالمدينة في هذه السنة وهو ابن مائة وعشرين سنة.
حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل، أبو محمد: أسلم يوم الفتح، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد النفر الذين أمرهم عمر بن الخطاب بتجديد أنصاب الحرم.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزار، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن مسلمة الأشهلي، عن أبيه، قال: كان حويطب بن عبد العزى قد بلغ عشرين ومائة سنة، ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام، فلما ولي مروان بن الحكم المدينة في عمله الأول دخل عليه حويطب مع مشيخة جلة: حكيم بن حزام، ومخرمة بن نوفل فتحدثوا عنده ثم تفرقوا، فدخل عليه حويطب يوماً بعد ذلك فتحدث عنده فقال له مروان: ما سنك؟ فأخبره، فقال له: تأخر إسلامك أيها الشيخ حتى سبقك الأحداث، فقال حويطب: الله المستعان، والله لقد هممت بالإسلام مرة بعد مرة، كل ذلك يعوقني أبوك، يقول: تدع شرفك، وتدع دين آبائك لدين محمد وتصير تابعاً، قال: فأسكت مروان، وندم على ما كان.
قال له: ثم قال حويطب: أما كان أخبرك عثمان ما كان لقي من أبيك حين أسلم؟ فازداد مروان غماً، ثم قال حويطب: ما كان في قريش أحد من كبرائنا الذين بقوا على دين قومهم إلى أن فتحت مكة، كان أكره لما هو عليه مني، ولكن المقادير. ولقد شهدت بدراً مع المشركين فرأيت عبراً، رأيت الملائكة تقتل وتأسر بين السماء والأرض، فقلت: هذا رجل ممنوع، ولم أذكر ما رأيت، فانهزمنا راجعين إلى مكة، فأقمنا بمكة نسلم رجلاً رجلاً، فلما كان يوم الحديبية حضرت وشهدت الصلح ومشيت فيه حتى تم، وكل ذلك أريد الإسلام ويأبى الله إلا ما يريد، فلما كتبنا صلح الحديبية كنت أنا أحد شهوده، قلت: لا ترى قريش من محمد إلا ما يسوؤها، قد رضيت أن دافعت بالراح.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية، وخرجت قريش عن مكة، وكنت فيمن تخلف في مكة أنا وسهيل بن عمرو ولات يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مضى الوقت، وهو ثلاث، فلما انقضت الثلاث أقبلت أنا وسهيل بن عمرو، فقلنا: قد مضى شرطك فاخرج بمن معك من بلدنا، فصاح: يا بلال لا تغيب الشمس وأحد من المسلمين بمكة ممن قدم معنا.
وبالإسناد عن إبراهيم، عن أبيه، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن موسى بن عقبة، عن لمنذر بن جهم، قال: قال حويطب:


لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح خفت خوفاً شديداً، فخرجت من بيتي وفرقت عيالي في مواضع يأمنون فيها، ثم انتهيت إلى حائط عوف، فكنت فيه فإذا أنا بأبي ذر الغفاري وكان بيني وبينه خلة، فلما رأيته هربت منه، فقال: أبا محمد، قلت: لبيك، قال: مالك، قلت: الخوف، قال: لا خوف عليك تعالى أنت آمن بأمان الله، فرجعت إليه وسلمت عليه، فقال لي: اذهب إلى منزلك، قلت: وهل سبيل إلى منزلي، والله ما أراني أصل إلى بيتي حياً حتى ألقى فأقتل أو يدخل في منزلي فأقتل وإن عيالي في مواضع شتى، قال: فاجمع عيالك معك في موضع واحد وأنا أبلغ معك فبلغ معي وجعل ينادي على بابي: إن حويطب آمن فلا يُهَجْ. ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: " أو ليس قد آمنا الناس كلهم إلا من أمرت بقتله " .
فاطمأننت ورددت عيالي إلى مواضعهم، وعاد إلي أبو ذر فقال: يا أبا محمد حتى متى وإلى متى قد سبقت في المواطن كلها وفاتك خير كثير وبقي خير كثير فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم تسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أبر الناس وأوصل الناس وأحلم الناس. قلت: فأنا أخرج معك فآتيه، فخرجت معه حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء وعنده أبو بكر وعمر، فوقفت على رأسه وقد سألت أبا ذر: كيف يقال إذا سلمُ عليه؟ قال: قل السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، قال: " وعليك السلام، أحويطب؟ " قلت: نعم، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال: " الحمد لله الذي هداك " وسر بإسلامي واستقرضني مالاً فأقرضته أربعين ألف درهم وشهدت معه حنيناً والطائف، وأعطاني من غنائم حنين مائة بعير.
ثم قدم حويطب بعد ذلك المدينة فنزلها وله بها دار.
قال محمد بن عمر: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: باع حويطب داره بمكة من معاوية بأربعين ألف دينار، فقيل له: يا أبا محمد، أربعون ألف دينار، فقال: وما أربعون ألف دينار لرجل عنده خمسة من العيال.
ومات حويطب بالمدينة في هذه السنة وله مائة وعشرون سنة.
سعيد بن يربوع بن عنكثة بن عامر بن مخزوم: أسلم يوم الفتح، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً وأعطاه من غنائمها خمسين بعيراً، وكان ممن يجدد أنصاب الحرم كل سنة معرفة بها حتى ذهب بصره في آخر خلافة عمر رضي الله عنه.
وتوفي بالمدينة في هذه السنة وهو ابن مائة وعشرين سنة.
سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبدود: تزوجها السكران بن عمرو، وأسلما وخرجا إلى الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدم مكة توفي، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فخطبها فتزوجها، فهي أول امرأة تزوجها بعد خديجة، وكان ذلك في رمضان سنة عشر من النبوة، وبنى بها بمكة، وكانت قد كبرت فأراد طلاقها، فقالت: دعني أحشر في جملة أزواجك وليلتي لعائشة.
وقيل: إنه طلقها، فلما قالت هذا راجعها.
وتوفيت في شوال هذه السنة بالمدينة.
مرة بن شراحبيل الهمداني: ويقال له: مرة الخير، ومرة الطيب، سمي ذلك لعبادته.
وروى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود. وكان كثير الصلاة تبين في وجهه وكفيه آثار. الركوع والسجود.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أبو حامد بن جبلة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا سعدان بن يزيد، قال: حدثنا الهيثم بن جميل، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عطاء بن السائب، قال: كان مرة يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، فلما ثقل وبدن صلى أربعمائة ركعة، وكنت تنظر إلى مباركه كأنها مبارك الإبل.
أخبرنا إِسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا ابن بشران، قال: حدثنا ابن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثني محمد بن جعفر بن عون، قال: حدثني بكر بن محمد العابد، قال: حدثنا الحارث الغنوي، قال: سجد مرة الهمداني حتى أكل التراب جبهته، فلما مات رآه رجل من أهله في منامه كأن موضع سجوده كهيئة الكوكب الدري يلمع. فقلت له: ما هذا الذي أرى بوجهك؟ قال: كسى موضع السجود بأكل التراب له نوراً، قال: فما منزلتك في الجنة؟ قال: خير منزلة، دار لا ينتقل عنها أهلها ولا يموتون.
النعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث:


شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يؤتى به مرة بعد مرة في شرب النبيذ، فقال رجل: اللهم العنه، ما أكثر ما يشرب وأكثر ما يجلد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " .
ثم دخلت
سنة خمس وخمسين
فمن الحوادث فيها: مشتى سفيان بن عوف الأزدي بأرض الروم في قول الواقدي.
وقال غيره: بل الذي شتا هناك عمرو بن محرز.
وقيل: بل عبد الله بن قيس الفزاري.
وقيل: بل مالك بن عبد الله وفيها عزل معاوية عبد اللّه بن عمرو بن غيلان عن البصرة وولى عبيد اللّه بن زياد وكان السبب في ذلك أن عبد الله خطب على منبر البصرة فحصبه رجل من بني ضبة يدعى جبير بن الضحاك، فأمر به فقطعت يده، فاجتمعت عشيرته فقالت له: لا نأمن أن نبلغ خبر صاحبنا إلى أمير المؤمنين فتأتي من عنده عقوبة تعم أو تحض، فإن رأى الأمير أن يكتب لنا كتاباً يخرج به أحدنا إلى أمير المؤمنين يخبره أنه قطعه على شبهة وأمر لم يَصِح، فكتب لهم، فأمسكوا الكتاب مدة ثم ذهبوا به إلى معاوية وقالوا: إنه قطع يد صاحبنا ظلماً وهذا كتابه. فقرأ الكتاب وقال: أما القود من عمالي فلا سبيل له، ولكن إن شئتم وديت صاحبكم، فوداه من بيت المال، وعزل عبد الله وقال: اختاروا من تحبون، فقالوا: يتخير لنا أمير المؤمنين، قال: قد وليت عليكم ابن أخي عبيد الله بن زياد. فلما ولي عبيد الله ولى أسلم بن زرعة خراسان فلم يغز ولم يفتح بها شيئاً. وولى شرطته عبد الله بن حصن والقضاء زرارة بن أوفى ثم عزله وولى القضاء ابن أذينة العبدي.
وفي هذه السنة
عزل معاوية عبد الله بن خالد بن أسيد عن الكوفة وولاها الضحاك بن قيس الفهري.
وفيها: حج بالناس مروان بن الحكم، وكان على المدينة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أرقم بن أبي الأرقم بن أسد بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم، أبو عبد اللّه: وأمه أميمة بنت الحارث من خزاعة، وخاله نافع بن الحارث بن خزاعة عامل عمر بن الخطاب على مكة.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: حدثنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمران بن هند بن عبد الله بن عثمان بن الأرقم أبن أبي الأرقم المخزومي، قال: حدثني أبي، عن يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم، قال: حدثني جدي عثمان بن الأرقم، قال: أنا ابن سبعة في الإسلام، أسلم أبي سابع سبعة، وكانت داره بمكة على الصفا، وهي الدار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون فيها في أول الإسلام، وفيها دعى الناس إلى الإسلام، وأسلم فيها خلق كثير، وقال ليلة الإثنين فيها: " اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: عمر بن الخطاب، أو عمرو بن هشام،. فجاء عمر بن الخطاب من الغد بكرة فأسلم في دار الأرقم وخرجوا منها وكبروا وطافوا بالبيت طاهرين، فدعيت دار الأرقم دار الإسلام، وتصدق بها الأرقم على ولده، فقرأت نسخة صدقة الأرقم بداره.
" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قضى الأرقم في ربعه ما حاذى الصفا، إنها محرمه بمكانها من الحرم، لا تباع ولا تورث، شهد هشام بن العاص، وفلان مولى هشام بن العاص " .
فلم تزل هذه الدار صدقة قائمة فيها ولده يسكنون ويؤاجرون ويأخذون عليها حتى كان زمن أبي جعفر.
قال محمد بن عمران: فأخبرني أبي، عن يحيى بن عمران أن ابن عثمان بن الأرقم قال:


إني لأعلم اليوم الذي وقعت في نفس أبي جعفر، إنه ليسعى بين الصفا والمروة في حجة حجها ونحن على ظهر الدار في فسطاط فيمر تحتنا لو أشاء أن آخذ قلنسوة عليه لأخذتها، وإنه لينظر إلينا من حين يهبط بطن الوادي حتى يصعد إلى الصفا، فلما خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة، كان عبد الله بن عثمان بن الأرقم ممن تابعه ولم يخرج معه، فتعلق عليه أبو جعفر بذلك، فكتب إلى عامله بالمدينة أن يحبسه ويطرحه في حديد، ثم بعث رجلاً من أهل الكوفة يقال له شهاب بن عبد رب، وكتب معه إلى عامل المدينة أن يفعل ما يأمره به، فدخل شهاب على عبد الله بن عثمان الحبس - وهو شيخ كبير ابن بضع وثمانين سنة، وقد ضجر بالحديد والحبس - فقال له: هل لك أن أخلصك مما أنت فيه وتبيعني دار الأرقم؟ فإن أمير المؤمنين يريدها، وعسى أن بعته إِياها أن أكلمه فيك فيعفو عنك قال: إِنها صدقة، ولكن حقي منها له ومعي فيها شركاء إِخوتي وغيرهم، فقال: إنما عليك نفسك، أعطنا حقك وبَرِئْتَ. فاشهد له بحقه، وكتب عليه كتاب شراء على حساب سبعة عشر ألف دينار، ثم تتبع إِخوته ففتنهم بكثرة المال فباعوه، فصارت لأبي جعفر ولمن أقطعها، ثم صيرها المهدي للخيزران أم موسى وهارون، فبنتها وعرفت بها، ثم صارت لجعفر بن موسى أمير المؤمنين، ثم سكنها أصحاب الشطوي والعدني، ثم اشترى، عامتها غسان بن عباد من ولد موسى بن جعفر.
قال علماء السير: شهد الأرقم بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله، ومات الأرقم بالمدينة في هذه السنة وهو ابن سبع وثمانين سنة، وصلى عليه سعد بن أبي وقاص.
سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة ويكنى أبا إسحاق: وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي.
أسلم وهو ابن سبع عشرة سنة.
وقيل: تسع عشرة.
وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا خالي فليرني امرؤ خاله " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم سدد رميته وأجب دعوته " .
وكان مجاب الدعوة، ودعا فقال: اللهم إن لي بنين صغاراً فأخر عني الموت حتى يبلغوا، فأخر عنه الموت عشرين سنة.
وولي الولايات من قبل عمر وعثمان، وجعله عمر أحد أصحاب الشورى، وأمره على جيوش العراق، ثم ولاه الكوفة.
وكان قصيراً، غليظًا، ذا هامة، شَثْنَ الأصابع، آدم، أفطس، أشعر الجسد، يخضب السواد. وكان له من الولد، ثمانية عشر ذكراً، وثماني عشرة أنثى.
وروى عنه من الصحابة ابن عباس، وجابر بن سمرة، والسائب بن يزيد، وعائشة أم المؤمنين.
وكان عمر يقول لابنه: إذا حدثك سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فلا تسأل عنه غيره.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا عبد الله بن نمير، ويعلى ومحمد ابنا عبيد، قالوا: حدثنا إسماعيل بن خالد، عن قيس بن حازم، قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: والله إني لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام نأكله إلا ورق الحُبْلَةِ وهذا السَّمُرُ، حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خِلْطٌ .
قال محمد بن سعد: وأخبرنا وكيع، " عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن شداد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحداً بأبويه إلا سعداً، فإني سمعته يقول يوم أحد: " ارم سعد فداك أبي وأمي " توفي سعد في قصر بالعقيق. على عشرة أميال من المدينة، فحمل على أعناق الرجال إلى المدينة، وصلى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ والي المدينة، ثم صلى عليه أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرهن ووقف به عليهن فصلين عليه ودفن بالبقيع.
وكان أوصى أن يكفن في جبة صوف له كان لقي المشركين فيها يوم بدر فكفن فيها وذلك في سنة خمس وخمسين. كذلك قال خليفة بن خياط، وسعيد بن عمير، وعمرو بن علي المدائني.
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: سنة ثمان وخمسين.
وقال الهثيم بن عدي: سنة خمسين.
وقال ابن بكير: سنة أربع وخمسين، وهو آخر المهاجرين وفاة. والأول أثبت.


