المنتظم

الجزء السادس
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
ثم دخلت
سنة اثنتين وستين
فمن الحوادث فيها:
مقدم وفد المدينة على يزيد
ومبايعتهم محمد بن حنظلة
وكان السبب في ذلك أن يزيد لما عزل عمرو بن سعيد، وولى الوليد بن عتبة، قدم الوليد المدينة فأخذ غلماناً لعمرو، نحواً من ثلاثمائة فحبسهم، فكلمه فيهم عمرو فأبى أن يخليهم، فخرج عمرو من المدينة وكتب إلى غلمانه: إني باعث إلى كل رجل منكم جملاً وأداته، تناخ لكم بالسوق، فإذا أتاكم رسولي فاكسروا باب السجن، ثم ليقم كل رجل منكم إلى جمله فليركبه، ثم أقبلوا علي.
ففعل ذلك، فقدم على يزيد، فرحب به وعاتبه على تقصيره في أشياء يأمره بها في ابن الزبير، فقال: يا أمير المؤمنين: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإن جل أهل الحجاز مالوا إليه، ولم يكن معي جند أقوى عليه لو ناهضته، فكنت أداريه لأتمكن منه، مع أني قد ضيقت عليه، فجعلت على مكة وطرقها رجالاً لا يدعون أحداً يدخلها حتى يكتبوا لي اسمه واسم أبيه، وما جاء به، فإن كان ممن أرى أنه يريده رددته صاغراً، وقد بعثت الوليد وسيأتيك من عمله ما تعرف به فضل مبايعتي ومناصحتي.
فعزل يزيد الوليد، وبعث عثمان بن محمد بن أبي سفيان وهو حدث لم يحنكه السن، وكان لا يكاد ينظر في شيء من عمله. وبعث إلى يزيد وفداً من المدينة فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل، والمنذر بن الزبير، فأكرمهم وأجازهم، ثم رجعوا إلى المدينة فأظهروا شتم يزيد وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير ويلعب بالكلاب، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه.
وقال المنذر: والله لقد أجازني بمائة ألف درهم، وإنه لا يمنعني ما صنع إلي أن أصدقكم عنه، والله إنه ليشرب الخمر، وإنه ليسكر حتى يدع الصلاة. ثم بايعوا عبد الله بن حنظلة.
وفيها: حج بالناس الوليد بن عتبة، وكان العمال على البلاد في هذه السنة هم العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج، أبو عبد الله أسلم لما مر به النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى المدينة فانتهى إلى الغميم أتاه بريدة بن الحصيب فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام هو ومن معه، وكانوا زهاء ثمانين بيتاً، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء وصلوا خلفه ليلتئذ صدراً من صورة مريم،ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بعد أن مضت بدر وأحد فتعلم بقية السورة، وغزا معه مغازيه بعد ذلك، واستعمله على أسارى المريسيع، وأعطاه لواء يوم الفتح، وبعثه على أسلم وغفار يصدقهم، وإلى أسلم لما أراد غزوة تبوك يستنفرهم، ولم يزل مقيماً بالمدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن توفي، فلما فتحت البصرة تحول إليها واختط بها، ثم خرج غازياً إلى خراسان، فمات بمر وفي خلافة يزيد.
الربيع بن خثيم، أبو يزيد الثوري روى عن ابن مسعود وغيره.


أخبرنا علي بن عبد الواحد الدينوري، قال: أخبرنا علي بن عمر القزويني، قال: أخبرنا أبو بكر بن شاذان، قال: أخبرنا البغوي، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن أبيه، عن سعيد بن مسروق، قال:قال عبد الله للربيع بن خثيم: لو رآك رسمل الله صلى الله عليه وسلم لأحبك.
قال أحمد: وحدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الواحد عن عبد الله بن الربيع، عن أبي عبيدة، قال: كان عبد الله يقول للربيع: ما رأيتك إلا ذكرت المخبتين.
وكان الربيع إذا أتى عبد الله لم يكن عليه إذن حتى يفرغ كل واحد منهما من صاحبه، وكان الربيع إذا جاء إلى باب عبد الله يقول للجارية: من بالباب؟ فتقول الجارية ذلك الشيخ الأعمى.
وروى سفيان بن نسير بن ذعلوق، عن إبراهيم التيمي، قال: أخبرنا من صحب الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمع منه كلمة تعاب.
وأخبرنا سفيان، قال: أخبرتني سرية الربيع بن خثيم قالت: كان عمل الربيع بن خثيم كله سراً، كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه.
الرباب بنت امرئ القيس تزوجها الحسين بن علي رضي الله عنهما، فولدت له سكينة، وكان يحبها حباً شديداً، ويقول:
لعمرك إنني لأحب داراً ... تحل بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي ... وليس لعاتب عندي عتاب
وكانت الرباب معه يوم الطف، فرجعت إلى المدينة مصابة مع من رجع، فخطبها الأشراف من قريش، فقالت: والله لا يكون حمو آخر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعاشت بعد الحسين رضي الله عنه سنة لم يظلها سقف، فبليت وماتت كمداً.
علقمة بن قيس بن عبد الله، أبو شبل النخعي الكوفي وهو عم الأسود وعبد الله ابني يزيد. وخال إبراهيم التيمي.
روى عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وغيرهم. روى عنه أبو وائل، والشعبي، والنخعي وابن سيرين.
وشهد حرب الخوارج بالنهروان، وكان من العلماء الربانيين، مقدماً في الحديث والفقه والزهد والورع، وكان يشبه بابن مسعود.
عمرو بن حزم بن يزيد بن لوذان بن عمرو بن عوف، أبو الضحاك استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على نجران اليمن وهو ابن سبع عشرة سنة، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عامله على نجران، وعاش عمرو حتى أدرك معاوية وبيعته لابنه يزيد.
وتوفي بالمدينة.
عقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري وجهه معاوية إلى أفريقية غازياً في عشرة آلاف من المسلمين فافتتحها واختط قيروانها، وقد كان موضعه غيطة لا ترام من السباع والحيات وغير ذلك من الدواب، فدعا الله تعالى عليها ونادى: إنا نازلون فاظعنوا، فلم يبق شيء مما كان من السباع وغيرها إلا خرج، وجعلن يخرجن من جحرهن هوارب، حتى أن السباع كانت تحمل أولادها.
ثم قدم بعد موت معاوية على يزيد فرده والياً على أفريقية في هذه السنة، فعرض له جمع من الروم والبربر وهو في قل، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل عقبة شهيداً.
مسلمة بن مخلد بن الصامت، أبو معن، ويقال أبو سعيد ولد حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر واختط بها، وولي الجند لمعاوية بن أبي سفيان ولابنه يزيد.
روى عنه علي بن رباح وغيره، وتوفي في ذي القعدة من هذه السنة.
نوفل بن معاوية بن عمرو بن صخر بن يعمر شهد بدراً مع المشركين، وأحداً والخندق، وكان له ذكر ونكاية، ثم أسلم بعد ذلك وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنيناً والطائف، ونزل المدينة، وحج مع أبي بكر سنة تسع، وحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاش ستين سنة في الإسلام، وتوفي في خلافة يزيد، وكان له ولد اسمه سلمى، وكان أجود العرب، وفيه يقول الشاعر:
يسوَّد أقوام وليسوا بسادة ... بل السيد المحمود سلمى بن نوفل
ثم دخلت
سنة ثلاث وستين
فمن الحوادث فيها: أخرج أهل المدينة عامل يزيد وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان وخلعوا يزيد.


فذكر أبو الحسن المدائني عن أشياخه: أن أهل المدينة أتوا المنبر، فخلعوا يزيد، فقال عبد الله بن أبي عمرو بن حفص المخزومي: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي - ونزعها عن رأسه - وإني لا أقول هذا وقد وصلني وأحسن جائزتي، ولكن عدو الله سكير.
وقال آخر: قد خلعته كما خلعت نعلي، حتى كثرت العمائم والنعال، ثم ولوا على قريش عبد الله بن مطيع، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة، ثم حاصر القوم من كان بالمدينة من بني أمية ومواليهم ومن يرى رأيهم.
فكتب مروان وجماعة من بني أمية إلى يزيد: إنا قد حصرنا في دار مروان، ومنعنا العذب، فياغوثاه.
فوصل الكتاب إليه وهو جالس على كرسي واضع قدميه في ماء في طست من وجع كان به - ويقال إنه كان به نقرس - ثم قال للرسول: أما يكون بنو أمية ومواليهم بالمدينة ألف رجل؟ فقال: بلى وأكثر، قال: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار،فقال: أجمع الناس عليهم، فلم يكن بهم طاقة، فبعث إلى عمرو بن سعيد فأقرأه الكتاب وأمره أن يسير إليهم، فقال: قد كنت ضبطت لك البلاد وأحكمت لك الأمور، فأما الآن فإنما هي دماء قريش تهراق، فلا أحب أن أتولى ذلك.
قال: فبعثني بالكتاب إلى مسلم بن عقبة وهو شيخ كبير، فجاء حتى دخل على يزيد، فقال: أخرج وسر بالناس. فخرج مناديه فنادى: أن سيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملاً ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل من ساعته، فانتدب لذلك اثني عشر ألفاً، وكتب يزيد إلى ابن مرجانة: أن اغز ابن الزبير، فقال: لا والله لا أجمعهما للفاسق أبداً؛ أقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغزو البيت.
وفصل ذلك الجيش من عند يزيد وعليهم مسلم بن عقبة، وقال له: إن حدث بك حادث فاستخلف في الجيش حصين بن نمير السكوني، وقال له: ادع القوم ثلاثاً، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثاً، فما فيها من مال أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عنهم، وانظر علي بن الحسين فاستوص به خيراً، أدن مجلسه فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه.
وأقبل مسلم بن عقبة بالجيش حتى إذا بلغ أهل المدينة إقباله وثبوا على من معهم من بني أمية فحصروهم في دار مروان، فقالوا: لا والله لا نكف عنكم حتى نستنزلكم، ونضرب أعناقكم، أو تعطونا عهد الله وميثاقه أن لا تبغونا غائلة، ولا تدلوا لنا على عورة، ولا تظاهروا علينا عدواً، فأعطوهم العهد على ذلك، فأخرجوهم من المدينة، فخرجوا بأثقالهم حتى لقوا مسلم بن عقبة بوادي القرى، فدعا بعمرو بن عثمان وقال له: أخبرني ما وراءك، وأشر علي، قال: لا أستطيع أن أخبرك شيئاً، أخذت علينا العهود والمواثيق أن لا ندلك على عورة، فانتهره وقال: لولا أنك ابن عثمان لضربت، وأيم الله لا أقيلها قرشياً بعدك، فخرج بما لقي من عنده إلى أصحابه، فقال مروان لابنه عبد الملك: ادخل قبلي لعله يجتزئ بك عني، فدخل عليه عبد الملك، فقال: هات ما عندك، أخبرني خبر الناس، وكيف ترى؟ فقال له: أرى أن تسير بمن معك حتى تأتيهم من قبل الحرة، ففعل وقال: يا أهل المدينة، إن أمير المؤمنين يزيد يزعم أنكم الأصل، ويقول: إني أكره إراقة دمائكم، وإني أؤجلكم ثلاثاً، فمن راجع الحق أمنته ورجعت عنكم وسرت إلى هذا الملحد الذي بمكة، وإن أبيتم قد أعذرنا إليكم، فلما مضت الأيام الثلاثة قال: يا أهل المدينة ما تصنعون؟ قالوا: نحارب، فقال: لا تفعلوا وادخلوا في الطاعة، فقالوا: لا نفعل. وكانوا قد اتخذوا خندقاً ونزل منهم جماعة وكان عليهم عبد الرحمن بن زهير بن عبد عوف، وكان عبد الله بن مطيع على ربع آخر في جانب المدينة، وكان معقل بن سنان الأشجعي على ربع آخر وكان أمير جماعتهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري في أعظم تلك الأرباع وأكثرها عدداً.
وقيل: كان ابن مطيع على قريش، وابن حنظلة على الأنصار، ومعقل بن سنان على المهاجرين.


فحمل ابن الغسيل على الخيل حتى كشفها، وقاتلوا قتالاً شديداً، وجعل مسلم يحرض أصحابه - وكان مريضاً، فنصب له سرير بين الصفين - وقال: قاتلوا عن أميركم، وأباح مسلم المدينة ثلاثاً، يقتلون الناس ويأخذون الأموال، فأرسلت سعدى بنت عوف المرية إلى مسلم: تقول بنت عمك مر أصحابك لا يعترضوا الإبل لنا بمكان كذا، فقال: لا تبدأوا إلا بها. وجاءت امرأة إلى مسلم وقالت: أنا مولاتك وابني في الأسرى، فقال: عجلوه لمكانها، فضربت عنقه وقال: أعطوها رأسه، أما ترضين أن لا تقتلي حتى تكلمي في ابنك، ووقعوا على النساء، وقاتل عبد الله ابن مطيع حتى قتل هو وبنون له سبعة، وبعث برأسه إلى يزيد.
فأفزع ما جرى من كان بالمدينة من الصحابة، فخرج أبو سعيد الخدري حتى دخل الجبل، فدخل عليه رجل بسيف، فقال: من أنت؟ فقال: أبو سعيد، فتركه.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الواحد، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شيبة البزاز، قال: أخبرنا أحمد بن الحارث الخزاز، قال: حدثنا أبو الحسن المدائني، عن أبي عبد الرحمن القرشي، عن خالد الكندي، عن عمته أم الهيثم بنت يزيد، قالت: رأيت امرأة من قريش تطوف، فعرض لها أسود، فعانقته وقبلته، فقلت: يا أمة الله، أتفعلين هذا بهذا الأسود، قالت: هو ابني وقع علي أبوه يوم الحرة، فولدت هذا.
وعن المدائني، عن أبي قرة، قال: قال هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة بعد الحرة من غير زوج، ثم دعى مسلم بالناس إلى البيعة ليزيد، وقال: بايعوا على أنكم خول له، وأموالكم له، فقال يزيد بن عبد الله بن ربيعة: نبايع على كتاب الله، فأمر به فضربت عنقه، وبدأ بعمرو بن عثمان، فقال: هذا الخبيث ابن الطيب، فأمر به فنتفت لحيته.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن عبد الواحد، قال: أخبرنا أبو بكر بن شاذان، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شيبة، قال: أخبرنا أحمد بن الحارث، قال: حدثنا المدائني، عن حويرثة وابن جعدية: أن مسلماً نظر إلى قتلى الحرة، فقال: إن دخلت النار..... بعدها ولا إني لشقي.
وأسر مسلم أسراء فحبسهم ثلاثة أيام لم يطعموا فجاءوا بسعيد بن المسيب إلى مسلم، فقالوا: بايع، فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فأمر بضرب عنقه، فشهد له رجل أنه مجنون فخلى عنه.
وعن المدائني، عن علي بن عبد الله القرشي، وأبي إسحاق التميميي، قال: لما انهزم أهل المدينة والصبيان، فقال ابن عمر: بعثمان ورب الكعبة.
وعن المدائني، عن محمد بن عمر قال: قال ذكوان مولى مروان: شرب مسلم بن عقبة دواء بعدما انهب المدينة، ودعا بالغداء، فقال له الطبيب: لا تعجل فإني أخاف عليك إن أكلت قبل أن يعمل الدواء، قال: ويحك، إنما أحب البقاء حتى أشفي قلبي - أو قال: نفسي - من قتلة عثمان، فقد أدركت ما أردت فليس شيء أحب إلي من الموت على طهارتي، فإني لا أشك أن الله قد طهرني من ذنوبي بقتلي هؤلاء الأرجاس.
وعن المدائني، عن شيخ من أهل المدينة، قال: سألت الزهري: كم كانت القتلى يوم الحرة؟ قال: سبعمائة من وجوه الناس من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الموالي، وممن لا يعرف من عبد وحر وامرأة عشرة آلاف، وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وانتهبوا المدينة ثلاثة أيام.


وعن المدائني، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن رجل من قريش، قال: كنت أنزل بذي الحليفة فدخلت المسجد فإذا رجل مريض، قلت: من أنت؟ قال: أنا رجل من خثعم أقبلت نجران فمرضت فتركني أصحابي ومضوا، فحولته إلى المنزل، فكان عندنا حتى صح، وأقام عندنا حيناً كرجل منا، وعملت لصاحبتي حلياً بمائة دينار وهو يرى ذلك، ثم خرج إلى الشام، فقدم المدينة أيام الحرة وقد تحولنا من ذي الحليفة إلى المدينة، فلما انتهب مسلم المدينة أتانا في جماعة فسمعت الجلبة في الدار، فخرجت فإذا أنا به وأصحابه خارجاً، فقلت له: قد كنا نتمناك، قال: ما جئت إلا لأدفع عن دمك، ولكني آخذ مالك، فإن الأمير قد أمرنا بالنهب، وسيؤخذ ما عندك وأنا أحق به، فقلت: أنت لعمري أحق به، فاصرف أصحابك وخذه وحدك، فخرج فرد أصحابه ورجع، فقال: ما فعل الحلي؟ قلت: على حاله، قال: فهاته، قلت: هو مدفون بذي الحليفة عند البئر التي رأيت، فإذا أمسينا خرجنا إليها فأدفعه إليك. فلما أمسيت خرجت أنا وهو وتبعني ابنان لي حتى انتهينا إلى البئر وطولها ثلاثون ذراعاً، فأخذناه أنا وابناي، فشددناه وثاقاً، وأرميناه في البئر ودفناه ورجعنا فلما أصبحنا إذا رجل ممن كان معه بالأمس قد أتانا فقال: أين أبو المحرش؟ قلنا: غدا حين أصبح، قال: أراه والله خدعنا وأخذ المتاع، قلنا: ما أخذ شيئاً، ادخل فانظر، فدخل فأغلقنا عليه الباب وقتلناه.
وعن المدائني، عن سلمان بن أبي سلمان، عن بكر بن إبراهيم بن نعيم بن النحام، قال: مر ركب من أهل اليمن إلى الشام يريدونه ومعهم رجل مريض، فأرادوا دفنه وهو حي، فمنعهم أبي فمضوا وخلفوه، فلم يلبث أن برئ وصح، فجهزه أبي وحمله، وكان ممن قدم مع مسلم، فرأته جارية لنا، فعرفته، فقالت: عمرو، فقال: نعم وعرفها، قال: ما فعل أبو إسحاق؟ قالت: قتل، فقال لأصحابه: هؤلاء أيسر أهل بيت بالمدينة، فانتهبوا منزلهم، فكان يضرب به المثل بالمدينة: " وأنت أقل شكراً من عمرو " .
ثم استخلف مسلم على المدينة روح بن زنباع، وسار إلى ابن الزبير، فاحتضر في الطريق، فقال لحصين بن نمير: إنك تقدم بمكة ولا منعة لهم ولا سلاح، ولهم جبال تشرف عليهم، فانصب عليهم المنجنيق فإنهم بين جبلين، فإن تعوذوا بالبيت فارمه واتجه على بنيانه.
قال أبو معشر والواقدي: كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
وقال بعضهم: لثلاث بقين منه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
ربيعة بن كعب الأسلمي أسلم قديماً وكان من أهل الصفة، وكان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبيت على بابه لحوائجه، ويغزو معه، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فنزل يين، وهي من بلاد أسلم، وهي على بريد من المدينة، وبقي إلى أيام الحرة.
أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: حدثنا أبو بكر بن مالك، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا يعقوب، قال: حدثنا أبي، عم ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن عمرو بن عطاء، عن نعيم، عن ربيعة بن كعب، قال:


كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، فأجلس ببابه إذا دخل بيته أقول: لعله أن تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فما أزال أسمعه يقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، وبحمده، حتى أمل فارجع أو تغلبني عيني فأرقد. قال: فقال لي يوماً لما يرى من خفتي له وخدمتي إياه: ياربيعة، سلني أعطك. قال: فقلت: أنظر في أمري يا رسول الله ثم أعلمك ذلك، قال: ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة، وأن لي فيها رزقاً سيكفيني ويأتيني. قال: فقلت: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي، فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به، قال: فجئته فقال: ما فعلت يا ربيعة؟ قال: فقلت: نعم يا رسول الله، أسألك أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار، قال: فقال: " من أمرك بهذا يا ربيعة؟ " قال: فقلت: لا والله الذي بعثك بالحق، ما أمرني به أحد، ولكنك لما قلت سلني أعطك، وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به نظرت في أمري وعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة، وأن لي فيها رزقاً سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخرتي، قال: فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، ثم قال لي: " إني لفاعل ذلك فأعني على نفسك بكثرة السجود " .
عبد الله بن حنظلة الغسيل ابن أبي عامر الراهب كان حنظلة لما أراد الخروج إلى أحد وقع على امرأته جميلة، فعلقت بعبد الله في شوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة، وقتل حنظلة يومئذ شهيداً فغسلته الملائكة، فيقال لولده: بنو غسيل الملائكة، وولدت جميلة عبد الله، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعبد الله سبع سنين.
ولما وثب أهل المدينة ليالي الحرة فأخرجوا بني أمية عن المدينة، وأظهروا عيب يزيد، أجمعوا على عبد الله، فأسندوا أمرهم إليه فبايعهم على الموت، وقال: يا قوم، اتقوا الله وحده، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إن رجلاً ينكح الأمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت فيه بلاء حسناً. فتواثب الناس يومئذ يبايعون من كل النواحي. وما كان لعبد الله بن حنظلة تلك الليالي مبيت إلا المسجد، فلما دخلوا المدينة قاتل حتى قتل يومئذ.
أبو عائشة الهمداني، واسمه مسروق بن الأجدع بن مالك سرق وهو صغير ثم وجد فسمي مسروقاً. ورأى أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وابن مسعود، وحضر مع علي حرب الخوارج بالنهروان، وقال عمر بن الخطاب: ما اسمك؟ فقال: مسروق بن الأجدع، فقال: مسروق بن عبد الرحمن.
وعمرو بن معدي كرب خال مسروق.
وقال ابن المديني: ما أقدم على مسروق أحداً من أصحاب عبد الله.
أخبرنا ابن منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال: أخبرنا دعلج، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي طالب، قال: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حجاج، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: حج مسروق فلم ينم إلا ساجداً على وجهه حتى رجع.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: حدثنا ابن رزق، قال: أخبرنا أحمد بن سلمان، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثني أزهر بن مروان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أنس بن سيرين، أن امرأة مسروق قالت: كان يصلي حتى ورمت قدماه، فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه.
توفي مسروق رضي الله عنه بالكوفة في هذه السنة، وهي سنة ثلاث وستين، وله ثلاث وستون سنة.
ثم دخلت
سنة أربع وستين
فمن الحوادث فيها: مسير أهل الشام إلى مكة لحرب عبد الله بن الزبير ومن كان على مثل رأيه في الامتناع على يزيد بن معاوية قال علماء السير: لما فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثاً، شخص بمن معه من الجند متوجهاً نحو مكة، وخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامي.
وقيل: خلف عمرو بن محرز الأشجعي.


فسار ابن عقبة حتى إذا انتهى إلى فقا المشلل نزل به الموت، وذلك في آخر المحرم سنة أربع وستين، فدعا حصين بن نمير السكوني، فقال له: يا برذعة الحمار، أما لو كان هذا الأمر إلي ما وليتك هذا الجند، ولكن أمير المؤمنين ولاك بعدي، وليس لأمر مترك، أسرع المسير، ولا تؤخر ابن الزبير ثلاثاً حتى تناجزه، ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملاً قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله أحب إلي من قتل أهل المدينة، ولا أرجى عندي في الآخرة. ومات فدفن بالمشلل.
ثم خرج الحصين بن نمير بالناس، فقدم على ابن الزبير مكة لأربع بقين من المحرم، فحاصر ابن الزبير أربعاً وستين يوماً حتى جاءهم - يعني يزيد بن معاوية - لهلال ربيع الآخر، وكان القتال في هذه المدة شديداً، وقذف البيت بالمجانيق في يوم السبت ثالث ربيع الأول، وأحرق بالنار، وكانوا يرتجزون ويقولون:
كيف ترى صنيع أم فروة ... تأخذهم بين الصفا والمروة
يريدون بأم فروة: المنجنيق.
وروى الواقدي، عن أشياخه: أنهم كانوا يوقدون حول البيت، فأقبلت شرارة فأحرقت ثياب الكعبة وخشب البيت في يوم السبت ثالث ربيع الأول.
وفي رواية: أن رجلاً أخذ قبساً في رأس رمح له، فطارت به الريح فاحترق.
وروى المدائني، عن أبي بكر الهذلي، قال: لما سار أهل الشام فحاصروا ابن الزبير سمع أصواتاً من الليل فوق الجبل، فخاف أن يكون أهل الشام قد وصل إليه، وكانت ليلة ظلماء ذات ريح شديدة ورعد وبرق، فرفع ناراً على رأس رمح لينظر إلى الناس، فأطارتها الريح فوقعت على أستار الكعبة فاحرقتها واستطارت فيها، وجهد الناس في إطفائها فلم يقدروا فأصبحت الكعبة تتهافت، وماتت امرأة من قريش، فخرج الناس كلهم مع جنازتها خوفاً من أن ينزل العذاب عليهم، وأصبح ابن الزبير ساجداً يدعو ويقول: اللهم إني لم أعتمد ما جرى، فلا تهلك عبادي بذنبي، وهذه ناصيتي بين يديك. فلما تعالى النهار أمن الناس وتراجعوا، فقال لهم: ينهدم في بيت أحدكم حجر فيبنيه ويصلحه، وأترك الكعبة خراباً. ثم هدمها مبتدئاً بيده، وتبعه الفعلة إلى أن بلغوا إلى قواعدها، ودعى بنائين من الفرس والروم. فبناها.
وفي هذه السنة: جاء نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر.
وفيها: بويع لمعاوية بن يزيد بالشام بالخلافة، ولعبد الله بن الزبير بالحجاز.
ولما هلك يزيد مكث الحصين بن نمير وأهل الشام يقاتلون ابن الزبير ولا يعلمون بموت يزيد أربعين يوماً وقد حصروهم حصاراً شديداً، وضيقوا عليهم، فبلغ موته ابن الزبير قبل أن يبلغ حصين، فصاح بهم ابن الزبير: إن طاغيتكم قد هلك، فمن شاء منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، ومن كره فليلحق بشآمه، فما صدقوا، حتى قدم ثابت بن قيس بن المنقع النخعي، فأخبر الحصين بذلك، فبعث الحصين بن نمير إلى ابن الزبير: موعد ما بيننا وبينك الليلة الأبطح. فالتقيا، فقال له الحصين: إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق بهذا الأمر، هلم فلنبايعك، ثم اخرج معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذين معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك. فقال: لا افعل، ولأقتلن بكل رجل عشرة. فقال الحصين: قد كنت أظن أن لك رأياً، أنا أدعوك إلى الخلافة وأنت تعدني بالقتل.
ثم خرج وصاح في الناس فأقبل بهم نحو المدينة، وندم ابن الزبير على ما صنع، فأرسل إليه: أما أن أسير إلى الشام فلست فاعلاً لأني أكره الخروج من مكة، ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم. فقال الحصين: أرأيت إن لم تقدم بنفسك، ووجدت هناك أناساً كثيراً من أهل هذا البيت يطلبونها يجيبهم الناس، فما أنا صانع؟ فأقبل بأصحابه ومن معه نحو المدينة، فاستقبله علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام فذلوا حتى كان لا ينفرد منهم رجل إلا أخذ بلجام دابته فنكس عنها. فقالت لهم بنو أمية: لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشام، ففعلوا ومضى ذلك الجيش حتى دخلوا الشام وقد أوصى يزيد بالبيعة لابنه معاوية.
وفي هذه السنة: بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد


على أن يقوم لهم بأمرهم حتى يصطلح الناس على إمام يرتضونه لأنفسهم، ثم أرسل عبيد الله رسولاً إلى أهل الكوفة يدعوهم إلى مثل ذلك فأبوا عليه، وحصبوا الوالي الذي كان عليهم.
وذلك أنه لما بلغت عبيد الله وفاة يزيد، قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أهل البصرة، لقد وليتكم وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألف مقاتل، ولقد أحصى اليوم ثمانين ألف مقاتل، وما أحصى ديوان عمالكم إلا تسعين ألفاً، ولقد أحصى اليوم مائة ألف وأربعين ألفاً، وما تركت لكم ذا ظنة أخافه عليكم إلا وهو في سجنكم، وإن أمير المؤمنين يزيد قد توفي، وقد اختلف أهل الشام وأنتم اليوم اكثر الناس عدداً، وأوسعهم بلاداً، وأغنى عن الناس، فاختاروا لأنفسكم رجلاً ترضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راض من رضيتموه، فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترضونه دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم على جديلتكم حتى تعطوا حاجتكم، فما لكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة.
فقامت خطباء أهل البصرة فقالوا: والله ما نعلم أحداً أقوى منك عليها، فهلم نبايعك، فقال، لا حاجة لي في ذلك، فاختاروا لأنفسكم، فأبوا غيره وأبى عليهم حتى كرروا ذلك ثلاث مرات. فلما أبوا بسط يده فبايعوه. ثم خرجوا يمسحون أكفهم بباب الدار وحيطانه، وجعلوا يقولون: أظن ابن مرجانة أنا نوليه أمرنا في الفرقة. فكان يامر بالأمر فلا ينفذ، ويرى الرأي فيرد عليه رأيه.
فأقام كذلك ثلاثة أشهر، وقدم مسلمة بن ذؤيب فدعا الناس إلى بيعة ابن الزبير، فمالوا إليه وتركوا ابن زياد، فكان في بيت المال تسعة عشر ألف ألف، ففرق ابن زياد بعضها في بني أمية وحمل الباقي معه، وخرج في الليل يتخفى، فعرفه رجل فضربه بسهم فوقع في عمامته وأفلت، فطلبوه فمات وانتهبوا ما وجدوا له فطلب الناس من ثار عليهم، فبايعوا عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، فولي أمرهم أربعة أشهر، ثم ولي عبيد الله بن معمر على البصرة.
وفي هذه السنة: وقع الطاعون الجارف بالبصرة.
فماتت أم ابن معمر الأمير، فما وجدوا من يحملها حتى استأجروا لها أربعة أنفس، وكان وقوع هذا الطاعون أربعة أيام، فمات في اليوم الأول سبعون ألفاً، وفي اليوم الثاني واحد وسبعون ألفاً، وفي اليوم الثالث ثلاثة وسبعون ألفاً، وأصبح الناس في اليوم الرابع موتى إلا قليلاً من الآحاد.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أنبأنا أحمد بن أحمد الحداد، قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثنا أحمد بن عصام، قال: حدثني معدي عن رجل يكنى أبا النفيد وكان قد أدرك زمن الطاعون، قال: كنا نطوف في القبائل وندفن الموتى، ولما كثروا لم نقو على الدفن، فكنا ندخل الدار قد مات أهلها فنسد بابها، قال: فدخلنا داراً ففتشناها فلم نجد فيها أحداً حياً، فسددنا بابها، فلما مضت الطواعين كنا نطوف على القبائل ننزع تلك السدد التي سددناها، فانتزعنا سد ذلك الباب الذي دخلناه ففتشنا الدار فلم نجد أحداً حياً، فإذا نحن بغلام في وسط الدار طري دهين كأنما أخذ ساعته من حجر أمه. قال: ونحن وقوف على الغلام نتعجب منه فدخلت كلبة من شق في الحائط تلوذ بالغلام، والغلام يحبو إليها حتى مص من لبنها، فقال معدي: رأيت هذا الغلام في مسجد البصرة قد قبض على لحيته.
وقيل: كان هذا الطاعون في سنة تسع وستين.
وفي هذه السنة: طرد أهل الكوفة عمرو بن حريث وأمّروا عامر بن مسعود


وكان ابن زياد قد قتل من الخوارج ثلاثة عشر ألفاً وحبس أربعة آلاف، فلما هلك يزيد قام خطيباً فقال: إن الذي كنا نقاتل عن طاعته قد مات، فإن أمرتموني جبيت فيئكم، وقاتلت عدوكم. وبعث بذلك إلى أهل الكوفة مقاتل بن مسمع، وسعيد بن قرحا المازني، فقام عمرو بن حريث، وقال: إن هذين الرجلين قد أتياكم من قبل أميركم يدعوانكم إلى أمر يجمع الله به كلمتكم فاسمعوا لهما، فقام ابن الحارث وهو يزيد، فقال: الحمد لله الذي أراحنا من ابن سمية، فأمر به عمرو إلى السجن فحالت بينه وبينه بكر، وصعد عمرو المنبر فحصبوه، فدخل داره، واجتمع الناس في المسجد وقالوا: نؤمر رجلاً إلى أن يجتمع الناس على خليفة، فأجمعوا على عمرو بن سعد بن أبي وقاص، ثم أجمعوا على عامر بن مسعود، وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير، فأقره، واجتمع لابن الزبير أهل البصرة وأهل الكوفة ومن قبله من العرب وأهل الشام وأهل الجزيرة إلا أهل الأردن.
وفي هذه السنة: بويع لمروان بالخلافة في الشام وسبب ذلك أن ابن الزبير كتب إلى عامله بالمدينة أن يخرج بني أمية، فخرجوا وخرج معهم مروان بن الحكم إلى الشام - وعبد الملك يومئذ ابن ثمان وعشرين سنة، فكان من رأي مروان أن يرحل إلى ابن الزبير ويبايعه. فقدم عبيد الله بن زياد، فاجتمعت عنده بنو أمية ، فقال لمروان: استحييت لك مما تريده، أنت كبير قريش وسيدها، تصنع ما تصنع، فقال: والله ما فات شيء بعد، فقام معه بنو أمية ومواليهم، فبايعوه بالجابية لثلاث خلون من ذي القعدة، وتجمع إليه أهل اليمن، فسار وهو يقول: ما فات شيء بعد، فقدم دمشق وقد بايع أهلها الضحاك بن قيس الفهري على أن يصلي بهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان ابن الضحاك يهوى هوى ابن الزبير، فيعمل في ذلك سراً خوفاً من بني أمية، وثار زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين يبايع لابن الزبير، واختلف أهل دمشق فخرج مروان فقتله وقتل أصحابه وقتل النعمان بن بشير الأنصاري - وكان على حمص - وأطبق أهل الشام على مروان، فخرج مروان حتى أتى مصر وعليها عبد الرحمن بن جحدم القرشي يدعو إلى ابن الزبير، فخرج إليه فيمن معه من بني فهر، وبعث مروان عمرو بن سعيد الأشدق من ورائه حتى دخل مصر، وقام على منبرها للناس، وأمر مروان الناس فبايعوه، ثم رجع إلى دمشق حتى إذا دنا منها بلغه أن ابن الزبير قد بعث أخاه مصعب بن الزبير نحو فلسطين، فسرح إليه مروان عمرو بن سعيد الأسدي في جيش، فاستقبله قبل أن يدخل الشام، فقاتله فهزم أصحاب مصعب. وقيل لمروان: إنما ينظر الناس إلى هذا الغلام - يعنون خالد بن يزيد بن معاوية - فتزوج أمه فيكون في حجرك، فتزوجها، ثم جمع بني أمية فبايعوه.
وفي هذه السنة: بايع أهل خراسان سالم بن زياد بعد موت يزيد بن معاوية ، وبعد موت ابنه معاوية، على أن يقوم بأمرهم حتى يجتمع الناس على خليفة.
وفيها كانت فتنة عبد الله بن خازم بخراسان وذلك أن سالم بن زياد بعث بما أصاب من هدايا سمرقند وخوارزم إلى يزيد بن معاوية مع عبد الله بن خازم، وأقام سلم والياً على خراسان حتى مات يزيد وابنه معاوية، فلما بلغه ذلك دعا الناس إلى البيعة على الرضا حتى يستقيم الناس على خليفة، فبايعوه، وكانوا يحبونه حتى أنهم سمّوا في سني ولايته أكثر من عشرين ألف مولود بسلم.
وأقاموا على بيعته شهرين ثم نكثوا. فخرج عن خراسان وخلف عليها المهلب بن أبي صفرة، فلقيه عبد الله بن خازم، فقال له: اكتب لي عهداً على خراسان، فكتب له، فقال: أعني الآن بمائة ألف درهم، ففعل، وأقبل فغلب على مرو، وجرت له حروب كثيرة.
وفي هذه السنة: تحركت الشيعة بالكوفة واتعدوا للاجتماع بالنخيلة بالمسير إلى أهل الشام للطلب بدم الحسين عليه السلام وتكاتبوا في ذلك.
ومنذ قتل الحسين عليه السلام كانوا يتلاومون بينهم ويندمون على ترك نصرته، فرأوا أنهم قد جنوا جناية لا يكفرها إلا الطلب بدمه.


فاجتمع من ملأهم جماعة في بيت سليمان بن صرد، وتعاهدوا وجاءوا بأموال يجهزون بها من يعينهم، وكاتبوا شيعتهم وضربوا أجلاً ومكاناً، فجعلوا الأجل غرة شهر ربيع الآخر من سنة خمس وستين، والموطن النخيلة، وابتدأوا في أمورهم في سنة إحدى وستين وهي السنة التي قتل فيها الحسين عليه السلام، وما زالوا في الاستعداد ودعاء الناس في السر حتى مات يزيد، فخرجت حينئذ منهم دعاة يدعون الناس، فاستجاب لهم خلق كثير. وكان عبد الله بن زياد قد حبس المختار بن أبي عبيد لعلمه بميله إلى شيعة علي، فكتب ابن عمر إلى يزيد: أن ابن زياد قد حبس المختار وهو صهري، فإن رأيت أن تكتب إلى ابن زياد يخليه، فكتب إليه يأمره بتخليته فدعاه وقال: قد أجلتك ثلاثاً فإن أدركتك بالكوفة بعدها برئت منك الذمة، فخرج إلى الحجاز، وكان يقول: والله لأقتلن بالحسين عدة من قتل على دم يحيى بن زكريا، فقدم على ابن الزبير فرحب به، فقال له: ما تنتظر، ابسط يدك نبايعك، ثم مضى إلى الطائف، ثم عاد بعد سنة فبايع ابن الزبير وقاتل معه وأقام عنده حتى هلك يزيد، ثم وثب فركب راحلته نحو الكوفة، فقدمها في النصف من رمضان يوم الجمعة بعد ستة أشهر من هلاك يزيد.
ورأى المختار اجتماع رؤوس الشيعة على سلمان بن صرد، فقال لهم: إني قد جئتكم من قبل المهدي محمد بن الحنفية، فانشعبت إليه طائفة من الشيعة.
وكان المختار يقول لهم: إنما يريد سليمان أن يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم، فإنه ليس له بصر بالحروب.
وكان سليمان بن صرد وأصحابه يريدون الوثوب بالكوفة وأميرها يومئذ عبد الله بن يزيد الأنصاري من قبل ابن الزبير، فبلغه ذلك فقال: وما الذي يريدون؟ قيل: إنهم يطلبون بدم الحسين، قال: وأنل قتلت الحسين، لعن الله قاتل الحسين. ثم خطب فقال: قد بلغني أن طائفة من أهل هذا المصر يريدون الخروج علينا يطلبون فيما زعموا بدم الحسين، فرحم الله هؤلاء القوم، والله ما قتلته، وقد أصبت بمقتله. فإن هؤلاء القوم آمنون فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين، ثم نسير إلى قاتل الحسين وأنا لهم على قاتله ظهير، هذا ابن زياد قاتل الحسين وقاتل خياركم قد توجه إليكم، والاستعداد له أولى من أن تجعلوا بأسكم بينكم.
فخرج سليمان بن صرد وأصحابه ينشرون السلاح ظاهرين، ويشترون ويجتهزون لجهادهم بما يصلحهم، وجعل المختار ينتظر ما يصير إليه أمر سليمان بن صرد.
فخرج سليمان نحو الجزيرة، فجاء قوم إلى عبد الله بن يزيد أمير البلدة فحذروه المختار، وأخذوا المختار فحبسوه وقيدوه فجعل يقول: أما ورب البحار، والنخل والأشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار، ومهند بتار في جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار، ولا بعزل أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، ورأبت شعب صدع المؤمنين، وشفيت غليل صدور المسلمين، وأدركت بثأر النبيين.
وفي هذه السنة: هدم ابن الزبير الكعبة وكانت حيطانها قد مالت مما رميت به من حجارة المنجنيق فهدمها حتى سواها بالأرض، وحفر أساسها وأدخل الحجر فيها، وجعل الركن الأسود عنده في سرقة من حرير في تابوت، وجعل ما كان من حلي البيت وما وجد فيه من ثياب أو طيب عند الحجبة في خزانة البيت حتى أعادها لما أعاد بناءه.
وفي هذه السنة: حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان عامله على المدينة أخوه عبيد الله بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وعلى قضائها سعيد بن نمران.
وأبى شريح أن يقضي فيها، وقال: لا أقضي في الفتنة. وكان على االبصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عبد الله بن سوار بن همام العبدي وكان شريفاً جواداً، وولاه معاوية السند.
أنبأنا ابن ناصر، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحميدي، قال: حدثنا محمد بن سلامة القضاعي، قال: أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب، قال: حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا العكلي، عن عبد الله بن أبي خالد، عن الهيثم بن عدي، عن رجاله، قالوا:


وفد على عبد الله بن سوار بن همام العبدي رجل من أهل البصرة وهو عامل معاوية على السند، فانتظر إذنه ثلاثاً ثم دخل عليه فأنكره، فقال: من الرجل؟ قال: من أهل البصرة من بني تميم من بني سعد، قال: وما وراءك؟ قال: حرمة أمت بها، قال: وما هي؟ قال: كنت تمر بمجلس بني سور فتسلم فأرد عليك أتم من سلامك بأجهر من كلامك، وأتبعك بدعائي من بين رجال قومي قال: حرمة والله.
وكان عبد الله بن سوار شريفاً جواداً، فقال: ما حاجتك؟ قال: أملي، قال: وما أملك؟ قال: ما أستغني به عن غيرك إن عشت، وتنمو به عقبي إن مت. فأمر له بثلاثين ألفاً، وكساه وقال: هي لك عندي في كل سنة إن أبقاني لك الدهر.
معاوية بن يزيد بن معاوية، أبو ليلى ويقال أبو عبد الرحمن عبد الله ولي بعد أبيه يزيد وهو ابن تسع عشرة سنة. وقيل: ثلاثة عشر وثمانية عشر يوماً.
وبويع له بالشام فأقام نحو ثلاثة أشهر. وقيل: أربعين ليلة. وتوفي في هذه السنة.
وكان خيراً ذا دين، سألته، أمه أم هانئ بنت أبي هشام بن عتبة بن ربيعة في مرضه أن يستخلف أخاه خالداً بن يزيد فأبى وقال: والله لا أحملها حياً وميتاً، فقالت له: وددت أنك كنت نسياً منسياً ولم تضعف هذا الضعف، قال: وددت أني كنت نسياً منسياً ولم أسمع بذكر جهنم، ثم قال: يا حسان بن مالك، اضبط ما قبلك وصل بالناس إلى أن يرضى المسلمون بإمام يحققون عليه.
وروى أبو جعفر الطبري: أنه خطب الناس فقال: إني نظرت في أمركم فصعقت عنه فابتغيت لكم رجلاً مثل عمر بن الخطاب حين فزع إليه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت لكم سنة الشورى مثل سنة عثمان ولم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم، ثم دخل منزله ولم يخرج إلى الناس. فقال بعض الناس: إنه دس إليه فسقي سماً. وقيل: بل طاعن.
المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، أبو عبد الرحمن أمه عاتكة بن عوف، أخت عبد الرحمن بن عوف من المهاجرات المبايعات، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسور ابن ثمان سنين، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يلازم عمر بن الخطاب ويحفظ عنه، وكان من أهل الفضل والدين، ولم يزل مع خاله عبد الرحمن مقبلاً ومدبراً في أمر الشورى، ثم انحاز إلى مكة حين توفي معاوية، وكره بيعة يزيد، فلم يزل هنالك حتى قدم الحصين بن نمير وحضر حصار ابن الزبير.
أنبأنا الحسين البارع، قال: أخبرنا ابن مسلمة، قال: أخبرنا المخلص، قال: أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: أخبرنا الزبير بن بكار، قال: حدثني إبراهيم بن حمزة، قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببرود من اليمن فقسمها بين المهاجرين والأنصار، وكان فيها برد فائق، فقال: إن أعطيته أحداً منهم غضب أصحابه ورأوا أنه فضلته عليهم، فدلوني على فتى من قريش نشا نشأة حسنة أعطيه إياه، فأسموه المسور بن مخرمة، فدفعه إليه، فنظر إليه سعد بن أبي وقاص على المسور، فقال: ما هذا؟ قال: كسانيه أمير المؤمنين، فجاء سعد إلى عمر فقال: تكسوني هذا البرد وتكسو ابن أخي أفضل منه؟ فقال: يا أبا إسحاق، إني كرهت أن أعطيه أحداً منكم فيغضب أصحابه فأعطيته فتى نشا نشأة حسنة حتى لا يتوهم فيه أني أفضله عليكم، فقال سعد: فإني قد حلفت لأضربن بالبرد الذي أعطيتني رأسك، فخضع له عمر رأسه وقال: عندك يا أبا إسحاق فارفق الشيخ بالشيخ، فضرب رأسه بالبرد.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا عبد الملك بن عمرو، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور: أن المسور كان لا يشرب من الماء الذي يوضع في المسجد ويكرهه ويرى أنه صدقة، وأنه احتكر طعاماً فرأى سحاباً من سحاب الخريف فكرهه، فلما أصبح أتى السوق فقال: من جاءني وليته، فبلغ ذلك عمر الخطاب، فأتاه بالسوق فقال: أجننت يا مسور؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت سحاباً من سحاب الخريف فكرهته، فكرهت ما ينفع المسلمين، فكرهت أن أربح فيه وأردت ألا أربح فيه، فقال عمر: جزاك الله خيراً.
قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور، عن أبيها:


أنه كان يصوم الدهر وأنه أصابه حجر من المنجنيق، ضرب البيت فانفلق منه فلقة فأصابت جدار المسور وهو قائم يصلي، فمرض منها أياماً ثم هلك في اليوم الذي جاء فيه نعي يزيد بن معاوية بمكة، وابن الزبير يومئذ لا يتسمى بالخلافة والأمر شورى، وهو ابن اثنتين وستين سنة.
يزيد بن الأسود الجرشي كان عبداً صالحاً، وكان القطر قد احتبس في زمن معاوية، فصعد المنبر ودعاء فصعد إليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود، فسقى الناس، ثم جرى له مثل هذا مع الضحاك من قيس.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا سعيد بن أسد، قال: حدثنا ضمرة، عن ابن أبي جميلة، قال: أصاب الناس قحط بدمشق، وعلى الناس الضحاك بن قيس الفهري، فخرج بالناس يستسقي، فقال: أين يزيد بن الأسود الجرشي، فلم يجبه أحد مراراً، فقال: عزمت عليه أن يسمع كلامي إلا قام، فقام فرفع يديه فقال: اللهم يا رب إن عبادك تقربوا إليك فاسقهم، فانصرف الناس وهم يخوضون الماء، فقال: اللهم إنه قد شهرني فأرحني منه، فما أتت عليه جمعة حتى قتل الضحاك.
يزيد بن معاوية بن أبي سفيان توفي لأربع عشر خلت من ربيع الأول من هذه السنة بقرية من قرى حمص يقال لها حوارين، وهو ابن خمس وثلاثين سنة. وقيل: تسع وثلاثين.
وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر وقال الواقدي: وثمانية أشهر إلا ثمان ليال.
ثم دخلت
سنة خمس وستين
فمن الحوادث فيها: شخوص التوابين إلى ابن زياد للطلب بدم الحسين عليه السلام وذلك أن سليمان بن صرد بعث إلى رؤوس أصحابه من الشيعة، فأتوه، فلما استهلوا هلال ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه إلى النخيلة فلم يعجبه عدد الناس، فبعث حكيم بن منقذ الكندي في خيل، وبعث الوليد بن غصين الكناني في خيل، فقال: اذهبا حتى تدخلا الكوفة، فناديا: يا لثاراث الحسين، فخرج منها خلق كثير، فنظر لما أصبح في ديوانه، فوجد الذين بايعوه على الخروج ستة عشر ألفاً لم يجتمع منهم إلا أربعة آلاف، فقال: أما يذكرون ما أعطونا من العهود، فقيل له: إن المختار يثبط الناس عنك، فأقام بالنخيلة ثلاثاً يبعث إلى المتخلفين فيذكرهم الله عز وجل، فخرج نحو من ألف رجل، فقال له المسيب ابن نجية الفزاري: إنك لا ينفعك إلا من أخرجته النية فاكمش في أمرك. فقام فقال: والله ما نأتي غنيمة نغنمها، ولا فيئاً نستفيئه، وما معنا من ذهب ولا فضة، وما هي إلا سيوفنا في عواتقنا، ورماحنا في أكفنا وزاد بمقدار البلغة إلى لقاء عدونا، فمن يرى غير هذا فلا يصحبنا.
فلما عزم على المسير، قال بعض أصحابه: إن قتلة الحسين بالكوفة عمر بن سعد ورؤوس القبائل، فأنى نذهب.
وقال آخرون: بل نقصد ابن زياد فهو الذي عبى الجنود إليه فإن ظهرنا عليه كان من بعده أهون شوكة، وكان عمر بن سعد في تلك الأيام لا بييت إلا في قصر الإمارة مخافة على نفسه، وجاء عبيد الله بن يزيد والي الكوفة إلى سليمان فقال: قم حتى نبعث معك جيشاً كثيفاً، فلم يقم وأدلج عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين، ولم يزل يسير إلى أن أتى قبر الحسين عليه السلام، فأقام عنده يوماً وليلة، فجعل أصحابه يبكون ويتمنون لو أصيبوا معه، وجعلوا يستغيثون: يا رب إنا خذلنا ابن بنت نبيك فاغفر لنا ما مضى منا وتب علينا.
ووصل كتاب عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد، وفيه: هذا كتاب ناصح محب، بلغني أنكم تسيرون بالعدد القليل إلى الجمع الكثير، وإنه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها تكل معاوله، وينزع وهو مذموم العقل والفعل، ومتى أصابكم عدوكم طمع في من وراءكم: " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً " . يا قوم، إن أيدينا وأيديكم واحدة، ومتى اجتمعت كلمتنا نظهر على عدونا.


فلما قرأ الكتاب على أصحابه، قال: ما ترون؟ قالوا: إنا قد أبينا هذا عليهم ونحن في مصرنا، فالآن حين دنونا من أرض العدو، ما هذا برأي. فساروا مجدين إلى أن وصلوا عين وردة، فأقاموا بها خمساً، فأقبل أهل الشام في عساكرهم، فقدم المسيب بن نجية فلقي أوائل القوم فأصابهم بالجراح فانهزموا فأخذوا منهم ما خف، فبلغ الخبر ابن زياد، فبعث الحصين بن نمير مسرعاً في اثني عشر ألفاً، فاقتتلوا فكان الظفر لسليمان إلى أن حجز بينهم الليل فأمدهم ابن زياد بذي الكلاع في ثمانية آلاف فكثروهم، فنزل سليمان ونادى: عباد الله، من أراد البكور إلى ربه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإلي؛ ثم كسر جفن سيفه، ونزل ناس كثير، فقاتلوا فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة. فاكتنفهم القوم ورموهم بالنبل، فقتل سليمان ثم المسيب وقتل الخلق.
فلما جن الليل ذهب فل القوم تحت الليل، فأصبح الحصين فوجدهم قد ذهبوا، فلم يبعث في آثارهم أحداً، وكان قد خرج جماعة من أهل البصرة وجماعة من أهل المدائن وأهل الكوفة، فبلغهم الخبر فرجعوا إلى بلادهم، فقال المختار لأصحابه: عدوا لغازيكم هذا أكثر من عشر، ودون الشهر، ثم يجيئكم بضرب هبر، وطعن نتر، وأن سليمان قد قضى ما عليه، وليس بصاحبكم الذي به تنصرون، أنا قاتل الجبارين والمنتقم من الأعداء.
وفي هذه السنة: أمر مروان بن الحكم أهل الشام بعقد البيعة لابنيه عبد الملك وعبد العزيز وجعلهما وليي عهده، وكان مروان قد بعث عمرو بن سعيد بن العاص إلى مصعب بن الزبير حين وجهه أخوه عبد الله بن الزبير إلى فلسطين، فهزم ابن الزبير ورجع إلى مروان في دمشق، وبلغ مروان أن عمراً يقول: هذا الأمر لي من بعد مروان، فبايع مروان لابنيه.
وفي هذه السنة: بعث مروان بعثين أحدهما إلى المدينة عليهم حبيش بن دلجة، والآخر إلى العراق وعليهم عبيد الله بن زياد، فأما ابن زياد فإنه سار حتى نزل الجزيرة، فأتاه بها موت مروان. وخرج إليه التوابون من أهل الكوفة طالبين بدم الحسين، فجرى لهم ما سبق ذكره، وسنذكر باقي خبره إن شاء الله.
وأما حبيش فانتهى إلى المدينة وعليها جابربن الأسود بن عوف بن عبد الرحمن بن عوف من قبل ابن الزبير، فهرب جابر، فبعث الحارث بن أبي ربيعة جيشاً من البصرة، وكان ابن الزبير قد ولاه عليها، فأنفذهم لمحاربة حبيش، فسار إليهم حبيش، وبعث ابن الزبير عباس بن سهل بن سعد على المدينة، وأمره أن يطلب حبيشاً، فلحقهم بالربذة، فجاء سهم غرب فقتل حبيشاً، وتحرز منهم خمسمائة في المدينة، فقال لهم عباس: انزلوا على حكمي، فنزلوا، فضرب أعناقهم، ورجع فل حبيش إلى الشام.
وفي هذه السنة: مات مروان وقام مكانه ابنه عبد الملك.
باب ذكر خلافة عبد الملك بن مروان
هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ويكنى أبا الوليد، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص.
ولد في سنة ست وعشرين هو ويزيد بن معاوية.
وقيل ولد في سنة أربع وعشرين، وحمل به ستة أشهر فقط، وكان أبيض.
وقيل: كان آدم طوالاً كثير الشعر كبير اللحية والعينين، مشرق الأنف، دقيق الوجه مضبب الأسنان بالذهب، كان رفقيهاً راوياً ناسكاً، يدعى حمامة المسجد، شاعراً.
وقيل لابن عمر: من نسأل بعدكم، فقال: إن لمروان ابناً فقيهاً فسلوه.
وقال نافع: أدركت المدينة وما بها شاب أنسك، ولا أشد تشميراً، ولا أكثر صلاة، ولا أطلب للعلم من عبد الملك بن مروان.
قال مؤلف الكتاب: استعمله معاوية على المدينة وهو ابن ست عشرة سنة، واول من سمي بعبد الملك عبد الملك بن مروان، وأول من سمي في الإسلام أحمد أبو الخليل بن أحمد العروضي. وعبد الملك أول من أمر أن يقال على المنابر: اللهم أصلح عبدك وخليفتك، فلما بويع له تغيرت أموره في باب الدين.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا العتيقي، قال: أخبرنا عثمان بن محمد بن القاسم الأدمي، قال: أخبرنا ابن دريد، قال: أخبرنا عبد الأول بن مريد، عن ابن عائشة، قال: أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره يقرأ فأطبقه، وقال: هذا آخر العهد بك.
قال مؤلف الكتاب: وقد رواها ثعلب، عن ابن الزعفراني، قال: لما سلم على عبد الملك بالخلافة كان في حجره مصحف، فأطبقه، وقال: هذا فراق بيني وبينك.


أخبرنا القزاز بإسناد له عن الوليد بن مسلم، عن عبد الخالق بن زيد بن واقد، عن أبيه، قال: حدثني عبد الملك بن مروان، قال: كنت أجالس بريرة فقالت: إن فيك خصالاً خليق أن تلي الأمر فإن وليته فاتق الدماء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها بملء محجمة من دم امرئ مسلم يريقه " .
وفي هذه السنة: اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة وفيها قتل نافع بن الأزرق وذلك أن عبيد الله بن عبد الله بن معمر بعث أخاه عثمان إلى ابن الأزرق في جيش فلقيهم بموضع في الأهواز يقال له: دولاب، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل نافع بن الأزرق، ثم أمرت الخوارج غيره، وجاءهم المدد وقوي القتال وقتل خلق من المؤمنين، وقدم المهلب بن أبي صفرة على تلك الحال معه عهده على خراسان من قبل ابن الزبير، فسأله المؤمنون أن يلي الحرب، فأبى، فكتبوا على لسان ابن الزبير إلى المهلب أن يلي قتال الخوارج، فقال: إني لا أسير إليهم إلى أن تجعلوا لي ما غلبت عليه وتعطوني من بيت المال ما أقوى به، وأنتخب من فرسان الناس ووجوههم من أحببت، فقال أهل البصرة: لك ذلك.
وجاءت الخوارج، فخرج إليهم فدفعهم عن البصرة، وما زال يدفعهم ويتبعهم، ثم التقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى انهزم الناس إلى البصرة، فنادى المهلب: إلي عباد الله، ثم هجم على القوم، فأخذ عسكرهم وما فيه، وقتل الأزارقة قتلاً عنيفاً، وخرج فلهم إلى كرمان وأصبهان، وأقام المهلب بالأهواز، وكتب إلى ابن الزبير بما ضمن له، فأجاز ذلك.
وقيل إن وقعة الأزارقة كانت سنة ست وستين.
وفي هذه السنة: عزل عبد الله بن الزبير عبد الله بن يزيد عن الكوفة وولاها عبد الله بن مطيع، ونزع عن المدينة أخاه عبيدة بن الزبير وولاها أخاه مصعب بن الزبير.
وكان سبب عزله أخاه عبيدة بن الزبير أنه خطب فقال: قد رأيتم ما صنع بقوم في ناقة قيمتها خمسمائة درهم، فسمي مقوّم الناقة، وبلغ ذلك ابن الزبير، فقال: هذا لهو التكلف.
وفي هذه السنة: بنى ابن الزبير الكعبة وأدخل الحجر فيها، وقد ذكرنا أنه نقضها في السنة التي قبل هذه السنة، فيمكن أن تكون الرواية مختلفة، ويمكن أن يكون النقض في سنة والبناء في السنة الأخرى.
وفي هذه السنة: حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير، وعلى الكوفة في آخر السنة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة عبد الله بن الحارث بن أبي ربيعة، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جميل بن معمر وقيل ابن عبد الله، بن معمر بن الحارث بن ظبيان رأى بثينة وهو صغير فهويها، وهما من بني عذرة وتكنى بثينة: أم عبد الملك، فلما كبر خطبها فرد عنها فقال فيها الشعر، وكان يزورها وتزوره، ومنزلهما وادي القرى، فجمع أهلها له جمعاً ليأخذوه، فأخبرته بثينة فاختفى وهجا قومها فاستعدوا عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ على المدينة من قبل معاوية، فنذر ليقطعن لسانه، فلحق بخذام فأقام هناك إلى أن عزل مروان.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج، قال: كنت ماراً بين تيماء ووادي القرى مبادراً من مكة فرأيت صخرة عظيمة ملساء فيها تربيع بقدر ما يجلس عليها النفر كالدكة، فقال بعض من كان معنا من العرب، وأظنه جهنياً: هذا مجلس جميل وبثينة فاعرفه.
ومن أشعاره المستحسنة فيها قوله:
حلت بثينة من قلبي بمنزلة ... بين الجوانح لم ينزل به أحد
صادت فؤادي بعينيها ومبسمها ... كأنه حين تبديه لنا برد
وعاذلين لحوني في محبتها ... يا ليتهم وجدوا مثل الذي أجد
لما أطالوا عتابي فيك قلت لهم ... لا تفرطوا بعض هذا اللوم واقتصدوا
قد مات قبلي أخو نهد وصاحبه ... من قيس ثم اشتفى من عروة الكمد
وكلهم كان في عشق منيته ... وقد وجدت بها فوق الذي وجدوا
إني لأحسبه أو كدت أعلمه ... أن سوف يوردني الحوض الذي وردوا
إن لم ينلني بمعروف يجود به ... أو يدفع الله عني الواحد الصمد
وقال أيضاً:


لحى الله من لا ينفع الود عنده ... ومن حبله إن مد غير متين
ومن هو إن تحدث له العين نظرة ... يقطّع لها أسباب كل قرين
ومن هو ذو لونين ليس بدائم ... على خلق خوان كل يمين
فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي ... وهموا بقتلي يا بثين لقوني
إذا ما رأوني طالعاً من ثنية ... يقولون من هذا وقد عرفوني
يقولون لي أهلاً وسهلاً ومرحباً ... ولو ظفروا بي ساعة قتلوني
وكيف ولا توفي دماؤهم دمي ... ولا مالهم مالي إذا فقدوني
وقال أيضاً:
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها ... ويا ويح أهلي ما أصيب به أهلي
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي
خليلي فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: أخبرنا محمد بن علي العلاف، قال: حدثنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: حدثنا محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا الحسن بن علي، قال: حدثنا المثنى بن سعد الجعفي، قال: بلغني أن كثير عزة لقي جميلاً، فقال له: متى عهدك ببثينة؟ قال: ما لي بها عهد منذ عام أول وهي تغسل ثوباً بوادي الدوم، فقال كثير: أتحب أن أعدها لك الليلة؟ قال: نعم، فأقبل راجعاً إلى بثينة، فقال له أبوها: يا فلان ما ردك؟ أما كنت عندنا قبيل؟ قال: بلى، ولكن حضرت أبياتاً قلتها في عزة، قال: وما هي؟ فقال:
فقلت لها يا عز أرسل صاحبي ... على باب داري والرسول موكل
أما تذكرين العهد يوم لقيتكم ... بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل
فقالت بثينة: اخسأ، فقال أبوها: ما هاجك، قالت: كلب لا يزال يأتينا من وراء هذا الجبل بالليل وأنصاف النهار.
قال: فرجع إليه فقال: قد وعدتك وراء هذا الجبل بالليل وأنصاف النهار، فالقها إذا شئت.
وحكى أبو محمد بن قتيبة عن بعض الناس أنه قال: خرجت من تيماء فرأيت عجوزاً على أتان، فقلت: ممن أنت؟ فقالت: من عذرة، قلت: هل تروين عن بثينة والجميل شيئاً؟ فقالت: والله إني لعلى ماء من الجناب وقد اعتزلنا الطريق وقد خرج رجالنا في سفر وخلفوا عندنا غلماناً أحداثاً، وقد انحدر الغلمان عشية إلى صرم قريب منا يتحدثون إلى جوار منهم، وقد بقيت أنا وبثينة نستبرم غزلاً لنا إذ انحدر علينا منحدر من هضبة حذاءنا، فسلم ونحن مستوحشون، فرددت السلام ونظرت فإذا رجل واقف شبهته بجميل، ودنا فأتيته فقلت: جميل، قال: أي والله، قلت: عرضتنا ونفسك للشر، فما جاء بك؟ قال: هذه الغول التي من ورائك، وأشار إلى بثينة، فإذا هو لا يتماسك، فقمت إلى قعب فيه أقط مطحون وتمر، وإلى عكة فيها سمن فعصرته على الأقط وأدنيته منه، فقلت: أصب من هذا، ففعل وقمت إلى سقاء فيه لبن، فصببت له في قدح، وشننت عليه من الماء فشرب وتراجع، فقلت: لقد جهدت فيما أمرك؟ قال: أردت مصر فجئت لأودعكم وأحدث بكم عهداً، وأنا والله في هذه الهضبة التي ترينها منذ ثلاث أنتظر أن أجد فرصة حتى رأيت منحدر فتيانكم العشية، فجئت لأجدد بكم العهد فحدثنا ساعة ثم ودعناه وانطلق. فما لبثنا إلا يسيراً حتى أتانا نعيه من مصر.
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي بإسناد له عن أبي بكر بن الأنباري، قال: حدثنا محمد بن المرزبان، قال: حدثنا أبو بكر العامري، قال: حدثنا علي بن محمد وهو المدائني، قال: حدثني أبو عبد الرحمن العجلاني، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، قال:


كنت بالشام فقال لي قائل: هل لك في جميل فإنه لما به، فدخلت عليه وهو يجود بنفسه وما يخيل لي أن الموت يكتربه، فقال لي: يا ابن سعد، ما تقول في رجل لم يسفك دماً حراماً قط، ولم يشرب خمراً قط، ولم يزن قط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله منذ خمسين سنة، قلت: من هذا؟ ما أحسبه إلا ناجياً، قال الله تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه يكفر عنكم سيآتكم ويدخلكم مدخلاً كريماً " فلعلك تعني نفسك، قال: نعم، قلت: كيف وأنت تشبب ببثينة منذ عشرين سنة، قال: هذا آخر وقت من أوقات الدنيا، وأول وقت من أوقات الآخرة، فلا نالتني شفاعة محمد إن كنت وضعت يدي عليها لريبة قط، وإن كان أكثر ما نلت منها إى أني كنت آخذ يدها فأضعها على قلبي فأستريح إليها. ثم أغمي عليه وأفاق فأنشأ يقول:
صرخ النعي وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول
ولقد أجر الذيل في وادي القرى ... نشوان بين مزارع ونخيل
قومي بثينة فاندبي بعويل ... وأبكي خليلك قبل كل خليل
ثم أغمي عليه فمات.
أخبرنا ابن الحصين بإسناد له عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: لما حضرت الوفاة جميلاً بمصر قال: من يعلم بثينة؟ فقال رجل: أنا، فلما مات صار إلى حي بثينة فقال:
بكر النعي وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول
بكر النعي بفارس ذي همة ... بطل إذا حمل اللواء نديل
فخرجت بثينة مكشوفة الرأس، فقالت:
وإن سؤالي عن جميل لساعة ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها
سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون الخزاعي، يكنى أبا المطرف وكانت له صحبة وسن عالية وشرف في قومه، وحضر صفين مع علي عليه السلام.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا عبيد الله بن عمر الواعظ، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن جرير، عن رجاله، قال: سليمان بن صرد أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه يساراً، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان، ونزل الكوفة حين نزلها المسلمون، وشهد مع علي رضي الله عنه صفين، وكان فيمن كتب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما قدوم الكوفة، فلما قدمها ترك القتال معه، فلما قتل الحسين ندم هو والمسيب بن نجية الفزاري وجميع من خذله فلم يقاتل معه، ثم قالوا: ما لنا توبة مما فعلنا إلا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه، فعسكروا بالنخيلة وولوا أمرهم سليمان بن صرد، وخرجوا إلى الشام في الطلب بدم الحسين رضي الله عنه، فسموا التوابين، وكانوا أربعة آلاف، فقتل سليمان بن صرد في هذه الوقعة، رماه يزيد بن حصين بن نمير بسهم فقتله وحمل رأسه ورأس ابن نجية إلى مروان بن الحكم، وكان سليمان يوم قتل ابن ثلاث وتسعين سنة.
عبد الله بن عمرو بن العاص أسلم قبل أبيه، وكان متعبداً، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ " قال: بلى، فقال له: " صم وأفطر وصل ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، وإن لزرجك عليك حقاً " .
أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا أبو بكر بن محمد بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن صفوان بن سليم، عن عبد الله بن عمرو، قال: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب ما سمعت منه فأذن لي فكتبته. فكان عبد الله يسمي صحيفته تلك الصادقة.
وعن هارون بن رئاب، قال: لما حضرت عبد الله بن عمرو الوفاة، قال: إنه كان خطب إلى ابنتي رجل من قريش وقد كان مني إليه شبيه بالوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق، اشهدوا أني قد زوجتها إياه.
توفي عبد الله بالشام في هذه السنة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس


قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني سنين، فلم يزل مع أبيه بالمدينة حتى مات في خلافة عثمان بن عفان، ولم يزل مع ابن عمه عثمان، وكان كاتباً له فأعطاه أموالاً كثيرة يتأول صلة قرابته، فنقم الناس ذلك على عثمان، وكانوا يرون أن كثيراً مما ينسب إلى عثمان لم يأمر به، وإنما هو رأي مروان، فلما حصر عثمان قاتل قتالاً شديداً، فلما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان سار معهم فقاتل قتالاً شديداً، فلما نظر إلى طلحة، قال: والله إن كان دم عثمان إلا عند هذا. فرماه بسهم فقتله وتوارى إلى أن أخذ له الأمان من علي، فأتاه فبايعه ثم انصرف إلى المدينة، فلم يزل بها حتى ولي معاوية فولاه المدينة سنة اثنتين وأربعين، فلما وثب أهل المدينة أيام الحرة أخرجوا بني أمية من المدينة وأخرجوه، فجعل يحرض مسلم بن عقبة عليهم، ورجع معه حتى ظفر بأهل المدينة، فانتهبها ثلاثاً، وقدم على يزيد فشكر له ذلك، فلما مات يزيد ولي ابنه معاوية أياماً ثم مات، ودعي لابن الزبير فخرج مروان يريد ابن الزبير ليبايعه، فلقيه عبد الله بن زياد فرده وقال: ادع إلى نفسك وأنا أكفيك قريشاً، فبايع لنفسه بالجابية في نصف ذي القعدة سنة أربع وستين، وبعث عماله.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا أبو القاسم بن البرني، عن أبي عبد الله بن بطة، قال: سمعت محمد بن علي بن شقيق، يقول: حدثنا أبو صالح النحوي سلمويه، قال: أخبرني عبد الله يعني ابن المبارك قال: أخبرني يونس، عن الزهري قال: اجتمع مروان وابن الزبير عند عائشة، فذكر مروان بيت لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوؤه ... يجوز رماداً بعد إذ هو ساطع
فقال ابن الزبير: لو شئت لقلت ما هو أفضل من هذا:
ففوض إلى الله الأمور إذا اعترت ... وبالله لا بالأقربين لدافع
فقال مروان:
وداو ضمير القلب بالبر والتقى ... ولا يستوي قلبان قاس وخاشع
فقال ابن الزبير:
ولا يستوي عبدان عبد مكلم ... عتل لأرحام الأقارب قاطع
فقال مروان:
وعبد تجافى جنبه عن فراشه ... يبيت يناجي ربه وهو راكع
فقال ابن الزبير:
وللخير أهل يعرفون بهديهم ... إذا حجبتهم في الخطوب الجوامع
فقال مروان:
وللشر أهل يعرفون بشكلهم ... تشير إليهم بالفجور الأصابع
فسكت ابن الزبير، فقالت عائشة: ما لك فما سمعت بمحاورة قط أحسن من هذه، ولكن لمروان إرث في الشعر ليس لك، فقال ابن الزبير لمروان: عرضت، قال: بل أنت أشد تعريضاً، طلبت يدك فأعطيتني رجلك.
وكان قد تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية، وكان مروان يطعمه في بعض الأمر، ثم بدا له فعقد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز، فأراد أن يضع من خالد ويزهد الناس فيه، وكان إذا دخل عليه أجلسه معه على سريره، فدخل عليه يوماً، فذهب ليجلس مجلسه، فزبره وقال: تنح يا ابن ربطة الاست، والله ما وجدت لك عقلاً. فانصرف خالد وقتئذ مغضباً حتى دخل على أمه، فقال: قد فضحتني وقصرت بي، ونكست برأسي. قالت: وما ذاك؟ قال: تزوجت هذا الرجل فصنع كذا وكذا وأخبرها بما قال له، لا يسمع هذا منك أحد، ولا يعلم مروان أنك أعلمتني بشيء من ذلك، وادخل علي كما كنت تدخل، واطو هذا الأمر فإني سأكفيك وأنتصر لك منه، فسكت خالد ودخل مروان على أم خالد فقال: ما قال لك خالد ما قلت له اليوم؟ فقالت: ما حدثني بشيء ولا قال لي فقال: ألم يشكني إليك، ويذكر تقصيري به. فقالت: يا أمير المؤمنين، أنت أجل في عين خالد وهو أشد لك تعظيماً من أن يحكي عنك شيئاً أو يجد من شيء تقوله، وإنما أنت له بمنزلة الوالد. فانكسر مروان وظن أن الأمر على ما حكت، فسكت حتى إذا كان بعد ذلك، وحانت القائلة فنام عندها، فوثبت هي وجواريها فغلقن الأبواب على مروان، ثم عمدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه، فلم تزل هي وجواريها يغممنه حتى مات.
ثم قامت فشقت جيبها وأمرت جواريها وخدمها فشققن وصحن وقلن: مات أمير المؤمنين فجأة. وذلك لهلال رمضان سنة خمس وستين، ومروان ابن أربع وستين، وكانت ولايته على الشام ومصر لم يعد ذلك ثمانية أشهر. وقيل: ستة أشهر.
وقد قال له علي بن أبي طالب: ليحملن راية ضلالة بعدما يشيب صدغاه وله إمرة كلحسة الكلب أنفه.
ثم دخلت


سنة ست وستين
فمن الحوادث فيها: وثوب المختار بن أبي عبيد طالباً بدم الحسين رضي الله عنه وذلك أن أصحاب سليمان بن صرد لما قتلوا بعد قتل من قتل منهم كتب إليهم المختار وهو في السجن: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإن الله عز وجل أعظم لكم الأجر، وحط عنكم الوزر بمفارقة القاسطين، وجهاد المحلين، وإنكم لم تنفقوا نفقة، ولم تقطعوا عقبة، ولم تخطوا خطوة إلا رفع الله عز وجل لكم بها درجة، وكتب لكم بها حسنة، فابشروا، فإني لو خرجت إليكم جردت فيما بين المشرق والمغرب من عدوكم السيف بإذن الله عز وجل.
فبعثوا إليه في الجواب: إنا قد قرأنا كتابك ونحن بحيث يسرك، فإن شئت أن نأتيك حتى نخرجك فعلنا، فقال لهم: إني أخرج في أيامي هذه. وشفع فيه عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد الأميرين على الكوفة، فضمنوه جماعة من الأكابر وأخرجوه ثم أحلفاه بالله الذي لا إله إلا هو، لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان، فإن هو فعل فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة، ومماليكه كلهم أحرار، فحلف لهما.
ثم جاء إلى داره فنزلها، فقال: قاتلهم الله، ما أحمقهم حين يرون أني أفي لهم، أما حلفي بالله عز وجل فإنه ينبغي لي إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها أن أكفره، وخروجي عليهم خير من كفي عنهم. وأما ألف بدنة فما قدر ثمنها، وأما عتق مماليكي فوددت إن استتب لي أمري، ثم لم أملك مملوكاً أبداً.
ولما استقر في داره اختلفت الشيعة إليه ورضيت به، فلم يزل أمره يقوى إلى أن عزل عبد الله بن الزبير عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد، وبعث عبد الله بن مطيع على عملهما بالكوفة، وبعث الحارث بن أبي ربيعة على البصرة، فقدم ابن مطيع الكوفة لخمس بقين من رمضان سنة خمس وستين، فقيل له: خذ المختار واحبسه، فبعث إليه فتهيأ للذهاب، فقرأ زائدة بن قدامة: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك.... " ففهمها المختار، فجلس وألقى ثيابه، وقال: ألقوا علي القطيفة، ما أراني إلا قد وعكت، ثم قال: أعلموا ابن مطيع حالتي واعتذروا عنده، فأخبر بعلته، فصدقه ولهى عنه، وبعث المختار إلى أصحابه، وأخذ يجمعهم في الدور حوله، وأراد أن يثب بالكوفة في المحرم، فقال بعض أصحابه لبعض: إن المختار يريد أن يخرج بنا وقد بايعناه ولا ندري أرسله إلينا ابن الحنفية أم لا، فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية، فإن رخص لنا في أتباعه تبعناه، فذهبوا إليه فأخرجوه فقال: والله لوددت أن الله انتصر لنا بمن شاء، فلما قدموا قالوا: أذن لنا، ففرح المختار، وكان قد انزعج من خروجهم وخاف أن لا يأذن لهم، وقد كان إبراهيم بن الأشتر بعيد الصوت كثير العشيرة، فأرادوه أن يخرج مع المختار، فقال: بل أكون أنا الأمير، قالوا: إن محمد بن الحنفية قد أمر المختار بالخروج، فسكت، فصنع المختار كتاباً عن ابن الحنفية إليه يأمره بالموافقة للمختار، وأقام من يشهد أنه كتاب ابن الحنفية، فبايعه وتردد إليه، فاجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة ست وستين.


فأتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع، فقال: إن المختار خارج عليك إحدى الليلتين، فأخرج الشرط، وأقامهم على الطريق في الجبابين خارج البلد، فخرج إبراهيم بن الأشتر، وقال: والله لأمرن على دار عمرو بن حريث إلى جانب القصر وسط السوق، ولأرهبن عدونا، ولأرينهم هوانهم علينا، فمر فلقيه إياس بن مضارب في الشرط مظهرين السلاح، فقال له ولأصحابه: من أنتم؟ فقال: أنا إبراهيم بن الأشتر، فقال: ما هذا الجمع معك؟ إن أمرك لمريب وما أنا بتاركك حتى آتي بك الأمير، فتناول إبراهيم رمحاً من بعض أصحاب إياس فطعن به إياساً فقتله، وقال لرجل من قومه: انزل فاحتز رأسه، ففعل، فتفرق أصحابه ودخل إبراهيم على المختار، وكانت ليلة الأربعاء، فقال له: إنا اتعدنا للخروج ليلة الخميس، وقد حدث أمر لا بد له من الخروج الليلة، فقال: وما هو؟ فقال: عرض لي إياس بن مضارب فقتلته، فقال المختار: بشرك الله بخير، هذا أول الفتح، قم يا سعيد بن منقذ، فأسعل في الهرادي النيران ثم ارفعها للمسلمين، وقم يا عبد الله بن شداد، فناد: يا منصور أمت، وقم أنت يا سفيان بن ليل، وأنت يا قدامة بن مالك وقل: يا لثارات الحسين. ثم قال المختار: علي بدرعي وسلاحي، فأتي به، فأخذ يلبس سلاحه ويقول:
قد علمت بيضاء حسناء الطلل ... واضحة الخدين عجزاء الكفل
أني غداة الروع مقدام بطل ثم إن إبراهيم قال للمختار: إن هؤلاء الذين وضعهم ابن مطيع في الجبابين يمنعون إخواننا أن يأتونا، ويضيقون عليهم، فلو أني خرجت بمن معي من أصحابي حتى آتي قومي، فيأتيني كل من قد بايعني، ثم سرت بهم في نواحي الكوفة، ودعوت بشعارنا، فخرج إلي من أراد الخروج، قال: فاعجل، ولا تقاتل إلا من قاتلك.
فخرج إبراهيم، واجتمع إليه جل من كان بايعه، فسار بهم في سكك الكوفة، وخرج فهزم كل من لقيه من المسالح، وخرج المختار حتى نزل في ظهر دير هند. وخرج أبو عثمان النهدي ونادى: يا لثارات الحسين، ألا إن أمير آل محمد قد خرج فنزل دير هند، وبعثني إليكم داعياً، فاخرجوا رحمكم الله، فخرجوا من الدور يتداعون: يا لثارات الحسين. فوافى المختار منهم ثلاثة آلاف وثمانمائة من اثني عشر ألفاً كانوا بايعوه، واجتمعوا له قبل انفجار الصبح. وجمع ابن مطيع الناس في المسجد وبعث شبث بن ربعي إلى المختار في نحو من ثلاثة آلاف، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط، وخرج إبراهيم بن الأشتر في جماعة كثيرة واقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل راشد وانهزم أصحابه، وجاء البشير بذلك إلى المختار، فقويت نفوس أصحابه، وداخل أصحاب ابن مطيع الفشل. ودنا إبراهيم من شبث وأصحابه، فحمل عليهم فانكشفوا حتى انتهوا إلى أبيات الكوفة، ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع، وجاءه قتل راشد بن إياس، فأسقط في يده.
وخرج فحض الناس على القتال، وقال: امنعوا حريمكم وقاتلوا عن مصركم، فقال إبراهيم للمختار: سر بنا، فما دون القصر أحد يمنع، ولا يمتنع كبير امتناع، فقال المختار: ليقم ها هنا كل شيخ وكل ذي علة، وضعوا ما كان لكم من ثقل ومتاع بهذا الموضع. واستخلف عليهم أبا عثمان النهدي، وقدم إبراهيم أمامه.
وبعث عبد الله بن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفين، فبعث المختار إلى إبراهيم أن أطوه ولا تقم، وأمر يزيد بن أنس أن يصمد لعمرو. ومضى المختار في أثر إبراهيم، وأقبل شمر بن ذي الجوشن في ألفين، فبعث إليه المختار سعيد بن منقذ، فواقعه، وبعث إلى إبراهيم أن أطوه وامض على وجهك، فمضى حتى انتهى إلى سكة شبث، وإذا نوفل بن مساحق في نحو من خمسة آلاف، وقد أمر ابن مطيع سويد بن عبد الرحمن فنادى في الناس أن يلحقوا بابن مساحق.
وولى حصار القصر إبراهيم بن الأشتر، ويزيد بن أنس، ويحمر بن شميط.
وخرج ابن مطيع فاستتر في داره،وخلى القصر، وفتح أصحابه الباب، وقالوا: يا ابن الأشتر، نحن آمنون؟ قال: نعم، فبايعوا المختار.


ودخل المختار القصر، فبات به، وخرج من الغد فصعد المنبر، فقال: الحمد لله الذي وعد وليه النصر، وعدوه الخسر، ثم نزل فبايعه الناس، فجعل يقول تبايعون على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحلين، وأخذ المختار في السيرة الجميلة، فقيل له، إن ابن مطيع في الدار الفلانية، فسكت، فلما أمسى بعث إليه بمائة ألف درهم، وقال له: تجهز بهذه واخرج فإني قد شعرت بمكانك، وكان صديقه قبل ذلك.
وأصاب المختار في بيت مال الكوفة سبعة آلاف ألف، فأعطى أصحابه الذين حصروا ابن مطيع في القصر - وهم ثلاثة آلاف وثمانمائة رجل - كل رجل خمسمائة درهم، وأعطى ستة آلاف من أصحابه مائتين مائتين، وأدنى الأشراف، فكانوا جلساءه.
وأول رجل عقد له المختار راية عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، عقد له على أرمينية. وبعث محمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد على الموصل. فلما قدم عليه عبد الرحمن بن سعيد من قبل المختار أميراً تنحى له عن الموصل، ثم شخص إلى المختار فبايع له.
وكان المختار يقضي بين الناس، ثم قال: لي فيما أحاول شغل عن القضاء، فأجلس للناس شريحاً، فقضى بين الناس، ثم تمارض شريح، فأقام المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود.
وفي هذه السنة: وثب المختار بمن كان بالكوفة من قتلة الحسين والمشايعين على قتله فقتل من قدر عليه، وهرب منه بعضهم. وكان سبب ذلك أن مروان لما استوثق له أمره بعث عبيد الله بن زياد إلى العراق، وجعل له ما غلب عليه، وأمره أن ينهب الكوفة إذا ظفر بأهلها ثلاثاً.
فمر بأرض الجزيرة فاحتبس بها وبقتال أهلها عن العراق نحواً من سنة، ثم أقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار على الموصل إلى المختار: أما بعد، فإني أخبرك أيها الأمير أن عبيد الله بن زياد قد دخل إلى أرض الموصل، وقد وجه خيله قبلي ورجاله، وأني انحزت إلى تكريت حتى يأتيني أمرك.
فكتب إليه المختار: أصبت فلا تبرح من مكانك حتى يأتيك أمري، ثم قال ليزيد بن أنس: اذهب إلى الموصل فإني ممدك بالرجال. فقال: سرح معي ثلاثة آلاف فارس أنتخبهم، فإن احتجت إلى الرجال فسأكتب إليك. قال المختار: فانتخب من أحببت. فانتخب ثلاثة آلاف فارس.
ثم فصل من الكوفة، فخرج معه المختار يشيعه، وقال له: إذا لقيت عدوك فلا تناظرهم، وإذا أمكنتك الفرصة فلا تؤخرها، وليكن خبرك في كل يوم عندي، وإن احتجت إلى مدد فاكتب إلي، مع أني ممدك ولو لم تستمد. فقال يزيد: وأيم الله لئن لقيتهم ففاتني النصر لا تفوتني الشهادة. فكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد: أما بعد، فخل بين يزيد وبين البلاد، والسلام عليكم.
فسار حتى أتى أرض الموصل، فسأل عبيد الله بن زياد عن عدة أصحاب يزيد، فقيل: خرج مع ثلاثة آلاف، فقال: أنا أبعث إلى كل ألف ألفين.
فمرض يزيد فقال: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي. ثم قال: قدموني وقاتلوا وقاتلوا عني. فأخرجوه في يوم عرفة سنة ست وستين، فجعل يقول: اصنعوا كذا، افعلوا كذا، ثم يغلبه الوجع فيوضع. فاقتتل القوم قبل شروق الشمس، فهزم أصحاب عبيد الله وقتل قائدهم. ثم اقتتلوا يوم الأضحى، فهزم أصحاب عبيد الله، وقتلوا قتلاً ذريعاً. وأتى يزيد بن أنس بثلاثمائة أسير، فأمر بقتلهم، فقتلوا، فما أمسى يزيد حتى مات، فانكسر أصحابه بموته.
فقال ورقاء: يا قوم، إنه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل إلينا في ثمانين ألفاً من أهل الشام، ولا طاقة لنا به، فماذا ترون؟ فإني أرى أن نرجع، قالوا: افعل، فرجع ورجعوا. فبلغ الخبر إلى المختار، فبعث إبراهيم بن الأشتر على تسعة آلاف، ثم قال: اذهب فارددهم معك، ثم سر حتى تلقى عدوك فتناجزهم.


ثم إن أهل الكوفة تغيروا على المختار، وقالوا: أتأمر علينا بغير رضاً منا، وزعم أن ابن الحنفية أمره بذلك ولم يفعل، فاجتمع رأيهم على قتاله، وصبروا حتى بلغ ابن الأشتر ساباط، ثم وثبوا على المختار، فمنعوا أن يصل إليه شيء وعسكروا، فبعث المختار إلى إبراهيم بن الأشتر: لا تضع كتابي من يدك حتى تقبل بجميع من معك إلي. ثم بعث المختار إليهم: أخبروني ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تعتزلنا، فإنك زعمت أن ابن الحنفية بعثك ولم يبعثك، فقال المختار: ابعثوا إليه من قبلكم وفداً، وأبعث من قبلي وفداً حتى تنظروا؛ إنما أراد أن يشغلهم بالحديث حتى يقدم ابن الأشتر، فأسرع إبراهيم حتى قدم صبيحة ثلاثة من مخرجهم على المختار. ثم خرج إليهم المختار فاقتتلوا كأشد قتال، ونصر عليهم المختار، وهربوا، وأدرك منهم قوم فقتلوا منهم شمر بن ذي الجوشن، وأسر سراقة بن مرداس، فقال ما أسرتموني، وإنما أسرني قوم على دواب بلق، وجاء سراقة يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيت الملائكة تقاتل على خيول بلق من السماء والأرض، فقال له المختار: فاصعد المنبر وأعلم المسلمين، ففعل، فلما نزل خلا به المختار، فقال: قد علمت أنك لم تر الملائكة، وإنما أردت أن لا أقتلك، فاذهب عني حيث شئت، ولا تفسد علي أصحابي.
ونادى المختار من أغلق بابه فهو آمن إلا رجلاً أشرك في دم آل محمد، وخرج أشراف أهل الكوفة فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة، وتجرد المختار لقتلة الحسين، وكان يقول: لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم، وأنقي المصر منهم، فجعل يتبع من خرج في قتال الحسين عليه السلام فيقتلهم شر قتل، وبعث إلى خولي الأصبحي - وهو صاحب رأس الحسين - فأحاطوا بداره، فاختبأ في المخرج، فقالوا لامرأته: أين هو؟ فقالت: لا أدري، وأشارت بيدها إلى المخرج، فأخرجوه فقتلوه وأحرقوه.
وبعث إلى عمر بن سعد من قتله، وكان قد أعطاه في أول ما خرج أماناً بشرط أن لا يحدث.
وكان أبو جعفر الباقر يقول: إنما أراد بالحدث دخول الخلاء، فجيء برأسه وابنه حفص بن عمر بن سعد جالس عند المختار، فقال له: أتعرف هذا الرأس؟ فاسترجع وقال: نعم، لا خير في العيش بعده، فقال المختار: صدقت فإنك لا تعيش بعده، فقتل، فإذا رأسه مع رأس أبيه، فقال المختار: هذا بحسين، وهذا بعلي بن حسين، ولا سواء، والله لو قتل به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله. ثم بعث برأسيهما إلى محمد بن علي ابن الحنفية، وكان الذي هيج على قتل عمر بن سعد، أنه بلغه عن ابن الحنفية أنه يقول: يزعم المختار أنه لنا شيعة وقتلة الحسين جلساؤه يحدثونه. فلما لبث أن قتل عمر وابنه، وطلب المختار سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين، فوجده قد هرب إلى البصرة، فهدم داره، وما زال يتبع القوم ويقتلهم بفنون القتل، فإذا لم يجد الرجل هدم داره.
وفي هذه السنة: بعث المختار جيشاً إلى المدينة للمكر بابن الزبير وهو مظهر له أنه قد وجههم معونة له لحرب الجيش الذي كان بعثه عبد الملك لحربه. وسبب ذلك أنه لما ظهر المختار بالكوفة كان يدعو إلى ابن الحنفية، والطلب بدماء أهل البيت، وأخذ يخادع ابن الزبير، فكتب إليه: أما بعد، فإنك قد عرفت مناصحتي وما كنت أعطيتني إذا فعلت ذلك من نفسك، فلما وفيت لك، وقضيت مالك علي، لم تف لي بما عاهدتني، فإن ترد مراجعتي أراجعك، أو مناصحتي أنصح لك، وإنما أراد بذلك كفه عنه حتى يستجمع الأمر، فأراد ابن الزبير أن يعلم أسلم هو أم حرب. فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فقال له: تجهز إلى الكوفة فقد وليناكها، فقال: كيف وبها المختار، فقال: إنه يزعم أنه لنا سامع مطيع.
فتجهز بما بين الثلاثين ألف درهم إلى الأربعين ألف درهم، ثم خرج مقبلاً إلى الكوفة. فبلغ الخبر المختار، فدعا زائدة بن قدامة، فقال له: اجعل معك سبعين ألف درهم، ضعف ما أنفق هذا في مسيره إلينا وتلقه في المفاوز، وأخرج معك بمسافر بن سعيد بن نمران في خمسمائة فارس دارع رامح، ثم قل له: خذ هذه النفقة فإنها ضعف نفقتك وانصرف، فإن فعل وإلا فأره الخيل وقل له: إن وراء هؤلاء مثلهم مائة كتيبة.


فخرج زادة فتلقاه وعرض عليه المال وأمره زائدة بالانصراف، فقال: إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة ولا بد من إنفاذ أمره، فدعا زائدة بالخيل، فلما رآها قال: هذا الآن عذري، فهات المال، فأخذه وذهب نحو البصرة، ولما أخبر المختار أن أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق خشي أن يأتيه مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فوادع ابن الزبير وداراه وكتب إليه: قد بلغني أن عبد الملك بن مروان قد بعث إليك جيشاً، فإن أحببت أن أمدك بمدد أمددتك.
فكتب إليه عجل بالجيش. فدعا المختار شرحبيل الهمداني يسرحه في ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم إلا سبعمائة من العرب، وقال: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلتها فاكتب إلي بذلك حتى يأتيك أمري.
وفي هذه السنة: قدمت الخشبية مكة وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير حبس محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته، وسبعة عشر رجلاً من وجوه أهل الكوفة بزمزم، وكرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمة، وهربوا إلى الحرم، وتوعدهم بالقتل والإحراق، وأعطى الله عهداً إن لم يبايعوه أن ينفذ فيهم ما توعدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلاً، فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار وإلى من بالكوفة رسولاً يعلمهم حالهم وما توعدهم به ابن الزبير، فوجه ثلاثة نفر إلى المختار وأهل الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم، وكتب إليهم يعلمهم بالحال ويسألهم أن لا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته، فقدموا على المختار، فدفعوا إليه الكتاب، فنادى في الناس وقرأ عليهم الكتاب، وقال: هذا كتاب مهديكم، وصريح أهل بيت نبيكم، وقد تركوا ينتظرون التحريق بالنار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصراً مؤزراً، وإن لم أسرب إليهم الخيل في أثر الخيل كالسيل حتى يحل بابن الكاهلية الويل.
ووجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكباً ومعه ظبيان بن عمير في أربعمائة راكباً، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين. وخرج أبو عمران حتى نزل ذات عرق، ولحقه ابن طارق وسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام وهم ينادون: يا لثارات الحسين، حتى انتهوا إلى زمزم وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الأجل يومين، فطردوا الحرس وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا على ابن الحنفية، فقالوا له: خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير، فقال لهم: إني لا أستحل القتال في حرم الله عز وجل، ثم تتابع المدد فخرج ابن الحنفية في أربعة آلاف.
وفي هذه السنة: حج عبد الله بن الزبير بالناس، وكان على المدينة مصعب بن الزبير، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وكان المختار غالباً على الكوفة، وبخراسان عبد الله بن خازم.
وفي هذه السنة: توجه إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد لحربه، وذلك لثمان بقين من ذي الحجة وقد ذكرنا أن المختار وجه إبراهيم بن الأشتر لقتال أهل العراق، فلما وثب أهل الكوفة لقتال المختار بعث إلى ابن الأشتر فرده.
فلما نصر عليهم عاد فأشخصه إلى الوجه الذي بعثه فيه، فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة، وخرج معه المختار وبين يديه كرسي كان يستنصر به، فناجزهم ساعة تلقاهم.
وفي ذلك الكرسي قولان: أحدهما: أن طفيل بن جعدة قال: كنت قد أملقت، فرأيت جاراً لي زياتاً له كرسي قد أعلاه الوسخ، فخطر ببالي أن لو قلت للمختار في هذا، فأخذت الكرسي وأتيت المختار وقلت: إني كنت أكتمك شيئاً وقد بدا لي أ أذكره، وهو كرسي كان لجعدة بن هبيرة كان يجلس عليه ويرى أن فيه أثرة من علم، فقال: ابعث به، وأمر لي باثني عشر ألفاً، ثم دعا: الصلاة جامعة، وقال: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت، وإن هذا فينا مثل التابوت، فرفعوا أيديهم، فلما قيل لهم: هذا عبيد الله بن زياد قد نزل بأهل الشام خرج بالكرسي على بغل يمسكه عن يمينه سبعة، وعن يساره سبعة، فندم طفيل على ما فعل.


القول الثاني: إن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة - وكانت أم جعدة أم هانئ أخت علي بن أبي طالب: ائتوني بكرسي علي بن أبي طالب، فقالوا: والله ما هو عندنا، فقال: ائتوني به، وظن القوم ،هم لا يأتونه بكرسي، ويقولون: هذا هو إلا قبله منهم. فجاءوا بكرسي وقالوا: هذا هو. ثم قال المختار لابن الأشتر: خذ عني ثلاثاً: خف الله عز وجل في سر أمرك وعلانيته، وعجل السير، وإذا لقيت عدوك فناجزهم ساعة تلقاهم.
أخبرنا المبارك بن أحمد الأنصاري، قال: أخبرنا أبو محمد بن السمرقندي، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب البصري، قال: حدثنا محمد بن المعلى بن عبد الله بن الأزدي، قال: أخبرنا أبو جزء محمد بن حمدان القشيري، قال: حدثنا أبو العيناء، عن أبي أنس الحراني، قال: قال المختار لرجل من أصحاب الحديث: ضع لي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أني كائن بعده خليفة وطالب له ثرة ولده، وهذه عشرة آلاف درهم وخلعة ومركوب وخادم، فقال الرجل: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا، ولكن اختر من شئت من الصحابة واحطط من الثمن ما شئت، قال: عن النبي أكد، قال: والعذاب عليه أشد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أسماء بن حارثة بن سعيد بن عبد الله كان محتاجاً من أهل الصفة، توفي في هذه السنة وهو ابن ثمانين سنة.
ثم دخلت
سنة سبع وستين
فمن الحوادث فيها:
مقتل عبيد الله بن زياد
وذلك أن إبراهيم بن الأشتر خرج يقصد ابن زياد، فالتقوا قريباً من الموصل، فاقتتلوا قتالاً شديداً وقتل خلق كثير من الفريقين، وقال ابن الأشتر: قتلت رجلاً وجدت منه ريح المسك تحت راية مفردة على شاطئ نهر فالتمسوه، فإذا هو عبد الله بن زياد، ضربه فقده نصفين، وقتل الحصين بن نمير، وانهزم أصحاب ابن زياد، وتبعهم أصحاب إبراهيم، فكان من غرق أكثر ممن قتل، وأصابوا عسكرهم وفيه من كل شيء وخرج المختار من الكوفة، فنزل ساباط، وجاءته البشرى بقتل ابن زياد وهزيمة أصحابه، وانصرف المختار إلى الكوفة، ومضى ابن الأشتر إلى الموصل، وبعث عماله عليها.
وفي هذه السنة: ولى عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير على البصرة فدخلها فصعد المنبر فخطب فقال: بسم الله الرحمن الرحيم " طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون " إلى قوله " إنه كان من المفسدين " - وأشار بيده إلى الشام - " ونزيد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " - وأشار بيده نحو الحجاز - " ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " - وأشار بيده نحو الشام.
وفي هذه السنة: سار مصعب بن الزبير إلى المختار فقتله وسبب ذلك أن شبث بن ربعي كان فيمن قاتل المختار، فهزمهم المختار، فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة، فقدم شبث على مصعب وهو على بغلة قد قطع ذنبها وطرف أذنها وشق قباءه وهو ينادي: يا غوثاه يا غوثاه. فدخل عليه ومعه أشراف الناس من المنهزمين، فأخبره بما أصيبوا به، وسألوه النصر على المختار، ثم قدم محمد بن الأشعث بن قيس أيضاً، وكان المختار قد طلبه فلم يجده فهدم داره، فكتب مصعب إلى المهلب، وهو عامله في فارس: أن أقبل إلينا تشهد أمرنا، فإنا نريد المسير إلى الكوفة.
فأقبل المهلب بجموع كثيرة وأموال عظيمة، فدخل على مصعب، فأمر مصعب الناس بالمعسكر عند الجسر الأكبر، ودعا عبد الله بن مخنف وقال له: ائت الكوفة فاخرج إلي جميع من قدرت أن تخرجه، وادعهم إلى بيعتي سراً. وخذل أصحاب المختار، فمضى حتى جلس في بيته مستتراً لا يظهر، وخرج مصعب ومعه المهلب، والأحنف بن قيس. وبلغ المختار الخبر، فقام في أصحابه فقال: يا أهل الكوفة، يا أعوان الحق وشيعة الرسول، إن فراركم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم، انتدبوا مع أحمد بن شميط، ودعا الرؤوس الذي كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع أحمد بن شميط، وإنما فارقوا ابن الأشتر لأنهم رأوه كالمتهاون بأمر المختار.


فخرج ابن شميط حتى ورد المدائن، وجاء مصعب فعسكر قريباً منه، فقال: يا هؤلاء، إنا ندعوكم إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى بيعة المختار، وإلى أن يجعل هذا الأمر شورى في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاقتتلوا، فقتل ابن شميط، وانهزم أصحابه.
وبلغ الخبر إلى المختار، فقال: ما من موتة أموتها أحب إلي من موتة ابن شميط، وساروا فالتقوا وقد جعل مصعب على ميمنته المهلب بن أبي صفرة، وعلى ميسرته عمر بن عبيد بن معمر التيمي، وعلى الخيل عباد بن الحصين، وعلى الرجالة مقاتل بن مسمع البكري، ونزل وهو يمشي متنكباً قوساً، وتزاحف الناس ودنا بعضهمإلى بعض، فبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة: أن أحمل على من يليك، فحمل فكشفهم حتى انتهوا إلى مصعب، فجثى على ركبتيه، ولم يكن فراراً، ورمى بأسهمه، ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعة ثم تحاجزوا، وحمل المهلب فحطم أصحاب المختار حطمة منكرة فكشفهم وقتل محمد بن الأشعث وعامة أصحابه، وتفرق أصحاب المختار، وجاء هو حتى دخل قصر الكوفة فحصر هو وأصحابه، فكانوا لا يقدرون على الطعام والشراب إلا بحيلة، وكان يخرج هو وأصحابه فيقاتلون قتالاً ضعيفاً، وكانت لا تخرج له خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت، وصب عليهم الماء القذر، وصار المختار وأصحابه يشربون من البئر فيصبون عليه العسل ليتغير طعمه.
ثم أمر مصعب أصحابه فاقتربوا من القصر ثم دخلوه، فقال المختار لأصحابه: ويحكم، إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفاً، فانزلوا بنا نقاتل لنقتل كراماً، والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم أن ينصركم الله. فتوقفوا عن قبول قوله فقال: أما أنا فوالله لا أعطي بيدي.
ثم أرسل إلى امرأته أم ثابت بنت سمرة بن جندب، فأرسلت إليه بطيب كثير، فاغتسل وتحنط ووضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثم خرج في تسعة عشر رجلاً، فقال لهم: أتؤمنونني وأخرج إليكم؟ فقالوا: لا إلا على الحكم، فقال: لا أحكمكم في نفسي أبداً، فضارب بسيفه حتى قتل، ونزل أصحابه على الحكم فقتلوا، وأمر مصعب بكف المختار فقطعت ثم سمرت بمسمار حديد إلى جنب حائط المسجد، ولم يزل على ذلك حتى قدم الحجاج بن يوسف، فنظر إليها فقال: ما هذه؟ فقالوا: كف المختار، فأمر بنزعها.
وبعث مصعب عماله على الجبال والسواد، وكتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته، ويقول له: إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي فلك الشام وأعنة الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان. وكتب عبد الملك بن مروان من الشام إليه يدعوه إلى طاعته، ويقول: إن أجبتني ودخلت في طاعتي فلك العراق، فدعا إبراهيم بن الأشتر أصحابه وقال: ما تقولون - أو ماذا ترون؟ فقال بعضهم تدخل في طاعة عبد الملك، وقال بعضهم: تدخل في طاعة ابن الزبير، فقال ابن الأشتر: لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ولا رؤساء أهل الشام تبعت عبد الملك. وأقبل بالطاعة إلى ابن الزبير.
ولما قتل مصعب المختار ملك البصرة والكوفة، غير أنه أقام بالكوفة ووجه المهلب على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية، وأن مصعباً لقي عبد الله بن عمر، فقال له ابن عمر: أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة، فقال مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة، فقال ابن عمر: والله لو قتلت عدتهم غنماً من تراث أبيك لكان ذلك سرفاً.
والتراث هو الميراث.
وفي هذه السنة: عزل عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير عن البصرة وبعث ابنه حمزة بن عبد الله إليها قال المدائني: وفد مصعب إلى عبد الله بعد قتل المختار، فعزله وحبسه عنده، واعتذر إليه من عزله، وقال: والله إني لأعلم أنك أكفأ من حمزة ولكني رأيت فيه ما رأى عثمان في عبد الله بن عامر حين عزل أبا موسى وولاه.
فقدم حمزة البصرة، وكان يجود تارة حتى لا يدع شيئاً يملكه، ثم يبخل مما لا يمنع مثله، فظهر منه ضعف وتخليط. وكتب الأحنف بن قيس إلى ابن الزبير بذلك وسأله أن يعيد مصعباً، فعزله فأخذ مالاً كثيراً، وخرج إلى المدينة، فأودعه رجالاً فذهبوا سوى يهودي كان أودعه فإنه وفى له. وعلم ابن الزبير بذلك، فقال: أبعده الله، أردت أن أباهي به بني مروان.
وفي هذه السنة:


حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان القاضي على الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وكان على خراسان عبد الله بن خازم السلمي، وكان بالشام عبد الملك بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عبيد الله بن زياد بن أبية وقد ذكرنا قتله في الحوادث.
المختار بن أبي عبيد واسم أبي عبيد مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف: وأمه دومة بنت عمرو بن وهب، ويكنى المختار أبا إسحاق، وهو أخو صفية زوجة عبد الله بن عمر بن الخطاب.
خرج طالباً بدم الحسين رضي الله عنه، وجرت له عجائب قد ذكرنا بعضها.وكان يقول: قام الآن عن هذه الوسادة جبريل، وعن الأخرى ميكائيل.
أخبرنا ابن الحصين، قال: قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا ابن نمير، قال: حدثنا عيسى بن عمر، قال: حدثنا السري، عن رفاعة القتباني، قال: دخلت على المختار، فألقى إلي وسادة وقال: لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لالقيتها لك. قال: فأردت أن أضرب عنقه، فذكرت حديثاً حدثني به أخي عمرو بن الحمق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما مؤمن أمن مؤمناً على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء " .
قتل المختار لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة سبع وستين، وهو ابن سبع وستين سنة.
ثم دخلت
سنة ثمان وستين
فمن الحوادث فيها: أن عبد الله بن الزبير رد أخاه مصعب بن الزبير أميراً على العراق بعد عزله إياه، فبدأ بالبصرة فدخلها. وبعث الحارث بن أبي ربيعة على الكوفة أميراً.
وفي هذه السنة: رجعت الأزارقة من فارس إلى العراق حتى صاروا إلى قرب الكوفة، ودخلوا المدائن، وذلك أن الأزارقة كانت قد لحقت بفارس وكرمان ونواحي أصبهان بعدما أوقع بهم المهلب بالأهواز. فلما وجه مصعب المهلب إلى الموصل ونواحيها عاملاً عليها، وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس انحطت الأزارقة على عمر فلقيهم بنيسابور، فقاتلهم قتالاً شديداً، فقتل منهم قوم وانهزموا، وتبعهم فقطعوا قنطرة طبرستان ثم ارتفعوا إلى نحو من أصبهان وكرمان فأقاموا بها حتى قووا واستعدوا وكثروا.
ثم إن القوم أقبلوا حتى مروا بفارس، فشمر في طلبهم عمر مسرعاً حتى أتى أرجان، فوجدهم قد خرجوا منها متوجهين إلى الأهواز، وبلغ مصعباً إقبالهم، فخرج فعسكر بالناس بالجسر الأكبر، وقال: والله ما أدري ما الذي أغنى عني عمر، وضعت معه جنداً بفارس أجري عليهم أرزاقهم وأمده بالرجال، فقطعت الخوارج أرضه، والله لو قاتلهم لكان عندي أعذر.
وجاءت للخوارج عيونهم بأن عمر في آثارهم، وأن مصعباً قد خرج من البصرة إليهم، فذهبوا إلى المدائن فشنوا الغارة على أهلها، يقتلون الولدان والنساء والرجال ويبقرون الحبالى. وأقبلوا إلى ساباط فوضعوا أسيافهم في الناس، ثم تبعهم الناس وقاتلوهم وقتل أميرهم، فانحازوا إلى قطري فبايعوه، فذهب بهم إلى ناحية كرمان، فأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة وقوي، ثم أقبل حتى أخذ في أرض أصبهان، ثم خرج إلى الأهواز، وكتب للحارث بن أبي ربيعة وهو عامل مصعب على البصرة يخبره أن الخوارج قد انحدرت إلى الأهواز وأنه ليس لهذا الأمر إلا المهلب، فبعث إلى المهلب فأمره بقتال الخوارج والمصير إليهم، وبعث إلى عامله إبراهيم بن الأشتر، فجاء المهلب إلى البصرة وانتخب الناس، وسار بمن أحب، ثم توجه نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشد القتال.
وفي هذه السنة: كان القحط الشديد بالشام ولم يقدروا لشدته على الغزو، وشتى عبد الملك بأرض قنسرين ثم انصرف منها إلى دمشق.
وفي هذه السنة: وافت عرفات أربعة ألوية ابن الحنفية في أصحابه في لواء أقام عند جبل المشاة، وعبد الله بن الزبير في لواء، فقام مقام الإمام اليوم، ثم تقدم ابن الحنفية بأصحابه حتى وقفوا حذاء ابن الزبير، ونجدة الحروري قام خلفهما في لواء بني أمية يسارهما. فكان أول من أفاض لواء محمد ابن الحنفية، ثم تبعه نجدة في لواء بني أمية، ثم لواء ابن الزبير، وتبعه الناس.


وقد روى سعيد بن جبير عن أبيه، قال: خفت الفتنة فجئت إلى محمد بن علي فقلت: اتق الله فإنا في بلد حرام، والناس وفد الله إلى هذا البيت، فلا تفسد عليهم حجتهم. فقال: والله ما أريد ذلك، ولا يؤتى أحد من الحاج من قبلي، ولكني رجل أدفع عن نفسي، فجئت إلى ابن الزبير فكلمته في ذلك فقال: أنا رجل قد أجمع الناس علي، فقلت: أرى الكف خيراً لك، قال: أفعل. فجئت نجدة فكلمته في ذلك، فقال: أما أن أبتدئ أحداً بقتال فلا، ولكن من بدأ بقتالي قاتلته. ثم جئت شيعة بني أمية فكلمتهم بنحو ذلك، فقالوا: نحن عزمنا على أن لا نقاتل أحداً إلا أن يقاتلنا.
وفي هذه السنة: حج ابن الزبير بالناس، وكان عامله على المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري، وعلى البصرة والكوفة مصعب، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى خراسان عبد الله بن خازم، وبالشام عبد الملك بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحارث بن مالك وقيل: الحارث بن عوف، وقيل عوف بن الحارث - أبو واقد الليثي: أسلم قديماً، وكان يحمل لواء بني ليث وضمرة وسعد بن بكر يوم الفتح، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الخروج إلى تبوك يستنفر بني ليث. وخرج إلى مكة فجاور بها فمات في هذه السنة وهو ابن خمس وثمانين سنة، ودفن بمكة في مقبرة المهاجرين التي بفج، وإنما سميت مقبرة المهاجرين لأنه دفن فيها من مات ممن كان هاجر إلى المدينة.
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم يكنى أبا العباس: وأمه لبابة بنت الحارث بن حرب الهلالية أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. ولد بمكة في شعب بني هاشم قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه الحكمة والتأويل " .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدينه ويحضره مع شيوخ الصحابة وأهل بدر ويقول له: والله لأنك أصبح فتياننا وجهاً وأحسنهم عقلاً، وأفقههم في كتاب الله عز وجل. وكان يستشيره ويقول: غص غواص. وكان ابن مسعود يقول: لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد، وقال: نعم ترجمان القرآن ابن عباس.
وقال جابر بن عبد الله حين مات ابن عباس: مات أعلم الناس، وأحكم الناس.
وقال ابن الحنفية: مات رباني هذه الأمة.
وقال مجاهد: كان ابن عباس يسمى البحر من كثرة علمه.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا محمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو حامد من جبلة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، قال: حدثنا عبد الله بن عمر الجعفي، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثناأبو حمزة الثمالي، عن أبي صالح، قال: لقد رأيت من ابن عباس مجلساً لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها فخراً، رأيت الناس قد اجتمعوا حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر على أن يجيء ولا أن يذهب، قال: فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءاً. قال: فتوضأ وجلس وقال: اخرج وقل لهم: من أراد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أراد منه فليدخل. قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر. ثم قال: إخوانكم، فخرجوا.
ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن تفسير القرآن وتأويله فليدخل. قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوا عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر، ثم قال: إخوانكم. قال: فخرجوا.
ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل، فخرجت فقلت لهم. قال: فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثل ما سألوه. ثم قال: إخوانكم قال: فخرجوا.
ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل. قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثل ما سألوه، ثم قال: إخوانكم. قال: فخرجوا.
ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن العربية والشعر وكلام العرب فليدخل. قال: فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله.


قال أبو صالح: فلو أن قريشاً كلها فخرت بذلك لكان فخراً، فما رأيت مثل هذا لأحد من الناس.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي التميمي، قال:حدثنا أبو بكر بن مالك، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا إسماعيل يعني ابن علية، قال: أخبرنا صالح بن رستم، عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة، فكان إذا نزل قام شطر الليل يرتل ويكثر في ذلكم التسبيح.
قال أحمد: وحدثنا معتمر، عن شعيب، عن أبي رجاء، قال: كان هذا الموضوع من ابن عباس - مجرى الدموع - كأنه الشرك البالي.
أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا الأمير أبو محمد المقتدري، قال: أخبرنا أبو العباس اليشكري، قال: أخبرنا ابن دريد، قال: أخبرنا الحسن بن خضر، عن أبيه، عمن حدثه عن سليمان بن عمر، عن رشدين بن كريب، عن أبيه، أن ابن عباس كان يقول: ثلاثة لا أكافئهم: رجل ضاق مجلسي فأوسع لي، ورجل كنت ظمآن فسقاني، ورجل اغبرت قدماه في الاختلاف إلى بابي، ورابع لا يقدر على مكافئته ولا يكافئه عني إلا الله عز وجل، رجل حزبه أمر فبات ليلته ساهراً فلما أصبح لم يجد لحاجته معتمداً غيري.
قال: وكان يقول: إني لأستحي من الرجل يطأ بساطي ثلاث مرات ثم لا يرى عليه أثر من آثار بري.
توفي ابن عباس بالطائف سنة ثمان وستين، ويقال: خمس وستين، ويقال: أربع وستين. والأول أصح.
وكان ابن إحدى وسبعين سنة.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي الحاجب، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن سليمان البصري، قال: حدثنا حفص بن عمر الرملي، قال: حدثنا الفرات بن السائب، عن ميمون بن مهران، قال: شهدت جنازة عبد الله بن عباس بالطائف، فلما وضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى دخل في أكفانه، فالتمس فلم يوجد، فلما سوي سمعنا صوتاً ولم نر الشخص: " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " .
عدي بن حاتم الطائي وأمه النوار بنت برمكة بن عكل، ويكنى أبا طريف: أخبرنا أبو بكر محمد بن أبي طاهر البزار، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن أبي عمير الطائي، قال: كان عدي بن حاتم يقول: ما كان رجل من العرب أشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، وكنت امرأً شريفاً قد سدت قومي، فقلت: إن اتبعته كنت دنياً. وكنت نصرانياً، فقلت لغلام لي: أعد لي من إبلي أجمالاً ذللاً سماناً أحبسها قريباً مني، فإذا سمعت بجيش محمد قد وطئ هذه البلاد فآذني فإني أرى خيله قد وطئت بلاد العرب كلها. فلما كان ذات غداة جاءني غلامي فقال: ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه، فإني قد رأيت رايات فسألت عنها فقيل: هذه جيوش محمد. قلت: قرب لي أجمالي، فقربها فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، وخلفت ابنة حاتم بالحاضر.
وتخالفتني خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم، فأصابوا نساءً وأطفالاً وشاء وابنة حاتم، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هربي، فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد - كانت النساء يحبسن فيها - فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه، وكانت امرأة جميلة جزلة، فقالت: يا رسول الله، مات الولد وغاب الوافد، فأمنن علي من الله عليك، قال: فإني فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة.


وفي رواية أخرى: فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك، قال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله، قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني حتى إذا كان بعد الغد مر بي فقلت مثل ذلك وقال مثل ذلك، حتى إذا كان بعد الغد مر بي وقد يئست، فلم أقل شيئاً، فأشار إلي رجل خلفه أن قومي فكلميه، فقمت فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوالد فامنن علي من الله عليك، قال: فإني قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنيني.
قالت: فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن أكلمه، فقيل هو علي بن أبي طالب، فأقمت حتى قدم ركب من قضاعة. قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد جاء من قومي من لي ثقة وبلاغ، فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملني وأعطاني نفقة، وخرجت معهم حتى قدمت الشام.
قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلي تؤمنا. قلت: ابنة حاتم، فإذا هي هي، فلما قدمت علي انسحلت تقول: القاطع الظالم، احتملت أهلك وولدك. وتركت بقية والدك، قلت: يا أخية لا تقولي إلا خيراً، فقلت: والله ما لي من عذر قد صنعت ما ذكرت، ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت: ما ترين في أمر هذا الرجل، وكانت حازمة - وكانت امرأة حازمة - فقالت: أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبياً فالسبق إليه أفضل، وإن يكن ملكاً فلن تذل في عز اليمن، وأنت أنت، وأبوك أبوك، مع أني قد نبئت أن علية أصحابه قومك الأوس والخزرج.
فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: " من الرجل؟ " فقلت: عدي بن حاتم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إلى بيته إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك،إن للملك حالاً غير هذا. ثم مضى حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقدمها إلي، فقال: " اجلس على هذه " فقلت: لا بل أنت. فجلس عليها فرأى في عنقي وثناً من ذهب، فتلى هذه الآية: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله " ، فقلت: والله ما كانوا يعبدونهم، فقال: " أليس كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه " قلت: بلى، قال: " فتلك عبادتهم " . وقال: " إيه يا عدي، ألم تكن تسير في قومك بالمرباع في مال فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك " ، قلت: أجل والله. فعرفت أنه نبي مرسل. ثم قال: " لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن هذا المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعير حتى تزور هذا البيت، لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من الدخول أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم " . قال عدي: فأسلمت.
وكان عدي يقول: قد مضت اثنتان وبقيت واحدة: ليقض المال.
قال علماء السير: لما قدم عدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وحسن إسلامه ورجع إلى بلاد قومه، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ثبت عدي وقومه على الإسلام، وجاء بصدقاتهم إلى أبي بكر، وحضر فتح المدائن، وشهد مع علي الجمل وصفين والنهروان. وكان جواداً يفت للنمل الخبز ويقول: إنهن جارات.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن محمد المقري، قال: أخبرنا أحمد بن عثمان بن يحيى الآدمي، قال: حدثنا علي بن محمد بن عبد الملك، قال: حدثنا سهل بن بكار، قال: حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم الطائي: أنه أتى عمر بن الخطاب في أناس من طيء - أو قال من قومه - فجعل يفرض لرجال من طيء في ألفين ألفين، فاستقبلته فأعرض عني، فقلت: يا أمير المؤمنين، أما تعرفني؟ قال: نعم إني والله أعرفك، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذا أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وإن أول صدقة بيضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيء، جئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.


أنبأنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: حدثنا الحسين بن علي الطناجيري، قال: حدثنا ابن شاهين، قال: حدثنا عبد الله بن ثابت، قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا الهذيل بن عمير، عن يحيى بن زكريا، عن مجالد، عن عامر، قال: أرسل الأشعث بن قيس إلى عدي بن حاتم يستعير منه قدور حاتم، فأمر بها عدي فملئت وحملها الرجال إلى الأشعث، فأرسل الأشعث: إنما أردناها فارغة، فأرسل إليه: إنا لا نعيرها فارغة.
أخبرنا القزاز، قالأخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا ابن بشران، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: أخبرنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثنا محمد بت سعد، قال: مات عدي بن حاتم سنة ثمان وستين.
وقد قال هشام بن الكلبي: مات سنة تسع وستين، وهو ابن مائة وعشرين سنة.
واختلفوا أين مات على قولين: أحدهما بالكوفة. قاله ابن خياط. والثاني بقرقيسيا.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن أحمد الرزاز، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد البزاز، قال: حدثنا علي بن المديني، قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن المغيرة، قال: خرج عدي بن حاتم وجرير بن عبد الله وحنظلة الكاتب من الكوفة، فنزلوا فرقيسيا وقالوا: لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان.
قال ابن ثابت: قال لي محمد بن علي الصوري: أنا رأيت قبورهم بقرقيسيا.
عابس بن سعد القطيفي قاضي مصر ولي القضاء والشرطة لمسلمة بن مخلد، روى عنه أبو قتيل المغافري.
وتوفي في هذه السنة.
قيس بن ذريح بن الحباب بن شبه بن حذافة كان رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب، أرضعته أم قيس، وكان منزل قومه في ظاهر المدينة، وكان هو وأبوه من حاضرة المدينة.
وقيل: كان منزله بسرف.
فمر قيس ببعض حاجته بخيام بني كعب من خزاعة والحي خلوف، فوقف على خيمة للبنى بنت الحباب الكعبية، فاستسقى الماء، فخرجت إليه فسقته، وكانت امرأة مديدة القامة، شهلة حلوة المنظر والكلام، فلما رآها وقعت في نفسه وشرب الماء، فقالت له: انزل فتبرد عندنا، فنزل بهم، وجاء أبوها فنحر له وأكرمه. فانصرف قيس وفي نفسه من لبنى حر لا يطفأ، فجعل يقول الشعر فيها حتى شاع وروي.
ثم أتاها يوماً آخر وقد اشتد وجده بها، فسلم فظهرت له وردت سلامه ولحقت به، فشكى إليها ما يجد من حبها، فبكت وشكت إليه مثل ذلك، وعرف كل واحد منهما ما له عند صاحبه، فانصرف إلى أبيه وأعلمه حاله وسأله أن يزوجه إياها، فأبى عليه، وقال: يا بني عليك بإحدى بنات عمك فهن أحق بك، وكان ذريح المال موسراً، فأحب ألا يزوج ابنه إلى غريبة، فانصرف قيس وقد ساءه ما خاطبه به أبوه، فأتى أمه فشكى إليها واستعان بها على أبيه، فلم يجد عندها ما يحب. فأتى الحسين بن علي رضي الله عنهما وابن أبي عتيق، وكان صديقه، فشكى إليهما ما به وما رد عليه أبواه، فقال له الحسين: أنا أكفيك، فمشى معه إلى أبي لبنى، فلما بصر به أعظمه ووثب إليه وقال: يا ابن رسول الله، ما حاجتك؟ قال: إن الذي جئت فيه يوجب قصدك، قد جئتك خاطباً ابنتك لبنى لقيس بن ذريح، فقال: يا ابن رسول الله، ما كنا لنعصي لك أمراً، وما بنا عن الفتى رغبة، ولكن أحب الأمرين إلينا أن يخطبها ذريح أبوه عليه، وأن يكون ذلك عن أمره، فإنا نخاف إن لم يسمح أبوه في هذا أن يكون عاراً علينا، فأتى الحسين ذريحاً وقومه مجتمعون، فقاموا إليه أعظاماً وقالوا له مثل الخزاعيين، فقال لذريح: أقسمت عليك إلا ما خطبت لبنى على قيس، فقال: السمع والطاعة لأمرك، فخرج معه في وجوه قومه حتى أتوا حي لبنى، فخطبها ذريح على ابنه إلى أبيها، فزوجه إياها، وزفت إليه، فأقام معها مدة، وكان أبر الناس بأمه، فألهته لبنى وعكوفه عليها عن بعض ذلك، فوجدت أمه وأخذت في نفسها، وقالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن بري.


ومرض قيس، فقالت أمه لأبيه: لقد خشيت أن يموت ولم يترك خلفاً وقد حرم الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال فيصير مالك إلى الكلالة، فزوجه غيرها لعل الله أن يرزقه ولداً، وألحت عليه في ذلك، فلما اجتمع قومه دعاه فقال: يا قيس، إنك اعتللت فخفت عليك ولا ولد لي سواك، وهذه المرأة ليست بولود فتزوج إحدى بنات عمك لعل الله أن يرزقك ولداً تقر به عينك وأعيننا، فقال قيس: لست متزوجاً غيرها أبداً، قال أبوه: فتسر بالإماء، قال: ولا أسوءها بشيء والله أبداً، قال أبوه: فإني أقسم عليك إلا طلقتها، فأبى وقال: الموت عندي والله أسهل من ذلك، ولكني أخيرك خصلة من ثلاث خصال: قال: وما هي؟ قال: تتزوج أنت فلعل الله يرزقك ولداً غيري، قال: ما في فضلة لذلك، قال: فدعني أترحل عنك بأهلي واصنع ما كنت صانعاً لو مت في علتي هذه، قال: ولا هذه، قال: فأدع لبني عندك وارتحل عنك فلعلي أسلوها فإني ما أحب بعد أن تكون نفسي طيبة فإنها في خيالي، قال: لا أرضى أو تطلقها، وحلف لا يكنه سقف أبداً حتى يطلق لبنى. وكان يخرج فيقف في حر الشمس، فيجيء قيس فيقف إلى جانبه فيظله بردائه ويصطلي هو بحر الشمس ثم يدخل إلى لبنى فيعانقها ويبكي وتبكي هي معه، وتقول له: يا قيس: لا تطع أباك فتهلك وتهلكني، فيقول: ما كنت لأطيع فيك أحداً أبداً.
فيقال: إنه مكث كذلك سنة، وقيل: عشرين سنة، وهجره أبواه لا يكلمانه، فطلقها، فلما طلقها استطير عقله، ولحقه مثل الجنون، وجعل يبكي، فبلغها الخبر فأرسلت إلى أبيها ليحتملها، فأقبل أبوها بهودج وإبل، فقال قيس: ما هذا؟ فقالوا: لبنى ترحل الليلة أو غداً، فسقط مغشياً عليه ثم أفاق، وجعل يقول:
وإني لمفن دمع عيني بالبكا ... حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غداً أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفيك إلا أن ما حان حائن
وقال:
يقولون لبنى فتنة كنت قبلها ... بخير فلا تندم عليها وطلق
فطاوعت أعدائي وعاصيت ناصحي ... وأقررت عين الشامت المتخلق
وددت وبيت الله أني عصيتهم ... وحملت في رضوانها كل موثق
وكلفت خوض البحر والبحر زاخر ... أبيت على أثباج موج مغرق
كأني أرى الناس المحبين بعدها ... عصارة ماء الحنظل المتفلق
فتنكر عيني بعدها كل منظر ... ويكره سمعي بعدها كل منطق
وسقط غراب قريباً منه فجعل ينعق مراراً، فتطير منه وقال:
لقد نعق الغراب ببين لبنى ... فطار القلب من حذر الغراب
وقال غداً تباعد دار لبنى ... وتنأى بعد ود واقتراب
فقلت تعست ويحك من غراب ... وكان الدهر سعيك في تباب
فلما ركبت هودجها تبعها وقال:
ألا يا غراب البين هل أنت مخبري ... بخير كما خبرت بالنأي والشر
وقلت كذاك الدهر ما زال فاجعاً ... صدقت وهل شيء بباق على الدهر
ثم علم أنهم يمنعونه منها، فوقف ينظر إليهم حتى غابوا، فكر راجعاً ينظر إلى أثر خف بعيرها يقبله ويقبل موضع مجلسها وأثر قدمها فعنفوه على تقبيل التراب، فقال:
وما أحببت أرضكم ولكن ... أقبل إثر من وطئ الترابا
لقد لاقيت من كلفي بلبنى ... بلاء ما أسيغ له شرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى ... عييت فما أطيق له جوابا
وقال له بعض الأطباء: منذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت؟ فقال:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعدما كنا نطافاً وفي المهد
فزاد كما زدنا فأصبح نامياً ... وليس إذا متنا بمنصرم العهد
ولكنه باق على كل حادث ... وزائرنا في ظلمة القبر واللحد
فقال له الطبيب: إن مما يسليك عنها أن تذكر مساوئها وما تعافه النفس منها من أقذار بني أدم، فقال:
إذا عبتها شبهتها البدر طالعاً ... وحسبك من عيب لها شبه البدر
لقد فضلت لبنى على الناس مثلما ... على ألف شهر فضلت ليلة القدر


إذا ما مشت شبراً من الأرض أرجفت ... من البهر حتى ما تزيد على شبر
لها كفل يرتج منها إذا مشت ... وقد كغصن البان منضمر الخصر
فدخل أبوه والطبيب عنده، فجعل يعاتبه ويقول: يا بني الله الله في نفسك، فإنك إن دمت على هذا مت.
فقال:
وفي عروة العذري إن مت أسوة ... وعمرو بن عجلان الذي قتلت هند
وبي مثل ما ماتا به غير أنني ... إلى أجل لم يأتني وقته بعد
وقال:
هل الحب إلا عبرة بعد زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع تستهل إذا بدا ... لنا علم من أرضكم لم يكن يبدو
قال: فلما طال على قيس ما به أشار قومه على أبيه أن يزوجه امرأة جميلة لعله يسلو بها، فدعاه إلى ذلك فأبى، فأعلمهم أبوه بما رد عليه، فقالوا له: مره بالمسير في أحياء العرب والنزول عليهم لعله يبصر امرأة تعجبه، فأقسم عليه أن يفعل، فسار حتى نزل بحي فرأى جارية كالبدر، فقال: ما اسمك يا جارية؟ فقالت: لبنى، فسقط على وجهه فارتاعت، وقالت: إن لم يكن هذا قيس بن ذريح، إنه لمجنون، فلما أفاق سألته أن يصيب من طعامهم، فأكل وارتحل، فأتى أخوها فرأى مناخ الناقة فلحقه فرده، فلم يزل به حتى زوجه من أخته، فلما زفت إليه لم يلتفت إليها، وبلغ حديثه لبنى، فقالت: إنه لغدار ولقد كنت أمتنع من التزويج فالآن أتزوج، فزوجت، فاشتد جزعه.
وإن أبا لبنى شخص إلى معاوية فشكى إليه، وإنه يتعرض للبنى بعد الطلاق، فكتب إليه بإهدار دمه، فبعثت لبنى إليه تحذره، فقال:
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها ... مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ... ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري
إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى ... ومن حرق تعتادني وزفير
ومن حرق للحب في باطن الحشى ... وليل طويل الحزن غير قصير
وكنا جميعاً قبل أن يظهر الهوى ... بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لهم ... بطون الهوى مقلوبة لظهور
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور
ثم حج بعد ذلك وحجت، فلقيها فوقف باهتاً، وبعثت إليه بالسلام. ثم انه اقتطع قطعة من أبله وأعلم أباه أنه يريد بها المدينة ليبيعها ويمتار لأهلها بثمنها، فعرف أبوه أنه إنما يريد لبنى، فعاتبه فلم يقبل، وقدم المدينة، فبينا هو يعرضها إذ ساومه زوج لبنى بناقة منها وهما لا يتعارفان، فباعه إياها، فقال: إذا كان في غد فآتني في دار كثير بن الصلت فاقبض الثمن، فأعدي له طعاماً. ففعلت، فلما كان من الغد جاء فصوت بالخادم وقال: قولي لسيدك: صاحب الناقة بالباب، فعرفت لبنى نغمته فلم تقل شيئاً، فقال زوجها للخادم: قولي له يدخل، فدخل فجلس، فقالت لبنى للخادم: قولي له: مالك أشعث أغبر، فقالت له، فتنفس وقال: هكذا تكون حال من فارق الأحبة، وبكى. فقالت لبنى: قولي له: حدثنا حديثك، فلما ابتدأ يحدث كشفت الحجاب، فبهت لا يتكلم ثم بكى ونهض يخرج، فناداه زوجها: ما قصتك؟ ارجع فاقبض الثمن، فلم يكلمه وخرج، فقالت لبنى لزوجها: هذا والله قيس.
وقال في طريقه فيها:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت ... فللدهر والدنيا بطون وأظهر
لقد كان فيها للأمانة موضع ... وللكف مرتاد وللعين منظر
كأني لها أرجوحة بين أحبل ... إذا ذكرة منها على القلب تخطر
ثم عاد إلى منزله فمرض مرضاً أشفى منه، فدخل عليه أبوه وأهله فعاتبوه، فقال: ويحكم، أتروني أمرضت نفسي أو وجدت لها سلوة فاخترت البلاء، أو لي في ذلك صنع، هذا ما اختاره لي أبواي فقتلاني به، فجعل أبوه يبكي ويدعو له بالفرج، ودست إليه لبنى رجلاً فقالت له: قل له: لم تزوجت بعدها؟ فجاء يسأله، فحلف له أن عينه ما اكتحلت بالمرأة التي تزوجها، وأنه لو رآها في نسوة ما عرفها، وأنه ما مد إليها يداً، ولا كشف لها عن ثوب، قال: فحملني إليها ما شئت، فقال:


ألا حي لبنى اليوم إن كنت غاديا ... وألمم بها من قبل أن لا تلاقيا
وقل إنني والراقصات إلى منى ... بأحبل جمع ينظرون المناديا
أصونك عن بعض الأمور مظنة ... وأخشى عليك الكاشحين الأعاديا
أقول إذا نفسي من الوجد أصعدت ... بها زفرة تعتادني هي ما هيا
وبين الحشى والنحر مني حرارة ... ولوعة وجد تترك القلب ساهيا
ألا ليت لبنى لم تكن خلة لنا ... ولم ترني لبنى ولم أدري ما هيا
خليلي مالي قد بليت ولا أرى ... لبينى على الهجران إلا كما هيا
جزعت عليها لو أرى لي مجزعاً ... وأفنيت دمع العين لو كان فانيا
تمر الليالي والشهور ولا أرى ... ولوعي بها يزداد إلا تماديا
واشتهر أمر قيس بالمدينة، وغنى بشعره الغريض ومالك ومعبد وغيرهم، ولم يبق شريف ولا وضيع إلا سمع بذلك وحزن له، وجاء زوج لبنى فعاتبه فقال: فضحني بذكرك، فقالت: والله ما تزوجتك إلا بعد أن أهدر دمه، ولا حاجة لي فيك. وكان بالمدينة دار ضيافة لرجل من قريش وله زوجة يقال لها بريكة، فدخل الدار قيس في جنونه، فقال: أين بريكة؟ فلقيها، فقال لها: حاجتي نظرة إلى لبنى، فقالت: لك ذلك، فنزل فأقام عندهم وأهدى لها هدايا كثيرة، وقال لاطفيهم حتى يأنسوا بك، ففعلت وزارتهم مراراً وقالت لزوج لبنى: أخبرني أنت خير من زوجي، قال: لا، قاتل: فلبنى خير مني، قال: لا، قالت: فما لي أزورها ولا تزورني، قال: ذاك إليها، فأتتها وسألتها الزيارة، وأعلمتها أن قيساً عندها فأسرعت إليها فبكيا حتى كادا يتلفان، ثم قالت له: أنشدني ما قلت في علتك، فقال:
أعالج من نفسي بقايا حشاشة ... على ظمأ والعادات تعود
فإن ذكرت لبنى هششت لذكرها ... كما هش للثدي الدرور الوليد
ورحل قيس إلى معاوية، فدخل على ابنه يزيد فامتدحه وشكى ما به، فقال: إن شئت أن أحتم على زوجها أن يطلقها، قال: لا بل أحب أن أقيم حيث تقيم وأعرف أخبارها من غير أن يهدر دمي، فأجابه، وغير ما كان كتب في إهدار دمه.
وقد اختلفوا في آخر أمر قيس. فروى قوم أن لبنى ماتت فخرج قيس في جماعة من قومه، فوقف على قبرها، فقال:
ماتت لبينى فموتها موتي ... هل تنفعن حسرتي على الفوت
وسوف أبكي بكاء مكتئب ... قضى حياة وجداً على ميت
ثم أكب على القبر يبكي حتى أغمي عليه، فرفعه أهله إلى منزله وهو لا يعقل، فلم يزل عليلاً لا يفيق ولا يجيب مكلماً ثلاثاً، ثم مات فدفن إلى جنبها.
وروى محمد بن عبد الباقي بإسناده عن أيوب بن عباية، قال: خرج قيس بن ذريح إلى المدينة يبيع ناقة له، فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه، فقال له: انطلق معي اعطك الثمن، فمضى معه، فلما فتح الباب إذا لبنى قد استقبلت قيساً، فلما رآها ولى هارباً، وخرج الرجل في أثره بالثمن ليدفعه إليه، فقال له قيس: لا تركب لي مطيتين أبداً، فقال: وأنت قيس بن ذريح؟ قال: نعم، فقال له: هذه لبنى قد رأيتها قف حتى أخيرها فإن اختارتك طلقتها، وظن القرشي أن في قلبها له موضعاً وأنها لا تفعل، قال له قيس: افعل. فدخل القرشي عليها فاختارت قيساً فطلقها، وأقام قيس ينتظر انقضاء العدة ليتزوجها فماتت في العدة.
وروى آخرون أن ابن أبي عتيق جاء إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما وابن جعفر وجماعة من قريش، فقال: إن لي حاجة إلى رجل وأخشى أن يردني، وإني أستعين بجاهكم، فمضى بهم إلى زوج لبنى، فلما رآهم أعظم مصيرهم إليه، فقالوا: جئنا لحاجة لابن أبي عتيق، فقال: هي مقضية ما كانت، قال ابن أبي عتيق: فهب لي ولهم زوجتك لبنى وتطلقها، قال: فأشهدكم أنها طالق ثلاثاً، فاستحيا القوم وقالوا: والله ما عرفنا أن حاجته هذه، وعوضه الحسن رضي الله عنه عن ذلك مائة ألف درهم، وحملها ابن أبي عتيق إليه، فلما انقضت العدة سأل القوم أباها فزوجها منه، فلم تزل معه حتى ماتا.
وقال قيس يمدح ابن أبي عتيق:
جزى الرحمن أفضل ما يجازي ... على الإحسان خيراً من صديق
فقد جربت إخواني جميعاً ... فما ألفيت كابن أبي عتيق


سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي حدت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بقلبي ... أغصتني حرارتها بريقي
ثم دخلت
سنة تسع وستين
فمن الحوادث فيها: خروج عبد الملك بن مروان إلى عين وردة قال الواقدي: واستخلف عمرو بن سعيد بن العاص على دمشق فتحصن بها، فبلغ ذلك عبد الملك، فرجع إلى دمشق فحاصره.
وقال غيره: خرج معه إلى بعض الطريق ثم رجع إلى دمشق فتحصن بها.
قال عوانة بن الحكم: خرج عبد الملك من دمشق يريد قرقيساء، وفيها زفر بن الحارث الكلابي حتى إذا كان في بعض الطريق رجع عمرو بن سعيد عنه ليلاً ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلابي حتى أتى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك، فلكا بلغه رجوع عمرو هرب وترك عمله، فدخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنها.
وقال آخرون: كانت هذه القصة في سنة سبعين، وذلك حين سار عبد الملك إلى مصعب نحو العراق، فقال له عمرو بن سعيد: إنك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى ذلك جاهدت معه، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك فلم يجبه، فانصرف راجعاً إلى دمشق فرجع عبد الملك في أثره حتى انتهى إلى دمشق.
قالوا: لما غلب عمرو على دمشق طلب عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يصبه، فأمر بداره فهدمت، وصعد المنبر، وقال: لكم علي حسن المؤاساة والعطية. ثم نزل، ولما أصبح عبد الملك فقد عمرو، فسأل عنه فأخبر خبره، فرجع عبد الملك إلى دمشق فاقتتلوا، ثم إن عبد الملك وعمراً اصطلحا وكتبا بينهما كتاباً وأمنه عبد الملك، وذلك عشية الخميس، ثم انه بعث إليه فأتاه في مائة رجل من مواليه، وأمر بحبس من معه وأذن له، فدخل فرأى بني مروان عنده، فأحس بالشر، وأمر عبد الملك بالأبواب فغلقت، فلما دخل عمرو رحب به عبد الملك وقال: ها هنا يا أبا أمية، وأجلسه معه على السرير، وجعل يحدثه طويلاً، ثم قال يا غلام، خذ السيف عنه، فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: أو تطمع أن تجلس معي متقلداً سيفك، فأخذ السيف عنه، ثم تحدثا ما شاء الله، ثم قال: يا أبا أمية، قال: لبيك، قال: إنك حيث خلعتني آليت إذا أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة، فقال بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين، قال: ثم أطلقه، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية، فقال بنو مروان: أبر قسم أمير المؤمنين، فقال عمرو: وأبر قسمك يا أمير المؤمنين. فأخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام قم فاجمعه فيها، فقام الغلام فجمعه فيها، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس، فقال عبد الملك: ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس، ثم اجتبذه اجتباذة أصاب فمه السري فكسر ثنيته، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك كسر عظم مني إلى أن تركب ما هو أعظم من ذلك، فقال: والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أبقيت عليك أو تصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان قط في بلدة على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه.
فلما عرف عمرو ما يريد به، قال: أغدراً يا ابن الزرقاء. فأمر به عبد العزيز بن مروان أن يقتله، فقال إليه بالسيف، فقال له عمرو: أذكرك الله والرحم أن تلي أنت قتلي وأن تولي ذلك من هو أبعد منك رحماً، فألقى السيف وجلس. وصلى عبد الملك صلاة خفيفة ودخل وغلقت الأبواب، ورأى الناس عبد الملك وليس معه عمرو، فجاء إلى باب عبد الملك يحيى بن سعيد ومعه ألف عبد لعمرو فجعلوا يصيحون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية، وكسروا باب القصر وضربوا الناس بالسيوف، وضرب عبد من عبيد عمرو يقال له مصقلة الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان، فأدخله بيت القراطيس، ودخل عبد الملك فوجد عمراً حياً، فقال لعبد العزيز: أخزى الله أمك، وكانت أم عبد العزيز ليلى، وأم عبد الملك عائشة بنت معاوية بن المغيرة...
ثم إن عبد الملك قال: يا غلام ائتني بالحربة، فأتاه بها فهزها ثم طعنه فلم تجز فيه، فضرب بيده إلى عضد عمرو، فوجد مس الدرع، فضحك ثم قال: ودارع أيضاً، يا غلام ائتني بالصمامة، فأتاه بسيفه، ثم أمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه. وانتفض عبد الملك رعدة، وزعموا أن الرجل إذا قتل ذا قرابة له أرعد.


