المنتظم
الجزء السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
ثم دخلت
سنة ست وتسعين
فمن الحوادث فيها أن
قتيبة بن مسلم افتتح كاشغر وغزا الصين
وفيها أن الوليد أراد الشخوص إلى أخيه سليمان ليخلعه ويبايع لابنه عبد
العزيز بعده.
وقد ذكرنا أن عبد الملك جعلهما وليي عهده، فأراد الوليد سليمان على ذلك
فأبى، وعرض عليه أموالاً كثيرة فأبى. فكتب إلى عماله أن يبايعوا عبد
العزيز، ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه إلى ذلك إلا الحجاج وقتيبة بن
مسلم وخواص من الناس فقال له عباد بن زياد: إن الناس لا يجيبوك إلى
هذا، ولو أجابوك لم آمن الغدر منهم بابنك، فاكتب إلى سليمان فليقدم
عليك فإن عليه طاعة فأرده على البيعة فإنه لا يقدر على الإمتناع وهو
عندك، وإن أبى كان الناس عليه.
فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم فأبطأ، فاعتزم الوليد على المسير
إليه ليخلعه، فأمر الناس بالتأهب، فمرض فمات قبل أن يسير، فاستحلف
سليمان.
باب ذكر خلافة سليمان بن عبد الملك
ويكنى أبا أيوب، بويع يوم موت أخيه الوليد، وكان بالرملة فوصل الخبر
إليه بعد سبعة أيام، فبويع ،وسار إلى دمشق فورد على فاقة من الناس إليه
لما كانوا فيه من جور الوليد وعسفه، فأحسن السيرة، ورد المظالم، وفك
الأسرى، و أطلق أهل السجون، واتخذ عمر بن عبد العزيز وزيراً، ثم عهد
إليه.
وكان طويلاً أسمر أعرج أكولاً نشأ بالبادية عند أخواله، فلما قدم صعد
المنبر، فخنقته العبرة، ثم قال:
ركب تخب به المطي فغافل ... عن سيره ومشمر لم يغفل
لا بد أن يرد المقصر والذي ... حب النجاء محله لم تحلل
يا أيها الناس، رحم الله من ذكر فاذكر فإن العظة تجلو العمى، إنكم
أوطنتم أنفسكم دار الرحلة ، و اطمأننتم إلى دار الغرور فألهاكم الأمل
وغرتكم الأماني فأنتم سفر وإن أقمتم ، ومرتحلون إن وطنتم، لا تشتكي
مطاياكم ألم الكلال، ولا يتعبها دأب السير، ليل يدلج بكم وأنتم نائمون،
ونهاراً يجدبكم وأنتم غافلون، لكم في كل يوم مشيع لا يستقبل ، ودموع لا
يؤوب، أولا ترون - رحمكم الله - إلى ما أنتم فيه منافسون، وعليه
مواظبون، وله مؤثورن، من كثير يفنى، وجديد يبلى، كيف أخذ به المخلفون
له، وحوسبوا عليه دون المتنعم به، فأصبح كل منهم رهناً بما كسبت يداه.
وما الله بظلام للعبيد.
فيا أيها اللبيب المستبصر فيم تذهب أيامك ضياعاً؟ وعما قليل يقع
محذورك، وينزل بك ما طرحته وراء ظهرك، فأسلمك عشيرتك، وفرّ منك قريبك،
فنبذت في العراء، وانفضت عنك الدنيا.
فامهد
نفسك أيها المغرور، واعمل قبل ركوب المضيق وسد الطريق، فكأني بك قد
أدرجت في أطمارك، وأودعت ملحدك، وتصدع عنك أقربوك، واقتسم مالك بنوك،
ورجع القوم يرعون في زهرات موبق دنياك التي كدحت لها وارتحلت عنها،
فأنت كما قال الشاعر:
سترحل عن دنيا قليل بقاؤها ... عليك، وإن تبقى فإنك فان
إن لله عباداً فروا منه إليه فجالت فكرتهم في ملكوت العظمة، فعزفت
الدنيا نفوسهم.
أيها الناس، أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد وخلفاء الله، وأمراء
المؤمنين، وساسة الرعية؟ وأسمعهم الداعي، وقبض العارية معيرها، فاضمحل
ما كان كأن لم يكن، وأتى ما كأنه لم يزل، وبلغوا الأمد، وانقضت بهم
المدة، ورفضتهم الأيام وشمرتهم الحادثات فسلبوا عن السلطنة، ونفضوا لدة
الملك، وذهب عنهم طيب الحياة، فارقوا والله القصور وسكنوا القبور،
واستبدلوا بلينة الوطاء خشونة الثرى، فهم رهائن التراب إلى يوم الحساب،
فرحم الله عبداً مهد لنفسه، واجتهد لدينه، وأخذ بحظه، وعمل في حياته،
وسعى لصلاحه، وعمل ليوم، " تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت
من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه " أيها
الناس، أن الله عز وجل جعل الموت حتماً سبق به حكمه، ونفذ به قدره،
لئلا يطمع أحد في الخلود، ولا يطغى المعمر عمره، وليعلم المخلف بعد
المقدم أنه غير مخلد، وقد جعل الله الدنيا داراً لا تقوم إلا بائمة
العدل، ودعاة الحق، وإن لله عباداً يملكهم أرضه، ويسوس بهم عباده،
ويقيم بهم حدوده، ويجعلهم رعاة عباده، وقد أصبحت في هذا المقام الذي
أنا به غير راغب فيه ولا منافس عليه، ولكنها إحدى الربق أعقلها الواهق
مساغ المزدرد ومخرج النفس، ولو لا أن الخلافة تحفة من الله كفر بالله
خلفها لتمنيت أني كأحد المسلمين يضرب لي بسهمي.
فعلى رسلكم بني الوليد، فإني شبل عبد الملك، وناب مروان، لا تظلعني حمل
النائبة، ولا يفزعني صريف الأجفر، وقد وليت من أمركم ما كنت له مكفيا،
وأصبحت خليفة و أميراً، وما هو إلا العدل أو النار، ليجدني الممارس لي
أخشن من مضرس الكذاب، فمن سلك المحجة حذي نعل السلامة، ومن عدل عن
الطريق وقع في وادي الهلكة والضلالة. ألا فإن الله سائل كلا عن كل، فمن
صحت نيته ولزم طاعته كان الله له بصراط التوفيق، وبرصد المعونة، وكتب
له بسيل الشكر والمكافأة، فاقبلوا العافية فقد رزقتموها، والزموا
السلامة فقد وجدتموها، فمن سلمنا منه سلم منا، ومن تاركنا تاركناه، ومن
نازعنا نازعناه.