وترك يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم. وفي مقدار عمره أقوال ثلاث أحدها: ثلاث وثمانون. قاله إبراهيم بن سعد.
والثاني: أربع وسبعون. قاله عمرو بن علي.
والثالث: اثنتان وثمانون.
وقول الغلاس أثبت.
سحبان بن زفر بن إياس بن عبد شمس بن الأحب الباهلي: كان خطيباً بليغاً يضرب المثل بفصاحته، ودخل على معاوية بن أبي سفيان وعنده خطباء القبائل، فلما رأوه خرجوا لعلمهم بقصورهم عنه، فمن قوله:
لقد علم الحي اليمانيون أنني ... إذا قلت: أما بعد، أني خطيبها
فقال له معاوية: اخطب، فقال: انظروا لي عصاً تقيم من أودي، قالوا: وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟ قال: ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه، فأخذها وتكلم من الظهر إلى أن قارب العصر ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه وقد بقيت عليه بقية فيه، فقال معاوية: الصلاة، قال: الصلاة أمامك ألسنا في تحميد وتمجيد وعظة وتنبيه وتذكير ووعد ووعيد، فقال معاوية: أنت أخطب الجن والإنس، قال: كذلك أنت.
فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس: كان صبياً يوم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء كنا غلماناً نحتطب، فأرسلنا إلى أهلنا وقال: قولوا قد جاء صاحبكم الذي تنتظرون، فخرجنا إلى أهلنا فأخبرناهم، فأقبل القوم.
وشهد فضالة أحداً والخندق وما بعدها، وكان ممن بايع تحت الشجرة، ثم خرج إلى الشاموصار قاضياً بها في خلافة معاوية.
قثم بن العباس بن عبد المطلب: كان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلعب، فحمله خلفه.
واستعمله علي بن أبي طالب على المدينة، وخرج مع سعيد بن عثمان في زمن معاوية، فاستشهد بسمرقند.
كعب بن عمرو بن عباد، أبو اليسر شهد العقبة وبدراً وهو ابن عشرين سنة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قصيراً دحداحاً، أبطن، وهو الذي أسر العباس بن عبد المطلب يوم بدر وتوفي بالمدينة في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ست وخمسين
فمن الحوادث فيها:
مشتى جنادة بن أبي أمية بأرض الروم
وقيل: عبد الرحمن بن مسعود.
وفيها: غزا البحر يزيد بن شجرة الرهاوي، وغزا البر عياض بن الحارث.
وفيها: حج بالناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
وفيها: اعتمر معاوية في رجب.
وفيها دعا الناسَ معاويةُ إلى بيعة يزيد ابنه من بعده وجعله ولي عهده وكان سبب ذلك أن المغيرة قدم على معاوية وأستعفاه وشكى إليه الضعف، فأعفاه، وأراد أن يولي سعيد بن العاص، فدخل المغيرة على يزيد فعرض له البيعة، فأتى ذلك يزيد إلى أبيه، فرد معاوية المغيرة إلى الكِوفة وأمره أن يعمل في بيعة يزيد. فشخص إلى الكوفة فعمل في بيعة يزيد، وكتب معاوية إلى زياد يستشيره في ذلك، فبعث زياد إلى عبيد بن كعب النميري، فقال: إِن أمير المؤمنين قد أجمع على بيعة يزيد وهو متخوف نفرة الناس، ويزيد صاحب تهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤدياً عني وأخبره عن فعلات يزيد وقل: رويدك بالأمر، فأقْمَنُ أن يتم لك ما تريد، ولا تعجل فإن دركاً في تأخير خير من تعجيل عاقبته الفوت. فقال عبيد له:


أفلا غير هذا، قال: ما هو. قال: لا تفسد على معاوية رأيه ولا تمقت إليه ابنه، وألقى أنا يزيد سراً من معاوية فأخبره عنك أن أمير المؤمنين يستشيرك في بيعته، وأنت تتخوف خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وأنت ترى له ترك ما ينقمون عليه فتستحكم لأمير المؤمنين الحجة على الناس، ويسهل لك ما تريد، فتكون قد نصحت يزيد وأرضيت أمير المؤمنين فقال: إشخص على بركة الله. فقدم على يزيد فذاكره ذلك، وكتب زياد إلى معاوية يأمره بالتؤدة وأن لا يعجل فقبل ذلك معاوية، وكف يزيد عن كثير مما كان يصنع، ثم قدم عبيد على زياد فأقطعه قطيعة. فلما مات زياد دعا معاوية بكتاب، فقرأه على الناس باستخلافه يزيد إن حدث به حدث الموت فيزيد ولي عهده، فاستوثق له الناس على البيعة ليزيد غير نفر خمسة، أحدهم الحسين بن علي رضي الله عنهما، فقال له معاوية: يا بن أخي، قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم، فما إربك إلى هذا الخلاف؟ قال: أنا أقودهم، قال: نعم، فأرسل إليهم فإن بايعوا كنت رجلاً منهم وإلا لم تكن عجلت علي بأمر. قال: وتفعل؟ قال: نعم قال: فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهم أحداً، فالتوى عليه، ثم أعطاه ذلك، فخرج وقد أقصد له ابن الزبير رجلاً بالطريق. قال: يقول لك أخوك ابن الزبير: ما كان فلم يزل به حتى استخرج منه شيئاً.
ثم أرسل بعده إلى ابن الزبير، فقال له: قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا بن أخي، فما إربك إلى الخلاف. قال: أنا أقودهم. قال: نعم، قال: فأرسل إليهم فإن بايعوا كنت رجلاً منهم وإلا لم تكن عجلت علي بأمر، قال: وتفعل. قال: نعم، قال: فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً، قال: يا أمير المؤمنين نحن في حرم وعهد الله ثقيل، فأبى عليه وخرج.
ثم أرسل بعده إلى ابن عمر رضي الله عنهما فكلمه بكلام هو ألين من كلام صاحبيه، فقال: إني أرهب أن أدع أمة محمد كالضأن لا راعي لها وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، فما إربك إلى الخلاف؟ قال: هل لك في أمر يذهب الوزر، ويحقن الدم، وتدرك حاجتك؟ قال: وددت، قال: تبرز سريرك ثم أجيء فأبايعك على أني أدخل بعدك فيما يجتمع له عليه الأمة، فوالله لو أن الأمة اجتمعت بعدك على عبد حبشي لدخلت فيما تدخل فيه الأمة، قال: وتفعل؟ قال: نعم. ثم خرج فأتى منزله فأطبق بابه وجعل الناس يجيئون فلا يأذن لهم.
فأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: يا ابن أبي بكر بأية يد أو رجل تقدم على معصيتي، قال: أرجو أن يكون ذلك خيراً لي، فقال: والله لقد هممت أن أقتلك، قال: لو فعلت لأتبعك الله به لعنة في الدنيا وأدخلك به في الآخرة النار.
قال: ولم يذكر ابن عباس.
وحكى محمد بن سعد: أن معاوية قال للحسين، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ولعبد الله بن الزبير: إني أتكلم بكلام فلا تردوا عليّ شيئاً فأقتلكم. فخطب الناس وأظهر أنهم قد بايعوا ليزيد، فسكت القوم ولم ينكروا خوفاً منه ورحل من المدينة.
وفي هذه السنة ولى معاوية سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان.
وكان السبب أن سعيداً سأل ذلك، قال: إن بها عبيد الله بن زياد، فقال: أما والله لقد اصطنعك أبي ورقاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يجارى إليه ولا يسامى، فما شكرت بلاءه ولا جازيته. فولاه حرب خراسان، وولى إسحاق بن طلحة خراجها.
وكان إسحاق ابن خالة معاوية، أمه أم أبان بنت عتبة بن ربيعة، فلما صار بالري مات إسحاق بن طلحة، فولي سعيد خراج خراسان وحربها، فقطع سعيد الترمذ إلى سمرقند، فخرج إليه أهل الصغد فواقفوه يوماً إلى الليل ثم انصرفوا من غير قتال، فلما كان الغد خرج إليهم سعيد، وناهضه أهل الصغد فقاتلهم فهزمهم وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهناً منهم خمسين غلاماً يكونون في يده من أبناء عظمائهم، وعبر فأقام بالترمذ.
وكان العامل في هذه السنة على المدينة مروان بن الحكم، وعلى الكوفة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان بن عفان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أم حرام بنت ملحان، أخت أم سليم: أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يقيل في بيتها.


أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حيان، عن أنس، عن أم حرام أنها قالت: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً في بيتي استيقظ وهو يضحك، فقلت: بأبي وأمي ما يضحكك؟ قال: " عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر هذا البحر كالملوك على الأسرة " فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: " اللهم اجعلها منهم " . ثم نام فاستيقظ وهو يضحك، فقلت: بأبي وأمي ما يضحكك، قال: عرض علي ناس منم أمتي يركبون هذا البحر كالملوك على الأسرة، فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم، ففال: " أنت من الأولين " .
فغزت مع عبادة بن الصامت وكان زوجها عبادة بن الصامت فوقصتها بغلة لها شهباء فوقعت فماتت.
قال هرم بن عمار: أنا رأيت قبرها ووقفت عليه بالساحل بفاقيس.
وقال هشام بن الغار: قبرها بقبرص، وهم يقولون: هذا قبر المرأة الصالحة.
ثم دخلت
سنة سبع وخمسين
فمن الحوادث فيها: مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم.
وفيها: صرف مروان عن المدينة في ذي القعدة. واستعمل الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
وقال غيره: بل كانت المدينة في هذه السنة إلى مروان، وإنما صرفه في سنة ثمان وخمسين، واستعمل حينئذٍ الوليد بن عتبة.
وفيها: حج بالناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان العامل على الكوفة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عثمان بن حنيف بن واهب بن عُكيم، أبو عبد اللّه: بعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على خراج السواد، ورزقه كل يوم ربع شاة وخمسة دراهم، وأمره أن يمسح السواد، فلم يزَل على ذلك.
ولما قتل عثمان بعثه علي بن أبي طالب والياً على البصرة فلم يزل بها حتى قدم عليه طلحة والزبير فقاتلهم ثم اصطلحوا وكتبوا بينهم كتاباً بالموادعة على أن دار الإمارة والمسجد وبيت المال إلى عثمان بن حنيف، وينزل طلحة والزبير وعائشة حيث شاءوا من البصرة.
وتوفي عثمان بن حنيف في خلافة معاوية
ثم دخلت
سنة ثمان وخمسين
فمن الحوادث فيها: غزو مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم.
وقتل يزيد بن شجرة في البحر في السفن.
وقيل: إن الذي شتى بأرض الروم في هذه السنة عمرو بن يزيد الجهني، والذي غزا في البحر جنادة بن أبي أمية وفيها ولى معاوية الكوفة عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، وعزل عنها الضحاك بن قيس.
وفي عمله في هذه السنة خرجت الطائفة التي حبسها المغيرة بن شعبة في السجن من الخوارج الذين كانوا بايعوا المستورد، فظفر بهم فاستودعهم السجن، فلما مات المغيرة خرجوا من السجن، فجمع حيان بن ظبيان أصحابه ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله عز وجل كتب علينا الجهاد، فمنّا من قضى نحبه ومنا من ينتظر، وأولئك هم الأبرار الفائزون بفعلهم، فمن كان منكم يريد الله وثوابه فليسلك سبيل أصحابه.
وقال معاذ بن جوين الطائي: يا أهل الإسلام، إنا والله لو علمنا أنا إذا تركنا جهاد الظلمة وإنكار الجور، كان لنا به عند الله عذر، لكان تركه أيسر علينا وأخف من ركوبه، ولكنا قد علمنا واستيقنا أنه لا عذر لنا.
ثم قال: ابسط يدك نبايعك، فبايعه وبايعه القوم، فضربوا على يد حيان فبايعوه وذلك في إمارة عبد الرحمن بن عبد الله، ثم إن القوم اجتمعوا في منزل معاذ بن جوين، فقال لهم حيان: عباد الله، أشيروا برأيكم، أين تأمروني أن أخرج؟ فقال له معاذ: إني أرى أن تسير بنا إلى حلوان فإنها كورة بين السهل والجبل، وبين المصر والثغر، فمن كان يرى رأينا من أهل المصر والثغر والجبال والسواد لحق بنا. فقال له حيان: عدوك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك، فلا يتروكم حتى يجتمع الناس إليكم، ولكن رأيت أن أخرج معكم في جانب الكوفة ثم نقاتلهم حتى نلحق بربنا، فإني والله، قد علمت أنكم لا تقدرون وأنتم دون المائة رجل أن تهزموا عدوكم، ولا أن تشتد نكايتكم فيهم، ولكن متى علم الله أنكم قد أجهدتم أنفسكم في جهاد عدوه وعدوكم كان لكم به العذر، وخرجتم من الإثم.


قالوا: رأينا رأيك، فقال لهم عديس بن عرقوب: اخرجوا بجانب من مصرهم هذا فقاتلوا، فقالوا: لن يخالفك، فمكثوا حتى إذا كان آخر سنة من سني ابن أم الحكم في أول يوم من ربيع الآخر اجتمعوا إلى حيان، فقال: يا قوم، والله الذي لا إله غيره ما سررت قط في الدنيا بعدما أسلمت سروري بخروجي هذا على الظلمة، إني قد رأيت أن نخرج حتى ننزل جانب دار جرير، فإذا خِرج إليكم الأحزاب ناجزتموهم، فقال عديس بن عرقوب: إذا قاتلتهم في جوف المصر قاتلنا الرجال وصعد النساء والصبيان والإماء، فرمونا بالحجارة، فقال رجل منهم: انزلوا بنا من وراء الجسر، فقال معاذ: لا بل سيروا بنا فلننزل بانقيا فما أسرع ما يأتيكم عدوكم، فإذا كان ذلك استقبلنا القوم وجعلنا البيوت في ظهورنا، فقاتلناهم من وجه واحد، فخرجوا فبعث إليهم جيش فقتلوا جميعاً.
وفي هذه السنة طرد أهل الكوفة عبد الرحمن بن أم الحكم وذلك أنه أساء السيرة فيهم، فطردوه، فلحق بمعاوية وهو خاله، فقال له: أوليك خيراً منها مصر، فولاه، فتوجه إليها، وبلغ معاوية بن حديج السكوني الخبر، فخرج إليه واستقبله على مرحلتين من مصر، فقال له: ارجع إلى خالك فلعمري لا تسير فينا سيرتك في إخواننا من أهل الكوفة. فرجع إلى معاوية، ثم أقبل معاوية بن حُديج وافداً، فدخل عليه وعنده أم الحكم، فقالت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا معاوية بن حديج، قالت: لا مرحباً به، " تسمع بالمُعَيدِي خير من أن تراه فقال: على رسلك يا أم الحكم، أما والله لقد تزوجت فما أكرمت وولدت فما أنجبت، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا من أهل الكوفة ما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل ذلك لضربناه ضرباً يطأطىء منه، فقال لها معاوية: كفى.
قصة ابن أم الحكم مع الأعرابي وجرت لعبد الرحمن ابن أم الحكم قصة عجيبة أخبرنا بها محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، وأخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: حدًثنا محمد بن خلف، قال: حدَّثني محمد بن عبد الرحمن القرشي، قال: حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا أبو مخنف، عن هشام بن عروة، قال: أذن معاوية بن أبي سفيان يوماً، فكان فيمن دخل عليه فتى من بني عذره، فلما أخذ الناس مجالسهم قام الفتى العذري بين السماطين ثم أنشأ يقول:
معاوي يا ذا الفضل والحكم والعقل ... وذا البر والإحسان والجود والبذل
أتيتك لما ضاق في الأرض مسلكي ... وأنكرت مما قد أصبت به عقلي
ففرج كلاك الله عني فإنني ... لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ لي هداك الله حقي من الذي ... رماني بسهم كان أهونه قتلي
وكنت أرجًي عدله إن أتيته ... فأكثر تردادي مع الحبس والكبل
فطلقتها من جهد ما قد أصابني ... فهذا أمير المؤمنين من العذل
فقال معاوية: اعن بارك الله عليك، ما خطبك؟ فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، إنني رجل من بني عذرة، تزوجت ابنة عم لي، وكانت لي صرمة من إبل وشويهات، فأنفقت ذلك عليها، فلما أصابتني نائبة الزمان وحادثات الدهر رغب عني أبوها، وكانت جارية فيها الحياء والكرم، فكرهت محالفة أبيها، فأتيت عاملك ابن أم الحكم فذكرت ذلك له، وبلغه جمالها، فأعطى أباها عشرة آلاف درهم وتزوجها وأخذني فحبسني وضيق علي، فلما أصابني مس الحديد وألم العذاب طلقتها، وقد أتيتك يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحروب وسند المسلوب، فهل من فرج، ثم بكى وقال في بكائه:
في القلب مني نار والنار فيها شرار ... والجسم مني نحيل واللون فيه اصفرار
والعين تبكي بشجو ودمعها مدرار ... والحب داء عسير فيه الطبيب يحار
حملت منه عظيماً فما عليه اصطبار ... فليس ليلي بليل ولا نهاري نهار
فرق له معاوية وكتب له إلى ابن أم الحكم كتاباً غليظاً، وكتب في آخره يقول:
ركبت أمراً عظيماً لست أعرفه ... أستغفر الله من جور امرىء زان
قد كنت تشبه صوفياً له كتب مِن ... الفرائض أو آثار فرقان