فحمل عبد الملك عن صدره، فوضع على سريره، ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بني مروان الدار فجرحوهم ومن معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى وأصحابه، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس. فألقاه إلى الناس.
وقد قيل أن عبد الملك بن مروان لما خرج إلى الصلاة أمر غلامه أبا الزعيزعة بقتل عمرو، فقتله وألقى رأسه إلى أصحابه.
وأمر عبد الملك بسريره فأبرز إلى المسجد وخرج فجلس عليه، وفقد الوليد فجعل يقول: ويحكم أين الوليد؟ وأبيهم إن كانوا قتلوه فلقد أدركوا بثأرهم، فأتاه إبراهيم بن عربي، فقال: هذا الوليد عندي قد أصابته جراحة وليس عليه بأس.فأتى عبد الملك بيحيى بن سعيد، فأمر به أم يقتل، فقام إليه عبد العزيز، فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وإهلاكها. وأمر بعنبسة فحبس، ثم أتي بعامر بن الأسود الكلبي فضرب عبد الملك رأسه بقضيب خيزران كان معه، ثم قال: أتقاتلني مع عمرو وتكون معه علي؟ قال: نعم لأن عمراً أكرمني وأهنتني، وقربني وأبعدتني، وأحسن إلي وأسأت إلي، فكنت معه عليك. فأمر به عبد الملك أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز، فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في خالي، فوهبه له، وأمر ببني سعيد فحبسوا، ومكث يحيى في الحبس شهراً أو أكثر. ثم إن عبد الملك صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم استشار الناس في قتله، فقام بعض خطباء الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، هل تلد الحية إلا حية، نرى والله أن تقتله، فإنه منافق عدو. ثم قام عبد الله بن سعد الفزازي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن يحيى ابن عمك، وقرابته ما قد علمت، وقد صنعوا ما صنعوا، وصنعت بهم ما قد صنعت، وما أرى لك قتلهم، ولكن سيرهم إلى عدوك، فإن هم قتلوا كنت قد كفيت أمرهم، وإن هم رجعوا رأيت فيهم رأيك. فأخذ رأيه، فأخرج آل سعيد فألحقهم بمصعب بن الزبير.
ثم إن عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو الكلبية: ابعثي إلي بالصلح الذي كنت كتبته لعمرو، فقالت لرسوله: ارجع إليه فقل له أني قد لففت ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك به عند ربك. ثم جمع أولاده فرق لهم وأحسن جائزتهم.
وكان الواقدي يقول: إنما تحصن في دمشق في سنة تسع وستين، أما قتله إياه فكان في سنة سبعين.
وقال يحيى بن أكثم يرثيه:
أعيني جودا بالدمع على عمرو ... عشية تبتز الخلافة بالغدر
كأن بني مروان إذ يقتلونه ... بغاث من الطير اجتمعن على صقر
لحى الله دنيا تدخل النار أهلها ... وتهتك ما دون المحارم من ستر
وفي هذه السنة: أقام الحج للناس ابن الزبير، وكان عامله فيها على المصرين: الكوفة والبصرة أخوه المصعب، وكان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن حازم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الأحنف بن قيس بن معاوية بن حصين السعدي التميمي، واسمه الضحاك، وقيل: صخر، ويكنى أبا بحر: ولدته أمه وهو أحنف، فكانت ترقصه، وتقول:
والله لولا حنفة برجله
ودقة في ساقه من هزله
ما كان قي فتيانكم من مثله
أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه من يعرض عليهم الإسلام، فقال الأحنف: إنه ليدعو إلى خير، وما أسمع إلا حسناً، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " اللهم اغفر للأحنف " . وكان الأحنف يقول: ما من شيء أرجى عندي من ذلك.
وقد روى عن عمر، وعلي، وأبي ذر. وهو الذي افتتح مرو الروذ، وكان الحسن وابن سيرين في جيشه، وكان عالماً سيداً، وكان يحضر عند معاوية فيطيل السكوت،فقال: يا أبا بحر، تكلم، فقال: تكلم، فقال: أخشى الله إن كذبت، وأخشاكم إن صدقت.
وكان يتهجد بالليل كثيراً، وكان يضع المصباح قريباً منه، ثم يقدم إصبعه إلى النار، ثم يقول: يا أحنف، ما حملك على ما فعلت في يوم كذا. وكان يصوم، فيقال له: إنك شيخ كبير والصيام يضعفك، فيقول: إني لأعده لشر طويل.


أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا علي بن عبيد الله الطوسي، قال: قال معاوية بن هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان: لم بلغ فيكم للأحنف بن قيس ما بلغ؟ قال: إن شئت حدثتك ألفاً، إن شئت حذفت لك الحديث حذفاً، قال: احذفه حذفاً، قال: إن شئت ثلاثاً وإن شئت فاثنتين، وإن شئت فواحدة، قال: ما الثلاث؟ قال: أما الثلاث فإنه لا يشره، ولا يحسد ولا يمنع حقاً. قال: فما الثنتان؟ قال: كان موفقاً للخير معصوماً عن الشر. قال: فما الواحدة؟ قال: كان أشد الناس على نفسه سلطاناً.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ، قال: أنبأنا الحسن بن أحمد البنا، قال: أخبرنا عبيد الله بن أحمد، قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان، قال: أخبرنا ابن المنادي، أن إبراهيم بن مهدي الأيلي حدثهم قال: حدثني أحمد بن داود بن زياد الضبي، قال: حدثنا كعب بن مالك الكوفي، قال: حدثنا عبد الحميد بن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن أبيه، عن الشعبي، قال: قال لي الأحنف بن قيس: يا شعبي، قلت: لبيك، قال: ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم، قلت: من هم؟ قال: الآتي إلى مائدة لم يدع إليها، والداخل بين اثنين في حديثهما ولم يدخلاه، والمتآمر على رب البيت في بيته، والمندلق بالدالة على السلطان، والجالس في المجلس الذي ليس له بأهل، والمقبل بحديثه إلى من لا يسمع منه، والطامع في فضل البخيل، والمنزل حاجته بعدوه.
قال: يا شعبي، ألا أدلك على الداء الدوي؟ قلت: بلى، قال: الخلق الرديء واللسان البذيء.
قال: قلت له: دلني على مروءة ليس فيها مرزية، فقال: بخ بخ يا شعبي، سألت عظيماً، الخلق الشحيح والكف عن القبيح.
وكان الأحنف يقول: إن من السؤدد الصبر على الذل، وكفى بالحلم ناصراً.
وقال: ما نازعني أحد إلا أخذت من أمري بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه.
وقال زياد بن الأحنف: قد بلغ من الشرف والسؤدد ما لا تنفعه معه الولاية، ولا يضره العزل.
وقال خالد بن صفوان: كان الأحنف بن قيس يفر من الشرف والشرف يتبعه.
أخبرنا ابن الناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي التميمي، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال: اشتكى ابن أخي الأحنف إلى الأحنف بن قيس وجع ضرسه، فقال له الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة ما ذكرتها لأحد.
أخبرنا عبد الخالق بن أحمد، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الدقاق، قال: أخبرنا الحسين بن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: قال: حدثنا قبيصة، قال: قيل للأحنف بن قيس: ألا تأتي الأمراء؟ قال: فأخرج جرة مكسورة، فكبها فإذا كسر، فقال: من يجزيه مثل هذا ما يصنع بإتيانهم.
قال محمد بن سعد: كان الأحنف صديقاً لمصعب بن الزبير، فوفد عليه الكوفة ومصعب واليها، فتوفي عنده فرؤي مصعب في جنازته يمشي بغير رداء.
ظالم بن عمر بن سفيان، أبو الأسود الدؤلي قال يوسف بن حبيب: الدول من بني حنيفة ساكن الواو، والديل عبد القيس ساكنة الياء، والدؤل في كنانة رهط أبي الأسود الدؤلي.
وقد روى أبو الأسود عن عمر، وعلي، والزبير، وأبي ذر، وعمران بن حصين. واستخلفه عبد الله بن عباس لما خرج من البصرة، فأقره علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يحب علياً رضي الله عنه الحب الشديد، وهو القائل:
يقولون الأرذلون بنو قشير ... طوال الدهر لا تنسى عليا
أحب محمدا حباً شديداَ ... وعباساً وحمزة الوصيا
فإن يك حبهم رشداً أصبه ... ولست بمخطئ إن كان غيا
وهو أول من وضع النحو. قال محمد بن سلام: أول من أسس العربية ووضع قياسها، فوضع باب الفاعل والمفعول به، والمضاف، وحروف الرفع والنصب والجر والجزم، وأخذ ذلك عنه يحيى بن يعمر.


وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: أخذ أبو الأسود عن علي بن أبي طالب العربية، فكان لا يخرج شيئاً مما أخذه عن علي إلى آخر حتى بعث إليه زياد: اعمل شيئاً يكون إماماً نعرف به كتاب الله، فلم يفعل حتى سمع قارئاً يقرأ: " أن الله بريء من المشركين ورسوله " فقال: ما ظننت إن أمر الناس قد صار إلى هذا. وقال لزياد: أبغي كاتباً لقناً يفعل ما أقول، فأتي بكاتب من عبد القيس، فلم يرضه، فأتي بآخر، فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقطه فوقه على أعلاه، وإذا ضممت فمي بالحرف فانقطه نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإذا اتبعت شيئاً من ذلك عنة فاجعل مكان النقطة نقطتين، فهذه نقط أبي الأسود.
وروى أبو العباس المبرد، قال: حدثني المازني قال: السبب الذي وضعت له أبواب النحو وعليه أصلت أصوله أن ابنة أبي الأسود قالت له: ما أشد الحر، قال: الحصباء بالرمضاء، قالت: إنما تعجبت من شدته، فقال: أو قد لحن الناس. فأخبر بذلك علياً رضي الله عنه، فأعطاه أصولاً بنى منها، وعمل بعده عليها.
وهو أول من نقط المصاحف، وأخذ النحو عن أبي الأسود عنبسة الفيل، ثم أخذه عن عنبسة ميمون الأقرن، ثم أخذه عن ميمون عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، ثم أخذه عنه عيسى بن عمر، وأخذه عن عيسى الخليل بن أحمد الفراهيدي، ثم أخذه عن الخليل سيبويه، ثم أخذه عن سيبويه الأخفش، وهو سعيد بن مسعدة المجاشعي.
وروى أبو حامد السجستاني قال: حدثني يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: حدثنا سعيد بن سالم الباهلي، قال: حدثنا أبي، عن جدي، عن أبي الأسود الدؤلي، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرأيته مطرقاً متفكراً، فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: إني سمعت ببلدكم لحناً فأردت أن أضع في أصول العربية، فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا، فأتيته بعد أيام فألقى إلي صحيفة فيها: الكلام كله: اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. ثم قال لي: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه.
أخبرنا موهوب بن أحمد، ومحمد بن ناصر، والمبارك بن علي، قالوا: أخبرنا علي بن محمد العلاف، قال: أخبرنا علي بن أحمد بن عمر الحمامي، قال: أخبرنا أبو طاهر عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم، قال: حدثنا محمد بن علي بن إسماعيل الثوري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا عبد الله بن محمد يعني الثوري، قال: سمعت أبا عبيدة يقول: أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي، ثم ميمون الأقرن، ثم عنبسة الفيل، ثم عبد الله بن أبي إسحاق. قال: ووضع عيسى بن عمر في النحو كتابين سمى أحدهما الجامع، والآخر المكمل. فقال الشاعر:
بطل النحو جميعاً كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر
قال عمر بن شبة: وحدثنا حيان بن بشر، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عاصم، قال: أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي، فجاء إلى زياد بالبصرة، فقال: إني أرى العرب قد خالطت الأعاجم، فتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاماً يعرفون به ويقيمون به كلامهم؟ قال: لا، قال: فجاء رجل إلى زياد، فقال أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنون، فقال: ادع لي أبا الأسود، فقال: ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم.
قال الجاحظ: أبو الأسود معدود في طبقات الناس، وهو في كلها مقدم، كان معدوداً في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين والحاضري الجواب والنجلاء والشيعة والصلع الأشراف.
توفي أبو الأسود في هذه السنة، وهو ابن خمس وثمانينسنة.
عامر بن عبد الله وهو الذي يقال له عامر بن عبد قيس: أدرك الصدر الأول، وروى عن عمر، وكان ملازماً للتعبد، غاية في التزهد، وكان كعب الأحبار يقول: هذا راهب هذه الأمة.
أخبرنا ابن ناصر، وعلي بن عمر، قالا: أخبرنا فاروق الله، وطراد، قالا: أخبرنا علي بن محمد بن بشران، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: حدثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني سلمة بن شبيب بن سهل بن عاصم، عن عبد الله بن غالب، عن عامر بن يسياف، قال: سمعت المعلى بن زياد يقول:


كان عامر بن عبد الله قد فرض على نفسه كل يوم ألف ركعة، وكان إذا صلى العصر جلس وقد انتفخت ساقاه من طول القيام، فيقول: يا نفس، بهذا أمرت، ولهذا خلقت، يوشك أن يذهب العناء.
وكان يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوءة، فوعزة ربك لأزحفن بك زحوف البعير، وإن استطعت ألا تمس الأرض من زهمك لأفعلن، ثم يتلوى كما يتلوى الحب على المقلاة، ثم يقوم فينادي: اللهم إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي.
عمرو بن سعيد بن العاص قتله عبد الملك بن مروان بيده، وقد ذكرنا قصته في الحوادث.
فضالة بن عبيد بن نافذ أبو محمد الأنصاري: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسكن الشام، وكان قاضياً لمعاوية، وتوفي في هذه السنة.
يزيد بن ربيعة بن مفرغ أبو عثمان الحميري: سمي جده مفرغاً لأنه راهن على سقاء لبن أن يشربه كله، فشربه حتى فرغه، فسمي مفرغاً. وكان يزيد شاعراً محسناً غزلاً، والسيد من ولده.
ومدح مروان بن الحكم، فقال:
وأقمتم سوق الثناء ولم تكن ... سوق الثناء تقام في الأسواق
فكأنهما جعل الإله إليكم ... قبض النفوس وقسمة الأرزاق
وكان يزيد يهوى أناهيد بنت الأعنق، وكان الأعنق دهقان من دهاقين الأهواز، فنزل مرة بالموصل فزوجوه امرأة، فلما كان اليوم الذي يكون البناء في ليلته خرج يتصيد ومعه غلامه برد، فإذا هو بدهقان على حمار، فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من الأهواز، قال: ما فعلت دهقانة يقال لها أناهيد بنت أعنق؟ فقال: صديقة ابن مفرغ؟ قال: نعم، قال: ما تجف جفونها من البكاء عليه، فقال لغلامه برد: أتسمع؟ قال: نعم، قال: هو بالرحمن كافر إن لم يكن وجهي هذا إليها، فقال لها برد: أكرمك القوم، وزوجوك كريمتهم، ثم تصنع هذا بهم، وتقدم على ابن زياد بعد خلاصك منه، فقال: دع ذا عنك، هو بالرحمن كافر إن رجع عن الأهواز، ومضى على وجهه إلى البصرة، ثم جعل يختلف إلى الأهواز فيزور أناهيد، وقدم على عبيد الله بن أبي بكرة، فأمر له بمائة ألف درهم، ومائة وصيف، ومائة نجيبة، وكان يزيد قد لزمه غرماؤه بدين عليه، فقال لهم: انطلقوا، فجلس على باب الأمير، فخرج من عند الأمير أبو عمر بن عبيد الله بن معمر، وأبو طلحة الطلحات، فلما رآه قال: أبا عثمان ما أقعدك ها هنا؟ قال: غرمائي هؤلاء قد لزموني بدين، قال: وكم هو؟ قال: سبعون ألفاً، قال: علي منها عشرة آلاف، ثم خرج الآخر فسأله، فقال: علي عشرة آلاف، فجعل الناس يخرجون فيضمن كل واحد منهم شيئاً إلى أن خرج عبد الله بن أبي بكرة، فسأله، فأخبره، فقال: وكم ضمن عنك؟ قال: أربعون ألفاً، قال: استمتع بها وعلي دينك أجمع.
وكان عم يزيد يعنفه في حب أناهيد، ويعزله ويعيره، فقال له: يا عم، إن لي بالأهواز حاجة، لي على قوم بها ثلاثون ألف درهم، فإن رأيت أن تتجشم العناء معي وتطالب بحقي، فأجابه، فاستأجر سفينة وتوجه إلى الأهواز، فكتب إلى أناهيد: تهيأي وتزيني واخرجي إلي مع جواريك، فإني موافيك، فلما نزلوا منزلها خرجت إليهم في هيئتها، فلما رآها عمه قال له: قبحك الله، هلا علقت مثل هذه، قال: يا عم، أو قد أعجبتك؟ قال: ومن لا تعجبه هذه، قال: أبجد منك تقول هذا، قال: نعم والله، قال: فإنها والله هذه بعينها. فقال: إنما أشخصتني لأجلها. قال: نعم، ثم انصرف وأقام هو معها إلى أن مات في زمن الطاعون أيام مصعب بن الزبير.
ثم دخلت
سنة سبعين
فمن الحوادث فيها: أن الروم ثارت على من بالشام من المسلمين.
فصالح عبد الملك ملك الروم على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار خوفاً منه على المسلمين.
وفيها: شخص مصعب بن الزبير إلى مكة فقدمها بأموال عظيمة فقسمها في قومه وغيرهم، وقدم بدواب كثيرة وظهر وأثقال، فأرسل إلى عبد الله بن صفوان، وجبير بن شيبة، وعبد الله بن مطيع مالاً كثيراً، ونحر بدناً كثيرة.
وفيها: حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان عماله على أمصاره عماله في السنة التي قبلها على المعاون والقضاء، وبالشام عبد الملك بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
قيس بن الملوح بن مزاحم، وهو مجنون ليلى


وقيل: قيس بن معاذ، وقيل: اسمه البحتري بن الجعدي، وقيل: هو الأقرع بن معاذ، وهو أحد بني جعدة بن كعب بن عامر بن صعصعة، وقيل: هو من بني عقيل بن كعب بن سعد. وقد أنكر قوم وجوده وليس بشيء لأن العمل على المثبت.
وأما ليلى فهي بنت مهدي، وقيل: بنت ورد من بني ربيعة. وتكنى أم مالك، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن جسماً وعقلاً وأدباً وشكلاً.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا أحمد بن محمد البخاري، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: أخبرني أبو محمد البلخي، قال: أخبرني عبد العزيز، عن أبيه، عن ابن دأب، قال: حدثني رجل من بني عامر بن صعصعة يقال له: رباح، قال: كان في بني عامر جارية من أجمل النساء، لها عقل وأدب يقال لها ليلى بني مهدي، فبلغ المجنون خبرها وما هي عليه من الجمال والعقل، وكان صباً بمحادثة النساء، فعمد إلى أحسن لباسه فلبسها وتهيأ، فلما جلس إليها وتحدث بين يديها أعجبته ووقعت بقلبه، فظل يومه ذلك يحدثها وتحدثه حتى أمسى، فانصرف إلى أهله بأطول ليلة حتى إذا أصبح مضى إليها فلم يزل عندها حتى أمسى ثم انصرف، فبات بأطول من ليلته الأولى، وجهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
فوقع في قلبها مثل الذي وقع في قلبه لها، فجاء يوماً يحدثها، فجعلت تعرض عنه وتقبل على غيره، تريد أن تمتحنه وتعلم ما لها في قلبه، فلما رأى ذلك منها اشتد عليه وجزع، فلما خافت عليه أقبلت عليه وقالت:
كلانا مظهر للناس بغضاً ... وكل عند صاحبه مسكين
فسرى عنه، وقالت: إنما أردت أن أمتحنك، والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك، وأنا معطية الله عهداً إن أنا جالست بعد يومي هذا رجلاً سواك حتى أذوق الموت إلا أن أكره على ذلك، فانصرف وهو أسر الناس، فأنشأ يقول:
أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض لا مال لدي ولا أهل
ولا أحد أفضي إليه وصيتي ... ولا صاحب إلا المطية والرحل
محا حبها حب الألى كن قبلها ... وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل
وقد روي لنا في بداية معرفتها قول آخر: أخبرنا ابن نصر، قال: أخبرنا أحمد بن محمد البخاري، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: قال العمري، عن لقيط بن بكير المحاربي: أن المجنون علق ليلى علاقة الصبي، وذلك أنهما كانا صغيرين يرعيان أغناماً لقومهما، فتعلق كل واحد منهما صاحبه، إلا أن المجنون كان أكبر منها، لم يزالا على ذلك حتى كبرا، فلما علم بأمرهما حجبت ليلى عنه فزال عقله، وفي ذلك يقول:
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
أخبرنا أبو ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار،قال: أخبرنا أبو القاسم التنوخي، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا محمد بن خلف، قال: قال أبو عبيدة: كان المجنون يجلس في نادية قومه وهم يتحدثون، فيقبل عليه بعض القوم فيحدثه وهو باهت ينظر إليه،وهو لا يفهم ما يحدثه به، ثم يثوب عقله فيسأل عن الحديث فلا يعرفه. فحدثه مرة بعض أهله بحديث ثم سأل عنه في غداة غد فلم يعرفه، فقال: إنك لمجنون، فقال:
إني لأجلس في النادي أحدثهم ... فأستفيق وقد غالتني الغول
يهوى بقلبي حديث النفس نحوكم ... حتى يقول جليسي أنت مخبول
قال أبو عبيدة: فتزايد الأمر به حتى فقد عقله، فكان لا يقر في موضع، ولا يأويه رحل ولا يعلوه ثوب إلا مزقه، وصار لا يفهم شيئاً مما يكام به إلا أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت أتى بالبداية، فيرجع عقله.
وقد روينا أن قوم ليلى شكوا منه إلى السلطان فأهدر دمه، فقال: الموت أروح لي، فعلموا أنه لا يزال يطلب غرتهم، فرحلوا، فجاء فأشرف فرأى ديارهم بلاقع، فقصد منزل ليلى فألصق صدره به وجعل يمرغ خديه على ترابه، ويقول:
أيا حرجات الحي حيث تحملوا ... بذي سلم لا جادكن ربيع


وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى ... بلين بلى لم تبلهن ربوع
ندمت على ما كان مني ندامة ... كما يندم المغبون حين يبيع
وقال بعض مشايخ بني عامر: إن المجنون لقي ليلى وقومها قد رحلوا، فغشي عليه، فأقبل فتيان الحي فمسحوا وجهه وأسندوه إلى صدورهم، وسألوا ليلى أن تقف له، فقالت: لا يجوز أن أفتضح، ولكن يا فلانة - لأمة لها - اذهبي إليه وقولي له: ليلى تقرأ عليك السلام، وتقول لك أعزز علي بما أنت فيه، ولو وجدت سبيلاً إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي، فمضت فأخبرته، فقال: أبلغيها السلام وقولي لها: إن دائي ودوائي أنت، وقد وكلت بي شقاء طويلاً وبكى، وأنشأ يقول:
وكيف ترى ليلى تقول رجال ... الحي تطمع أن ترى....
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا أحمد بن محمد البخاري، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: قال أبو عمرو الشيباني: لما ظهر من المجنون ما ظهر، ورأى قومه ما ابتلي به اجتمعوا إلى أبيه وقالوا: يا هذا، قد ترى ما ابتلي ابنك به، فلو خرجت به إلى مكة فعاذ ببيت الله، وزار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا الله عز وجل رجونا أن يرجع عقله ويعافيه الله عز وجل، فخرج أبوه حتى أتى إلى مكة، فجعل يطوف به ويدعو له بالعافية وهو يقول:
دعا المجرمون الله يستغفرونه ... بمكة وهناً أن تمحى ذنوبها
فناديت أن يا رب أول سولتي ... لنفسي ليلى ثم أنت حبيبها
فإن أعط ليلى في حياتي لا يتب ... إلى الله خلق توبة لا أتوبها
حتى إذا كان بمنى نادى منادٍ من بعض تلك الخيام: يا ليلى،فخر مغشياً عليه، واجتمع الناس حوله، ونضحوا الماء على وجهه وأبوه يبكي عند رأسه، ثم أفاق وقال:
وداع دعى إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعى باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
أخبرتنا شهدة بإسناد لها عن أبي عمرو الشيباني، عن ابن دأب، عن رباح، قال: حدثني بعض المشايخ، قال: خرجت حاجاً حتى إذا كنت بمنى إذا جماعة على جبل من تلك الجبال فصعدت إليهم، فإذا معهم فتى أبيض حسن الوجه وقد علاه الصفار وبدنه ناحل وهم يمسكونه، قال: فسألتهم عنه، فقالوا: هذا قيس الذي يقال له المجنون، خرج به أبوه لما بلي به يستجير له ببيت الله الحرام وقبر محمد عليه السلام فلعل الله أن يعافيه. قال: فقلت لهم: فما لكم تمسكونه؟ قالوا: نخاف أن يجني على نفسه جناية تتلفه. قال: وهو يقول: دعوني أتنسم صبا نجد، فقال لي بعضهم: ليس يعرفك، لو شئت دنوت منه فأخبرته أنك قدمت من نجد، وأخبرته عنها، قلت: نعم أفعل، فدنوت منه، فقالوا: يا قيس، هذا رجل قدم من نجد. قال: فتنفس حتى ظننت أن كبده قد تصدعت، ثم جعل يسائلني عن موضع موضع وواد واد، وأنا أخبره وهو يبكي، ثم أنشأ يقول:
ألا حبذا نجد وطيب ترابه ... وأرواحه إن كان نجد على العهد
أخبرنا ابن ناصر بالإسناد له عن زياد بن الأعرابي، قال: لما تشبث المجنون بليلى واشتهر بحبها اجتمع إليه أهلها فمنعوه من محادثتها وزيارتها وتهددوه وتوعدوه بالقتل، وكان يأتي امرأة فتعرف له خبرها، فنهوا تلك المرأة عن ذلك، فكان يأتي غفلات الحي في اليل، فلما كثر ذلك خرج أبو ليلى ومعه نفر من قومه إلى مروان بن الحكم فشكوا إليه ما ينالهم من قيس بن الملوح، وسألوه الكتاب إلى عامله بمنعه من كلام ليلى، ويتقدم إليه في ترك زيارتها، فإذا أصابه أهلها عندهم فقد أهدر دمه.
فلما ورد الكتاب على عامله بعث إلى قيس وأبيه وأهل بيته، فجمعهم وقرأ عليهم كتاب مروان، وقال لقيس: اتق الله في نفسك لا تذهب دمك هدراً، فانصرف قيس وهو يقول:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها ... علي يميناً جاهداً لا أزورها
وواعدني فيها رجال أبوهم ... أبي وأبوها خشنت لي صدورها
على غير شيء غير أني أحبها ... وأن فؤادي عند ليلى أسيرها


فلما يئس منها وعلم أن لا سبيل إليها صار شبيهاً بالتائه العقل، وأحب الخلوة وحديث النفس، وتزايد الأمر به حتى ذهب عقله، ولعب بالحصى والتراب، ولم يكن يعرف شيئاً إلا ذكرها، وقول الشعر فيها، وبلغها ما صار إليه قيس فجزعت أيضاً لفراقه، وضنيت ضنى شديداً.
وقد روينا عن يونس النحوي: أن أم قيس سألت ليلى فحضرت عنده ليلاً، وقالت: إن أمك تزعم أنك جننت على رأسي، فقال:
قالت جننت على رأسي فقلت لها ... الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
فبكت معه وتحدثا حتى كاد الصبح أن يسفر، ثم ودعته وانصرفت، فكان آخر عهده بها.
وقد روينا أن أبا المجنون قيده، فجعل يأكل لحم ذراعيه، ويضرب بنفسه الأرض، فأطلقه يدور في الفلاة عرياناً.
ولما زوجت ليلى، وقيل غداً ترحل، قال المجنون ينشد:
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
وروينا أن ليلى لما زوجت جاء المجنون إلى زوجها وهو يصلي في يوم شات، فوقف عليه ثم أنشأ يقول:
بربك هل ضممت إليك ليلى ... قبيل الصبح أو قبلت فاها
وهل رفت عليك قرون ليلى ... رفيف الأقحوانة في نداها
فقال: اللهم إذ حلفتني فنعم، فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر، فما فارقهما حتى سقط مغشياً عليه، فسقط الجمر مع لحم راحتيه.
وكانت له داية يأنس بها، وكانت تخرج إلى الصحراء فتحمل له رغيفاً وماء، فربما أكله وربما تركه، حتى جاءت يوماً وهو ملقى بين الأحجار ميتاً، فاحتملوه إلى الحي، فغسلوه ودفنوه، ولم يبق في بني جعدة ولا في بني الحريش امرأة إلا خرجت حاسرة صارخة عليه تندبه، واجتمع فتيان الحي يبكون عليه أشد بكاء، وينشجون أشد نشيج، وحضرهم حي ليلى معزين وأبوها معهم، وكان أشد القوم جزعاً وبكاء عليه، وجعل يقول: ما علمت أن الأمر يبلغ كل هذا، ولكني امرؤ عربي أخاف من العار، وقبح الأحدوثة، فزوجتها وخرجت عن يدي، ولو علمت أن أمره يجري على هذا ما أخرجتها عن يده، فما رئي يوماً كان أكثر باكياً منه.
وبينما هم يقلبونه وجدوا خرقة فيها مكتوب:
ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضى ... شقيت ولا هنيت من عيشك الخفضا
شقيت كما أشقيتني وتركتني ... أهيم مع الهلاك لا أطعم الغمضا
كأن فؤادي في مخاليب طائر ... إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم ... علي فما تزداد طولاً ولا عرضا
ومن أشعاره الرائقة قوله:
وشغلت عن فهم الحديث سوى ... ما كان منك فإنه شغلي
وأديم لحظ محدثي ليرى ... أن قد فهمت وعندكم عقلي
وقوله:
عجبت لعروة العذري أمسى ... أحاديثاً لقوم بعد قوم
وعروة مات موتاً مستريحاً ... وها أنا ذا أموت بكل يوم
وقد روينا متقدماً أنه كان يهيم في البرية مع الوحش لا يأكل إلا ما ينبت في البر من بقل، ولا يشرب إلا مع الظباء إذا وردت مناهلها، وطال شعر جسده ورأسه، وألفته الوحش وكانت لا تفر منه، وجعل يهيم حتى بلغ حدود الشام، فإذا ثاب عقله إليه رجع وسأل من يمر من أحياء العرب عن نجد، فيقال له: أين أنت من نجد، قد شارفت الشام، فيقول: فأروني الطريق، فيدلونه.
ثم دخلت
سنة إحدى وسبعين
فمن الحوادث فيها: مسير عبد الملك بن مروان إلى العراق لحرب ابن الزبير


وكان عبد الملك لا يزال يقرب من مصعب، ويخرج مصعب ثم تهجم الشتاء فيرجع كل واحد مهنما إلى موضعه، ثم يعودان. ثم إن عبد الملك خرج من الشام يريد مصعباً من سنة سبعين ومعه خالد بن عبد الله، فقال له خالد: إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلاً يسيرة رجوت أن أغلبك عليها، فوجهه عبد الملك، فقدمها مستخفياً في مواليه وخاصته حتى نزل على عمرو بن أصمع الباهلي، فأجاره وأرسل إلى عباد بن الحصين - وكان على شرطة ابن معمر، وكان مصعب إذا شخص عن البصرة استخلف عبيد الله بن عبد الله بن معمر - ورجا عمرو بن أصمع أن يتابعه عباد، فقال له: إني قد أجرت خالداً، وأحببت أن تعلم ذلك لتكون لي ظهراً، فوافاه رسوله حين نزل عن فرسه، فقال له عباد: قل له: والله لا أضع لبد فرسي حتى أتيك في الخيل، فقال عمرو لخالد: إني لا أغرك، هذا عباد يأتينا الساعة، ولا والله ما أقدر على منعك؛ ولكن عليك بمالك بن مسمع.
فخرج يركض، عليه قميص قوهي قد حسره عن فخذيه، وأخرج رجليه من الركابين حتى أتى مالك، فقال: إني قد اضطررت إليك فأجرني، قال: نعم. ووجه مصعب زحر بن قيس مدداً لابن معمر في ألف، ووجه عبد الملك عبد الله بن زياد بن ظبيان مدداً لخالد، فلما وصل علم تفرق الناس فلحق بعبد الملك ودافع مالك بن مسمع عن خالد، وكانت تجري مناوشات وقتال وأصيبت عين مالك بن مسمع فضجر من الحرب، ومشت السفراء بينهم، فصولح مالك على أن يخرج خالد وهو آمن، فأخرجه من البصرة.
فصل ولما جد عبد الملك في قتال مصعب قبل له: لو بعثت غيرك، فقال: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له، وأني أجد في نفسي أني بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجئت إلى ذلك، ومصعب شجاع ولا علم له بالحرب، ومن معه يخالفه، ومن معي ينصح لي.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد المحسن بن محمد، قال: أخبرنا عبد الكريم بن محمد المحاملي، قال: أخبرنا الدارقطني، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سالم، قال: أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني عمر بن أبي بكر القرشي، عن عبد الله بن أبي عبيدة، قال: لما أراد عبد الملك الخروج إلى مصعب أتته امرأته عاتكة بنت يزيد فبكت وبكى جواريها، فجلس ثم قال: قاتل الله ابن أبي جمعة حيث يقول:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه ... حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت وبكى مما عناها قطينها
وسار عبد الملك حتى نزل بمسكن، وكتب إلى شيعته من أهل العراق، ثم جاء مصعب، فلما تراءى العسكران تقاعص بمصعب أصحابه، فقال لابنه عثمان: يا بني، اركب إلى عمك أنت ومن معك فأخبره بما صنع أهل العراق، ودعني فإني مقتول، فقال ابنه: الحق بالبصرة أو بأمير المؤمنين، فقال: والله لا تتحدث قريش أني فررت ولكن أقاتل، فإن قتلت فلعمري ما السيف بعار، وما الفرار لي بعادة.
فأرسل إليه عبد الملك بأخيه محمد بن مروان يقول له: إن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب: إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالباً أو مغلوباً.
فأثخن مصعب بالرمي، ثم شد عليه زائدة بن قدامة فطعنه وقال: يا لثارات المختار، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فاحتز رأسه، وقال: إنه قتل أخي، فأتى به عبد الملك فأثابه ألف دينار، فأبى أن يأخذها وقال: إنما قتلته على وتر صنعه بي، فلا آخذ في حمل رأس مالاً.
وكان قتل مصعب على نهر يقال له الدجيل، ثم دعا عبد الملك أهل العراق فبايعوه.
وفي هذه السنة: دخل عبد الملك الكوفة ففرق أعمال العراق على عماله، هذا قول الواقدي.
وقال المدائني: كان ذلك في سنة اثنتين وسبعين.
ولما أتى الكوفة نزل بالنخيلة، ودعا الناس إلى البيعة، ثم ولى قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة أربعين يوماً ثم عزله، ثم ولى بشر بن مروان، وصعد المنبر فخطب فقال: إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه ولم يغرز بذنبه في الحرم، وإني قد استعملت عليكم بشر بن مروان وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة، والشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا.


واستعمل محمد بن عمير على همذان، ويزيد بن رؤيم على الري، وفرق العمال، وصنع طعاماً كثيراً وأمر به إلى الخورنق، وأذن إذناً عاماً فأكلوا، فقال: ما ألذ عيشنا لو أن شيئاً يدوم، ولكن كما قال الأول:
وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امرئ يوماً يصير إلى كان
ثم أتى مجلسه فاستلقى وقال:
اعمل على مهل فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائن قد كان
وفي هذه السنة: بعث عبد الملك خالد بن عبد الله على البصرة والياً، ووجه خالد عبد الله بن أبي بكرة خليفة له على البصرة، ورجع عبد الملك إلى الشام.
وفيها: افتتح قيسارية.
وفيها: نزع ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة، واستعمل عليها طلحة بن عبيد الله بن عوف، وهو آخر وال لابن الزبير على المدينة، ثم قدم طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة وأقام طارق.
وفيها: قام عبد الله بن الزبير بمكة حين بلغه قتل أخيه مصعب، وقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، إنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب رحمه الله، فأما الذي أفرحنا أن قتله شهادة، وأما الذي أحزننا أن الفراق للحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ألا إن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فلا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام، وما نموت إلا قعصاً بالرماح، وموتاً نحت ظلال السيوف.
وفيها: حج بالناس عبد الله بن الزبير بن العوام.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد بن عبد الله وأمه الرباب بنت أنيف الكلبية. كان من أحسن الناس وجهاً، وأشجعهم قلباً، وأجودهم كفاً. ولما دعي لأخيه عبد الله بن الزبير بالخلافة ولى أخاه مصعباً إمارة العراق، فلم يزل على ولايته إلى أن سار إليه عبد الملك بن مروان، فحاربه فقتل. وكان الذي تولى قتله عبيد الله بن زياد بن ظبيان على دجيل عند نهر الجاثليق واحتز رأسه وحمله إلى عبد الملك، فسجد عبد الملك وقال: واروه فلقد كان من أحب الناس إلي وأشدهم لي لقاء ومودة، ولكن الملك عقيم. فقتل في هذه السنة.
وقال المدائني: قتل يوم الثلاثاء، لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى، أو الآخرة.
وكتب إلى زوجته سكينة بنت الحسين رضي الله عنه بعد خروجه من الكوفة بليال:
وكان عزيزاً إن أبيت وبيننا ... حجاب فقد أصبحت مني على عشر
وأبكاهما للعين والله فاعلمي ... إذا ازددت مثليها فصرت على شهر
وأبكى لقلبي منهما اليوم أنني ... أخاف بأن لا نلتقي آخر الدهر
وقال الماجشون: دخل مصعب على سكينة يوم القتل، فنزع ثيابه، وليس غلالة، وتوشح بثوب، وأخذ سيفه، فعلمت سكينة أنه لا يريد أن يرجع، فصاحت: واحزناه عليك يا مصعب، فالتفت إليها وقد كانت تخفي ما في قلبها عنه، فقال: أوكل هذا لي في قلبك؟ قالت: وما أخفي أكثر، فقال: لو كنت أعلم هذا كانت لي ولك حال، ثم خرج فلم يرجع.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا عبد الكريم بن محمد الضبي، قال: أخبرنا علي بن عمر الحافظ، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم قال: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب، قال: حدثنا أبو محلم، قال: لما قتل مصعب بن الزبير خرجت سكينة تطلبه في القتلى، فعرفته بشامة في خده، فأكبت عليه وقالت: يرحمك الله، نعم والله خليل المسلمة كنت، أدركك والله ما قال عنترة:
وحليل غانية تركت مجدلاً ... بالقاع لم يعهد ولم يتكلم
فهتكت بالرمح الطويل إهابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني الأزهري، قال: أخبرنا محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن حلف بن المزربان، قال: أخبرنا أبو علي السجستاني، قال: حدثني عبد الله بن سلمويه، قال:


أسر مصعب بن الزبير رجلاً فأمر بضرب عنقه، فقال: أصلح الله الأمير، ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة فأتعلق بأطرافك الحسنة، وبوجهك الذي يستضاء به، فأقول: يا رب سل مصعباً فيم قتلني؟ فقال: يا غلام، أعف عنه، فقال: أصلح الله الأمير، إن رأيت أن تجعل ما وهبت لي من حياتي في عيش رخي، قال: يا غلام، أعطه مائة ألف، فقال: أيها الأمير، فإني أشهد الله وأشهدك أني قد جعلت لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً، فقال: له: ولم؟ قال: لقوله فيك:
إنما مصعب شهاب من الل ... ه تجلت عن وجهه الظلماء
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أنبأنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، وأحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا محمد بن الحسن، عن زافر بن قتيبة، عن الكلبي، قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً لجلسائه: من أشجع العرب؟ فقالوا: شبيب بن قطري، وفلان وفلان، فقال: إن أشجع العرب لرجل جمع بين سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وابنة رباب بن أنيف الكلبي سيد ضاحية العرب وولي العراق خمس سنين، فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطي الأمان فأبى ومشى بسيفه حتى مات، ذاك مصعب بن الزبير، لا من قطع الجسور مرة ها هنا ومرة ها هنا.
قال المدائني: قتل يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى أو الآخرة سنة إحدى وسبعين، وهو ابن خمس وأربعين، وقيل: خمس وثلاثين.
ومن العجائب: قول عبد الملك بن عمير الليثي: رأيت في قصر الإمارة بالكوفة رأس الحسين رضي الله عنه بين يدي عبيد الله بن زياد، ثم رأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان.
ثم دخلت
سنة اثنتين وسبعين
فمن الحوادث فيها: ما كان من أمر الخوارج والمهلب.
قال علماء السير: اقتتلت الأزارقة والمهلب بسولاف ثمانية أشهر أشد القتال، فأتاهم قتل مصعب بن الزبير، فبلغ ذلك إلى الأزارقة قبل المهلب، فنادت الخوارج لعسكر المهلب: ما قولكم في مصعب؟ فقالوا: إمام هدى، قالوا: فما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: نحن براء منه، قالوا: فإن مصعب قد قتل، وستجعلون غداً عبد الملك إمامكم.
فلما كان من الغد بلغ المهلب الخبر، فبايع لعبد الملك، فقالت الخوارج: يا أعداء الله، أنتم أمس تتبرأون منه وهو اليوم إمامكم. وكان عبد الملك قد ولى على البصرة خالد بن عبد الله، فبعث خالد للمهلب على خراج الأهواز، وبعث أخاه عبد العزيز على قتال الأزارقة، فهزم وأخذت زوجته بنت المنذر بن الجارود، فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت مائة ألف، وكانت جميلة، فغار رجل من قومها كان من رؤوس الخوارج، فقال: تنحوا، ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم، فضرب عنقها.
وكتب خالد إلى عبد الملك يخبره بما جرى، فكتب إليه: قبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابياً من أهل مكة على القتال وتدع المهلب يجبي الخراج وهو البصير بالحرب، فإذا أمنت عدوك فلا تعمل فيهم برأي حتى يحضر المهلب وتستشيره فيه.
وكتب عبد الملك إلى بشر بن مروان: أما بعد، فإني قد كتبت إلى خالد بن عبد الله آمره بالنهوض إلى الخوارج، فسرح إليه خمسة آلاف رجل، وابعث عليهم رجلاً ترضاه، فإذا قضوا غزاتهم تلك صرفتهم إلى الري فقاتلوا عدوهم.
فقطع على الكوفة خمسة آلاف، وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وقال: إذا قضيت غزاتك هذه فانصرف إلى الري، وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز، فقال له المهلب: إني أرى ها هنا سفناً كثيرة، فضمها إليك، فوالله ما أرى القوم إلا محرقيها، فما لبث إلا ساعة حتى أقبلت خيل من خيلهم فحرقتها. وبعث خالد المهلب على ميمنته، وداود بن قحذم على ميسرته، ومر المهلب على عبد الرحمن بن محمد ولم يخندق، فقال له: يا ابن أخي ما يمنعك من الخندق، فقال: والله لهم أهون علي من ضرطة الحمار، قال: فلا يهونوا عليك فإنهم سباع العرب، لا أبرح أو تضرب عليك خندقاً.


فأقاموا نحو عشرين ليلة، ثم إن خالداً زحف إليهم بالناس، فرأوا عدداً هائلاً، فولوا وأخذ المسلمون ما في عسكرهم، واتبعهم خالد وداود في جيش من أهل البصرة يقتلونهم، وانصرف عبد الرحمن إلى الري، وأقام المهلب بالأهواز، وكتب خالد إلى عبد الملك يخبره بأن المارقين انهزموا وتبعهم فقتل من قتل منهم، وقد تبعهم داود بن قحذم.
فكتب عبد الملك إلى بشر بن مروان: أما بعد فابعث من قبلك رجلاً شجاعاً بصيراً بالحرب في أربعة آلاف فليسيروا إلى فارس في طلب المارقة، فإن خالداً كتب يخبرني أنه قد بعث في طلبهم داود بن قحذم، فمر صاحبك الذي تبعث أن لا يخالف ابن قحذم إذا التقيا.
فبعث بشر عتاب بن ورقاء على أربعة آلاف من أهل الكوفة، فخرجوا فالتقوا بداود فتبعوا القوم إلى أن نفقت عامة خيولهم، ورجعوا إلى الأهواز.
وفي هذه السنة: خرج أبو فديك الخارجي فغلب على البحرين فبعث خالد بن عبد الله أخاه أمية بن عبد الله بجند، فهزمهم أبو فديك، فرجع أمية إلى البصرة.
وفي هذه السنة: وجه عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى مكة لقتال ابن الزبير وكان السبب في توجيهه الحجاج دون غيره، أن عبد الملك لما أراد الرجوع إلى الشام قام إليه الحجاج بن يوسف فقال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه وولني قتاله. فبعثه فخرج في ألفين من أهل الشام في جمادى سنة اثنتين وسبعين فلم يعرض للمدينة، فسار حتى نزل الطائف، فكان قدومه الطائف في شعبان، وقد كتب عبد الملك لأهل مكة الأمان إن دخلوا في طاعته، وكان الحجاج يبعث البعوث إلى عرفة في الخيل، ويبعث ابن الزبير بعثاً فيقتتلون هناك، وفي كل ذلك تهزم خيل ابن الزبير ويرجع الحجاج بالظفر.
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في حصار ابن الزبير ودخول الحرم عليه، ويخبره أن شوكته قد قلت، وقد تفرق عنه عامة أصحابه ويسأله أن يمده برجال.
فكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند بالحجاج، فسار في خمسة آلاف من أصحابه حتى لحق بالحجاج، فلما دخل شهر ذي العقدة رحل الحجاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون، وحصر ابن الزبير لهلال ذي القعدة. وكان قدوم طارق مكة لهلال ذي الحجة، ولم يطف بالبيت ولم يصل إليه وهو محرم، وكان يلبس الحجاج السلاح، ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل ابن الزبير.
ونحر ابن الزبير بدناً بمكة يوم النحر، ولم يحج ذلك العام ولا أصحابه لأنهم لم يقفوا بعرفة، ونحر أصحاب الحجاج وطارق فيما بين الحجون إلى بئر ميمون.
وحج الحجاج بالناس ولم يطف بالبيت، وكان العامل على المدينة طارق مولى عثمان من قبل عبد الملك، وعلى الكوفة بشر بن مروان، وعلى قضائها عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضائها هشام بن هبيرة.
ذكر قصة جرت لطارق بن عمرو مع سعيد بن المسيب
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا علي بن أحمد السري، عن أبي عبد الله بن بطة العكبري،قال: حدثني أبو صالح محمد بن أحمد، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، عن وهب بن وهب، عن عبد الله بن العلاء بن زيد، عن علي بن الحسين رضي الله عنهما، قال:


ولى علينا عبد الملك بن مروان طارقاً مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال علي: فمشيت إلى سالم بن عبد الله بن عمر، وإلى القاسم بن محمد بن أبي بكر، وإلى أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، فقلت: اذهبوا بنا إلى هذا الرجل نسلم عليه وندفع بذلك عن أنفسنا. قال: فأتيناه فسلمنا عليه فأجلسنا عنده، ثم قال لنا: أيكم سعد بن المسيب؟ قال: فكلمه القاسم بن محمد، فقال له: أصلحك الله، إن سعيد بن المسيب قد رفعت عنه الولاة إتيانها، وقد ألزم نفسه المسجد، فليس يبرح منه، قال: رغب أن يأتيني، والله لأقتلنه، والله لأقتلنه، والله لأقتلنه - ثلاثاً - قال القاسم: فضاق بنا المجلس حتى قمنا، فجئت المسجد فتطلعت فيه فإذا سعيد بن المسيب عند اسطوانته جالس، فدخلت عليه فأخبرته بما كان وقلت له: أرى لك أن تخرج الساعة إلى مكة فتعتمر وتقيم بها، قال: ما حضرتني في ذلك نية، وإن أحب الأعمال إلي ما نويت، فقلت له: فإني أرى أن تخرج إلى بعض منازل إخوانك فتقيم فيه حتى ننظر ما يكون من الرجل، قال:فكيف أصنع بهذا الداعي الذي يدعوني في كل يوم وليلة خمس مرات، والله لا دعاني إلا أجبته على أي حال كان، قلت له: فإني أرى أن تقوم من مجلسك هذا فتجلس إلى بعض هذه الأساطين فإنك إن طلبت فإنك تطلب عند اسطوانتك. قال: ولم أقوم من موضعي هذا الذي قد أتاني الله فيه العافية من كذا وكذا سنة، قلت له: رحمك الله، أما تخاف على نفسك كما يخاف الناس؟ فقال لي: والله لا أحلف بالله كاذباً ما خفت شيئاً سواه، قلت له: فبماذا أقوم من عندك رحمك الله، فقد غممتني، فقال: تقوم بخير، أسأل الله رب العرش العظيم أن ينسيه ذكري.
قال: فانصرفت من عنده فجعلت أسأل فرط الأيام هل كان في المسجد خبر؟ فلا أخبر إلا بخير. قال: فأقام علينا والياً سنة لا يذكره ولا يخطر بباله حتى إذا عزل وصار بوادي القرى من المدينة على خمس مراحل، قال لغلامه وهو يوضئه: ويحك أمسك، واسوءتاه من علي بن الحسين، ومن القاسم بن محمد، ومن سالم بن عبد الله، ومن أبي سلمة بن عبد الرحمن، حلفت بين أيديهم ثلاثة أيمان لأقتلن سعيد بن المسيب، والله ما ذكرته إلا في ساعتي هذه، فقال له غلامه: يا مولاي تأذن لي أن أكلمك؟ قال: نعم، قال: فما أراد الله لك خيراً مما أردت لنفسك إذ أنساك ذكره. فقال له: اذهب فأنت حر.
وفي هذه السنة: كتب عبد الملك إلى عبد الله بن خازم السلمي يدعوه إلى بيعته ويطعمه خراسان سبع سنين، فقال للرسول: لولا أن أضرب بيني وبين بني سليم وبني عامر لقتلتك، ولكن كل هذه الصحيفة فأكلها.
وكتب عبد الملك إلى بشير بن وشاح، وكان خليفة ابن خازم على مرو وعلى خراسان، فوعده ومناه فخلع بكير عبد الله بن الزبير، ودعا إلى عبد الملك فأجابه أهل مرو، وبلغ بن خازم فخاف أن يأتيه بكير بن وشاح بأهل مرو، فبرز له فاقتتلوا، فقتل ابن خازم وبعث برأسه إلى عبد الملك.
وبعضهم يزعم أنه إنما كتب عبد الملك إلى ابن خازم بعد قتل ابن الزبير، ونفذ رأس ابن الزبير إليه، فحلف ابن خازم أن لا يعطيه طاعة أبداً، ودعا بطست فغسل الرأس وحنطه وكفنه وصلى عليه، وبعث به إلى أهل ابن الزبير بالمدينة، وأطعم الرسول الكتاب.
وقيل: بل قطع يديه ورجليه وضرب عنقه.
ذكر من توفي هذه السنة من الأكابر
عبيدة السلماني المرادي الهمداني ويكنى أبا مسلم، ويقال: أبا عمرو: أسلم قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين. وسمع من عمرو بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن الزبير، ونزل الكوفة. وروى عنه الشعبي، والنخعي. وحضر مع علي رضي الله عنه وقعة الخوارج بالنهروان، وكان يوازي شريحاً في القضاء، فإذا أشكل على شريح شيء دلهم عليه، وأتاه غلامان بلوحين فيهما كتاب يتخايران، فقال: إنه حكم، وأبي.
وكان من أصحاب عبد الله الذين يقرئون ويفتون.
قال ابن سيرين: ما رأيت رجلاً كان أشد توقياً من عبيدة. قال: وأدركت الكوفة. وبها أربعة ممن يعد بالفقه، فمن بدأ بالحارث بن قيس ثنى بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث، ثم علقمة، وشريح الرابع.
توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وسبعين
فمن الحوادث فيها:
مقتل عبد الله بن الزبير


قد ذكرنا أن ابن الزبير حصر لهلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وما زال الحجاج يحصره ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة. وكانوا يضربونه بالمنجنيق.
قال يوسف بن ماهك: رأيت المنجنيق يرمى به فرعدت السماء وبرقت وعلا صوت كالرعد، فأعظم ذلك أهل الشام فأمسكوا أيديهم، فرفع الحجاج حجر المنجنيق فوضعه ثم قال: ارموا، ثم رمى معهم، ثم جاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلاً، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هذا الفتح قد حضر، فصعقت من الغد صاعقة، فأصيب من أصحاب ابن الزبير عشرة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال: حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: أخبرنا الحميدي، قال :حدثنا سفيان، قال: كانوا يرمون المنجنيق من أبي قبيس ويرتجزون:
خطارة مثل الفنيق المزبد ... أرمي بها أعواد هذا المسجد
قال: فجاءت صاعقة فأحرقتهم، فامتنع الناس من الرمي فخطبهم الحجاج فقال: ألم تعلموا أن بني إسرائيل كانوا إذا قربوا قرباناً فجاءت نار فأكلته علموا أنه قد تقبل منهم، وإن لم تأكله قالوا لم تقبل، فما زال يخدعهم حتى عادوا فرموا.
قال علماء السير: فلم تزل الحرب إلى قبيل مقتل ابن الزبير، فتفرق عامة أصحابه وخذلوه، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان حتى ذكر أن ولديه حمزة وحبيب أخذوا لأنفسهما أماناً، فدخل عبد الله بن الزبير على أمه أسماء حين رأى من الناس ما رأى من الخذلان، فقال لها: خذلتني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، وقد قتل عليك أصحابك، ولا تمكن من رقبتك فينقلب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك. وإن قلت: كنت على الحق فلما وهن أصحابك ضعفت، فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلدوك في الدنيا! القتل القتل أحسن.
فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله عز وجل أن تستحل حرمته، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك في مثل ذلك، فانظري يا أمي فإني مقتول في يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمداً بفاحشة، ولم يجر في حكم الله عز وجل، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم من عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي عز وجل، اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. فقالت: إني لأرجو من الله عز وجل أن يكون عزائي فيك حسناً إن تقدمتني، أخرج حتى أنظر ما يصير أمرك، فقال: جزاك الله يا أماه خيراً، ولا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقالت: لا أدعه أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب في الظلماء، وذلك الصوم في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهم إني قد أسلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
وفي رواية أخرى: أنه دخل عليها وعليه الدرع والمغفر، فوقف فسلم ثم دنا فتناول يدها فقبلها، فقالت: هذا وداع فلا تقعد، فقال: جئت مودعاً، إني لأرى هذا آخر أيامي من الدنيا، واعلمي يا أماه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي، قالت: صدقت يا بني، أتمم على نصرتك، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك، ادن مني أودعك. فدنا منها فودعها وقبلها وعانقها، وقالت حيث مست الدرع: ما هذا صنيع من يريد من تريد، قال: ما لبست هذا الدرع إلا لأشد منك، قالت: فإنه لا يشد مني.
ثم انصرف وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ... إذ بعضهم يعرف ثم ينكر


ثم إن القوم أقاموا على كل باب رجالاً وقائداً، فشحنت الأبواب بأهل الشام، وكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية، ومرة في هذه الناحية، كأنه أسد لا يقدم عليه الرجال، وقالت لابن الزبير زوجته: اخرج أقاتل معك؟ فقال: لا، وأنشد:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول
فلما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير الأبواب، وبات ابن الزبير يصلي ليلته، ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى، ثم انتبه، فقال: أذن يا سعد، فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير، وركع ركعتي الفجر ثم تقدم، وأقام المؤذن، فصلى بأصحابه، فقرأ: " ن والقلم " . وقال: من كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول، وأنشد:
ولست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما
ثم قال: احملوا على بركة الله، ثم حمل حتى بلغ بهم الحجون، فرمي بآجرة فأصابته في وجهه فأرعش لها ودمي وجهه، فلما وجد سخونة الدم تسيل على وجهه ولحيته، قال يرتجز:
فلسنا على الأعقاب تدمي كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وتغاووا عليه فقتل.
وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وسار حتى وقف عليه ومعه طارق بن عمرو، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا فبعث الحجاج رأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو إلى المدينة، فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك، وسيأتي تمام قصة ابن الزبير في ذكر من مات في هذه السنة.
وفي هذه السنة: اجتمع الناس على عبد الملك فكتب إليه ابن عمرو، وأبو سعيد، وسلمة بن الأكوع بالبيعة، وكان عبد الملك يجلس للناس في كل أسبوع يومين.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا أبو العباس الكديمي، قال: أخبرنا السلمي، عن محمد بن نافع مولاهم، عن أبي ريحانة أحد حجاب عبد الملك بن مروان، قال: كان عبد الملك يجلس في كل أسبوع يومين جلوساً عاماً، فبينا هو جالس في مستشرف له وقد أدخلت عليه القصص، إذ وقعت في يده قصة غير مترجمة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته تغنيني ثلاثة أصوات ثم ينفذ في ما يشاء من حكمه.
فاستشاط من ذلك غضباً، وقال: يا رباح، علي بصاحب هذه القصة، فخرج الناس جميعاً وأدخل عليه غلام كما أعذر كأهنأ الصبيان وأحسنهم، فقال له عبد الملك: يا غلام هذه قصتك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وما الذي غرك مني، والله لأمثلن بك، ولأردعن بك نظرائك من أهل الجسارة، علي بالجارية، فجيء بجارية كأنها فلقة قمر، وبيدها عود، فطرح لها كرسي وجلست، فقال عبد الملك: مرها يا غلام، فقال: غني لي يا جارية بشعر قيس بن ذريح:
لقد كنت حسب النفس لو دام أو دنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور
وكنا جميعاً قبل أن يظهر الهوى ... بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة بظهور
فغنته وأجادت، فخرج الغلام من جميع ما كان عليه من الثياب تخريقاً، ثم قال له عبد الملك: مرها تغنيك الصوت الثاني، فقال: غني بشعر جميل:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذاً لسعيد
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت ثابت ويزيد
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود بما جئت طالباً ... ولا حبها فيما يبيد يبيد
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقتها فيعود
فغنته الجارية وسقط مغشياً عليه ساعة، ثم أفاق، فقال له عبد الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث. فقال: يا جارية غني بشعر قيس بن الملوح:
وفي الجيرة الغادين من بطن وجزة ... غزال غضيض المقلتين ربيب


فلا تحسبي أن الغريب الذب نأى ... ولكن من تنأين عنه غريب
فغنته الجارية، فطرح الغلام نفسه من المستشرف فلم يصل إلى الأرض حتى تقطع. فقال عبد الملك: ويحه لقد عجل على نفسه، ولقد كان تقديري فيه غير الذي فعل، وأمر فأخرجت الجارية من قصره، ثم سأل عن الغلام، فقالوا: غريب لا يعرف، إلا أنه منذ ثلاث ينادي في السوق ويده على رأسه:
غداً يكثر الباكون منا ومنكم ... وتزداد داري من دياركم بعدا
وفي هذه السنة: وجه عبد الملك عمر بن عبيد الله لقتال أبي فديك وأمره أن ينتدب معه من أحب، فقدم الكوفة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أعطياتهم، ثم سار بهم، فجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمد بن موسى بن طلحة، وجعل أهل البصرة على الميسرة وعليهم ابن أخيه عمر بن موسى بن عبيد الله، وهو في القلب، حتى انتهوا إلى البحرين، فصف عمر أصحابه، وقدم الرجالة في أيديهم الرماح، فحمل أبو فديك وأصحابه حملة واحدة فكشفوا ميسرة عمر، فارتث عمر، وحمل أهل الكوفة وأهل البصرة، واستباحوا عسكر العدو، وقتلوا أبا فديك، وحصروهم، فنزلوا على الحكم، فقتلوا منهم نحواً من ستة آلاف، وأسروا ثمانمائة، وانصرفوا إلى البصرة.
وفيها: عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة.
وفيها: غزا محمد بن مروان الصائف، وهزم الروم.
وكانت وقعة عثمان بن الوليد بالروم من ناحية أرمينية، وكان في أربعة آلاف، والروم في ستين ألفاً فهزمهم وأكثر القتل فيهم.
وفي هذه السنة: حج بالناس الحجاج بن يوسف وهو على مكة واليمن واليمامة، وكان على الكوفة والبصرة بشر بن مروان.
وبعضهم يقول: كان على الكوفة بشر، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضاء الكوفة شريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان بكير بن وشاح.
وقد ذكرنا في الحوادث ما فعل عبد الله بن خازم، فأقره عبد الملك على خراسان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أسماء بنت أبي بكر الصديق أسلمت قديماً، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ذات النطاقين.
وذلك أنها شقت نطاقها نصفين حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى الغار، فجعلت واحداً لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر عصاماً لقربته.
تزوجها الزبير وولدت عبد الله، وعروة، والمنذر، وعاصم، والمهاجر، وخديجة، وأم الحسن، وعائشة، وطلقها. وكانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك لها. وماتت في هذه السنة بعد أن قتل ابنها عبد الله بن الزبير بليال.
بشر بن مروان بن الحكم أخو عبد الملك: ولي الولايات. أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن إبراهيم الجبري، قال: أخبرنا علي بن الحسن بن الفضل، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن خالد الكاتب، قال: أخبرنا علي بن عبد الله بن المغيرة الجوهري، قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، قال: حدثني الزبير بن بكار، عن القاسم بن عدي، عن أبيه، قال: قال لي يتاذوق الطبيب الذي كان للحجاج - وكان قد أدرك كسرى بن هرمز، وأدرك الحجاج، أتت عليه ثلاثون ومائة سنة - قال: قال لي أمير من أمراء العراق ولم يسمه - قال الهيثم: وظنناه يعني بشر بن مروان، وذلك أن بشراً مات بالعراق وهو أميرها: يا يتاذوق، ما ترى هذه العلة قد طالت بي؟ فقلت: أصلح الله الأمير، لا يستقيم أن أصف لك شيئاً حتى أستبرىء ما بك، وإن أحب الأمير أن أستبرىء ذلك فليدع بي على ريق النفس.