فارغبوا إلى الله في صلاح نياتكم وقبول أعمالكم، وطاعة سلطانكم، فإني
والله غير مبطل حداً، ولا تارك له حقاً حتى أنكثها عثمانية عمرية، وقد
عزلت كل أمير كرهته رعيته، ووليت أهل كل بلد من أجمع عليه خيارهم،
واتفقت عليه كلمتهم، وقد جعلت الغزو أربعة أشهر، وفرضت لذرية الغازين
سهم المقيمين، وأمرت بقسمة صدقة كل مصر في أهله إلا سهم العامل عليها،
وفي سبيل الله وابن السبيل، فإن ذلك لي وأنا أولى بالنظر فيه، فرحم
الله امرءاً عرف منا سهو المفغل عن مفروض حق وأوجب فأعان برأي، وأنا
أسأل الله العون على صلاحكم فإنه مجيب السائلين، جعلنا الله وإياكم ممن
ينتفع بموعظته، ويوفي بعهده، فإنه سميع الدعاء، واستغفر الله لي ولكم.
ذكر طرف من أخباره وسيرته أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن
ناصر، قالا: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الجبار، قال أخبرنا القاضي أبو
القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا، قال:
أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: أخبرنا ابن أبي سعيد، قال
حدَّثني علي بن محمد بن سليمان الهاشمي، قال: حدَّثني عبد الله بن
سليمان، عن سليمان بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عبد الله بن
الحارث قال:
كان
سليمان بن عبد الملك أكولا، وكانت بينه وبين عبد الله بن عبد الله وصلة
قال: قال لنا سليمان يوماً: إني قد أمرت قيم بستان لي أن يحبس علي
الفاكهة ولا يجني منها شيئاً حتى يدرك، فاغدوا عليّ مع الفجر، - يقول
لأصحابه الذين كان يأنس بهم - لنأكل الفاكهة في برد النهار. فغدونا في
ذلك الوقت، وصلى الصبح وصلينا، فدخلنا معه فإذا الفاكهة متهدلة على
أغصانها، وإذا كل فاكهة مختارة قد أدركت كلها، فقال: كلوا ثم أقبل
عليها وأكلنا بمقدار الطاقة، وأقبلنا نقول: يا أمير المؤمنين هذا
العنقود فيخرطه في فيه، يا أمير المؤمنين هذه التفاحة، وكلما رأينا
شيئاً نضيجاً أومأنا إليه فيأخذه فيأكله حتى ارتفع الضحى وارتفع النهار
ثم أقبل على قيم البستان، فقال: ويحك يا فلان أني قد استجعت فهل عندك
شيء تطعمنيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين عناق حولية حمراء، قال: آتني
بها ولا تأتني معها بخبز، فجاء بها على خوان، لا قوائم له وقد ملأت
الخوان، فاقبل يأخذ العضو فيجيء معه فيخرطه في فيه ويلقي العظم حتى أتى
عليها، ثم عاد لأكل الفاكهة، فأكل فأكثر، ثم قال للقيم: ويحك ما عندك
شيء تطعمنيه؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين دجاجتان بحريتان قد عميتا
شحماً، قال ائتني بهما، فأتى بهما، فأتى بهما ففعل بهما كما فعل
بالعناق، ثم عاد لأكل الفاكهة فأكل ملياً ثم قال: للقيم: هل عندك شيء
تطعمنيه فإني قد جعت، قال: عندي سويق كأنه قطع الأوتار،وسمن، وسكر،
قال: أفلا أعلمتني قبل هذا به، ائتني به وأكثر، فأتاه بقعب يقعد فيه
الرجل وقد ملأه من السويق وقد خلطه بالسكر وصب عليه السمن، وأتى بجرة
ماء بارد وكوز، فأخذ القعب على كفه، وأقبل القيم يصب عليه الماء فيحركه
ويأكله - أو قال - ويشربه حتى كفاه على وجهه فارغاً، ثم عاد للفاكهة،
فأكل ملياً حتى علت الشمس، ودخل وأمرنا أن ندخل إلى مجلسه، فدخلنا
وجلسنا، فما مكث أن خرج علينا، فلما جلس قام كبير الطباخين حياله يؤذنه
بالغداء، فأوما إليه أن ائت بالغداء، فأتاه به فوضع يده فأكل، فما
فقدنا من أكله شيئاً.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ قال: أخبرنا ثابت بن بندار، وأحمد بن علي بن
سوار، وأبو الفضل محمد بن عبد الله الناقد، قالوا: أخبرنا أبو الحسين
محمد بن عبد الواحد بن رزقة، قال: أخبرنا أبو سعيد الحسن عبد الله
السيرافي، قال: حدَّثني محمد بن يحيى، عن معن بن عبد الرحمن بن أبي
الزناد، عن أبيه، قال: كان سليمان بن عبد الملك في نادية له، فسمر ليلة
على ظهر سطح، ثم تفرق عنه جلساؤه، فدعا بوضوء، فجاءت به جارية له،
فبينا هي تصب عليه إذا استمدها بيده وأشار إليها فإذا هي ساهية مصغية
بسمعها مائلة بجسدها كله إلى صوت غناء تسمعه في ناحية العسكر، فأمرها
فتنحت واستمع هو الصوت، فإذا صوت رجل يغني، فأنصت له حتى إذا فهم ما
يغني من الشعر، ثم دعا جارية من جواريه غيرها فتوضأ.