حتى أتاني الفتى العذري منتحباً ... يشكو إلي بحق غير بهتان
أعطى الإله عهوداً لا أجيش بها ... أو لا فبرئت من دين وإيمان
إن أنت راجعتني فيما كتبت به ... لأجعلنَك لحماً عند عقبان
طلق سعاد وفارقها بمجتمع ... واشهد على ذاك نصراً وابن ظبيان
فما سمعت كما بلغت من عجب ... ولافعالك حقاً فعل فتيان
فلما ورد كتاب معاوية على ابن أم الحكم تنفس الصعداء وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلى بيني وبينها سنة ثم عرضني على السيف، وجعل يؤامر نفسه في طلاقها فلا يقدر، فلما أزعجه الوفد طلقها، ثم قال: يا سعاد، اخرجي، فخرجت شكلة غنجة، ذات هيئة وجمال، فلما رآها الوفد قالوا: ما تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين لا لأعرابي، وكتب جواب كتابه يقول:
لا تحنثن أمير المؤمنين فقد ... أوفى بعهدك في رفق وإحسان
وما ركبت حراماً حيث أعجبني ... فكيف سميت باسم الخائن الزان
وسوف يأتيك شمس لا خفاء بها ... أبهى البرية من إنس ومن جان
حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت ... أقول ذلك في سر وإعلان
فلما ورد الكتاب على معاوية، قال: إن كانت أعطيت حسن النعمة على هذه الصفة فهي أكمل البرية، فاستنطقها فإذا هي أحسن الناس كلاماً وأكملهم شكلاً ودلاً، فقال: يا أعرابي فهل من سلو عنها بأفضل الرغبة، قال: نعم إذا فرقت بين رأسي وجسدي، ثم أنشأ يقول:
لا تجعلني والأمثال تضرب بي ... كالمستغيث من الرمضاء بالنار
أردد سعاد على حيران مكتئب ... يمسي ويصبح في هم وتذكار
قد شفه قلق ما مثله قلق ... وأسعر القلب منه أي إسعار
والله والله لا أنسى محبتها ... حتى أغيب في رمس وأحجار
كيف السلو وقد هام الفؤاد بها ... وأصبح القلب عنها غير صبار
قال: فغضب معاوية غضباً شديداً، ثم قال لها: اختاري إن شئت أنا، وإن شئت ابن أم الحكم، وإن شئت الأعرابي. فأنشأت سعاد وارتجزت تقول:
هذا وإن أصبح في الخمار ... وكان في نقص من اليسار
أكثر عندي من أبي وجاري ... وصاحب الدرهم والدينار
أخشى إذا غدرت حر النار
فقال معاوية: خذها لا بارك الله لك فيها فارتجز الأعرابي يقول:
خلوا عن الطريق للأعرابي ... ألم ترقوا ويحكم لما بي
قال: فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم. وناقة وطاء وأمر بها فأدخلت في بعض قصوره حتى انقضت عدتها من ابن أم الحكم، ثم أمر بدفعها إلى الأعرابي.
وفي هذه السنة اشتد عبيد الله بن زياد على الخوارج فقتل منهم صبراً جماعة كثيرة، وفي الحرب جماعة أخرى، وممن قتل منهم صبراً عروة بن أدوية.
وسبب ذلك أن ابن زياد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع الناس وفيهم عروة بن أدوية، فأقبل على ابنٍ زياد، فقال: خمس كن في الأمم قبلنا، فقد صرن فينا: " أتَبْنُونَ بِكُل رِيعٍ آيَة تَعْبَثُونَ وتتخذونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدونَ وَإذَا بَطَشْتُمْ بطشتم جبارِين " وذكر خصلتين نسيهما الراوي، فلما قال ذلك ظن ابن زياد أنه لم يجترىء على مثل ذلك إِلا ومعه جماعة من أصحابه، فقام فركب وترك رهانه، فقيل لعروة: ما صنعت، والله ليقتلنك. فتوارى، فطلبه ابن زياد فأتى الكوفة، فأخذ به ابن زياد فأمر به فقطعت يداه ورجلاه، ثم دعاه فقال: كيف ترى؟ قال: أرى أنك أفسدت دنياي وأفسدت آخرتك، فقتله، وأرسل إلى ابنيه فقتلهما.


وكان ابن زياد قد حبس مرداس بن أدية، وكان السجان يرى عبادته واجتهاده، فكان يأذن له في الليل فينصرف، فإذا طلع الفجر أتاه فدِخل السجن، فذكر ابن زياد الخوارج ليلة، فعزم على قتلهم إذا أصبح، فانطلق صديق لمرداس إلى منزله وأخبرهم، فأرسلوا إليه ليعهد، فسمع ذلك مرداس، وبلغ الخبر صاحب السجن فبات بليلة سوء إشفاقاً من أن يعلم مرداس الخبر فلا يرجع. فلما كان وقت رجوعه جاء، فقال له السجان: هل علمت ما عزم عليه الأمير؟ قال: نعم. فلما قُدمَ ليقتل، وثب. السجان - وكان ظئراً لعبيد الله - فأخذ بقدمه وقال: هبه لي، وقص عليه القصة، فوهبه له وأطلقه، فخرج مرداس في أربعين رجلاً إلى الأهواز فبعث ابن زياد إليهم جيشاً.
وفي هذه السنة توفي عميرة بن يثربي قاضي البصرة، فاستقضى مكانه هشام بن هبيرة.
وكان على الكوفة في هذه السنة عبد الرحمن بن أم الحكم.
وقال بعضهم: بل الضحاك بن قيس الفهري.
وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح.
وفيها: حج بالناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص، يكنى أبا عثمان، ويكنى أبا سعيد: جده أبو أحيحة، قتل أبوه العاص يوم بدر كافراً، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسعيد تسع سنين. وكان سعيد كريماً، استسقى يوماً من دار بالمدينة، ثم عرض صاحب الدار الدار للبيع، فقال: لم يبيعها؟ قالوا: عليه دين أربعة آلاف دينار، فقال: إن له لحرمة لسقيه إيانا. فركب إليه ومعه غريمه، فقال للغريم: هي لك علي، وقال لصاحب الدار: استمتع بدارك.
وكان الناس يتعشون عنده، وكان فيهم رجل من القراء افتقر، فقالت له زوجته: قد بلغنا عن أميرنا هذا كرم فاذكر له حالك فلعله أن ينيلنا شيئاً، فقال: ويحك، لا تخلقي وجهي، قالت: فاذكر له على كل حال. فتصرم الناس ليلة عنه، وثبت الرجل، فقال: سعيد: أظن جلوسك لحاجة، فسكت، فقال لغلمانه: تنحوا، ثم قال له: رحمك الله، إنما أنا وأنت فاذكر حاجتك، فسكت، فأطفأ السراج ثم قال: رحمك الله، لست ترى وجهي فاذكر حاجتك، فقال: أصلح الله الأمير، لقد أصابتنا حاجة فأحببت ذكرها لك، فقال: إذا أصبحت فالق فلاناً وكيلي. فلما أصبح الرجل لقي الوكيل، فقال له: إن الأمير قد أمر لك بشيء فائت بمن يحمله معك، فقال: ما عندي من يحمل، ثم انصرف إلى زوجته فأخبرها الخبر وجعل يلومها ويقول: ما أظنه أمر لي إلا بقوصرة تمر وقفيز بز وذهب ماء وجهي، لو كانت دراهم أعطانيها، فقالت له امرأته: يا هذا، قد بلغ بنا الأمر ما ترى فمهما أعطاك فإنه يقوتنا، فأتى الوكيل، فقال: أين تكون؟ أخبرت الأمير أنه ليس عندك من يحمل فأمرني أن أوجه معك من يحمل معك ما أمر به، ثم أخرج إليه ثلاثة من السودان على رأس كل واحد منهم بدرة دراهم وقال: امضوا معه، فلما بلغ الرجل باب منزله فتح بدرة منها فأخرج دراهم ودفعها إلى السودان وقال: انصرفوا، قالوا: إلى أين، نحن عبيدك، إنه ما حمل مملوك للأمير قط هدية إلى أحد فرجع المملوك إلى ملكه. قال: فصلحت حال الرجل.
ولما احتضر سعيد قال لبنيه: لا يفقدن مني إخواني غير وجهي، فاصنعوا لهم ما كنت أصنع، واجروا عليهم ما كنت أجري، فاكفوهم مؤونة الطلب، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه وارتعدت فرائصه مخافة أن يرد، فوالله لرجل يتململ على فراشه يراكم موضعاً لحاجة أعظم عليكم منةً منكم عليه بما تعطونه.
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب البارع، أخبرنا أبو جعفر بن مسلمة، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قال: حدثنا أحمد بن سليمان بن داود، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني رجل، عن عبد العزيز بن أبان، قال: حدثني خالد بن سعيد، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرد فقالت: إني نويت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب، فقال: " أعطيه هذا الغلام " : يعني سعيد بن العاص، وهو واقف.


ومات سعيد بن العاص في قصره بالعرصة على ثلاثة أميال من المدينة، ودفن بالبقيع، وأوصى إلى ابنه عمرو الأشدق وأمره أن يدفنه بالبقيع، وقال: إن قليلاً لي عند قومي في بري بهم أن يحملوني على رقابهم من العرصة إلى البقيع، ففعلوا، وأمر ابنه عَمْراً إِذا دفنه أن يركب إِلى معاوية فينعاه ويبيعه منزله بالعرصة، وكان منزلاً قد أنحله سعيداً، وغرس فيه النخل وزرع وبنى فيه قصراً معجباً، وقال لابنه: إن منزلي هذا ليس في العقد، إنما هو منزل برة، فبعه من معاوية واقض عني ديني ومواعيدي، ولا تقبل من معاوية قضاء ديني فتزودنيه إلى ربي.
فلما دفنه عمرو ووقف الناس بالبقيع فعزوه، ثم ركب رواحله إلى معاوية، فقدم عليه فنعاه له، فاسترجع وتوجع لموته، ثم قال: هل ترك من دين؟ قال: نعم، قال: فكم. قال: ثلاثمائة ألف درهم، قال: هي علي، قال: قد أبى ذلك وأمرني أن أقضي عنه من أمواله، أبيع ما استباع منها، قال: فاعرضني ما شئت، قال: أنفسها وأحبها إلينا وإليه في حياته، منزله في العرصة، فقال له معاوية: هيهات لا تبيعون هذا المنزل، انظر غيره، قال: فما نصنع، نحب تعجيل قضاء دينه، قال: قد أخذته بثلاثمائة ألف درهم، قال: اجعلها بالواقية - يريدون درهم فارس، الدرهم زنة مثقال الذهب - قال: قد فعلت، قال: فاحملها إلى المدينة، قال: قد فعلت، فحملها له، فقدم عمرو بن سعيد فجعلها في ديونه وحاسبهم بما بين الدراهم الواقية - وهي البعلية - وبين الدراهم الجوار - وهي تنقص في العشرة ثلاثة، كل سبعة بالبعلية عشرة بالجوار - حتى أتاه فتى من قريش فذكر حقاً له في كراع أديم بعشرين ألف درهم على سعيد بن العاص بخط مولى لسعيد كان يقوم لسعيد على بعض نفقاته، وشهادة سعيد على نفسه بخط سعيد، فعرف خط المولى وخط أبيه وأنكر أن يكون للفتى - وهو صعلوك من قريش - هذا المال، فأرسل إلى مولى أبيه الصك فلما قرأه المولى بكى ثم قال: نعم أعرف هذا الصك، وهو حق، دعاني مولاي فقال لي وهذا الفتى عنده على بابه، معه هذه القطعة الأديم: اكتب، فكتبت بإملائه هذا الحق، فقال عمرو للفتى: وما سبب مالك هذا؟ قال: رأيته يمشي وحده فقمت مشيت حتى بلغ باب منزله، ثم وقفت، فقال: هل من حاجة؟ فقلت: لا، إلا أني رأيتك تمشي وحدك فأحببت أن أصل جناحك، فقال: وصلتك رحم يا ابن أخي، ابغني قطعة أديم، فأتيت خرازاً عند باب داره فأخذت منه هذه القطعة، فدعا مولاه هذا فقال: اكتب، فكتب عن أبيك هذا الكتاب وكتب فيه شهادته على نفسه ثم دفعه إلي وقال: يا ابن أخي، ليس عندنا اليوم شيء، فخذ هذا الكتاب فإذا أتانا شيء فاتنا به إن شاء الله، فمات رحمه الله قبل أن يأتيه شيء. قال عمرو: لا جرم، لا تأخذها إِلا وافية، فدفعها إليه.
وروى الزبير من طريق آخر: أن معاوية اشترى العرصة بألف ألف درهم، وكان دين سعيد ثلاثة آلاف درهم، فاشترى معاوية العرصة من ابن سعيد بألف ألف، والنخل بألف ألف، والمزارع بألف ألف.
وتوفي سعيد في هذه السنة، وكان عمرو بن سعيد يدعي أن مروان بن الحكم جعل إليه ولاية العهد بعد عبد الملك، ثم نقض ذلك وجعله إلى عبد العزيز، فلما خرج عبد الملك إلى حرب مصعب غلق عمرو أبواب دمشق فأعطاه عبد الملك الأمان ثم غدر به فقتله.
شداد بن أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام، أبو يعلى: وهو ابن أخي حسان بن ثابت. كانت له عبادة واجتهاد. أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا فرح بن فضالة، عن أسد بن وداعة، قال: كان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كان كأنه حبة على مقلى، فيقول: اللهم إن النار أسهرتني، ثم يقوم إلى الصلاة.
تحول شداد إلى فلسطين فنزل ومات بها في هذه السنة وهو ابن خمس وسبعين سنة.
عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، يكنى أبا عبد الله:


أمه أم رومان بنت عامر، وهو أخو عائشة لأبويها وكان أسن أولاد أبي بكر، لم يزل على دين قومه وشهد بدراً مع المشركين ودعا إلى المبارزة فقام أبو بكر الصديق ليبارزه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " متعنا بنفسك " ، ثم أسلم عبد الرحمن في هدنة الحديبية، وهو الذي قال لمروان لما دعى إلى بيعة يزيد: إنما يريدون أن يجعلوها كسروية أو هرقلية، فقال مروان: أيها الناس، هذا " الذي قَالَ لِوَالِديْه أف لكما أتَعِدَانِني أنْ أخْرج " فصاحت به عائشة: ألعبد الرحمن يقول هذا، كذبت والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الرجل الذي أنزل فيه لسميته، ولكني أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه.
وهاجر إلى المدينة، وأطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر أربعين وسقاً، وروى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان عبد الرحمن يتجر في الجاهلية إلى الشام بماله ومال قريش فرأى ليلى بنت الجودي فهويها، فلما فتح خالد الشام زمن عمر صارت إليه فازداد بها شغفاً.
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب البارع، قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قال: أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود، قال: أخبرنا الزبير بن بكار، قال: حدثني محمد بن الضحاك الحراني، عن أبيه: أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قدم الشام في تجارة، فرأى هناك امرأة يقال لها ابنة الجودي على طنفسة لها ولائد، فأعجبته فقال لها:
أتذكر ليلى والسماوة دونها ... وما لابنة الجودي ليلى وماليا
وأنى تعاطى قلبه حارثية ... تؤمن بصرى أو يحل الجوا بيا
وأني بلاقيها بلى ولعلها ... إن الناس حجوا قابلاً إن تلاقيا
فلما بعث عمر بن الخطاب جيشه إلى الشام قال لصاحب الجيش: إن ظفرت بليلى بنت الجودي عنوة فادفعها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فظفر بها فدفعها إلى عبد الرحمن فأعجب بها وآثرها على نسائه حتى شكونه إِلى عائشة، فعاتبته على ذلك، فقال: والله كأني أرشف بأنيابها حب الرمان، فأصابها وجع سقط له فوها فجفاها حتى شكته إلى عائشة، فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن، لقد أحببت ليلى فأفرطت وأبغضتها فأفرطت، فإما أن تنصفها وإما أن تجهزها إلى أهلها.
قال الزبير: وحدثني عبد الله بن نافع، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب نفل عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي حين فتح دمشق، وكانت ابنة ملك دمشق.
ومما يروى لعبد الرحمن في ليلى بنت الجودي هذا:
يا ابنة الجودي قلبي كئيب ... مستهام عندها ما يؤوب
جاورت أخوالها حي عك ... فلعلك من فؤادي نصيب
ولقد لاموا فقلت ذروني ... إن من يلحون فيها الحبيب
غصن بان ماخلا الخصر منها ... ثم ما أسفل ذاك كئيب
قالت عائشة: كنت أعاتبه في كثرة محبته لها ثم صرت أعاتبه في إساءته إليها حتى ردها إلى أهلها.
قال محمد بن سعد: أخبرنا وكيع، عن عبد الرحمن بن لاحق، عن ابن أبي مليكة، قال: مات عبد الرحمن بالحبشي فحمل حتى دفن بمكة، فقدمت عائشة من المدينة فأتت قبره فوقفت عليه فتمثلت بهذين البيتين:
وكنا كَندَماني جَذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ثم قالت: أما والله لو شهدتك ما زرت قبرك، ولو شهدتك ما حملت من حبشي ميتاً ولدفنت مكانك.
قال ابن سعد: وأخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن عبد الله، بن أبي مليكة: أن عبد الرحمن بن أبي بكر توفي في منزل له فحملناه على رقابنا ستة أميال إلى مكة، وعائشة غائبة، فقدمت بعد ذلك فقالت: أروني قبر أخي، فصلت عليه.
قال ابن سعد: وأخبرنا معن بن عيسى، حدثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، قال: توفي عبد الرحمن في نومة نامها فأعيت عنه عائشة زماناً. الحبشي موضع.
وفي هذه السنة توفي عبد الرحمن على ما ذكره البخاري.
وقال ابن سعد: سنة ثلاث وخمسين.
عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، أبو محمد الهاشمي:


أمه أم الفضل، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام أصغر سناً من عبد الله بسنة، وكان سخياً جواداً، كثير الإطعام للناس أنبأنا الحسين بن محمد البارع، قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قال: وأخبرنا أحمد بن سليمان بن داود، قال: أخبرنا الزبير بن بكار، قال: حدَّثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي، عن أبيه، قال: دخل أعرابي دار العباس بن عبد المطلب وفي جانبها عبد الله بن عباس يفتي، لا يرجع في شيء يسأل عنه، وفي الجانب الآخر عبيد الله بن العباس يطعم كل من دخل، فقال الأعرابي: من أراد الدنيا والآخرة فعليه بدار العباس، هذا الفتى يفتي ويفقه الناس، وهذا يطعم الطعام.
استعمل علي بن أبي طالب عبيد الله على اليمن، وأمره بالحج فحج بالناس سنة ست وثلاثين، ومات بالمدينة في هذه السنة.
وقيل: بل مات باليمن.
عميرِة بن يثربي: قاضي الكوفة. توفي فيِ هذه السنة.
عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي اللّه عنها وعن أبيها: كانت مسماة لجبير بن مطعم، فلما خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم استلها أبو بكر منهم فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة عشر من النبوة، وهي بنت ست سنين، ودخل بها بالمدينة وهي بنت تسع قالت: وكنت ألعب مع الجواري، فما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجني حتى أخذتني أمي فحبستني في البيت عن الخروج، فوقع في نفسي أني تزوجت، فما سألتها حتى كانت هي التي أخبرتني. ورأت عائشة جبريل عليه السلام في صورة دحية، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل يقرأ عليك السلام.
أخبرنا عبد الملك الكروخي، قال: أخبرنا أبو عامر الأزدي وأبو بكر العوزجي، قالا: أخبرنا الجراحي، قال: أخبرنا المحبوبي، قال: حدثنا الترمذي، قال: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا زياد بن الربيع، قال: حدثنا خالد بن سلمة المخزومي عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا الحسن بن غيلان الورق، قال: حدثنا جعفر الفريابي، قال: حدثنا منجاب بن الحارث، قال: حدَّثنا علي بن مسهر، قال: حدثنا هشام عروة، عن أبيه، قال: ما رأيت أحداً من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال ولا بحرام ولا بشعر ولا بحديث العرب ولا بنسيب من عائشة رضي الله عنها.
توفيت عائشة ليلة سبع عشرة من رمضان هذه السنة، وأوصت إلى عبد الله بن الزبير، وصلَى عليها أبو هريرة بعد الوتر، ودفنت بالبقيع وهىِ بنت ست وستين سنة، ولم يكن بالبقيع قبر مطابق بالحجارة غير قبر الحسن بن علي وقبرها.
ثم دخلت
سنة تسع وخمسين
فمن الحوادث فيها: مشتى عمرو بن مرة الجهني بأرض الروم.
قال الواقدي: ولم يكن عامئذ غزو في البحر.
وقال غيره: غزا في البحر جنادة بن أمية.
وفيها عزل معاوية عبد الرحمن ابن أم الحكم عن الكوفة وولى عبد الرحمن بن زياد بن سمية خراسان وذلك أن عبد الرحمن قدم وافداً على معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، أما لنا حق؟ قال: بلى، قال: فماذا توليني؟ قال معاوية: النعمان بن بشير بالكوفة، وهو رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبيد الله بن زياد على البصرة وخراسان، وعباد بن زياد على سجستان، ولست أرى عملاً يشبهك إلا أن أشركك في عمل أخيك عبيد الله بن زياد، قال: أشركني فإن عمله واسع يحتمل الشركة، فولاه خراسان.
روى أبو حفص الأزدي، قال: حدثني عمي، قال: قدم علينا قيس بن الهثيم السلمي، وقد وجهه عبد الرحمن بن زياد، فأخذ أسلم بن زرعة الكلابي فحبسه، ثم قدم عبد الرحمن، فأغرم أسلم بن زرعة ثلاثمائة ألف درهم.


قال علماء السير: أقام عبد الرحمن بخراسان سنتين، ثم قدم على يزيد بن معاوية بعد قتل الحسين، واستخلف على خراسان قيس بن الهثيم. فقال يزيد لعبد الرحمن: كم قدمت به معك من المال؟ قال: عشرون ألف ألف درهم، قال: إن شئت حاسبناك وقبضناها منك، ورددناك على عملك، وإن شئت سوغناك وعزلناك، وتعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم، قال: بل تسوغني ما قلت، وتستعمل عليها غيري. ثم بعث إلى ابن جعفر ألف ألف درهم، وقال: خمسمائة ألف من قبل أمير المؤمنين، وخمسمائة ألف درهم من قبلي.
وفي هذه السنة وفد عبيد اللّه بن زياد على معاوية في أشراف أهل البصرة فعزله عنها ثم رده عليها وجدد له الولاية وسبب ذلك أن عبيد الله بن زياد وفد في أهل العراق على معاوية، فقال له: ائذن لوفدك على منازلهم وشرفهم، فأذن لهم، ودخل الأحنف في آخرهم، وكان سيىء المنزلة من عبيد الله، فلما نظر معاوية رحب به وأجلسه معه على سريره، ثم تكلم القوم فأحسنوا الثناء على عبيد الله، والأحنف ساكت، فقال: ما لك يا أبا بحر لا تتكلم؟ قال: إن تكلمت خالفت القوم، فقال: انهضوا فقد عزلته عنكم فاطلبوا والياً ترضونه، ثم بعث إليهم معاوية بعد أيام، فقال: من اخترتم؟ فاختلفت كلمتهم وسمى كل فريق منهم رجلاً والأحنف ساكت، فقال له معاوية: ما لك لا تتكلم؟ قال: إن وليت علينا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحداً، وإن وليت علينا من غيرهم فانظر في ذلك، فقال معاوية: فإني قد أعدته عليكم، ثم وصاه بالأحنف وقبح رأيه في مباعدته. فلما هاجت الفتنة لم يف لعبيد الله غير الأحنف.
وفي هذه السنة حج بالناس عثمان بن محمد بن أبي سفيان وكان الوالي على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد وعلى سجستان عباد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور الحارثي من قبل عبيد الله بن زياد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أسامة بن زيد، أبومحمد الحب ابن الحب: أمه أم أيمن واسمها بركة، حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حباً شديداً وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسامة ابن عشرين سنة.
أخبرنا ابن أبي طاهر، قال: أنبأنا أبو إسحاق البرمكي، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: أخبرنا ابن سعد، قال: أخبرنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا شريك بن العباس بن فريح، عن عائشة، قالت.
عثر أسامة على عتبة الباب فشجت جبهته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيا عائشة أميطي عنه الدم " . فاستقذرته عائشة. قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمص شجته ويمجه ويقول: " لو كان أسامة جارية لكسوته وحليته حتى أنفقه " .
قال ابن سعد: وأخبرنا يزيد بن هارون، قال أخبرنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الإفاضة من عرفة من أجل أسامة بن زيد ينتظره، فجاء غلام أفطس أسود، فقال أهل اليمن: إنما حبسنا من أجل هذا.
قال ابن سعد: أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: حدثنا العُمري، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيهم أبو بكر وعمر، فاستعمل عليهم أسامة بن زيد، فكأن الناس طعنوا فيه - أي في صغره - فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: " إن الناس قد طعنوا في إمارة أسامة بن زيد، وقد كانوا طعنوا في إمارة أبيه من قبله، وإنهما لخليقان لها، أو كانا خليقين لذلك، فإنه لمن أحب الناس إلي، وكان أبوه من أحب الناس إلي إلا فاطمة، فأوصيكم بأسامة خيراً " .
قال ابن سعد: وأخبرنا مسلمة بن إبراهيم، قال: أخبرنا قرة بن خالد ، قال: حدثنا محمد بن سيرين، قال: بلغت النخلة على عهد عثمان بن عفان ألف درهم، قال: فعمد أسامة إلى نخلة فنقرها وأخرج جمارها فأطعمها أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ قال: إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيثاً أقدر عليه إلا أعطيتها.
سكن أسامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وادي القرى، ثم نزل المدينة فمات بالجرف، فحمل إلى المدينة.
جرول بن مالك بن جؤية بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس:


وهو الحطيئة، لقب بذلك لقصره وقربه من الأرض، ويكنى أبا مليكة. وهو جاهلي إسلامي، والظاهر أنه أسلم بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا ذكر له في الصحابة ولا في الوفود.
وكان خبيث اللسان كثير الهجاء، هجا أباه وأمه وعمه وخاله ونفسه، فقال لأمه:
تنحي فاقعدي مني بعيداً ... أراح الله منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سراً ... وكانوناً لدى المتحدثينا
جزاك الله شراً من عجوز ... ولقاك العقوق من البنينا
وقال لأبيه وعمه وخاله:
لحاك الله ثم لحاك حقاً ... أباً ولحاك من عم وخال
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
وقال لنفسه:
أبت شفتاي اليوم ألا تكلما ... بشر فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً شوه الله خلقه ... فقبح من وجه وقُبَح حامله
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الردة الزبرقان، فساق صدقات عوف والأبناء، فلما كان ببعض الطريق رأى الحطيئة - وكان الحطيئة أسود اللسان وداخل الفم وملتقي الشفتين - وهو يتبختر في هدم له، أشعث أغبر، وقد كان بين الزبرقان وبين بني قريع مقارضة ومهاجاة، فأراد أن يستظهر بالحطيئة عليهم، فقال له: ويلك إنك بمضيعة وأراك شاعراً، فهل لك إلى خير مواساة؟ قال: وددت، قال: فالحق ببني سعد حتى آتيك فإنما أؤدي هذه الصدقة إلى أبي بكر ثم ألحق بك، قال: عمن أسأل؟ قال: أم مطلع الشمس ثم سل عن الزبرقان بن بدر ثم ائت أم سدرة فقل لها: يقول لك بعلك الزبرقان بن بدر أحسني إلى قومك، فإنها ستفعل.
ففعل الحطيئة ذلك، فلما رأته بنو قريع قالوا: داهية، وإنما يريد أن يستظهر به علينا، فأتاه نقيض بن شماس فقال: يا أبا مليكة جئت من بلادك ولا أرى في يدك شيئاً، هل لك إلى خصلة هي خير لك مما أنت فيه، قال: ما هي؟ قال: مائة بعير وتتحول إلينا ونحن ضامنون لأهلك من عيالك أن يدبروا من حالك أن تخلفه، فتحول إليهم فقدم الزبرقان، فقال: أين جاري؟ قالت امرأته: خبث عليك، ثم أخذ يهجو الزبرقان بن بدر، فقال في أبيات:
دع المكارم لا ترحلْ لبغيتها ... واقعد فانك أنت الطاعم الكاسي
فاستعدى عليه عمر فقال له: ما أراه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعماً كاسياً؟ قال: كيف تراني كيساً مكيسا أبيت بعد نافع مخيسا.
قال: إنه لا يكون في الهجاء أشد من هذا، فبعث عمر إلى حسان بن ثابت فسأله فقال: ما هجاه ولكن سلح عليه فحبسه في قعر بئر ولم تكن السجون مبنية، وأول من بناها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بنى بالكوفة سجناً سماه مَخِيساً، فقال عمر للحطيئة: يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين فقال:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فارفق عليك سلام الله يا عمر
الأبيات.
فرق له عمر رضي الله عنه وأطلقه وأخذ عليه أن لا يهجو مسلماً.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أبو بكر بن الإنباري، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي، وأبو عمران موسى بن محمد الخياط، قالا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان الحزامي، عن عبد الله بن مصعب، عن جدي، عن ربيعة بن عثمان، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: أمر عمر بن الخطاب بإخراج الحطيئة من الحبس وقد كلمه فيه عمرو بن العاص، وغيره، فأخرج وأنا حاضر فأنشأ يقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
غادرت كاسبهم في قعر مظلمة ... فارحم هداك مليك الناس يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقى إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
فامنن على صبية بالرمل مسكنهم ... بين الأباطح يغشاهم بها القدر
نفسي فداؤك كم بيني وبينهمُ ... من عرض داوية تعمى بها الخبر


قال: فلما قال الحطيئة: ماذا تقول لأفراخ، بكى عمر فقال عمرو بن العاص: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركة الحطيئة. قال عمر: أشيروا علي في الشاعر فإنه يقول الهجو ويشبب بالحرم ويمدح الناس ويذمهم بما ليس فيهم، ما أراني إلا قاطعا لسانه علي بكرسي، فجلس عليه ثم قال: علي بالمخصف علي بالسكين لا بل علي بالموسى فإنه أوجى، فقالوا: لا يعود يا أمير المؤمنين، وأشاروا إليه قل لا أعود، فقال: لا أعود، فقال: النجا، فلما ولّى قال: ارجع يا حطيئة، فرجع، فقال له: كأني بك عند شاب من قريش قد كسر لك نمرقة وبسط لك أخرى، وقال: يا حطيئة غننا، فاندفعت تغنيه بأعراض الناس، قال أسلم: فرأيت الحطيئة بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر قد كسر له نمرقة وبسط له أخرى وقال: يا حطيئة غننا، فاندفع يغنيه، فقلت له: يا حطيئة أتذكر يوم عمر حين قال لك ما قال، ففزع وقال: رحم الله ذلك المرء لو كان حياً ما فعلنا هذا، فقلت لعبيد الله: إني سمعت أباك يقول كذا وكذا، وكنت أنت ذلك الرجل.
وبالإسناد عن محمد بن الضحاك، عن أبيه قال: أمر عمر بن الخطاب بإخراج الحطيئة من السجن فأخرج، فقال له: دع قول الشعر. فقال لا أستطيع. قال: لِمَ؟ قال هو مأكلة عيالي، ونملة على لساني. قال: فدع المدحة المجحفة. قال وما المدحة المجحفة؟ قال: لا تقول بنو فلان أفضل من بني فلان، امدح ولا تفضل. قال: أنت أشعر مني يا أمير المؤمنين. قال ابن الأنباري: ضرب النملة مثلا لما يتردد من قول الشعر في قلبه، وبطالب به لسانه.
ومن مدائحه قوله:
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكمُ ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
ولما احتضر الحطيئة قيل له: أوص. فقال المال للذكران دون الإناث. فقيل له: أوص. فقال أوصيكم بالشعر، ثم قال:
الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعمله
زلت به إلى الحضيض قدمه ... والشعر لا يسطيعه من يظلمه
أراد أن يعربه فيعجمه عبد اللّه بن عامر بن كريز بن ربيع بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف: أمه دجاجة بنت أسماء بن أصلت بن حبيب وله أحد عشر ذكراً وأربع نسوة ولد بمكة بعد الهجرة بأربع سنين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء حُمل إليه وهو ابن ثلاث سنين فحنكه، فتلمظ فتثاءب، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيه.
وكان ابن خال عثمان بن عفان، ولم يزل شريف القدر، كريماً سخياً، فلما ولي عثمان الخلافة ولاه البصرة بعد أن أقر أبا موسى أربع سنين كما، وصى عمر، ثم عزله وولاه، وكان يوم ولاه ابن خمس وعشرين سنة فقال أبو موسى: قد أتاكم فتى من قريش، كريم الأمهات والعمات والخالات، يقول بالمال فيكم هكذا وهكذا.
ففتح بلاداً كثيرة من خراسان، وقتل يزدجرد في ولايته، فأحرم من نيسابور شكراً لله تعالى، وعمل السقايات بعرفة، فلما قتل عثمان لحق بالشام، فولاه معاوية البصرة ثلاث سنين، وزوجه ابنته هنداً.
أنبأنا الحسين محمد البارع قال: أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي بن عبد الله، عن بعض القرشيين قال: كانت هند بنت معاوية أبر شيء بعبد الله بن عامر، وأنها جاءته يوماً بالمرآة والمشط - وكانت تتولى خدمته بنفسها - فنظر في المرآة، فالتقى وجهه ووجهها في المرآة، فرأى شبابها وجمالها، ورأى الشيب في لحيته قد ألحقه بالشيوخ، فرفع رأسه إليها، فقال: الحقي بأبيك. فانطلقت حتى في خلت على أبيها فأخبرته، فقال: وهل تطلق الحرة. قالت: ما أوتي من قبلي، وأخبرته خبرها، فأرسل إليه فقال: أكرمتك بابنتي ثم رددتها علي. قال: إني أخبرك عن ذلك، إن الله تبارك وتعالى مَنً علي بفضله، وجعلني كريماً لا أحب أن يتفضل علي أحد، وإن ابنتك أعجزتني مكافأتها لحُسن صحبتها، فنظرت فإذا أنا شيخ وهي شابة، لا أزيدها مالاً إلى مالها، ولا شرفاً إلى شرفها، فرأيت أن أردها إليك، فتزوجها فتى من فتيانك كأن وجهه ورقة مصحف.