فلما كان من الغد دعا بي، فدخلت عليه واضجعته على حصير ليس تحته ولا تحت رأسه شيء، فجسست ما بين أخمص قدميه إلى هامته، ثم قلت: اجلس أيها الأمير، فجلس، فقلت: أيما أحب إليك أيها الأمير، الصدق أم الكذب؟ قال: ما حاجتي إلى الكذب، بل الصدق أحب إلي، قلت: أيها الأمير، إن الله عز وجل كتب الفناء على خلقه فهم ميتون، فاعهد عهدك واكتب وصيتك. قال: يا يتاذوق، قد نعيت إلى نفسي. قلت: أيها الأمير، إن أردت أريك إمارة ما قلت؟ قال: نعم، قلت: فادع لي بلحم أحمر، فدعى بمسلوخ، فأخذت قطعة من لحم الفخذ حراء، فرققتها حتى جعلتها مثل قشر البيض، ثم ثقبت فيها ثقباً وجعلت فيه خيط إبريسم دقيق، ثم قلت: ازدردها أيها الأمير، فازدردها فتركتها في جوفه ساعة، ثم جذبتها بالخيط فأخرجتها فإذا هي مملوءة دوداً، فقلت: أيها الأمير، ما بقاء جوف هذا فيه، فقال: يا يتاذوق، وأنى أصابني هذا، فوالله لقد قدمت مصركم هذا فكتبت نفسي من الحر والبرد، فقلت: أيها الأمير، منها أتيت، قدمت هذا المصر فكتبت نفسك في الشتاء باللبود والنيران، فلم يصل إليك البرد، وكتبته في الصيف بثياب الكتان والماء والثلج فلم يصل إليك الحر فتفكك جوفك، والأبدان لا تقوم إلا بالحر والبرد وإن أذاها.
قال: فوالله ما عاش بعد هذا الكلام إلا ثلاثة أيام حتى مات.
صفوان بن محرز المازني كان من كبار العباد الصالحين. وأسند عن ابن عمر، وأبي موسى، وعمران بن حصين في آخرين.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا المعلى بن راشد، قال: أخبرنا جعفر، قال: أخبرنا المعلى بن زياد الفردوسي، قال: كان لصفوان سرب يبكي فيه.
أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا علي بن محمد الخطيب، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قال: حدثنا الحسين بن صفوان، قال: حدثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني شريح بن يونس، قال: حدثنا عثمان بن مطر، عن هشام بن حسان، عن الحسن، قال: لقيت أقواماً كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم ولقد لقيت أقواماً كانوا من حسناتهم أشفق ألا تقبل منهم من سيئاتكم، ولقد صحبت أقواماً كان أحدهم يأكل على الأرض وينام على الأرض، منهم صفوان بن محرز المازني، كان يقول: إذا آويت إلى أهلي وأصبت رغيفاً أكلته، فجزى الله الدنيا عن أهلها خيراً، والله ما زاد على رغيف حتى فارق الدنيا، فيظل صائماً ويفطر على رغيف ويشرب عليه من الماء حتى يتروى، ثم يقوم فيصلي حتى يصبح، فإذا صلى الفجر أخذ المصحف فوضعه في حجره يقرأ حتى يترجل النهار ثم يقوم فيصلي حتى ينتصف النهار، فإذا انتصف النهار رمى بنفسه على الأرض فنام إلى الظهر، وكانت تلك نومته حتى فارق الدنيا، وكان إذا صلى الظهر قام فصلى إلى العصر، فإذا صلى العصر وضع المصحف في حجره، فلا يزال يقرأ حتى تصفر الشمس.
عبد الله بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن أسلم بمكة مع أبيه وهو صغير قبل أن يبلغ، وهاجر مع أبيه، وشهد غزوة الخندق وما بعدها، وحضر يوم القادسية ويوم جلولاء وما بينهما من وقائع الفرس.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عبد الله رجل صالح " .
وقال جابر بن عبد الله: ما أدركنا أحداً إلا وقد مالت به الدنيا إلا ابن عمر.
وقالت عائشة: ما رأيت أحداً ألزم للأمر الأول من ابن عمر.
وقال سعيد بن المسيب: لو شهدت لأحد أنه من أهل الجنة لشهدت لعبد الله بن عمر.
وقال طاووس: ما رأيت رجلاً أورع من ابن عمر، وكان يقول في سجوده: قد تعلم أنه ما يمنعني من مزاحمة قريش على هذه الدنيا إلا خوفك.
أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال :أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا أحمد بن زيد بن الحريش، قال: حدثنا أبو حاتم، قال: حدثنا الأصمعي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال:


اجتمع في الحجر أربعة: مصعب، وعروة، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنوا، فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم. وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين. وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة. قال: فنالوا ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له.
أخبرنا عبد الله بن علي المقري، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا طراد بن محمد، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: أخبرنا أبو علي بن صفوان، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثني أحمد بن عبد الأعلى الشيباني، قال: حدثنا إسماعيل بن أبان العامري، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن طارق بن عبد العزيز، عن الشعبي، قال: لقد رأيت عجباً، كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعدما فرغوا من حديثهم: ليقم رجل منكم فليأخذ بالركن اليماني وليسأل الله حاجته، فإنه يعطى سؤله، قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولد في الهجرة، فقام فأخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة بيتك وحرمة نبيك عليه السلام ألا تميتني من الدنيا حتى توليني الحجاز ويسلم علي بالخلافة. وجاء حتى جلس،فقالوا: قم يا مصعب، فقام فأخذ بالركن اليماني، فقال:اللهم إنك رب كل شيء وإليك يصير كل شيء، أسألك بقدرتك على كل شيء ألا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق وتزوجني سكينة بنت الحسين، وجاء حتى جلس، فقالوا: قم يا عبد الملك، فقام فأخذ بالركن اليماني، فقال: اللهم رب السموات السبع ورب الأرض ذات النبت بعد القفر أسألك ما سألك عبادك المطيعين لأمرك، وأسألك بحرمة وجهك، وأسألك بحقك على جميع خلقك، وبحق الطائفين حول بيتك ألا تميتني من الدنيا حتى توليني شرق الأرض وغربها، ولا ينازعني أحد إلا أتيت برأسه، ثم جاء حتى جلس، ثم قالوا: قم يا عبد الله بن عمر، فقام حتى أخذ بالركن اليماني ثم قال: اللهم إنك رحمن رحيم، أسألك برحمتك التي سبقت غضبك، وأسألك بقدرتك على جميع خلقك ألا تميتني من الدنيا حتى توجب لي الجنة.
قال الشعبي: فما ذهبت عيناي من الدنيا حتى رأيت كل رجل منهم قد أعطي ما سأل، وبشر عبد الله بن عمر بالجنة، ورأيت له.
أخبرنا ابن حبيب العامري، قال: أخبرنا علي بن الفضل، قال: أخبرنا ابن عبد الصمد، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا إبراهيم بن خريم، قال: أخبرنا عبد الحميد، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي عمرو بن حماس، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، قال: خطرت هذه الآية: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " فذكرت ما أعطاني فما وجدت شيئاً أحب إلي من جاريتي رميثة، فقلت: هي حرة لوجه الله، فلولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها، فأنكحها نافعاً، فهي أم ولده.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله الأصفهاني، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه إلى الله عز وجل، قال نافع: كان رقيقه قد عرفوا ذلك منه، فربما شمر أحدهم فيلزم المسجد، فإذا رآه على تلك الحالة الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرحمن، والله ما بهم إلا أن يخدعوك، فيقول ابن عمر: من خدعنا بالله انخدعنا له.
قال نافع: ولقد رأيتنا ذات عشية وراح ابن عمر على نجيب له قد أخذ بمال، فلما أعجبه مسيره أناخه مكانه ثم نزل عنه، فقال: يا نافع، انزعوا زمامه ورحله وحللوه وأشعروه وادخلوه في البدن. قال نافع: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان، وما زاد. وكان يحيي الليل صلاة، فإذا جاء السحر استغفر إلى الصباح، وكان يحيي ما بين الظهر إلى العصر. وكان البر لا يعرف في عمر ولا ابن عمر حتى يقولا أو يعملا.
قال محمد بن سعد: أخبرنا الواقدي، قال: حدثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، قال:


كان زج رمح رجل من أصحاب الحجاج قد أصاب رجل ابن عمر، فاندمل الجرح، فلما صدر الناس انتقض على ابن عمر فدخل الحجاج يعوده، فقال: من أصابك؟ قال: أنت قتلتني، قال: وفيم؟ قال: حملت السلاح في حرم الله فأصابني بعض أصحابك، فلما حضرته الوفاة أوصى ألا يدفن في الحرم، فغلب فدفن في الحرم وصلى عليه الحجاج.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد، قال: حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: حدثني أبو عبد الله، قال: مات عبد الله بن عمر سنة ثلاث وسبعين.
وكذلك قال أبو الفضل بن دكين وابن بكير.
وقيل :إنه مات في سنة أربع وسبعين.
وعن سعيد بن عفير قال: في سنة أربع وسبعين مات عبد الله بن عمر بمكة، فدفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين وقيل: إنه دفن بفج وهو ابن أربع وثمانين.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: وفي مقدار عمره قول آخر: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا الخطيب بإسناده عن مالك، قال: بلغ عبد الله بن عمر من السن تسعاً وثمانين سنة.
عبد الله بن الزبير بن العوام، أبو بكر أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهو أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بعد الهجرة.
ولد بقباء على رأس عشرين شهراً من الهجرة، وحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة، وأذن أبو بكر في أذنه. ولم يزل مقيماً بالمدينة إلى أن توفي معاوية، فبعث يزيد إلى الوليد بن عتبة يأمره بالبيع، فخرج ابن الزبير إلى مكة، وجعل يحرض الناس على بني أمية، فوجد عليه يزيد إلا أنه مشى ابن الزبير إلى يحيى بن الحكم والي مكة، فبايعه ليزيد، فقال يزيد: لا أقبل حتى يؤتى به في وثاق، فأبى ابن الزبير، وقال: اللهم إني عائذ ببيتك، وجرت حروب، وحوصر ابن الزبير، ثم مات يزيد، فدعى إلى نفسه، وسمي أمير المؤمنين، وولى العمال، واستوثقت له البلاد ما خلا طائفة من الشام فإنهم بايعوا مروان.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز، قال: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه: أن عبد الله بن الزبير رأى في منامه كأنه صارع عبد الملك بن مروان، فصرع عبد الملك، وسمره في الأرض بأربعة أوتاد، فأرسل راكباً إلى البصرة وأمره أن يلقى ابن سيرين ويقص الرؤيا عليه ولا يذكر له من أنفذه، ولا يسمي عبد الملك، فسار الراكب حتى أناخ بباب ابن سيرين وقص عليه المنام، فقال ابن سيرين: من رأى هذا؟ قال: أنا رأيته في رجل بينه وبيني عداوة، قال: ليس هذه رؤياك، هذه رؤيا ابن الزبير أو عبد الملك أحدهما في الآخر، فسأله الجواب، فقال: ما أفسرها أو تصدقني فلم يصدقه، فامتنع من التفسير، فانصرف الراكب إلى ابن الزبير فأخبره بما جرى، فقال: ارجع وأصدقه أني رأيتها في عبد الملك، فرجع الراكب إلى ابن سيرين برسالة ابن الزبير، فصدقه فقال له: قل له: يا أمير المؤمنين، عبد الملك يغلبك على الأرض، ويلي هذا الأمر من ولده لظهره أربعة بعدد الأوتاد التي سمرتها في الأرض.
فلما مات مروان ولي عبد الملك، وأقبل فقتل مصعب بن الزبير، وبعث الحجاج إلى عبد الله فحصره وجرى له ما تقدم ذكره.
قال علماء السير: قتل ابن الزبير يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأول، وصلبه الحجاج على الثنية التي بالحجون، ثم أنزله فرماه في مقابر اليهود، وكتب إلى عبد الملك يخبره، فكتب إليه يلومه، ويقول: ألا خليت أمه تواريه، فأذن لها فوارته.
أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، وعفان بن مسلم، وأبو عامر العقدي، قالوا: حدثنا الأسود بن سفيان، قال: حدثنا نوفل بن أبي عقرب:


أن الحجاج لما قتل ابن الزبير صلبه على عقبة المدينة، فمر به ابن عمر، فوقف فقال: السلم عليك أبا خبيب، أما والله لقد نهيتك عن عدو الله، أما والله ما علمت أنك كنت صواماً قواماً، ثم استنزله الحجاج فرمى به في مقابر اليهود، ثم بعث إلى أمه وقد ذهب بصرها أن تأتيه، فأبت، فأرسل إليها: لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك حتى يأتيني بك، فأرسلت إليه: إني والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني، فأتاه رسوله فأخبره، فقال: يا غلام، ناولني سبتتي، فناوله نعليه فانتعل ثم خرج يتوذف حتى أتاها، فدخل عليها فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، وقد بلغني أنك تعيره فتقول: يا ابن ذات النطاقين، وقد كنت والله ذات النطاقين أما أحدهما فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، وأما النطاق الآخر فإني كنت أرفع فيه طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي من النمل وغيره، فأي ذلك ويل أمك عيرته به، أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه سيخرج من ثقيف رجلان: كذاب، ومبير " . فأما الكذاب فقد رأيناه ابن أبي عبيد، وأما المبير فأنت ذلك، فوثب فانصرف عنها ولم يراجعها.
أنبأنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا أحمد بن الحسين الباقلاوي، قال: حدثنا أبو علي بن شاذان، قال: حدثنا دعلج، قال: حدثنا محمد بن علي بن زيد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، قال: دخلت علي أسماء بنت أبي بكر بعد قتل عبد الله بن الزبير، فقالت: بلغني أنهم علقوا عبد الله منكساً، وعلقوا معه هرة، والله لوددت أني لا أموت حتى يدفع إلي فأغسله وأكفنه وأحنطه ثم أدفنه، فما لبثت حتى جاء كتاب عبد الملك أن يدفع إلى أهله، فأتيت به أسماء فغسلته وكفنته وحنطته ثم دفنته.
وعن أيوب فأحسبه قال: فما عاشت بعد ذلك إلا ثلاثة أيام حتى ماتت.
قال إبراهيم الحربي: قتل الحجاج ابن الزبير وقطعه قطعاً، فغسلته أسماء أمه - وكانت مكفوفة - فكانت تغسله قطعة قطعة، ويوضع في الأكفان.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد بن يوسف، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن سعد بن الحسين بن سفيان الثوري، قال: أخبرنا حرملة بن يحيى، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: حدثنا سفيان عن منصور بن عبد الرحمن الجمحي، عن أمه، قالت: دخل عبد الله بن عمر المسجد وابن الزبير قد قتل وصلب، فقيل له: هذه أسماء بنت أبي بكر في المسجد فمال إليها وقال: اصبري فإن هذه الجثث ليست بشيء وإنما الأرواح عند الله،فقالت: وما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
أخبرنا عبد الحق، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد بن يوسف، قال: أخبرنا أبو بكر بن بشران، قال: حدثنا الدارقطني، قال: حدثنا البغوي، قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا علي بن مجاهد، قال: حدثنا رياح النوبي أبو محمد مولى آل الزبير، قال: سمعت أسماء بنت أبي بكر تقول للحجاج: إن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم فدفع دمه إلى ابني فشربه، فأتاه جبريل فأخبره فقال: ما صنعت؟ قال: كرهت أن أصب دمك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تمسك النار " ومسح على رأسه، وقال: " ويل الناس منك وويل لك من الناس " .
أخبرنا علي بن عبد الله الزغواني، قال: أخبرنا عبد الصمد بن علي بن المأمون، قال: أخبرنا عبيد الله بن محمد بن حبابة، قال: أخبرنا يحيى بن أحمد بن صاعد، قال: أخبرنا عبد الجبار بن العلاء، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا هشام بن عروة، قال: أوصى إلى الزبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة، فكان ينفق من ماله، ويحبس عليهم أموالهم، منهم عثمان، والمقداد، وعبد الرحمن بن عوف. قال: وأوصى إلى عبد الله بن الزبير عائشة وحكيم بن حزام، وقال: اعتد بمكرمتين لم يعتد بهما أحد من الناس، وأوصت له عائشة بحجرتها واشترى حجرة سودة، فصارت له حجرتان من حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني عبد الله بن الزبير.
ثم دخلت
سنة أربع وسبعين
فمن الحوادث فيها:
أن عبد الملك عزل طارق بن عمرو عن المدينة
واستعمل عليها الحجاج بن يوسف:


فانصرف الحجاج إلى المدينة والياً عليها في صفر، فأقام بها ثلاثة أشهر يعبث بأهلها ويتعنتهم ويقول: قتلتم أمير المؤمنين، وبنى بها مسجداً في بني سلمة، فهو ينسب إليه. واستخف فيها بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فختم في أعناقهم.
ودعا سهل بن سعد، فقال: ما منعك أن تنصر عثمان؟ قال: قد فعلت. قال: كذبت، ثم أمر به فختم في عنقه برصاص. وختم في عنق أنس بن مالك، وكلمه بالقبيح.
فلما جاءه كتاب عبد الملك بولاية العراقين أعطى البشير ثلاثة آلاف دينار وهو يقول: الحمد لله الذي أخرجني منها.
وفي هذه السنة: استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني.
وفيها: نقض الحجاج بنيان الكعبة الذي كان بناه ابن الزبير، وأخرج الحجر منها وأعادها إلى بنيانها الأول.
وفيها: ولى عبد الملك المهلب لحرب الأزارقة.
وذلك أنه لما صار بشر إلى البصرة كتب إليه عبد الملك: أما بعد: فابعث المهلب بن أبي صفرة في أهل مصر إلى الأزارقة، ولينتخب من أهل مصر ووجوههم وفرسانهم، فإنه أعرف بهم، وخله ورأيه في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين، وابعث من أهل الكوفة بعثاً كثيفاً، وابعث عليهم رجلاً معروفاً شريفاً، ثم انهض بأهل المصرين واتبعوهم أي وجه توجهوا.
ففعل ذلك، فلما تراءى العسكران برامهرمز لم يلبث الناس إلا عشراً حتى أتاهم نعي بشر، وتوفي بالبصرة.
وقد ذكرنا في رواية: أن بشراً توفي في السنة التي قبلها.
وفي هذه السنة: عزل عبد الملك بكير بن وشاح، وولى أمية بن خالد بن أسد.
وفيها: حج بالناس الحجاج وهو على مكة والمدينة، وكان ولى قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مخرمة، وكان على الكوفة والبصرة بشر بن مروان، هذا في رواية. وقد ذكرنا أنه توفي في السنة التي قبلها.
وكان على خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.
ذكر من توفي هذه السنة من الأكابر
رافع بن خديج بن رافع بن عدي بن زيد، أبو عبد الله شهد أحداً والمشاهد بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورمي بسهم في ثندوته يوم أحد، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنزع السهم، فقال: " إن شئت نزعت السهم، والقطبة جميعاً، وإن شئت نزعت السهم وتركت القطبة، وشهدت لك يوم القيامة أنك شهيد " . قال: انزع القطبة واشهد لي. ففعل، فانتفض عليه في أول هذه السنة، فمات منه بالمدينة وهو ابن ست وثمانين سنة.
سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الله بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج أبو سعيد الخدري كان من أفاضل الأنصار، استصغر يوم أحد، فرد ثم خرج فيمن يتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من أحد، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " سعد بن مالك " . قال: قلت: نعم بأبي وأمي، ودنوت منه فقبلت ركبته، فقال: " آجرك الله في أبيك " . وكان قتل يومئذ شهيداً.
ثم شهد أبو سعيد الخدري الخندق وما بعدها، وورد المدائن مع علي بن أبي طالب لما حارب الخوارج بالنهروان. وروى عنه من الصحابة: جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب، قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن معاذ، قال: حدثنا أبو داود السبخي، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، قال: حدثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من أبي سعيد الخدري.
قال أبو موسى محمد بن المثنى: مات أبو سعيد سنة أربع وسبعين.
سلمة الأكوع، واسم الأكوع سنان بن عبد الله بن قشير غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وشهد الحديبية، وبايعه تحت الشجرة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فغزا معه سبع غزوات، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فغزا معه فقتل سبعة أهل أبيات: أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: حدثنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا الضحاك بن مخلد، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، قال:


خرجت أريد الغابة فلقيت غلاماً لعبد الرحمن بن عوف فسمعته يقول: أخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: فمن أخذها؟ قال: غطفان. قال: فانطلقت فناديت: يا صباحاه يا صباحاه حتى أسمعت من بين لابتيها. ثم مضيت فاستنقذتها منهم.
قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاش، أعجلناهم أن يستقوا لشفتهم، فقال: " يا ابن الأكوع، ملكت فأسجح، إنهم الآن في غطفان يقرون " . قال: وأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه.
قال ابن سعد: وأخبرنا حماد بن مسعدة، عن يزيد بن أبي عبيدة، عن سلمة بن الأكوع أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في البدو فأذن له.
قال: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد العزيز بن عقبة، عن إياس بن سلمة، قال: توفي أبو سلمة بالمدينة سنة أربع وسبعين، وهو ابن ثمانين سنة.
عمرو بن ميمون الأودي روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، ومعاذ، وأبي أيوب، وأبي مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس.
وكان من الصالحين إذ أري ذكر الله عز وجل، وحج ستين حجة.
محمد بن حاطب بن الحارث، أبو القاسم الجمحي وهو أول من سمي في الإسلام بمحمد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولد في السفينة حين ذهبوا إلى النجاشي، ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه وتفل في فيه ودعا له بالبركة.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي بمكة قي هذه السنة.
ثم دخلت
سنة خمس وسبعين
فمن الحوادث فيها: ضرب عبد الملك الدنانير والدراهم وقد روينا أن أول من ضرب الدراهم آدم عليه السلام.
وقد وجدوا دراهم ضرب عليها اسم أردشير بن بابك قبل الإسلام بأكثر من أربعمائة سنة، فضربها عبد الملك ونقش عليها. وكانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطاً إلا حبة بالشامي، وكانت العشرة وزن سبعة.
وقيل: ضربها سنة ست وسبعين.
أنبأنا محمد بن عبد الملك، قال: أنبأنا محمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: أخبرنا أبو علي بن الصواف، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثني هارون بن محمد، قال: حدثنا زبير، عن عبد الرحمن بن المغيرة الجزامي، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه: أن عبد الملك أول من ضرب الدنانير والدراهم في سنة خمس وسبعين.
وقال وكيع: وأخبرني محمد بن الهثيم، قال: سمعت ابن بكير يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: أول من ضرب الدنانير عبد الملك، وكتب عليها القرآن.
قال وكيع: وأخبرني ابن أبي خيثمة، عن مصعب بن عبد الله، قال: وكان وزن الدراهم والدنانير في الجاهلية وزنها اليوم في الإسلام مرتين تدور بين العرب، وكان ما ضرب منها ممسوحاً غليظاً قصيراً، وليس فيها كتاب حتى كتبها عبد الملك، فجعل في وجه: قل هو الله أحد، وفي الوجه الآخر: لا إله إلا الله. وطوقها بطوق فضة وكتب فيه: ضرب هذا الدرهم بمدينة كذا، وفي الطرف الآخر: محمد رسول الله أرسله " بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون " .
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد الله البقال، قال: حدثنا أبو الحسين بن بشران، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال: حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: حدثنا هارون بن معروف، قال: قال أبو سعد: الحجاج أول من ضرب الدراهم البيض، وكتب فيها: " قل هو الله أحد " . قال: فقالوا: قاتله الله، أي شيء هذا يحمل الناس على أن يأخذه الجنب والحائض.
قال هارون: وقال سفيان: أول من ضرب الدراهم السود زياد، وأول من ضرب الدنانير عبد الملك بن مروان.
قال إبراهيم النخعي: جعل عمر بن الخطاب وزن عشرة دراهم ستة دنانير، فلما ولي زياد جعل وزن عشرة سبعة.


روى أبو القاسم بن زنجي الكاتب، قال: سمعت وكيعاً يقول: كان القبط يكتبون على القراطيس: بسم الأب والابن والروح القدس، وكذلك على الدراهم، فوقف على ذلك عبد الملك بن مروان فأمر بتغييرها، وأن يكتب عليها من القرآن وغيره. وأدخلت بلاد الروم على حسب ما كانت تدخل، فلما رأى ملك الروم النقش مخلفاً لما كان عليه سأل عنه، فترجم له، فأنكر وأهدى إلى عبد الملك هدية وكتب إليه يسأله أن يجري الأمر في القراطيس على ما كان عليه، فرد الهدية، وأبى ذلك، فبعث إليه ملك الروم يتوعده، فقطع الدنانير عن بلده، فبعث إليه إن تعامل بها المسلمون بعد هذا فافعل، وضرب الدنانير عبد الملك، فأما الدراهم فإنها كانت ثلاثة أصناف: الوافية، وهي النعلية، وزن الواحد مثقال. والصنف الآخر الجزية، وزن الواحد نصف مثقال، وكان يتعامل بها في المشرق. والصنف الثالث الطبرية، وزن العشرة منها ستة مثاقيل، فجمع عبد الملك الثلاثة أصناف عشرة عشرة، فصارت ثلاثين درهماً عدداً، وزنها واحد وعشرون مثقالاً، فصير السبعة عشرة.
ومن الحوادث فيها: غزوة محمد بن مروان الصائفة حين خرجت الروم.
ولاية الحجاج الكوفة وخطبته في أهلها.
وفيها: ولى عبد الملك بن يحيى بن الحكم بن أبي العاص المدينة، وولى الحجاج بن يوسف العراق دون خراسان وسجستان. فقدم الحجاج الكوفة بعد وفاة بشر بن مروان في اثني عشر راكباً على النجائب حتى دخل الكوفة، فجأة، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الحرورية فبدأ الحجاج بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز حمراء، فلما اجتمع الناس هموا به فكشف عن وجهه وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
قال مؤلف الكتاب: قد رويت لنا هذه الحالة مختلفة ونحن نذكرها بطرقها.
أخبرنا أبو المبارك الأنماطي، قال: أخبرنا أبو الحسين، ابن عبد الجبار الصيرفي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن النصيبي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد.
وأنبأنا علي بن عبيد الله، عن عبد الصمد بن المأمون، عن إسماعيل بن سعيد، قال: خبرنا أبو بكر الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد الله، قال: حدثنا محمد بن يزيد بن ريان الكلبي، عن عبد الملك بن عمير، قال : لما اشتدت شوكة أهل العراق وطال وثوبهم بالولاة يحصبونهم ويقصرون بهم أمر عبد الملك، فنادى الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم ثم قال: أيها الناس، إن العراق قد علا لهيبها، وسطع وميضها، وعظم الخطب فيها، فجمرها ذكي وشهابها وري، فهل من رجل ينتدب لهم ذي للاح عتيد، وقلب شديد، فيخمد نيرانها، ويبيد شبانها، فسكت الناس، فوثب الحجاج بن يوسف، وقال: أنا يا أمير المؤمنين، قال: ومن أنت؟ قال: الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم القريتين، قال له: اجلس فلست هناك، ثم أطرق عبد الملك مليا، ثم رفع رأسه، وقال: من للعراق؟ فسكت الناس، فوثب الحجاج وقال: أنا يا أمير المؤمنين، قال: ومن أين أنت؟ قال : من قوم رغبت في مناكحتهم قريش ولم يقيت منهم، وإعادة الكلام مما ينسب صاحبه إلى العي، ولولا ذلك لأعدت الكلام الأول، فقال له: اجلس فلست هناك. ثم أطرق عبد الملك ملياً ورفع رأسه وقال: من لأهل العراق؟ فسكت الناس، فوثب الحجاج فقال: أنا للعراق، يا أمير المؤمنين، قال: وما الذي أعددت لأهل العراق؟ قال: ألبس لهم جلد النمر، ثم أخوض الغمرات، وأقتحم الهلكات، فمن نازعني طلبته، ومن لحقته قتلته بعجلة وريث، وتبسم وازورار، وطلاقة واكفهرار، ورفق وجفاء، وصلة وحرمان، فإن استقاموا كنت لهم ولياً حفياً، وإن خالفوا لم أبق منهم أحداً، فهذا ما أعددت لهم يا أمير المؤمنين، ولا عليك أن تجربني، فإن كنت للطلى قطاعاً وللأرواح نزاعاً، وللأموال جماعاً، وإلا فاستبدل بي فإن الرجال كثير.
فقال عبد الملك: أنت لها، ثم التفت إلى كاتبه، وقال: اكتب عهده، ولا تؤخره، واعطه من الرجال والكراع والأموال ما سأل.


قال عبد الملك بن عمير: فبينا نحن جلوس في المسجد الأعظم بالكوفة إذ أتانا آت فقال: هذا الحجاج بن يوسف وقد قام أميراً على العراق، فاشرأب الناس نحوه، وأفرجوا له إفراجه عن صحن المسجد، فإذا نحن به يتنهنس في مشيته عليه عمامة حمراء متلثماً بها متنكباً قوساً عربياً يؤم المنبر فما زلت أرمقه ببصري حتى صعد المنبر فجلس عليه وما تحدر اللثام عن وجهه، وأهل الكوفة يومئذ لهم حال حسنة وهيئة جميلة، وعز ومنعة، يدخل الرجل منهم المسجد معه عشرة أو عشرون رجلاً من مواليه وأتباعه عليهم الخزوز والقوهية، وفي المسجد رجل يقال له عمير بن ضابئ البرجمي، فقال لمحمد بن عطارد التميمي: هل لك أن أحصبه لك، قال: لا حتى نسمع كلامه، فقال: لعن الله بني أمية حيث يستعملون علينا مثل هذا، ولقد ضيع العراق حيث يكون مثل هذا أميراً عليه، والله لو أن هذا كله كلام ما كان شيئاً.
والحجاج ينظر يمنة ويسرة، حتى إذا غص المسجد بالناس، قال: يا أهل العراق، أني لأعرف قدر اجتماعكم، هل اجتمعتم؟ فقال رجل: قد اجتمعنا أصلحك الله، فسكت هنيهة لا يتكلم. فقال الناس: ما يمنعه من الكلام إلا العي والحصر، فقام الحجاج فحسر لثامه، وقال: يا أهل العراق، أنا الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود، ثم قال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
صليت العود من سلفي نزار ... لنصل السيف وضاح الجبين
وماذا يبتغي الشعراء مني ... وقد جاوزت رأس الأربعين
أخو خمسين مجتمع لشدي ... ونجدة في مداومة الشؤون
وأني لا يعود إلي قرني ... غداة العين إلا أي حين
قال أبو بكر: قال أبي: والشعر لسحيم بن وثيل الرياحي، تمثل به الحجاج، والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم
وقال:
قد لفها الليل بعصلبي ... وشمرت عن ساق سمري
أروع خراج من الدوي ... مهاجر ليس بأعرابي
ما علتي وأنا شيخ رود ... والنفوس فيها وتر على عود
مثل ذراع البكر أو أشد ... وتروى مثل حران العود
والله يا أهل العراق ما يغمز جانبي كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان ولقد فرزت عن ذكاء وفتشت عن تجربة، وأجريت من الغابة، وإن أمير المؤمنين نثر كنانته فعجم عيدانها عوداً عوداً، فوجدني أمرها عوداً، وأشدها مكسراً، فوجهني إليكم، فرماكم بي.
يا أهل الكوفة، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، فإنكم طالما أوضعتم في أودية الفتنة، اضطجعتم في منام الظلال، وسننتم سنن الغي، وأيم الله لألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غريبة الإبل، إني والله لا أحلف إلا بررت، ولا أعد إلا وفيت، وإياي هذه الزرافات والجماعات، وقال وما يقول،وكان وما يكون وما أنتم وذاك.


يا أهل العراق، إنما أنتم أهلي " قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللهفأذاقها الله لباس الجوع والخوف " فأتاها وعيد القرآن من ربها، فاستوثقوا واعتدلوا ولا تميلوا، واسمعوا وأطيعوا وتتابعوا وبايعوا، واعلموا أنه ليس مني الإكثار، لا الفرار ولا النقار، وإنما هو انتضاء هذا السيف، ثم لا يغمد في الشتاء ولا الصيف حتى يدل الله لأمير المؤمنين عزكم، ويقيم له أودكم وصفوكم، ثم إني وجدت الصدق من البر، ووجدت البر من الجنة، ووجدت الكذب من الفجور، ووجدت الفجور من النار، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وإشخاصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين، قد أمرتكم بذلك وأجلتكم ثلاثاً، وأعطيت الله عهداً يؤاخذني به ويستوفيه مني، لئن تخلف رجل منكم بعد قبض عطائه لأضربن عنقه، ولأنتهبن ماله، ثم التفت إلى أهل الشام، فقال: يا أهل الشام، أنتم الجند والبطانة والعشيرة، والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأذفر، إنما أنتم كما قال الله تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء " .
ثم أقبل على أهل العراق، فقال: يا أهل العراق، لريحكم أنتن من ريح الأبخر، وإنما أنتم كما قال الله تعالى: " ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار " .
اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام، فقال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى من بالعراق، من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو.
فسكتوا، فقال الحجاج من فوق المنبر: اسكت يا غلام، فسكت القارئ، فقال: يا أهل الشقاق، ويا أهل النفاق، ومساوئ الأخلاق، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون عليه السلام، هذا أدب ابن أبيه.
قال مؤلف الكتاب: كذا في هذه الرواية، والصواب ابن أذينة. وتأتي في طريق آخر.
والله إن بقيت لكم لأؤدبنكم أدباً سوى أدبه، وليستقيمن لي أو لأجعلن لكل أمرئ منكم في جسده شغلاً، اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام، فقال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم، فلما بلغ موضع السلام صاحوا: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.
ثم نزل فدخل دار الإمارة وحجب الناس ثلاثة أيام، وأذن لهم في اليوم الرابع، فدخل عمير بن ضابئ، فقال: أصلح الله الأمير، إني شيخ كبير وقد خرج اسمي في هذا البعث، ولي ابن هو على الحرب والأسفار أقوى مني وأشجع عند اللقاء، فإن رأى الأمير أن يجعله مكاني ففعل، فقال: انصرف أيها الشيخ راشداً، وابعث ابنك بديلاً، فلما ولى قال له عنبسة بن سعيد بن العاص: أيها الأمير، أتعرف هذا؟ قال: لا والله، قال: هذا عمير بن ضابئ الذي أراد أبوه أن يفتك بأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فلم يزل محبوساً في حبسه حتى أصابته الدبيلة، فمات. ثم جاء هذا فوطئ أمير المؤمنين وهو مقتول فكسر ضلعاً من أضلاعه، وأبوه الذي يقول فيما يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
فقال: علي بالشيخ، فلما أتى قال: أما يوم الدار فتشهده بنفسك، وأما في قتال الخوارج فتبعث بديلاً، وأما والله أيها الشيخ إن في قتلك لراحة لأهل المصرين، يا حرسي اضرب عنقه، فضربت عنقه.
قال: وسمع الحجاج صوتاً فقال: ما هذا؟ قالوا: البراجم ينتظرون عميراً، قال: ارموا إليهم برأسه، فرمي إليهم برأسه فولوا هاربين.
قال؛ وكان ابن لعبد الله بن الزبير الأسدي قد سأله أن يشفع له إلى الحجاج أن يأذن في التخلف، فلما قتل عمير خرج ولم ينتظر الإذن، فقال ابن عبد الله بن الزبير في ذلك:
أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمر أمسى مفظعاً متعصبا
تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ ... عميراً وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسفا نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
وإلا فما الحجاج مغمد سيفه ... مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
فأضحى ولو كانت خراسان دونه ... يراها مكان السوق أو هي أقربا
وكم قد رأينا تارك الغزو ناكثاً ... ينكث حنو السرج حتى تحنبا


فلما اتصل الخيل والرجال بالمهلب تعجب وقال: لقد ولي العراق رجل ذكر.
وقد رويت لنا هذه القصة بزيادة ونقصان.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال :أخبرنا أبو القاسم علي بن محسن التنوخي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا عثمان بن مصعب الجندي، قال: حدثنا عبد الحميد بن سلمة، قال: حدثني أبي، عن مجالد بن عبد الملك بن عمير الليثي قال: كتب روح بن زنباع الجذامي إلى أهل الكوفة: أن أمير المؤمنين لما أمضه اضطرابكم واشتد بلاؤكم، وكثر توثبكم على الولاة تحصبونهم وتقصرونهم ولا تنقادون جمع أهل بيته وأكابرهم ممن لهم البأس والنجدة والعز والعدد والظفر، فقال: أيها الناس، إن العراق قد كدر ماؤها، واملولح عذبها، وعذب ملحها، وسطع لهبها، وبرق وميضها، وثار ضرامها واشتد شعابها، والتاث أفانينها، ودام بأسها، وعظم شررها، وكثر موقدها، فحرها ذكي وخطبها بي، ومرعاها وخيم، قد صدرهم الكبار، ولا يقيم درهم الصغار، فمن ينتدب لهم منكم بسيف قاطع، وفرس راتع، وسنان لامع، وجنان غير خاضع، فيخمد نيرانها، ويبيد شبانها، ويقصم كهولها، ويقتل جهولها حتى يعيش فقيرها، وينتفع بماله غنيها، ويستقر الآيب، ويرجع الغائب، ويحيى الخراج، ويداوى الجراح، وتصفو البلاد، ويسلس القياد، فقد دعرت سلبها، وجهرت لظالمها، وليتكلم رجل يقيم أودهم بسيف أدلب، أو خرج. فسكت الناس، فقام الحجاج بن يوسف، فقال: أنا للعراق يا أمير المؤمنين، قال: ومن أنت؟ قال: أنا الليث المنضام الهزبر المقصام: أنا الحجاج بن يوسف، قال: اجلس فلست هناك. ثم أطرق ملياً، وقال: من للعراق، فقد أطرقت الليوث، ولست أرى أسداً يقصد نحو فريسته، فسكت الناس، فقام الحجاج بن يوسف الثقفي فقال: أنا للعراق يا أمير المؤمنين، قال: ومن أنت؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف، معدن العفو والبوار. قال: اجلس فلست هناك، ثم أطرق ملياً فقال: من للعراق، فقد قوي الضعيف، وخضع الشديد، فقام الحجاج فقال: أنا للعراق يا أمير المؤمنين.
فقال: يا ابن يوسف، لكل أمر آلة وقلائد، فما آلتك وقلائدك؟ قال: القتل والعفو، والمكاشفة والمداراة، والحرق والرفق، والعجلة والريث، والإبراق والتبسم، والإرعاد والتنفس، والإبعاد والدنو، والرفق والجفا طوراً والزيارة والصلة آونة، والتجبر والتقمص أحياناً، والحرمان، والترهيب والترغيب ألواناً، ألبس جلد النمر، وسيفاً منيعاً، وتوضعاً في تجبر وخوض غمرات الفنيق، ضحضاح الثمد عند الورود، فمن رمقني حددته، ومن لوى شدقه خدعته، ومن نازعني جذبته، ومن عض منقبة بددته، ومن تغير لونه قتلته، ومن دنا أكرمته، ومن نأى طلبته، ومن ماحكني غلبته، ومن أدركته كسعته، فهذه آلتي وقلادتي، ولا عليك يا أمير المؤمنين أن تجربني، فإن كنت للأعناق قطاعاً، وللأوصال جزاعاً، وللأرواح نزاعاً، وللخراج جماعاً، ولك في هذه الأشياء نفاعاً، وإلا فاستبدل بي غيري، فإن الناس كثير، ومن يسد بهم الثلم قليل.
فقال عبد الملك: أنت لها لله أبوك فتناولها كيف شئت ثم التفت إلى كاتبه، فقال: اكتب له عهداً على العراق جميعاً، وأطلق يده في السلاح والكراع والرجال والأموال، ولا تجعل له علة، وقد كتب عهده يوم الاثنين وهو خارج يوم السبت، فالزموا طاعته يا أهل الكوفة، واحذروا صولته.


فبينا نحن جلوس في المسجد الأعظم بالكوفة إذ أتانا آت، فقال: الحجاج بن يوسف قد قدم أميراً على العراق، فاشرأب الناس نحوه ينظرون إليه، ثم أفرجوا له إفراجة واحدة عن صحن المسجد، وإذا هم به يمشي، عليه عمامة حمراء قد تلثم بها وهو متنكب قوساً له عربية وهو يؤم المنبر، قال: فما زلت أرميه ببصري حتى جلس على المنبر ما يحدر لثامه، ولا ينطق حرفاً، وأهل الكوفة يومئذ ذو حالة حسنة وهيئة جميلة، في عز ومنعة، فكان الرجل يدخل المسجد ومعه الخمسة والعشرة والعشرون من مواليه وأتباعه عليهم الخزوز والقوهية، وفي المسجد يومئذ عمير بن ضابئ البرجمي، وعبد الرحمن بن محمد الأشعث، ومحمد بن عمير بن حاجب بن زرارة الحنظلي، فابتدرنا عمير، فقال: أحصبه لكم، فقلنا: لا حتى نسمع ما يقول، فأبى عمير إلا أن يحصبه، فمنعناه، فقال: لعن الله بني أمية حيث يستعملون مثل هذا، وضيع والله العراق حتى صار مثل هذا عليها والياً، فوالله لو كان هذا كله كلاماً ما كان شيئاً.
والحجاج ساكت ينظر يميناً وشمالاً، فلما رأى المسجد قد غص بأهله، قال: اجتمعتم، فلم يرد عليه أحد شيئاً، فقال: كأني أرى قدر اجتماعكم، فقال رجل من القوم: قد اجتمعنا أصلح الله الأمير، فسكت هنيهة، فلما رأى القوم أنه لا يحير جواباً قال بعضهم لبعض: ما يمنعه من الكلام إلا العي، وأهووا بأيديهم إلى الحصى ليحصبوه بها، ففطن الحجاج فوثب قائماً وقد أحاط بالمسجد مائتا طائل، ومائتا دارع، ومائتا جاشن، ومائتا سائف، ومائتا رامح، على الطائلة سويد بن عدية العجلي، وعلى الدارعة السكن بن يوسف الثعلبي، وعلى السائفة بدر بن مدركة اليشكري، وعلى البرامجة عطية بن حويرثة الأصبحي، فكان مما راعهم ذلك وأفزعهم، فأومأ الحجاج إلى الطائلة أن اسكتوا فسكتوا، فقال: أفعلتموها يا أهل العراق ويا أهل العير الداجنة أنا الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن عامر بن مسعود عظيم القريتين ابن معتب بن مالك بن عوف بن قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر، ثم قال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
صليب العود من سلفي نزار ... كنصل السيف وضاح الجبين
فماذا يغمز الأقران مني ... وقد جاوزت حد الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدي ... وتحددني مداولة الشؤون
يا أهل الكوفة إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، لله أبوكم، كأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم قال:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم
من يلقني يودى كما أودت إرم
قد لفها الليل بعصلبي ... مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساق سمهري


وأيم الله يا أهل العراق لا يغمز جنابي كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان، فلقد فرغت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وأجريت إلى الغاية القصوى، إن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان نكث كنانته بين يديه، فعجم عيدانها عوداً عوداً فوجدني أمرها عوداً وأصلبها مكسراً، فوجهني إليكم يا أهل العراق والشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، إنكم والله طالما أوضعتم في أودية الفتنة واضطجعتم في منام الضلالة وسلكتم سنن الغي، والله لأقرعنكم قرع المروة، ولألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة والشاة السقيمة،ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، واعلموا أني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أحلق إلا فريت، ولا أحلف إلا نزرت، ولا أبعد إلا شيعت، وإياكم وهذه الزرافات والخرافات والبطالات والمقالات والجماعات، وقتل وقال، وما قال وما يقول، وكان وما يكون، وفيم أنتم وما أنتم وما ذاك، يا أهل الكوفة إنما أنتم أهل " قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف " ، وآتاها وعيد القرى من ربها بسوء ما كسبت أيديهم ألا إن الأمور إذا استقرت لا يدركها إلا كل ذي لب برأيه، وإن خير الرأي ما هدى الله به العبد، وراقبوا الله واعتصموا بحبله، وأعطوا القياد خلفاءكم وأمراءكم من قبل زوال النعمة، ولا تكونوا كالذين لا يعقلون، " ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون " ، فليعقل من كان له معقول، فقد أعذر من أنذر، فقد والله حلت بكم بائقة فيها بوائق تتلوها سطوة من سطوات الله تجتاح الأموال، وتهريق الدماء، ثم لا تستطيعون عند ذلك غبرا، ولا تبدلون نعماً.
لا تغروني يا قوم بكم، ولا تسهروني بعد رقدتي، فإني راض بما صفا لي منكم من علانيتكم، ما لم تكن حيلة في سواد هذه الدهماء، ولا تحملوني على أكتافكم بأحجاركم في رقباتكم، وفي كل يوم ما الخبر ما الخبر، إن الحجاج ذو حسام باتر تجتلى به الأوصال، فكم له في كل حي من حرز إلا من استوثقت لنا طاعته، وخلصت لنا مودته، ودامت لنا مقته، فذاك منا ونحن منه، فأما من ركب التراهات وأخذ في النية بعد النية، فهيهات هيهات يا هيهات لأهل المعاصي والنفاق، ألا ترهبون، ويحكم أن تغير عليكم الخيل الملجمة فتترككم أمثال الرقاق المنتفخة المستوسقة الشائلة بأرجلها، ألا وإن نصلي سبك من دماء أهل العراق، فمن شاء فليحقن دمه، ومن أبى أوسعت بالوعة الموت دمه، وفتتت للسباع لحمه، وقامت الرخم على شلوه، وضعت الدعارع بعجمه، فمهلاً يا أهل العراق مهلاً، فإن تميلي بقرن الصعاب، وبذل الرقاب، ولو قل العقاب وتستقل الحروب، ألم تعلموا أني في الحروب ولدت، وفيها تلدت، وفيها فطمت، وفيها قطعت تمائمي، وبليت نواجذي، وصلع رأسي، أفأنتم تجلجلونني أن يكون ذلك حتى يجلجل صم الصناخيد التي هي للأرض أوتاد، ألا وإني قد سست وساسني السائسون، وأدبني المؤدبون.
استوثقوا واستقيموا، وتابعوا وبايعوا، وجانبوا واحذروا واتقوا، واعلموا أنه ليس مني الإكثار ولا الإهذار، ولا مع ذلك الفرار ولا النفار، وإنما هو انتضاء السيف، ثم لا يغمد الشتاء ولا الصيف حتى تفيئوا إلى أمر الله، وتجتمعوا إلى طاعته وطاعة أمير المؤمنين حتى يذل الله له صعبكم، ويقيم أودكم، ويلوي به صغيركم.
ألا وإني وجدت الصدق مع البر، والبر في الجنة، وألفيت الكذب مع الفجور، والفجور في النار. وقد وجهني أمير المؤمنين إليكم وأمرني بإعطائكم عطاياكم، وإشخاصكم إلى مجاهدة عدوكم، وقد أمرت بذلك لكم، وأجلتكم ثلاثاً، وأعطي الله عهداً يأخذه مني ويستوفيه علي، لئن بلغني أن رجلاً تخلف منكم بعد قبض عطائه يوماً واحداً لأضربن عنقه، ولأنهبن ماله. أقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين يا غلام، فقال الكاتب:


بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الملك بن مروان إلى من بالعراق من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم. فلم يقل أحد شيئاً، فغضب الحجاج وقال: يا أهل الفتن الداحية، والأهواء الراثية، والألباب الماجنة، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون عليه السلام، والله لأؤدبنكم غير أدب ابن أذينة - وكان ابن أذينة صاحب شرطة بالكوفة - ولأجعلن لكل امرئ منكم في جسده شغلاً، أعد القراءة يا غلام، فأعاد الكاتب، فلما بلغ قوله: سلام عليكم، قال جميع من في المسجد، وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته، ثم نزل فدخل الدار.
فلما كان اليوم الرابع أتاه عمير بن ضابئ البرجمي ومعه ابنان له وقد ركب معه جماعة من البراجمة ألفا فارس وقالوا له: إن رأيت من الأمير ريب فدماؤنا دون دمك، فقال: أيها الأمير، إني شيخ كبير، وقد خرج اسمي في هذا البعث، وابني هذا أقوى مني على السفر، وأجلد في الحرب، فإن رأى الأمير أن يمن علي بلزوم منزلي، ويقبل ابني بديلاً فعل ذلك موفقاً. فقال: نعم ذلك لك يا شيخ انطلق راشداً وابعث ابنك بديلاً.
فلما ولي قال له عنبسة بن سعيد بن العاص: أيها الأمير، أتعرف هذا الشيخ الذي ناجاك آنفاً؟ قال: لا، قال: هذا عمير بن ضابئ البرجمي الذي هجا أبوه ابن قطن في حال كلب لهم يقال له قرحان وكان يصيد حمر الوحش، فاستعاره منهم، فلما طلبوه منه منعهم، فركبوا إليه فساؤوه، فأنشأ يقول:
يكلف دوني وفد قرحان شقه ... بطل لها الوجناء وهي حسير
فأردفتهم كلباً فراحوا كأنما ... حباهم تناج الهرمزان أسير
فيا راكباً أما عرضت فبلغن ... ثمامة عني والأمور تدور
فأمكم لا تتركوها وكلبكم ... فإن عقوق الأمهات كبير
إذا ما انتشى من آخر الليل نشوة ... يبيت له فوق الفراش هرير
فاستعدوا عليه عثمان فحبسه في السجن حتى مات، واتخذ حديدة لعثمان ليقتله بها، فعلم بذلك عثمان فحبسه حتى مات في السجن، وقد كان في مرضه قال:
وقائلة لا يبعد الله ضابيا ... إذا اخضر من دهر الشتاء أصائله
وقائلة لا يبعد الله ضابياً ... إذا العرب الرعى تنضت سوائله
وقائلة لا يبعد الله ضابياً ... إذا الكبش لم يوجد له من ينازله
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
فلا تتبعوني إن هلكت ملامة ... فليس بعار قتل قرن أنازله
فلما قتل عثمان دخل هذا فيمن دخل عليه يطلب ثأر أبيه، فكسر ضلعاً من أضلاع عثمان وهو يقول: أين تركت ضابياً يا نعثل قال: فقال الحجاج: ردوه، فردوه، فقال: أتشهد يوم الدار بنفسك وتطلب اليوم بديلاً، هلا سألت بديلاً يوم الدار، والله أيها الشيخ إن في قتلك صلاحاً للمصرين، يا حرسي اضرب عنقه، ثم قال: إني والله لجواد بدمه إن قتله غيري، قربوه. فقربوه فضرب عنقه، فإذا رأسه بين رجليه، ثم أخذ بلحيته فهزها وأخذ يتمثل بشعر يزيد بن أبي كاهل اليشكري:
ساء ما ظنوا وقد أبليتهم ... عند غايات المدى كيف أقع
كيف يرجون سقاطي بعد ما ... جلل الرأس بشيب وصلع
رب من أنضحت غيظاً صدره ... قد تمنى لي موتاً لم يطع
وتراني كالشجى في خلقه ... عسراً مخرجه ما ينتزع
ويحييني إذا لاقيته ... وإذا يخلو له الحي رتع
ثم سمع ضوضاء، فقال: ما هذه الضوضاء؟ قالوا: البراجم بالباب تنتظر عميراً، فقال: أتحفوهم برأسه، فرمى بالرأس إليهم، فلما نظروا إليه ولوا هاربين لاحقين بمراكزهم، ثم إنهم ازدحموا على الحسين بن أبي براء التميمي فاستنصروه، فقال: لأمهاتكم الهبل، ألا تتقون الله، تحملونني على إهراق الدماء، والله يترك الحجاج قدماً إلا أوطأها عبد الملك بن مروان، ولا نزل بأحدهم أخرى إلا لحق بعمير وبمثله، والله يقرن الصعاب، ومر عبد الله بن الزبير الأسدي بابن عم له يقال له إبراهيم، فقال: ما وراءك أبا حبيب، قال: ورائي كل بلية، قتل والله عمير بن ضابئ، النجاء النجاء، وأنشأ يقول:


أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمر أمسى هالكاً متشعبا
ترحل فإما أن تزور ابن ضابئ ... عميراً وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا كره نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
وإن على الحجاج فيه آلية ... بمعدلها ناباً علوفاً، ومحلبا
فأضحى ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق أو هي أقربا
وإلا فما الحجاج مغمد سيفه ... مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
وكم قد رأينا تارك الغزو ناكلاً ... ينكب حبو السرج حتى تنكبا
فخرج الناس أرسالاً يؤمون خراسان نحو المهلب، فلما قدموا عليه قال المهلب: اليوم قوتل والله العدو، ويحكم من ولي العراق؟ قالوا له: الحجاج بن يوسف، قال المهلب: وليها والله رجل ذكر، ثم قال: يا أهل العراق لقد داهتكم داهية، ورميتم بالخنة، ولقد مارسكم امرؤ ذكر. وقصوا عليه قصة الحجاج، فقال: والله لقد تخوفت أن يكون القادم عليكم مبير ثقيف، وليخربن دياركم، وليسجد من أبناءكم، وليمزقنكم كل ممزق، اللهم لا تسلطه علينا ولا على أحد من أوليائك إنك على كل شيء قدير.
قال مؤلف الكتاب: وفي رواية أخرى: أن الحجاج لما فرغ من خطبته قال: الحقوا بالمهلب وأتوني بالبراءات بموافاتكم، ولا تغلقوا باب الجسر ليلاً ولا نهاراً، فلما قتل عمير بن ضابئ خرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرجت العرفاء إلى النهلب وهو برامهرمز فأخذوا كتبه بالموافاة، ولما وصل الحجاج إلى الكوفة بعث الحكم بن أيوب الثقفي أميراً على البصرة وأمره أن يشد على خالد بن عبد الله، فلما بلغ خالد الخبر خرج من البصرة قبل أن يدخلها الحكم، فنزل الحجاج وتبعه أهل البصرة، فلم يبرح حتى قسم فيهم ألف ألف درهم.
وفي هذه السنة: ثار الناس بالحجاج بالبصرة وذلك أنه خرج من الكوفة بعد أن قتل ابن ضابئ حتى قدم البصرة، فقام فيهم بخطبة مثل التي قام بها في الكوفة، وتوعدهم مثل وعيده أولئك، فأتي برجل من بني يشكر فقيل له: إن هذا عاص، قال: إن بي فتقاً، وقد رآه بشر فعذرني، وهذا عطائي مردود إلى بيت المال، فلم يقبل منه وقتله، ففزع لذلك أهل البصرة، فخرجوا حتى أدركوا العارض بقنطرة رامهرمز، وخرج الحجاج ونزل رستقباذ، وكان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخاً، فقام في الناس، فقال: إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم زيادة فاسق منافق، ولست أجيزها، فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي، فقال: إنها ليست بزيادة فاسق منافق، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أثبتها لنا، فكذبه وتوعده فخرج ابن الجارود على الحجاج وبايعه وجوه الناس، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل ابن الجارود وجماعة من أصحابه، وبعث برأسه ورؤوس عشرة من أصحابه إلى المهلب، ونصبت برامهرمز للناس، وانصرف إلى البصرة، وكتب إلى المهلب وإلى عبد الرحمن بن مخنف: أما بعد، فإذا أتاكم كتابي هذا فناهضوا الخوارج، والسلام.
فلما وصل الكتاب إليهما ناهضا الأزارقة يوم الاثنين لعشر بقين من شعبان - وقيل: يوم الأربعاء لعشر بقين من رمضان - فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال، فذهبوا إلى أرض يقال لها كازرون، فسارا وراءهم حتى نزلا بهم في أول رمضان، فخندق المهلب عليه وقال لعبد الرحمن: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل، فأبى أصحاب عبد الرحمن، وقالوا: إنما خندقنا سيوفنا، فزحفت الخوارج إلى المهلب ليلاً ليبيتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا: إلى عبد الرحمن فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل فقتل في جماعة من أصحابه.
وكتب المهلب بذلك إلى الحجاج، فبعث مكانه عتاب بن ورقاء، وأمره أن يسمع للمهلب ويطيع، فساءه ذلك ولم يجد بداً من طاعة الحجاج، فجاء حتى أقام في العسكر وقاتل الخوارج، وكان لا يكاد يستشير المهلب في شيء فأغرى به المهلب رجالاً من أهل الكوفة منهم بسطام بن مصقلة.
وجرى بين المهلب وعتاب يوماً كلام، فذهب المهلب ليرفع القضيب عليه، فوثب إليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب، وقال شيخ من شيوخ العرب: فاحتمله وقام عتاب فاستقبله بسطام يشتمه ويقع فيه، فكتب إلى الحجاج يشكو المهلب ويخبره أنه قد أغرى به سفهاء المصر، فبعث إليه أن أقدم.


وفي هذه السنة: تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس وكان يرى رأي الصفرية وقيل: إنه أول من خرج منهم، وكان صالح هذا ناسكاً عابداً، وله أصحاب يقرئهم القرآن، ويفقههم ويقص عليهم ويقدم الكوفة فيقيم بها الشهر والشهرين، وكان بأرض الموصل، وله كلام مستحسن، وكان إذا فرغ ذكر أبا بكر وعمر فأثنى عليهما، وذكر ما أحدث عثمان وعلي وتحكيمه الرجال، فيتبرأ منهما، ثم يدعو إلى مجاهدة أئمة الضلال، ويقول: تيسروا للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم.
فبينا هو كذلك ورد عليه كتاب شبيب يقول فيه: قد كنت دعوتني يا صالح إلى أمر فاستجبت له، فإن كان ذلك من شأنك فبادر فإنك شيخ المسلمين، وإن أردت تأخير ذلك فأعلمني، فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمني المنية ولم أجاهد الظالمين، جعلنا الله وإياك ممن يريد الله بعمله.
فأجابه صالح أني مستعد فأقدم، فقدم عليه في جماعة من أهله فواعدهم الخروج في صفر سنة ست وسبعين، ثم قال صالح لأصحابه: اتقوا الله ولا تعجلوا إلى قتال أحد إلا أن يريدوكم فإنكم إنما خرجتم غضباً لله.
وحج صالح في سنة خمس وسبعين ومعه شبيب بن يزيد، وسويد، والبطين وأشباههم.
وفي هذه السنة: حج عبد الملك بالناس فهم شبيب بالفتك به، وبلغ عبد الملك شيء من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان صالح يأتي الكوفة فيقيم بها الشهر ونحوه، فنبت بصالح الكوفة لما طلبه الحجاج، فتنكبها، ووفد يحيى بن الحكم في هذه السنة على عبد الملك، واستخلف على عمله بالمدينة أبان بن عمرو بن عثمان، فأقر عبد الملك يحيى على ما كان عليه بالمدينة، وعلى الكوفة والبصرة الحجاج، وعلى خراسان أمية بن عبد الله، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أبي أوفى.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الأسود بن يزيد بن قيس بن عبد الله، أبو عمرو وهو ابن أخي علقمة بن قيس، وهو أكبر من علقمة.
روى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، ومعاذ، وسلمان، وأبي موسى وعائشة. ولم يرو عن عثمان شيئاً. وكان يصوم الدهر فذهبت إحدى عينيه، وكان لسانه يسود من شدة الحر، فيقال له: لا تعذب هذا الجسد، فيقول: إنما أريد له الراحة.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمرو البرمكي، قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز بن مردك، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: حدثنا أبو حميد الحمصي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا يزيد بن عطاء، عن علقمة بن مرثد، قال: كان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة، يصوم حتى يخضر ويصفر، فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: مالي لا أجزع، ومن أحق بذلك مني، والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لأهمني الحياء منه مما قد صنعت. إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير، فيعفو عنه فلا يزال مستحيياً منه. قال: ولقد حج الأسود ثمانين حجة.
توفي الأسود بالكوفة، في هذه السنة.
توبة بن الحمير من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن خفاجة: كان شاعراً، وكان أحد عشاق العرب، مشهوراً بذلك، وصاحبته ليلى الأخيلية، وكان يقول فيها الشعر ولا يراها إلا متبرقعة، فأتاها يوماً فسفرت له عن وجهها فأنكر ذلك، وعلم أنها لم تسفر إلا عن حدث، وكان إخوتها قد أمروها أن تعلمهم بمجيئه، فسفرت لتنذره، ففي ذلك يقول:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
وأول الشعر:
نأتك بليلى دارك لا تزورها ... وشطت نواها واستمر مريرها
يقول رجال لا يضيرك حبها ... بلى كلما شف النفوس يضيرها
أظن بها خيراً وأعلم أنها ... ستنعم يوماً أو يفك أسيرها
حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعماً ... ولا زلت في خضراء دان بريرها
أرى اليوم يأتي دون ليلى كأنما ... أتت حجج من دونها وشهورها


أرتنا حياض الموت ليلى وراقنا ... عيون نقيات الحواشي تديرها
ألا يا صفي النفس كيف تقولها ... لو أن طريداً خائفاً يستجيرها
علي دماء البدن إن كان بعلها ... يرى لي ذنباً غير أني أزورها
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وله أيضاً فيها:
فإن تمنعوا ليلى وحسن حديثها ... فلن تمنعوا عيني البكا والقوافيا
فهلا منعتم إذ منعتم كلامها ... خيالاً يمسينا على النأي هاديا
يلومك فيها اللائمون نصاحة ... فليت الهوى باللائمين مكانيا
لعمري قد أسهرتيني يا حمامة ... العقيق وقد أبكيت ما كان باكيا
ذكرتك بالغور التهامي فأصعدت ... شجون الهوى حتى بلغن التراقيا
كان توبة يشن الغارة على بني الحارث بن كعب وهمدان، وكانت بين أرض بني عقيل وبني مهرة مفازة، وكان يحمل معه الماء إذا أغار، فغزا هو وأخوه عبد الله وابن عم له فنذروا بهم، فانصرف محققاً، فمر بجيران لبني عوف، فاطرد إبلهم وقتل رجلاً من بني عوف، فطلبوه فقتلوه، وضربوا رجل أخيه فأعرجوه، فبلغ الخبر ليلى، فقالت:
فآليت أبكي بعد توبة هالكاً ... وأحفل إذا دارت عليه الدوائر
لعمرك ما بالقتل عار على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المعايرة
سليم بن عتر بن سلمة بن مالك هاجر في خلافة عمر بن الخطاب، وحضر خطبته بالجابية. وروى عنه، وشهد فتح مصر، وجمع له بها القضاء والقصص. وكان يسمى الناسك لشدة عبادته، وكان يختم القرآن في كل ليلة ثلاث مرات، وكان يقول: لما قدمت من البحر تعبدت في غار سبعة أيام بالإسكندرية لم أصب فيها طعاماً ولا شراباً، ولولا أني خشيت أن أضعف لزدت.
روى عنه علي بن رباح، وأبو قتيل، ومسرح بن هاعان وغيرهم.
وتوفي بدمياط في هذه السنة.
صلة بن أشيم أبو الصهباء العدوي البصري وكان ثقة ورعاً عابداً، أسند عن أبي عياض وغيره.
وروى عنه الحسن، وحميد، وهلال.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد أبو علي التميمي، قال: حدثنا أبو بكر بن مالك، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن جعفر، عن يزيد الرشك، عن معاذة، قالت: كان أبو الصهباء يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفاً.
قال عبد الله: وحدثنا أبي، قال: حدثنا أحمد بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا المسلم بن سعيد الواسطي، قال: حدثنا حماد بن جعفر بن يزيد، أن أباه أخبره قال: خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة، فقلت: لأرمقن عمله فأنظر ما يذكر الناس من عبادته، فصلى العتمة ثم اضطجع والتمس غفلة الناس حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثب فدخل غيضة قريباً منه، ودخلت في أثره، فتوضأ ثم قام يصلي.
قال: وجاء أسد حتى دنا منه. قال: فصعدت في شجرة. قال: فتراه التفت أو عند جرواً حتى إذا سجد، فقلت: الآن يفترسه. فجلس ثم سلم، فقال: أيها السبع، اطلب الرزق من مكان آخر، فولى وإن له لزئيراً تصدع منه الجبال، فما زال كذلك. فلما كان الصبح جلس فحمد الله عز وجل بمحامد لم أسمع بمثلها إلى ما شاء الله، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة، ثم رجع فأصبح كأنه بات على الحشايا. وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عليم.
قال: فلما دنونا من أرض العدو قال الأمير: لا يشدن أحد من المعسكر، قال: فذهبت بغلته بثقلها فأخذ يصلي، فقالوا له: إن الناس قد ذهبوا. فمضى ثم قال: دعوني أصلي ركعتين. فقالوا: الناس قد ذهبوا، قال: إنهما خفيفتان، قال: فدعى ثم قال: اللهم إني أقسم عليك أن ترد بغلتي وثقلها. قال: فجاءت حتى قامت بين يديه.
فلما لقينا العدو حمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعناً وضرباً وقتلاً. فكسر ذلك العدو، فقالوا: رجلان من العرب صنعا بنا هذا، فكيف لو قاتلونا. فأعطوا المسلمين حاجتهم.


أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي، قال: أنبأنا أبو الفتح أحمد بن محمد الحداد، قال: أخبرنا أبو البكر أحمد بن علي، أن أبا أحمد بن محمد بن محمد الحاكم النيسابوري أخبره قال: أخبرني أبو يوسف محمد بن سفيان الصفار، قال: حدثنا سعيد، قال: سمعت بن المبارك، عن السري بن يحيى، قال: حدثنا العلاء بن هلال الباهلي: أن رجلاً من قوم صلة قال لصلة: يا أبا الصهباء إني رأيت أني أعطيت شهدة وأنت شهدتين، فقال: خيراً رأيت، تستشهد وأستشهد أنا وابني. فلما كان يوم يزيد بن زياد لقيهم الترك بسجستان، فكان أول جيش انهزم من المسلمين ذلك الجيش. فقال صلة لابنه: يا بني، ارجع إلى أمك، فقال: يا أبه أتريد الخير لنفسك وتأمرني بالرجوع بل ارجع أنت والله كنت خيراً مني لأمي. قال: أما إن قلت هذا فتقدم، فقاتل حتى أصيب فرمى صلة عن جسده - وكان رجلاً رامياً - حتى تفرقوا عنه، وأقبل يمشي حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قتل.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو علي التميمي، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا ثابت البناني: أن صلة بن أشيم كان في مغزى له ومعه ابنه، فقال: أي بني، تقدم فقاتل حتى أحتسبك. فتقدم فقاتل حتى قتل، ثم تقدم هو فقتل. فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة العدوية، فقالت: إن كنتن جئتن لتنهنئني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: كانت هذه الغزاة في أول إمارة الحجاج.
عبد الرحمن بن مل بن عمرو بن عدي، أبو عثمان النهدي كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلقه. وأسند عن عمر، وابن مسعود، وأبي موسى، وسلمان في آخرين.
وكان يسكن الكوفة، فلما قتل الحسين تحول إلى البصرة، وقال: لا أسكن بلداً قتل فيه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو يعد من المخضرمين: قال: أبو الحسن الأخفش: المخضرم من قولهم: ماء مخضرم. إذا تناهى في الكثرة واتسع، فسمي الذي يشهد الجاهلية والإسلام مخضرماً، كأنه استوفى الأمرين. ويقال: أذن مخضرمة إذا كانت مقطوعة، فكأنه انقطع عن الجاهلية إلى الإسلام.
وتوفي أبو عثمان بالبصرة في أول ولاية الحجاج، وهو ابن ثلاثين ومائة سنة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: حدثنا عثمان بن أحمد، قال: حدثنا حنبل، قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أبي عثمان، قال: بلغت نحواً من ثلاثين ومائة سنة، ما من شيء إلا قد عرفت النقص فيه إلا أملي كما هو.
ليلى الأخيلية وهي ليلى بنت عبد الله بن الرحال بن شداد بن كعب بن معاوية، ومعاوية هو الأخيل بن عبادة بن عقيل: أحبها توبة بن الحمير، وكانت من أشعر النساء، لا يقدم عليها في الشعر غير خنساء. وكانت هاجت النابغة الجعدي، فكان مما هجاها قوله:
فكيف أهاجي شاعراً رمحه أسته ... خضيب البنان ما يزال مكحلا
فقالت في جوابه:
أعيرتني هذا بأمك مثله ... وأي حصان لا يقال لها هلا
ودخلت على عبد الملك بن مروان وقد أسنت، فقال لها: ما رأى توبة منك حتى عشقك، فقالت: ما رأى الناس منك حتى جعلوك خليفة، فضحك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها.
أخبرنا ابن المبارك بن علي الصوفي، قال: أخبرنا ابن العلاف، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: أخبرنا أبو بكر الخرائطي، قال: حدثني إسماعيل بن أبي هاشم، قال: حدثنا عبد الله بن أبي الليث، قال: قال عبد الملك بن مروان لليلى الأخيلية: بالله هل كان بينك وبين توبة سوء قط؟ قالت: والذي ذهب بنفسه وهو قادر على ذهاب نفسي ما كان بيني وبينه سوء قط إلا أنه قدم من سفر فصافحته فغمز يدي فظننت أنه يخضع لبعض الأمر، قال: فما بعد ذلك؟ فقلت له:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى فارغ وحليل
فقالت: لا والذي ذهب بنفسه ما كلمني بسوء قط حتى فرق بيني وبينه الموت.


أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر الحافظان، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا الحسين بن محمد النصيبي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سويد، قال: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أحمد بن عبيد، قال: حدثني أبو الحسن المدائني، عمن حدثه، عن مولى لعنبسة بن سعيد بن العاص، قال: كنت أدخل مع عنبسة بن سعيد بن العاص إذا دخل الحجاج، فدخل يوماً ودخلت إليهما وليس عند الحجاج غير عنبسة، فقعدت، فجاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال الحجاج: أدخلها. فلما رآها الحجاج طأطأ برأسه حتى ظنت أن ذقنه قد أصابت الأرض، فجاءت حتى قعدت بين يديه فنظرت إليها فإذا امرأة قد أسنت، حسنة الخلق ومعها جاريتان لها،وإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها، فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى ما أتاني بك؟ فقالت: اختلاف النجوم، وقلة الغيوم، وكلب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله عز وجل الرفد، فقال لها: صفي لنا الفجاج. فقالت: الفجاج مغبرة، والأرض مقشعرة، والمبرك معتل، وذو العيال مختل، والهالك المقل، والناس مسنتون، رحمة الله يرجون، وأصابتنا سنون مجحفة لم تدع لنا هبعاً ولا ربعاً ولا عافطة ولا نافطة، أذهبت الأموال، وفرقت الرجال، وأهلكت العيال. ثم قالت: إني قد قلت في الأمير قولاً، قال: هاتي، فأنشأت تقول:
أحجاج لا تفلل سلاحك إنما ال ... منايا تكن بالله حيث يراها
أحجاج لا تعط العصاة مناهم ... ولا الله يعطى للعصاة مناها
إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال حيث قال حساها
إذا سمع الحجاج رز كتيبة ... أعد لها قبل النزول قراها
أعد لها مسمومة فارسية ... بأيدي رجال يحلبون صراها
فما ولد الأبكار والعون مثله ... هجره لا أرض تحف ثراها
قال: فلما قالت هذا البيت، قال الحجاج: قاتلها الله ما أصاب صفتي شاعر منذ دخلت العراق غيرها. ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال: إني والله لأعد للأمر عسى أن يكون أبداً، ثم التفت إليها فقال: حسبك، فقالت: إني قد قلت أكثر من هذا، قال: حسبك هذا، ويحك حسبك. ثم قال: اذهب يا غلام إلى فلان فقل له اقطع لسانها، قال: فأمر بإحضار الحجام، فالتفتت إليه فقالت: ثكلتك أمك أما سمعت ما قال، إنما أمر بقطع لساني بالصلة، فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضباً وهم بقطع لسانه، وقال: ارددها. فلما دخلت عليه قالت: كاد وأمانة الله يقطع مقولي، ثم أنشأت تقول:
حجاج أنت الذي ما فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفر الصمد
حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنت للناس نور في الدجى يقد
ثم أقبل الحجاج على جلسائه، فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير، إلا أنا لم نر امرأة قط أفصح لساناً ولا أحسن محاورة، ولا أملح وجهاً، ولا أرصن شعراً منها. فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي في حبها. ثم التفت إليها، فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة، فقالت: نعم أيها الأمير هو الذي يقول:
وهل تبكين ليلى إذا مت قبلها ... وقام على قبري النساء النوائح
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها ... وجاد لها دمع من العين سافح
وأغبط من ليلى بما لا أناله ... ألا كل ما قرت به العين صالح
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فقال لها الحجاج: زيدينا يا ليلى من شعره، فقالت: هو الذي يقول:
حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعماً ... ولا زلت في خضراء غض نضيرها
وأشرف بالغور اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها


وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
يقول رجال لا يضيرك نأيها ... بلى كل ما شفت النفوس يضيرها
كل بلى قد يضير العين أن يكثر البكاء ... ويمنع منها نومها وسرورها
ولقد علمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
فقال لها الحجاج: ما الذي رابه من سفورك، قالت: أيها الأمير، كان يلم بنا كثيراً، فأرسل إلي يوماً أني آتيك، وفطن الحي فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت له، فعلم أن ذلك لشر، فلم نزد على التسليم والرجوع، فقال: لله درك، فهل رأيت منه شيئاً تكرهينه؟ قالت: لا والله الذي أسأله أن يصلحك غير أنه قال لي مرة قولاً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشأت أقول:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى فارغ وخليل
ولا والذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئاً حتى فرق الموت بيني وبينه. قال: ثم قالت: ثم لم يلبث أن خرج في غزاة له وأوصى إلى ابن عم له: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فناد بأعلى صوتك:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلة ... من الدهر لا يسري إلي خيالها
فخرجت وأنا أقول:
وعنه عفى ربي وأحسن حاله ... فعز علينا حاجة لا ينالها
قال: ثم قالت: ثم لم يلبث أن مات، فأتانا نعيه. قال: فأنشدينا بعض ما أتيك فيه، فأنشدت تقول:
أتتك العذارى من خفاجة نسوة ... بماء شؤون العبرة المتحادر
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص ينفجن الحصى بالكراكر
فأنشدته، فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي، وكان من جلساء الحجاج: من هذا الذي تقول هذه فيه، والله إني لأظنها كاذبة، فنظرت إليه ثم قالت: أيها الأمير إن هذا القائل لو رأى توبة لسره ألا يكون في داره عذراء إلا وهي حامل منه. قال الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنت عن هذا غنياً، ثم قال لها: سلي يا ليلى تعطي، قالت: أعط فمثلك أعطى فأحسن. قال: لك عشرون، قالت: زد فمثلك زاد فأجمل. قال: لك أربعون. قالت: زد فمثلك زاد فأفضل، قال: لك ستون، قالت: زد فمثلك زاد فأكمل، قال: لك ثمانون، قالت: زد فمثلك زاد فتمم، قال: لك مائة واعلمي يا ليلى: أنها غنم، قالت: معاذ الله أيها الأمير أنت أجود جوداً، وأمجد مجداً، وأورى زنداً من أن تجعلها غنماً، قال: فما هي ويحك يا ليلى؟ قالت: مائة ناقة برعاتها. فأمر لها بها. ثم قال: ألك حاجة بعدها؟ قالت: تدفع إلي النابغة الجعدي في قرن، قال: قد فعلت، وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك، فخرج هارباً، عائذاً بعبد الملك، فاتبعته إلى الشام، فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان، فاتبعته على البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة، فماتت بقومس.
ويقال: بحلوان، وفي رواية: بساوه، فقبرها هناك.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري، قال: حدثنا القاضي أبو الفرج، ابن الطراز، قال: حدثنا أبو علي الجبلي، قال: حدثنا عمر بن محمد بن الحكم النسائي، قال: حدثني إبراهيم بن زيد النيسابوري: أن ليلى الأخيلية بعد موت توبة تزوجت، ثم إن زوجها بعد ذلك مر بقبر توبة وليلى معه، فقال لها: يا ليلى أتعرفين لمن هذا القبر؟ فقالت: لا، فقال: هذا قبر توبة فسلمي عليه، فقالت: امض لشأنك، فما تريد من توبة وقد بليت عظامه، قال: أريد تكذيبه، أليس هو القائل في بعض أشعاره:
لو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فوالله لا برحت أو تسلمي عليه، فقالت: السلام عليك يا توبة ورحمة الله، بارك الله لك فيما صرت إليه. فإذا طائر قد خرج من القبر حتى ضرب صدرها، فشهقت شهقة فماتت فدفنت إلى جانب قبره، فنبتت على قبره شجرة وعلى قبرها شجرة فطالتا فالتفتا.
ثم دخلت
سنة ست وسبعين
فمن الحوادث فيها:
خروج صالح بن مسرح


وقد ذكرنا أنه كان يتنسك، وكان يقول لأصحابه: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين، وحب المؤمنين، ألا إن نعمة الله عز وجل على المؤمنين أم بعث فيهم رسولاً منهم - أو قال: من أنفسهم - فعلمهم الكتاب والحكمة، ثم ولي من بعده الصديق فاقتدى بهديه، واستخلف عمر فعمل بكتاب الله عز وجل، وأحيا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخف لومة لائم، وولي بعده عثمان، فاستأثر بالفيء، وجار في الحكم فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين، وولي علي بن أبي طالب فلم ينشب أن حكم في أمر الله عز وجل الرجال، وأدهن، فنحن منه ومن أشياعه براء، فتيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وأئمة الضلال الظلمة، ولخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل في الله سبحانه فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم، ألا فبيعوا الله أنفسكم طائعين تدخلوا الجنة آمنين.
وقد ذكرنا أنه كتب إلى شبيب، فجاءه شبيب في أصحابه، وقال: أخرج بنا رحمك الله، فوالله ما تزداد السنة إلا دروساً، ولا المجرمون إلا طغياناً. فبث صالح رسله في أصحابه وواعدهم الخروج في هلال صفر سنة ست وسبعين، فاجتمعوا عنده تلك الليلة، فقام إليه شبيب فقال: يا أمير المؤمنين، كيف ترى في هؤلاء الظلمة؟ أنقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني برأيك فيهم، أما أنا فأرى أن تقتل كل من لا يرى رأينا قريباً كان أو بعيداً، فإنا نخرج على قوم طاغين قد تركوا أمر الله عز وجل، فقال: لا بل ندعوهم، فلعمري ما يجيبك إلا من يرى رأيك، والدعاء أقطع لحجتهم، قال: فما تقول في دمائهم وأموالهم؟ قال: إن قتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا.
فلما هموا بالخروج قال لهم صالح: اتقوا الله عز وجل ولا تعجلوا إلى قتال أحد إلا أن يكونوا قوماً يريدونكم وينصبون لكم، فإنكم إنما خرجتم غضباً لله عز وجل، حيث انتهكت محارمه، وسفكت الدماء بغير حلها، ولا تعيبوا عل قوم أعمالهم ثم تعملوا بها، وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق، فابدأوا بها، فشدوا عليها، وتقووا بها على عدوكم.
فخرجوا وأخذوا تلك الدواب فحملوا رجالتهم عليها، وكانوا مائة وعشرة أنفس، وأقاموا بأرض دارا ثلاثة عشر ليلة، وتحصن منهم أهل دارا وأهل نصيبين وأهل سنجار، وبلغ مخرجهم محمد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخف بأمرهم، وبعث إليهم عدي بن عدي في خمسمائة، فقال له: أتبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة وقد خرج معه رجال، الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة. فزاده خمسمائة،فسار في ألف من حران وكأنما يساق إلى الموت، وكان عدي رجلاً يتنسك، فلما وصل بعث رجلاً إلى صالح يقول له: إن عدياً يسألك أن تخرج من هذا البلد إلى بلد آخر فإنه كاره للقائك، فقال للرسول: قل له هل أنت على رأينا، فجاءه الجواب: لا ولكن أكره قتالك، فحبس الرسول عنده وقال لأصحابه: اركبوا، وحملوا عليهم وهم على غفلة، فانهزموا وحووا ما في عسكرهم، وذهب فل عدي وأوائل أصحابه حتى دخلوا على محمد بن مروان، فغضب، ثم دعا خالد ابن جزي السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة ودعا الحارث بن جعونة العامري، فبعثه في ألف وخمسمائة، وقال: اخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة، وأغذا السير، فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه.
فانتهيا إلى صالح وقد نزل آمد، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل من الخوارج أكثر من سبعين، ومن المؤمنين نحو من ثلاثين، فلما جن الليل ذهب الخوارج فقطعوا الجزيرة ودخلوا أرض الموصل، فبلغ ذلك الحجاج، فسرح إليهم الحارث بن عميرة الهمداني في ثلاثة آلاف رجل، فلقيهم ومع صالح تسعون رجلاً، فشد عليهم فقتل صالح ولاذ الباقون بحصن هناك، فقال الحارث لأصحابه: احرقوا الباب، فإذا صار جمراً فدعوهم فإنهم لا يقدرون على الخروج، فإذا أصبحنا قتلناهم ففعلوا، فقال شبيب لأصحابه: لئن صبحكم هؤلاء إنه لهلاككم، فأتوا باللبود فبلوها بالماء، ثم ألقوها على الجمر، ثم خرجوا على القوم فضربوهم بالسيوف، فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا، وخلوا العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن، فكان ذلك أول جيش هزمه شبيب.


وفي هذه السنة: دخل شبيب الكوفة وذلك أنه لما قتل صالح، كان قتله يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقين من جمادى الآخرة - فقال شبيب لأصحابه: بايعوني أو بايعوا من شئتم، فبايعوه، فخرج فقتل من قدر عليه، وبعث الحجاج جنداً في طلبه فهزمهم، فبعث إليهم سورة بن الأبجر، فذهب شبيب إلى المدائن فأصاب منها وقتل من ظهر له، ثم خرج فأتى النهروان، فتوضأ هو وأصحابه وصلوا، وأتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب، فاستغفروا لإخوانهم وتبرأوا من علي وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم خرجوا فقطعوا جسر النهروان ونزلوا في جانبه الشرقي، ثم التقوا فهزموا سورة، فمضى فله إلى الحجاج، فقال: قبح الله سورة، ثم دعا عثمان بن سعيد، فقال: تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق النزق، ولا تحجم إحجام الواني الفرق: فقال: لا تبعث معي أحداً من أهل هذا الفل، قال: لك ذاك، ثم أخرج مع أربعة آلاف، فجعل كلما مضى إلى مكان رحل شبيب إلى مكان أراده أن يتعجل إليه في فل من أصحابه، فما زالوا يتراوغون ويذهبون من مكان إلى مكان، ويقتتلون إذا التقوا وينهزمون. فطال ذلك على الحجاج، فولى سعيد بن المجالد على ذلك الجيش، وقال له: اطلبهم طلب السبع، ولا تفعل فعل عثمان.
فلقوهم فانهزم أصحاب سعيد، وثبت هو، فضربه شبيب فقتله، ورجع الناس إلى أميرهم الأول عثمان، فبعث الحجاج سويد بن عبد الرحمن في ألفي فارس، وقال: اخرج إلى شبيب فالقه، فخرج فلقيه فحمل عليه شبيب حملة منكرة، ثم أخذ نحو الحيرة، فتبعه سويد، وخرج الحجاج نحو الكوفة، فبادره شبيب إليها، فنزل الحجاج الكوفة صلاة العصر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب، ثم دخل الكوفة، وجاء حتى ضرب باب القصر بعموده، ثم خرج من الكوفة، فنادى الحجاج وهو فوق القصر: يا خيل الله اركبي.
وبعث بسر بن غالب في ألفين، وزائدة بن قدامة في ألفين، وأبا الضريس في ألف من الموالي. وخرج شبيب من الكوفة فأتى المردمة ثم مضى نحو القادسية، ووجه الحجاج زحر بن قيس في جريدة خيل نقاوة ألف وثمانمائة فارس، فالتقيا، فنزل زحر فقاتل حتى صرع وانهزم أصحابه.
وانعطف شبيب على الأمراء المبعوثين إليه، فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكانت الكرة لشبيب، فقال الناس: ارفعوا السيف وادعوا الناس إلى البعة، ثم إنه ارتحل، وكان الحجاج تقول: أعياني شبيب.
ثم دعا عبد الرحمن بن محمد الأشعث، فقال: انتخب ستة آلاف واخرج في طلب هذا العدو، فلما اجتمع العسكر كتب إليهم الحجاج: أما بعد، فإنكم قد اعتدتم عادة الأذلاء، وقد صفحت لكم مرة بعد مرة، وإني أقسم بالله عز وجل قسماً صادقاً إن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعاً يكون أشد عليكم من هذا العدو الذي تهربون منه في بطون الأودية والشعاب.
وبعث إلى عبد الرحمن عند طلوع الشمس، فقال: ارتحل الساعة، وناد في الناس: برئت الذمة من هذا البعث وجدناه متخلفاً، فخرج حتى مر بالمدائن، فنزل بها يوماً وليلة، واشترى أصحابه حوائجهم، ثم نادى بالرحيل، ودخل على عثمان بن قطن، فقال له عثمان: إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل، والله لكأنهم خلقوا من ضلوعها، الفارس منهم أشد من مائة، فلا تلقهم إلا في تعبية أو في خندق، فخرج في طلب شبيب، فارتفع شبيب إلى دقوقاء. وكتب الحجاج إلى عبد الرحمن: أن اطلب شبيباً أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه.
وكان شبيب يدنو من عبد الرحمن فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيمضي عنه، فإذا بلغه أنه قد سار انتهى إليه، فوجده قد صف الخيل، فلا يصيب له غرة، فإذا دنا منه عبد الرحمن ارتحل خمسة عشر فرسخاً أو عشرين، فنزل منزلاً غليظاً خشناً.
ثم إن الحجاج عزل عبد الرحمن، وولى عثمان بن قطن، وعلى أصحابه، فخرج شبيب في مائة وواحد و ثمانين رجلاً، فحمل عليهم فانهزموا، ودخل شبيب عسكرهم، وقتل نحواً من ألفين من ذلك العسكر، وقيل لابن الأشعث: قد ذهب الناس، وتفرقوا وقتل خيارهم، فرجع إلى الكوفة، فاختبأ من الحجاج حتى أخذ له الأمان بعد ذلك.
وفي هذه السنة:


ولى عبد الملك أبان بن عثمان المدينة في رجب. وأقام أبان الحج للناس في هذه السنة، واستقضى أبان نوفل بن مساحق. وكان على خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وكان قد استعفى من القضاء قديماً، فولى مكانه أبو بردة، وعلى البصرة زرارة بن أوفى.
وفيها: ولد مروان بن محمد بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حبة بن جوين بن علي، أبو قدامة العرني، الكوفي ورد المدائن في حياة حذيفة. وحدث عن ابن مسعود، وعن علي رضي الله عنه. وشهد وقعة النهروان. وكان ثقة عند القوم، وضعفه الأكثرون.
وتوفي في هذه السنة.
زهير بن قيس بن شداد البلوي يقال: إن له صحبة، شهد الفتح بمصر، وقتله الروم ببرقة في هذه السنة.
وكان سبب قتله أن الصريخ أتى بنزول الروم على برقة، فأمره عبد العزيز بالنهوض إليهم، فنهض فقتل.
شريح بن الحارث بن قيس، أبو أمية القاضي ولاه عمر الكوفة، وأسند الحديث عن عمر، وعلي.
أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، عن أبي محمد الجوهري، عن ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: أخبرنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، عن داود، عن عامر: أن ابناً لشريح قال لأبيه: إن بيني وبين قوم خصومة فانظر فإن كان الحق لي خاصمتهم، وإن لم يكن لي الحق أخاصم. فقص قصته عليه، فقال: انطلق فخاصمهم. فانطلق إليهم فتخاصموا إليه فقضى على ابنه، فقال له لما رجع داره: والله لو لم أتقدم إليك لم ألمك، فضحتني. فقال: يا بني، والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم، ولكن الله هو أعز علي منك، خشيت أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فيذهب ببعض حقهم.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا الحسين بن أحمد بن عبد الله الملطي، قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن الحسين المروزي، قال: أخبرنا أحمد بن الحارث بن محمد بن عبد الكريم، قال: حدثني جدي محمد بن عبد الكريم، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، قال: حدثنا مجالد، عن الشعبي، قال: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً، فأرسلت عينيها فبكت، فقلت: أبا أمية ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة، فقال: يا شعبي، إن أخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن مسعود، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن عون، عن إبراهيم، عن شريح: أنه قضى على رجل باعترافه، فقال: يا أبا أمية قضيت علي بغير بينة، فقال: أخبرني ابن أخت خالتك.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا الحسين بن علي التميمي، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبي حيان التيمي، قال: حدثنا أبي، قال: كان شريح إذا مات لأهله سنور أمر بها فألقيت في جوف داره، ولم يكن له مثعب شارع إلا في جوف داره إتقاء لأذى المسلمين.
توفي شريح في هذه السنة. وقيل: سنة ثمان وسبعين. وقد بلغ مائة وثماني سنين.
وذكر ابن عبد البر أنه توفي سنة سبع وثمانين، وأنه بلغ من العمر مائة سنة.
ثم دخلت
سنة سبع وسبعين
فمن الحوادث فيها:
قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي
وزهرة بن حيوية
وذلك أن شبيباً لما هزم الجيش الذي بعثه الحجاج مع ابن الأشعث، وقتل عثمان بن قطن، أوى من الحر إلى بلده يصيف بها، ثم خرج في نحو من ثمانمائة رجل، فأقبل نحو المدائن، فندب الحجاج الناس، فقام إليه زهرة بن حيوية وهو شيخ كبير، فقال: إنك إنما تبعث الناس متقطعين، فاستنفر الناس كافة، وابعث إليهم رجلاً شجاعاً ممن يرى الفرار عاراً. فقال له الحجاج: فأنت لها، فقال: إني قد ضعفت، ولكن أخرجني مع الأمير أشير عليه برأيي.
فكتب الحجاج إلى عبد الملك: إن شبيباً قد شارف المدائن، وإنما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، في كلها يقتل أمراءهم، ويفل جنودهم فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلى أهل الشام فيقاتلون عدوهم ويأكلون فيئهم فليفعل.


فلما قرأ الكتاب بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف وبعث حبيب بن عبد الرحمن في ألفين، وتجهز أهل الكوفة أيضاً، وقد بعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء وهو مع المهلب، فبعثه على ذلك الجيش، فاجتمعوا خمسين ألفاً، ومع شبيب ألف رجل، فخرج في ستمائة، وتخلف عنه أربعمائة، فقال: قد تخلف عنا من لا يحب أن يرى فينا.
ثم عبى أصحابه، وحمل على الميمنة ففضها، وانهزمت الميسرة، وكان عتاب في القلب وزهرة جالساً معه، فغشيهم، فطعن عتاب بن ورقاء، ووطئت الخيل زهرة، وجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله، وتمكن شبيب من العسكر، وحوى ما فيه، فقال: ارفعوا عنهم السيف، ثم دعا إلى البيعة فبايعه الناس من ساعتهم وهربوا تحت اليل، فأقام شبيب يومين، وبعث إلى أخيه فأتاه من المدائن، ثم أقبل إلى الكوفة، وبعث الحجاج إليه جيشاً فهزمهم، وجاء شبيب حتى ابتنى مسجداً في أقصى السبخة، فلما كان في اليوم الثالث أخرج الحجاج مولاه أبو الورد عليه تجفاف، وأخرج مجففة كثيرة، جعلهم على هيئة الغلمان له، وقالوا: هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه. ثم أخرج إليه غلاماً آخر فقتله.
ثم خرج الحجاج وقت ارتفاع النهار من القصر، فقال: ائتوني ببغل أركبه إلى السبخة، فأتوه، فلما نظر إلى السبخة وإلى شبيب وأصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائة فارس، فقعد الحجاج على كرسي، وأخذ يمدح أهل الشام ويقول: أنتم أهل السمع والطاعة، فلا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة.
فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم حمل شبيب بجميع أصحابه، ونادى الحجاج بجماعة الناس، فوثبوا في وجهه، فما زالوا يطعنون ويضربون، فنادى شبيب: يا أولياء الله، الأرض، ثم نزل وأمر أصحابه، فنزل بعضهم، فقال خالد بن عتاب: ائذن لي في قتالهم، فإني موتور، وأنا ممن لا يتهم في نصيحته، فقال: قد أذنت، فأتاهم من ورائهم، فقتل مصاداً أخا شبيب، وغزالة امرأة شبيب. وجاء الخبر إلى الحجاج، فقال لأهل الشام: شدوا عليهم فقد أتاهم ما أرعب قلوبهم، فشدوا عليهم فهزموهم. وتخلف شبيب في حامية الناس، ثم عبر على الجسر وقطعه.
وفي رواية: أن غزالة امرأة شبيب نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران، فدخل بها شبيب الكوفة فوفت بنذرها.
ولما رحل شبيب بعث الحجاج حبيب بن عبد الرحمن الحكمي في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام، وقال له: حيث ما لقيته فنازله، وبعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب أن من جاءنا منهم فهو آمن، فكان كل من ليست له تلك البصيرة ممن قد هده القتال يجيء فيؤمن، فتفرق عنه ناس كثير من أصحابه، وبلغ شبيب أن عبد الرحمن بالأنبار، فأقبل بأصحابه فبيتهم فما قدر عليهم بشيء لأنهم قد احترزوا، وجرت مقتلة وسقطت أيد، وفقئت أعين، فقتل من أصحاب شبيب نحو من ثلاثين، ومن الآخرين نحو من مائة، فمل الفريقان بعضهم بعضاً من طول القتال، ثم انصرف عنهم شبيب وهو يقول لأصحابه: ما أشد هذا الذي بنا، لو كنا إنما نطلب الدنيا، وما أيسر هذا في جانب ثواب الله عز وجل، ثم حدث أصحابه، فقال: قتلت أمس منهم رجلين أحدهما أشجع الناس، والآخر أجبن الناس، خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا القرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته ثم خرج قبل أصحابه وخرجت معه، فقال لي: أتشتري علفاً، فقلت: إن لي رفقاء قد كفوني ذلك، أين ترى عدونا هذا؟ فقال: قد بلغني أنه نزل قريباً منا، وأيم الله لوددت أني قد لقيت شبيبهم هذا، قلت فتحب ذلك، قال: نعم، قلت: فخذ حذرك فأنا والله شبيب، فانتضيت سيفي، فخر والله ميتاً وانصرفت، فلقيت الآخر خارجاً من القرية، فقال لي: أين تذهب الساعة؟ وإنما يرجع الناس إلى عسكرهم، فلم أكلمه، ومضيت فتبعني حتى لحقني فعطفت عليه، فقلت له: مالك؟ فقال: أنت والله عدونا؟ فقلت: أجل والله، فقال: والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك، فحملت عليه وحمل علي فاضطربنا بسيفينا ساعة، فوالله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه، فقتلته.
وفي هذه السنة: هلك شبيب الخارجي في قول هشام بن محمد.. وقال غيره: كان هلاكه في سنة ثمان وسبعين.


والسبب في هلاكه أن الحجاج أمر سفيان بن الأبرد أن يسير إلى شبيب، وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى انجبر واستراش هو وأصحابه، ثم أقبل راجعاً فاستقبله سفيان بجسر دجيل الأهواز، وكان الحجاج قد كتب إلى الحكم بن أيوب، وهو زوج بنت الحجاج وعامله على البصرة في أربعة آلاف إلى شبيب، ومره فليلحق بسفيان بن الأبرد، وليسمع له وليطع.
فبعث إليه زياد بن عمرو العتكي في أربعة آلاف، فلم ينته إلى سفيان حتى التقى سفيان بشبيب بجسر دجيل، فعبر شبيب إلى سفيان فاقتتلوا، وكر شبيب عليهم أكثر من ثلاثين كرة، فجالدهم أصحاب سفيان حتى اضطروهم إلى الجسر، فنزل شبيب ونزل معه نحو من مائة، فاقتتلوا حتى المساء، فدعا سفيان الرماة، فقال: ارشقوهم بالنبل، فركب شبيب وأصحابه وكروا على أصحاب النبل كرة صرعوا منهم أكثر من ثلاثين، ثم عطف خيله على الناس، فطاعنوه حتى اختلط الظلام ثم انصرف عنهم. وقد أحب الناس انصرافه لما يلقون منه، فلما أراد العبور نزل حافر فرسه عن جنب السفينة، فسقط في الماء فقال: " ليقضي الله أمراً كان مفعولاً " . فارتمس في الماء، ثم ارتفع فقال: " ذلك تقدير العزيز العليم " .
وفي رواية: أنه كان معه قوم لم يكن لهم تلك البصيرة النافذة، وقد كان قد قتل من عشائرهم خلقاً كثيراً، فأوجع بذلك قلوبهم، فلما تخلف في أواخر أصحابه حين العبور قال بعضهم لبعض: هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة، فقطعوا الجسر فمالت السفن، ففزع الفرس ونفر، فوقع في الماء.
والحديث الأول هو المشهور، وجاء صاحب الجسر إلى سفيان فقال: إن رجلاً منهم وقع في الماء، فتنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين وانصرفوا وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان ثم أقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث مهاجر بن صيفي، فعبر إلى عسكرهم فإذا ليس فيه منهم صافر ولا آثر، فنزل فيه فإذا أكثر خلق الله خيراً. فاستخرجوا شبيباً وعليه الدرع، فزعموا أنه شق عن بطنه فأخرج قلبه، فكان مجتمعاً صلباً كأنه صخرة، وإنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة الإنسان.
وكان لما نعي إلى أمه وقيل قتل، لم تصدق، فلما قيل لها: إنه غرق، صدقت وقالت: إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار، فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء.
وقد روى أبو مخنف، عن فروة بن لقيط: أن يزيد بن نعيم أبا شبيب كان ممن دخل في جيش سلمان بن ربيعة إذ بعث به الوليد بن عقبة على أمر عثمان بن عفان إياه بذلك مدداً لأهل الشام إلى أرض الروم، فلما قفل المسلمون أقيم السبي للبيع، فرأى يزيد بن نعيم جارية حمراء، لا شهلاء، ولا زرقاء، طويلة جميلة، تأخذها العين، فابتاعها وذلك سنة خمس وعشرين أول السنة، فلما أدخلها الكوفة قال: أسلمي، فأبت فضربها فلم تزدد إلا عصياناً، فأمر بها فأصلحت له، ثم أدخلت عليه، فلما تغشاها حملت فولدت له شبيباً في ذي الحجة يوم النحر، وكان يوم السبت، وأسلمت قبل أن تلده وقالت: إني قد رأيت في النوم أنه خرج من قبلي شهاب نار فسطع حتى بلغ السماء والآفاق كلها، فبينا هو كذلك إذ وقع في ماء كثير جار، فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهريقون فيه الدماء، وإني قد أولت رؤياي هذه أني أرى ولدي سيكون صاحب دماء يهريقها، وإني أرى أمره سيعلو ويعظم.
وفي هذه السنة: خرج مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك بن مروان، ولحق بالجبل فقتل.


وسبب ذلك أن الحجاج ولى أولاد المغيرة فاستعمل عروة بن المغيرة على الكوفة، ومطرف على المدائن، وحمزة على همدان. وأقبل شبيب الخارجي إلى المدائن، فكتب مطرف إلى الحجاج بخبره، فأمده بالرجال، فلما نزل شبيب بهرسيس قطع مطرف الجسر فيما بينه وبينه، وبعث إلى شبيب: ابعث رجالاً من صلحاء أصحابك أدارسهم القرآن فأنظر ما تدعون إليه، فبعث إليه: ابعث إلي رجالاً يكونون عندي حتى ترد أصحابي، فقال له: كيف آمنك على أصحابي، وأنت لا تأمنني على أصحابك؟ فقال: إنك قد علمت أننا لا نستحل في ديننا الغدر وأنتم تفعلونه، فبعث إليهم رجالاً وبعثوا إليه رجالاً، فقال لأصحابهم: إلى ما تدعون؟ فقالوا: إلى كتاب الله وسنة نبيه، والذي نقمنا على قومنا الاستئثار بالفيء، وتعطيل الحدود، والتسلط بالجبرية، وما زالوا يترددون إليه حتى وقع في نفسه خلع عبد الملك والحجاج، فقيل له: إن هذا الخبر يبلغ القوم فلا تقم في مقامك، فخرج وجمع رؤوس أصحابه وقال لهم: إني أشهدكم أني قد خلعت عبد الملك والحجاج فمن أحب فليصحبني ومن أبى فليذهب حيث شاء، فإني لا أحب أن يتبعني من ليست له نية في جهاد أهل الجور.
ثم بايعه أصحابه، ثم بعث إلى أخيه حمزة: أمددني بما قدرت عليه من مال أو سلاح، فقال للرسول: ثكلتك أمك، أنت قتلت مطرفاً؟ فقال: لا، ولكن مطرفاً قتل نفسه وقتلني، وليته لا يقتلك، قال: ويحك، من سول له هذا الأمر؟ قال: نفسه.
ثم قوي أمر مطرف، فأخبر الحجاج، فبعث الجيوش لقتاله، وبعث إلى أخيه حمزة من أوثقه بالحديد وحبسه، فالتقت الجيوش بمطرف فاقتتلوا، فخرج من عسكر مطرف بكير بن هارون، فصاح: يا أهل ملتنا، نسألكم بالله عز وجل الذي لا إله إلا هو لما أنصفتمونا، خبرونا عن عبد الملك وعن الحجاج، ألستم تعلمونهما جائرين مستأثرين يتبعان الهوى، ويأخذان على الظنة، ويقتلان على الغضب. فنادوه: كذبت. فقال: ويلكم " لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى " .
فخرج إليه رجل فاقتتلا، فقتل الرجل، ثم اشتد القتال، فانكشفت خيل مطرف فوصلوا إليه، واحتز رأسه عمرو بن هبيرة، ثم طلب الأمان لبكير بن هارون، من أمير الجيش فأمنه.
وفي هذه السنة: وقع الاختلاف بين الأزارقة أصحاب قطري بن الفجاءة، فخالفه بعضهم واعتزله، وبايع عبد رب الكبير.
وسبب اختلافهم أن المهلب أقام يقاتل قطرياً وأصحابه من الأزارقة نحواً من سنة، وكانت كرمان في أيدي الخوارج، وفارس في يد المهلب، فضاق على الخوارج مكانهم، إذ لا يأتيهم من فارس مادة، فخرجوا إلى كرمان وتبعهم المهلب، فقاتلهم وأبعدهم عن فارس كلها، فصارت في يده، فبعث الحجاج عليها عماله وأخذها من المهلب.
فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إلى الحجاج: دع بيد المهلب خراج جبال فارس، فإنه لا بد للجيش من قوة، ودع له كورة إصطخر ودرابجرد، فتركها له.
وكتب له الحجاج: أما بعد، فإنك لو شئت فيما أرى اصطلمت هذه الخارجة المارقة، ولكنك تحب طول بقائهم لتأكل الأرض حولك، وقد بعثت إليك البراء بن قبيصة لينهضك إليهم إذا قدم عليك بجميع المسلمين، ثم جاهدهم أشد الجهاد، وإياك والعلل.
فأخرج المهلب الكتائب، وأقام البراء على تل، وقاتل الخوارج من بكرة إلى نصف النهار، فقال له البراء: والله ما رأيت كتائب ككتائبك، ولا فرساناً كفرسانك، ولا رأيت مثل قوم يقاتلونك أصبر منهم، أنت والله المعذور. ثم عاد وقت العصر، فقاتل حتى حجز الليل بينهم.
وكتب المهلب إلى الحجاج: أتاني كتاب الأمير واتهامه إياي في هذه المارقة، وقد رأى الرسول ما فعلت، فوالله لو قدرت على استئصالهم ثم أمسكت عن ذلك لقد غششت المسلمين.


ثم قاتلهم المهلب ثمانية عشر شهراً، ثم إن رجلاً منهم كان عاملاً لقطري على ناحية من كرمان قتل رجلاً كان ذا بأس من الخوارج، فوثب الخوارج إلى قطري وقالوا: أمكنا منه لنقتله بصاحبنا، فقال: ما أرى أن أقتل رجلاً تأول فأخطأ في التأويل، قالوا: بلى، قال: لا، فوقع الاختلاف بينهم، فولوا عبد رب الكبير وخلعوا قطرياً، فلم يبق معه إلا ربعهم أو خمسهم، فجعلوا يقتتلون فيما بينهم نحواً من شهر غدوة وعشية فكتب بذلك المهلب إلى الحجاج وقال: إني أرجو أن يكون اختلافهم سبباً لهلاكهم. فكتب إليه الحجاج: ناهضهم على اختلافهم قبل أن يجتمعوا. فكتب إليه المهلب. لست أرى أن أقاتلهم ما دام يقتل بعضهم بعضاً، فإن أتموا على ذلك فهو الذي نريد، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضاً، فيكونون أهون شوكة.
فسكت عنه الحجاج - ثم إن قطرياً خرج بمن اتبعه نحو طبرستان، وبايع عامتهم عبد رب الكبير، فنهض المهلب فقاتلوه قتالاً شديداً، ثم إن الله تعالى قتلهم فلم ينج منهم إلا القليل، وأخذ عسكرهم وما فيه.
وفي هذه السنة: هلك قطري، وعبد رب الكبير، وعبيدة بن هلال ومن كان معهم من الأزارقة.
وقيل: بل كان هلاكهم في سنة ثمان وسبعين. وسبب هلاكهم أنهم لما اختلفوا، وتوجه قطري إلى طبرستان، ووجه الحجاج جيشاً مع سفيان بن الأبرد، فاتبعهم، فلحق قطرياً في شعاب طبرستان، فقاتلوه فتفرق عنه أصحابه، ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتدهدى إلى أسفله. فأتاه علج من أهل البلد، فقال له قطري: أسقني ماء، فقال: أعطني شيئاً حتى أسقيك، قال: ويحك، والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأشرف العلج عليه وحدر عليه حجراً عظيماً فأصاب إحدى وركيه فأوهنه، وصاح بالناس، فأقبلوا فقتلوه.
فبعث سفيان برأسه مع أبي جهم بن كنانة الكلبي إلى الحجاج، ثم أتى به عبد الملك، ثم إن سفيان أقبل إلى عسكر عبيدة بن هلال وقد تحصن في قصر بقومس فأحاط به وبأصحابه، فجهدوا حتى أكلوا دوابهم، ثو خرجوا فقاتلوه فقتلهم، وبعث برؤوسهم إلى الحجاج.
وفي هذه السنة: عبر أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد النهر، نهر بلخ، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعد أن أشرفوا على الهلاك، فانصرفوا إلى مرو.
وفي هذه السنة: غزا الصائفة الوليد بن عبد الملك.
وفيها: حج بالناس أبان بن عثمان بن عفان، وهو أمير على المدينة، وكان على خراسان أمية بن عبد الله، وعلى الكوفة والبصرة الحجاج.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
زر بن حبيش، أبو مريم الأسدي روى عن عمر، وعلي، وابن عوف، وابن مسعود، وأبي بن كعب.
أخبرنا عبد الوهاب الأنماطي، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الدقاق، قال: أخبرنا الحسين بن صفوان، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبيد، قال: حدثنا خلف بن هشام، قال: حدثنا حماد، عن عاصم بن أبي النجود، قال: أدركت أقواماً كانوا يتخذون هذا الليل جملاً منهم زر، وأبو وائل.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا ثابت بن بندار، قال: أخبرنا أبو بكر البرقاني، قال: حدثنا عمر بن نوح، قال: حدثنا عبيد الله بن سليمان، قال: حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري، قال: حدثنا نعيم بن حماد، عن عبد الله بن إدريس، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: افتض زر بن حبيش جارية وهو ابن مائة وعشرين سنة، وتوفي وهو ابن اثنين وعشرين ومائة سنة.
شبيب بن يزيد الخارجي مات في هذه السنة. وقد ذكرنا قتله في الحوادث.
عبيد بن عمير بن قتادة، أبو عاصم الليثي الواعظ أسند عن أبي كعب، وأبي ذر، وأبي قتادة، وابن عمرو، وأبي هريرة، وابن عباس، وعائشة.
وروى عنه من كبار التابعين: مجاهد، وعطاء، وأبو حازم.
وكان مجاهد يقول: كنا نفخر بفقيهنا وبقاضينا: فأما فقيهنا فابن عباس، وأما قاضينا فعبيد بن عمير.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم البغدادي، قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن أبي سهل، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن قيس بن سعيد، عن عبيد بن عمير، قال:


إن أهل القبور ليتلقون الموتى كما يتلقى الراكب، يسألونه، فإذا سألوه: ما فعل فلان؟ فمن كان قد مات يقول: ألم يأتكم؟ فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب به إلى أمه الهاوية.
أخبرنا يحيى بن ثابت بن بندار، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن جعفر السلماسي، قال: أخبرنا أبو العباس الوليد بن بكر الأندلسي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن زكريا الهاشمي، قال: حدثنا صالح بن أحمد بن عبد الله بن مسلم العجلي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عبد الله، قال: كانت امرأة جميلة بمكة، وكان لها زوج، فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة، فقالت لزوجها: أترى أحداً يرى هذا الوجه لا يفتتن به، قال: نعم، قالت: ومن؟ قال: عبيد بن عمير، قالت: فأذن لي فيه فلأفتننه، قال: قد أذنت لك.
قال: فأتته كالمستفتية، فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام. قال: فأسفرت عن وجه مثل فلقة القمر، فقال لها: استتري يا أمة الله، قالت: إني قد فتنت بك فانظر في أمري، قال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقت نظرت في أمرك، قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: أخبريني، لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك كان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو أدخلت قبرك فأجلست للمساءلة أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، فلو أن الناس أعطوا كتبهم فلا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أو بشمالك، أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، فلو أردت الممر على الصراط فلا تدرين تنجين أم لا تنجين، أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو جيء بالموازين وجيء بك لا تدرين تخفين أم تثقلين، أيسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت. قال: فلو وقفت بين يدي الله تعالى للمساءلة، كان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، فاتق الله يا أمة الله، فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك.
قال: فرجعت إلى زوجها، قال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون. فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة.
قال: فكان زوجها يقول: مالي ولعبيد بن عمير أفسد علي امرأتي كانت لي في كل ليلة عروساً، فصيرها راهبة.
ثم دخلت
سنة ثمان وسبعين
فمن الحوادث فيها:
عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله عن خراسان
وضمه خراسان إلى سجستان إلى الحجاج
واكن السبب أن الحجاج لما فرغ من أمر مشيب ومطرف شخص من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل، فقدم عليه المهلب وقد فرغ من الأزارقة، فأجلسه معه وأحسن أعطيات أصحابه، وزادهم، وكان الحجاج قد ولى المهلب سجستان مع خراسان، فقال له المهلب: ألا أدلك على رجل هو أعلم مني بسجستان، قال: بلى، قال: عبد الله بن أبي بكرة، فبعثه على سجستان، وكان العامل هناك أمية بن عبد الله.
وفي هذه السنة: فرغ الحجاج من بناء واسط.
وسبب تسميتها أن الحجاج قال: هذا وسط ما بين المصرين: الكوفة والبصرة، وكان كتب إلى عبد الملك يستأذنه في بناء مدينة بين المصرين، فأذن له، فابتدأ في البناء من سنة خمس وسبعين، فبنى القصر والمسجد والسورين، وحفر الخندق في ثلاث سنين، وفرغ في هذه السنة، فأنفق عليها خراج العراق كله خمس سنين، ثم نقل إليها من وجوه أهل الكوفة، وأمرهم أن يصلوا عن يمين المقصورة، ونقل من وجوه أهل البصرة، وأمرهم أن يصلوا عن يسار المقصورة، وأمر من كان معه من أهل الشام أن يصلوا بحياله مما يلي المقصورة، وأنزل أصحاب الطعام والبزازين والصيارف والعطارين عن يمين السور، وأنزل البقالين وأصحاب السقط، وأصحاب الفاكهة في قبلة السور، وأنزل الروزجارية، والصناع عن يسار السور إلى دجلة، وجعل لأهل كل تجارة قطعة لا يخالطهم غيرهم، وأمر أن يكون مع أهل كل قطعة صيرفي، وجعل لقصره أربعة أبواب، واتخذ لهم مقبرة من الجانب الشرقي، وعقد الجسر وضرب الدراهم، وولاها لابن أخيه.
وقد جرت لابن أخيه في توليته البلد قصة طريفة:


أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزينبي، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثنا أبو بكر العامري، قال: حدثنا عبد الله بن عمر، قال: حدثنا أبو عباد، قال: أدركت الخادم الذي كان يقوم على رأس الحجاج، فقلت له: أخبرني بأعجب شيء رأيته من الحجاج، قال: كان ابن أخيه أميراً على واسط، وكانت بواسط امرأة يقال إنه لم يكن بواسط في ذلك الوقت أجمل منها، فأرسل ابن أخيه إليها يريدها عن نفسها مع خادم له، فأبت عليه وقالت: إن أردتني فاخطبني إلى إخوتي. قال: وكانت لها أخوة أربعة، فأبى وقال: لا إلا كذا، وعاودها فأبت عليه إلا أن يخطبها، فأما حرام فلا، وأبى هو إلا الحرام، فأرسل إليها بهدية فأخذتها فعزلتها.
قال: فأرسل إليها عشية جمعة: إني آتيك الليلة، فقالت لأمها: إن الأمير بعث إلي بكذا وكذا. قال: فأنكرت أمها ذلك، وقالت أمها لإخوتها: إن أختكم قد زعمت كذا وكذا، فأنكروا ذلك وكذبوها، فقالت: إنه قد وعدني أن يأتيني الليلة وسترونه، قال: فقعد إخوتها في بيت حيال البيت الذي هي فيه وفيه سراج وهم يرون من يدخل إليها وجويرية لها على باب الدار قاعدة، حتى جاء فنزل عن دابته وقال لغلامه: إذا أذن المؤذن في الغلس فاتني بدابتي.
ودخل فمشت الجارية بين يديه وقالت له: ادخل وهي على سرير مستلقية، فاستلقى إلى جانبها ثم وضع يده عليها وقال: إلى كم ذا المطل؟ فقالت له: كف يدك يا فاسق.
قال: ودخل إخوتها ومعهم سيوف، فقطعوه ثم لفوه في نطع وجاءوا به إلى سكة من سكك واسط فألقوه فيها. وجاء الغلام بالدابة فجعل يدق الباب رفيقاً، فلم يكلمه أحد، فلما غشي الصبح، وخشي أن تعرف الدابة انصرف. وأصبحوا فإذا هم به، فأتوا به الحجاج، فأخذ أهل تلك السكة، فقال: أخبروني ماهذا وما قصته؟ قالوا: لا نعلم حاله غير أنا وجدناه ملقى، ففطن الحجاج، فقال: علي بمن كان يخدمه فأتي بذلك الخصي الذي كان الرسول، فقيل: هذا كان صاحب سره، فقال له الحجاج: ما كان حاله، وما كانت قصته؟ فأبى، فقال: إن صدقتني لم أضرب عنقك، وإن لم تصدقني فعلت بك وفعلت.
قال: فأخبره بالأمر على جهته، فأمر بالمرأة وأمها وإخوتها، فجيء بهم فعزلت المرأة عنهم فسألها فأخبرته بمثل ما أخبره الخصي، ثم عزلها وسأل الأخوة فأخبروه بمثل ذلك وقالوا: نحن الذي صنعنا به الذي ترى، قال: فعزلهم وأمر برقيقه ودوابه وماله للمرأة، فقالت المرأة: عندي هديته، فقال: بارك الله لك فيها وأكثر في النساء مثلك، هي لك، وكل ما ترك من شيء، فهو لك، وقال: مثل هذا لا يدفن، فألقوه للكلاب. ودعا بالخصي وقال: أما أنت فقد قلت لا أضرب عنقك، فأمر بضرب وسطه.
وفي هذه السنة: حج بالناس الوليد بن عبد الملك، وكان أمير المدينة أبان، وأمير الكوفة والبصرة وخراسان وسجستان الحجاج، وعلى قضاء الكوفة شريح، وفي رواية: وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
وأغزى عبد الملك في هذه السنة يحيى بن الحكم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة، أبو عبد الله شهد العقبة مع السبعين، وكان أصغرهم، وأراد شهود بدر فخلفه أبوه على أخواته وكن تسعة، وخلفه أيضاً حين خرج إلى أحد، وشهد ما بعد ذلك.
وتوفي في هذه السنة وهو ابن أربع وتسعين سنة، وكان قد ذهب بصره، وصلى عليه أبان بن عثمان وهو والي المدينة يومئذ.
ثم دخلت
سنة تسع وسبعين
فمن الحوادث فيها:
وقوع الطاعون بالشام
حتى كاد الناس يفنون من شدته. ولم يغز تلك السنة.
وفيها: أصابت الروم أهل أنطاكية.
وفيها غزا عبيد الله رثبيل:


وذلك أن الحجاج كتب إليه: لا ترجع حتى تستبيح أرضه، وتهدم قلاعه، وتقتل مقاتلته، وتسبي ذريته، فخرج بمن معه من المسلمين وأهل الكوفة والبصرة. وكان من أهل الكوفة شريح بن هانئ الحارثي، وكان من أصحاب علي رضي الله عنه، فمضى حتى أوغل في بلاد رثبيل، فأصاب من الغنم والبقر والأموال ما شاء، وهدم قلاعها وحصونها، ودنوا من مدينة الترك، فأخذوا على المسلمين بالعقاب والشعاب، وخلوهم والرساتيق، فسقط في يد المسلمين، فظنوا أن قد هلكوا، فبعث ابن أبي بكرة إلى شريح بن هاني: إني مصالح القوم على أن أعطيهم مالاً ويخلوا بيني وبين الخروج، فأرسل إليهم فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، فقال له شريح: إنك لا تصالح على شيء إلا حسبه السلطان عليكم في أعطياتكم، فقالوا: منعنا العطاء أهون من هلاكنا، فقال شريح: والله لقد بلغت سناً وما أظن ساعة تأتي علي فتمضي حتى أموت، ولقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان، فأتتني اليوم، يا أهل الشام، تعاونوا على عدوكم. فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت، فقال له شريح: إنما حسبك أن يقال: بستان ابن أبي بكرة، أو حمام ابن أبي بكرة، يا أهل الشام، من أراد الشهادة فليأت، فتبعه ناس من المتطوعة، فقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه ثم خرج المسلمون من تلك البلاد.
وفي هذه السنة: قدم المهلب خراسان أميراً عليها، وانصرف أمية بن عبد الله.
وفيها: حج بالناس أبان بن عثمان، وكان أميراً على المدينة من قبل عبد الملك، وكان على العراق والمشرق كله الحجاج، وعلى خراسان المهلب من قبل الحجاج.
وقيل: إن المهلب كان على حربها، وابنه المغيرة كان على خراجها، وكان على قضاء الكوفة أبو بردة، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحارث المتنبي الكذاب روى عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قال: حدثنا محمد بن المبارك، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن حسان، قال: كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له أب بالحولة، فعرض له إبليس، وكان متعبداً زاهداً لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه زهادة، وكان إذا أخذ في التحميد لم يسمع السامعون بأحسن من كلامه. قال: فكتب إلى أبيه: يا أبتاه، أعجل علي فإني قد رأيت شيئاً أتخوف أن يكون من الشيطان. قال: فزاده أبوه غياً، فكتب إليه: يا بني، أقبل على ما أمرت به إن الله يقول: " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم " ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به، وكان يجيء إلى أهل المسجد رجلاً رجلاً، فيذاكرهم أمره. ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو رأى ما يرضي قبل، وإلا كتم عليه، وكان يريهم الأعاجيب، كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبح. وكان يطعمهم فاكهة الصيف في الشتاء ويقول: اخرجوا حتى أريكم الملائكة، فيخرجهم إلى دير المران، فيريهم رجالاً على خيل. فتبعه بشر كثير، وفشا الأمر وكثر أصحابه حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة فعرض على القاسم، وأخذ عليه العهد والميثاق إن رضي أمراً قبله، وإن كره كتم عليه فقال له: إني نبي، فقال القاسم: كذبت يا عدو الله، فقال له أبو إدريس: بئس ما صنعت، إذ لم تلين له حتى نأخذه، الآن يفر وقام القاسم من مجلسه حتى دخل على عبد الملك فأعلمه بأمره، فبعث عبد الملك في طلبه فلم يقدر عليه، وخرج عبد الملك حتى نزل الصبيرة واتهم عامة عسكره بالحارث أن يكونوا يرون رأيه، وخرج الحارث حتى أتى بيت المقدس فاختفى فيه، وكان أصحابه يخرجون فيلتمسون الرجال، فيدخلونهم عليه، وكان رجل من أهل البصرة قد أتى بيت المقدس فدخل على الحارث فأخذ في التحميد، ثم أخبره بأمره وأنه نبي مبعوث مرسل، فقال له: إن كلامك لحسن ولكن في هذا نظر. قال: فانظر. فخرج البصري ثم عاد إليه فرد عليه كلامه، فقال: إن كلامك لحسن، قد وقع في قلبي وقد آمنت بك وهذا الدين المستقيم، فأمر أن لا يحجب، فأقبل البصري يتردد إليه ويعرف مداخله ومخارجه وأين يهرب حتى إذا صار أخص الناس به. ثم قال له: ائذن لي، قال: إلى أين؟ قال: إلى البصرة أكون أول داعية لك بها، فأذن له.


فخرج مسرعاً إلى عبد الملك وهو بالصبيرة، فلما دنا من سرادقه صاح: النصيحة النصيحة، فقال أهل المعسكر: وما نصيحتك؟ قال: نصيحة لأمير المؤمنين، قالوا: قل، قال: حتى أدنو من أمير المؤمنين، فأمر عبد الملك أن يأذنوا له، فدخل وعنده أصحابه. قال: فصاح: النصيحة النصيحة النصيحة، قال: اخلني لا يكن عندك أحد، فأخرج من في البيت، ثم قال له: أدنني، قال: ادن، فدنا من عبد الملك على السرير، قال: ما عندك؟ قال: الحارث، فلما ذكر الحارث رمى بنفسه عن السرير ثم قال: وأين هو؟ قال: يا أمير المؤمنين هو ببيت المقدس، عرفت مداخله ومخارجه، فقص عليه قصته وكيف صنع به، فقال: أنت صاحبه، وأنت أمير بيت المقدس وأمير ها هنا فمرني بما شئت، فقال: يا أمير المؤمنين، ابعث معي قوماً لا يفهمون الكلام، فأمر أربعين رجلاً من فرغانة، فقال: انطلقوا مع هذا فما أمركم من شيء فأطيعوه. وكتب إلى صاحب بيت المقدس: إن فلاناً الأمير عليك حتى تخرج فأطعه فيما أمرك به.
فلما قدم بيت المقدس أعطاه الكتاب، فقال: مرني بما شئت، فقال: اجمع لي كل شمعة تقدر عليها ببيت المقدس، وادفع كل شمعة إلى رجل ورتبهم على أزقة بيت المقدس وزواياها بالشمع وتقدم البصري وحده إلى منزل الحارث، فأتى الباب، فقال للحاجب: استأذن لي على نبي الله، قال: في هذه السنة ما يقدرون عليه وما يؤذن عليه حتى يصبح، قال: أعلمه أني إنما رجعت شغفاً إليه قبل أن أصل فدخل عليه فأعلمه بكلامه، فأمره ففتح، قال: ثم صاح البصري: أسرجوا، فأسرجت الشموع حتى كانت كأنها النهار. ثم قال: من مر بكم فاضبطوه، ودخل هو إلى الموضع الذي يعرفه فطلبه فلم يجده، فقال أصحابه: هيهات تريدون أن تقتلوا نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء، قال: فطلبه في شق كان قد هيأه سرباً، فأدخل البصري يده في ذلك السرب فإذا هو بثوبه، فاجتره فأخرجه إلى الخارج، ثم قال للفرغانيين: اربطوه، فربطوه. فبينا هم يسيرون على البريد إذ قال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، فقال أهل فرغانة أولئك العجم: هذا كراننا فهات كرانك أنت، فساروا به حتى أتي به عبد الملك، فلما سمع به أمر بخشبة فنصبت فصلبه، وأمر بحربة وأمر رجلاً فطعنه فأصاب ضلعاً من أضلاعه فكفت الحربة، فجعل الناس يصيحون: الأنبياء لا يجوز فيهم السلاح، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين تناول الحربة ثم مشى إليه، ثم أقبل يتحسس حتى وافى بين ضلعين فطعنه بها فأنفذه فقتله.
وروى أبو الربيع عن شيخ أدرك القدماء، قال: لما حمل الحارث على البريد، وجعلت في عنقه جامعة من حديد فجمعت يده إلى عنقه، فأشرف على عقبة بيت المقدس تلى هذه الآية: " قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي " . فتقلقلت الجامعة ثم سقطت من يده ورقبته إلى الأرض، فوثب الحرس فأعادوها، ثم ساروا به فأشرف على عقبة أخرى فقرأ آية فسقطت من رقبته فأعادوها، فلما قدموا على عبد الملك حبسه وأمر رجالاً من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويخوفوه ويعلموه أن هذا من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم. فصلب وجاء رجل بحربة فطعنه فانثنت، فتكلم الناس وقالوا: ما ينبغي لمثل هذا أن يقتل. ثم أتاه حرسي برمح دقيق فطعنه بين ضلعين من أضلاعه فأنفده.
قال مؤلف الكتاب: وسمعت من قال: قال عبد الملك للذي ضربه بالحربة فانثنت: أذكرت الله حين طعنته؟ قال: نسيت، قال: فاذكر الله. ثم اطعنه، وطعنه فأنفدها.
قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة، أبو ليلى
وهو النابغة، نابغة بني جعدة، وقيل: اسمه عبد الله بن قيس، والأول أصح.
كان جاهلياً وأدرك الإسلام، ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشده. وقال له عمر: أنشدنا مما عفا الله عنه. فأنشده قصيدة، وعمر في الإسلام حتى أدرك الأخطل النصراني ونازعه الشعر. قال ابن قتيبة: فغلبه الأخطل ومات بأصبهان وهو ابن عشرين ومائة سنة. وقال الأصمعي: عاش مائة وستين.
أخبرنا أبو منصور الطوسي، وأبو القاسم السمرقندي، وأبو عبد الله بن البنا، وأبو الفضل المقري، وأبو الحسن الخياط، قالوا: أخبرنا أحمد بن محمد بن النقور، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله الدقاق، قال: حدثنا البغوي، قال: حدثنا داود بن رشيد، قال: حدثنا يعلى بن الأشدق، قال: سمعت النابغة يقول: أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم:


بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو بعد ذلك مظهرا
فقال صلى الله عليه وسلم: " فأين المظهر يا أبا ليلى " ، فقلت: الجنة، فقال: " أجل إن شاء الله " ، ثم قلت:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أجدت لا يفضض الله فاك " . مرتين.
أنبأنا علي بن عبيد الله، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن النقور، قال: أخبرنا علي بن عيسى الوزير، قال: حدثنا البغوي، قال: حدثني الزبير بن بكار، قال: حدثني أخي هارون بن أبي بكر، عن يحيى بن إبراهيم، عن سليمان بن محمد بن يحيى بن عروة، عن أبيه، عن عمه عبد الله بن عمرو، قال: أقحمت السنة النابغة - نابغة بني جعدة - فدخل على الزبير المسجد الحرام، فأنشده:
حكيت لنا الصديق لما وليتنا ... وعثمان والفاروق فارتاح معدم
وسويت بين الناس بالحق فاستووا ... فعاد صباحاً حالك اللون مظلم
أتاك أبو ليلى يجوب به الدجى ... دجى الليل جواب الفلاة عشمشم
لتجبر منه جانباً دغدغدت به ... صروف الليالي والزمان المصمم
فقال ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى، فإن الشعر أهون وسائلك عندنا، أما صفوة ما لنا فلآل الزبير، وأما عفوة فإن بني أسد تشغلنا عنك وتيماء، ولكن لك في مال الله حقان: حق برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق بشركتك أهل الإسلام في فيئهم. ثم أخذ بيده فدخل به دار النعم، فأعطاه قلائص سبعاً وجملاً رجيلاً، وأوقر له الركاب براً وتمراً وثياباً، فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحب صرفاً، فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى، لقد بلغ منه الجهد، فقال النابغة أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما وليت قريش فعدلت فرحمت واسترحمت فرحمت، وحدثت فصدقت، ووعدت خيراً فأنجزت، فأنا والنبيون فراط القاصفين " .
رواه محمد بن العباس الزبيري، عن الزبير بن بكار، وإسناد الحديث ومتنه له، قال الزبيري: والفارط الذي يتقدم فيسقي الماء للإبل التي للقوم.
وأنشد القطامي:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجل فراط لوراد
والقاصفون: المسرعون بعضهم إثر بعض، ومنه الرعد القاصف، الريح يتبع بعضها بعضاً. والرجيل القوي الشديد.
أنبأنا زاهر بن طاهر، قال: أخبرنا أحمد بن الحسين البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحاكم، قال: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: سمعت محمد بن داود الخطيب يقول: سمعت أحمد بن أبي سريج يقول: سمعت النضر بن شميل يقول وسئل من أكبر من لقيت؟ قال: المنتجع الأعرابي. قال: وقلت للمنتجع: من أكبر من لقيت؟ قال: النابغة الجعدي، فقلت للنابغة: كم عشت في الجاهلية؟ قال: عشت دارين، ثم أدركت محمداً صلى الله عليه وسلم فأسلمت.
قال النضر: الداران مائتا سنة. قال النابغة: فكنت أجيب عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله عز وجل.
ثم دخلت
سنة ثمانين
فمن الحوادث فيها:
سيل وقع بمكة ذهب بالحاج
وغرق بيوت مكة
فسمي ذلك العام عام الجحاف لأنه جحف كل شيء مر به، حتى أنه كان يأخذ الإبل عليها الحمولة والرجال والنساء ليس لأحد فيهم حيلة، وبلغ السيل الركن وجاوزه.
وفي هذه السنة
قطع المهلب نهر بلخ
لقتال الكفار وصالحهم على فدية
وفيها كان بالبصرة الطاعون الجارف
في قول الواقدي رحمه الله.
وفيها وجه الحجاج محمد بن الأشعث إلى سجستان
لحرب رتبيل صاحب الترك
وذلك أن الحجاج جهز عشرين ألفاً من أهل الكوفة، وعشرين ألفاً من أهل البصرة، وأعطى الناس أعطياتهم كملاً، وأخذهم بالخيول الروائع، والسلاح الكامل، وأخذ يعرض الناس، ولا يرى رجلاً تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، ثم بعث عليهم عبد الرحمن بن الأشعث، فقدم بالجيش سجستان، وصعد منبرها، فقال: إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم، وأباد أجنادكم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فتحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا مع الناس.


فعسكر الناس ووضعت لهم الأسواق، وتهيأوا للحرب. فبلغ ذلك رتبيل. فكتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه من مصاب المسلمين، ويخبره أنه كان لذلك كارهاً، وأنهم ألجأوه إلى قتالهم، ويسأله الصلح، ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج، فلم يجبه، وسار في الجنود إليه حتى دخل أول بلاده، وأخذ رتبيل يضم جنده إليه، ويدع له الأرض رستاقاً وحصناً حصيناً، وطفق ابن الأشعث كلما حوى بلداً بعث إليه عاملاً وأعواناً، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا ملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة حبس الناس عن الإيغال في أرض رتبيل، وقال: نكتفي بما قد أصبنا العام من بلادهم حتى نجيبها ونعرفها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، وفي ممتنع حصونهم، ثم كتب إلى الحجاج بذلك.
وذكر بعض علماء السير في سبب تولية ابن الأشعث غير هذا، فقال: كان الحجاج قد وجه هميان بن علي السدوسي إلى كرمان، وكان عاملاً على سجستان، فكتب الحجاج عهد ابن الأشعث عليها، وجهز إليها جيشاً أنفق عليه ألفي درهم سوى أعطياتهم، وأمره بالإقدام على رتبيل.
وفي هذه السنة: أغزى عبد الملك ابنه الوليد.
وفيها: حج بالناس أبان بن عثمان، وكان على المدينة، وقيل: بل سليمان بن عبد الملك، وكان على العراق والمشرق كله الحجاج، وعلى خراسان المهلب بن أبي صفرة من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة، واسمه يزيد بن مالك الجعفي أدرك علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعدي بن حاتم، والنعمان بن بشير في آخرين من الصحابة.
وكان عالماً عابداً زاهداً، ورث مائتي ألف درهم فأنفقها على الفقهاء والقراء.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، قال: حدثنا محمد بن إسحق، قال: حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش، قال: ربما دخلنا على خيثمة فيخرج العسكر من تحت السرير عليها الخبيص والفالوذج، فيقول: ما أشتهيه، كلوا أما إني ما جعلته إلا لكم.
وكان موسراً، وكان يصر الدراهم، فإذا رأى الرجل من أصحابه متخرق القميص أو الرداء أو به خلة تحينه، فإذا خرج من الباب خرج هو من باب آخر حتى يلقى فيقول: اشتر قميصاً، اشتر رداء، اشتر حاجة كذا.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: حدثنا حمد بن أحمد الحداد، قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن علي، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني خلاد بن أسلم، قال: حدثنا سعيد بن خيثم، قال: حدثنا محمد بن خالد الضبي، قال: لم نكن ندري كيف يقرأ خيثمة القرآن حتى مرض فثقل، فجاءته امرأته فجلست بين يديه فبكت، فقال لها: ما يبكيك؟ الكوت لا بد منه، فقالت له المرأة: الرجال بعدك علي حرام، فقال لها خيثمة: ما كل هذا أردت منك، إنما كنت أخاف رجلاً واحداً وهو أخي محمد بن عبد الرحمن، وهو رجل فاسق يتناول الشراب فكرهت أن يشرب في بيتي الشراب بعد أن القرآن يتلى فيه كل ثلاث.
قال عبد الله بن أحمد: وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: وحدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن رجل، عن خيثمة أنه أوصى أن يدفن في مقبرة فقراء قومه.
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ويكنى أبا جعفر وأمه أسماء بنت عميس. ولد بأرض الحبشة لما هاجر والداه إليها، وقال: أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي فنعى لها أبي فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهرايقان بالدموع حتى تقطر على لحيته، ثم قال: " اللهم إن جعفر قد قدم إلي أحسن الثواب فأخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته " .
أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا ابن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن منصور بن ربعي بن خراش، عن عبد الله بن شداد، أن علياً قال لعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما:


ألا أعلمك كلمات لم أعلمهن حسناً ولا حسيناً: إذا سألت الله مسألة فأردت أن تنجح فقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا هبة الله بن أحمد الموصلي، قال: أخبرنا عبد الملك بن محمد بن بشران، قال: حدثنا أبو سهل أحمد بن محمد بن زياد، قال: حدثنا إسحاق بن محمد بن أحمد النخعي، قال: حدثنا داود بن الهيثم، عن أبيه، عن إسحاق بن عبد الله بن جعفر، قال: جاءت امرأة إلى عبد الله بن جعفر، فقالت له: يا سيدي، وهبت لي بعض جاراتي بيضة فحضنتها تحت ثديي حتى خرجت فروجة، فغذوتها بأطيب الطعام حتى بلغت وقد ذبحتها وشويتها وكفنتاه برقاقتين وجعلت لله علي أن أدفنها في أكرم بقعة في الأرض ولا أعلم والله بقعة أكرم من بطنك. فكلها. فقال: يا بديح، خذها منها وامض فانظر إلى الدار التي هي فيها، فإن كانت لها فاشتر لها ما حولها من الدور، وإن لم تكن لها فاشترها واشتر لها ما حولها. فذهب ثم رجع فقال: قد اشتريت الدار لها وما حواليها، فقال: احمل لها على ثلاثين بعير حنطة وشعيراً وأرزاً وزبيباً وتمراً ودراهم ودنانير. قالت العجوز: لا تسرف، إن الله لا يحب المسرفين.
قال النخعي: وأخبرني داود بن الهيثم، عن أبيه، عن جده، عن اسحاق: أن أعرابياً أتى عبد الله بن جعفر وهو محموم، فأنشأ يقول:
كم لوعة للندى وكم قلق ... للجود والمكرمات من قلقك
ألبسك الله منه عافية ... في يومك المعتري وفي أرقك
أخرج من جسمك السقام كما ... أخرج دم الفعال من عنقك
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا الحسن بن مطر الحنبلي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله ابن أخي ميمي، قال: حدثنا البغوي، قال: حدثنا محمد بن قدامة، قال: أخبرنا أبو أسامة، قال: حدثنا هشام، عن ابن سيرين، قال: جلب رجل سكراً إلى المدينة، فكسد عليه، فذكر ذلك لعبد الله بن جعفر، فأمر قهرمانه أن يشتريه وينهبه الناس.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أخبرنا أبو محمد جعفر بن أحمد السراج، قال: حدثنا أبو علي محمد بن الحسن الجازري إجازة إن لم يكن سماعاً، قال: حدثنا المعافى بن زكريا، قال: حدثنا أبو النضر العقيلي، عن جماعة من مشايخ أهل المدينة، قالوا: كانت عند عبد الله بن جعفر جارية مغنية يقال لها: عمارة، وكان يجد بها وجداً شديداً، وكان لها منه مكان لم يكن لأحد من جواريه، فلما وفد عبد الله بن جعفر على معاوية وخرج بها معه، فزاره يزيد ذات يوم فأخرجها إليه، فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه، فأخذه عليها ما لا يملكه، وجعل لا يمنعه من أن يبوح بما يجد بها إلا مكان أبيه مع يأسه من الظفر بها، فلم يزل يكاتم أمرها إلى أن مات معاوية، وأفضى الأمر إليه، فاستشار بعض من قدم عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها، وكيف الحيلة فيها، فقيل له: إن أمر عبد الله بن جعفر لا يرام، ومنزله من الخاصة ومن العامة ومنك ما قد علمت، وأنت لا تستحسن إكراهه، وهو لا يبيعها بشيء أبداً، وليس يغني في هذا إلا الحيلة.


فقال: انظروا لي رجلاً عراقياً له أدب وظرف ومعرفة، فطلبوه، فأتوه به. فلما دخل رأى بياناً وحلاوة وفهماً، فقال يزيد: إني دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظك عندي آخر الدهر، ويد أكافئك عليها إن شاء الله. ثم أخبره بأمره، فقال له:إن عبد الله بن جعفر لا يرام ما قبله إلا بالخديعة، ولن يقدر أحد على ما سألت فأرجو أن أكونه، والقوة بالله، فأعني بالمال. قال: خذ ما أحببت، فأخذ من طرف الشام وثياب مضر، واشترى متاعاً للتجارة من رقيق ودواب وغير ذلك، ثم شخص إلى المدينة، فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر، واكترى منزلاً إلى جانبه، ثم توسل إليه، وقال: رجل من أهل العراق قدمت بتجارة فأحببت أن أكون في عز جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به، فبعث عبد الله بن جعفر إلى قهرمانه: أن أكرم الرجل ووسع عليه في منزله فأنزله. فلما اطمأن العراقي سلم عليه وعرفه نفسه، وهيأ له بغلة فارهة وثياباً من ثياب العراق وألطافاً، فبعث به إليه، وكتب معها: يا سيدي، إني رجل تاجر، نعم الله علي سابغة، وقد بعثت إليك بشيء من طرف وكذا من الثياب والعطر، وبعثت ببغلة خفيفة العنان وطية الظهر، وأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قبلت هديتي، ولا توحشني بردها، إني أدين لله تعالى بحبك وحب أهل بيتك، وإن أعظم أملي في سفرتي أن أستفيد الأنس بك، والتحرم بمواصلتك. فأمر عبد الله بقبض هديته وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مر بالعراقي في منزله، فقام إليه وقبل يده، فرأى أدباً وظرفاً وفصاحة، فأعجب به وسر بنزوله عليه، فجعل العراقي في كل يوم يبعث إلى عبد الله بطرف، فقال عبد الله: جزى الله ضيفنا هذا خيراً، قد ملأنا شكراً وما نقدر على مكافأته. فإنه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله، ودعا بعمارة في جواريه، فلما طاب لهما المجلس وسمع غناء عمارة تعجب وجعل يزيد في عجبه، فلما رأى كذلك عبد الله سر به إلى أن قال: هل رأيت مثل عمارة؟ قال: لا والله يا سيدي ما رأيت مثلها، وما تصلح إلا لك، وما ظننت أن تكون في الدنيا مثل هذه الجارية، حسن وجه، وحسن عمل، قال: فكم تساوي عندك؟ قال: ما لها ثمن إلا الخلافة، فقال: تقول هذا لتزين لي رأيي فيها وتجلب سروري، قال له: يا سيدي، والله إني لأحب سرورك وما قلت لك إلا الجد، وبعد فإني تاجر أجمع الدرهم على الدرهم طلباً للربح، ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها، فقال عبد الله: عشرة آلاف؟ قال: نعم. ولم يكن في ذلك الزمان جارية تعرف بهذا الثمن. فقال له عبد الله: أنا أبيعكها بعشرة آلاف، قال: قد أخذتها، قال: هي لك، قال: قد وجب البيع.
وانصرف العراقي، فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلا بالمال قد وافى به، فقتل لعبد الله: قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار وقال: هذا ثمن عمارة، فردها وكتب إليه إنما كنت أمزح معك، وإنما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها. فقال: جعلت فداك، إن الجد والهزل في البيع سواء، فقال له عبد الله: ويحك ما أعلم جارية تساوي ما بذلت، ولو كنت بايعها من أحد لآثرتك ولكني كنت مازحاً وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها بي وموضعها من قلبي، فقال العراقي: إن كنت مازحاً فإني كنت جاداً، وما أطلعت على ما في نفسك، وقد ملكت الجارية وبعثت إليك بثمنها، وليست تحل لك، وما لي من أخذها بد، فمانعه أياماً، فقال: ليست لي بينة ولكني أستحلفك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنبره.
فلما رأى عبد الله الجد، قال: بئس الضيف أنت، ما طرقنا طارق وما نزل بنا نازل أعظم بلية منك، أتحلفني فيقول الناس: اضطهد عبد الله ضيفه وقهره فألجأه إلى أن استحلفه، أما والله ليعلمن الله عز وجل أني سأبليه في هذا الأمر الصبر وحسن العزاء، ثم أمر قهرمانه بقبض المال منه وتجهيز الجارية. فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار، وقال: هذا لك ولك عوضاً مما ألطفتنا، والله المستعان.
فقبض العراقي الجارية وخرج بها، فلما برز من المدينة قال لها: يا عمارة، إني والله ما ملكتك قط ولا أنت لي، ولا مثلي يشتري جارية بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأقدم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلبه أحب الناس إليه لنفسي، ولكني دسيس من يزيد بن معاوية، وأنت له، وفي طلبك بعث بي، فاستتري مني، فإن داخلني الشيطان في أمرك أو تاقت نفسي إليك فامتنعي.