فلما أصبح أذن للناس إذناً عاماً، فلما أخذوا مجالسهم أجرى ذكر الغناء
ومن كان يسمعه ولين فيه حتى ظن القوم أنه يشتهيه، فأفاضوا في ذلك
التليين والتحليل والتسهيل، وذكروا ما كان يسمعه من أهل المروءات
وسروات الناس، ثم قال: هل بقي أحد يسمع منه؟ قال رجل من القوم: عندي
رجلان من أهل أيلة حاذقان، فقال: أين منزلك من العسكر، فأوما إلى
الناحية التي كان فيها الغناء، فقال سليمان: يبعث إليهما، فوجد الرسول
احدهما فأقبل به حتى أدخله على سليمان، فقال له: ما اسمك؟ قال سمير،
قال: فسأله عن الغناء كيف هو فيه؟ قال: حاذق محكم، قال: فمتى عهدك به؟
قال: في ليلتي هذه الماضية، قال: وفي أي نواحي العسكر كنت؟ فذكر له
الناحية التي سمع فيها الصوت، قال: فما غنيت؟ قال: فذكر الشعر الذي سمع
سليمان، فاقبل سليمان، يقول: هدر الجمل فضبعت الناقة، وهب التيس فشكرت
الشاة، وهدر الحمام فرافت، وغنى الرجل فطربت المرأة ثم أمر به فخصي
وسأل عن الغناء أين أصله، وأكثر ما يكون؟ قالوا: بالمدينة وهو في
المخنثين وهم الحذاق به والأئمة فيه، فكتب إلى عامله في المدينة وهو
أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم أن أخص من قبلك من المخنثين.
قال الزبير: وأخبرني محمد بن يحيى بن موسى بن جعفر بن أبي كثير، عن عبد
الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه مثله.
وكان ابن أبي عبلة وسليمان بن حرب يقصان عند سليمان بن عبد الملك.
وفي هذه السنة:
عزل
سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيان عن المدينة لسبع بقين في رمضان.
وكانت امرأته عليها ثلاث سنين. وقيل: سنتين إلا سبع ليال.
وفيها: عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق. وأمر عليها يزيد بن
المهلب.
وفيها جعل سليمان صالح بن عبد الرحمن على الخراج وأمره أن يقتل آل أبي
عقيل ويبسط عليهم العذاب وكان يلي عذابهم عبد الملك بن المهلب.
وفيها قتل قتيبة بن مسلم بخراسان وسبب قتله أن الوليد لما أراد خلق
سليمان ووافقه قتيبة، فلما مات الوليد خاف قتيبة من سليمان، وحذر أن
يولي يزيد بن المهلب خراسان، فكتب إلى سليمان كتاباً يهنئه بالخلافة،
ويعزيه على الوليد، ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه له
على مثل ما كان لهما من الطاعة والنصيحة، إن لم يعزله عن خراسان، ثم
كتب كتاباً يعلمه فيه فتوحه وعظم قدره عند ملوك العجم، وهيبته في
صدورهم، ويذم المهلب وآل المهلب، ويحلف بالله عز وجل لئن استعمل يزيد
على خراسان ليخلعنه. ثم كتب كتاباً ثالثاً فيه خلعه، وبعث بالكتب
الثلاثة، مع رجل من باهلة، وقال: ادفع هذا الكتاب إليه فإن قرأه وألقاه
إلى يزيد فادفع هذا الكتاب إليه وإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد
فاحتبس الكتابين الآخرين.
فقدم الرسول فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلب، فدفع إليه الكتاب
فقرأه ثم رماه به إلى يزيد، ثم دفع إليه الكتاب الثاني فقرأه ثم رمى به
إلى يزيد، فأعطاه الثالث فتمعر لونه، ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه بيده،
ثم أمر بالرسول إلى دار الضيافة، فلما أمسى دعا به فأعطاه دنانير وقال:
هذه جائزتك، وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر، وهذا رسولي معك بعهده،
فخرج فلما كان بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة لسليمان، وكان قتيبة قد
خلعه ودعا الناس إلى خلعه، فكره الناس خلع سيلمان، فصعد قتيبة المنبر
وسب الناس لكونهم لم يوافقوه، واجتمعوا على خلافه وخلعه، ثم قتلوه.
في هذه السنة عزل سليمان خالد بن عبد الله القسري عن مكة وولاها طلحة
بن داود الحضرمي وفيها: غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الصائفة ففتح حصناً
يقال له: حصن عوف.
وفيها: حج بالناس أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وهو الأمير
على المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد،
وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب، وعلى خراجها صالح بن عبد
الرحمن، وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد بن المهلب،
وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن ابن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن
أبي موسى، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي بردة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن يزيد بن الأسود، أبو عمران النخعي كان إماماً في الفقه،
يعظمه الأكابر، وكان سعيد بن جبير يقول: اتستفتوني وفيكم إبراهيم.
وكان شديد الهيبة، يهاب كما يهاب الأمير، وكان يتخوف من الفتوى ويحتقر
نفسه ويقول: احتيج إليّ، ويكره أن يستند إلى السارية، ولا يتكلم حتى
يسأل وحمل الناس عنه العلم وهو ابن ثمان عشرة سنة. وكان يصوم يوماً
ويفطر يوماً.
أنبأنا زاهر بن طاهر، قال: أخبرنا أبو بكر بن أحمد بن الحسين البيهقي،
قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم، قال: سمعت أبا علي
الحسن بن علي بن يزيد الحافظ يقول: سمعت أبا عبد الرحمن محمد بن عبد
الله البيروتي، يقول: حدَّثنا محمد بن أحمد بن مطر بن العلاء، قال:
حدَّثني محمد بن أحمد بن يوسف بن بشير القرشي، قال: حدَّثني الوليد
محمد بن الموقري، قال: سمعت محمد بن مسلم الزهري، يقول:
قدمت على
عبد الملك بن مروان، فقال لي: من أين قدمت يا زهري؟ قلت: من مكة، فقال:
من خلفت بها يسود أهلها؟ فقلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فمن العرب أم
الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: وبم سادهم؟ قلت: بالديانة الرواية،
قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا، فمن يسود أهل اليمن؟
فقلت: طاوس بن كيسان، قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي،
قال: وبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء، قال: إنه لينبغي. قال: فمن
يسود أهل مصر؟ قلت يزيد بن أبي حبيب، قال: فمن العرب أم من الموالي؟
قلت: من الموالي، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل، قال: من يسود أهل
الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من
الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسين بن أبي الحسن، قال:
فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: ويلك من يسود أهل
الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من
العرب، قال: ويلك يا زهري، فرجت عني، والله ليسودن الموالي على العرب
حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، قلت: يا أمير المؤمنين، إنما
هو أمر الله ودينه، فمن حفظ ساد، ومن ضيعه سقط.