أخبرنا محمد بن أبي منصور قال: أخبرنا الحسين بن أحمد بن محمد الثعالبي قال: أخبرنا أبو سهل محمود بن عمر العكبري قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن الفرج بن أبي روح قال: أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد القرشي قال: حدثني محمد بن عباد بن موسى العكلي قال: حدثنا الحسن بن علي بن زبان قال: حدَّثني سفيان بن عبدة الحميري وعبيد بن يحيى الهجري قالا: خرج إلى عبد الله بن عامر بن كرز وهو عامل العراق لعثمان بن عفان رجلان من أهل المدينة، أحدهما: ابن جابر بن عبد الله الأنصاري، والآخر: من ثقيف، فكتب إلى ابن عامر فيما يكتب من الأخبار، فأقبلا يسيران حتى إذا كانا بناحية البصرة قال الأنصاري للثقفي: هل لك في رأي رأيته: قال: اعرضه. قال: رأيت أن أنخ رواحلنا ونتناول مطاهرنا، فنمس ماء، ثم نصلي ركعتين ونحمد الله على ما قضى من سفرنا. قال: هذا الذي لا يُرد، فتوضيا، ثم صليا ركعتين، فالتفت الأنصاري إلى الثقفي فقال: يا أخا ثقيف، ما رأيك. قال: وأي موضع رأي هذا، قضيت سفري، وأنضيت بدني، وأنضيت راحلتي ولا مؤمل دون ابن عامر، فهل لك رأي غير هذا؟ قال: نعم، إني لما صليت هاتين الركعتين فكرت فاستحييت من ربي تبارك وتعالى أن يراني طالباً رزقاً من غيره، اللهم ارزق ابن عامر وارزقني من فضلك. ثم ولى راجعاً إلى المدينة، ودخل الثقفي البصرة، فمكث أياماً، فأذن له ابن عامر، فلما رآه رحب به، ثم قال: ألم أخْبَر أن ابن جابر خرج معك؟ فخبره خبره، فبكى ابن عامر ثم قال: أما والله ما قال أشراً ولا بطراً، ولكن رأى مجرى الرزق ومخرج النعمة، فعلم أن الله تعالى هو الذي فعل ذلك، فسأله من فضله، وأمر للثقفي بأربعة آلاف درهم وكسوة ومطرف، وأضعف ذلك كله الأنصاري، فخرج الثقفي وهو يقول:
أميمة ما حرص الحريص بزائد ... فتيلاً ولا زهد الضعيف بضائر
خرجنا جميعاً من مساقط رأسنا ... على ثقة منا بخير ابن عامر
ولما أنخنا الناعجات ببابه تأخر ... عني اليثربيً ابن جابر
وقال سيكفيني عطية قادر ... على ما يشاء اليوم بالخلق قاهر
وإن الذي أعطى العراق ابن عامر ... لربي الذي أرجو لسد مفاقري
فلما سرى سارت عليه صبابةٌ ... إليه كما حنت ظراب الأباعر
وأضعف عبد الله إذ غاب حظه ... على حظ لهفان من الحرص فاغر
فأبت وقد أيقنت أن ليس نافعي ولا ضائري شيء خلاف المقادر قال المصنف: قرأت على أبي القاسم الجريري، عن أبي طالب العشاري قال: أخبرنا أبو بكر البرقاني قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي قال: أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي قال: حدثنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا سيار قال: حدثنا جعفر قال: حدثنا أبو عمران الجوني، عن نافع الطاحي قال:
مررت بأبي ذر فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل العراق. قال: أتعرف عبد الله بن عامر؟ قلت: نعم. قال: فإنه كان يقرأ معي ويلزمني، ثم طلب الإمارة، فإذا قدمت البصرة فتراء له، فإنه سيقول: لك حاجة؟ فقل: أخلني وقل له: أنا رسول أبي ذر إليك، وهو يقرئك السلام ويقول لك: إنا نأكل من التمر، ونشرب من الماء، ونعيش كما تعيش. فلما قدمت تراءيت له، فقال: لك حاجة؟ قلت: أخلني أصلحك الله. ففعل، فقلت: أنا رسول أبي ذر إليك - فلما قلتها خشع قلبه - وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إنا نأكل من التمر، ونروى من الماء، ونعيش كما تعيش. قال: فحلّ إزاره ثم أدخل رأسه في جيبه ثم بكى حتى ملأ جيبه بالبكاء.
توفي ابن عامر في هذه السنة، فقال معاوية: بِمَنْ نفاخر؟! بمن نباهي!؟ عبد اللهّ، أبو هريرة: وقد اختلفوا في اسمه ونسبه على ثمانية عشر قولاً قد ذكرتها في " التلقيح " . وكان في صغره يلعب بهرّة فكني بها قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر فأسلم.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال: أخبرنا محمد بن سعد قال: أخبرنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال: حدَّثنا عكرمة بن عمار قال: حدثني أبو كثير العبدي، عن أبي هريرة: أنه قال:


والله لا يسمع بي مؤمن ولا مؤمنة إلا أحبني. قال: قلت له: وما يعلمك ذلك؟ قال: فقال لي: إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها ذات يوم إلى الإسلام فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكرهتني، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي. فقلت: يا رسول الله، إني أدعو أم أبي هريرة إلى الإسلام فتأبى علي، وأني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة إلى الإسلام. ففعل، فجئت فإذا الباب مًجَاف، وسمعت خضْخَضة الماء، فلبست درعها، وعجلت عن خمارها، ثمٍ قالت: ادخل يا أبا هريرة فدخلت فقالت: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. فجئت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن. فقلت: أبشر يا رسول الله، فقد أجاب الله دعوتك، قد هدى الله أم أبي هريرة إلى الإسلام، ثم قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني وأمي إلى المؤمنين والمؤمنات اللهم حبب عُبَيدك هذا وأمه إلى كل مؤمن ومؤمنة، - أو إلى كل مؤمنة ومؤمن - فليس يسمع بي مؤمن ولا مؤمنة إلا أحبني.
قال محمد بن سعد: وأخبرني المعلى بن راشد قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن خالد، عن عكرمة: أن أبا هريرة كان يسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، يقول: أسبح بقدر ذنبي.
قال: وأخبرنا عارم بن الفضل قال: حدًثنا حماد بن زيد، عن العباس الجريري قال: سمعت أبا عثمان النهدي قال: تضيف أبا هريرة سبعاً، فكانوا يعتقبون الليل أثلاثاً ثلثاً هو، وثلثاً امرأته، وثلثاً خادمه.
قال ابن سعد: وأخبرنا سعيد بن منصور قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا عبد الوهاب بن ورد، عن سلم بن بشير بن حجل قال: بكى أبو هريرة في مرضه، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ قال: أما إني ما أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي لبعد سفري، وقلة زادي، وإني أصبحت في صعود مهبطه على جنة ونار، فلا أدري أيهما يُسْلك بي.
قال: وقال محمد بن عمر: كان أبو هريرة ينزل ذا الحليفة وله دار بالمدينة تصدق بها على مواليه، فباعوها بعد ذلك من عمر بن بزيع، وتوفي سنة تسع وخمسين في آخر خلافة معاوية وكان له يومئذٍ ثمان وسبعون سنة، وهو صلّى على عائشة وأم سلمة.
عبد الله بن بحينة، وبحينة أمه. وأبوه مالك بن القشب، ويكنى أبا محمد: صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً، وكان ناسكاً فاضلاً، يصوم الدهر، وتوفي في خلافة معاوية.
قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة، أبو عبيد اللّه: دفعه أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخدمه، فكان قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جواداً شجاعاً، وحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، وولاه علي بن أبي طالب على إمارة مصر، وحضر معه حرب الخوارج بالنهروان، ووقعة صفين، وكان مع الحسن بن علي على مقدمته بالمدائن، ثم لما صالح الحسن معاوية وبايعه دخل قيس في المصالحة، وتابع الجماعة ورجع إلى المدينة فتوفي بها.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال: حدثنا عثمان بن أحمد قال: حدَّثنا حنبل بن إسحاق قال: حدثنا الحميدمي قال: حدَّثنا سفيان، عن عمرو قال: كان قيس بن سعد رجلاً ضخماً جسيماً صغير الرأس، وكان إذا ركب الحمار حطت رجلاه في الأرض.


أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا أبو طالب محمد بن غيلان قال: أخبرنا أبو بكر الشافعي قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال: أخبرني محمد بن صالح، عن ابن عمر قال: حدثنا داود بن قيس وإبراهيم بن محمد الأنصاري وخارجة بن الحارث قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة في سرية فيها المهاجرون والأنصار ثلاثمائة رجل إلى ساحل البحر إلى حي من جهينة، فأصابهم جوع شديد، فقال قيس بن سعد: من يشتري مني تمراً بجزور، ويوفيني الجزور ها هنا، وأوفيه التمر بالمدينة فجعل عمر يقول: واعجباً لهذا الغلام، لا مال له يدين في مال غيره. فوجد رجلاً من جهينة يعطيه ما سأل وقال: والله ما أعرفك، فمن أنت؟ قال: أنا قيس بن سعد بن عبادة. قال الجهني: ما أعرفني بنسبك، وابتاع منه خمس جزائر، كل جزور بوسق من تمر. ثم قال: فأشهد لي فأشهد له نفراً من الأنصار والمهاجرين، فكان فيمن أشهد عمر بن الخطاب. فقال عمر: لا أشهد هذا بدين ولا مال له، إنما المال لأبيه. فقال الجهني: ما كان سعد ليمني بابنه في شقة من تمر وأرى وجهاً حسناً، وفعلاً شريفاً. فكان بين عمر وقيس كلام حتى أغلظ لقيس، وأخذ الجُزُر فنحرها لهم في مواطن ثلاث كل يوم جزوراً، فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره فقال: أتريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك.
قال محمد: فحدثني محمد بن يحيى، عن سهل، عن أبيه، عن رافع بن خديج قال: أقبل أبو عبيدة ومعه عمر، فقال: عزمت عليك أن لا تتجر، أتريد أن تخفر ذمتك فقال قيس: يا أبا عبيدة، أترى أبا ثابت يقضي ديون الناس، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة، لا يقضي عني شقة من تمر لقوم مجاهدين في سبيل الله. فكان أبو عبيدة يلين له، وجعل يقول له: اعزم فعزم عليه، وأبى أن ينحر وبقيت جزوران، فقدم بها قيس المدينة ظهراً يتعاقبون عليها، وبلغ سعداً ما أصاب القوم من المجاعة فقال: إن يكن قيس كما أعرف فينحر للقوم، فلما قدم قيس لقيه سعد فقال: ما صنعت في القوم؟ قال: نحرت. قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نحرت. قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نحرت. قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نهيت. قال: من نهاك؟ قال: أبو عبيدة أميري. قال: ولمَ؟ قال: زعم أنه لا مال لي، وإنما المال لك، فقلت: أبي يقضي عن الأباعد، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة، فلا يصنع هذا بي. قال: فلك أربع حوائط أدناها حائط تحمل خمسين وسقاً.
قال: وقدم البدوي مع قيس فأوفاه وسقه وحمله وكساه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل قيس، فقال: " إنه في بيت جود " .
قال علماء السير: مرض لَيس بن سعد واستبطأ إخوانه في العيادة، فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين. قال: أخزى الله، مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً فنادى: من كان لقيس عليه حق فهو في حل. فكسرت درجته بالعشي من عيادته.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أحمد بن عمر بن عثمان قال: أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال: حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال: حدثنا أحمد بن بشير قال: حدًثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: باع قيس بن سعد من معاوية مالاً بتسعين ألفاً، فأمر منادياً فنادى في المدينة: مَنْ أراد القرض فليأت منزل قيس. فأقرض أربعين أو خمسين وأجاز الباقي، وكتب على من أقرضه صكاً، فمرض مرضاً قل عواده، فقال لزوجته قريبة بنت أبي قحافة أخت أبي بكر: يا قريبة، لِمَ ترين قل عوادي؟ قالت: للذي عليهم من الدين. فأرسل إلى كل رجل صكه.
وقال عروة: قال قيس بن سعد: اللهم ارزقني مالاً وفعالاً، فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا ابن بشران قال: حدثنا ابن صفوان قال: حدًثنا ابن أبي الدنيا قال: حدَّثنا محمد بن سعد قال: قال الهيثم بن عدي: توفي قيس بن سعد بن عبادة بالمدينة في آخر خلافة معاوية.
معقل بن يسار بن عبد اللّه، أبو عبد اللّه. وقيل: أبو علي، المزني: صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد الحديبية، ورفع أغصان الشجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بايم أهلها، ولاه عمر البصرة، فحفر النهر المنسوب إليه: نهر معقل، وبنى البصرة داراً فنزلها. . .


وأخبرنا موهوب بن أحمد قال: أخبرنا علي بن أحمد التستري قال: أخبرنا أبو الحسن بن الصلت قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الصمد قال: حدًثنا خلاد بن أسلم قال: حدثنا النضر قال: حدثنا عوف، عن الحسن قال: دخل عبيد الله بن زناد على معقل بن يسار في مرضه الذي قبض فيه، فقال: إني محدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة مائة عام " قال ابن زياد: ألا حدثتني قبل اليوم؟ قال معقل: واليوم لو لم أكن على حالي هذه لم أحدثك به.
هند بنت أبي أمية، واسمه سهيل، وهي أم سلمة: كانت عند أبي سلمة، فهاجرت معه إلى الحبشة، وولدت له، وتوفي عنها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة أربع من الهجرة، وتوفيت في هذه السنة، وصلى عليها أبو هريرة، ودفنت بالبقيع، وكان لها يوم ماتت أربع وثمانون سنة.
ثم دخلت
سنة ستين
فمن الحوادث فيها: غزوة مالك بن عبيد الله سُورِية، ودخول جنادة بن أبي أمية رودس، وهدمه مدينتها في قول الواقدي.
وفي هذه السنة: أخذ معاوية على الوفد الذين وفدوا إليه مع عبيد الله بن زياد البيعة لابنه يزيد، وعهد إلى ابنه يزيد حين مرض فيها، فقال له: يا بني، إني قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وفللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وإني لأتخوف عليك أن ينازعك في هذا الأمر الذي أسندت لك إِلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر. فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقَذَته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك. وأما الحسين فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رَحِماً ماسة وحقاً عظيماً وأما ابن أبي بكر فليست له همة إلا في النساء واللهو، فإن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثلهم، وأما. الذي يجثم جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإذا أمكنته فرصة وثب فابن الزبير، فإن هو فعلها ، بك فقدرت عليه فقطعه إرباً إرباً ولما اشتد مرض معاوية كان يزيد غائباً، فدعا بالضحاك بن قيس الفهوي - وكان صاحب شرطته - ومسلم بن عقبة المري فأوصى إليهما فقال: بلغا يزيد وصيتي: انظر أهل الحجاز فإنهم أهلك، فأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام، فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن رابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم.
وفي هذه السنة توفي معاوية، وبويع لابنه يزيد
باب ذكر بيعة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان
ويكنى أبا خالد، ولد سنة ست وعشرين هو وعبد الملك، وأمه مَيْسون بنت بَحْدل، وكان له أولاد جماعة، فمنهم: معاوية ابنه، وولي الخلافة بعده أياماً. ومنهم: عاتكة، تزوجها عبد الملك بن مروان، فولدت له أربعة أولاد، وهذه عاتكة كان لها اثنا عشر محرماً كلهم خلفاء: أبوها يزيد، وجدها معاوية، وأخوها معاوية بن يزيد، وزوجها عبد الملك، وحموها مروان بن الحكم، وابنها يزيد بن عبد الملك، وابن أبيها الوليد بن يزيد، وبنو زوجها: الوليد، وسليمان، وهشام، وابنا ابن زوجها: يزيد وإبراهيم، ابنا الوليد بن عبد الملك. ولم يتفق مثل هذا لامرأة سواها.
وقد أسند يزيد بن معاوية الحديث، فروى عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإسنادنا إليه متصل، غير أن الإمام أحمد سئل: أيروى عن يزيد الحديث؟ فقال: لا، ولا كرامة، فلذلك امتنعنا أن نسند عنه.
وقد ذكرنا أن معاوية لما مات كان ابنه يزيد غائباً، فلما سمع بموت أبيه معاوية قدم وقد دفن، فبويع له وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة وأشهر، فأقر عبيد الله بن زياد على البصرة، والنعمان بن بشير على الكوفة، وكان أمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ولم يكن ليزيد همّ حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على أبيه الإجابة إلى بيعة يزيد، فكتب إلى الوليد بن عتبة: أما بعد، فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام.