ثم مضى بها حتى ورد دمشق، فتلقاه الناس بجنازة يزيد وقد استخلف ابنه معاوية بن يزيد، فأقام أياماً ثم تلطف للدخول إليه فشرح له القصة.
ويروى أنه لم يكن أحد من بني أمية يعدل بمعاوية بن يزيد في زمانه نبلاً ونسكاً، فلما أخبره قال: هي لك وكل ما دفعه لك من أمرها فهو لك، فارحل من يومك فلا أسمع بخبرك في شيء من بلاد الشام.
فرحل العراقي ثم قال للجارية: إني قد قلت لك ما قلت حين خرجت بك من المدينة، فأخبرتك أنك ليزيد وقد صرت لي، وأنا أشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر، وإني قد رددتك عليه فاستتري مني. ثم خرج بها حتى قدم المدينة، فنزل قريباً من عبد الله، فدخل عليه بعض خدمه فقال له: هذا العراقي ضيفك الذي صنع ما صنع، وقد نزل العرصة لا حياه الله. فقال عبد الله: مه، انزلوا الرجل وأكرموه، فلما استقر بعث إلى عبد الله: جعلت فداك إن رأيت أن تأذن لي أذنة خفيفة أشافهك بشيء فعلت، فأذن له، فلما دخل عليه قبل يده وقربه عبد الله، ثم قص عليه القصة حتى إذا فرغ قال: والله وهبتها لك قبل أن أراها أو أضع يدي عليها فهي لك ومردودة عليك، وقد علم الله تعالى أني ما رأيت لها وجهاً إلا عندك، وبعث إليها فجاءت، وجاء بما جهزها به موفراً.
فلما نظرت إلى عبد الله خرت مغشية عليها، وأهوى إليها عبد الله فضمها إليه، وخرج العراقي، وتصايح أهل الدار: عمارة عمارة. فجعل عبد الله يقول ودموعه تجري: أحلم هذا، أحق هذا، أصدق هذا، قال العراقي: ردها عليك إيثارك الوفاء، وصبرك على الحق وانقيادك له. فقال عبد الله: الحمد لله، اللهم إنك تعلم أني قد تصبرت عنها وأثرت الوفاء، وأسلمت لأمرك فرددتها على يمنك، فلك الحمد. ثم قال: يا أخا العراق، ما على الأرض أعظم منة منك، وسيجازيك الله تعالى. وأقام العراقي أياماً وباع عبد الله غنماً بثلاثة عشر ألف دينار، وقال لقهرمانه: احملها إليه، وقل له: أعذر عبد الله، واعلم أني لو وصلتك بكل ما أملك لرأيتك أهلاً لأكثر منه، فرحل العراقي محموداً.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد يحيى بن الحسن بن المقتدر القاضي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثنا محمد بن أحمد المقري، قال: حدثنا عبد الله بن عمر، قال: حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبيه، عن مشيخة له، قالوا: لما أمسك عبد الملك بن مروان يده عن عبد الله بن جعفر واحتاج وضاق إضاقة شديدة، فكان يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة، ويقيم في المسجد إلى أن لا يبقى فيه أحد، فدنى منه ذات ليلة رجل، فشكى إليه الحاجة، فقال له: أنا في إضاقة غير أن لك علي وعداً إذا جاءني شيء من غلتي أن أعطيك، قال: أنا مرهق لا أجد سبيلاً إلى الصبر، قال: أيقنعك أخذ ثوبي هذين - وكان عليه بردان يمينيان - قال: نعم، قال: فما لبث حتى انصرف، فلما انصرف دفع إليه البرد ثم استقبل القبلة، فقال: اللهم إنه لم يكن إلا ما أرى فاقبضني إليك. فحم ولم يخرج من منزله بعد هذا حتى خرجت جنازته.
وتوفي عبد الله بالمدينة في هذه السنة، وكان الوالي على المدينة أبان بن عثمان في خلافة عبد الملك، وهو صلى عليه وكان عمره تسعين سنة.
عبد الله بن أبي الهذيل، أبو المغيرة سمع من عمار، وخباب، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة وجرير، وابن عباس، وابن أبزى. وأرسل الحديث عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود.
وكان شديد الخوف من الله تعالى، كأنه مذعور.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا أبو بكر بن حيان، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسين، قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا عبد الله بن خراش، عن العوام بن حوشب، عن عبد الله بن الهذيل أنه قال: لقد شغلت النار من يعقل عن ذكر الجنة.
عبيد الله بن أبي بكرة ولي سجستان أيام زياد بن أبي سفيان، وغزا رتبيل في أيام الحجاج. وتوفي في هذه السنة.
وكان جواداً، وذكر ابن قتيبة في المعارف: أن أول من قرأ بالألحان عبيد الله بن أبي بكرة.


أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا المدائني، قال: كان عبيد الله بن أبي بكرة يوماً جالساً مع أصحابه، فأتي بوصيف ووصيفة أهديا إليه، فقال لبعض جلسائه: خذهما إليك. ثم فكر فقال: إيثار بعض الجلساء على بعض قبيح، فقال: يا غلمان، يضم إلى كل واحد من جلسائنا وصيف ووصيفة، فضم إليهم ثمانين بين وصيف ووصيفة.
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، أن شيخاً من أهل الكوفة قال: أملقت حتى نقضت منزلي، فلما اشتد علي الأمر جاءتني الخادمة فقالت: والله ما لنا دقيق ولا معنا ثمنه. فقلت: أسرجي حماري، فأسرجته، فخرجت هارباً حتى انتهيت إلى البصرة، فلما شارفتها فإذا أنا بالموكب مقبل، فدخلت في جملتهم، فرجعت الخيل تريد البصرة، فصرت معهم حتى دخلتها، وانتهى صاحب الموكب إلى منزله، فنزل، ونزل الموكب، ونزلت معهم، ودخلنا فإذا الدهليز مفروش والناس جلوس مع الرجل، فدعا بغداء، فجاءوه بأحسن غداء، فتغديت مع الناس، ثم دعا بالغالية فضمخنا، ثم قال: يا غلمان، هاتوا سفطاً، فجاء غلمانه بسفط أبيض مشدود، ففتح فإذا فيه أكياس مشدودة، في كل كيس ألف درهم، فبدأ يعطي فأمرها عليهم، ثم انتهى إلي فأعطاني كيساً، ثم ثنى فأعطاني آخر، ثم ثلث فأعطاني آخر، فأخذت الجماعة وبقي في السفط كيس واحد، فأخذه بيده وقال: هاك يا هذا الذي لا أعرفه، فأخذت أربعة أكياس، وخرجت، فقلت لإنسان: من هذا؟ فقال: عبيد الله بن أبي بكرة.
وبلغنا أن رجلاً انقطع إلى عبيد الله بن أبي بكرة، فألحقه بحشمه، وكفاه مؤونته، فبطر النعمة، فسعى به إلى عبيد الله بن زياد، فبلغ ذلك ابن أبي بكرة، فأطرق مفكراً، فقيل له: فيم فكرت؟ فقال: أخاف أن أكون قصرت في الإحسان إليه فحملته على مساوئ أخلاقه.
معاوية بن قرة بن إياس، يكنى أبا إياس روى عن أنس، وابن عباس وغيرهما.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عيسى، قال: حدثنا عيسى بن خالد، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن تمام بن نجيح، عن معاوية بن قرة، قال: أدركت سبعين رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئاً مما أنتم عليه إلا الآذان.
قال أبو نعيم: وحدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، قال: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي، عن عبيد الله بن ميمون، قال: سمعت معاوية بن قرة يقول: إن الله يرزق العبد رزق شهر في يوم واحد، فإن أصلحه أصلح الله على يديه، وعاش هو وعياله بقية شهرهم في خير، وإن هو أفسده أفسد الله تعالى عليه وعاش هو وعياله بقية شهرهم بشر.
همام بن الحارث النخعي روى عن عمر، وابن مسعود، وأبي مسعود، وحذيفة، وأبي الدرداء، وعدي بن حاتم، وجرير، وعائشة. وكان الناس يتعلمون من هديه وسمته. وكان طويل السهر. أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي التميمي، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا حرب بن شداد، قال: حدثنا حصين، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث.
أنه كان يدعو: اللهم اشفني من النوم بالسهر، وارزقني سهراً في طاعتك، وكان لا ينام من الليل إلا هنيهة وهو قاعد.
ثم دخلت
سنة إحدى وثمانين
فمن الحوادث فيها: فتح قاليقلا وقال المدائني: أغزى عبد الملك ابنه عبيد الله سنة إحدى وثمانين، ففتح قاليقلا.
وفي هذه السنة: قتل بحير بن ورقاء الصريمي وكان السبب أن بحيراً هو الذي تولى قتل بكير بن وشاح بأمر أمية بن عبد الله، فتعاقد سبعة عشر من بني عوف بن كعب على الطلب بدم بكير، فذهب بعضهم فقتله.
وفيها: خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الحجاج ومن معه من جند العراق: وأقبلوا إليه لحربه، هذا قول أبي المخارق الراسبي.


وقال الواقدي: إنما كان ذلك في سنة اثنتين وثمانين.
وسبب خروجه مع ما كان في نفس كل واحد منهما على الآخر، وكان الحجاج يقول: ما رأيته إلا أردت ضرب عنقه، وكان عبد الرحمن يقول: إن طال بي وبه بقاء حاولت إزالته عن سلطانه، فلما بعثه الحجاج إلى حرب رتبيل فأصاب قطعة من مملكته، وكتب إلى الحجاج: إنا قد قنعنا بما أصبنا ثم في كل سنة نصيب شيئاً من ملكه.
فكتب إليه الحجاج: إنك كتبت إلي كتاب أمرئ يحب الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، لعمرك يا ابن أم عبد الرحمن، إنك حين تكف عن ذلك العدو تظنني سخي النفس عمن أصيب من المسلمين، وقد رأيت أنه لم يحملك على ما رأيت إلا ضعفك، فامض لما أمرت به من الإيغال في أرضهم، وقتل مقاتليهم، ثم أردفه كتاباً آخر: أما بعد، فمر من قبلك من المسلمين أن يحرثوا ويقيموا، فإنها دراهم حتى يفتحها الله عز وجل عليهم. ثم أردفه كتاباً آخر: أما بعد، فامض لما أمرت به وإلا فخل ما وليت لأخيك إسحاق.
فدعا الناس وقال: إن الذي رأيت وافقني فيه أهل التجارب ورضوه رأياً، وكتبت بذلك إلى الحجاج فجاءني منه كتاب يعجزني ويأمرني بتعجيل الإيغال في البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم، فثار إليه الناس، وقالوا: لا بل نأبى على عدو الله ولا نطيعه.
فقام عامر بن واثلة الكناني، فقال: إن الحجاج لا يبالي بكم فإن ظفرتم أكل البلاد، وإن ظفر عدوكم كنتم الأعداء البغضاء فاخلعوه وبايعوا للأمير عبد الرحمن، وإني أشهدكم أني أول خالع. وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي، فقال: إن أطعمتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم، فبايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدو الله الحجاج فانفوه عن بلادكم. فوثب إلى عبد الرحمن فبايعوه، فقال: تبايعونني على خلع الحجاج والنصرة لي وجهاده معي حتى ينفيه الله من أرض العراق، فبايعه الناس، ولم يذكر خلع عبد الملك، وأمر عبد الرحمن الأمراء، وبعث إلى رتبيل فصالحه على أنه إن ظهر فلا خراج عليه أبداً، وإن هزم وأراده ألجأه عنده.
وبعث الحجاج إليه الخيل، وجعل ابن الأشعث على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، فجعل لا يلقى للحجاج خيلاً إلا هزمها، ثم أقبل عبد الرحمن حتى مر بكرمان، فبعث عليها خرشة بن عمرو التميمي، فلما دخل الناس فارس اجتمع بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن وبايعوه، فكان يقول لهم: تبايعونني على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وخلع أئمة الضلالة، وجهاد المحلين، فإذا قالوا: نعم بايع.
فلما بلغ الحجاج أنه قد خلعه كتب إلى عبد الملك يخبره ويسأله تعجيل بعثه الجنود له، وجاء حتى نزل البصرة، وكان قد بلغ المهلب شقاق عبد الرحمن، فكتب إليه: أما بعد، فإنك قد وضعت رجلك يا بن أم محمد في غرز طويل، فالله الله، انظر لنفسك لا تهلكها، ودماء المسلمين لا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها.
ولما وصل كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله، فنزل عن سريره، وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية فأقرأه الكتاب ثم خرج إلى الناس، فقال: إن أهل العراق طال عليهم عمري، اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشام.
وأقام الحجاج بالبصرة، وتجهز للقاء ابن محمد، وفرسان أهل الشام يسقطون إلى الحجاج من قبل عبد الملك، وكتب الحجاج ورسله تسقط إلى عبد الملك، وسار الحجاج بأهل الشام حتى نزلت تستر، فالتقت المقدمات فهزم أصحاب الحجاج، فقال: أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة إلى معسكر وطعام ومادة، فإن هذا المكان لا يحمل الجند. فمضى ودخل البصرة، ودخل عبد الرحمن بن محمد في أخر ذي الحجة، وقال: أما الحجاج فليس بشيء، ولكنا نريد غزو عبد الملك، فبايعه الناس على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك جميع أهل البصرة من قرائها وكهولها، وبايعه عقبة بن عبد الغافر فخندق الحجاج عليه، وخندق عبد الرحمن على البصرة.
وفي هذه السنة: حج بالناس سليمان بن عبد الملك، وكان العامل على المدينة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق الحجاج، وعلى حرب خراسان المهلب، وعلى خراجها المغيرة بن المهلب من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة، وعلى قضاء البصرة ابن أذينة.
وفي هذه السنة: ولد ابن أبي ذئب.


ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر، أبو أمية رحل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده قد قبض، فصحب أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وشهد معه صفين. وسمع من ابن مسعود، ولم يسمع من عثمان شيئاً.
أخبرنا عبد الخالق بن أحمد، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله ابن أخي ميمي، قال: أخبرنا الحسين بن صفوان، قال: حدثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: حدثنا عبد الله بن حماد الجهني، عن محمد بن أبان الجهني، عن عمران بن مسلم، قال: كان سويد بن غفلة إذا قيل له أعط فلاناً، وول فلاناً، قال: حسبي كسرتي وملحي.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: حدثنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن أبي سهل، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا عبد السلام، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن المنهال بن خثيمة، عن سويد بن غفلة، قال: إذا أراد الله أن ينسى أهل النار جعل لكل واحد منهم تابوتاً من نار على قدره ثم أقفل عليه بأقفال من نار، فلا يضرب فيهم عرق إلا وفيه مسمار من نار، ثم يجعل ذلك التابوت في تابوت آخر من نار، ثم يقفل عليه بأقفال من نار ثم يضرم بينهما نار، ثم يجعل ذلك في تابوت آخر من نار، ثم يقفل بأقفال من نار ثم يضرم بينهما، فلا يرى أحداً منهم في النار غيره.
كان سويد من المعمرين الأقوياء، تزوج وهو ابن ست عشرة سنة ومائة سنة. وكان يمشي إلى الجمعة، ويؤم قومه في رمضان.
وتوفي في هذه السنة، وقيل: في السنة التي بعدها، وهو ابن ثمان وعشرين ومائة سنة.
محمد بن علي بن أبي طالب، وهو ابن الحنفية واسمها خولة بن جعفر بن قيس. وقيل: كانت أمه من سبي اليمامة، فصارت إلى علي.
وقالت أسماء بنت أبي بكر: رأيتها سندية سوداء، وكانت أمة لبني حنيفة. ويكنى محمد أبا القاسم.
أنبأنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا الفضل بن دكين، وإسحاق بن يوسف الأزرق، قالا: حدثنا قطر بن خليفة، عن منذر الثوري، قال: سمعت محمد ابن الحنفية يقول: كانت هذه رخصة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن ولد لي ولد بعدك أسميه باسمك، وأكنيه بكنيتك؟ قال: نعم.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: وقد كان جماعة يسمون محمداً ويكنون بأبي القاسم، منهم: محمد بن أبي بكر، محمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، ومحمد عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن حاطب بن أبي بلتعة، ومحمد بن الأشعث بن قيس.
وأخبرنا محمد بن ناصر، وعلي بن عمر بإسنادهما عن أبي بكر بن أبي الدنيا، قال: حدثنا الحسين بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبو عثمان المؤدب، قال: قال محمد بن الحنفية: من كرمت عليه نفسه لم يكن للدنيا عنده قدر.
قال أبو بكر بن عبيد: وحدثنا محمد بن عبد المجيد، أنه سمع ابن عيينة يقول: قال محمد بن الحنفية: إن الله عز وجل جعل الجنة ثمناً لأنفسكم، فلا تبيعوها بغيرها.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن سلمان، قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سنان، قال: حدثنا محمد بن إسحاق السراج، قال: حدثنا عمر بن محمد بن الحسن، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن علي بن الحسين، قال:


كتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان يتهدده ويتواعده ويحلف أنه ليحملن إليه مائة ألف في البر ومائة ألف في البحر أو يؤدي إليه الجزية فسقط في درعه، فكتب إلى الحجاج: أن اكتب لمحمد بن الحنفية فتهدده وتواعده ثم أعلمني ما يرد إليك من جوابه. فكتب الحجاج إلى ابن الحنفية بكتاب شديد ويتواعده بالقتل. قال: فكتب إليه ابن الحنفية: إن لله عز وجل ثلاثمائة وستين لحظة في كل يوم إلى خلقه، وأنا أرجو أن ينظر الله، عز وجل، إلي نظرة يمنعني بها منك. قال: فبعث الحجاج بكتابه إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى ملك الروم نسخته، فقال ملك الروم: ما خرج هذا منك ولا أنت كتبت به، وما خرج إلا من بيت نبوة.
ثم دخلت
سنة اثنتين وثمانين
فمن الحوادث فيها:
ما جرى بين الحجاج وابن الأشعث من الحرب
فمن ذلك أن ابن الأشعث كان قد دخل البصرة في آخر ذي الحجة، واقتتلوا في محرم هذه السنة، وتزاحفوا ذات يوم فاشتد قتالهم فهزمهم أهل العراق حتى بلغت هزيمتهم إلى الحجاج، فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه وقال: لله در مصعب ما كان أكرمه، فعلم أنه لا يريد أن يفر، ثم هزم أهل العراق فخر ساجداً، وأقبل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث نحو الكوفة وتبعه من كان معه من أهل الكوفة، وتبعه أهل القوة من أهل البصرة، فوثب أهل البصرة حينئذ إلى عبد الرحمن بن عياش بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم الحجاج أشد قتال خمس ليال، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث.
وفي هذه السنة: كانت وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث وذلك في شعبان وبعضهم يقول: إنما كانت في سنة ثلاث وثمانين. وتلخيص القصة: أن ابن الأشعث لما جاء إلى الكوفة خرجوا لتلقيه، فلما دخل مال إليه أهل الكوفة كلهم، وسبقت همدان إليه، فحفوا به عند دار عمرو بن حريث، وبايعه الناس وتقوضت إليه المسالح والثغور، فأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، وبعث إليه ابن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل البصريين، فمنعوه نزول القادسية، ثم سايره حتى نزل دير قرة.ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم، وجاء ابن الأشعث فنزل دير الجماجم، وكان الحجاج يقول: ما كان عبد الرحمن يزجر الطير حين رآني نزلت دير قرة، ونزل دير الجماجم، فاجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة، وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من المصرين، كلهم اجتمعوا على حرب الحجاج، وكانوا مبغضين له وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم. وجاءت للحجاج أمداد من قبل عبد الملك، واشتد القتال، فقيل لعبد الملك: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن ينزع عنهم الحجاج فانزعه تحقن به الدماء، فإن نزعه أيسر من حربهم.
فأمر ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطياتهم كما تجري على أهل الشام، فإن هم قبلوا ذلك نزع عنهم الحجاج. وكان محمد بن مروان أمير العراق فإن هم لم يقبلوا ذلك فالحجاج أمير جماعة أهل الشام، وولي القتال، ومحمد وعبد الله في طاعته، فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أغيظ له من ذلك مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم.
فكتب إلى عبد الملك: يا أمير المؤمنين، والله لإن أعطيت أهل العراق نزعي فإنهم لا يلبثون إلا قليلاً حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على عثمان بن عفان، فلما سألهم: ما تريدون، قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تقم لهم قائمة حتى ساروا إليه فقتلوه، إن الحديد بالحديد يقرع، خار الله لك فيما ارتأيت.
فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق إرادة العافية من الحرب، فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبد الله، فقال: يا أهل العراق، أنا عبد الله بن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا، فذكر الخصال التي تقدم ذكرها، وقال محمد: أنا رسول أمير المؤمنين إليكم، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، قالوا: نرجع العشية، فرجعوا واجتمعوا عند ابن الأشعث فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه، فحمد الله تعالى ثم قال: أما بعد، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، والقوم لكم هائبون.


فوثب الناس من كل جانب فقالوا: إن الله عز وجل قد أهلكهم، فأصبحوا في الضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والمادة القريبة، لا والله لا نقبل.
وأعادوا خلعه ثانية، فرجع محمد بن مروان وعبد الله إلى الحجاج، فقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع ونطيع. وخلياه والحرب.
فبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكناني، وعلى ميسرته عمارة بن تميم، وعلى خيله سفيان بن الأبرد، وعلى رجالته عبد الله بن حبيب. وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن عباس الهاشمي، وعلى رجالته محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وكان فيهم عامر الشعبي، وسعيد بن جبير، وأبو البخترة الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
ثم إنهم أخذوا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون، وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة وسوادها. فهم فيما هم فيه فيما شاءوا من خصبهم، وإخوانهم من أهل البصرة وأهل الشام في ضيق شديد، قد قل عندهم الطعام وفقدوا اللحم وكأنهم في حصار وهم على ذلك يقتتلون أشد قتال، فخرجوا ذات يوم وقد عبى الحجاج جيشه، ثم زحف في صفوفه، وخرج ابن الأشعث في سبعة صفوف بعضها في أثر بعض.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحميدي، قال: أخبرنا محمد بن سلامة القضاعي، قال: أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب، قال: أخبرنا ابن دريد، قال: حدثنا أبو عثمان، قال: حدثني عبد الله، قال: حدثنا أبو التياح، قال: شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن أيام ابن الأشعث، فأما ابن الأشعث فكان يأمر بالكف وينهي عن القتال، وأما سعيد فكان يحرض ويأمر بالقتال، ويقول: والله ما خلعنا أمير المؤمنين ولا نريد خلعه، ولكننا نقمنا عليه الحجاج، وكان الحسن يقول: أيها الناس، تعلموا والله ما سلط الحجاج عليكم إلا عقوبة من الله، فلا تعارضوا عقوبة الله بالحمية والسيوف، ولكن عارضوها بالتضرع والاستغفار.
وفي هذه السنة: توفي المغيرة بن المهلب بخراسان، وكان المهلب يومئذ وراء النهر لحرب من هناك، فولى أخاه يزيد بن المهلب مكان ولده.
وفيها: صالح المهلب من وراء النهر على شيء يؤدونه وفصل عنهم.
وفيها: توفي المهلب فولى الحجاج يزيد بن المهلب خراسان.
وفيها: عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة، وولاها هشام بن إسماعيل المخزومي، فلما وليها عزل نوفل بن مساحق العامري.
وقال الواقدي: كان هذا في سنة ثلاث وثمانين، فكانت ولاية أبان المدينة سبع سنين وثلاث عشرة ليلة.
وفيها: حج بالناس أبان بن عثمان، وكان على العراق والمشرق الحجاج، وعلى خراسان يزيد بن المهلب من قبل الحجاج.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أوس بن خالد، أبو الجوزاء الربعي صحب ابن عباس اثنتي عشرة سنة، وسأله عن جميع آيات القرآن. وروى عن عائشة، وخرج مع ابن الأشعث فقتل أيام الجماجم.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن علي التميمي، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، قال: حدثنا نوح بن قيس، قال: حدثنا سليمان الربعي، قال: كان أبو الجوزاء يواصل في الصوم بين سبعة أيام، ثم يقبض على ذراع الشاب فيكاد يحطمها.
أسماء بن خارجة، أبو مالك الفزاري الكوفي روى عنه ابنه مالك.
روى الأصمعي، عن ابن عمرو بن العلاء، قال: دخل أسماء بن خارجة على عبد الملك بن مروان، فقال له: بلغني عنك خصال شريفة فأخبرني بهن، فقال: يا أمير المؤمنين، إن استماعهن من غيري أحسن من استماعهن مني. فقال: أقسم عليك إلا أخبرتني بهن، قال: يا أمير المؤمنين، ما سألني أحد قط حاجة إلا قضيتها كائنة ما كانت، ولا أكل رجل من طعامي ولا شرب من شرابي إلا رأيت له الفضل علي، ولا أقبل علي بحديثه إلا أقبلت عليه بسمعي وبصري حتى يكون هو المولي عني، ولا مددت رجلي أمام جليسي فيرى أن ذلك استطالة مني عليه. قال: حسبك يا أسماء يحق لك أن تسود وتشرف وهذه خصالك.


وبلغنا أن أسماء بن خارجة رجع يوماً إلى باب داره فرأى فتى على الباب، فقال: يا فتى، ما يجلسك هاهنا؟ فقال: خير. فألح عليه، فقال: جئت سائلاً إلى هذه الدار فخرجت إلي منها جارية ترفد فاختطفت قلبي، فجلست لكي تخرج ثانية فأنظر إليها. قال: أو تعرفها؟ قال: نعم. فدعا بالجواري، فجعل يعرضهن عليه حتى مرت به، قال: هي هذه. قال: مكانك. فخرج إليه بعد قليل فجعل يعتذر إليه ويقول: إنها لم تكن لي، كانت لبعض بناتي وقد اشتريتها لك بثلاثة آلاف درهم، خذها بارك الله لك فيها.
خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان كان من رجالات قريش والمعدودين من كبرائهم سخاء وفصاحة وعقلاً. وكان قد شغل نفسه بعمل الكيمياء، فضاع زمانه. وكان مروان بن الحكم قد تزوج أمه أم خالد لأجل أن الناس كانوا ينظرون إلى خالد لمكان أبيه، وكان مروان يطمعه في بعض الأمر ثم بدا له فعقد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز، وأخذ يضع من خالد حتى شتمه يوماً وذكر أمه بالقبح - على ما ذكرنا في أخبار مروان بن الحكم - فكان ذلك سبب قتل مروان.
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: أخبرنا علي بن محمد العلاف، قال: حدثنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: حدثنا محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا المبرد، قال: حدثنا هشام، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: حج عبد الملك بن مروان وحج معه خالد بن يزيد بن معاوية، وكان من رجالات قريش المعدودين وعلمائهم. وكان عظيم القدر عند عبد الملك. فبينا هو يطوف بالبيت إذ بصر برملة بنت الزبير بن العوام فعشقها عشقاً شديداً، ووقعت بقلبه وقوعاً متمكناً. فلما أراد عبد الملك القفول هم خالد بالتخلف عنه، فوقع بقلب عبد الملك تهمه، فبعث إليه يسأله عن أمره، فقال: يا أمير المؤمنين، رملة بنت الزبير رأيتها تطوف بالبيت قد أذهبت عقلي، والله ما أبديت لك ما بي حتى عيل صبري، فلقد عرضت النوم على عيني فلم تقبله، والسلو على قلبي فامتنع منه، فأطال عبد الملك التعجب من ذلك وقال: ما كنت أقول إن الهوى يستأسر مثلك، فقال: وإني لأشد تعجباً من تعجبك مني، ولقد كنت أقول إن الهوى لا يتمكن إلا من صنفين من الناس: الشعراء، والأعراب. فأما الشعراء فإنهم ألزموا قلوبهم الفكر في النساء والغزل، فمال طمعهم إلى النساء، فضعفت قلوبهم عن دفع الهوى فاستسلموا له منقادين. وأما الأعراب، فإن أحدهم يخلو بامرأته فلا يكون الغالب عليه غير حبه لها، ولا يشغله شيء عنه، فضعفوا عن دفع الهوى، فتمكن منهم. وجملة أمري ما رأيت نظرة حالت بيني وبين الحرم، وحسنت عندي ركوب الإثم مثل نظرتي هذه. فتبسم عبد الملك وقال: أو كل هذا قد بلغ بك، فقال: والله ما عرفتني هذه البلية قبل وقتي هذا، فوجه عبد الملك إلى آل الزبير يخطب رملة على خالد، فذكروا لها ذلك فقالت: لا والله، أو يطلق نساءه، فطلق امرأتين كانتا عنده، إحداهما من قريش والأخرى من الأزد، وظعن بها إلى الشام. وفيها يقول:
أليس يزيد الشوق في كل ليلة ... وفي كل يوم من حبيبتنا قربا
خليلي ما من ساعة تذكرانها ... من الدهر إلا فرجت عني الكربا
أحب بني العوام طراً لحبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالاً يجول ولا قلبا
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: وقد ازداد بعض أعدائه في هذه الأبيات:
فإن تسلمي نسلم وإن تتنصري ... يخط رجال بين أعينهم صلبا
فلما سمع البيت قال من قاله: لعنه الله عليه وعلى من يجيبه.
أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو جعفر ابن المسلمة، قال: أخبرنا المخلص، قال: أحمد بن سليمان بن داود، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال:


دخلت رملة بنت الزبير على عبد الملك بن مروان، وكانت عند خالد بن يزيد بن معاوية، فقال لها: يا رملة، غرني عروة منك، فقالت: لم يغررك ولكن نصحك، إنك قتلت مصعباً أخي، فلم يأمني عليك. وكان عبد الملك أراد أن يتزوجها، فقال له عروة: لا أرى ذلك لك. وكان الحجاج قد بعث إلى خالد: ما كنت أراك تخطب إلى آل الزبير حتى تشاورني، فكيف خطبت إلى قوم ليسوا بأكفائك، وهم الذين نازعوا أباك على الخلافة ورموه بكل قبيحة. فقال لرسوله: ارجع فقل له: ما كنت أرى أن الأمور بلغت بك إلى أن أؤامرك في خطبة النساء، وأما قولك: نازعوا أباك وشهدوا عليه بالقبيح، فإنها قريش تتقارع، فإذا أقر الله الحق مقره تعاطفوا وتراحموا. وأما قولك: ليسوا لك بأكفاء. فقبحك الله يا حجاج ما أقل علمك بأنساب قريش، أيكون العوام كفوءاً لعبد المطلب بن هاشم حتى يتزوج صفية ويتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة، ولا تراهم أكفاء لأبي سفيان.
ولما قدم الحجاج على عبد الملك مر بخالد فقال له رجل: من هذا؟ فقال خالد كالمستهزئ به: هذا عمرو بن العاص فرجع الحجاج إليه فقال: ما أنا بعمرو بن العاص ولكني ابن الغطاريف من ثقيف، والعقائل من قريش، ولقد ضربت بسيفي هذا أكثر من مائة ألف كلهم يشهد أن أباك وأنت وجدك من أهل النار، ثم لم آخذ لذلك عندك شكراً.
سفيان بن وهب الخولاني، أبو أيمن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد مع عمرو فتح مصر، وولي الإمرة لعبد العزيز بن مروان على بعث الطليعة إلى إفريقية سنة ثمان وسبعين.
روى عنه أبو غسانة، وأبو البخترى، والبرني، وبكر بن سوادة.
وتوفي في هذه السنة.
طلق بن حبيب العنزي روى عن ابن عباس، وجابر، وكان متعبداً.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا ابن أخي ميمي، قال: حدثنا ابن صفوان، قال: حدثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثني عبد الصمد النعماني، قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن الحجاج بن يزيد، قال: كان طلق بن حبيب يقول: إني لأحب أن أقوم لله حتى أشتكي ظهري، فيقوم فيبتدئ بالقرآن حتى يبلغ الحجر ثم يركع.
عمر بن عبيد الله بن معمر أبو حفص التميمي، أمير البصرة كان جواداً صديقاً لزياد الأعجم قبل أن يلي، فقال له عمر: يا أبا أمية، لو قد وليت لتركتك لا تحتاج إلى أحد أبداً. فلما ولي عمر فارس قصده زياد، فلما لقيه أنشأ يقول:
ألا ابلغ أبا حفص رسالة ناصح ... أتت من زياد مستبيناً كلامها
فإنك مثل الشمس لا ستر دونها ... فكيف أبا حفص علي ظلامها
فقال له عمر: لا يكون عليك ظلامها أبداً، فقال:
لقد كنت أدعو الله في السر أن أرى ... أمور معد في يديك نظامها
فقال: قد رأيت ذلك، فقال:
فلما أتاني ما أردت تباشرت ... بناتي وقلن العام لا شك عامها
قال:: فهو عامها إن شاء الله تعالى قال:
فأنى وأرض أنت فيها ابن معمر ... كمكة لم يطرق لأرض حمامها
قال: فهي كذلك يا زياد، فقال:
إذا اخترت أرضاً للمقام رضيتها ... لنفسي ولم يثقل علي مقامها
وكنت أمني النفس منك ابن معمر ... أماني أرجو أن تتم تمامها
قال: قد أتمها الله لك، قال:
فلا أك كالمجرى إلى رأس غاية ... ترجى سماء لم تصبه غمامها
فقال: لست كذلك، فسل حاجتك، فقال نجيبة وخادمها، وفرس رائع وسائسه، وبدرة وحاملها، وجارية وخادمها، وتخت ثياب ووصيفة تحمله، فقال: قد أمرنا بجميع ما سألت، وهو لك علينا في كل سنة. فخرج من عند عمر حتى قدم على عبد الله بن الخشرج وهو بسابور، فأنزله وألطفه، فقال في ذلك:
إن السماحة والمروءة والندا ... في قبة ضربت على ابن الخشرج
لما أتيتك راجياً لنوالكم ... ألفيت باب نوالكم لم يرتج
فأمر له بأربعة آلاف درهم.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا علي ابن أبي علي المعدل، قال: حدثني أبي، قال: روى أبو روق الهمداني، عن الرياشي:


أن بعض أهل البصرة اشترى صبية فأحسن تأديبها وتعليمها، وأحبها كل المحبة، وأنفق عليها حتى أملق، وحتى مسه الضر الشديد، فقالت الجارية: إني لأرى لك يا مولاي مما أرى بك من سوء الحال، فلو بعتني اتسعت بثمني فلعل الله أن يصنع لك وأقع أنا بحيث يحسن حالي فيكون ذلك أصلح لكل واحد منا. قال: فحملها إلى السوق، فعرضت على عمر بن عبد الله بن معمر التيمي، وهو أمير البصرة يومئذ، فأعجبته فاشتراها بمائة ألف درهم، فلما قبض مولاها الثمن وأراد النصراف استعبر كل واحد منهما إلى صاحبه شاكياً، فأنشأت الجارية تقول:
هنيئاً لك المال الذي قد حويته ... ولم يبق في كفي غير تذكري
أقول لنفسي وهي في غشي كربة ... أقلي فقد بان الحبيب أو اكثري
إذا لم يكن للأمر عندك حيلة ... ولم تجدي شيئاً سوى الصبر فاصبري
فاشتد بكاء المولى ثم أجابها يقول:
فلولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
أروح بهم في الفؤاد مبرح ... أناجي به قلباً شديد التفكر
عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال له ابن معمر: قد شئت، خذها ولك المال، فانصرفا راشدين، فوالله لا كنت سبباً لفرقة محبين.
وروى ابن عائشة، عن أبيه، قال: لما خرج ابن الأشعث أرسل عبد الملك إلى عمر بن عبد الله بن معمر ليقدم عليه، فمات في الطريق بالطاعون. فقام عبد الملك على قبره وقال: أما والله لقد علمت قريش أنها فقدت اليوم ناباً من أنيابها.
ورثاه الفرزدق الشاعر فقال:
كانت يداه لنا سيفاً نصول به ... على العدو وغيثاً ينبت الشجرا
أما قريش أبا حفص قد رزيت ... بالشأم إذا فارقتك الناس والظفرا
المهلب بن أبي صفرة وكان اسم أبي صفرة ظالماً، ويكنى المهلب أبا سعيد: وقد أدرك عمر لكنه لم يرو عنه، وروى عن سمرة وغيره، وولي خراسان، وكان جواداً. أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، قال: حدثنا ابن دريد، قال: أخبرنا المعلى، عن حاتم، قال: أخبرني حفص بن عمر، قال: نزل المهلب في دار محمد بن مخنف، فلما شخص قال: دعوا لهم المتاع، فترك لهم بسطاً وغيرها بثلاثمائة ألف درهم. أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: حدثنا شجاع بن فارس، قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا ابن أخي ميمي، قال: حدثنا ابن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني هارون بن أبي يحيى السلمي، قال: حدثني مسامر بن جميل: أن المهلب مر بقوم فأعظموه وسودوه، فقال رجل: ألهذا الأعور تسودون، والله لو خرج إلى السوق ما جاء إلا بألفي درهم. فقال لبعض من معه: أتعرف الرجل؟ قال: نعم، فلما انتهى إلى منزله أرسل إليه ألفي درهم، وقال: أما أنك لو زدتنا في القيمة لزدناك في العطية.
قال القرشي: وحدثني محمد بن أبي رجاء، قال: أغلظ رجل للمهلب بن أبي صفرة، فسكت، فقيل له: أربا عليك، قال: لم أعرف مساوئه فكرهت أن أبهته بما ليس فيه.
قال علماء السير: انصرف المهلب من وراء النهر يريد مرو، فمرض، فجمع من حضر من ولده، ودعا بسهام فحزمت، فقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا، قال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال: فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله عز وجل، وصلة الرحم، وأنهاكم عن القطيعة، واعرفوا لمن يغشاكم حقه، وكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وعليكم في الحرب بالأناة والمكيدة فإنها أنفع من الشجاعة، وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وآداب الصالحين، وإياكم وكثرة الكلام.
ومات في ذي الحجة من هذه السنة بمرو الروذ، واستخلف على خراسان ولده يزيد فأقره الحجاج.
ومن العجائب: أنه كان للمهلب ثلاثة أولاد: يزيد، وزياد، ومدرك، ولدوا في سنة واحدة، وقتلوا في سنة واحدة، وأسنانهم واحدة، عاش كل واحد منهم ثمانية وأربعين سنة.
المغيرة بن المهلب كان خليفة أبيه على عمله كله، فتوفي في رجب من هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وثمانين
فمن الحوادث فيها:


هزيمة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بدير الجماجم
وذلك أن عبد الرحمن نزل دير الجماجم، وهو دير بظاهر الكوفة على طرف البر الذي يسلك منه إلى البصرة، وإنما سمي بدير الجماجم لأنه كان بين أياد والقين حروب فقتل من أياد والقين خلق كثير ودفنوا، فكان الناس يحفرون فتظهر لهم جماجم فسمي دير الجماجم، وذلك اليوم بيوم الجماجم.
ونزل الحجاج دير قرة - وهو مما يلي الكوفة بإزاء دير الجماجم - فقال الحجاج: ما اسم هذا الموضع الذي نزل فيه ابن الأشعث؟ قيل له: دير الجماجم، فقال الحجاج: يقال هو بدير الجماجم فتكثر جماجم أصحابه عنده، ونحن بدير قرة ملكنا البلاد، واستقررنا فيها.
واتصلت الحرب بينهما مائة يوم كان فيها إحدى وثمانون وقعة، وكان يحمل بعضهم على بعض، فحمل أهل الشام مرة بعد مرة، فنادى عبد الرحمن بن أبي ليلى: يا معشر القراء، إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم، إني سمعت علياً عليه السلام يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنه من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونور قلبه باليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق ولا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.
وقال أبو البخترى: أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم، فوالله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم، وليغلبن على دنياكم.
وقال الشعبي: يا أهل الإسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فوالله ما أعلم قوماً على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور منهم في الحكم.
وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، قاتلوهم على جورهم في الحكم وتجبرهم في الدين واستذلالهم الضعفاء، وأماتتهم الصلاة.
فحمل أصحاب عبد الرحمن على القوم حتى أزالوهم عن صفهم، ثم عادوا فإذا جبلة بن زحر بن قيس الجعفي الذي كان على الرجالة صريع، فانكسر القراء، وحمل رأسه إلى الحجاج، فقال: يا أهل الشام، أبشروا هذا أول الفتح، وما زالوا يقتتلون ويتبارز الرجل والرجل مائة يوم.
ثم إن أصحاب عبد الرحمن انهزموا في بعض الأيام، وأخذوا في كل وجه، وصعد عبد الرحمن المنبر، وأخذ ينادي الناس: عباد الله إلي إلي عباد الله، إلي أنا ابن محمد. وجاء إلى جماعة من أصحابه، فأقبل أهل الشام فحملوا عليهم وهو على المنبر، فقال له عبد الله بن يزيد الأزدي: انزل فإني أخاف عليك أن تؤسر، ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعاً يهلكهم الله به بعد اليوم. وحضر مع القوم سلمة بن كهيل، وعطاء السلمي، والمعرور بن سويد، وطلحة بن مصرف.
ورأى طلحة رجلاً يضحك فقال له: أما إنك تضحك ضحك من لم يحضر الجماجم، فقيل له: وشهدت الجماجم؟ فقال: نعم ورميت فيها بسهم وليت يدي قطعت ولم أرم فيها.
ثم إنه نزل من على المنبر وانهزم أهل العراق لا يلوون على شيء، ومضى عبد الرحمن في أناس من أهل بيته إلى منزله، فخرجت إليه ابنته فالتزمها، وخرج أهله يبكون، فأوصاهم بوصية، وقال: لا تبكوا، فكم عسيت أن أبقى معكم، وإن الذي يرزقكم حي، ثم ودعهم وخرج من الكوفة، فقال الحجاج: لاتتبعوهم، ومن رجع فهو آمن.
وجاء الحجاج إلى الكوفة فدخلها، فجاء الناس إليه، فكان لا يبايعه أحد إلا قال: أتشهد أنك كفرت، فإذا قال نعم بايعه وإلا قتله، فجاء رجل من خثعم فقال له: أتشهد أنك كافر؟ فقال: بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله عز وجل ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر، قال: إذاً أقتلك، قال: وإن قتلتني فوالله ما بقي من عمري ظمء حمار، وإني لأنتظر الموت صباحاً ومساء، فقال: اضربوا عنقه، فضربت عنقه.
ودعا بكميل بن زياد فقتله، وأتي برجل فقال الحجاج: إني أرى رجلاً ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر، فقال: أخادعي أنت عن نفسي، أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد، فضحك الحجاج وخلى سبيله.
وأقام الحجاج بالكوفة شهراً.
وفي هذه السنة: كانت الوقعة بمسكن بين الحجاج وابن الأشعث بعدما انهزم من دير الجماجم


وكان السبب أن محمد بن سعد بن أبي وقاص خرج بعد وقعة الجماجم حتى نزل المدائن، واجتمع إليه ناس كثير، وخرج عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد حتى قدم البصرة وهو بها، فاجتمع الناس إلى عبد الرحمن، فأقبل عبيد الله إليه وقال: إنما أخذتها لك. وخرج الحجاج قبل المدائن، فأقام بها خمساً حتى هيأ الرجال في المعابر، وخندق ابن الأشعث وأقبل نحو الحجاج والتقوا، فاقتتلوا فانهزم أهل العراق، وقتل أبو البخترى الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ثم قاتلوا فكشفوا أهل الشام مراراً، ثم انهزم ابن الأشعث.
وقيل: بل بعث الحجاج جنداً فأتوا عسكر ابن الأشعث من ورائهم في الليل، فتحيزوا لأن نهر دجيل عن يسارهم ودجلة أمامهم، فكان من غرق أكثر ممن قتل، ودخل الحجاج إلى عسكرهم فانتهب ما فيه، وقتل أربعة آلاف.
ومضى ابن الأشعث ومعه فل نحو سجستان، فأتبعهم الحجاج عمارة بن تميم اللخمي، فأدرك ابن الأشعث بالسوس، فقاتلهم ابن الأشعث ساعة، ومضى ابن الأشعث حتى مر بكرمان، وجاء إلى بلدة له فيها عامل فاستقبله العامل وأنزله، فلما عقل أصحاب عبد الرحمن وتفرقوا عنه أوثقه ذلك العامل وأراد أن يأمن بذلك عند الحجاج، فجاء رتبيل حتى أحاط بذلك البلد، وبعث إليه ذلك الرجل وقال: والله لئن آذيته أو ضررته لأقتلنك ومن معك، ثم أسبي ذراريكم، وأقسم أموالكم، فقال له: أعطنا أماناً ونحن ندفعه إليك سالماً، فصالحهم على ذلك، فأخذه رتبيل فأكرمه.
ثم إن الفلول أقبلوا في أثر ابن الأشعث حتى سقطوا بسجستان، فكانوا نحواً من ستين ألفاً، وكتبوا إلى عبد الرحمن بعددهم، فخرج إليهم فساروا إلى هراة، فخرج من جملتهم عبيد الله بن عبد الرحمن في ألفين، ففارقهم، فلما أصبح ابن الأشعث قام فيهم فقال: إني قد شهدتكم في هذه المواطن فما من موطن إلا أصبر فيه نفسي حتى لا يبقى منكم أحد، فلما رأيت أنكم لا تصبرون أتيت مأمناً فكنت فيه، فجاءتني كتبكم بأن أقبل إلينا، فقد اجتمعنا، وهذا عبيد الله قد صنع ما رأيتم، فحسبي منكم يومي هذا، فاصنعوا ما بدا لكم، فإني منصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله، فمن أحب منكم أن يتبعني فليتبعني، ومن كره ذلك فليذهب حيث أحب.
فمضى إلى رتبيل، ومضت معه طائفة، وبقي معظم العسكر، فوثبوا إلى عبد الرحمن بن العباس فبايعوه، وذهبوا إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة، وسار إليهم يزيد بن المهلب فقاتلهم وأسر منهم، فبعث الأسرى إلى الحجاج فقتل منهم وعفى عن بعضهم. وجيء بفيروز فعذبه بأن شد القصب الفارسي المشقق عليه، ثم جر عليه، ثم نضح عليه الخل والملح، فلما أحس بالموت قال: لي ودائع عند الناس لا تؤدى إليكم أبداً، فأخرجوني ليعلموا أني حي فيردوا المال، فقال الحجاج: أخرجوه، فأخرج إلى باب المدينة، فقال: من كان لي عنده شيء فهو في حل منه، ثم قتل.
وذكر الحجاج الشعبي فقال: أين هو؟ فقال يزيد بن أبي مسلم: بلغني أنه لحق بقتيبة بن مسلم بالري، وكان الحجاج قد نادى: من لحق بقتيبة فهو آمن، فلحق به الشعبي، فقال ليزيد: ابعث إليه فليؤت به، فكتب إلى قتيبة: أن ابعث الشعبي.
قال الشعبي وكان صديقاً لابن أبي مسلم: فلما قدمت على الحجاج لقيته، فقلت: أشر علي، فقال: ما أدري غير أن أعتذر ما استطعت. فلما دخلت سلمت عليه بالإمرة، ثم قلت: أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلمه الله عز وجل أنه الحق، وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقاً، وقد والله حرضنا عليك وجهدنا كل الجهد، فما كنا فيما كنا أتقياء بررة، فإن سطوت فبذنوبنا، وإن عفوت فبحلمك، والحجة لك. فقال: أنت والله أحب إلي قولاً ممن يدخل وسيفه يقطر من دمائنا، ثم يقول: ما فعلت. قد أمنت عندنا يا شعبي.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك وابن ناصر، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا القاضي إسماعيل بن سعيد بن سويد، قال: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثنا أبو الحسن بن البراء، قال: حدثنا العباس بن عبد الله، قال: حدثني سليمان بن أحمد، عن عيسى بن موسى، عن الشعبي، قال:


انطلق بي إلى الحجاج وأنا في حلق الحديد، فلما كنت بباب القصر استقبلني يزيد بن أبي مسلم، وكان صديقاً لي، فقال لي: يا شعبي وآهاً لما بين دفتيك من العلم، وليس بيوم شفاعة، أقر للأمير بالشرك والنفاق على نفسك فبالحرى تنجو وما أراك بناج. ثم دخلت القصر فاستقبلني محمد بن الحجاج، فقال لي مثل مقالة يزيد، فلما دخلت على الحجاج قال لي: يا شعبي ألم أشرفك ولا يشرف مثلك؟ ألم أوفدك ولا يوفد مثلك؟ ألم أكتب إلى ابن أبي بردة قاضي الكوفة ألا يقطع أمراً دونك؟ قلت: كل ذلك قد كان أصلح الله الأمير، قال: فما الذي أخرجك؟ قلت: أحزن بنا المنزل، وضاق بنا المسلك، وأجدب بنا الجناب، واكتحلنا السهر، واستشعرنا الخوف، ووقعنا في حرب والله ما كنا فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فقال: صدق، أطلقا عنه. فقال: وأمرني بلزوم بابه.
وفي هذه السنة: بنى الحجاج واسط القصب وكان سبب ذلك أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان، فعسكروا بحمام عمر. وكان فتى من أهل الكوفة حديث عهد بعرس، فانصرف إلى منزله ليلاً، فإذا سكران من أهل الشام قد طرق الباب، فقالت المرأة: هذا كل ليلة يأتينا فنلقى منه المكروه، فلما دخل ضرب الفتى رأسه فأندره، فلما أصبحوا علم الناس بالقتيل، فذهبوا به إلى الحجاج، فسأل المرأة فصدقته، فقال: قتيل إلى النار، لا قود له. ثم نادى مناديه: لا ينزلن أحد على أحد، وبعث رواداً يرتادون له منزلاً حتى نزل أطراف كسكر. فبينا هو في موضع واسط إذا راهب قد أقبل على حماره، فلما كان في موضع واسط بالت الأتان، فنزل الراهب فاحتفر الأرض وحمل التراب فرمى به في دجلة، فقال الحجاج: علي به، فجيء به، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله عز وجل فيه ما دام في الأرض من يوحد، فبنى المسجد في ذلك الموضع.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو الحسين بن النقور، قال: أخبرنا الحسين بن هارون الضبي، قال: في كتاب والدي عن البيهقي، قال: أخبرني الرياشي، قال: لما فرغ الحجاج من بناء واسط، قال للحسن البصري بعد فراغه منها: كيف ترى بناءنا هذا؟ قال الحسن: إن الله أخذ عهود العلماء ومواثيقهم أن لا يقولوا إلا الحق، أما أهل السماء أيها الأمير فقد مقتوك، وأما أهل الأرض فقد غروك، أنفقت مال الله في غير طاعته، يا عدو نفسه. فنكس الحجاج رأسه حتى خرج الحسن، ثم قال: يا أهل الشام، يدخل علي عبيد أهل البصرة ويشتمني في مجلسي ثم لا يكون لذلك معير ولا نكير، ردوه، فخرجوا ليردوه، ودعا بالسيف ليقتله، فلما دخل الحسن دعا بدعوات لم يتمالك الحجاج أن قربه ورحب به وأجلسه على طنفسته، ثم دعا بالطيب فغلف لحيته وصرفه مكرماً، فلما خرج من عنده تبعه الحاجب، وقال: يقول لك الأمير رأيتك تحرك شفتيك وقد كنت هممت بك، فماذا قلت في دعائك؟ فقال الحسن: قلت: يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا وولي نعمتي، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ويا كهيعص، بحق طه ويس والقرآن العظيم أرزقني معروف الحجاج ومودته، واصرف عني أذاه ومعرته، فقال الحاجب عندها: بخ بخ لهذا الدعاء. وأمر الحجاج بأن يكتب له هذا الدعاء.
قال أبو إسحاق البيهقي: قال الرياشي: لقد دعوت بهذه الدعوات في الشدائد مراراً ففرج الله عني.
وفي هذه السنة: حج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي، وهو العامل على المدينة، وكان العمال على الأمصار العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها.
؟ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر ؟روح بن زنباع، أبو زرعة الجذامي الشامي: يقال: له صحبة، ولا يصح، وإنما يروي عن الصحابة، وكان من كتاب عبد الملك. وكان عبد الملك يقول: إن روحاً الشامي الطاغية عراقي الخط، حجازي الفقه، فارسي الكتابة. وكان معاوية هم بروح بن زنباع فقال له: لا تشتمن بي عدواً أنت وقمته، ولا تسوؤن بي صديقاً أنت سررته، ولا تهدمن مني ركناً أنت بنيته، هلا آتي حلمك وإحسانك على جهلي وإساءتي. فأمسك عنه.
؟زيد بن وهب الجهني، أبو سليمان: رحل إلى حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزيد في الطريق.
روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وكبار الصحابة.
؟زاذان أبو عمرو، مولى كندة:


روى عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وجرير، وسلمان.
وعن سالم بن أبي حفصة، أن زاذان كان يبيع الثياب، فإذا عرض الثوب ناول شر الطرفين.
عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو عيسى الأنصاري وفي اسم أبي ليلى أربعة أقوال: أحدهما يسار، والثاني بلال، والثالث بليل، والرابع داود بن أحيحة بن الحلاج بن الحريش بن جحجبا بن كلفة.
ولد عبد الرحمن لست سنين بقين من خلافة عمر بن الخطاب، وروى عن عمر، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، أبي، وكعب بن عجرة، والمقداد، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، وغيرهم.
روى عنه مجاهد، وثابت البناني، والأعمش، وغيرهم.
وكان ثقة، سكن الكوفة، وشهد حرب الخوارج بالنهروان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت بإسناد له عن يزيد بن أبي زياد، قال: قال لي عبد الله بن الحارث: اجمع بيني وبين ابن أبي ليلى، فجمعت بينهما، فقال عبد الله بن الحارث: ما شعرت أن النساء ولدت مثل هذا.
قتل عبد الرحمن في الجماجم سنة ثلاث وثمانين. وقيل سنة إحدى وثمانين. والأول أصح.
عبد الرحمن بن حجيرة، أبو عبد الله الخولاني روى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وغيرهما.
وكان عبد الرحمن قد اجتمع له القضاء بمصر، والقصص، وبيت المال. وكان يأخذ رزقه في القضاء مائتي دينار، وفي بيت المال مائتي دينار، وعطاؤه مائتا دينار، وجائزته مائتا دينار، فكان يأخذ في السنة ألف دينار، فلا يحول الحول وعنده ما يجب فيه الزكاة.
توفي في محرم هذه السنة.
عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث، أبو المصبح، وهو أعشى همدان شاعر فصيح كوفي، من شعراء بني أمية، وكان زوج أخت الشعبي، والشعبي زوج أخته. وكان أحد القراء الفقهاء ثم ترك ذلك وقال الشعر، ورأى في المنام أنه دخل بيتاً فيه حنطة وشعير، فقيل له: خذ أيهما شئت، فأخذ الشعير، فقال له الشعبي: إن صدقت رؤياك تركت القرآن وقلت الشعر، فكان ذلك.
وخرج مع الأشعث فأخذه الحجاج فقتله صبراً.
شقيق بن سلمة، أبو وائل الأسدي أدرك رسول الله صلى عليه وسلم ولم يلقه. وسمع عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعماراً، وخباباً، وأبا مسعود، وأبا موسى، وأسامة بن زيد، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وأبا الدرداء، وابن عباس، وجرير بن عبد الله، والمغيرة بن شعبة. روى عنه منصور بن المعتمر، وعمر بن مرة، والأعمش وغيرهم. وكان من سكان الكوفة، وورد المدائن مع علي بن أبي طالب حين قاتل الخوارج بالنهروان.
قال الأعمش: قال لي شقيق: يا سليمان، لو رأيتني ونحن هراب من خالد بن الوليد يوم بزاخة، فوقعت عن البعير فكادت تندق عنقي، فلو مت يومئذ كانت النار أولى بي، وكنت يومئذ ابن إحدى عشرة سنة.
وقيل له: أيما أكبر أنت أو الربيع بن خثيم؟ فقال: أنا أكبر منه سناً، وهو كان أكبر مني عقلاً. وقيل له: بأي شيء تشهد على الحجاج؟ فقال: أتأمروني أنا أحكم على الله.
وكان يسمع موعظة إبراهيم التيمي فينتفض انتفاض الطير. وكان لا يلتفت في صلاة.
وقال: درهم من تجارة أحب إلي من عشرة من عطائي.
وعن سعيد بن صالح، قال: كان أبو وائل يؤم جنائزنا وهو ابن خمسين ومائة سنة، وعن عاصم قال: كان أبو وائل ينشج سراً، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل.
وعن عاصم قال: كان لأبي وائل خص من قصب، وهو فيه وفرسه، فكان إذا غزا نقضه، وإذا قدم بناه.
معاذة بنت عبد الله العدوية، تكنى أم الصهباء روت عن عائشة، وروى عنها الحسن، وأبو قلابة.
وكانت تحيي الليل، وكانت تقول: عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلم القبور.
ولما قتل زوجها صلة بن أشيم وابنها في بعض الغزوات اجتمع النساء عندها، فقالت: مرحباً بكن إن كنتن جئتن لتهنئتي فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن. ولم تتوسد فراشاً بعد ذلك، وكانت تقول: والله ما أحب البقاء إلى لأتقرب إلى ربي عز وجل بالوسائل لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة.


فلما احتضرت بكت ثم ضحكت، فسئلت عن ذلك، فقالت: أما البكاء فإني ذكرت مفارقة الصيام والصلاة والذكر، وأما الضحك، فإني نظرت إلى أبي الصهباء وقد أقبل في صحن الدار وعليه حلتان خضروان وهو في نفر ما رأيت لهم في الدنيا شبهاً فضحكت إليه. ولا أراني أدرك بعد ذلك فرضاً. فماتت قبل دخول وقت الصلاة.
ثم دخلت
سنة أربع وثمانين
فمن الحوادث فيها:
قتل الحجاج أيوب بن القرية
وكان ممن كان مع ابن الأشعث، وكان يدخل بعد ذلك على حوشب بن يزيد - وحوشب عامل الحجاج - فيقول حوشب: انظروا إلى هذا الواقف معي وغداً أو بعد غد يأتي كتاب من الأمير لا أستطيع إلا انفاذه. فبينا هو ذات يوم واقف أتاه كتاب من الحجاج: أما بعد، فإنك قد صرت كهفاً لمنافقي أهل العراق، فإذا نظرت في كتابي هذا فابعث إلي بابن القرية مشدودة يده إلى عنقه مع ثقة من قبلك.
فلما قرأ الكتاب رمى به إليه، فقرأه وقال: سمعاً وطاعة، فبعث به موثقاً، فدخل عليه، فقال: أصلح الله الأمير، أقلني عثرتي، فإنه ليس جواد إلا وله كبوة، فأمر به فقتل.
وفي هذه السنة: غزا عبد الله بن عبد الملك بن مروان الروم ففتح المصيصة.
وفيها: فتح يزيد بن المهلب قلعة كان يراصدها، وكتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو فمنحنا الله أكتافهم، وقتلنا طائفة وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة برؤوس الجبال وعراعر الأودية، وأهضام الغيطان. فقال الحجاج: من يكتب ليزيد؟ فقيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد ليحمله على البريد، فلما دخل عليه رأى أفصح الناس، فقال: أين ولدت؟ قال: بالأهواز، فقال: من أين لك هذه الفصاحة؟ قال: حفظت كلام أبي وكان فصيحاً. قال: فأخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال: نعم كثيراً، قال: ففلان؟ قال: نعم، قال: فأخبرني عني ألحن: قال: نعم تلحن لحناً خفيفاً؛ تزيد حرفاً وتنقص حرفاً، وتجعل أن في موضع إن، قال: أجلتك ثلاثاً، فإن أجدك بعد ثلاث بأرض العراق قتلتك. فرجع إلى خراسان.
وفيها: حج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان عمال الأمصار عمالها في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بديح، مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وكان يقال بديح المليح، فكانت فيه فكاهة ومزاح، وكان يغني، وروى الحديث عن عبد الله بن جعفر.
قال العتبي: دخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وهو يتأوه، فقال: مالك؟ قال: هاج بي عرق النسا في ليلتي هذه فبلغ مني، قال: فإن بديحاً مولاي أرقى الخلق له، فوجه إليه عبد الملك، فجاء فقال: كيف رقيتك لعرق النسا؟ قال: أرقى خلق الله، فمد رجله فتفل عليها ورقاها مراراً، فقال عبد الملك: الله أكبر وجدت والله خفاً. يا غلام، ادع لي فلانة تجيء وتكتب الرقية، فإنا لا نأمن هيجها بالليل فلا ندعو بديحاً. فلما جاءت الجارية قال بديح: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كتبتها حتى تعجل حبائي، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فلما صارت بين يديه، قال: وامرأته طالق إن كتبتها أو يصير المال في منزلي، فأمر فحمل إلى منزله، فلما أحرزه قال: امرأته طالق إن كنت قرأت على رجلك إلا أبيات نصيب:
ألا إن ليلى العامرية أصبحت ... على النأي مني غير ذنبي فتنقم
قال: ويلك ما تقول؟ قال: امرأته طالق إن كان رقى إلا بما قال: فاكتمها علي، قال: وكيف وقد سارت بها البرد إلى أخيك بمصر؟ فضحك عبد الملك حتى جعل يفحص برجليه.
توفي بديح في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة خمس وثمانين
فمن الحوادث فيها:
هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث
وسبب ذلك أنه لما رجع إلى رتبيل قال له رجل كان معه يقال له علقمة بن عمرو: ما أريد أن أدخل معك، قال: لم؟ قال: لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بكتاب من الحجاج قد جاء إلى رتبيل يرغبه ويرهبه فإذا هو قد بعث بك سلماً أو قتلكم، ولكن هاهنا خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصن فيها، ونقاتل حتى نعطى أماناً أو نموت كراماً. فقال له عبد الرحمن: أما إنك لو دخلت معي لآسيتك وأكرمتك. فأبى عليه. فدخل عبد الرحمن إلى رتبيل، وخرج هؤلاء الخمسمائة فبعثوا عليهم مودوداً النضري، وأقاموا حتى قدم عليهم عمارة بن تميم، فقاتلوه وامتنعوا منه حتى آمنهم، فخرجوا إليه فوفى لهم.


وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن: أن ابعث به إلي، وإلا فوالله الذي لا إله إلا هو لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل. وكان عند رتبيل رجل من بني تميم يقال له عبيد بن أبي سبيع، فقال له: أنا آخذ لك من الحجاج عهداً ليكفن الخراج عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن، فقال: إن فعلت ذلك فلك عندي ما سألت.
فكتب إليه الحجاج يخبره أن رتبيل لا يعصيه، وأنه لن يدع رتبيل حتى يبعث إليه بعبد الرحمن، فأعطاه الحجاج على ذلك مالاً وأخذ من رتبيل عليه مالاً، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن إلى الحجاج، وترك له الذي كان يأخذه منه سبع سنين.
وفي رواية: أن عبد الرحمن أصابه سل، فلما مات وأرادوا دفنه حز رتبيل رأسه وبعث به إلى الحجاج.
وفي رواية: أن الحجاج كتب إلى رتبيل: إني قد بعثت إليك عمارة بن تميم في ثلاثين ألفاً من أهل الشام يطلبون ابن الأشعث. فأبى رتبيل أن يسلمه إليهم، وكان مع ابن الأشعث عبيد بن أبي سبيع قد خص به، وتقرب من رتبيل وخص به، فقال القاسم بن محمد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا آمن غدر هذا، فاقتله، فهم به، وبلغه ذلك، فخاف فوشى به إلى رتبيل، وخوفه الحجاج، وخرج سراً إلى عمارة، فاستعجل في ابن الأشعث، فجعل له ألف ألف، فكتب بذلك عمارة إلى الحجاج، فكتب إليه الحجاج: أن أعط عبيداً ورتبيل ما سألاك، فاشترط رتبيل أشياء فأعطيها، وأرسل رتبيل إلى ابن الأشعث وثلاثين من أهل بيته وقد أعد لهم الجوامع والقيود، فقيدهم وأرسل بهم جميعاً إلى عمارة، فلما قرب ابن الأشعث من عمارة ألقى نفسه من فوق قصر فمات. فاحتز رأسه، فأتى به الحجاج، فأرسل به إلى عبد الملك.
وذكر بعضهم: أن مهلك عبد الرحمن كان في سنة أربع وثمانين.
وفي هذه السنة: عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان وولاها المفضل بن المهلب أخا يزيد وسبب ذلك أن بعض أهل الكتاب قال له: يلي الأمر بعدك رجل يقال له يزيد، فقال: ليس إلا ابن المهلب، فعزله وولى المفضل فبقي تسعة أشهر، وكان يزيد قد ولي سنة اثنتين، وعزل سنة خمس.
وفيها: غزا المفضل باذغيس ففتحها وأصاب منها مغنماً، فقسمه بين الناس. ثم غزا مواضع أخر فظفر وغنم ولم يكن له بيت مال وإنما كان يقسم ما يغنم.
وفيها: أراد عبد الملك خلع أخيه عبد العزيز فنهاه عن ذلك قبيصة بن ذؤيب، وقال: لا تفعل فإنك تبعث بهذا على نفسك العار، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه. فكف عن ذلك ونفسه تنازعه، ودخل عليه روح بن زنباع، فقال: يا أمير المؤمنين، لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، قال: ترى ذلك يا أبا زرعة؟ قال: إي والله، وأنا أول من يجيبك إلى ذلك، فقال: نصبح إن شاء الله.
فبينا هو على ذلك وقد نام عبد الملك - ونفسه تنازعه - وروح بن زنباع دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب طروقاً، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه فقال: لا يحجب عني قبيصة أي ساعة جاء ليلاً أو نهاراً، إن كنت خالياً أو عندي أحد، وإن كنت عند النساء أدخل المجلس وأعلمت بمكانه، فدخل وكانت الأخبار تأتي إليه قبل عبد الملك، فدخل عليه فسلم وقال: آجرك الله في أخيك عبد العزيز، قال: وهل توفي؟ قال: نعم، فاسترجع عبد الملك، ثم أقبل على روح، فقال: كفانا الله ما كنا نريد وما اجتمعنا عليه، فقال قبيصة: ما هو؟ فأخبره بما قد كان، فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين، إن الرأي كله في الأناة، والعجلة فيها ما فيها.
وفي رواية: أن عبد الملك لما أراد خلع عبد العزيز ويبايع لابنه الوليد، كتب إلى أخيه: إن رأيت أن تصير هذا الأمر لابن أخيك، فأبى، فكتب إليه: فاجعلها له من بعدك، فكتب إليه: إني أرى في ولدي ما ترى في ولدك، وإني وإياك قد بلغنا أشياء لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلاً، وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولاً، فإن رأيت لا تغثث علي بقية عمري فافعل. فرق عبد الملك، وقال: لا أغثث عليه بقية عمره.
وقال العمري: لا أعيب عليه بقية عمره. فلما مات عبد العزيز بن مروان بايع لولديه.
وفي هذه السنة: بايع عبد الملك لولديه الوليد ثم سليمان بعده


وجعلهما وليي عهده، فكتب ببيعتهما إلى البلدان، وكتب إلى هشام بن إسماعيل المخزومي أن يدعو الناس إلى بيعة ابنيه الوليد وسليمان، فبايعوا غير سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبد الملك حي فضربه هشام ستين سوطاً، وطاف به في ثياب شعر وسرحه إلى ذباب - ثنية بظاهر المدينة كانوا يقتلون عندها ويصلبون - فظن أنهم يريدون قتله، فلما انتهوا به إلى ذلك الموضع ردوه، فقال: لو ظننت أنهم لا يقتلونني ما لبست سراويل مسوح. فبلغ ذلك عبد الملك، فقال: قبح الله هشاماً، إنما كان ينبغي له أن يدعوه إلى البيعة فإن أبى كف عنه أو يضرب عنقه.
وقد ذكرنا أن ابن المسيب ضرب في بيعة ابن الزبير أيضاً لأنه قال: لا أبايع حتى يجتمع الناس، فضربه جابر بن الأسود، وكان عامل ابن الزبير في أيامه على المدينة.
وفي هذه السنة: ولي قتيبة بن مسلم خراسان.
وفيها: حج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان العامل على المشرق والعراق الحجاج.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وقد ذكرنا هلاكه في الحوادث.
عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، يكنى أبا الأصبغ روى عن أبي هريرة، وعقبة بن عامر. وكان مروان قد فتح مصر وولاه عليها، وأقره على ذلك عبد الملك، وعقد مروان العهد لعبد الملك، وبعده عبد العزيز. ثم أراد عبد الملك خلعه ليبايع لابنيه الوليد، وسليمان، فتوفي عبد العزيز بمصر في جمادى الأولى من هذه السنة.
وقيل: بل في جمادى الآخرة من سنة ست وثمانين.
وكان يقول حين حضرته الوفاة: ليتني لم أكن شيئاً مذكوراً. فلما بلغ الخبر عبد الملك ليلاً أصبح يدعو الناس، ويبايع للوليد بالخلافة، ثم لسليمان بعده.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا القاضي أبو القاسم عبد الواحد بن محمد بن عثمان البجلي، قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد بن موسى بن إسحاق الأنصاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن أبي حاتم، قال: حدثني محمد بن هانئ الطائي، قال: حدثنا محمد بن أبي سعيد، قال: قال عبد العزيز بن مروان: ما نظر إلي رجل قط فتأملني فاشتد تأمله إياي إلا سألته عن حاجته، ثم أبيت من ورائها، فإذا تعار من وسنه مستطيلاً ليله مستبطئاً لصحبه مقارفاً للقائي، ثم غدا إلي أن تجارته في نفسه وغدا التجار إلى تجارتهم إلا رجع من غدوة إلى أربح من تجر. وعجباً لمؤمن موقن أن الله يرزقه ويوقن أن الله يخلف عليه، كيف يحبس مالاً عن عظيم جزاء وحسن سماع.
أخبرنا موهوب بن أحمد، ومحمد بن ناصر، والمبارك بن علي، قالوا: أخبرنا علي بن العلاف، قال: أخبرنا أحمد بن علي الحمامي، قال: أخبرنا عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم، قال: حدثنا موسى بن عبد الله، قال: حدثنا ابن أبي سعيد الوراق، قال: حدثنا أحمد بن عمر بن إسماعيل بن عبد العزيز الزهري، قال: حدثني محمد بن الحارث المخزومي، قال: دخل على عبد العزيز بن مروان رجل يشكو صهراً له، فقال: إن ختني فعل بي كذا وكذا، فقال له عبد العزيز: من ختنك؟ فقال له: ختنني الختان الذي يختن الناس، فقال عبد العزيز لكاتبه: ويحك، ما أجابني؛ فقال له: أيها الأمير، إنك لحنت وهو لا يعرف اللحن، كان ينبغي أن تقول له: ما ختنك، فقال عبد العزيز: أراني أتكلم بكلام لا يعرفه العرب، لا شاهدت الناس حتى أعرف اللحن. قال: فأقام في البيت جمعة لا يظهر ومعه من يعلمه العربية، قال: فصلى بالناس الجمعة وهو من أفصح الناس. قال: وكان يعطي على العربية، ويحرم على اللحن حتى قدم عليه زوار من أهل المدينة وأهل مكة من قريش، فجعل يقول للرجل منهم ممن أنت؟ فيقول من بني فلان، فيقول للكاتب: أعطه مائتي دينار، حتى جاءه رجل من بني عبد الدار بن قصي فقال: ممن أنت؟ قال: من بنو عبد الدار، فقال له: خذها في جائزتك، وقال للكاتب: أعطه مائة دينار.
واثلة بن الأسقع بن عبد العزيز بن عبد يا ليل بن ناشب، أبو قرصافة أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا ابن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال:


كان واثلة لما نزل ناحية المدينة وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه، فلما دنا من واثلة، قال: " من أنت؟ " فأخبره، قال: " ما جاء بك؟ " قال: جئت أبايع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على ما أحببت وكرهت " ، قال: نعم، قال: " فيما أطقت " ، قال: نعم. فأسلم وبايعه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز يومئذ إلى تبوك، فخرج واثلة إلى أهله، فلقي أباه الأسقع، فلما رأى حاله قال: قد فعلتها، قال: نعم، قال أبوه: والله لا أكلمك أبداً، فأتى عمه فسلم عليه، فقال: قد فعلتها؟ قال: نعم. فلامه أيسر منلائمة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر. فسمعت أخت واثلة كلامه، فخرجت إليه فسلمت عليه بتحية الإسلام، فقال واثلة: أنى لك هذا يا أخية؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك وأسلمت، فقال: جهزي أخاك جهاز غاز، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم على جناح سفر. فجهزته فلحق النبي صلى الله عليه وسلم قد تحمل إلى تبوك، وبقي غبرات من الناس، وهم على الشخوص، فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: فدعاني كعب بن عجرة، فقال: أنا أحملك، عقبة بالليل وعقبة بالنهار، ويدك أسوة بيدي، وسهمك لي. قال واثلة: فقلت: نعم وجزاه الله خيراً، لقد كان يحملني ويزيدني، وآكل معه ويرفع لي حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل خرج كعب في جيش خالد، وخرجت معه فأصبنا فيئاً كثيراً، فقسمه خالد بيننا، فأصابني ست قلائص، فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة، فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها. فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها، ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئاً.
وكان واثلة من أهل الصنعة، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الشام.
قال محمد بن عمر: حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، قال: مات واثلة بن الأسقع بالشام سنة خمس وثمانين، وهو ابن ثمان وتسعين سنة في آخر خلافة عبد الملك بن مروان.
ثم دخلت
سنة ست وثمانين
فمن الحوادث فيها: وقوع الطاعون، ويقال طاعون الفتيات، ماتت فيه الجواري، وكان بالشام والبصرة وواسط، والحجاج يومئذ بواسط.
وقيل: أنه كان في سنة سبع وثمانين.
وفيها: مرض عبد الملك. ومات، وبويع لولده الوليد بن عبد الملك بن مروان.
باب ذكر خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان
ويكنى أبا العباس، أمه ولادة العبسية، وكان أسمر طوالاً، حسن الوجه، وكان له تسعة عشر ابناً: عبد العزيز، ومحمد أمهما أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، وأبو عبيدة أمه فزارية، والعباس، وإبراهيم وليا الخلافة، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، ومسرور، وصدقة، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمر وهو فحل بني مروان وكان يركب ومعه ستون من صلبه ذكوراً، وروح، وبشر، ويزيد وهو الناقص ولي الخلافة، ويحيى، لأمهات شتى.
وقد ذكرنا أن عبد الملك بايع للوليد قبل موته، وكان أهل الشام يرون للوليد فضلاً ويقولون: بنى مسجد دمشق ومسجد المدينة، وأعطى المجذمين، وقال: لا تسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادماً، وكل ضرير قائداً، وكان الوليد يمر بالبقال فيقف عليه فيأخذ حزمة البقل بيده، فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها. وما مات الحجاج حتى ثقل على الوليد، وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ مصانع، وكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضاً عن البناء والمصانع، فولي سليمان، وكان صاحب نكاح وطعام، وكان الناس يلتقون فيسأل الرجل الرجل عن التزويج والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى ختمت ومتى تختم؟ وكثرت الفتوح في أيام الوليد، وكان مسلمة بن عبد الملك يتغلغل في بلاد الروم، وقتيبة بن مسلم في بلاد العجم والترك، وفتح كاشغر، وافتتح محمد بن القاسم بلاد الهند، وفتح محمد بن نصير أرض الأندلس، ووجد بها مائدة سليمان بن داود عليهما السلام المرصعة بالجواهر


وكان في الوليد نوع ذكاء وفطنة، وسمع صوت ناقوس فأمر بهدم البيعة،فكتب إليه ملك الروم: إن هذه البيعة أقرها من قبلك، فإن كانوا أصابوا فقد أخطأت، وإن تكن أصبت فقد أخطأوا، فقال الوليد: من يجيبه؟ فأحجم الناس، فأمر الوليد أن يكتب إليه " ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً " .
وكان الوليد لحانة وكان عبد الملك يقول: أضرنا بالوليد حبنا له فلم نعربه في البادية - وقال لرجل: ما شآنك؟ فقال له: شيخ يانعي، فقال له عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول لك: ما شأنك؟ قال: ختني ظلمني، فقال له الوليد: من ختنك، فنكس الإعرابي رأسه وقال: ما سؤال أمير المؤمنين عن هذا؟ فقال له عمر: إنما أراد أمير المؤمنين من ختنك؟ فقال: هذا، وأشار إلى رجل معه.
وكان الوليد أول من كتب من الخلفاء في الطوامير، وعظم الكتب، وحلل الخط، وقال: لتظهر كتبي على كتب غيري.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الفقيه، قال: أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا، قال: حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد الكلبي، قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك، ومهدي بن سابق، قالا: حدثنا الفهيم بن عدي، عن صالح بن كيسان، قال: كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب صديقاً للوليد يأتيه ويؤانسه، فجلسا يوماً يلعبان بالشطرنج إذ أتاه الاذن، فقال: أصلح الله الأمير رجل من أخوالك من أشراف ثقيف قدم غازياً وأحب السلام عليك، فقال: دعه، فقال عبد الله: وما عليك ائذن له، فقال: نحن على لعبنا وقد انحجبت، قال: فادع بمنديل وضعه عليها ويسلم الرجل ونعود، ففعل ثم قال: ائذن له، فدخل وله هيئة، بين عينيه أثر السجود، وهو معتم قد رجل لحيته، فسلم وقال: أصلح الله الأمير، قدمت غازياً فكرهت أن أجوزك حتى أقضي حقك، قال: حياك الله وبارك عليك. ثم سكت عنه، فلما أنس أقبل عليه الوليد فقال: يا خال هل جمعت القرآن؟ قال: لا كانت تشغلنا عنه شواغل، قال: هل حفظت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه أو أحاديثه شيئاً؟ قال: كانت تشغلنا عن ذلك أموالنا، قال: فأحاديث العرب وأيامها وأشعارها؟ قال : لا، قال: فأحاديث أهل الحجاز ومضاحكها؟ قال: لا، قال: فأحاديث العجم وآدابها؟ قال: ذلك شيء ما كنت أطلبه. فرفع الوليد المنديل، قال: شاهك، قال عبد الله بن معاوية: سبحان الله، قال: لا والله ما معنا في البيت أحد. فلما رأى ذلك الرجل منهما خرج وأقبلوا على لعبهم.
ولما دفن عبد الملك دخل الوليد المسجد فصعد المنبر، فخطب فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، الله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة قوموا فبايعوا.
فكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السكوني وهو يقول:
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد المشركون عوقها
عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها
ثم تتابع الناس على البيعة.
وفي هذه السنة: قدم قتيبة بن مسلم خراسان والياً عليها من قبل الحجاج قدم والمفضل يعرض الجند، وهو يريد أن يغزو فخطب قتيبة وحثهم على الجهاد، ثم عرض الجند وسار واستخلف بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان بن السعدي، فعبر النهر وتلقته الملوك بهدايا، وافتدوا منه بلادهم فرضي ورجع إلى مرو.
وقد زعم بعضهم أن قدوم قتيبة خراسان كان في سنة خمس وثمانين، وكان فيما سبى امرأة برمك، أبي خالد بن برمك.
وفيها: غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم


روى أبو بكر بن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي معمر، عن رجل من أهل الكوفة، قال: كنا مع مسلمة بن عبد الملك ببلاد الروم، فسبى سبياً كثيراً وأقام ببعض المنازل، فعرض السبي على السيف، فقتل خلقاً كثيراً حتى عرض عليه شيخ ضعيف، فأمر بقتله، فقال: ما حاجتك إلى قتل شيخ مثلي، إن تركتني جئتك بأسيرين من المسلمين شابين، قال: ومن لي بذلك؟ قال: إني إذا وعدت وفيت، قال: لست أثق بك، قال: فدعني أطوف في العسكر لعلي أعرف من يكفلني إلى أن أمضي وأجيء بالأسيرين. فوكل به من أمره بالطواف معه في عسكره والاحتفاظ به، فما زال الشيخ يتصفح الوجوه حتى مر بفتى من بني كلاب قائماً يحس فرساً له، فقال: يا فتى اضمني للأمير، وقص عليه قصته.
قال: فجاء الفتى معه إلى مسلمة فضمنه، فأطلقه مسلمة، فلما مضى قال: أتعرفه؟ قال: لا والله، قال: فلم ضمنته؟ قال: رأيته يتصفح الوجوه فاختارني من بينهم فكرهت أن أخلف ظنه.
فلما كان من الغد عاد الشيخ ومعه أسيران من المسلمين شابان، فدفعهما إلى مسلمة وقال: أسأل الأمير أن يأذن لهذا الفتى أن يصير معي إلى حصني لأكافئه على فعله بي، قال مسلمة للفتى: إن شئت فامض معه. فلما صار إلى حصنه، قال: يا فتى، تعلم أنك ابني؟ قال: وكيف أكون ابنك وأنا رجل من العرب مسلم وأنت رجل نصراني من الروم؟ قال: أخبرني عن أمك ما هي؟ قال: رومية، قال: فإني أصفها لك، فبالله إن صدقت إلا صدقتني، قال: أفعل. وأقبل الرومي يصف أن الفتى لايحترم منها شيئاً، قال، هي كذلك، فكيف عرفت إني ابنها؟ قال: بالشبه، وتعارف الأرواح، وصدق الفراسة، ووجود شبهي فيك. ثم أخرج إليه امرأة، فلما رآها الفتى لم يشك أنها أمه لشدة شبهه بها، وخرجت معها عجوز كأنها هي، فأقبلا يقبلان رأس الفتى، فقال له الشيخ: هذه جدتك وهذه خالتك. ثم اطلع من حصنه فدعا بشباب في الصحراء فأقبلوا فكلمهم بالرومية، فجعلوا يقبلون رأس الفتى ويديه ورجليه، فقال: هؤلاء أخوالك وبنو خالاتك، وبنو عم والدتك. ثم أخرج إليه حلياً كثيرة، وثياباً فاخرة، وقال: هذه لوالدتك عندنا منذ سبيت، فخذه معك وادفعه إليها فإنها ستعرفه، ثم أعطاه لنفسه مالاً كثيراً وثياباً جليلة، وحمله على عدة دواب وبغال وألحقه بعسكر مسلمة وانصرف.
وأقبل الفتى قافلاً حتى دخل منزله، وأقبل يخرج الشيء بعد الشيء مما عرفه الشيخ أنه لأمه، فتراه فتبكي، فيقول لها: قد وهبته لك، فلما كثر هذا عليها، قالت: يا بني، أسألك بالله، أي بلدة دخلت حتى صارت إليك هذه الثياب؟ وهل قتلتم أهل الحصن الذي كان فيه هذا؟ فقال لها الفتى صفة الحصن كذا، وصفة البلد كذا، ورأيت فيه قوماً من حالهم كذا، فوصف لها أمها وأختها، وهي تبكي وتقلق، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: الشيخ والله أبيك، والعجوز أمي، وتلك أختي، فقص عليها الخبر وأخرج بقية ما كان أنفذه معه أبوه إليها فدفعه إليها.
وفي هذه السنة: حج بالناس هشام بن إسماعيل، وكان الأمير على العراق والمشرق كله الحجاج، وعلى الصلاة بالكوفة المغيرة بن عبد الله،وعلى البصرة أيوب بن الحكم، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عبد الملك بن مروان مرض فجعل في مرضه يذم الدنيا ويقول: إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لقليل، وأنا منك لفي غرور. ونظر إلى غسال يلوي ثوباً بيده، فقال: لوددت أني كنت غسالاً آكل من كسب يدي ولم آل شيئاً من هذا الأمر، فبلغ ذلك أبا حازم، فقال: الحمد لله الذي جعلهم إذا احتضروا يتمنون ما نحن فيه، وإذا احتضرنا لم نتمن ما هم فيه.
ودخل عليه الوليد فتمثل عبد الملك يقول:
كم عائد رجلاً وليس يعوده ... إلا ليعلم هل يراه يموت
وتمثل أيضاً يقول:
ومستخبر عنا يريد بنا الردى ... ومستخبرات والعيون سواجم
فجلس الوليد يبكي، فقال: ما هذا؟ أتحن حنين الحمامة والأمة إذا مت فشمر اتزر، والبس جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه.
وفي رواية أن الأطباء منعوه أن يشرب الماء رياً، فكان يشرب قليلاً قليلاً، فاشتد عطشه فشرب رياً فمات.


أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، وابن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار الصيرفي، قال: أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن محمد النصيبي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المدائني، قال: لما اشتد مرض عبد الملك بن مروان، أيقن بفراق الدنيا والإفضاء إلى الآخرة، دعى أبا علاقة مولاه فقال له: يا أبا علاقة، والله لوددت أني كنت منذ يوم ولدت إلى يومي هذا حمالاً. ولم يكن لي من البنات إلا واحدة، يقال لها فاطمة، وكان قد أعطاها قرطي مارية والدرة اليتيمة - فقال: اللهم إني لم أخلف شيئاً أهم إلي منها فاحفظها. فتزوجها عمر بن عبد العزيز. وكان عند عبد الملك بنوه: الوليد، وسليمان، ومسلمة، وهشام ويزيد، فقال لآذنه: اخرج فانظر من الباب ثم أعلمني، فخرج فنظر ثم أتاه، فقال: بالباب خالد بن يزيد بن معاوية، وخالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العاص، فقال: ائتني بسيفي، فأتاه به، فقال: جرده، فجرده، ثم قال: ضعه تحت ثني فراشي، ففعل ثم قال: ائذن لهما، فلما دخلا قال: أتعرفاني؟ قالا: سبحان الله يا أمير المؤمنين، أنت أمير المؤمنين وسيد الناس وولي أمرهم، قال: لا إلا باسمي و واسم أبي، قالا: أنت عبد الملك بن مروان، قال: فمن هذا، وأشار إلى الوليد، وكان خلفه قد تساند إليه، قالا: هذا سيد الناس بعدك، وولي أمرهم، قال: لا إلا باسمه واسم أبيه، قالا: هذا الوليد بن عبد الملك، قال: أتدريان لماذا أذنت لكما؟ قالا: لترينا أثر نعمة الله عندك وما قد صرت إليه من التماثل والإفاقة، قال: لا ولكنه قد نزل بي من الأمر ما قد تريان، فهل في أنفسكما من بيعة الوليد شيء؟ قالا: لا ما نرى أن أحداً هو أحق بها منه بعدك، قال: أولى لكما، أما والله لو غير ذلك قلتما لضربت الذي في عيناكما - ثم رفع فراشه فإذا بالسيف مجرد قد هيأه لهما، فخرجا عند ذلك.
ثم أقبل على بنيه فقال: يا بني أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلة، وأحصن كهف، وأحرز جنة. وأن يعطف الكبير منكم على الصغير، وأن يعرف الصغير منكم حق الكبير. وإياكم والفرقة والاختلاف، فإن بها هلك الأولون، وذل به ذو العز، أنظروا مسلمة وأصدروا عن رأيه، فإنه مجنكم الذي به تستجنون، ونابكم الذي عنه تفترون، وكونوا بني آدم بررة، ولا تدنوا العقارب منكم، وكونوا في الحرب أحراراً، وللمعروف مناراً، فإن الحرب لن تدني منية قبل وقتها، وإن المعروف يبقى آخره وذكره، واحلولوا في مرارة ولينوا في شدة، وضعوا الصنائع عند ذوي الأحساب والأخطار فإنهم أصون لأحسابهم، وأشكر لما يؤتى إليهم، وإياكم أن تخالفوا وصيتي، وكونوا كما قال ابن عبد الأعلى الشيباني:
إني أومل يا بني حرب الذرى ... أن تخلدوا وجدودكم لم تخلد
فاتقوا الضغائن والتخاذل عنكم ... عند المغيب وفي الحضور الشهد
بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مد في عمري، وإن لم يمدد
وتكون أيديكم معاً في عونكم ... ليس اليدان لذي التعاون كاليد
إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش أيد
عزت فلم تكسر إن هي بددت ... فالكسر والتوهين للمتبدد


ثم أقبل على الوليد فقال: يا وليد، اتق الله فيما أخلفك فيه، واحفظ وصيتي، وخذ بأمري، وانظر أخي معاوية، فإنه ابن أمي، وقد ابتلي في عقله بما قد علمت، ولولا ذلك لآثرته بالخلافة عليك، فصل رحمه واعرف حقه، واحفظني فيه. وانظر أخي محمد بن مروان فأقرره على عمله بالجزيرة ولا تعزله عنه، وانظر أخاك عبد الله بن عبد الملك، ولا تؤاخذه بشيء كان في نفسك عليه، واقرره على عمله بمصر. وانظر ابن عمنا هذا علي بن عبد الله بن عباس فإنه قد انقطع إلينا بمودته وهواه ونصيحته، وله نسب وحق، فصل رحمه، واعرف حقه، وأحسن صحبته وجواره. وانظر الحجاج بن يوسف فأكرمه فإنه هو الذي وطئ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك على من ناوأك، فلا تسمعن فيه قول أحد، واجعله الشعار دون الدثار، وإن كان في نفسك عليه إحنة فلا تؤاخذه بها، فإن الإحنة ليست من الخلافة في شيء، وأنت إليه أحوج منه إليك، وإلا ألفينك إذا أنا مت تعصر عينيك، وتحن كما تحن الأمة، شمر وائتزر وألبس جلد النمر، وضعني في حفرتي، وخلني وشأني، وعليك بشأنك، وخذ سيفي هذا، فإنه السيف الذي قتلت به عمرو بن سعيد، وادع الناس إلى البيعة، فمن قال بسيفه هكذا فقل بسيفك هكذا، ثم تمثل بقول عيسى بن زيد حيث يقول:
فهل من خالد اما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
فلم يزل يردد هذا البيت حتى طفئ، فقام هشام بعد موته وكان أصغر الأربعة من ولده يقول:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
فلطمه الوليد وقال: اسكت يا ابن الأشجعية فإنك أحول أكشف تنطق بلسان شيطانك، ألا قلت كما قال أخو بني أسد بن حجر حيث يقول:
إذا مقرم منا ذرا حد نابه ... تخمط فينا ناب آخر مقرم
قال: فقال مسلمة: فيم الصياح إنكم إن صلحتم صلح الناس بكم، وإن فسدتم فالناس إلى الفساد أسرع، ثم قال: أوه، وأنشد:
لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى ... على يومه علق إلي حبيب
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلي لقد عادت لهن ذنوب
أتى دون حلو العيش حتى أمره ... كروب على آثارهن كروب
فقال سليمان: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله أمير المؤمنين، فأصبح بمنزلة هو فيها والذليل سواء. وسمع الناس الداعية، فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى أخرجت الجنازة، وخرج الوليد في أثرها وهو محرم، فنظر إلى سعيد بن عمرو بن سعيد يحمل السرير، فقال: أشماتة يا ابن اللخناء، ثم قصده بالقضيب، فحاصره فحذفه. فلما دفن عبد الملك صعد الوليد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا لها من مصيبة ما أعظمها وأفجعها وأخصها وأعمها وفاة أمير المؤمنين، ويا لها نعمة ما أجلها وأوجب الشكر لله عليها خلافة سربلنيها، فإن لله وإنا إليه راجعون على الزرية، والحمد لله على العطية.
ثم قام رجل من ثقيف والناس لا يدرون أيبتدئونه بالتعزية أم بالتهنئة، فقال: أصبحت يا أمير رزيت خير الآباء، وسميت بخير الأسماء، وأعطيت خير الأشياء، فعزم الله لك الصبر، وأعطاك في ذلك نوافل الأجر، وأعانك في حسن ثوابه على الشكر، قال: ممن أنت؟ قال: من ثقيف، قال: في كم أنت من العطاء؟ قال: في مائة، فزاده وجعله في أشرف العطاء، فكان أول من قضى له الوليد حاجة ذلك الثقفي، ثم تسايل الناس عليه بالتعزية والتهنئة.
وقد روينا أن عبد الملك كان يقول: أخاف الموت في شهر رمضان لأنني ولدت فيه، وفطمت فيه، وأعذرت فيه، واحتملت فيه، وختمت القرآن فيه، وأتتني الخلافة فيه، فكان موته في نصف شوال من هذه السنة حين ظن أنه آمن من الموت، وصلى عليه الوليد، ودفن بالجابية وهو ابن إحدى وستين سنة.
وقيل: أربع وستين، وقيل: سبع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين.
واستقامت له الخلافة منذ أجمع عليه بعد قتل ابن الزبير إلى وقت وفاته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر، وعلى حساب بيعته بعد موت أبيه إحدى وعشرين سنة وستة عشر يوماً. وقيل اثنتين وعشرين سنة ونصفاً.
ثم دخلت
سنة سبع وثمانين
فمن الحوادث فيها أن:
الوليد بن عبد الملك عزل هشام بن إسماعيل عن المدينة
فورد عزله عنها في ليلة الأحد لسبع ليال خلون من شهر ربيع الأول، وكانت إمارته عليها أربع سنين غير شهر أو نحوه.
وفيها:


ولي عمر بن عبد العزيز المدينة
فقدم والياً في ربيع الأول وهو ابن خمس وعشرين سنة، فقدم على ثلاثين بعيراً، فنزل دار مروان، فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن سليمان بن خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد، فدخلوا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً استعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرج على من بلغه ذلك إلا بلغني، فجزوه خيراً وانصرفوا.
وفيها: كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان سيئ الرأي فيه، فقال سعيد بن المسيب لولده ومواليه: إن هذا الرجل وقف للناس فلا يتعرض له أحد ولا يؤذه بكلمة، فإنا سنترك ذلك لله وللرحم، فأما كلامه فلا أكلمه، أبداً، فوقف عند دار مروان، وكان قد لقي منه علي بن الحسين أذى كثيراً، فتقدم إلى خاصته ألا يعرض له أحد بكلمة، فمر عليه علي فناداه هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
وفيها: غزا مسلمة أرض الروم في عدد كثير، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وفتح الله على يديه حصوناً.
وقيل: إن الذي غزا الروم في هذه السنة هشام بن عبد الملك، وساق الذراري والنساء.
وفيها: غزا قتيبة بن مسلم بيكند وعبر النهر فاستنصروا عليه الصغد، وأخذوا بالطرق، فلم ينفذ له رسول، ولم يصل إليه رسول شهرين، وأبطأ خبره على الحجاج، فأمر الناس بالدعاء في المساجد، ونهض قتيبة يقاتل العدو فهزموا عدوهم، وركبهم المسلمون قتلاً وأسراً، وأراد هدم مدينتهم، فصالحوه واستعمل عليهم رجلاً ثم سار عنهم مرحلة أو مرحلتين، فنقضوا وقتلوا العامل فبلغه الخبر فرجع وقاتلهم شهراً، فطلبوا الصلح، فأبى وظفر بهم عنوة فقتل مقاتلتهم وأصاب في المدينة من الأموالوأواني الذهب والفضة ما لا يحصى، ورجع قتيبة إلى مرو، وقوي المسلمون واشتروا السلاح.
وفي هذه السنة: حج بالناس عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة، وكان على قضاء المدينة أبو بكر بن عمرو، وكان العراق والمشرق كله للحجاج، وكان خليفته على البصرة الجراح بن عبد الله، وعلى قضائها عبد الله بن أذينة، وعامله على الحرب بالكوفة زياد بن جرير بن عبد الله، وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى الأشعري، وعلى خراسان قتيبة.
أخبرنا أبو منصور القزاز بإسناد له عن الأصمعي، قال: كان اعرابيان متواخيين بالبادية غير أن أحدهما استوطن الريف والآخر اختلف إلى باب الحجاج بن يوسف فاستعمل على أصفهان، فسمع أخوه الذي بالبادية فضرب إليه فأقام ببابه حيناً لا يصل إليه، ثم أذن له بالدخول وأخذه الحاجب فمشى به وهو يقول: سلام على الأمير، فلم يلتفت إلى قوله، وأنشأ يقول:
فلست مسلماً ما دمت حيا ... على زيد بتسليم الأمير
فقال زيد: لا أبالي، فقال الأعرابي:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة ... وإذ نعلاك من جلد البعير
فقال: نعم. فقال الأعرابي:
فسبحان الذي أعطاك ملكاً ... وعلمك الجلوس على السرير
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي الكعبي كناه البخارى أبا سعيد، وكناه ابن سعد أبا إسحاق: ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع من أبي الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة. وكان أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت. روى عنه الزهري، وكان ثقة سكن الشام وبها توفي.
مطرف بن عبد الله بن الشخير، أبو عبد الله روى عن عثمان، وعلي، وأبي، وأبي ذر. وكان ثقة ذا فضل وورع وعقل وافر. وكان أكبر من الحسن البصري بعشرين سنة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد بإسناد له، عن مهدي بن ميمون، قال: حدثنا غيلان، قال: كان مطرف يلبس البرانس، ويلبس المطارف، ويركب الخيل ويغشى السلطان، غير أنك كنت إذا أفضيت إليه أفضيت إلى قرة عين.


حدثنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: حدثنا الحسن بن علي، قال: حدثنا جعفر بن أحمد بن حمدان، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، قال: كان مطرف بن عبد الله إذا دخل بيته سبحت معه آنية بيته.
قال أحمد بن حنبل: وحدثنا بهز بن أسد، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا ثابت، قال: مات عبد الله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد أدهن فغضبوا وقالوا: يموت عبد الله ثم تخرج في ثياب مثل هذه ومدهناً؟ قال: أفأستكين لها وقد وعدني ربي تبارك وتعالى ثلاث خصال كل خصلة منها أحب إلي من الدنيا وما فيها: قال الله تعالى: " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " أفأستكين بعد هذا قال: فهانت.
وقال مطرف: ما من شيء أعطى به في الآخرة قدر كوز من ماء وددت أنه أخذ مني في الدنيا.
وروي عن ثابت البناني ورجل آخر قد سماه: أنهما دخلا على مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو مغمى عليه، قال: فسطعت منه ثلاثة أنوار: نور من رأسه، ونور من وسطه، ونور من رجليه. قال: فهالنا ذلك، فأفاق فقلنا: كيف تجدك يا أبا عبد الله، قال: صالح قلنا: لقد رأينا شيئاً هالنا، قال: وما هو؟ قلنا: أنوار سطعت منك، قال: وقد رأيتم ذلك؟ قلنا: نعم، قال تلك ألم تنزيل السجدة وهي تسع وعشرون آية، سطع أولها من رأسي، وأوسطها من وسطي، وآخرها من قدمي، وقد صعدت لتشفع لي، وهذه تبارك تحرسني.
نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة، أبو سعد القرشي يروي عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، قال: أخبرنا المخلص، قال: حدثنا أحمد بن سليمان بن داود، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني مصعب بن عبد الله، قال: كان نوفل بن مساحق من أشراف قريش، وكانت له ناجية من الوليد بن عبد الملك، وكان الوليد يعجبه الحمام ويتخذه له ويطير له، فأدخل نوفل عليه وهو عند الحمام، فقال له الوليد: إني خصصتك بهذا المدخل لأنسي بك، فقال: يا أمير المؤمنين، والله إنك ما خصصتني ولكن خسستني، إنما هذه عورة، وليس مثلي يدخل على مثل هذا. فسيره إلى المدينة وغضب عليه. وكان يلي المساعي، فأخذه بعض الأمراء في الحساب. فقال: أين الغنم؟ قال: أكلناها بالخبز، قال: فأين الإبل؟ قال: حملنا عليها الرحال. وكان لا يرفع للأمراء من المساعي شيئاً يقسمها ويطعمها، وكان ابنه من بعده سعد بن نوفل يسعى على الصدقات.
ثم دخلت
سنة ثمان وثمانين
فمن الحوادث فيها: أن مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد فتحا حصناً من حصون الروم يدعى طوانة في جمادى الآخرى، وهزموا العدو هزيمة بلغوا فيها إلى كنيستهم، ثم رجعوا فانهزم الناس حتى ظنوا أنهم لا يجتبرونها أبداً، وبقي العباس معه نفير؛ منهم ابن محيريز الجمحي، فقال العباس لابن محيريز: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟ فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك، فنادى العباس: يا أهل القرآن، فأقبلوا جميعاً، فهزم الله العدو حتى دخلوا طوانة، وشتوا بها.
وفيها: أمر الوليد بن عبد الملك بهدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدم بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدخالها في المسجد.
فقدم الرسول إلى عمر بن عبد العزيز في ربيع الأول. وقيل: في صفر - سنة ثمان وثمانين بكتاب الوليد يأمره بإدخال حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يشتري ما في مؤخره ونواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع، ويقول له: قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، فإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فمر أهل المصر فليقوموه قيمة عدل، ثم اهدم عليهم وادفع لهم الأثمان، فإن لك في ذلك سلف صدق؛ عمر وعثمان.
فأقرأهم كتاب الوليد وهم عنده، فأجاب القوم إلى الثمن، فأعطاهم إياه، وبدأ بهدم بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يمكث إلا يسيراً حتى قدم الفعلة، بعث بهم الوليد.


وبعث الوليد إلى صاحب الروم يعلمه أنه أمر بهدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعينه فيه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال من ذهب، وبمائة عامل، وبأربعين حملاً من الفسيفساء، فبعث به إلى عمر، وتجرد عمر لذلك، واستعمل صالح بن كيسان على ذلك.
أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أنبأنا الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد الهذلي، قال: رأيت منازل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة في خلافة عبد الملك، فزادها في المسجد، وكانت بيوتاً باللبن، ولها حجر من جريد مطرود بالطين، عددت تسعة أبيات بحجرها وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزل أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله، ورأيت بيت أم سلمة وحجرتها من لبن، فسألت ابن ابنها، فقال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل بنت أم سلمة حجرتها بلبن، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى اللبن فدخل عليها أول نسائه، فقال: " ما هذا البناء؟ " قالت: أردت يا رسول الله أن أكف أبصار الناس، فقال: " يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان " .
قال محمد بن عمر: حدثني معاذ بن محمد الأنصاري، قال: سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس، يقول وهو فيما بين القبر والمنبر: أدركت حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرائد النخل، على أبوابها المسوح بن شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ، يأمر بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت يوماً باكياً أكثر بكاء من ذلك اليوم.
قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ: والله لوددت أنهم تركوها على حالها فينشأ ناشئ من أهل المدينة، ويقدم القادم من الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس من التكاثر والتفاخر فيها.
قال معاذ: فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه، قال عمر بن أنس: كان بينها أربعة أبيات بلبن، لها حجر من جرائد، وكانت خمسة أبيات من جرائد مطينة لا حجر لها، على أبوابها المسوح من الشعر ذرعت الستر منها فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع، فأما ما ذكرت من كثرة البكاء فلقد رأيت في مجلس فيه نفر من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، وخارجة بن زيد بن ثابت، وانهم ليبكون حتى أخضل لحاهم الدمع.
وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تركت فلم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء، ويرون ما رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومفاتيح خزائن الدنيا بيده.
وفي هذه السنة: كتب الوليد إلى عمر بحفر الآبار بالمدينة.
وبعمل الفوارة التي عند دار يزيد بن عبد الملك، فعملها وأجرى ماءها، فلما حج الوليد وقف فنظر إليها فأعجبته، وأمر أن يسقى أهل المسجد منها.
وفي هذه السنة: بنى الوليد مسجد دمشق فانفق عليه مالاً عظيماً.
أنبأنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد السمرقندي، قال: أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الكناني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الحسين الدوري، قال: حدثنا أبو عمر محمد بن موسى بن فضالة، قال: حدثنا أبو قصي سعيد بن محمد بن إسحاق العدوي، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، قال: حدثنا الوليد بن مسلم. عن عمرو بن مهاجر، وكان على بيت مال الوليد بن عبد الملك، أنهم حسبوا ما أنفق على الكرمة التي في قبلة مسجد دمشق فكانت سبعين ألف دينار.
قال أبو قصي: وحسبوا ما أنفق على مسجد دمشق، وكان أربعمائة صندوق، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار.


قال أبو قصي: وأتاه حرسته فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن أهل دمشق يتحدثون أن الوليد أنفق الأموال في غير حقها، فنادى: الصلاة جامعة، وخطب الناس فقال: إنه بلغني حرستي أنكم تقولون إن الوليد أنفق الأموال في غير حقها الأ يا عمر بن مهاجر قم فأحضر ما قبلك من الأموال من بيت المال، قال: فأتيت البغال تحمل المال، وتصب في القبلة على الأنطاع حتى لم يبصر من في الشام من في القبلة، ولا من في القبلة من في الشام، وأتت الموازين - يعني القبابين فوزنت الأموال، وقال لصاحب الديوان: أحضر من قبلك ممن يأخذ رزقنا، فوجدوا ثلاثمائة ألف ألف في جميع الأمصار، وحسبوا ما يصيبهم فوجد عنده رزق ثلاث سنين، ففرح الناس وكبروا وحمدوا الله عز وجل، وقال: إلى ما تذهب هذه الثلاث سنين قد أتانا الله بمثله ومثله، ألا وأني إنما رأيتكم يا أهل الشام تفخرون على الناس بأربع خصال فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس، تفخرون على الناس بمائكم، وهوائكم، وفاكهتكم، وحماماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس، فاحمدوا الله تعالى فانصرفوا وهم شاكرين داعين.
وقد حكى محمد بن عبد الملك الهمداني، أن الجاحظ حكى عن بعض السلف أنه قال: ما يجوز أن يكون أحد أشد شوقاً إلى الجنة من أهل دمشق لما يرون من حسن مسجدهم.
قال: ودخله المأمون ومعه المعتصم ويحيى بن أكثم، فقال المأمون: أي شيء يعجبكم من هذا المسجد؟ فقال المعتصم: ذهبه فإنا نصنعه فلا تمضى عشرون سنة حتى يتحول، وهذا بحاله كأن الصانع قد فرغ منه الآن، فقال: ما أعجبني هذا، فقال يحيى بن أكثم: الذي أعجبك يا أمير المؤمنين تأليف رخامه فإن فيه عقوداً ما يرى مثلها، قال: كلا، بل أعجبني أنه شيء على غير مثال شوهد.
قال: وأمر الوليد أن يسقف بالرصاص، فطلب من كل البلاد، وبقيت قطعة لم يوجد لها رصاص إلا عند امرأة، فأبت أن تبيعه إلا بوزنه ذهباً، فقال: اشتروه منها ولو بوزنه مرتين، ففعلوا ووزنوا مثله، فلما قبضته قالت: إني ظننت من صاحبكم أنه يظلم الناس في بنائه فلما رأيت إنصافه رددت الثمن. فلما بلغ ذلك الوليد أمر أن يكتب على صفائح المرأة لله، ولم يدخله فيما عمله، وفيما كتب عليه اسمه.
قال محمد بن عبد الملك: وقد قيل إنه أنفق عليه خراج الدنيا ثلاث مرات، وأنه بلغ ثمن البقل الذي أكله الصناع فيه ستة آلاف دينار، وكان فيه ستمائة سلسلة ذهب، فلم يقدر أحد أن يصلي فيه لعظم شعاعها فدخنت.
وعمل هذا الجامع في تسع سنين.
قال: وقال موسى بن حماد البربري: رأيت في مسجد دمشق كتاباً بالذهب في الزجاج محفوراً عليه سورة ألهاكم التكاثر إلى آخرها، ورأيت جوهرة حمراء ملصقة في قاف المقابر، فسألت عن ذلك، فقيل لي: كان للوليد ابنة ولها هذه الجوهرة، وكانت ابنة نفيسة فماتت، فأمرت أمها أن تدفن هذه الجوهرة معها في قبرها، فأمر الوليد بها فصيرت في قاف المقابر من ألهاكم التكاثر، ثم حلف لأمها أنه قد أودعها في المقابر فسكتت.
وفي هذه السنة: حبس الوليد المجذمين أن يخرجوا على الناس، وأجرى عليهم أرزاقاً.
وفيها: غزا مسلمة الروم ففتح على يديه حصوناً، وقتل من المستعربة نحو من ألف مع سبي الذرية وأخذ الأموال.
وفيها: حج بالناس عمر بن عبد العزيز، فأحرم من ذي الحليفة، وساق بدناً، فلما كان بالتنعيم لقيه نفر من قريش فأخبروه أن مكة قليلة الماء، وأنهم يخافون على الحاج العطش، فقال عمر: تعالوا ندعو الله تعالى فدعا ودعوا، فما وصلوا إلى البيت إلا مع المطر، فجاء سيل خاف منه أهل مكة، فكثر الخصب في تلك السنة. هذا في رواية الواقدي.
وزعم أبو معشر أن الذي حج بهم في هذه السنة عمر بن الوليد بن عبد الملك، وكان العمال على الأمصار من تقدم في السنة التي قبلها.
وما عرفنا من الأكابر أحداً توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة تسع وثمانين
فمن الحوادث فيها:
افتتاح المسلمين سورية
وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك
وذكر الواقدي أن مسلمة والعباس دخلا جميعاً في هذه السنة أرض الروم غازيين، ثم افترقا، فافتتح مسلمة حصن سورية، وافتتح أذرولية، ووافق من الروم جمعاً فهزمهم، وقصد مسلمة عمورية، وغزا الترك حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح حصوناً ومدائن وغزا العباس الصائفة من ناحية البدندون.
وفيها غزا قتيبة بخارى


ففتح بعض بلدانها، ولقيه الصغد فظفر بهم.
وفي هذه السنة: ابتدئ بالدعاء لبني العباس، وكان الدعاء لمحمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وسمي بالإمام، وكوتب وأطيع، ثم لم يزل الأمر ينمى ويقوى ويتزايد إلى أن توفي في سنة أربع وعشرين ومائة.
وفيها: حج بالناس عمر بن عبد العزيز، وكان العمال في هذه السنة على الأمصار من كان في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
ربيعة بن عباد الديلي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، غزا إفريقية مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة سبع وعشرين...
روى عنه محمد بن المنكدر، وأبو الزناد، وبكير بن الأشج، وغيرهم.
توفي بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك.
عبد الله بن محيريز، أبو محيريز أسند عن أبي سعيد، ومعاوية، وأبي محذورة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد بإسناده عن بشير بن صالح، قال: دخل ابن محيريز حانوتاً بدابق وهو يريد أن يشتري ثوباً، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز، فأحسن بيعه، فغضب ابن محيريز وخرج وقال: إنما نشتري بأموالنا لسنا نشتري بديننا.
عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا عاصم بن الحسن، قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال: أخبرنا أبو علي بن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر بن عبيد، قال: قال الحسن بن عثمان: سمعت أبا العباس الوليد يقول عن عبد الرحمن بن جابر، قال: كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية خلاً لعبد الملك بن مروان، فلما مات عبد الملك وتصدع الناس عن قبره وقف عليه، فقال: أنت عبد الملك الذي كنت تعدني فأرجوك، وتتوعدني فأخافك، أصبحت وليس معك من ملكك غير ثوبيك، وليس لك غير أربعة أذرع في عرض ذراعين من الأرض، ثم انكفأ إلى أهله واجتهد في العبادة حتى صار كأنه شن.
قال: فدخل عليه بعض أهله فعاتبه في نفسه وإضراره بها، وقال للقائل: أسألك عن شيء تصدقني عنه؟ قال: نعم، قال: أخبرني عن حالك التي أنت عليها، أترضاها للموت؟ قال: اللهم لا، قال: فعزمت على الانتقال منها إلى غيرها، قال؛ ما انتصحت رأي في ذلك، قال: أفتأمن أن يأتيك الموت على حالك التي أنت عليها، قال: اللهم لا، قال: فحال ما أقام عليها عاقل، ثم انكفأ إلى مصلاه.
عمران بن حطان السدوسي البصري روى عن أبي موسى، وابن عمر، وعائشة. وروى عنه محمد بن سيرين، ويحيى بن أبي كثير. وكان شاعراً.
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: أخبرنا علي بن محمد العلاف، قال: أخبرنا ابن بشران، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: أخبرنا محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا أحمد بن علي الأنباري، قال: أخبرنا الحسن بن عيسى، عن أبي الحسن المدائني، قال: دخل عمران بن حطان على امرأته - وكان عمران قبيحاً دميماً قصيراً - وقد تزينت، وكانت امرأة حسناء، فلما نظر إليها ازدادت في عينه حسناً، فلم يتمالك أن يديم النظر إليها، فقالت: ما شأنك، فقال: لقد أصبحت والله جميلة، فقالت: أبشر فإني وإياك في الجنة، قال: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وابتليت بمثلك فصبرت، والصابر، والشاكر في الجنة.
مذعور كان من كبار الصالحين. قال مطرف: ما تحاب اثنان في الله إلا كان أشدهما حباً لصاحبه أفضلهما، وأنا لمذعور أشد حباً، وهو أفضل مني، فكيف هذا؟ قال: فلما أمر بالرهط أن يخرجوا إلى الشام أمر بمذعور فيهم. قال: فلقيني فأخذ بلجام دابتي، فجعلت كلما أردت أن أنصرف منعني، فقلت: إن المكان بعيد، فجعل يحبسني، فقلت: أنشدك الله إلا تركتني فيم تحبسني، فلما نشدته قال: كلمة يخفيها جهده مني، اللهم فيك، فعرفت أنه أشد حباً لي منه.
يزيد بن مرثد، أبو عثمان الهمداني أسند عن معاذ، وأبي الدرداء. وكان كثير البكاء.
قرأت على أبي القاسم هبة الله بن أحمد الحريري، عن أبي طالب محمد بن علي بن الفتح العشاري، قال: أخبرنا أحمد بن محمد الخوارزمي، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا منصور بن عمار، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال:


قلت ليزيد بن مرثد: مالي لا أرى عيناك تجفان من الدموع، قال: وما سؤالك عن هذا؟ قلت: عسى أن ينفعني الله به، قال: هو ما ترى، قلت: هكذا تكون في خلواتك قال: والله إن ذلك ليعتريني وقد قرب إلي طعامي فيحول بيني وبين أكله، وإن ذلك ليعتريني وقد دنوت من أهلي فيحول بيني وبين ما أريد حتى تبكي أهلي لبكائي ويبكي صبياننا وما يدرون ما يبكينا، وحتى تقول زوجتي: يا ويحها، ماذا خصت به من نساء المسلمين من الحزن معك، ما ينفعني معك عيش، ولا تقر عيني بما تقر به عين النساء مع أزواجهن، قلت: يا أخي ما الذي أحوجك؟ قال: والله يا أخي لو أن الله تعالى لم يتواعدني إن أنا عصيته إلا أن يحبسني في حمام لكنت حرياً أن لا تجف لي دمعة، فكيف وقد تواعدني أن يسجنني في النار.
وروي عن سويد بن عبد العزيز، عن الوضين بن عطاء، قال: أراد الوليد بن عبد الملك أن يولي يزيد بن مرثد فبلغ ذلك يزيداً، فلبس فروة وقلبها فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجاً، وأخذ بيده رغيفاً وعرقاً، وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ولا نعل ولا خف، وجعل يمشي في الأسواق ويأكل، فقيل للوليد: يزيد قد اختلط، وأخبر بما فعل فتركه.
يحيى بن يعمر، أبو سليمان الليثي البصري كان صاحب علم بالقرآن والعربية. روى عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي الأسود الديلي. وروى عنه عبد الله بن أبي بريدة، وإسحاق بن سويد. ونزل مرو، وولي القضاء، وكان عالماً فصيحاً ثقة.
قال الأصمعي: كان يحيى قاضياً فتقدم إليه رجل وامرأته، فقال يحيى للرجل: أرأيت إن سألتك حق شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها. قال: يقول الرجل لامرأته: لا والله لا أدري ما يقول قومي حتى تنصرف شبرة تطلها: تبطل حقها. وتضهلها: تعطيها حقها قليلاً قليلاً، والكناية بالشكر والشبر عن النكاح.
ثم دخلت
سنة تسعين
فمن الحوادث فيها: غزوة مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح حصوناً خمسة بسورية.
وفيها: غزا العباس بن الوليد حتى بلغ الأردن، وقيل: بل بلغ سورية.
وفيها: قتل محمد بن القاسم الثقفي ملك السند، وكان على جيش من قبل الحجاج.
وفيها: ولى الوليد قرة بن شريك على مصر موضع عبد الله بن عبد الملك.
وفيها: أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فذهبوا به إلى ملكهم، فأهداه ملك الروم إلى الوليد بن عبد الملك.
وفيها: فتح قتيبة بن مسلم بخارى وهزم جموع العدو بها.
وفيها: جدد قتيبة الصلح بينه وبين طرخون ملك الصغد. وذلك أنه لما أوقع قتيبة بأهل بخارى ففض جمعهم هابه أهل الصغد، فرجع طرخون ملك الصغد حتى وقف قريباً من عسكر قتيبة وبينهم نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلاً يكلمه، فبعث قتيبة إليه رجلاً، فسأل الصلح على فدية يؤديها، فأجابه قتيبة.
وفيها: غدر نيزك، فنقض الصلح الذي كان بينه وبين المسلمين، وامتنع بقلعة، فغزاه قتيبة.
وذلك أن قتيبة فصل من بخارى ومعه نيزك وقد ذعره ما رأى من الفتوح، وخاف قتيبة فاستأذنه في الرجوع إلى بخارى فأذن له، فذهب وخلع قتيبة وكتب إلى جماعة من الملوك منهم ملك الطالقان فوافقوه على ذلك وواعدوه الغزو معه في الربيع، فبعث قتيبة أخاه عبد الله إلى بلخ في إثني عشر ألفاً، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئاً، فإذا انكسر الشتاء فعسكر، واعلم أني قريباً منك، فدخل قتيبة الطالقان، فأوقع بأهلها البلاء، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسغ في نظام واحد.
وقيل: كان هذا في سنة إحدى وتسعين.
وفي هذه السنة: هرب يزيد بن المهلب بإخوته الذين كانوا في سجن الحجاج.
فلحقوا بسليمان بن الملك مستجيرين به من الحجاج، والوليد بن عبد الملك.


وسبب ذلك وسبب خلاصهم أن الحجاج خرج إلى رستقباذ للبعث، لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على عامة أرض فارس، فخرج بيزيد وبإخوته المفضل وعبد الملك حتى قدم بهم رستقباذ، فجعلهم في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريباً من حجرته، وجعل عليهم حرساً من أهل الشام، وأغرمهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، وكان يزيد يصبر صبراً حسناً، وكان ذلك يغيظ الحجاج، فبعثوا إلى مروان بن المهلب وهو بالبصرة ليهيئ لهم الخيل، وصنع يزيد طعاماً كثيراً، فأطعم الحرس وسقاهم، ولبس يزيد ثياب طباخه، ووضع على لحيته لحية بيضاء وخرج فرآه بعض الحرس في الليل فقال: كأنه يزيد، ثم طالعه فقال: هذا الشيخ. وخرج المفضل في أثره ولم يفطن له، فجاءوا إلى سفن قد هيئوها في البطائح، وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخاً، فأبطأ عليهم عبد الملك وشغل عنهم، ثم جاء فركبوا السفن وساروا ليلتهم حتى أصبحوا، ولما أصبح الحرس علموا بذهابهم، ورفع ذلك إلى الحجاج، ففزع وذهب وهمه إلى أنهم ذهبوا قبل خراسان، وبعث إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم، ويأمره أن يستعد لهم، وكان يظن أن يزيد يريد ما أراد ابن الأشعث، ولما دنا يزيد من البطائح استقبلته الخيل، قد هيئت له ولأخوته، فخرجوا عليها ومعهم دليل من كلب، فأخذ بهم على السماوة، فنزل يزيد على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي، وكان كريماً على سليمان، فجاء وهيب حتى دخل على سليمان، فقال: هذا يزيد وإخوته في منزلي وقد أتوا هراباً من الحجاج متعوذين بك، قال: فأتني بهم فإنهم آمنون، لا يوصل إليهم أبداً وأنا حي، فجاء بهم حتى أدخلهم عليه.
وكتب الحجاج: إن آل المهلب خانوا مال الله عز وجل وهربوا مني ولحقوا بسليمان، وكان الوليد قد أمر الناس بالتهيؤ إلى خراسان ظناً منه أن يزيد قد ذهب إلى ثم، فلما عرف هذا هان عليه الأمر، وكتب سليمان إلى الوليد: إنما على يزيد ثلاثة آلاف ألف، والحجاج قد أغرمهم ستة آلاف ألف، فأدوا ثلاثة آلاف ألف، وبقي ثلاثة آلاف ألف، فهي علي.
فكتب إليه: لا والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي، فكتب إليه: لئن أنا بعثت به إليك لأجيئن معه، فأنشدك الله أن تفضحني ولا تخفرني. فكتب إليه: والله لئن جئتني لا أؤمنه. فقال يزيد: ابعثني إليه، والله ما أحب أن أوقع بينك وبينه عدواة، فابعثني وأرسل معي ابنك، واكتب إليه باللطف. فأرسل معه ابنه أيوب، فقال: يا أمير المؤمنين، نفسي فداؤك، لا تخفر ذمة أبي. فأمنه وعاد إلى سليمان، فمكث عنده تسعة أشهر وتوفي الحجاج.
وفي هذه السنة: حج بالناس عمر بن عبد العزيز، وكان عامل الوليد على مكة والمدينة والطائف، وكان على العراق والمشرق الحجاج بن يوسف، وكان عامل الحجاج على البصرة الجراح بن عبد الله، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى الكوفة زياد بن جرير بن عبد الله، وعلى قضائها ابن أبي موسى، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
رفيع أبو العالية الرياحي أعتقته امرأة من بني رياح. قال: كنت مملوكاً لأعرابية، فدخلت المسجد معها، فوافينا الإمام على المنبر، فقبضت على يدي وقالت: اللهم أذخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله، ثم ذهبت، فما تراءينا بعد.
أسند أبو العالية عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي، وأبي موسى، وأبي هريرة، وابن عباس. وكان عالماً ثقة.
أخبرنا ابن ناصر بإسناده عن سفيان بن عيينة، عن عاصم، قال: كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام.
عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وكان شاعراً مجيداً، وهو القائل لما بلغ بلكثة الشام.
بينما نحن في بلاكث بالقاع ... سراعاً والعيش تهوي هويا
خطرت خطرة على القلب ... من ذكراك وهناً فما أطقت مضيا
قلت للشوق إذ دعاني لبي ... ك وللحادثين ردي المطيا
مرثد بن عبد الله، أبو الخير الكلاعي اليزني يروي عن أبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وعقبة بن عامر، ومالك بن هبيرة، وعمرو بن العاص، وغيرهم.
وكان مفتي أهل مصر في أيامه.
توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة إحدى وتسعين
فمن الحوادث فيها: غزاة عبد العزيز بن الوليد الصائفة.


وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك.
وفيها: غزا مسلمة الترك.
حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح على يديه مدائن وحصون.
وفيها: سار قتيبة إلى مرو الروذ.
فبلغ الخبر إلى مرزبانها، فهرب إلى الفرس، فقدم قتيبة فأخذ ابنين له فقتلهما وصلبهما، ومضى إلى الفارياب، فخرج إليه ملك الفارياب مذعناً مطيعاً فرضي عنه واستعمل عليها رجلاً من باهلة، وبلغ الخبر صاحب الجوزجان، فترك أرضه وخرج إلى الجبال هارباً، وسار قتيبة إلى الجوزجان، فلقيه أهلها مطيعين، فقبل منهم واستعمل عليها عامر بن مالك، وما زال ينصب المنجنيق على بلدة، ويحرق بلدة، ويبالغ في الجهاد حتى قتل في مكان واحد اثني عشر ألفاً.
وفي هذه السنة: ولى الوليد خالد بن عبد القسري مكة.
فلم يزل والياً إلى أن مات الوليد، فخطب خالد الناس في ولايته، فقال: إني والله ما أوتي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا محمد بن عامر بن بكير، قال: أخبرنا هارون بن عيسى بن المطلب الهاشمي، قال: أخبرنا إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى، قال: حدثنا محمد بن الوليد المخزومي، قال: حدثنا القاسم بن أبي سفيان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن حبيب بن أبي حبيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت خالد بن عبد الله القسري يخطب الناس فقال: من كان منكم يريد أن يضحي فلينطلق فليضح فبارك الله له في أضحيته، فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فسبحان الله عما يقول الجعد علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه.
وفي هذه السنة: حج الوليد بن عبد الملك. قال الواقدي: حدثني موسى بن أبي بكر، قال: حدثنا صالح بن كيسان، قال: لما حضر قدوم الوليد أمر عمر بن عبد العزيز عشرين رجلاً من قريش يخرجون معه، فخرجوا فلقوه بالسويداء، فلما دخل إلى المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بنائه، فأخرج الناس منه، فما ترك فيه أحد، وبقي سعيد بن المسيب ما يجترئ أحد من الحرس أن يخرجه، وما عليه إلا ريطتان ما تساويان خمسة دراهم في مصلاه، فقيل له: لو قمت، قال: والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه، فقيل له: لو سلمت على أمير المؤمنين، فقال: لا والله لا أقوم إليه.
قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد رجاء ألا يرى سعيد بن المسيب حتى يقوم، فحانت من الوليد التفاتة - أو قال: نظرة - إلى القبلة، فقال: من ذلك الجالس؟ أهو الشيخ سعيد بن المسيب؟ فقال عمر: نعم يا أمير المؤمنين، من حاله ومن حاله.... ولو علم مكانك لقام مسلماً عليك، فدار في المسجد حتى وقف على القبر، ثم أقبل حتى وقف على سعيد بن المسيب، فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فوالله ما تحرك سعيد ولا قام فقال: بخير والحمد لله، فكيف أمير المؤمنين وكيف حاله؟ فقال الوليد: بخير والحمد لله فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس، فقال: أجل يا أمير المؤمنين.
وقسم الوليد بالمدينة رقيقاً كثيراً بين الناس، وآنية من ذهب وفضة وأموالاً، وخطب بها يوم الجمعة وصلى بهم.
قال الواقدي: وقدم بطيب وكسوة للكعبة.
قال المدائني: وحج محمد بن يوسف من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين للوليد: اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها، فجاءت أم البنين إلى محمد فيها، فأبى وقال: حتى ينظر إليها أمير المؤمنين فيرى رأيه، وكانت هدايا كثيرة، فقالت: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت بهدايا محمد أن تصرف إلي ولا حاجة لي فيها، قال: ولم، قالت: بلغني أنه غصبها وكلفهم عملها وظلمهم، وحمل محمد المتاع إلى الوليد، فقال له: بلغني أنك أصبتها غصباً، قال: معاذ الله، فأمر فاستحلف بين الركن والمقام خمسين يميناً أنه ما غصب شيئاً منها ولا ظلم أحداً ولا أصابها إلا من طيب، فحلف فقبلها الوليد ودفعها إلى أم البنين. ومات محمد باليمن، أصابه داء انقطع منه.
وكان عمال الأمصار في هذه السنة من تقدم في السنة التي قبلها، غير مكة، فإن الواقدي يقول: كان عاملها خالد بن عبد الله القسري. وقال غيره: بل كان عمر بن العزيز.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


أمه خولة بنت منظور بن زبان. تزوج فاطمة بنت الحسين، فولدت له عبد الله، وتوفي عنها، فخلف عليها عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان.
سهل بن سعد الساعدي توفي في هذه السنة عن خمس وسبعين سنة.
عمر بن يوسف، أخو الحجاج توفي باليمن والياً عليها، وتوفي بعده بستة أيام.
محمد بن الحجاج فقال الحجاج يرثيه:
وحسبي بقاء الله من كل ميت ... وحسبي بقاء الله من كل هالك
إذا ما أتيت الله عني راضياً ... فإن شفاء النفس فيما هنالك
ثم دخلت
سنة اثنتين وتسعين
فمن الحوادث فيها: غزوة عمر بن الوليد ومسلمة أرض الروم، ففتح على يد مسلمة ثلاث حصون، وجلا خلقاً كثيراً عن بلادهم.
وفيها: غزا طارق بن زياد الأندلس في اثني عشر ألفاً ففتحها وقتل الملك.
وفيها: حج بالناس عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة وكان عمال الأمصار الذين كانوا في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار: أمه أم سليم بنت ملحان. لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهبت به أمه إليه ليخدمه.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ذهبت بي أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله خويدمك ادع له، قال: " اللهم أكثر ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه " .
قال أنس: فقد دفنت من صلبي مائة غير اثنين - أو قال: مائة واثنين، وإن ثمرتي لتحمل في السنة مرتين، ولقد بقيت حتى سئمت الحياة، وأنا أرجو الرابعة.
قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: حدثنا أبي، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، قال: كان كرم أنس يحمل في كل سنة مرتين. وكان أنس يصلي فيطيل القيام حتى تقطر قدماه دماً.
قال ابن سعد: وحدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة الحرمي، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، قال: حدثنا ثابت البناني، قال: شكى قيم لأنس بن مالك في أرضه العطش، فصلى أنس فدعا، فثارت سحابة حتى غشيت أرضه فملأت صهريجه، فأرسل غلامه فقال: انظر أين بلغت هذه، فنظر، فإذا هي لم تعد أرضه.
قال: وأخبرنا يوسف بن العرق، قال: حدثنا صالح المري، عن ثابت، قال: كان أنس إذا أشفى على ختم القرآن من الليل بقي منه سور حتى يصبح فيختمه عند عياله.
قال: وحدثنا عفان، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا الثابت البناني، قال: كان أنس إذا ختم القرآن جمع ولده وأهله فدعا لهم.
قال: وأخبرنا عفان، قال: حدثنا خالد بن أبي عثمان، قال: حدثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس، قال: كان أنس إذا صلى المغرب لم يقدر عليه ما بين المغرب والعشاء قائماً يصلي.
توفي أنس بالبصرة في هذه السنة وهو ابن تسع وتسعين سنة. وقيل: ابن مائة وسبع سنين، وهو آخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبصرة، ورزق مائة ولد، ولا يعرف في الإسلام من ولد له من صلبه مائة سوى أربعة: أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر الليثي، وخليفة السعدي، وجعفر بن سليمان الهاشمي.
إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي من تيم الرباب، يكنى أبا أسماء: روى عن أبيه، والحارث بن سويد في آخرين، فكان عالماً عابداً.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن أحمد، قال: حدثنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد، قال: حدثنا عبد الله بن عمر، قال: حدثنا حفص الواسطي، قال: حدثنا العوام بن حوشب، قال: ما رأيت رجلاً قط خيراً من إبراهيم التيمي، وما رأيته رافعاً بصره إلى السماء في صلاة ولا غيرها، وسمعته يقول: إن الرجل ليظلمه، فارحمه.
أخبرنا ابن ناصر، وابن أبي عمر، قال: حدثنا رزق الله، وطراد، قالا: أخبرنا ابن بشران قال: حدثنا ابن صفوان، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنه سمع سفيان بن عيينة يقول: قال إبراهيم:


مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفسي، أي شيء تريدين؟ قالت: أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي.
أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، عن أبي محمد الجوهري، عن أبي عمر ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا علي بن محمد، قال: كان سبب حبس إبراهيم التيمي أن الحجاج طلب إبراهيم النخعي، فجاء الذي يطلبه، فقال: أريد إبراهيم، فقال إبراهيم التيمي: أنا إبراهيم، وهو يعلم أنه أراد النخعي، فلم يستحل أن يدله عليه، فجاء به إلى الحجاج فأمر بحبسه، ولم يكن لهم في الحبس ظل من الشمس، ولا كن من البرد، وكان كل اثنين في سلسلة، فتغير إبراهيم، فجاءته أمه في الحبس فلم تعرفه حتى كلمها، فمات في السجن فرأى الحجاج قائلاً يقول: مات في هذه الليلة رجل من أهل الجنة، فلما أصبح قال: هل مات الليلة أحد بواسط؟ قالوا: نعم، إبراهيم التيمي، قال: حلم نزعة من نزعات الشيطان، وأمر به فألقي على الكناسة، وذلك في هذه السنة.
وضاح اليمن أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: أخبرنا علي بن محمد العلاف، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: أخبرنا جعفر بن محمد الخرائطي، قال: حدثنا محمد بن أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن الضيف، عن أبي مسهر، قال: كان وضاح اليمن نشأ هو وأم البنين صغيرين، فأحبها وأحبته، وكان لا يصبر عنها حتى إذا بلغت حجبت عنه، وطال بهما البلاء، فحج الوليد بن عبد الملك فبلغه جمال أم البنين وأدبها فتزوجها ونقلها إلى الشام.
قال: فذهب عقل وضاح عليها وجعل يذوب وينحل فلما طال عليه البلاء خرج إلى الشام، فجعل يطوف بقصر الوليد بن عبد الملك في كل يوم لا يجد حيلة حتى رأى يوماً جارية صفراء، فما زال حتى أنس بها، فقال لها: هل تعرفين أم البنين؟ فقالت: إنك تسأل عن مولاتي، فقال: إنها لابنة عمي، فإنها تسر بمكاني وموضعي لو أخبرتها، قالت: إني أخبرها فمضت الجارية فأخبرت أم البنين، فقالت: ويلك، أحي هو؟ قالت: نعم، قالت: قولي له كن مكانك حتى يأتيك رسولي. فلن أدع الاحتيال لك، فاحتالت إلى أن أدخلته إليها في صندوق، فمكث عندها حيناً فإذا أمنت أخرجته، فقعد معها وإذا خافت عين رقيب أدخلته الصندوق.
فأهدي يوماً للوليد بن عبد الملك جوهر، فقال لبعض خدمه: خذ هذا الجوهر فامض به إلى أم البنين وقل لها: أهتدي هذا إلى أمير المؤمنين، فوجه به إليك.
فدخل الخادم من غير استئذان ووضاح معها، فلمحه ولم تشعر أم البنين، فبادر إلى الصندوق فدخله، فأدى الرسالة، إليها، وقال لها: هبي لي من هذا الجوهر حجراً، فقالت: لا أم لك، وما تصنع أنت بهذا؟ فخرج وهو عليها حنق فجاء الوليد فخبره الخبر ووصف له الصندوق الذي رآه دخله، فقال: كذبت، لا أم لك. ثم نهض الوليد مسرعاً فدخل إليها وهي في ذلك البيت وفيه صناديق، فجاء حتى جلس على ذلك الصندوق الذي وصف له الخادم، فقال لها: يا أم البنين، هبي لي صندوقاً من صناديقك هذه، فقالت: يا أمير المؤمنين، هي لك وأنا لك فقال لها: ما أريد غير هذا الذي تحتي، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن فيه شيئاً من أمور النساء، قال: ما أريد غيره، قالت: هو لك. فأمر به فحمل ودعا بغلامين وأمرهما بحفر بئر، فحفرا حتى إذا بلغا الماء وضع فمه على الصندوق وقال: أيها الصندوق، قد بلغنا عنك شيء فإن كان حقاً فقد دفنا خبرك ودرسنا أثرك، وإن كان كذباً فما علينا من دفن صندوق من حرج، ثم أمر به فألقي في الحفرة، وأمر بالخادم فقذف في ذلك المكان فوقه، وطم عليهما المكان. فكانت أم البنين توجد في ذلك المكان تبكي إلى أن وجدت فيه يوماً مكبوبة على وجهها ميتة.
وقد روى نحو هذه الحكاية هشام بن محمد بن السائب: أن أم البنين كانت عند يزيد بن عبد الملك، وإن قصة وضاح اليمن جرت له وهي عند يزيد.
ثم دخلت
سنة ثلاث وتسعين
فمن الحوادث فيها: غزاة العباس بن الوليد أرض الروم.
ففتح الله على يده بعضها، وغزاها أيضاً مسلمة فافتتح بلاداً منها.
وفيها: صالح قتيبة ملك خوارزم


قالوا: كان ملك خوارزم ضعيفاً فغلبه أخوه خرزاذ على أمره، وكان خرزاذ أصغر منه، فكان إذا بلغه أن عند أحد جارية أو دابة أو متاعاً فاخراً أرسل فأخذه، أو بلغه أن لأحد بنتاً أو أختاً أو امرأة جميلة أخذها، ولا يمتنع عليه أحد، ولا يمنعه الملك، فإذا قيل له، قال: لا أقوى عليه، فلما طال ذلك عليه كتب إلى قتيبة في السر يدعوه إلى أرضه ليسلمها إليه، وبعث إليه بمفتاح البلد واشترط عليه أن يسلم إليه أخاه وكل من يضاده، يحكم فيهم بما يرى، فرجعت الرسل بما يحب، وسار قتيبة مظهراً أنه يريد الصغد، فقال الملك لأصحابه: إن قتيبة يريد الصغد، فهل لكم أن نتنعم في ربيعنا هذا، فأقبلوا على التنعم والشراب، وأمنوا، فلم يشعروا إلا بقتيبة، فقال الملك: ما ترون؟ قالوا: نقاتله، قال: لا أرى ذلك لأنه قد عجز عنه من هو أقوى منا، ولكن نصرفه عنا بشيء نؤديه إليه، فصالحه على مال عظيم، وأخذ أخاه فدفعه إليه، ثم أتى قتيبة الصغد فصالحوه على ألفي ألف ومائتي ألف كل عام، وأن يبنى له فيها مسجد، ويضع فيه منبراً فيخطب عليه، ففعلوا، فدخل فخطب وصلى فقال: لست ببارح فاخرجوا، وجاءوه بالأصنام فأحرقها، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال، ودخل المسلمون مدينة سمرقند فصالحوهم. ثم ارتحل قتيبة راجعاً إلىمرو، واستخلف على سمرقند عبد الرحمن بن مسلم، وخلف عنده جنداً كثيفاً وآلة من آلات الحرب كثيرة.
وفي هذه السنة: عزل موسى بن نصير طارق بن زياد عن الأندلس.
فلقيه موسى في عشرة آلاف فترضى طارقاً فرضي عنه ووجهه إلى طليطلة - وهي من عظام مدائن الأندلس - وهي من قرطبة على عشرين يوماً - فأصاب فيها مائدة سليمان بن داود عليه السلام، وفيها من الذهب والجوهر ما الله به أعلم.
وفيها: أجدب أهل إفريقية جدباً شديداً.
فخرج موسى بن نصير فاستسقى بالناس، ودعا وخطب، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين، فقال: ليس هذا موضع ذلك، فسقوا سقياً كفاهم حيناً.
وفي هذه السنة: ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير بن العوام خمسين سوطاً.
وقيل: مائة سوط عن أمر الوليد بن عبد الملك بذلك، وصب على رأس قربة ماء بارد في يوم شات، ووقفه على باب المسجد، فمكث يوماً ومات.
وكان السبب أن خبيباً حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً " .
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب الدباس، قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قال: أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: كان خبيب قد لقي العلماء ولقي كعب الأحبار، وقرأ الكتب، وكان من النساك، وأدركه أصحابنا وغيرهم يذكرون أنه كان يعلم علماً كثيراً لا يعرفون وجهه ولا مذهبه فيه يشبه ما يدعى الناس من علوم النجوم.
قال عمي مصعب: وحدثت عن مولى لخالته أم هاشم بنت منظور يقال له يعلى بن عقبة، قال: كنت أمشي معه وهو يحدث نفسه إذ وقف ثم قال: سأل قليلاً فأعطي كثيراً، وسأل كثيراً فأعطي قليلاً، فطعنه فأراده فقتله، ثم أقبل علي فقال: قتل عمرو بن سعيد الساعة، ثم مضى، فوجدوا ذلك اليوم الذي قتل فيه عمرو بن سعيد.
وله أشباه هذا يذكرونها والله أعلم ما هي، وكان طويل الصمت قليل الكلام.
وكان الوليد بن عبد الملك قد كتب إلى عمر بن عبد العزيز إذ كان والياً على المدينة يأمره بجلده مائة سوط وبحبسه، فجلده عمر مائة سوط، وبرد له ماء في جرة، ثم صبها عليه في غداة باردة، فكن فمات فيها.
وكان عمر قد أخرجه من المسجد حين اشتد وجعه وندم على ما صنع، فانتقله آل الزبير في دار من دورهم.