أخبرنا يحيى بن علي المدير، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن النقور، قال:
حدَّثنا أحمد بن محمد بن عمران، قال: حدَّثنا البغوي، قال: حدَّثنا
محمد بن بكار، قال: حدَّثنا محمد بن طلحة، عن ميمون بن أبي حمزة، عن
إبراهيم أنه قال: قد تكلمت ولو وجدت بداً ما تكلمت، وإن زماناً أكون
فيه فقه الكوفة لزمان سوء.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد الفقيه، قال: أخبرنا عبد
الله بن أحمد بن عثمان الصوفي، قال: حدَّثنا أبو أحمد الأنباري، قال:
حدَّثنا أبي، قال: حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم الكتاني، قال: حدَّثنا
الفضل بن دكين، قال: حدَّثنا الأعمش، قال: خرجت أنا وإبراهيم النخعي
ونحن نريد الجامع، فلما صرنا في خلال طرقات الكوفة قال لي: يا سليمان،
قلت لبيك، قال: هل لك أن تأخذ في خلال طرقات الكوفة كي لا تمر بسفهائها
فينظرون إلى أعور وأعمش فيغتابونا ويأثمون؟ قلت: يا أبا عمران، وما
عليك في أن نؤجر ويأثمون؟ قال: يا سبحان الله، بل نسلم ويسلمون خير من
أن نؤجر ويأثمون.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، قال:
حدَّثنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد، قال:
حدَّثنا أحمد بن روح، قال: حدَّثنا حماد بن المؤمل، قال: حدَّثنا إسحاق
بن إسماعيل، قال: حدَّثنا أبو معاوية، عن محمد بن سوقة، عن عمران
الخياط، قال: دخلنا على إبراهيم النخعي نعوده وهو يبكي، فقلنا: ما
يبكيك؟ قال: انتظر ملك الموت ، لا أدري يبشرني بالجنة أم بالنار.
أدرك النخعي أبا سعيد الخدري، وعائشة، وعامة ما يروي عن التابعين
كعلقمة، ومسروق، والأسود، وتوفي هذه السنة وهو ابن تسع وأربعين سنة.
وقيل ابن نيف وخمسين سنة.
وكان الشعبي يقول: والله ما ترك بعده مثله.
عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان أمه حفصة بنت عبد الله بن عمر بن
الخطاب، توفي بمصر في هذه السنة.
وهذا الرجل تزوج إليه أربعة من الخلفاء، كان له بنت اسمها عبدة تزوجها
الوليد بن عبد الملك، وابنة تكنى أم سعيد تزوجها يزيد بن عبد الملك،
ورقية تزوجها هشام بن عبد الملك، وبنت اسمها عائشة تزوجها سليمان بن
عبد الملك.
قتيبة بن مسلم أبو حفص كان يروي عن أبي سعيد الخدري، والشعبي. تولى
خراسان سنة ست وثمانين، وغزا بها غزوات إلى أن مات الحجاج، ثم قتله
وكيع بن أبي الأسود الحنظلي بفرغانة، وقد سبق خبره، الوليد بن عبد
الملك بن مروان توفي يوم السبت منتصف جمادي الآخرة سنة ست وتسعين
بديرمران وحمل إلى دمشق فدفن بها في مقابر الفراديس، وصلى عليه عمر بن
عبد العزيز؛ لأن أخاه سليمان الذي كان وليّ عهده كان غائباً في الرملة،
وعاش اثنتين وخمسين سنة. وقيل اثنتين وأربعين. وقيل: خمساً وأربعين.
قال الزهري: كانت خلافته عشر سنين إلا شهر.
وقال أبو معشر: تسع سنين وأربعة أشهر.
وقال الواقدي: وثمانية أشهر.
وقال هشام بن محمد الكلبي: كانت خلافته - يعني الوليد - ثماني سنين
وثلاثة أشهر.
ثم دخلت
سنة سبع وتسعين
فمن الحوادث فيها:
تجهيز
سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية؛ واستعمال ابنه داود على الصائفة.
وفيها: غزا مسلمة أرض الروم ففتح الحصن الذي كان الوضاح افتتحه.
وفيها: غزا عمر بن هبيرة الفزاري أرض الروم، فشتى بها.
وفيها: ولي سليمان يزيد بن المهلب خراسان وكان السبب في ذلك أن سليمان
لما ولي يزيد بن المهلب حرب العراق والصلاة وخراجها، فنظر يزيد فإذا
الحجاج قد أخرب العراق، فقال في نفسه: متى أخذت الناس بالخراج وعذبتهم
صرت مثل الحجاج، ومتى لم آت سليمان بمثل ما كان يأتي به الحجاج لم يقبل
مني. فجاء يزيد إلى سليمان فقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه؟
صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم، فقبل منه، فأقبل يزيد على العراق
وقد قدم قبله عبد الرحمن، فنزل واسط، فخرج الناس يتلقون يزيد، ولم يخرج
صالح حتى قرب يزيد، وكان صالح لا ينفذ أمر يزيد ويضيق عليه ويعاتبه في
كثرة إنفاقه، ويقول: هذا لا يرضي أمير المؤمنين.
فبينا هو كذلك إذ جاء كتاب سليمان بتولية يزيد خراسان، وكان قد وليها
وكيع بن أبي الأسود بعد قتل قتيبة تسعة أشهر أو عشرة، فقدمها يزيد
والياً عليها، وكان جواداً.
حج بالناس سليمان بن عبد الملك، وحج الشعراء معه، فلما صدر من الحج عزل
طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، وكان قد عمل عليها ستة أشهر، وولي عبد
العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان عمال الأمصار هم العمال في
السنة التي قبلها، إلا خراسان فإن عاملها كان يزيد بن المهلب بن أبي
صفرة.
ذكر من توفي هذه السنة من الأكابر
طلحة بن عبد الله بن عوف ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، يكنى أبا محمد،
ولي المدينة، وكان من سراة قريش وأجوادهم، ومدحه القرزدق ومدح عشرة من
أهل المدينة، فأعطاه طلحة ألف دينار، فلم يتجاسر أحد على نقيصة الفرزدق
لئلا يتعرضوا للسانه فأتعب الناس.
وتوفي طلحة في هذه السنة عن اثنتين وسبعين سنة.