فبعث إلى مروان، فدعاه واستشاره وقال: كيف ترى أن أصنع؟ قال: إني أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة، فإن فعلوا قبلت، وإن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فإنهم إن علموا بموته وثب كل واحد منهم في جانب، فأظهر الخلاف والمنابذة، إلا أن ابن عمر لا أراه يرى القتال، ولا يحب الولاية، إلا أن تُدْفَع إليه عفواً.
وأرسل عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما، فوجدهما في المجلس جالسين فقالا: أجيبا الأمير. فقالا له: انصرف، فالآن نأتيه: ثم أقبل ابن الزبير على الحسين فقال له: ما تظن فيما بعث إلينا. فقال الحسين: أَظن طاغيتهم قد هلك، وقد بعث هذا إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشوا الخبر. قال: وأنا ما أظن غيره، فما تريد أن تصنع؟ قال: اجمع فتياني الساعة، ثم أسير إليه، فإذا بلغت الباب احتبستهم. قال: فإني أخافه عليك إذا دخلت قال: لا آتيه إلا وأنا على الامتناع.
قال: فجمع مواليه وأهل بيته، ثم قام يمشي حتى انتهى إلى باب الوليد وقال لأصحابه: إني داخل، فإن دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج. فدخل وعنده مروان، فسلم عليه بالإمرة وجلس، فأقرأه الوليد الكتاب، ونعى إليه معاوية، ودعاه إلى البيعة، فقال الحسين " إنا للّه وإنا إليه راجعون " رحمِ الله معاوية، وعظم لك الأجر، أما ما سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سراً، ولا أراك تجتزى مني سراً دون أن تظهرها على رؤوس الناس علانية قال: أجلِ، قال: فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمراً واحداً فقال له الوليد وكان يحب العافية، فانصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس. فقال له مروان. والله إن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينك وبينه، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب الحسين عند ذلك فقال: يا ابن الزرقاء، أنت تقتلني أو هو؟ كذبت والله وأثمت. ثم خرج فقال مروان: واله لا يُمكِنك من مثلها من نفسه، فقال الوليد: والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت، وإني قتلت حسيناً.
وأما ابن الزبير فقال: الآن آتيكم. ثم أتى داره، فكمن فيها، فأكثر الرسل إليه، فبعث إليه جعفر بن الزبير فقال له: إنك قد أفزعت عبد الله بكثرة، رسلك، وهو يأتيك غداً إن شاء الله. وخرج ابن الزبير من ليلته، فتوجه نحو مكة هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث، وتنكب الجادة، فبعث وراءه مَنْ يطلبه فلم يقدروا عليه، وتشاغلوا عن الحسين عليه السلام في ذلك اليوم، فخرج من الليل ببنيه وأخوته وبني أخيه وأهل بيته إلى مكة لليلتين بقيتا من رجب، فدخلها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة.
ثم بعث الوليد إلى عبد الله بن عمر فقال: بايع ليزيد، فقال: إذا بايع الناس بايعت.
وفي هذه السنة: عزل يزيد الوليد بن عتبة عن المدينة عزله في رمضان، وأمر عليها عمرو بن سعيد، فقدمها، ووجه عمرو بن سعيد عمرو بن الزبير إلى أخيه عبد الله بن الزبير ليقاتله، لما كان يعلم ما بينه وبين أخيه عبد الله، ووجه معه أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة - وقيل: في ألفين - فعسكر في الجرف فجاء مروان بن الحكم إلى عمرو بن سعيد، فقال له: لا تقرب مكة واتق الله، ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر وهو رجل لجوج. فقال عمرو: والله لنقاتلنه في جوف الكعبة، وسار أنيس حتى نزل بذي طوى، وسار عمرو بن الزبير إلى أخيه الأبطح، فأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه أن الخليفة قد حلف لا يقبل منك حتى يؤتي بك في جامعةٍ ، فبر يمينه وتعال اجعل في عنقك جامعة من فضة. فأرسل ابن الزبير عبد الله بن صفوان إِلى أنيس في جامعة، فقاتلوه، فهزم أنيس وتفرق عن عمرو جماعة من أصحابه، واستعمل عمرو بن سعيد على شرطته مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وأمره بالشدة على الناس، فهدم الدور، وضرب الرجال، وأرسل إلى المنذر بن الزبير، فجاءوا به ملبباً، فقال المسور بن مخرمة: اللهم إنا نعوذ بك من أمر هذا أوله فلما حضر وقت الحج حج عمرو، وأظهر السلاح وأظهر ابن الزبير السلاح.


وفي هذه السنة: وجَه أهل الكوفة الرسل إلى الحسين وهو بمكة يدعونه إلى القدوم عليهم، فوجّه إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وكان أهل الكوفة قد بعثوا إلى الحسين عليه السلام يقولون: إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة، فأقدم علينا. فبعث إليهم مسلماً لينظر ما قالوا، فخرج مسلم حتى أتى المدينة، فأخذ منها دليلين فمرا به في البرية، فأصابهم عطش، فمات أحد الدليلين وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه، فكتب إليه: امض، فقدم الكوفة، فنزل على رجل من أهَلهَا، يقال له ابن عوسجة، فلما تحدث أهل الكوفة بمقدمه دنوا إليه فبايعوه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفاً، فقام رجل ممن يهوى يزيد، إلى النعمان بن بشير، فقال له: إنك ضعيف، قد فسد البلد. فقال له النعمان: أكون ضعيفاً في طاعة الله أحب إليّ من أن أكون قوياً في معصية الله.
فكتب بقوله إلى يزيد، فولى الكوفة عبيد الله بن زياد إضافة إِلى البصرة، وأمره أن يقتل مسلم بن عقيل، فأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة، حتى قدم الكوفة متلثماً، فلا يمر بمجلس من مجالسهم فيسلم إلا قالوا: وعليك السلام يا ابن بنت رسول الله. وهم يظنونه الحسين حتى نزل القصر، فقال عبيد الله لمولى له: هذه ثلاثة آلاف درهم، خذها وسل عن الذي بايع أهل الكوفة، وأعلمه أنك من حمص، وقل له: خذ هذا المال تقوى به. فمضى فسلمه إليه، فتحول مسلم بن عقيل حينئذٍ من الدار التي كان فيها إلى منزل هانىء بن عروة المرادي، وكتب مسلم إلى الحسين ببيعة اثني عشر ألفاً من أهل الكوفة، ويأمره بالقدوم، ثم دخل على عبيد الله بن زياد جماعة من وجوه أهل الكوفة، فقال: ما بال هانئ بن عروة لم يأتني؟ فأخبروا هانئاً، فانطلق إليه فقال: يا هانىء، أين مسلم؟ قال: لا أدري - فقال عبيد الله لمولاه الذي أعطاه الدراهم: اخرج. فخرج، فلما رآه قال: أصلح الله الأمير، والله ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء فطرح نفسه علي قال: أيتني به، قال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه. فضربه أعلى حاجبه، فشجه، ثم حبسه فنادى مسلم أصحابه، فاجتمع إليه من أهل الكوفة أربعة آلاف، فمضى بهم إلى القصر، فأشرف أصحاب عبيد الله على أهاليهم يعدونهم ويقولون: غداً يأتيكم جنود الشام. فتسللوا، فما اختلط الظلام حتى بقي مسلم وحده، فأوى إِلى امرأة، فعلم به ابنها، وكان عبيد الله قد نادى: إنه مَنْ وُجد في داره فقد برئت منه الذمة، ومن جاء به فله ديته. فأخبر به، فبعث عبيد الله إليه صاحب الشرطة عمرو بن حريث، ومعه عبد الرحمن بن محمد الأشعث، فلم يعلم مسلم حتى أحيط بالدار، فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عبد الرحمن الأمان، فأمكنه من يده، فحملوه على بغلة، وانتزعوا سيفه منه، فقال. : هذا أول الغدر وبكى، فقيل له: من يطلب مثل هذا الذي تطلب إذا نزل به مثل هذا لم يبك. فقال: والله ما أبكي على نفسي، بل على حسين وآل حسين. ثم التفت إلى عبد الرحمن فقال: هل يستطيع أن يبعث من عندك رجلاً على لساني، يبلغ حسيناً، فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم، فيقول له ارجع ولا تغتر بأهل الكوفة.
فبعث رجلاً، فلقي الحسين بزُبالَة، فأخبره الخبر، فقال: كل ما حُمَّ نازل. ولما جيء بمسلم إلى عبيد الله بن زياد أخبره عبد الرحمن أنه قد أمنه، فقال: ما أنت والأمان، إنما بعثناك لتجيء به لا لتؤمنه. فأمر به، فأصعد إلى أعلى القصر، فضربت عنقه، وألقى جثته إلى الناس، وأمر بهانىء، فقتل في السوق، وسُحب إلى الكناسة، فصلب هناك.
وقال شاعرهم في ذلك:
فإن كنت لا تدرينَ ما الموتً فانظري ... إلىِ هانىء في السوق وابن عقيل
تري جسداً قد غير الموت لونه ... ونضْحَ دم قد سال كل مسيل
أصابهما أمر الإمام فأصبحا ... أحاديث من يسعى بكل سبيل


وفي رواية أخرى: أن الحسين لما خرج من المدينة قيل له: لو تجنبت الطريق ما فعل ابن الزبير لأجل الطلب. قال: لا والله، لا أفارقها حتى يقضي الله ما أحب. فاستقبله عبد الله بن مطيع، فقال له: جعلت فداك، أين تريد. قال: أما الآن فمكة وما بعدها، فإني استخير الله، فقال: خار الله لك، وجعلنا فداك، فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة، فإنها بلدة مشؤومة، بها قتل أبوك، وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه، الزم الحرم، فإنك سيد العرب، ولا يعدل بك أهل الحجاز أحداً، ويتداعى الناس إليك من كل جانب.
فِنزل مكة، واختلف أهلها إليه وأهل الآفاق، وابن الزبير لازم جانب الكعبة، فهو قائم يصلي عندها، ويطوف، ويأتي حسيناً فيمن يأتيه، ويشير عليه، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير لأنه قد علم أن أهل الحجاز لا يبايعونه أبداً ما دام حسين بالبلد، وقام سليمان بن صرد بالكوفة، فقال: إن كنتم تعلمون أنكم تنصرون حسيناً فاكتبوا إليه، وإن خفتم الفشل فلا تغروه. قالوا: بل نقاتل عدوه.
فكتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. لحسين بن علي من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، الحمد لله الذي قصم عدوك، وإنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك.
فقدم الكتاب عليه بمكة لعشر مضين من رمضان، ثم جاءه مائة وخمسون كتاباً من الرجل والاثنين والثلاثة، ثم جاءه كتاب آخر يقولون: حي هلا، فإن الناس ينتظرونك، فالعجل العجل. وتلاقت الرسل كلها عنده. فقرأ الكتب، وكتب مع هانىء بن هاني السبيعي، وسعيد بن عبيد الحنفي، وكانا آخر الرسل: بسم الله الرحمن الرحيم. من حسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين. أما بعد، فإن هانئاً وسعيداً قدما علي، وكانا آخر من قدم من رسلكم، وقد بعثت أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي وأمرت أن يكتب إليّ بحالكم، فإن كتب إليٌ أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به علي رسلكم، قدمت عليكم إن شاء الله تعالى.
فلما قتل مسلم بن عقيل وهانىء، وكان الحسين قد خرج من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة، وكان قد أشار عليه جماعة منهم ابن عباس أن لا يخرج، وكان من جملة ما قال له: أتسير إلى قوم أميرهم عليهم قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنما دعوك إلى الحرب، ولا آمن أن يكذبوك. فقال: أستخير الله، ثم عاد إليه فقال له: إِني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك أهل العراق، فإنهم أهل غدر، أقم بهذا البلد فإنك سيد الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك فاكتب إليهمٍ فلينفوا عدوهم، وإن أبيت فسر إلى اليمن، فإن بها حصوناً وشعابا، وهي أرض عريضة. فقال: قد أجمعت المسير. قال: فلا تَسِرْ بنسائك وصبيتك، فإني أخاف ما جرى لعثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه، ولقد أقررت عيني ابن الزبير بتخليتك إياه بالحجاز، والله لو أني أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت.
ثم خرج، فلقي ابن الزبير، فقال: قرت عينك، هذا حسين يخرج إلى العراق، ويخليك والحجاز، ثم أنشد مرتجزاً متمثلا:
يا لك من قُبَّرة بمَعْمِر ... خَلا لكِ الجو فبيضي واصْفِرِي
وَنقرِي ما شئت أنْ تُنقري
وكتب عبيد الله إلى يزيد: أما بعد، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه، وكفاه مؤونة عدوه، إن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانىء بن عروة فكِدتهما حتى استخرجتهما وضربت أعناقهما، وقد بعثت برأسيهما.
فكتب إليه يزيد: إنك على ما أحب عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع، وقد بلغني أن الحسين قد توجه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس، واجلس على الظنة، وخذ على التهمة، غير أن لا تقتل إلا منْ قاتلك، واكتب إلي في كل ما يحدث من خير إن شاء الله.
قال علماء السير: لما علم الحسين، بما جرى لمسلم بن عقيل هم أن يرجع، فقال أخو مسلم: والله لا ترجع حتى نصيب بثأرنا. فقال الحسين: لا خير في الحياة بعدكم. فسار فلقيته أوائل خيل عبيد الله، فنزل كربلاء، فضرب أبنيته، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارساً ومائة راجل.


وَفي هذه السنة: حج بالناس عمرو بن سعيد، وكان عامل يزيد على مكة والمدينة لما نزع يزيد الوليد بن عتبة عن المدينة، وكان ذلك في شهر رمضان.
فحج عمرو بالناس حينئذٍ ، وكان على الكوفة والبصرة وأعمالها عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بلال بن الحارث، أبو عبد الرحمن وهو من بني قرة بن مازن، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مزينة ومعه عمرو بن عوف يستنفرانهم حين أراد أن يغزو مكة، وحمل بلال أحد ألوية مزينة الثلاثة التي عقدها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وكان يسكن جبل مزينة ويأتي المدينة كثيراً.
وتوفي في هذه السنة وهو ابن ثمانين سنة.
خراش بن أمية بن ربيعة، أبو نضلة: شهد المريسيع والحديبية، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش على جملٍ له يقول: إنما جئنا معتمرين ولم نأت لقتال، فعرفوا جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتال خراش فمنعه مَنْ هناك من قومه، فرجع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لقي، وقال: ابعث أمنع مني، فدعا عمر فقال: يا رسول الله، قد عرفت قريش عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، فإن أحببت دخلت عليهم، فلم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال عمر: لكني أدلك على رجل أعز مني بمكة وأكثر عشيرة، وأمنع: عثمان، فدعاه، فبعثه إليهم.
وخراش هو الذي حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وحلقه أيضَاَ في عمرة الجعرانة، وما زال يغزو مع رسول الله إلى أن قُبض، ومات في آخر خلافة معاوية.
صفوان بن المعطل بن رحضة بن المؤمل بن خزاعي، أبو عمرو: أسلم قبل غزاة المريسيع، وشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يومئذٍ على ساقة الناس من ورائهم، واتفق أن عقد عائشة ضاع، فأقامتَ على التماسِهِ، فرحل القوم، فجاء صفوان فرآها، فأناخ بعيره، فركبت، فلحق بها الجيش، فتكلم أهل الإفك، فحلف صفوان لئن أنزل الله عذره ليضربنّ حسان بن ثابت بالسيف. فلما نزل العذر ضرب حسان بن ثابت بالسيف على كتفه، فأخذه قوم حسان، وأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعه إليهم ليقتصوا منه، فلما أدبروا بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لهم: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي. فترك حسان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه السلام: دعوا حسان، فإنه يحب الله ورسوله، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حساناً شبرين عوضاً.
ثم شهد صفوان الخندق، والمشاهد بعدها، وكان مع كرز بن جابر في طلب العرنيين الذين أغاروا على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتوفي بشمشاط في هذه السنة.
عبد اللّه بن ثوب، أبو مسلم الخولاني: أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا أحمد بن أحمد قال: حدثنا أبو نعيم الأصبهاني قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد قال: حدثنا عبد الملك بن محمد بن علي قال: حدثنا صالح بن علي النوفلي قال: حدثنا عبد الوهاب بن نجمة قال: حدثنا إسماعيل بن عباس، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني قال: بينا الأسود بن قيس العنسي باليمن فأرسل إلى أبي مسلم فقال له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم قال: فتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع، قال: فأمر بنار عظيمة فأججت، فطرح فيها أبو مسلم فلم تضره، فقال له أهل مملكته: إن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك. فأمره بالرحيل، فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، فقام إلى سارية من سواري المسجد يصلي، فبصر به عمر بن الخطاب فقال: من أين الرجل؟ قال: من اليمن. قال: فما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرقه بالنار فلم تضره؟ فقال: ذاك عبد الله بن ثوب. قال: نشدتك بالله أنك هو. قال: اللهم نعم. قال: فقبل ما بين عينيه، ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مَنْ فُعل به كما فُعل بإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.


أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: حدثنا أحمد بن أحمد الحداد قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله قال: حدثنا محمد بن أحمد قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا أبو زرعة قال: حدثنا سعيد بن أسد، قال: حدثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء، عن أبيه قال: كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف من المسجد إلى أهله كبّر على باب منزله، فتكبر امرأته، فإذا كان في صحن داره كبر فتجيبه امرأته. فانصرف ذات ليلة، فكبر عند باب داره، فلم يجبه أحد، فلما كان في الصحن كبر، فلم يجبه أحد، فلما كان في باب بيته كبّر، فلم يجبه أحد، وكان إذا دخل بيته أخفت امرأته رداءه ونعليه، ثم أتته بطعامه - قال: فدخل، فإذا البيت فيه سراج، وإذا امرأته جالسة منكسة تنكث بعودٍ معها، فقال لها: مالك؟ قالت: أنت لك منزلة من معاوية، وليس لنا خادم، فلو سألته فأخدمنا وأعطاك. فقال: اللهم من أفسد علي امرأتي فأعم بصره. قال: وكانت قد جاءتها امرأة قبل ذلك فقالت: زوجك له منزلة من معاوية، فلو قلت له كتب إلى معاوية بخدمة ويعطيه عشتم. قال: فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها أنكرت بصرها، فقالت: ما لسراجكم طفىء؟ قالوا: لا فعرفت ذنبها، فأقبلت إلى أبي مسلم تبكي وتسأله أن يدعو لها الله عز وجل أن يرد عليها بصرها. فرحمها أبو مسلم، فدعا الله عز وجل فرد عليها بصرها. وفي رواية: فرجعت.
معاوية بن أبي سفيان: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا أبو عبيدة، عن أبي يعقوب الثقفي، عن عبد الملك بن عمير قال: لما ثقل معاوية وتحدث الناس أنه الموت، قال لأهله: احشوا عيني أثمداً، وأوسعوا رأسي دهناً. ففعلوا، وبرقوا وجهه بالدهن، ثم مهد له فجلس، فقال: اسندوني. ثم قال: أئذنوا للناس فليسلموا لم قياماً، ولا يجلس أحد. فجعل الرجل يدخل فيسلم قائماً، فيراه مكتحلاً مدهناً، فيقول: يقول الناس هو لما بِه، وهو أصح الناس. ولما خرجوا من عنده قال:
وتَجَلدي للشامِتينَ ألايهِمُ ... أني لِرَيْبِ الدهر لا أتَضَعْضَعُ
وإذا المَنيةُ أنْشَبَتْ أظْفَارَهَا ... ألْفَيْتَ كل. تَمِيمةٍ لا تَنفع
قال: وكان به الثفاثة مات من يومه ذلك.
قال علماء السير: أوصى معاوية فقال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً قلم أظفاره وأخذ من شعره، فجمعت ذلك فهو عندي، وأعطاني قميصه، فاجعلوه على جسمي، واسحقوا قلامة الأظفار فاجعلوها في عيّني، واحشوا بالشعر فمي وأنفي، فغشي، فأخرجت أكفانه فوضعت على المنبر، وقام الضحاك بن قيس الفهري خطيباً، فقال: إن معاوية قد قضى نحبه، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومخلوه وعمله، إن شاء ربه رحمه، وإن شاء عذبه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الفضل قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر قال: حدثنا يعقوب بن سفيان قال: حدثني يحيى بن عبد الله، عن بكير، عن الليث قال: توفي معاوية في رجب لأربع ليال خلت من سنة ستين، وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر.
وقيل: تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر.
قال الواقدي: وسبعة وعشرين يوماً.
واختلفوا في مدة عمره، فقال الزهري: خمسة وسبعون، وقيل: ثمان وسبعون، وقال المدائني: ثلاث وسبعون، وقيل: ثمانون، وقيل: خمس وثمانون.
النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن جلاس: أمه عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة، وهو أول من ولدَ من الأنصار بالمدينة بعد الهجرة، وحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة، فتلمظ بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انظروا إلى الأنصار وحبها للتمر " .
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والنعمان بن بشير ابن ثماني سنين وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ممن نصر عثمان، وقدم بقميصه الذي قتل فيه على معاوية، وبعثه معاوية على الكوفة أميراً، فأقام بها والياً عليها سبعة أشهر، ثم آل الأمر إلى أن دعا لابن الزبير فقتله أهل حمص في هذه السنة.


أنبأنا محمد بن أبي طاهر البزار قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد الأبنوسي قال: أخبرنا أبو الحسن الدارقطني قال: أخبرنا الحسين بن إسماعيل القاضي قال: حدثنا عبد الله بن الحسين بن الربيع قال: حدثني الهيثم بن عدي قال: لما عُزل النعمان بن بشير عن الكوفة ولاه معاوية حمص، فوفد عليه أعشى همدان، فقال له: ما أقدمك أبا المصبح قال: جئت لتصلني، وتحفظ قرابتي، وتقضي ديني. فأطرق النعمان، ثم رفع رأسه ثم قال: والله ما عندي شيء. ثم قال: هيه، كأنه ذكر شيئاً، فقام فصعد المنبر ثم قال: يا أهل حمص - وهم في الديوان عشرون ألفاً - هذا ابن عم لكم من أهل القرآن والشرف، قدم عليكم يسترفدكم، فما ترون فيه. فقالوا: أصلح الله الأمير، احكم له. فأبى عليهم. قالوا: فإنا قد حكمنا له على أنفسنا من كل رجل في العطاء بدينار من دينارين تعجلها له من بيت المال أربعون ألف دينار. فقبضها وأنشأ يقول:
فلم أر للحاجات عند انكماشها ... كنعمان نعمان الندى ابن بشير
إذا قال أوفى بالمقال ولم يكن ... كمدل إلى الأقوام حبل غرور
متى أنجد النعمان لا أك شاكراً ... ولا خير من لا يقتدي بشكور
ثم دخلت
سنة إحدى وستين
فمن الحوادث فيها:
مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب
عليهما السلام
وذلك أنه أقبل حتى نزل شراف، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم الخيل، فنزل الحسين، رضي الله عنه، وأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي - وكان صاحب شرطة ابن زياد حتى وقفوا مقابل الحسين عليه السلام في حرْ الظهيرة، فأمر الحسين رجلاً فأذن، ثم خرج فقال: أيها الناس إنها معذرة إلى الله وإليكم، إِني لم آتكم حتى قدمت علي رسلكم، وأتتني كتبكم أن أقدم علينا، فليس لنا إمام، فإن كنتم كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه، فسكتوا عنه، وقالوا للمؤذن: أقم الصلاة، فأقام الصلاة، وصلى الحسين، وصلى الحر معه، ثم تراجعوا، فجاءت العصر، فخرج يصلي بهم وقال: أتتني كتبكم ورسلكم، فقال الحر: ما ندري ما هذه الكتب والرسل. فقال: يا عقبة بن سمعان، أخرج إلي الخرجَيْن. فأخرجهما مملؤين صحفاً فنشرها بين أيديهم، فقال الحر: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمِرنا أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أدنى إليك، من ذلك. وقام فركب وركب أصحابه وقال: انصرفوا بنا. فحالوا بينه وبين الانصراف، فقال للحر: ثكلتك أمك، ما تريد؟ قال: إني لم أومر بقتالك، إنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة، ولا تردك المدينة حتى كتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد أو إلى ابن زياد لعل الله أن يرزقني العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك، فتباشر الحسين والحر يسايره، ثم جاءه كتاب عبيد الله بن زياد أن جعجع بالحسين حتى يبلغك كتابي، فأنزلهم الحر على غير ماء، ولا في قرية، وذلك في يوم الخميس ثاني المحرم، فلما كان من الغد قدم عمرو بن سعد من الكوفة في أربعة آلاف، وكان عبيد الله قد ولى عمرو بن سعد الري، فلما عرض أمر الحسين قال له: اكفني أمر هذا الرجل، ثم اذهب إلى عملك. فقال: أعفني فأبى. قال: أنظرني الليلة، فأخره فأنظر في أمره، ثم أصبح راضياً فبعث إلى الحسين رجلاً يقول له: ما جاء بك؟ فقال: كتب إلي أهل مصركم، فإذا كرهتموني فإني أنصرف عنكم. وجاء كتاب عبيد الله إلى عمر: حًل بين الحسين وأصحابه وبين الماء كما صنع بعثمان. فقال: اختاروا مني واحدة من ثلاث: إما أن تدعوني فألحق ، بالثغور أو أذهب إلى يزيد، أو أنصرف من حيث جئت فقبل ذلك عمرو، وكتب إلى عبيد الله بذلك، فكتب عبيد الله. لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي، فقال الحسين: لا والله لا يكون ذلك أبداً.


وفي رواية: أن عبيد الله قبل ذلك، فقال له شمر بن ذي الجوشن: والله إن رحل عن بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعز، ولتكونن أولى بالضعف، والعجز، ولكن لينزلن على حكمك هو وأصحابه، فقال له عبيد الله. اخرج بكتابي إلى عمرو بن سعد، وليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلماً، وإن أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن أبى أن يقاتلهم فأنت أمير الناس، فثب عليه فاضرب عنقه واَبعث إلي برأسه.
وكتب عبيد الله: أما بعد، فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة، فانظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلي سلماً، فإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم، فإن قتل حسين فاوطىء الخيل صدره وظهره، فإنه عاق قاطع، فإن مضيت لأمرنا جزيناك خيراً، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنا قد أمرناه، والسلام.
فلما جاء شمر بالكتاب إلى عمرو وقرأه قال: ويلك، لا قرب الله دارك، قبح الله ما قدمت به علي، والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه، وأفسدت علينا أمراً قد كنا رجونا أن يصلح، قال: فقال: أخبرني ما أنت صانع لأمر أميرك؟ أتقاتل عدوه، وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر. فقال: لا، ولا كرامة، ولكن أنا أتولى ذلك. قال: فدونك.
فنهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم، وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وعبد الله وجعفر بنو علي، فقالوا: مالك وما تريد؟ قال: أنتم يا بني أَختي آمنون، قالوا: لعنك الله، ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أمان له؟! فنادى عمرو: يا خيل اركبي وأبشري.
فركب في الناس، ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بنيه مجتثياً بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت أخته الضجة، فقالت: يا أخي، أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع رأسه فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: " إنك تروح إلينا، فلطمت أخته وجهها وقال له العباس: يا أخي، أتاك القوم. فنهض وقال: يا عباس، اركب بنفسك، أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم مالكم وما بدا لكم. فأتاهم العباس في نحوٍ من عشرين فارساً، فقال: ما تريدون؟ فقالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم. قال: فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا، فرجع إلى الحسين فأخبره الخبر، ثم رجع إليهم فقال: يا هؤلاء، إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ننظر في هذا الأمر، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، وإنما أراد أن يوصي أهله، فقال عمرو للناس: ما ترون؟ فقال له عمرو بن الحجاج: سبحان الله، والله لو كان من الديلم، ثم سألك هذا لكان ينبغي أن تجيبه، فجمع الحسين أصحابه وقال: إني قد أذنت لكم فانطلقوا في هذه الليلة، فاتخذوه جملاً، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم، فإن القوم إِنما يطلبوني، ولو قد أصابوني لَهَوْا عن طلب غيري. فقال أخوه العباس: لم نفعل ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبداً.
ثم تكلم إخوته وأولاده وبنو أخيه وبنو عبد الله بن جعفر بنحو ذلك، فقال الحسين: يا بني عقيل، حسبكم من الفتك بمسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم. فقالوا: لا والله، بل نفديك بأنفسنا وأهلينا، فقبح الله العيش بعدك.
وقال مسلم بن عوسجة: والله لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لرميتهم بالحجارة، وقال سعيد بن عبد الله الحنفى: والله لا نخليك حتى يعلم الله أننا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك، والله لو علمت أني اقتل، ثم أحيا، ثم أحرق حياً، ثم أذرى تسعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك.
وتكلم جماعة من، أصحابه بنحو هذا، فلما أمسى الحسين جعل يصلح سيفه ويقول مرتجزاً:
يا دهرُ أف لك من خليل ... كم لك بالإشراقِ والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل


فلما سمعه ابنه علي خنقته العبرة، فسمعته زينب بنت علي، فنهضت إليه وهي تقول: واثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت فاطمة أمي، وعلي أبي، يا خليفة الماضي، وثمال الباقي. فقال لها الحسين: أخَيَّة، لا يذهِب حلمَك الشيطانُ. وترقرقت عيناه، فلطمت وجهها، وشقت جيبها، وخرت مغشية عليها. فقام إليها الحسين عليه السلام فرشق الماء على وجهها، وقال: يا أخَية اعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، ولي أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أقسم عليك يا أخيَّة لا تشقي عليَ جيباً ولاتخمشي وجهاً.
وقام الحسين وأصحابه يصلون الليل كله، ويدعون، فلما صلى عمرو بن سعد الغداة - وذلك يوم عاشوراء - خرج فيمن معه من الناس، وعبَّأ الحسين أصحابه، وكانوا اثنين وثلاثين فارساً، وأربعين راجلاً، ثم ركب الحسين دابته، ودعى بمصحف فوضعه أمامه، وأمر أصحابه فأوقدوا النار في حطب كان وراءهم لئلا يأتيهم العدو من ورائهم.
فمر شمر فقال: يا حسين، تعجلت النار في الدنيا. فقال مسلم بن عوسجة: ألا رميته بسهم؟ فقال الحسين: لا، إني لأكره أن أبدأهم، ثم قال الحسين عليه السلام لأعدائه: أتسبوني؟ فانظروا من أنا، ثم راجعوا أنفسكم، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيكم. وابن ابن عمه. أليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ وجعفر الطيار عمي. فقال شمر بن ذي الجوشن: عبدت الله على غير حرف إن كنت أدري ما تقول فقال: أخبروني، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو مال لكم أخذته!؟ فلم يكلموه.
فنادى: يا شبث بن ربعي، يا قيس بن الأشعث، يا حجار، ألم تكتبوا إليَّ؟ قالوا: لم نفعل، فقال: فإذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم. فقال له قيس: أولا تنزل على حكم ابن عمك؟ فإنه لن يصل إليك منهم مكروه، فقال: لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل.
فعطف عليه الحر فقاتل معه فأؤل من رمى عسكر الحسين عليه السلام بسهم: عمرو بن سعد، وصار يخرج الرجل من أصحاب الحسين فيقتل من يبارزه، فقال عمرو بن حجاج للناس. يا حمقى أتدرون مَنْ تقاتلون؟ هؤلاء فرسان المصر، وهم قوم مستميتون، فقال عمرو: صدقت، فحمل عمرو بن الحجاج على الحسين، فاضطربوا ساعة، فصُرع مسلم بن عوسجة أول أصحاب الحسين، وحمل شمر وحمل أصحاب الحسين عليه السلام من كل جانب، وقاتل أصحاب الحسين قتالاً شديداً، فلم يحملوا على ناحية إلا كشفوها، وهم اثنان وثلاثون فارساً، فرشقهم أصحاب عمرو بالنبل، فعقروا خيولهم، فصاروا رجالة، ودخلوا على بيوتهم، يقوضونها ثم أحرقوها بالنار، فقتل أصحاب الحسين كلهم وفيهم بضعة عشر شاباً من أهل بيته منهم من أولاد علي عليه السلام: العباس، وجعفر، وعثمان، ومحمد، وأبو بكر. ومنهم من أولاد الحسين: علي، وعبد الله، وأبو بكر، والقاسم. ومنهم من أولاد عبد الله بن جعفر: عون، ومحمد. ومن أولاد عقيل: جعفر، وعبد الرحمن، وعبد الله، ومسلم، قتل بالكوفة. وقتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل، وقتل عبد الله بن بقطر رضيع الحسين.
وجاء سهم فأصاب ابناً للحسين وهو في حجره، فجعل يمسح الدم عنه وهو يقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا. فحمل شمر بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه، ونادى: عليَّ بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله. فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، وصاح به الحسين عليه السلام: حرقك الله بالنار.
ثم اقتتلوا حتى وقت الظهر، وصلى بهم الحرّ صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعد الظهر، وخرج علي بن الحسين الأكبر فشد على الناس وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي ... نحن ورب البيت أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي
فطعنه مرة بن منقذ فصرعه، واحتوشوه فقطعوه بالسيوف، فقال الحسين: قتل الله قوماً قتلوك يا بني، على الدنيا بعدك العفاء. وخرجت زينب بنت فاطمة تنادي: يا أخاه يا ابن أخاه. وأكبت عليه، فأخذ بيدها الحسين فردها إلى الفسطاط، وجعل يقاتل قتال الشجاع، وبقي الحسين زماناً ما انتهى إليه رجل منهم إلا، انصرف عنه وكره أن يتولى قتله، واشتد به العطش فتقدم ليشرب، فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع في فمه، فجعل يتلقى الدم ويرمي به السماء ويقول: اللهم أحصهم عدداً واقتلهم مدداً، ولا تذر على الأرض منهم أحداً.