قال عمي مصعب: وأخبرني مصعب بن عثمان أنهم نقلوه إلى دار عمر بن مصعب بن الزبير، واجتمعوا عنده حتى مات، فبينا هم جلوس إذ جاءهم الماجشون استأذن عليهم وخبيب مسجى بثوبه، وكان الماجشون يكون مع عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة، فقال عبد الله بن عروة: إئذنوا له، فلما دخل قال: كان صاحبك في مرية من موته، اكشفوا له عنه، فكشفوا له عنه، فلما رآه الماجشون انصرف. قال الماجشون: فانتهيت إلى دار مروان فقرعت الباب، فدخلت فوجدت عمر كالمرأة الماخض قائماً قاعداً، فقال لي: ما وراءك؟ فقلت: مات الرجل، فسقط إلى الأرض فزعاً، ثم رفع رأسه يسترجع، فلم تزل تعرف فيه حتى مات، فاستعفى من المدينة، وامتنع من الولاية، وكان يقال: إنك قد فعلت كذا فأبشر، فيقول: فكيف بخبيب.
وحدثني عمي قال: حدثني هارون بن أبي عبيد الله بن عبد الله بن مصعب، قال: سمعت أصحابنا يقولون: قسم فينا عمر بن عبد العزيز قسماً في خلافته خصنا به، فقال الناس: دية خبيب.
وفي هذه السنة: عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن المدينة.
وكان السبب في ذلك أن عمر كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج أهل علمه بالعراق، واعتدائه عليهم، وظلمه لهم بغير حق، فبلغ ذلك الحجاج فاضطغنه على عمر، وكتب إلى الوليد: إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق ولجأوا إلى المدينة، وإن ذلك وهن.
فكتب الوليد إلى الحجاج: أن أشر علي برجلين، فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حيان وخالد بن عبد الله، فولى خالداً مكة، وولى عثمان المدينة، وعزل عمر بن عبد العزيز، فخرج عمر بن عبد العزيز من المدينة معزولاً في شعبان هذه السنة، واستخلف حين خرج أبا بكر بن عمرو بن حزم، وجعل يقول لمولاه مزاحم: أتخاف أن تكون ممن نفته المدينة. ووليها عثمان بن حيان في شعبان إلا أنه قدم المدينة لليلتين مضيتا من شوال.
وفي هذه السنة: حج بالناس عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، وكانت العمال على الأمصار عمالها في السنة التي قبلها إلا بالمدينة فإن عمر وليها إلى شعبان، وعثمان بن حيان وليها من شعبان، ويقال: قدمها في سنة أربع وتسعين.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إياس بن قتادة التميمي، ابن أخت الأحنف بن قيس أسند عن قيس بن عباد، عن أبي بن كعب.
أنبأنا أبو بكر ابن أبي طاهر، عن أبي محمد الجوهري، عن ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرت عن معتمر بن سليمان، عن سلمة بن علقمة، قال: اعتم إياس بن قتادة وهو يريد بشر بن مروان، فنظر في المرآة فإذا بشيبة في دقنه، فقال: افليها يا جارية، ففلتها، فإذا هي بشيبة أخرى، فقال: أنظروا من بالباب من قومي فادخلوا عليه، فقال: يا بني تميم، إني كنت وهبت لكم شبيبتي، فهبوا لي شيبتي، ألا أراني حمير الحاجات وهذا الموت يقرب مني. ثم قال: انقضي العمامة فاعتزل يؤذن لقومه، ويعبد ربه، ولم يغش سلطاناً حتى مات.
زرارة بن أوفى الحرشي، يكنى أبا حاجب أسند عن أبي هريرة، وعمران، وابن عباس. وتوفي في هذه السنة فجأة.
أخبرنا محمد بن طاهر، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: أخبرنا أبو محمد بن ناسي، قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن علي الخراز، قال: حدثنا عبد الواحد بن غياث، قال: حدثنا أبو خباب القصار، قال: صلى بنا زرارة بن أوفى الفجر، فلما بلغ: " فإذا نقر في الناقور " شهق شهقة فمات.
عبد الرحمن بن يزيد بن جارية بن عامر الأنصاري وأمه جميلة بنت ثابت ابن أبي الأقلح، ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة واسمه حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، يكنى أبا الخطاب: وكان أبو ربيعة يسمى ذا الرمحين، سمي بذلك لطوله، كأنه يمشي على رمحين.
وقيل: بل قاتل في عكاظ برمحين، فسمي بذلك.
ولد عمر ليلة قتل عمر بن الخطاب، وكانت أمه وأم إخوته نصرانية. وأبو جهل بن هشام عم أبيه، وأم عمر بن الخطاب حثمة بنت هشام بن المغيرة بنت عم أبيه، وإخوته عبد الله، وعبد الرحمن، والحارث بنو عبد الله بن أبي ربيعة. وكان أخوه عبد الرحمن تزوج بنت أبي بكر الصديق بعد طلحة، وولدت له، وأعقب الحارث ولا عقب لعمر. وكان عمر شاعراً مجيداً.


روى الزبير بن بكار، قال: حدثني يعقوب ابن أبي إسحاق، قال: كانت العرب تقر لقريش بالتقدم في كل شيء عليها إلا في الشعر، فلما كان عمر أقرت له الشعراء بالشعر أيضاً.
وقال ابن جريج: ما دخل على العواتق في حجالهن شيء أضر عليهن من شعر عمر بن أبي ربيعة.
وقال هشام بن عروة: لا ترووا فتياتكم شعر عمر بن أبي ربيعة لا يتورطن في الزنا تورطاً.
وكان كثير التشبيب بالنساء، قلما يرى امرأة إلا ويتشبب بها تشبيب عاشق. وكان يحب زيارتهن، ويكثر مجالستهن، فممن شبب بهن سكينة بنت الحسين، فقال:
قالت سكينة والدموع ذوارف ... منها على الخدين والجلباب
ليت المغيري الذي لم أجزه ... فيما أطال تصيدي وطلابي
كانت ترد لنا المنى أيامه ... أولا تلوم على هوى وتصابي
أسكين ما ماء الفرات وطيبه ... مني على ظمأ وحب شراب
بألذ منك وقد نأيت وقلما ... ترعى النساء أمانة الغياب
وشبب بفاطمة بنت عبد الملك بن مروان، فقال:
افعلي بالأسير إحدى ثلاث ... وافهميهن ثم ردي جوابي
اقتليه قتلاً سريحاً مريحاً ... لا تكوني عليه سوط عذابي
أو اقتدي فإنما النفس بالنفس ... قضاء مفصلا في كتاب
أو صليه تقر به العين ... وشر الوصال وصل الكذاب
فأعطت الذي جاءها بالأبيات لكل بيت عشرة دنانير.
وحج عبد الملك فلقيه عمر، فقال له عبد الملك: يا فاسق، فقال: بئس تحية ابن العم على طول السخط، قال: يا فاسق، أما أن قريشاً لتعلم أنك أطولها صبوة وأبطأها توبة، ألست القائل:
ولولا أن تعنفني قريش ... فقال الناصح الأوفى الشقيق
لقلت إذا التقينا قبليني ... ولو كنا على ظهر الطريق
وكان أخوه الحارث خيراً عفيفاً، فعاتبه يوماً. قال عمر: وكنت على ميعاد من الثريا، فرحت إلى المسجد مع المغرب وجاءت الثريا للميعاد فتجد الحارث مستلقياً على الفراش، فألقت نفسها عليه وهي لا تشك أنه أنا، فوثب وقال: من هذه؟ قيل له: الثريا، قال: ما أرى عمر ينتفع بوعظنا، فلما جئت للميعاد، قال: ويحك كدنا نفتن بعدك، لا والله ما شعرت إلا وصاحبتك واقعة علي، قلت: لا تمسك النار أبداً، قال: عليك لعنة الله وعليها.
فلما تزوج سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الثريا، قال عمر:
أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: أخبرنا علي بن محمد بن العلاف، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي، قال: حدثنا إسماعيل بن أحمد بن معاوية الباهلي، عن أبيه، عن الأصمعي، عن أبي سفيان بن العلاء، قال: لما بصرت الثريا بعمر بن ربيعة وهو يطوف حول البيت فتنكرت وفي كفها خلوق، فرجمته فأثر الخلوق في ثوبه، فجعل الناس يقولون: يا أبا الخطاب، ما هذا بزي محرم، فأنشأ يقول:
أدخل الله رب موسى وعيسى ... جنة الخلد من ملاني خلوقا
مسحت كفها بجيب قميصي ... حين طفنا بالبيت مسحاً رفيقا
فقال له عبد الله بن عمر: مثل هذا القول تقول في هذا الموضع، فقال: يا أبا عبد الرحمن، قد سمعت مني ما سمعت، فورب هذه البنية ما حللت إزاري على حرام قط.
وقد روى محمد بن الضحاك: أن عمر بن أبي ربيعة لما مرض مرض الموت أسف عليه أخوه الحارث، فقال عمر: يا أخي إن كان أسفك لما سمعت من قولي قلت لها وقالت لي، فكل مملوك لي حر إن كان كشف فرجاً حراماً قط، فقال الحارث: الحمد لله طيبت نفسي، وكان له سبعون عبداً.
وقد روي عنه أنه لما كبر حلف ألا يقول بيت شعر إلا أعتق رقبة.
وروى الزبير بن بكار، عن محمد بن الضحاك، قال: عاش عمر بن أبي ربيعة ثمانين سنة فتك منها أربعين سنة، ونسك أربعين سنة.


وقد روى الزبير بن بكار، قال: حدثني مصعب بن عثمان: أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة لم تكن له همة إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص. فكتب إلى عامله على المدينة: إني قد عرفت عمر والأحوص بالخبث والشر، فإذا أتاك كتابي هذا فاشددهما واحملهما إلي - فلما أتاه الكتاب حملهما إليه فأقبل على عمر وقال: هيه فلم أر كالتجميز منظر ناظر كالرمي، فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون، أما والله لو أهممت بحجبك لم تنظر إلى شيء غيرك، ثم أمر بنفيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أو خير من ذلك، قال: وما هو؟ قال: أعاهد الله عز وجل ألا أعود لمثل هذا الشعر، ولا أذكر النساء في الشعر، وأجدد توبة على يديك، قال: أو تفعل؟ قال: نعم. فعاهد الله على توبته وخلاه.
ثم دعا بالأحوص، فقال: من يقول:
هي الله بيني وبين قيمها ... يفر مني بها وأتبعه
بل الله بين قيمها وبينك، ثم أمر بنفيه إلى دهلك، فلم يزل بها، فسئل في رده، فقال: والله لا أرده ما كان لي سلطان.
وقد اختلفوا في سبب موته على قولين: أحدهما: أن عمر بن عبد العزيز سيره إلى دهلك ثم غزا في البحر فأحرقت السفينة التي كان فيها، فاحترق هو ومن كان معه. ذكره ابن قتيبة.
والثاني: أنه نظر إلى امرأة مستحسنة في الطواف، فكلمها فلم تجبه، فقال لها أبياتاً فبلغتها، فقيل لها: اذكريها لزوجك ينكر عليه، فقالت: كلا، لا أشكوها إلا إلى الله فقالت: اللهم إن كان نوه باسمي ظالماً فاجعله طعاماً للريح. فضرب الدهر ضربة، فغدا يوماً على فرس، فهبت الريح، فنزل إلى شجرة، فخدشه منها غصن فدمي فرمي فيه. فمات من ذلك.
ثم دخلت
سنة أربع وتسعين
فمن الحوادث فيها: غزاة العباس بن الوليد أرض الروم، فقيل: إنه فتح أنطاكية. وغزا عبد العزيز بن الوليد، وغزا الوليد بن هشام فأوغلا، وغزا يزيد بن أبي كبشة أرض سورية.
وفيها: افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند.
وفيها: غزا قتيبة شاش وفرغانة حتى بلغ خجندة، وافتتح قاشان، وجاءه الجنود الذين وجههم إلى الشاش وقد فتحوها، فانصرف إلى مرو.
وفيها: أخذ عثمان بن حيان أمير المدينة جماعة من الخوارج فقتلهم، وبعث ببعضهم في جوامع إلى الحجاج، ونادى: برئت الذمة ممن آوى عراقياً.
وفيها: استقضى الوليد سليمان بن حبيب.
وفيها: دامت الزلازل أربعين يوماً، وشمل الهدم الأبنية الشاهقة، وتهدمت دور مدينة أنطاكية.
وفي هذه السنة: قتل الحجاج سعيد بن جبير وكان سبب ذلك خروجه عليه مع من خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث، وكان الحجاج قد جعل سعيد بن جبير على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج خلعه معه سعيد بن جبير، فلما هزم عبد الرحمن وهرب إلى بلاد رتبيل هرب سعيد إلى أصفهان، فكتب الحجاج إلى واليها: أن خذه وكان الوالي يتحرج، فأرسل إلى سعيد أن أخرج وتنح عنا، فتنحى إلى أذربيجان، ثم خرج إلى مكة فأقام بها. وكان أناس ممن فعل مثله يستخفون فلا يخبرون بأسمائهم.
وكتب الحجاج إلى الوليد: إن أهل الشقاق والنفاق قد لجأوا إلى مكة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي فيهم. فكتب إلى خالد بن عبد الله القسري، فأخذ عطاء، وسعيد بن جبير، ومجاهداً، وطلق بن حبيب، وعمرو بن دينار. فأرسل عطاء وعمرو بن دينار لأنهما مكيان، وبعث بالآخرين إلى الحجاج، فمات طلق في الطريق، وحبس مجاهد حتى مات الحجاج، وقتل سعيد.
واختلفوا فيمن أقام الحج للناس في هذه السنة؛ فقال أبو معشر: مسلمة بن عبد الملك. وقال الواقدي: عبد العزيز بن الوليد، وكان العامل على المدينة عثمان بن حيان، وعلى الكوفة زياد بن جرير، وعلى قضائها أبو بكر بن موسى، وعلى البصرة الجراح بن عبد الله وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى خراسان قتيبة، وعلى مصر قرة بن شريك، وكان العراق والمشرق كله إلى الحجاج.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
سعيد بن المسيب


بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة: وكل من كان منسوباً إلى عائذ بن عمران فهو عائذي، بالذال المعجمة. ومن نسب إلى عمرو بن مخزوم فهو عائدي بالدال المهملة. وقد يقال عائذي بالذال المعجمة نسبة إلى عائذ الله بن سعيد، منهم حمزة العائذي، وسعيد بن حنظلة العائذي، وابن طلق العائذي. ويقال: عائذي نسبة إلى عائذ قريش، منهم علي بن مسهر القاضي.
وقال أبو عبد الله الصوري: اجتمع في مخزوم عائد وعائذ، وهما أبناء عم. فأما عائذ فهو ابن عمران بن مخزوم، وأما عائد فهو ابن عمرو بن مخزوم. وإذا جاء عمران فولده عايذ بالياء نقطتين من تحتها والذال المعجمة. وإذا جاء عمر، فولده عابد بالباء واحدة، والدال غير معجمة.
ويكنى سعيد أبا عبد الله، ويقال: أبا عبد الملك. ويقال: أبا محمد. وجده حزن، لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد سعيد لسنتين خلتا من خلافة عمر، وقال: أصلحت بين علي وعثمان، وكان سعيد أفقه أهل الحجاز وأعبرهم للرؤيا.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الملك الأسدي، قال: أنبأنا أبو الحسين بن رزمة، قال: أخبرنا عمر بن محمد بن سيف، قال: حدثنا أبو عبد الله اليزيدي، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، يقول: لما مات العبادلة - عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزبير - صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فكان فقيه أهل مكة عطاء ابن أبي رباح، وفقيه أهل اليمن طاووس، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه أهل البصرة الحسن، وفقيه أهل الشام مكحول، وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني، إلا المدينة فإن الله تعالى خصها بقرشي، فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مدافع.
أخبرنا محمد بن طاهر، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمر ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا قدامة بن موسى الجمحي، قال: كان سعيد بن المسيب يفتي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء.
قال محمد بن سعد: وأخبرنا يزيد بن هارون، والفضل بن دكين، قالا: أخبرنا مسعر بن كدام، عن سعد بن إبراهيم، عن سعيد بن المسيب، قال: ما بقي أحد أعلم بكل قضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر مني.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك، عن عثمان الحزامي، عن مالك بن أنس: أن سعيد بن المسيب ولد في زمان عمر بن الخطاب، وكان احتلامه عند مقتل عثمان، وكان يقال لسعيد: راوية عمر بن الخطاب، وكان يتتبع أقضية عمر بن الخطاب يتعلمها، وإن كان عبد الله بن عمر ليرسل إليه يسأله عن القضاء من أقضية عمر فيخبره.
قال الزبير: وحدثني أبو مصعب الزهري، قال: حدثني المغيرة بن عبد الله الأخنسي، عن رجل أهل البصرة، قال: كان الحسن بن أبي الحسن لا يدع شيئاً من فعله بقول أحد حتى يقول أن سعيد بن المسيب قد قال خلافه فيأخذ به ويدع قوله.
قال: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا حارثة بن أبي عمران أنه سمع محمد بن يحيى بن حيان يقول: كان رأس من بالمدينة في دهره والمقدم عليهم في الفتوى سعيد بن المسيب، ويقال: فقيه الفقهاء.
قال: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا ثور بن يزيد، عن مكحول، قال: سعيد بن المسيب عالم العلماء.
قال: وأخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي، قال: حدثنا أبو المليح، عن ميمون بن مهران، قال: قدمت المدينة فسألت عن أفقه الفقهاء، فدفعت إلى سعيد بن المسيب.
قال: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني هشام بن سعد، قال: سمعت الزهري يقول، وسأله سائل عن من أخذ سعيد بن المسيب علمه، قال: عن زيد بن ثابت، وجالس سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن عمر، ودخل على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة، وكان قد سمع من عثمان وعلي وصهيب ومحمد بن مسلمة، وجل روايته المسندة عن أبي هريرة، وكان زوج ابنته.
قال: وأخبرني معن بن عيسى، عن مالك، قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما كان في المدينة عالم إلا يأتيني بعلمه وأوتى بما عند سعيد بن المسيب.


أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد المحسن بن محمد، قال: أخبرنا عبد الملك بن عبد الله بن سكين الفقيه، قال: أخبرنا أبيض بن محمد بن أبيض، قال؛ حدثنا عبد الرحمن النسائي، قال: حدثني أبو عبد الله الأسباطي، قال: لما نزل الماء في عين سعيد بن المسيب قيل له: اقدحها، قال: فعلى من أفتحها.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: وابتلي سعيد بن المسيب بالضرب. وذلك أن عبد الله بن الزبير ولى جابر بن الأسود الزهري المدينة، فدعا الناس إلى بيعة ابن الزبير، فقال سعيد: لا حتى يجتمع الناس، فضربه ستين سوطاً، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إليه يلومه ويقول: مالنا ولسعيد، دعه.
وكان عبد الملك قد خطب بنت سعيد لابنه الوليد، فأبى، فاحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثنا زيد بن بشير الحضرمي،قال: حدثنا ضمام، عن بعض أهل المدينة، قال: لما كانت بيعة سليمان بن عبد الملك مع بيعة الوليد كره سعيد بن المسيب أن يبايع بيعتين، فكتب صاحب المدينة إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن سعيد بن المسيب كره أن يبايع لهما جميعاً، فكتب عبد الملك إلى صاحب المدينة: وما كان حاجتك إلى رفع هذا عن سعيد بن المسيب، ما كنا نخاف منه، فأما إذا ظهر ذلك وانتشر في الناس فادعه إلى ما دخل فيه من دخل في هذه البيعة، فإن أبى فاجلده مائة سوط، واحلق رأسه ولحيته، وألبسه ثياباً من شعر، وقفه على الناس في سوق المسلمين لئلا يجترئ علينا غيره.
فلما علم بعض من حضر من قريش سألوا الوالي أن لا يعجل عليه حتى يخوفه بالقتل فعسى أن يجيب، فأرسلوا مولى له كان في الحرس، قالوا: اذهب فأخفه بالقتل، وأخبره أنه مقتول لعل ذلك يخيفه حتى يدخل فيما دخل فيه الناس. فجاءه مولاه وهو يصلي فبكى المولى، فقال له سعيد: ما يبكيك؟ قال: يبكيني ما يراد بك، قد جاء كتاب فيك إن لم تبايع قتلت، فجئت لتطهر وتلبس ثياباً طاهرة، وتفرغ من عهدك، قال: ويحك قد وجدتني أصلي، فتراني كنت أصلي ولست بطاهر، وثيابي غير طاهرة، وأما ما ذكرت من العهد فإني أضل ممن أرسلك إن كنت بت ليلة ولم أفرغ من عهدي. فانطلق، فلما أتى الوالي دعوه فأبى أن يجيب، فأمره بالتجريد ولبس ثياباً من شعر، ثم جلده مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته، ووقف فقال: لو كنت أعلم أنه ليس شيء إلا هذا ما نزعت ثيابي طائعاً، ولا أجبت إلى ذلك.
قال ضمام: فبلغني أن هشام بن إسماعيل كان إذا خطب الناس يوم الجمعة تحول إليه سعيد بن المسيب بوجهه ما دام يذكر الله عز وجل حتى إذا رفع يذكر عبد الملك ويمدحه ويقول فيه ما يقول أعرض عنه سعيد بوجهه، فلما فطن له هشام أمر حرسياً أن يخصب وجهه إذا تحول عنه، ففعل ذلك به، فقال سعيد لهشام وأشار بيده إليه: هي ثلاث نحل. فما مر به إلا ثلاثة أشهر حتى عزل هشام.
ومعنى نحل: حسب.
أنبأنا الحسين بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا ابن المسلمة، قال: أخبرنا المخلص، قال: أخبرنا سليمان بن داود، قال: أخبرنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: كان سعيد بن المسيب لا يقبل بوجهه على هشام بن إسماعيل إذا خطب يوم الجمعة، فأمر به هشام بعض أعوانه يعطفه عليه إذا خطب فأهوى العون يعطفه فأبى عليه فأخذه حتى عطفه، فصاح سعيد؛ يا هشام إنما هي أربع بعد أربع. فلما انصرف هشام قال: ويحكم جن سعيد، فسئل سعيد: أي شيء أربع بعد أربع، سمعت في ذلك شيئاً؟ قال: لا، فقيل: ما أردت بقولك؟ قال: إن جاريتي لما أردت المسجد، قالت لي: إني رأيت هذه الليلة رؤيا فلا تخرج حتى أقصها عليك وتعبرها لي، رأيت كأن موسى غطس عبد الملك في البحر ثلاث غطسات، فمات في الثالثة، فأولت أن عبد الملك مات، وذلك أن موسى بعث على الجبارين بقتلهم، وعبد الملك جبار هذه الأمة. قال: فلم قلت أربع بعد أربع؟ قال: مسافة مسير الرسول من دمشق إلى المدينة بالخبر. فمكثوا ثماني ليال ثم جاء رسول بموت عبد الملك.
تزويج بنت سعيد


أخبرنا المحمدان ابن ناصر، وابن عبد الباقي، قالا: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الحافظ قال: أخبرنا عمر بن أحمد بن عثمان، قال: أخبرنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، عن عطاء وابن خالد، عن ابن حرملة، عن ابن أبي وداعة، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته، قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، قال: ألا أخبرتنا فشهدناها. قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة، فقال: أنا، فقلت: أو تفعل؟ نعم، ثم حمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو ثلاثة. قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر ممن آخذ؟ وممن أستدين؟ فصليت المغرب، وكنت وحدي، وقدمت عشائي أفطر خبزاً وزيتاً، فإذا الباب يقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، قال: فأفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب؛ فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فقمت فخرجت، فإذا سعيد بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك، قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما تأمر؟ قال: إنك كنت رجلاً عزباً تزوجت فكرهت أن أبيتك الليلة وحدك، وهذه امرأتك قال: فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب ثم تقدمتها إلى القصعة التي فيها الزيت والخبز، فوضعتها في ظل السراج لكيلا تراه، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران فجاءوني، فقالوا: ما شأنك؟ قلت: ويحكم، زوجني سعيد بن المسيب بنته اليوم وقد جاء بها على غفلة، فقالوا: سعيد بن المسيب زوجك؟ قلت: نعم. وهوذا هي في الدار. قال: ونزلوا هم إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام.
قال: فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وإذا هي أحفظ الناس لكتاب الله عز وجل، وأعلمهم بسنة رسوله، وأعرفهم بحق زوج. قال: فمكثت شهراً لا يأتيني سعيد ولا آتيه، فلما كان قرب الشهر أتيت سعيداً وهو في حلقته، فسلمت عليه، فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تفرق أهل المجلس، فلم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خيراً يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو، فقال: إن رابك شيء فالعصا. فانصرفت إلى منزلي، فوجه إلي بعشرين ألف درهم.
قال عبد الله بن سليمان: وكانت بنت سعيد بن المسيب خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد، فأبى سعيد أن يزوجه، فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف.
قال عبد الله: وابن أبي وداعة هو كثير بن المطلب بن أبي وداعة.
قال مؤلف الكتاب: وكان لكثير هذا ولد يقال له كثير أيضاً. روى الحديث، وكان شاعراً ولم يكن له عقب. فأما أبو وداعة فاسمه الحارث بن صبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم. كان قد شهد بدراً مع المشركين فأسر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تمسكوا به فإن له ابناً كيساً بمكة " . فخرج المطلب ففداه بأربعة آلاف درهم. وهو أول أسير فدي، فشخص الناس بعده ففدوا أسراهم، وكان أبوه صبيرة قد جاز الأربعين سنة بقليل ثم مات.
أنبأنا الحسين بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا ابن المسلمة، قال: أخبرنا المخلص، قال حدثنا سليمان بن داود، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني علي بن صالح، عن عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير: أن الناس مكثوا زماناً ومن جاز من قريش في السن أربعين سنة عمر، فجازها صبيرة بن سعيد بيسير، ثم مات فجأة، ففزع لذلك الناس، فناحت عليه الجن، فقالت:
من يأمن الحدثان بع ... د صبيرة القرشي ماتا
عجلت منيته المشي ... ب فكان منيته افتلاتا
وفي رواية أن شاعراً قال:
حجاج بيت الله إن ... صبيرة القرشي ماتا
سبقت منيته المشيب ... كأن ميتته افتلاتا
فتزودوا لا تهلكوا من ... دون أهلكم خفاتا


قال مؤلف الكتاب رحمه الله: ثم إن أبا وداعة أسلم يوم الفتح وبقي إلى خلافة عمر، وأسلم ابنه المطلب يوم الفتح أيضاً.
توفي سعيد بالمدينة في هذه السنة وهو ابن أربع وثمانين سنة.
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أبو الحسن أمه أم ولد اسمها غزالة. روى عن أبيه، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وصفية، وأم سلمة، وشهد مع أبيه كربلاء وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكان مريضاً حينئذ ملقى على الفراش، فلما قتل الحسين قال شمر: اقتلوا هذا، فقال رجل من أصحابه: سبحان الله، أتقتلون غلاماً حدثاً مريضاً لم يقاتل، وجاء عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: لا تعرضوا للنسوة ولا لهذا المريض، ثم أدخل على ابن زياد، فهم بقتله ثم تركه وبعثه إلى يزيد، فرده إلى المدينة، فالعقب من ولد الحسين لعلي من هذا، وأما الأكبر المقتول فلا عقب له.
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، عن عبد الغفار بن القاسم، قال: كان علي بن الحسين خارجاً من المسجد، فلقيه رجل فسبه، فثارت إليه العبيد والموالي، فقال علي بن الحسين: مهلاً عن الرجل، ثم أقبل عليه، فقال: ما ستر الله عليك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعنيك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسل.
أنبأنا البارع بإسناد له عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، قال: قدم المدينة قوم من أهل العراق فجلسوا إلي ثم ذكروا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فنسبوهما، ثم ابتركوا في عثمان ابتراكاً، فقلت لهم: أخبروني، أنتم من المهاجرين الأولين الذين قال الله فيهم: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون " قالوا: لسنا منهم قال: فأنتم من الذين قال الله عز وجل فيهم: " والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " قالوا: لسنا منهم. قال لهم: أما أنتم فقد تبرأتم من الفريقين أن تكونوا منهم، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله عز وجل فيهم: " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم " قوموا عني، لا قرب الله قربكم فأنتم تستترون بالإسلام، ولستم من أهله.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا علي بن محمد الأنباري، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن أبي معشر، قال: حدثني ابن أبي نوح الأنصاري، قال: وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين رضي الله عنهما وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله النار، يا ابن رسول الله النار، فما رفع رأسه حتى أطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ قال: ألهتني النار الأخرى.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بإسناد له عن عبد الله بن أبي سليمان، قال: كان علي بن الحسين رضي الله عنهما لا تجاوز يده فخذه، ولا يخطر بيده، وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: مالك؟ فقال: تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناد له عن أبي حمزة الثمالي، قال: كان علي بن الحسين رضي الله عنهما يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز بإسناده عن جعفر بن محمد، قال: كان علي بن الحسين رضي الله عنهما لا يحب أن يعينه على طهوره أحد، كان يستقي الماء لطهوره ويخمره قبل أن ينام، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم يتوضأ ثم يأخذ في صلاته، وكان لا يدع صلاة الليل في السفر والحضر، وربما صلاها على بعيره، وكان يقول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غداً جيفة، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه، وعجبت كل العجب لمن ينكر النشأة الأخرى وهو يرى الأولى، ولمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء.
وكان إذا أتاه سائل رحب به وقال: مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة.


أخبرنا محمد بن ناصر بإسناد له عن طاووس، قال: رأيت علي بن الحسين رضي الله عنهما ساجداً، فقلت: رجل صالح من أهل بيت طيب، لأسمعن ما يقول: فأصغيت إليه فسمعته يقول: عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك. فوالله ما دعوت بها في كرب إلا كشف عني.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا ابن علي الطناجيري، قال: أخبرنا أبو حفص بن شاهين، قال: حدثنا محمد بن الحسن، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، قال: حدثنا جدي قال: حدثنا الهيثم بن عدي، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: قال علي بن الحسين رضي الله عنهما: سألت الله عز وجل في دبر كل صلاة سنة أن يعلمني اسمه الأعظم. قال: فوالله إني لجالس قد صليت ركعتي الفجر إذ ملكتني عيناي، فإذا رجل جالس بين يدي قال: قد استجيب لك، فقل: اللهم إني أسألك باسمك الله الله الله الله الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم. ثم قال لي: أفهمت أم أعيد عليك، قلت: أعد علي، ففعل قال علي: فما دعوت بها في شيء قط إلا رأيته، وإني لأرجو أن يدخر الله لي عنده خيراً.
أخبرنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: حدثنا أبو محمد الجوهري، قال: حدثنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا عبد الله بن هارون بن أبي عيسى، عن أبيه، عن حاتم بن أبي صفيرة، عن عمرو بن دينار، قال: دخل علي بن الحسين رضي الله عنهما على أسامة بن زيد في مرضه الذي مات فيه وهو يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ قال: دين علي، قال: كم مبلغه؟ قال: خمسة عشر ألف دينار - أو بضعة عشر ألف دينار - قال: فهو علي.
وقال شيبة بن نعامة الضبي: كان علي بن الحسين رضي الله عنهما يبخل، فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت.
وفي رواية: أنه كان إذا أقرض قرضاً لم يستعده، وإذا عار ثوباً لم يرتجعه، وإذا وعد شيئاً لم يأكل ولم يشرب حتى يفي بوعده، وإذا مشى في حاجة فوقفت قضاها من ماله. وكان يحج ويغزو ولا يضرب راحلته. وكان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة.
وقال الزهري: لم أر هاشمياً أفضل منه ولا أفقه منه.
أنبأنا محمد بن أبي منصور الحافظ، قال: أخبرنا أبو الفضل جعفر بن يحيى بن إبراهيم المكي، قال: أخبرنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن صخر، قال: أخبرني علي بن أحمد بن عبد الرحمن الأصبهاني، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، قال: سمعت الزهري يقول: وجه عبد الملك بن مروان رسلاً في حمل علي بن الحسين فوجدوه بمكة، فحملوه مكبلاً بالحديد ومنع الناس أن يدخلوا عليه.
قال ابن شهاب: فأذنت عليه، فصرفني البوابون من عند عبد الملك فأذنوا لي، فدخلت عليه الحبس وجعلت أتوجع له وأقول له: يعز علي يا ابن رسول الله أن أراك على مثل هذه الحالة، فلما رأى شدة حزني وبكائي، قال: يا زهري، لا تجزع إن هذا الحديد لا يؤذيني، ثم نزعه من رجله ووضعه بين يدي، وقال: لست أجوز معهم ذات عرق.
قال: ثم مضوا به محمولاً، فما لبثنا بعد ذلك إلا أربعة أيام حتى أتت رسل عبد الملك يسألون عن علي بن الحسين وقد فقدوه، فقلت: كيف كان أمره؟ قالوا: لما نزلنا ذات عرق فبتنا بها ليلتنا تلك فلما أصبحنا وجدنا حديده وفقدناه.
قال ابن شهاب: فقدمت بعد ذلك بأسبوع على عبد الملك وهو بالشام فسألني عن علي بن الحسين، فقلت: أنت أعلم به مني، فقال: إنه قدم علي في اليوم الذي فقده فيه أصحابي بذات عرق فدخل علي من هذا الباب فقال: ما أنا وأنت، فقلت: أريد أن تقيم عندي.....
قال علماء السير: حج هشام بن عبد الملك ولم يل الخلافة بعد، فطاف بالبيت فجهد أن يصل إلى الحجر فيستلمه، فلم يقدر عليه، فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس، فأقبل علي بن الحسين فطاف بالبيت، فلما بلغ إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلمه، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضراً، فقال الفرزدق: ولكني أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس؟ فقال:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم


هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمى إلى ذروة العز التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه ... لخر يلثم منه الكف والقدم
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
من جده دان فضل الأنبياء له ... وفضل أمته دانت له الأمم
ينشق نور الهدى عن نور غرته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم
مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشيم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
الله شرفه قدماً وفضله ... جرى بذاك له في لوحه القلم
وليس قولك: من هذا؟ بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما العدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والشيم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا ... رحب الفناء أريب حين يعتزم
عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنه الغيابة والإملاق والعدم
من معشر حبهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطاً من أكفهم ... سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
يستدفع السوء والبلوى بحبهم ... ويسترب به الإحسان والنعم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل بدء ومختوم به الكلم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم ... خيم كريم وأيد بالندى هضم
أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأولية هذا أوله نعم
ما قال لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاءه نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا ... الدين من بيت هذا ناله الأمم
قال: فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بعسفان - بين مكة والمدينة. وبلغ ذلك علي بن الحسين، فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، وقال: أعذر يا أبا فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به، فردها الفرزدق وقال: يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت إلا غضباً لله عز وجل ولرسوله، وما كنت لأزرأ عليه شيئاً، فقال: شكر الله لك، إلا أنا أهل البيت إذا أنفذنا أمراً لم نعد فيه، فقبلها، وجعل يهجو هشاماً وهو في الحبس، فكان مما هجاه به قوله:
أتحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيد ... وعين له حولاء باد عيوبها
توفي علي بن الحسين بالمدينة في هذه السنة، ودفن بالبقيع، وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
ومن العجائب: ثلاثة كانوا في زمان واحد، وهم بنو أعمام، كل واحد منهم اسمه علي، ولهم ثلاثة أولاد كل واحد منهم اسمه محمد، والآباء والأبناء علماء أشراف: علي بن الحسين بن علي، وعلي بن عبد الله بن عباس، وعلي بن عبد الله بن جعفر.
عروة بن الزبير بن العوام، أبو عبد الله أمه أسماء بنت أبي بكر. روى عن أبيه، وعن زيد بن ثابت، وأسامة، وأبي أيوب، والنعمان بن بشير، وأبي هريرة، ومعاوية، وابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس في آخرين، وكان فقيهاً فاضلاً يسرد الصوم، مات صائماً.


أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدثني سعيد بن أسد، قال: حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب، قال: كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه، فيدخل الناس فيأكلون ويحملون، وكان إذا دخله ردد هذه الآية فيه حتى يخرج منه: " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " .
وكان عروة يقرأ ربع القرآن كل يوم نظراً في المصحف، ويقوم به الليل فما تركه إلا ليلة قطعت رجله، ثم عاود من الليلة المقبلة.
قال يعقوب: وحدثني العباس بن مزيد، قال: أخبرني أبي قال: قال أبو عمرو يعني الأوزاعي: خرجت في بطن قدمه بثرة - يعني عروة - فترامى به ذلك إلى أن نشرت ساقه، فقال لما نشرت: اللهم إنك تعلم أني لم أمش بها إلى سوء قط.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بإسناده عن هشام بن عروة، قال: خرج أبي إلى الوليد بن عبد الملك، فوقعت في رجله الأكلة، فقال له الوليد: يا أبا عبد الله، أرى لك قطعها. قال: فقطعت وإنه لصائم، فما تضور وجهه. قال: ودخل ابن له - أكبر ولده - اصطبله، فرفسته دابة فقتلته، فما سمع من أبي في ذلك شيء حتى قدم المدينة، فقال: اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة، فلك الحمد. وكان لي بنون أربعة فأخذت واحداً وبقيت لي ثلاثة فلك الحمد، وأيم الله لئن أخذت لقد أبقيت ولئن ابتليت لطالما عافيت.
توفي عروة بناحية الفرع في هذه السنة، ودفن هناك. وقيل: توفي في السنة التي قبلها.
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة ولد في خلافة عمر، وليس له اسم. وروى عن أبي مسعود الأنصاري، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة، وكان يقال له: راهب قريش لكثرة صلاته، وكان فقيهاً جواداً، أودع مالاً، فذهب فغرمه حفظاً لعرضه، وذهب بصره، فذهب يوماً إلى مغتسله فمات فجأة في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة خمس وتسعين
فمن الحوادث فيها: غزوة العباس بن الوليد بن عبد الملك أرض الروم، ففتح الله على يديه ثلاثة حصون، وفتح قنسرين.
وفيها: قتل الوضاحي بأرض الروم وقتل معه نحو من ألفي رجل.
وفيها: انصرف موسى بن نصير إلى إفريقية من الأندلس.
وفيها: غزا قتيبة الشاش، فلما وصل إليها جاءه موت الحجاج، فقفل راجعاً إلى مرو، فجاءه كتاب من الوليد يقول فيه: عرف أمير المؤمنين بلاءك وجهادك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك ما تحب، فلا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك حتى كأني أنظر إلى بلادك، والثغر الذي أنت به.
وفي هذه السنة: مات الحجاج، فاستخلف على الصلاة ابنه عبد الرحمن وقيل: بل استخلف يزيد بن أبي كبشة على الصلاة، وعلى الخراج يزيد بن أبي مسلم، وأقرهما الوليد، وأقر عمال الحجاج كلهم.
وفي هذه السنة: ولد المنصور بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
وفي هذه السنة: حج بالناس بشر بن الوليد بن عبد الملك، وكان العمال فيها العمال في السنة التي قبلها إلا ما كان من الكوفة والبصرة، فإنها ضمت إلى من ذكرنا بعد موت الحجاج.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل، وهو عتبة بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن عوف بن سعد بن عوف بن ثقيف، من الأحلاف: وأمه الفارعة بنت همام، وكانت عند المغيرة بن شعبة، فولدت له بنتاً. وكان الحجاج أخفش، دقيق الصوت فصيحاً حسن الحفظ للقرآن، إلا أنه قد أخذ عليه فيه لحن.
قال ليحيى بن يعمر: أتجدني ألحن، قال: الأمير أفصح من ذلك، قال: عزمت عليك لتخبرني، قال: نعم: " ومساكن ترضونها أحب إليكم " بالرفع وأحب منصوب، قال: لا تسمعني ألحن بعدها فنفاه إلى خراسان.
وكان الحجاج أول أيامه معلماً، وكان يقرأ في كل ليلة ربع القرآن. وسمع الحديث وأسنده، وليس بأهل أن يروى عنه.
وكان الحجاج قد أذل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة خاصة، واحتج بأنهم لم ينصروا عثمان، وقتل الخلق الكثير يحتج عليهم بأنهم خرجوا على عبد الملك.


أخبرنا أبو الفتح الكروخي، قال: أخبرنا أبو عامر الأزدي، وأبو بكر الكروخي، قالا: أخبرنا عبد الجبار بن محمد بن الجراح، عن أبي العباس بن محبوب، عن الترمذي، عن هشام بن حسان، قال: أحصينا ما قتل الحجاج صبراً فبلغ مائة ألف وعشرين ألف رجل.
وأخبرنا عبد الوهاب بإسناد له عن الأصمعي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عباد بن كثير، عن قحذم، قال: وجد في سجن الحجاج ثلاثة وثلاثين ألفا ما يجب على أحد منهم قطع ولا قتل ولا صلب، ووجد فيهم أعرابي رؤيا جالساً يبول عند ربض المدينة - يعني واسط - فخلى عنه، فانصرف وهو يقول:
إذا نحن جاوزنا مدينة واسط ... خرينا وصلينا بغير حساب
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا علي بن أحمد البسري، عن أبي عبد الله بن بطة، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا هشام بن محمد الكلبي، عن عوانة بن الحكم، قال: دخل أنس بن مالك رضي الله عنه على الحجاج بن يوسف، فلما وقف سلم عليه، فقال له الحجاج: إيه إيه يا أنس، يوم لك مع علي، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصلنك كما تستأصل الشأفة، ولأدمغنك كما تدمغ الصمغة، فقال أنس: إياي - يعني الأمير - أصلحه الله؟ قال: إياك صك الله سمعك، قال أنس: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت أي قتلت قتلت، ولا أي ميتة مت.
ثم خرج من عنده، فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك، فلما قرأ كتابه استشاط غضباً وصفق عجباً وتعاظم ذلك من الحجاج. وكان كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم. إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من أنس بن مالك، أما بعد، فإن الحجاج قال لي هجراً، وأسمعني نكراً، ولم أكن له منك ومنه أهلاً، فخذلني على يديه وأعني عليه فإني أمت إليك بخدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فبعث إلى إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، وكان مصافياً للحجاج، فقال: دونك كتابي هذين فخذهما واركب البريد إلى العراق، فابدأ بأنس بن مالك وادفع إليه كتابه وأبلغه مني السلام، وقل له: يا أبا حمزة، قد كتبت إلى الملعون الحجاج كتاباً إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك.
وكان كتاب عبد الملك إلى أنس: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان، أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت من شكايتك الحجاج، وما سلطته عليك، ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها فاكتب إلي بذلك أنزل به عقوبتي، وتحسن لك معونتي، والسلام.
فلما قرأ أنس كتابه قال: جزى الله أمير المؤمنين عني خيراً، وعافاه، فهذا كان ظني به والرجاء منه. فقال له إسماعيل: يا أبا حمزة، الحجاج عامل أمير المؤمنين، وليس بك عنه غنى، ولا بأهل بيتك، ولو جعل لك في جامعة ثم دفع إليك قدر أن يضر وينفع، فقاربه وداره، قال: أفعل إن شاء الله. ثم خرج إسماعيل من عنده فدخل على الحجاج، فلما رآه قال: مرحباً برجل أحبه، وقد كنت أحب لقاءه، قال: فأنا والله قد كنت أحب لقاءك في غير ما أتيتك به، قال: وما أتيتني به؟ قال: فارقت أمير المؤمنين وهو من أشد الناس عليك غضباً ومنك بعداً، فاستوى جالساً مرعوباً، فرمى إليه بالطومار، فجعل ينظر فيه مرة ويعرق، وينظر إلى إسماعيل أخرى، فلما فهمه قال: مر بنا إلى أبي حمزة نعتذر إليه ونترضاه، قال: لا تعجل، قال: كيف لا أعجل وقد أتيتني بآبدة، ثم رمى الطومار إليه فإذا فيه.


بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجاج بن يوسف. أما بعد، فإنك عبد طمت بك الأمور، فسموت فيها وعدوت طورك وجاوزت قدرك، وأردت أن تروزني، فإن سوغتكها مضيت قدماً، وإن لم رجعت القهقرى فلعنك الله عبداً أخفش العينين، منقوص الجاعرتين، أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار بأيديهم، ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل، يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب، والله لأغمزنك غمزة الليث الثعلب، والصقر الأرنب، وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فلم تقبل له إحسانه، واستخفافاً منك بالعهد، والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلاً خدم عزيز بن عزرة وعيسى بن مريم لعظمته وشرفته وأكرمته، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه ثماني سنين يطلعه على سره، ويشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقية من بقايا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خفه ونعله، وإلا أتاك مني سهم مثكل بحتف قاض، " ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون " .
فأتاه فترضاه. وما عرف لعبد الملك منقبة أكرم منها.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا محمد بن علي النرسي، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني، قال: أخبرنا زيد بن جعفر بن حاجب، قال: أخبرنا صالح بن وصيف الكناني، قال: حدثنا أبو المعمر محمد بن مسلم بن عثمان الأموي، قال: حدثني محمد بن سهل بن عمير المازني، قال: حدثني أبي، قال: عرض الحجاج بن يوسف خيلاً له، فأرسل إلى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: أين هذه من التي كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أنس: تلك والله كما قال الله عز وجل: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " وهذه هيئت للرياء والسمعة، فقال له الحجاج: لولا كتاب أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان أتاني لفعلت وفعلت، فقال له أنس: تالله، لم تقدر على ذلك، علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أتحرز بهن من كل شيطان مريد، ومن كل جبار عنيد، قال: فجثا الحجاج على ركبتيه ثم قال: علمنيهن يا عم، قال: تالله لست لهن بأهل. قال: فدس إليه وإلى ولده وإلى أهله، فأبوا أن يعلموه.
قال أبو المعمر: قال محمد بن سهل: قال أبي، قال أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هي بسم الله على نفسي وديني، بسم الله على أهلي ومالي، بسم الله على ما أعطاني ربي، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله ربي لا أشرك به شيئاً، أجرني من كل شيطان رجيم، ومن كل جبار عنيد، إن وليي الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين " فإن تولوا فقل: حسبي الله لا إله إلا الله هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " .
قال محمد بن سهل: وحدثني أبي، قال: كنت في مجلس فيه الحسن بن أبي الحسن البصري جالساً إذ مر به الحجاج بن يوسف على برذون له، فنزل فشق الناس حتى قعد إلى جانب الحسن، وجعل الحسن يحدث الناس ويهوي بيده إلى بغلة كأنه يريد القيام، فلما رأى الحجاج ما يصنع قال: يا أبا سعيد، لعلك تفعل هذا من أجلي، قال: لا، ولكن يمر بنا الضعيف وذو الحاجة فيشتغل بكلامنا عن حاجته، فالتفت الحجاج إلى جلساء الحسن، فقال: نعم الشيخ شيخكم، ونعم المؤدب مؤدبكم، ولولا الرعية وهذه البلية لأحببت مشاهدة شيخكم. ثم قام فركب، فقام رجل من أهل الديوان، فقال: يا أبا سعيد أخرج عطائي، وأمر ببعثي، وأخذت بفرس وسلاح، ولا والله ما فيه ثمن الفرس ولا نفقة عيالي. قال: فأرسل الحسن عينيه بالبكاء، ثم قال: ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، وكتاب الله دغلاً، واستحلوا الخمر بالنبيذ، والنجس بالزكاة، يأخذون من غير حق الله، وينفقون في سخط الله، فستردون فتعلمون والحساب عند البيدر، وإذا أقبل عدو الله ففي سرادقات محفوفة - ويقال: زفافة - وإذا أقبل أخوه المسلم فطار وأجل منفعة قليلة وندامة طويلة.


قال: فما لبث أن سعى بكلامه إلى الحجاج، فأرسل إليه شرطيين فأخذا بضبعيه حتى أدخلاه على الحجاج، وتبعه ثابت البناني ومحمد بن سيرين ومعه الكفن والحنوط، فلما أدخل عليه قال: يا ابن أم الحسن، أنت القائل ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً وكتاب الله دغلاً، واستحلوا الخمر بالنبيذ، والنجس بالزكاة، فذكر الكلام إلى آخره، قال: نعم، قال: وما الذي جرأك عليه؟ قال: ما أخذ الله على من كان قبلنا، قال الله عز وجل: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً " فكرهت أن أكون من أولئك القوم، قال: نعم الشيخ أنت، ونعم المؤدب أنت، وليس مثلك أخذ بكلمة استخرجها، ولئن بلغني عنك ثانياً لأفرقن بين رأسك وجسدك، فقال له الحسن: ليس ذاك إليك، ثم قال: يا جارية، هات الغالية، فجاءت جارية فقال: أفرغيه على رأسه، فكشف الحسن عن شعره، فقال: إنه لرأس ما أصابه الدهن منذ كذا وكذا.
فخرج إلى أصحابه، فقال له ابن سيرين وثابت البناني: ما قال لك الطاغية؟ وما رددت عليه؟ قال: قال لي كذا وقلت له كذا، وإنكم ستطلبون. فخرج ابن سيرين إلى بلاد الهند، وخرج ثابت إلى كابل، وأقام الحسن حتى صلى الجمعة خلف الحجاج، فرقي الحجاج المنبر فأطال الخطبة حتى دخل في وقت العصر، فقال الحسن: أما من رجل يقول: الصلاة جامعة، فقال رجل من تلامذة الحسن: يا أبا سعيد أتأمرنا أن نتكلم والإمام يخطب، فقال: إنما أمرنا أن ننصت لهم إذا أخذوا في أمر ديننا، فإذا أخذوا في أمر دنياهم أخذنا في أمر ديننا، قوموا الصلاة جامعة، ثم التفت إلى جلسائه فقال: بعث إليكم أخيفش أعيمش ملعون معذب، قوموا الصلاة جامعة، فقام الحسن، وقام الناس لقيام الحسن، فقطع الحجاج الخطبة ونزل فصلى بهم، وطلب الحجاج الحسن فلم يقدر عليه.
وروى أبو بكر بن الأنباري، عن أبيه، عن العباس بن ميمون، عن ابن عائشة، عن أبيه، قال: كان سجن الحجاج بواسط، إنما هو حائط محوط، ليس فيه مآل ولا ظل ولا بيت، فإذا آوى المسجونون إلى الجدران يستظلون بها رمتهم الحرس بالحجارة، وكان يطعمهم خبز الشعير مخلوطاً به الملح والرماد، فكان لا يلبث الرجل فيه إلا يسيراً حتى يسود فيصير كأنه زنجي، فحبس فيه مرة غلام، فجاءته أمه تتعرف خبره فصيح به لها، فلما رأته أنكرته قالت: ليس هذا ابني، كان ابني أشقر أحمر وهذا زنجي، فقال لها: أنا والله يا أماه ابنك، أنا فلان وأختي فلانة وأبي فلان، فلما عرفته شهقت فماتت.
قال: وقال الحجاج ليزيد بن أبي مسلم: كم قد قتلنا في الظنة؟ قال: ثمانين ألفاً.
قال: وخرج من سجنه يوم مات الحجاج ما منهم من حل من قيد ولا غير حالاً إلا في بلده الذي كان منه.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا يحيى بن الحسين بن منذر القاضي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن عثمان أبو العباس الوراق، ومحمد بن أبي يعقوب الدينوري، قالا: مرض الحجاج بن يوسف مرضاً أشرف منه على الموت، فبلغه أن أهل الكوفة يرجعون بموته، فلما برئ صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل الكوفة، يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، قد نفخ الشيطان في معاطسكم - أو قال: مناخركم - زعمتم أن الحجاج قد مات، فإن مات الحجاج فمه، والله ما يسرني أني لا أموت وما أرجو الخير كله إلا بعد الموت، وما رضى الله تعالى الخلود لأحد من خلقه إلا لأهونهم عليه إبليس، ولقد العبد الصالح ربه فقال: " رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " ثم اضمحل كأن لم يكن، يا أيها الرجل وكلكم ذلك الرجل، والله لكأني بي وبكم، وقد صار كل حي منا ميتاً، وكل رطب منا يابساً ونقل كل امرئ منا في ثياب طهره إلى ثلاث أذرع في ذراعين، فأكلت الأرض لحمه ومصت دمه وصديده، ورجع الخبيثان يقيم أحدهما صاحبه خبيثة من ولده يقسم خبيثة من ماله، ألا إن الذين يعلمون يعلمون ما أقول، ثم نزل.


أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري، قال: حدثنا المعافى بن زكريا، قال: حدثنا الحسن بن أحمد الكلبي، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عائشة، قال: حدثني أبي، قال: لما أراد الحجاج الخروج من البصرة إلى مكة خطب الناس، وقال: يا أهل البصرة، إني أريد الخروج إلى مكة، وقد استخلفت عليكم محمداً ابني، وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أوصى في الأنصار أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، ألا وأني قد أوصيته بكم ألا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم، ألا فإنكم قائلون: لا أحسن الله له الصحابة، وإني معجل لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة.
تم الجزء السادس من كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تأليف الشيخ الإمام العالم الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي عفى الله عنه وعن جميع المسلمين. يتلوه في الجزء السابع ذكر وفاة الحجاج. قد ذكرنا أن عبد الملك بن مروان أوصى الوليد بالحجاج ثم لم يلبث الحجاج......
ذكرى وفاة الحجاج
قد ذكرنا أن عبد الملك بن مروان أوصى ولده الوليد بالحجاج، ثم لم يمت الحجاج حتى ثقل بالوليد، وكان الوليد قد مرض فغشي عليه، فمكث عامة يومه يحسبونه ميتاً، فقدمت البرد على الحجاج بذلك فاسترجع، وأمر بحبل فشده على يده ثم أوثق إلى اسطوانة، وقال: اللهم لا تسلط علي من لا رحمة له فقد طال ما سألتك أن تجعل منيتي قبل منيته، وجعل يدعو. فقدم البريد بإقامته، فلما أفاق الوليد، قال: ما أحد سر بعافيتي من الحجاج، فقال عمر: كأني بكتاب الحجاج قد أتاك يذكر أنه لما بلغه برؤك خرّ ساجداً وأعتق كل مملوك له، فجاء الكتاب بذلك، وبقي الحجاج في إمرته على العراق تمام عشرين سنة، وكان مقدماً على القتل والظلم، وآخر من قتل سعيد بن جابر، فوقعت الأكلة في بطنه، فأخذ الطبيب لحماً وجعله في خيط وأرسله في حلقه ثم استخرجه وقد لصق الدود به، فعلم أنه ليس بناج، فقال:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا ... أيمانهم أني من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويلهم ... ما علمهم بعظيم العفو غفار
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: حدثنا حمد بن أحمد، قال: حدثنا أبو نعيم الحافظ، وقال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا هارون بن عبد الله، قال: حدَّثنا محمد بن مسلمة، قال: حدَّثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن كاتب كان للحجاج يقال له يعلى، فقال: كنت أكتب للحجاج وأنا يومئذ غلام حديث السن، فدخلت عليه يوماً بعد قتل سعيد بن جبير وهو في قبة لها أربعة أبواب، فدخلت مما يلي ظهره، فسمعته يقول: مالي ولسعيد بن جبير، فخرجت رويداً وعلمت أنه إن علم بي قتلني، ثم لم يلبث الحجاج إلا يسيراً حتى مات.
وفي رواية أخرى: أنه كان يقول: ما لي ولسعيد بن جبير كلما أردت النوم أخذ برجلي.
ومات في شوال هذه السنة. وقيل لخمس بقين من رمضان، وهو ابن أربع وخمسين سنة. وقيل: ثلاث وخمسين سنة.
وقال أبو عمر الجرمي؛ قال يونس النحوي: أنا أذكر عرس العراق، فقيل له: وما عرس العراق؟ قال: موت الحجاج سنة خمس وتسعين.
ولما مات ولى عليها الوليد بن عبد الملك مكانه يزيد بن أبي شبل.
وذكر أبو عمر أحمد بن عبد ربه في كتاب العقد: أن رجلاً حلف بالطلاق أن الحجاج في النار، فسأل الحسن البصري، فقال: لا عليك يا ابن أخي فإن لم يكن الحجاج في النار فما ينفعك أن تكون مع امرأتك في زنا.
وقال يزيد الرقاشي: إني لأرجو الحجاج، فقال الحسن: إني لأرجو أن يخلف الله رجاءك.
وقيل لإبراهيم النخعي: ما ترى في لعن الحجاج؟ فقال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: " ألا لعنة الله على الظالمين " . وأشهد أن الحجاج كان منهم.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا الحسين بن محمد النصيبي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سويد، قال حدَّثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثنا أحمد بن الحارث الخراز، قال: حدَّثنا أبو الحسن المدائني، قال: عمر بن عبد العزيز:


إذا أتت قوم فارس بأكاسرتها، والروم بقياصرتها أتينا بالحجاج فكان عدلاً بهم.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا أحمد بن الحسين بن خيرون، قال أخبرنا محمد بن الواحد بن رزمة، قال: أخبرنا أبو محمد علي بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدَّثنا أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي، قال: حدَّثنا العباس بن فرح الرياشي، قال: حدَّثنا ابن أبي سمية، عن أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، قال: قيل ليزيد بن أبي مسلم: أن الحجاج يسمع صياحه من قبره، قال: فانطلق في نفر من أصحابه إلى قبره فسمع الصياح، فقال يرحمك الله أبا محمد، ما تدع تهجدك حياً ولاميتاً.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري، قال: حدَّثنا أبو الحسين بن بشران، قال: أخبرنا الحسين بن صفوان، قال: حدَّثنا أبو بكر عبد الله بن محمد القرشي، قال: حدَّثني أحمد بن جميل، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم، قال: أغمي على المسور بن مخرمة ثم أفاق، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعبد الرحمن بن عوف في الرفيق الأعلى مع: " الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً " وعبد الملك والحجاج يجران أمعاءهما في النار.
سعيد بن جبير
يكنى أبا عبد الله، مولى لبني وألبة بن الحارث من بني أسد بن خزيمة: روى عن علي، وأبي مسعود البدري، وابن عمر، وابن عمرو، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن المغفل، وعدي بن حاتم، وأبي هريرة، وأكثر عن أبن عباس. وكان عالماً، وكان ابن عباس يقول له: حدث وأنا حاضر. وقال لأهل الكوفة: تسألوني وفيكم سعيد بن جبير. وجاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن فريضة، فقال له: ائت سعيد بن جبير فإنه أعلم بالحساب مني. وكان سعيد يقص على أصحابه بعد الفجر وبعد العصر، ويختم القرآن كل ليلتين، وكان إذا وقف في الصلاة كأنه وتد، وكان يبكي بالليل حتى عمش وكان يخرج في كل سنة مرتين: مرة للحج، ومرة للعمرة. أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الدقاق، قال أخبرنا أبو الحسين بن صفوان، قال: حدَّثنا أبو بكر القرشي، قال: حدَّثنا عمر بن إسماعيل الهمداني، قال: حدَّثنا محمد بن سعيد الأموي، عن معاوية بن إسحاق، قال: حدَّثنا سعيد بن جبير عن الصباح فرأيته ثقيل اللسان فقلت له: ما لي أراك ثقيل اللسان؟ فقال: قرأت القرآن البارحة مرتين ونصفاً.
قال عمر: وحدَّثنا أبو معاوية، عن موسى بن المغيرة، عن حماد: أن سعيد بن جبير قرأ القرآن في ركعة واحدة في الكعبة، وقرأ في الثانية بقل هو الله أحد.
ذكر مقتله كان سعيد قد خرج مع القراء الذين خرجوا على الحجاج، وشهد دير الجماجم، فلما انهزم أصحاب ابن الأشعث هرب فلحق بمكة، فبقي زماناً طويلاً. ثم أن خالد بن عبد الله القسري - وكان والياً للوليد بن عبد الملك على مكة - أخذه فبعثه إلى الحجاج مع إسماعيل بن أوسط البجلي، فقال له: ما الذي أخرجك؟ قال: كانت لابن الأشعث بيعة في عنقي، وعزم علي، فقال: رأيت لعدو الله عزمة لم ترها لله ولا لأمير المؤمنين، والله لا أرفع قدمي حتى أقتلك فأعجلك إلى النار سيف رعيب، فقام مسلم الأعور ومعه سيف فضرب عنقه.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي أن أحمد بن سليمان قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، قال: حدَّثنا أبو حامد بن جبلة، قال: حدَّثنا محمد بن إسحاق، قال: حدَّثنا واصل بن عبد الأعلى، قال: حدَّثنا أبو بكر بن عباس، عن أبي حصين، قال: أتيت سعيد بن جبير بمكة، فقلت: هذا الرجل قادم - يعني خالد بن عبد الله - ولا آمنه عليك فاطعني وأخرج، فقال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله، فقلت: والله أني لأراك كما سمتك أمك سعيداً.
قال: فقدم مكة فأرسل إليه فأخذه. قال: أخبرني يزيد بن عبد الله قال: أتينا سعيد ين جبير حين جيء به، فإذا هو طيب النفس وبنية له في حجره فنظرت إلى القيد فبكت، قال: فشيعناه إلى باب الجسر، فقال له الحرس: اعطنا كفيك فإنا نخاف أن تغرق نفسك، قال: يزيد فكنت فيمن كفل به.


قال محمد بن إسحاق: و حدَّثنا محمد بن عبد العزيز الجزري، قال: حدَّثنا يحيى بن حسان، قال: حدَّثنا صالح بن عمر، عن داود بن أبي هند، قال: لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال: ما أراني إلا مقتولاً وسأخبركم إني كنت أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء، ثم سألنا الله الشهادة، فكلا صاحبي رزقها، وأنا أنتظرها، قال: فكأنه رأى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، ومحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن أبي الصقر الأنباري، قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن الفضل بن نظيف الفراء، قال: حدَّثنا أبو العباس أحمد بن الحسن بن إسحاق بن عتبة الرازي، قال: حدَّثنا هارون بن عيسى، قال: حدَّثنا أبو عبد الرحمن المقري، قال: حدَّثنا حرملة بن عمران، قال: حدَّثنا ابن ذكوان: أن الحجاج بن يوسف بعث إلى سعيد بن جبير فأصابه الرسول بمكة، فلما سار به ثلاثة أيام رآه يصوم نهاره ويقوم ليله، فقال له الرسول: والله لأعلم أني أذهب بك إلى من يقتلك فاذهب أي الطرق شئت، فقال له سعيد بن جبير: إنه سيبلغ الحجاج أنك قد أخذتني فإن خليت عني خفت أن يقتلك، ولكن اذهب بي إليه.
قال: فذهب به إليه، فلما أدخل عليه قال له الحجاج: ما اسمك؟ فقال: سعيد بن جبير قال: بل شقي بن كسير قال: أمي سمتني سعيداً، قال: شقيت أنت وأمك، قال: الغيب يعلمه غيرك، قال له الحجاج: أما والله لأبدلنك من دنياك ناراً تلظى، قال سعيد: لو علمت أن ذلك إليك ما اتخذت إلهاً غيرك، ثم قال له الحجاج: ما تقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نبي مصطفى خير الباقين وخير الماضين، قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ ثاني اثنين إذ هما في الغار، أعز به الدين وجمع به بعد الفرقة، قال وما تقول في عمر ابن الخطاب؟ قال: فاروق الله وخيرته في خلقه، أحب الله أن يعز الدين بأحد الرجلين، فكان أحقهما بالخير والفضيلة، قال: فما تقول في عثمان؟ قال: مجهز جيش العسرة، والمشتري بيتاً في الجنة، والمقتول ظلماً، قال: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ فقال: أولهم إسلاماً، تزوج بنت الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي أحب بناته، قال: فما تقول في معاوية؟ قال: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فما تقول في الخلفاء منذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن؟ قال: سيجزون بأعمالهم فمسرور ومثبور لست عليهم بوكيل، قال فما تقول في عبد الملك بن مروان؟ قال: إن يكن محسناً فعند الله ثواب إحسانه، وإن يكن مسيئاً فلن يعجز الله، قال: فما تقول في؟ قال: أنت أعلم بنفسك، قال: بث في علمك، قال: إذن أسوءك ولا أسرك، قال: بث، قال: نعم ظهر منك جور في حد الله وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله، قال: والله لأقطعنك قطعاً، ولأفرقن أعضاءك عضواً عضواً، قال: إذن تفسد علي دنياي وأفسد عليك أخرتك، والقصاص أمامك، قال: الويل لك من الله، قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، قال: اذهبوا به فاضربوا عنقه، قال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله استحفظكها حتى ألقاك يوم القيامة. ولما ذهبوا به ليقتل تبسم، فقال له الحجاج: مم ضحكت؟ قال من جرأتك على الله عز وجل، فقال الحجاج: أضجعوه للذبح، فأضجع فقال: " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض " فقال الحجاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة، فقرأ سعيد " أينما تولوا فثم وجه الله " فقال كبوه على وجهه، فقرأ سعيد: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " فذبح من قفاه.
قال: فبلغ ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري، فقال: اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج، فما بقي إلا ثلاثاً حتى وقع الدود في بطنه فمات.
وفي رواية أخرى أنه عاش بعده خمسة عشر يوماً.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: حدَّثنا أحمد بن عبد الله، قال: أخبرنا أبو حامد بن جبلة، قال: حدَّثنا محمد بن إسحاق، قال: حدَّثنا الحسن بن عبد العزيز، قال: حدَّثنا سنيد، عن خلف بن خليفة، عن أبيه، قال: شهدت مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم قال الثالثة فلم يتمها.


أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحميدي، قال: أخبرنا القضاعي، قال: أخبرنا أبو مسلم الكاتب، قال: حدَّثنا ابن دريد، قال: حدَّثنا أبو عثمان، قال: حدَّثنا عبد الله قال: حدَّثنا غسان بن مضر، قال: حدَّثنا سعيد بن يزيد، قال: كما عند الحسن وهو متوار في بيت أي خليفة، فجاءه رجل فقال له: يا أبا سعيد، قتل الحجاج سعيد بن جبير، فقال الحسن: لعنة الله على الفاسق بن يوسف، ثم قال: والله لو أن أهل المشرق والمغرب اجتمعوا على قتل سعيد لأدخلهم الله النار.
وفي مقدار عمر سعيد بن جبير ثلاثة أقوال: أحدها سبع و خمسون، والثاني تسع وأربعون، والثالث اثنان وأربعون.
عبد الرحمن ين معاوية بن خديج أبو معاوية التجيبي روى عن ابن عمر، وابن عمرو، وأبي نضرة، وأبيه جمع له عبد العزيز بن مروان بين القضاء والشرط بمصر. وتوفي في هذه السنة.
قيس بن أبي حازم واسمه حصين ين عوف، ويقال: اسمه عبد عوف بن الحارث، أبو عبد الله الأحمسي: أدرك الجاهلية ، وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه فوجده قد توفي.
روى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد وسعيد، وابن مسعود، وبلال بن أبي رباح، وعمار، وخباب، وحذيفة، وجرير، في آخرين.
وقال أبو داود: روى عن تسعة من العشرة ولم يرو عن عبد الرحمن بن عوف، وقال غيره: روى عن العشرة.
قال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش الحافظ : ليس في التابعين من روى عن العشرة غيره.
وشهد النهروان مع علي رضي الله عنه.
روى عنه أبو إسحاق، وإسماعيل بن خالد و الأعمش وجاوز المائة بسنين كثيرة فتغير. وتوفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ثمان وتسعين.