ثم دخلت
سنة ثمان وتسعين
فمن الحوادث فيها
غزو سليمان القسطنطينية
فنزل دابق ووجه أخاه مسلمة إليها وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو
يأتيه أمره، فشتى بها وصاف. ولما دنا من قسطنطينية، أمر كل فارس أن
يحمل مدين من الطعام حتى يأتي به القسطنطينية، فأمر بالطعام فألقي
ناحية مثل الجبال، ثم قال للمسلمين: لا تأكلوا منه شيئاً، أغيروا في
أراضهم. وعمل بيوتاً من خشب، فشتى فيها، وزرع الناس، ومكث ذلك الطعام
في الصحراء لا يكنه شيء، والناس يأكلون ما أصابوا من الغارات، ثم أكلوا
الزرع، وأقام مسلمة بالقسطنطينة قاهراً لأهلها، معه وجوه أهل الشام:
خالد بن معدان، وعبد الله بن أبي زكرياء الخزاعي، ومجاهد بن جبير، حتى
أتاه موت سليمان.
وفي هذه السنة بايع سليمان بن عبد الملك لأبنه أيوب وجعله ولي عهده،
وكان عبد الملك قد أخذ على الوليد وسليمان أن يبايعا لابن عاتكة،
ولمروان بن عبد الملك من بعده، فمات مروان في خلافة سليمان في منصرفه
من مكة، فبايع سليمان حين مات لأيوب، وأمسك عن يزيد وتربص به، ورجا أن
يهلك، فهلك وأيوب ولي عهده.
وفيها فتحت مدينة الصقالبة.
وفيها: غزا الوليد بن هشام، فأصاب ناساً من نواحي الروم فأسر منهم
خلقاً كثيراً.
وفيها غزا يزيد بن المهلب جرجان وطبرستان في مائة ألف مقاتل سوى
الموالي والمتطوعين. وجاء فنزل بدهستان فحاصرها ومنع عنهم المواد، فبعث
إليه ملكهم: إني أريد أن أصالحك على أن تؤمنني على نفسي وأهل بيتي
ومالي، وأدفع إليك المدينة وما فيها وأهلها. فصالحه ووفى له ودخل
المدينة، وأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز، ومن السبي ما لا يحصى،
وقتل أربع عشر ألف تركي صبراً، وكتب بذلك إلى سليمان بن عبد الملك، ثم
خرج حتى أتى جرجان، و قد كانو يصالحون أهل الكوفة على مائة ألف، ومائتي
ألف، وثلاثمائة ألف، وقد كانوا صالحوا سعيد بن العاص، ثم امتنعوا
وكفروا، فلم يأت بعد سعيد إليهم أحد، ومنعوا ذلك الطريق فلم يسلكه أحد
إلا على وجل وخوف منهم.
فلما
أتاهم يزيد استقبلوه بالصلح، فاستخلف رجلاً. ودخل طبرستان فعرض ملكها
عليه الصلح، فصالحه على سبعمائة ألف درهم - أو أربعمائة ألف درهم -
نقداً، وثلاثمائة ألف مؤجلة، وأربعمائة ألف حمار موقرة زعفران،
وأربعمائة رجل على رأس كل رجل برنس، وعلى البرنس طيلسان وجام من الفضة
وسرقة من حرير.
وكان شهر ين حوشب على خزائن يزيد بن المهلب، فرفع إليه أنه أخذ خريطة
فسأله عنها، فأتاه بها، فقال: هي لك، فقال: لا حاجة لي فيها، فقال
القطامي:
لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القراء بعدك يا شهر؟!
وكان فيما أصاب يزيد بن المهلب بجرجان تاج فيه جوهر، فقال: أترون أحداً
يزهد في هذا التاج؟ قالوا: لا، فدعا محمد بن واسع فقال: خذ هذا التاج
فهو لك، قال: لا حاجة لي فيه، قال: عزمت عليك إلا أخذته، فأخذه وخرج
فأمر يزيد رجلاً ينظر ما يصنع به، فلقي سائلاً فدفعه إليه فأخذه الرجل
السائل، فأتى به يزيد، فأخذ يزيد التاج وعوض السائل مالاً.
وكان سليمان يقول ليزيد بن المهلب كلما رأى قتيبة يفتح حصناً: أما ترى
ما يصنع الله عز وجل على يدي قتيبة؟ فيقول يزيد: الشأن في جرجان. فلم
ولي لم يكن له همة غير جرجان، فجاء فصالحوه على ما ذكرنا.
ثم إنهم غدروا بجنده فقتلوا منهم، ونقضوا العهد فأعطى الله عهداً لئن
ظفر بهم لا يرفع عنهم السيف حتى يطحن بدمائهم ويختبز من ذلك الطحين
ويأكل فنزل علها سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء، ولا يعرف لها مأتى
إلا من وجه واحد، فكانوا يخرجون فيقاتلونهم ويرجعون إلى حصنهم، فدله
رجل على طريق آخر يشرف عليهم، فبعث معه جنداً، ونهض هو لقتالهم فركبهم
المسلمون، فأعطوا بأيديهم ونزلوا على حكمه، فسبى ذراريهم وقتل مقاتليهم
وصلبهم على الشجر عن يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثني عشر ألفاً إلى
الوادي فقتلوا فيه، فأخرى فيه دماءهم، وأجرى فيه الماء وعليه أرحاء،
فحطن واختبز وأكل، وبنى مدينة جرجان، ولم تكن من قبل ذلك مدينة،
واستعمل عليهم جهم بن زحر الجعفي، ورجع إلى خراسان وكتب يزيد إلى
سليمان: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الله تعالى ذكره قد فتح
لأمير المؤمنين فتحاً عظيماً، وصنع للمسلمين أحسن الصنع، فلربنا الحمد
على نعمه وإحسانه، واظهر في خلافة أمير المؤمنين على جرجان وطبرستان،
وقد أعيا ذلك سابور ذا الأكتاف، وكسرى بن قباد، وكسرى بن هزمز، وأعيا
الفاروق عمر بن الخطاب، وذا النورين ومن بعدهما، حتى فتح الله سبحانه
ذلك لأمير المؤمنين، كرامة الله عز وجل له، وزيادة في نعمه عليه، وقد
صار عندي من خمس ما أفاء الله عز وجل على المسلمين بعد أن صار إلى كل
ذي حق حقه من الفيء والغنيمة سبعة آلاف ألف، وأنا حامل هذا لأمير
المؤمنين إن شاء الله.
وفي هذه السنة كثرت الزلازل ودامت ستة أشهر. وفتح حصن المرأة مما يلي
ملطية.