ثم جعل يقاتل، فنادى شمر في الناس: ويحكم، ما تنتظرون بالرجل، اقتلوه. فضربه زرعة بن شريك على كتفه، وضربه آخر على عاتقه، وحمل عليه سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح، فوقع، فنزل إليه فذبحه واجتز رأسه، فسلمه إلى خولى بن يزيد الأصبحي، ثم انتهبوا سلبه، فأخذ قيس بن الأشعث عمامته، وأخذ آخر سيفه، وأخذ آخر نعليه، وآخر سراويله، ثم انتهبوا ماله، فقال عمرو بن سعد: من أخذ شيئاً فليرده، فما منهم مَنْ رد شيئاً.
وجاء سنان حتى وقف على فسطاط عمرو بن سعد، ثم نادى:
أوقر ركابي فضةً وذهبا ... فقد قتلتُ السيد المحجبا
قتلت خير الناس أماً وأبا ... وخَيرَهم إذ ينسبون نسبا
فقال له عمرو: يا مجنون، تتكلم بهذا الكلام؟ ثم قال عمرو: مَنْ يوطىء فرسه الحسين؟ فانتدب أقوام بخيولهم حتى رضوا ظهره، وأمر بقتل علي بن الحسين، فوقعت عليه زينب وقالت: والله لا يقتل حتى أقتل. فرق لها وكف عنه.
وبعث برأسه ورؤوس أصحابه إلى ابن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً وصاحبهم قيس بن الأشعث. وجاءت هوازن بعشرين رأساً وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت بنو تميم بسبعة عشر، وبنو أسد بستة، وبنو مدحج بسبعة.
فلما وصل رأس الحسين إلى ابن زياد جعل ينكث ثنيته بقضيب في يده، فقال له زيد بن أرقم: والله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم نصب رأس الحسين بالكوفة بعد أن طيف به، ثم دعى زفر بن قيس، فبعث معه برأس الحسين ورؤوس أصحابه إِلى يزيد، فلما دخل على يزيد قال: ما وراءك. قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، ورد علينا الحسين في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فسرنا إليهم، فسألناهم أن يستسلموا أو ينزلوا على حكم ابن زياد أو القتال، فاختاروا القتال، فغدونا عليهم من شروق الشمس، فأحطنا بهم، فجعلوا يهربون إلى غير وزَر ويلوذون منا بالآكام والحفر كما تلوذ الحمائم من صقر، فوالله ما كان إلا جَزْرَ جَزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفى عليه الريح، تزاورهم العقبان والرخم بقي سبسب فدمعت عينا يزيد وقال: كنت أرضى من طاعتهم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه. ثم جلس يزيد، ودعى أشراف أهل الشام، وأجلسهم حوله، ثم أدخلهم عليه.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال: أخبرنا الحسين بن علي الطناجيري قال: أخبرنا عمر بن أحمد بن شاهين قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن سالم قال: حدثنا علي بن سهل قال: حدثنا خالد بن خداس قال: حدثنا حماد بن زيد، عن حميل بن مرة، عن أبي الوصي قال: نحرت الإبل التي حمل عليها رأس الحسين وأصحابه، فلم يستطيعوا أكلها، كانت لحومها أمر من الصبر.
قال مؤلف الكتاب: ولما جلس يزيد وضع الرأس بين يديه وجعل ينكث بالقضيب على فيه ويقول:
يُفلقن هاماً من رجال أعِزةٍ ... علَيْنَا وَهًمْ كانوا أعَقً وأظْلَما
فقال أبو برزة - وكان حاضراً: ارفع قضيبك، فوالله لرأيت فاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على فيه يلثمه.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا ابن أحمد السراج قال: أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي العلاف قال: أخبرنا أبو الحسين بن أخي ميمي قال: أخبرنا أبو الحسين بن صفوان قال: حدثنا عبد الله بن محمد القرشي قال: حدثني محمد بن صالح قال: حدثنا علي بن محمد، عن خالد بن يزيد بن بشر السكسكي، عن أبيه، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي قال: قال قُدم برأس الحسين، فلما وضع بين يدي يزيد ضربه بقضيب كان في يده، ثم قال:
يفلقن هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
أنبأنا علي بن عبيد الله بن الزغواني قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، عن أبي عبيد الله المرزباني قال: أخبرنا محمد بن أحمد الكاتب قال: أخبرنا عبد الله بن أبي سعد الوراق قال: حدثنا محمد بن أحمد قال: حدثنا محمد بن يحيى الأحمري قال: حدثنا ليث، عن مجاهد قال: جيء برأس الحسين بن علي، فوضع بين يحي يزيد بن معاوية، فتمثل بهذين البيتين، يقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل


فأهلوا واستهلوا فرحاً ... ثم قالوا لي: بقيت لأتمثل
قال مجاهد: نافق فيها، ثم والله ما بقي من عسكره أحداً إلا تركه.
قال علماء السير: ثم دعا، يزيد بعلي بن الحسين وصبيان الحسين ونسائه، فأدخلوا عليه فقال لعلي: يا علي، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت. فقال علي: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " ثم دعا بالنساء والصبيان، فأجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة، فقال: قبح الله ابن مرجانة، لو كانت بينكم وبينه قرابة ما فعل بكم هذا. فرق لهم يزيد، فقام رجل أحمر من أهل الشام فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه - يعني فاطمة بنت علي - وكانت وضيئة، فارتعدت وظنت أنهم يفعلون، فأخذت بثياب أختها زينب - وكانت زينب أكبر منها - فقالت زينب: كذبت والله، ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: كذبت، إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلته، قالت: كلا والله، ما جعل الله ذلك لك إلا أن يخرج من ملتنا ويدين بغير ديننا، فعاد الشامين فقام وقال: هب لي هذه، فقال: اغرب، وهب الله لك حتفاً قاضياً، ثم قال يزيد للنعمان بن بشير: جهزهم بما يصلحهم، وابعث معهم رجلاً من أهل الشام أميناً صالحاً يسير بهم إلى المدينة.
ثم دخلن دار يزيد، فلم يبق من آل معاوية امرأة إلا استقبلتهن تبكي وتنوح على الحسين، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين، فدعاه يوماً ودعا معه عمرو بن الحسين - وكان صغيراً - فقال يزيد لعمرو: أتقاتل هذا؟ يعني ابنه خالداً. قال: لا، ولكن أعطني سكيناً وأعطه سكيناً، ثم أقاتله. فقال يزيد: سُنّةٌ أعرفها من أحرم، ثم بعث بهم إِلى المدينة، وبعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص - وهو عامله على المدينة - فكفنه ودفنه بالبقيع عند قبر أمه فاطمة. هكذا قال ابن سعد.
وذكر ابن أبي الدنيا أنهم وجدوا في خزانة يزيد رأس الحسين، فكفنوه، ودفنوه بدمشق عند باب الفراديس.
ولما أتى أهل المدينة مقتل الحسين عليه السلام خرجت ابنة عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها حاسرة وهي تبكي وتقول:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم أفضل الأمم
بعترتي وبأهلي عند منطلقي ... منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بشرٍ في ذوي رحم
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله قال: كان علي بن الحسين الأصغر مع أمه، وهو يومئذٍ ابن ثلاث وعشرين سنة، وكان مريضاً، فلما قتل الحسين قال عمرو بن سعد: لا تعرضوا لهذا المريض، قال علي بن الحسين: فغيبني رجل منهم فأكرم منزلي واختصني وجعل يبكي كلما دخل وخرج، حتى كنت أقول: إن يكن عند أحدٍ خير فعند هذا. إلى أن نادى منادي عبيد الله بن زياد: ألا مَنْ وجد علي بن الحسين فليأت به، فقد جعلنا فيه ثلثمائة درهم. قال: فدخل عليّ والله وهو يبكي، وجعل يربط يدي إلى عنقي ويقول أخاف. وأخرجني إليهم مربوطاً حتى دفعني إليهم وأخذ ثلثمائة درهم وأنا أنظر، وأدخلت على ابن زياد فقال: ما اسمك؟ فقلت: علي بن الحسين. فقال: أو لم يقتل الله علياً؟ قلت: كان أخي، يقال له علي أكبر مني، قتله الناس: قال: بل الله قتله، قلت: الله يتوفى الأنفس حين موتها. فأمر بقتله، فصاحت زينب بنت علي: يا ابن زياد، حسبك من دمائنا، أسألك بالله إن قتلته إلا قتلتني معه. فتركه، فلما صار إلى يزيد بن معاوية قام رجل من أهل الشام فقال: سباياهم لنا حلال، فقال علي بن الحسين: كذبت، ما ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا،؟ فأطرق يزيد ملياً ثم قال لعلي بن الحسين: إن أحببت أن تقيم، عندنا فنصل رحمك فعلت، وإن أحببت وصلتك ورددتك إلى بلدك، قال: بل تردني إلى المدينة. فوصله ورده.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا أحمد أبن علي، بن ثابت قال: أخبرنا علي بن أحمد الرزاز، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا عمر بن علي قال:


قتل الحسين بن علي سنة إحدى وستين، وهو يومئذ ابن ست وخمسين سنة، في المحرم يوم عاشوراء.
وقد قال جعفر بن محمد: وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: وهو ابن خمس وستين أو ست وستين.
قال مؤلف الكتاب: وهذا لا وجه له، فإنه إنما ولد في سنة أربع من الهجرة، ومن نظر في مقدار خلافة الخلفاء إلى زمان قتله علم أنه لم يصل إلى الستين. وقول جعفر بن محمد أصح.
وقال هشام بن محمد الكلبي: قتل سنة اثنتين وستين. وهو غلط.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا ابن رزق قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الحافظ قال: حدثنا الفضل بن الحباب قال: حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عامر بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم نصف النهار، أشعث أغبر، بيده قارورة، فقلت: ما هذه القارورة؟ قال: " دم الحسين وأصحابه ما زلت ألتقطه منذ اليوم " فنظرنا فإذا هو في ذلك اليوم الذي قتل فيه الحسين.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أحمد بن عثمان بن مياح قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي قال: حدثنا محمد بن شداد المسمعي قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أوحى الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً.
وأخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد العتيقي قال: سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن عبدان الصيرفي يقول: سمعت جعفر الخلدي يقول: كان بي جرب عظيم فتمسحت بتراب قبر الحسين، فغفوت فانتبهت وليس عليّ منه شيء. وزرت قبر الحسين فغفوت عند القبر غفوة، فرأيت كأن القبر قد شقّ وخرج منه إنسان، فقلت: إلى أين يا ابن رسول الله؟ فقال: من يد هؤلاء.
وفي هذه السنة: ولى يزيد بن معاوية سالم بن زياد سجستان وخراسان، فلما شخص خرج معه المهلب بن أبي صفرة، ويحيى بن معمر في خلق كثير من أشراف البصرة وفرسانها، ورغب قوم في الجهاد، فطلبوا إليه أن يخرجهم، وخرج معه صلة بن أشيم، فخرج سالم وأخرج معه امرأته أم محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاص، فغزا سمرقند، فهي أول امرأة من العرب قطع بها النهر، وكان عمال خراسان يغزون، فإذا دخل الشتاء قفلوا من مغازيهم إلى مرو، وإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان إلى مدينة من مدائن خراسان مما يلي خوارزم يتشاورون في أمورهم، وكان المسلمون يطلبون إلى أمرائهم غزو تلك المدينة فيأبون عليهم، فلما قدم سالم خراسان شتا في بعض مغازيه، فألح عليه المهلب وسأله أن يوجه إلى تلك المدينة، فوجهه في ستة آلاف - ويقال: في أربعة آلاف - فحاصرهم، فسألوه أن يصالحهم على أن يفدوا أنفسهم، فأجابهم فصالحوه على نيف وعشرين ألف ألف، فحظي بذلك المهلب عند سالم.
وفي هذه السنة، عزل يزيد عمرو بن سعيد بن العاص عن المدينة، وولاها الوليد بن عتبة، وذلك لهلال في الحجة.
وسبب ذلك: أنه لما قتل الحسين قام ابن الزبير في مكة، فعظّم مقتل الحسين عليه السلام، وعاب أهل الكوفة، ولام أهل العراق، فثار إليه أصحابه، فقالوا أيها الرجل، لم يبق من بعد الحسين من ينازعك بيعتك. وقد كان بايع الناس، سراً وأظهر أنه عائذ بالبيت، فقال لهم: لا تعجلوا، فلما علم يزيد ما قد جمع ابن الزبير من الجموع أعطى الله عهداً ليوثقن في سلسلة. فبعث سلسلة من فضة وغلالة وابن الزبير بمكة، وكاتبه أهل المدينة، وقيل ليزيد: لو شاء عمرو بن سعيد لأخذ ابن الزبير وبعث به إليك. فعزل عمراً وبعث الوليد أميراً.
وفي هذه السنة: حج بالناس الوليد بن عتبة، وكان عامل يزيد على المدينة، وكان على البصرة والكوفة: عبيد الله بن زياد، وعلى المدينة: الوليد بن عتبة - كما ذكرنا - وعلى خراسان وسجستان: سالم بن زياد. وعلى قضاء الكوفة: شريح، وعلى قضاء البصرة: هشام بن هبيرة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جبير. بن عتيك بن قيس، أبو عبد الله


شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت معه راية بني معاوية يوم الفتح. وتوفي في هذه السنة وهو ابن إحدى وسبعين سنة.
الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام ولد في شعبان سنة أربع من الهجرة، وأذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذنه، وكان له من الولد: علي الأكبر، وعلي الأصغر - وله العقب - وجعفر، وفاطمة، وسكينة.
وقد ذكرنا مقتله كيف كان في الحوادث.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف الخشاب قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال: حدثنا محمد بن سعد قال: حدثنا يعلى بن عبيد قال: حدثنا عبيد الله بن الوليد، عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال: حج الحسين بن علي عليه السلام خمساً وعشرين حجة ماشياً ونجائبه تقاد معه.
وقيل: علي بن الحسين بن علي هو الذي حج ماشياً والنجائب تقاد خلفه، رضي الله عنه تم الجزء الخامس من كتاب " المنتظم في تاريخ الملوك والأمم " تأليف الشيخ الإمام العالم الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي، عفا اللّه عنه.
ويتلوه في الجزء، السادس شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال: أخبرنا. . . .
شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: حدثنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: قال الواقدي عن أشياخ له: كان شيبة بن عثمان يحدث عن إسلامه فيقول: ما رأيت أعجب مما كان فيه من لزوم ما مضى عليه آباؤنا من الضلالات، فلما كان يوم الفتح دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عنوة، قلت: أسير مع قريش إلى هوازن بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأثأر منه، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها، وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمداً ما اتبعته أبداً، فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته، وأصلت السيف فدنوت أريد ما أريد منه، ورفعت سيفي فرفع لي شواظ من نار كالبرق حتى كان يمحشني، فوضعت يدي على بصري خوفاً عليه، فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداني: " يا شيب، ادن مني " ، فدنوت منه فمسح صدري وقال: " اللهم أعذه من الشيطان " . فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي، فاذهب الله ما كان بي، ثم قال: " إدن فقاتل " فتقدمت أمامه أضرب بسيفي، الله يعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء، ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حياً لأوقعت به السيف، فلما تراجع المسلمون وكروا كرة واحدة، قربت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوى عليها فخرج في أثرهم حتى تفرقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكره فدخل خباءه، فدخلت عليه، فقال: " يا شيبة، الذي أراد الله بك خير مما أردت بنفسك " ، ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي مما لم أكن أذكره لأحد قط، فقلت: فإني اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم قلت: استغفر لي يا رسول الله، فقال: غفر الله لك.
قال الواقدي: كان عثمان بن أبي طلحة يلي فتح البيت إلى أن توفي، فدفع ذلك إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وهو ابن عمه، فبقيت الحجابة في ولد شيبة.
عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، ولم يزل بالمدينة إلى عهد عمر، ثم تحول إلى دمشق فابتنى بها داراً، وتوفي بها في خلافة يزيد بن معاوية، وإليه أوصى.
ميمونة بنت الحارث زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها في عمرة القضية بسرف، بعد أن خرج من مكة، وبنى بها هناك، واتفق أنها ماتت هناك في هذه السنة.
الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أبو وهب


قتل عقبة يوم بدر صبراً، وأسلم الوليد يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق وخزاعة، وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد بساحاتهم، فخرجوا يتلقونه بالسلاح، فظنهم محاربين، فرجع فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لما رأوه لقوه بالسلاح ومنعوا الصدقة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم بعثاً، وبلغهم ذلك، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سله هل ناطقنا أو كلمنا حتى رجع ونحن قوم مؤمنون، فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمهم: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة... " .
وولاه عمر صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ثم عزله عنها، فلم يزل بالمدينة حتى بويع علي، فخرج إلى الرقة فنزلها معتزلاً لعلي ومعاوية، فمات بها، وقبره على خمسة عشر ميلاً من الرقة، كان له هناك ضيعة فمات بها.