وفيها: حج بالناس عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وهو يومئذ
أمير على مكة. وكان عمال الأمصار هم الذين كانوا في السنة التي قبلها،
غير أن عامل ابن المهلب على البصرة كان سفيان بن عبد الله الكندي
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي ويكنى أبا عبد الله،
وهو حليف بني زهر بن كلاب. روى عن أبي هريرة، وابن عباس، وأبي طلحة،
وسهل بن حنف، وزيد بن خالد، وأبي سعد الخدري، وعائشة، وكان ثقة فقيهاً،
وهو أحد الفقهاء السبعة ومن أكابرهم، وهو مع ذلك شاعر فصيح. وجده عتبة
ين مسعود أخو عبد الله بن مسعود لأبويه، قديم الإسلام ولم يرو عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم شيئاَ ومات في خلافة عمر، وأما ابنه عبد الله
فإنه نزل الكوفة ومات بها في خلافة عبد الملك. ومات عبيد الله بالمدينة
في سنة ثمان وتسعين. وقيل: في سنة تسع. وكان الزهري يسميه بحراً.
قال عمر بن عبد العزيز: لو أدركني إذ وقعت فيما وقعت فيه. وكان عمر
يقول: من بليلة من ليالي عبيد الله بن عبد الله بألف دينار. وكان قد
ذهب بصره، وقال شعراً روى عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال:
قدمت المدينة امرأة من هذيل، وكانت جميلة جداً، فرغب الناس فيها
فخطبوها وكادت تذهب بعقول أكثرهم، فقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
بن مسعود:
أحبك حباً
لا يحبك مثله ... قريب ولا في العاشقين بعيد
أحبك حباً لو شعرت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد
وحبك يا أم الصبي مدلهي ... شهيدي أبو بكر فنعم شهيد
ويعرف وجدي القاسم بن محمد ... وعروة ما ألقى بكم وسعيد
ويعلم ما أخفي سليمان علمه ... وخارجة يبدي بنا ويعيد
متى تسألي عما أقول وتخبري ... فلله عندي طارف وتليد
فقال سعيد بن المسيب: أما أنت والله قد أمنت أن تسألنا وما طمعت إن
سألتنا أن نشهد لك بالزور.
قال الزبير: هؤلاء الذين استشهدهم عبيد الله وهو معهم فقهاء المدينة
السبعة الذين أخذ عنهم الرأي.
توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة تسع وتسعين
فمن الحوادث فيها: وفاة سليمان بن عبد الملك، وخلافة عمر بن عبد العزيز
باب ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، ويكنى أبا حفص، وأمه أم عاصم
بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
روى عن ابن عمر، وأنس، وعبد الله بن جعفر، وعمر بن أبي سلمة، والسائب
بن يزيد. وأرسل الحديث عن جماعة القدماء، وروى عن خلق كثير من
التابعين، وكان عالماً ديناً.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز، قال أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال:
أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، قال: أخبرنا سليمان بن إسحاق الجلاب، قال:
حدَّثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدَّثنا محمد بن سعيد قال: أخبرنا
أحمد بن أبي إسحاق، قال: حدَّثنا إبراهيم بن عياش، قال: حدَّثني ضمرة،
قال: قال ابن شوذب.
لما أراد عبد العزيز بن مروان أن يتزوج أم عمر بن عبد العزيز قال
لقيمه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي فإني أريد أن أتزوج إلى أهل
بيت لهم صلاح. فتزوج أم عمر بن عبد العزيز.
وما زال عمر يميل إلى الخير والدين مع أنه ولي الإمارة، وكانوا يفزعون
إليه في أحوالهم. ولما مرض سليمان كتب العهد لأبنه أيوب، ولم يكن
بالغاً، فرده عن ذلك رجاء بن حيوة فقال له: فما ترى في ابني داود، فقال
له: هو بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت، قال:فمن؟فقال: رأيك يا
أمير المؤمنين، قال: كيف ترى في عمر؟ فقال: أعلمه والله فاضلاً خيراً
مسلماً، فقال: لئن وليته ولم أول أحداً من ولد عبد الملك لتكونن فتنة،
ولا يتركونه، فكتب له، وجعل من بعده يزيد، وختم الكتاب، وأمر أن يجمع
أهل بيته، وأمر رجاء بن حيوة أن يذهب بكتابه إليهم، وأمرهم أن يبايعوا
من فيه، ففعلوا، ثم دخلوا على سليمان الكتاب بيده، فقال: هذا عهدي
فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا.
قال رجاء: فجائني عمر بن عبد العزيز، فقال: يا رجاء قد كنت لي بسليمان
حرمة وأنا أخشى أن يكون قد أسند إلي من هذا الأمر شيئاً، فإن كان
فأعلمني استعفيه، فقال رجاء: والله لا أخبرك بحرف، فمضى قال: وجاءني
هشام فقال: لي حرمة وعندي شكر فأعلمني، فقلت: لا والله لا أخبرك بحرف،
فانصرف هشام وهو يضرب بيد على يد ويقول: فإلى من؟ فلما مات سليمان جددت
البيعة قبل أن يخبر بموته، فبايعوا، ثم قرأ الكتاب، فلما ذكر عمر بن
عبد العزيز نادى هشام: والله لا نبايعه، فقال له رجاء: إذن والله اضرب
عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه ويسترجع إذ خرج عنه الأمر، وعمر يسترجع
إذ وقع فيه.
ثم جيء بمراكب الخلافة، فقال عمر: قربوا لي بغلتي، ثم أنشد يقول:
ولولا التقي ثم النهى خشية الردى ... لعاصيت في حب الهوى كل زاجر
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى ... له صبوة أخرى الليالي الغوابر
ثم قال: إن شاء الله، ثم خطب فقال: يا أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا
الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا مشورة. وإني قد خلعت ما في أعناقكم
من بيعتي فاختاروا لأنفسكم، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير
المؤمنين ورضينا بك فلي أمرنا باليمن والبركة. فقال: أوصيكم بتقوى
الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف، فاعملوا
لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم
يصلح الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت وأحسنوا الاستعداد له قبل أن
ينزل بكم، وإن امرأً لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم أبا حياً
لمعرق له في الموت.
ثم نزل
فدخل فأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت وأمر
ببيعها وإدخال ثمنها في بيت المال ورد المظالم.
أخبرنا علي بن أبي عمر، قال: أخبرنا محمد بن الحسن الباقلاوي، قال:
أخبرنا عبد الملك بن بشران قال: أخبرنا أبو بكر الآجري، قال: حدَّثنا
أبو عبد الله بن مخلد، قال: حدَّثني سهل بن عيسى المروزي، قال: حدَّثني
القاسم بن محمد بن الحارث المرزوي، قال: حدَّثني سهل بن يحيى بن محمد،
قال: أخبرني أبي، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: لما بلغ
الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم قالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا
الرجل.
وبلغ ذلك عمرو بن الوليد بن عبد الملك، فكتب إليه: إنك قد أزريت على من
كان قبلك من الخلفاء، وعبت عليهم وسرت بغير سيرتهم بغضاً لهم وسباً لمن
بعدهم من أولا دهم، قطعت ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال
قريش ومواريثيم، فأدخلتها في بيت المال جوراً وعدواناً، ولن تترك على
هذا، فلما قرأ كتابه كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله
عمر أمير المؤمنين إلى عمر بن الوليد، السلام على المرسلين والحمد لله
رب العالمين، أما بعد، فإنني بلغني كتابك وسأجيبك بنحو منه: أما أول
شأنك ابن الوليد كما زعم فأمك بنانه أمة السكون، كانت تطوف في سوق حمص
وتدخل حوانيتها، ثم الله أعلم بما اشتراها ذبيان من فيء المسلمين،
فأهداها لأبيك فحملت بك، فبئس المحمول وبئس المولود. ثم نشأت فكنت
جباراً عنيداً، أتزعم أني من الظالمين لما حرمتك وأهل بيتك فيء الله عز
وجل الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل، وإن أظلم مني وأترك لعهد
الله من استعملك صبياً سفيهاً على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك، ولم
تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، فويل لك وويل لأبيك، ما أكثر
خصماءكما يوم القيامة، وكيف ينجو أبوك من خصمائه.
وإن أظلم مني أترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف يسفك الدم
الحرام، ويأخذ المال الحرام، وإن اظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل
قرة بن شريك أعرابياً جافياً على مصر أذن له في المعازف اللهو والشرب.
وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لعالية البربرية سهماً في خمس فيء
العرب فرويداً يا ابن بنانة، فلو التقى خلقاً البطان ورد الفيء إلى
أهله لتفرغت لك ولأهل بيتك فوضعتهم على المحجة البيضاء، فلطالما تركتم
الحق وأخذتم في بنيات الطريق، ومن وراء هذا أرجو أن أكون رأيته بيع
رقبتك وقسم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل فإن لكل فيك حقاً،
والسلام علينا ولا ينال سلام الله الظالمين.
أخبرنا هبة الله بن أحمد الحريري بإسناده عن عمرو بن مهاجر قهرمان عمر
بن عبد العزيز، قال: كان نقش خاتم عمر بن عبد العزيز الوفاء عزيز.
أخبرنا علي بن أبي عمر بإسناد له عن قبيصة، قال: سمعت سفيان الثوري
يقول: الخلفاء خمسة: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وعمر بن
عبد العزيز رضي الله عنهم.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا
أبو الطيب الطبري، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا، قال: حدَّثنا عبد
الله بن الضحاك، قال: حدَّثنا الهيثم ين عدي، عن عوانة بن الحكم، قال:
لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه، فأقاموا ببابه أياماً
لا يؤذن لهم. فبينما هم كذلك وقد أزمعوا على الرحيل إذ مر بهم رجاء بن
حيوة - وكان من خطباء أهل الشام - فلما رآه جرير داخلاً على عمر أنشأ
يقول:
يا أيها الرجل المرخي عمامته ... هذا زمانك فاستأذن لنا عمر
قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئاً، ثم مر بهم عدي بن أرطأة فقال جرير:
يا أيها الرجل المرخي مطيته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لا قيه ... أني لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لقيت مغفرة ... قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
قال: دخل
عدي على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة
وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي، مالي وللشعراء، قال: أعز الله أمير
المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح وأعطى، ولك في
رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، قال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن
مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع به لسانه، قال: أو تروي من قوله شيئاً؟
قال: نعم، فانشده يقول:
رأيتك يا خير البرية كلها ... نشرت كتاباً جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا ... عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالتبيان امرأ مدلسا ... وأطفأت بالقرآن ناراً تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمدا ... وكل امرئ يجزي بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه ... وكان قديماً ركنه قد تهدما
تعالى علواً فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلا وأعظما
قال: ويحك يا عدي، من بالباب منهم؟ قال: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة،
قال: أو ليس هو الذي يقول:
ثم نبهنها فهبت كعاباً ... طفلة ما تبين رجع الكلام
ساعة ثم إنها بعد قالت ... ويلتا قد عجلت يا ابن الكرام
أعلى غير موعد جئت تسري ... تتخطى إلى رؤوس النيام
فلو كان عدو الله إذ فجر كتم على نفسه، لا يدخل علي والله أبداً، من
بالباب سواه؟ قال: همام بن غالب يعني الفرزدق - قال: أليس هو الذي
يقول:
هما دلياني من ثمانين قامة ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوى رجلاي بالأرض قالتا ... أحي يرجى أم مثيل نحاذره
لا يطأ والله بساطي، فمن سواه بالباب منهم؟ قال: الأخطل، قال: يا عدي،
هو الذي يقول:
ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عيساً بكور ... إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بزائر بيتاً بعيداً ... بمكة ابتغي فيه صلاحي
ولست بقائم كالعير أدعو ... قبيل الصبح حيّ على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا ... وأسجد عند منبلج الصباح
والله لا يدخل علي وهو كافر أبداً، فهل بالباب سوى من ذكرت؟ قال: نعم،
الأحوص، قال أليس هو الذي يقول:
الله بيني وبين سيدها ... يفر مني بها واتبعه
فمن ها هنا أيضاً؟ قال: جميل بن معمر، قال يا عدي، هو الذي يقول:
ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن أمت ... يوافق في الموتى ضريحها ضريحي
فما أنا في طول الحياة براغب ... إذا قيل قد سوي عليها صفيحا
فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بعد ذلك صالحاً، والله
لا يدخل عليّ أبداً، فهل سوى من ذكرت أحد؟ قال نعم جرير بن عطية، قال:
أما أنه الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب فليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان لا بد فهو، فأذن لجرير، فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمداً ... جعل الخلاقة للإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه ... حتى ارعوى فأقام ميل المائل
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً ... والنفس مولعة بحب العاجل
فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير، اتق الله ولا تقل إلا حقاً،
فأنشأ جرير يقول:
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت ... أم قد كفاني بما بلغت من خبري
كم باليمامة من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدك تكفي فقد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوف كأن به ... خبلاً من الجن أو مساً من البشر
خليفة الله ماذا تأمرون بنا ... لسنا إليكم ولا في دار منتظر
مازلت بعدك في هم يؤرقني ... قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ... ولايعود لنا باد على حضر
إنا لنرجو
إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرامل الذكر
الخير مادمت حياً لا يفارقنا ... بوركت يا عمر الخيران من عمر
فقال: يا جرير، ما أرى لك فيما ها هنا حقاً، قال: بلى يا أمير المؤمنين
أنا ابن سبيل ومنقطع، فأعطاه من صلب ماله مائة درهم.
قال: وقد ذكر أنه قال له: ويحك يا جرير لقد ولينا هذا الأمر وما نملك
إلا ثلاثمائة درهم، فمائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أم عبيد الله،
يا غلام أعطه المائة الباقية قال: فأخذها وقال: والله لهي أحب من كل ما
اكتسبته.
قال: ثم خرج، فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسركم، خرجت من عند
أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويعطي الشعراء، وإني عنه لراض، وأنشأ
يقول:
رأيت رقى الشيطان لا يستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا
وحكى ابن قتيبة عن حماد الرواية، قال: لي كثير: ألا أخبرك بما دعاني
إلى ترك الشعر؟ قلت: خبرني، قال: شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن
عبد العزيز، وكل واحد منا يدل عليه بسابقة له أو خلة ونحن لا نشك في
أنه سيشركنا في خلافته، فلما رفعت لنا أعلام خناصره لقينا مسلمة بن عبد
الملك جائياً من عنده وهو يومئذ فتى العرب، فسلمنا عليه، فرد السلام،
ثم قال: أما بلغكم أن أمامكم لا يقبل الشعر، قلت: ما وضح لنا حتى
لقيناك. ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا، قال: إن يكن ما تحبون وإلا فما ألبث
حتى أرجع إليكم فأمنحكم ما أنتم أهله، فلما قدم كانت رحالنا هذه بأكرم
منزل وأفضل منزول عليه، وأقمنا أربعة أشهر يطلب لنا الأذن هو وغيره،
فلم يأذن لنا إلى أن قلت في جمعة من تلك الجمع: لو أني دنوت من عمر
فسمعت كلامه فتحفظته كان ذلك رأياً، فكان مما تحفظته من كلامه يومئذ:
لكل سفر لا محالة زاد، فتزودوا من الدنيا إلى الآخرة التقوى، وكونوا
كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه، فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن
عليكم الأمر فتقسوا قلوبكم وتنقادوا لعدوكم، في كلام كثير.
ثم قال: أعوذ بالله، أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر
عيبتي، وتبدو مسكنتي في يوم لا نفع فيه إلا الحق والصدق. ثم بكى حتى
ظننا أنه قاض نحبه، وارتج المسجد بالبكاء والعويل، فرجعت إلى أصحابي
فقلت خذوا في شرح من الشعر غير ما كنا نقول لعمه وأبائه، فإن الرجل
أخروي وليس بدنيوي إلى أن استأذن لنا مسلمة يوم جمعة، فأذن لنا بعدما
أذن للعامة، فلما دخلت سلمت، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، طال الثواء
وقلت الفائدة، وتحدثت بجفائك إيانا وفود العرب، فقال: يا كثير " إنما
الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب
والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل " فقلت ابن السبيل منقطع به. وأنا
صاحبك، قال: أولست ضيف أبي سعيد؟ قلت بلى، قال: ما أرى من كان ضيفه
منقطعاً به، قلت: أفتأذن لي بالإنشاد يا أمير المؤمنين؟ قال: قل ولا
تقل إلا حقاً، فقلت:
وليت فلم تشتم علياً ولم تخف ... برياً ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي ... أتيت فأمسى راضياً كل مسلم
وقد لبست لبس الهلوك ثيابها ... تراءى لك الدنيا بوجه ومعصم
وتومض أحياناً بعين مريضة ... وتبسم عن مثل الجمان المنظم
فأعرضت عنها مشمئزاً كأنما ... سقتك مذوقاً من سمام وعلقم
وقد كنت من أجبالها في ممنع ... ومن بحرها في مزبد الموج مفعم
فلما أتاك الملك عفوا ولم يكن ... لطالب دنيا بعده من تكلم
تركت الذي يفنى وإن كان مونقاً ... وآثرت ما يبقى برأي مصمم
سما لك هم في الفؤاد مؤرق ... بلغت به أعلى البناء المقدم
فما بين شرق الأرض والغرب كلها ... مناد ينادي من فصيح وأعجم
يقول أمير المؤمنين ظلمتني ... بأخذ لدينار ولا أخذ درهم
ولا بسط كف بامرئ غير مجرم ... ولا السفك منه ظالماً ملء محجم
فاربح بها
من صفقة لمتابع ... وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم
فقال لي: يا كثير، إنك تسأل عما قلت. ثم تقدم الأحوص فاستأذنه في
الإنشاد، فقال: قل ولا تقل إلا حقاً، فقال:
وما الشعر إلا خطبة من مؤلف ... بمنطق حق أو بمنطق باطل
فلا تقبلن إلا الذي وافق الرضا ... ولا ترجعنا كالنساء الأرامل
رأيناك لم تعدل عن الحق يمنة ... ولا شامة فعل الظلوم المجادل
ولكن أخذت القصد جهدك كله ... تقفو مثال الصالحين الأوائل
فقلنا ولم نكذب بما قد بدا لنا ... ومن ذا يرد الحق من قول قائل
ومن ذا يرد السهم بعد مضائه ... على فوقة إن عار من نزع نابل
ولو لا الذي عودتنا خلائف ... غطاريف كانت كالليوث البواسل
لما وخدت شهراً برجلي رسله ... تغل متون البيد بين الرواحل
فإن لم يكن للشعر عندك موضع ... وإن كان مثل الدر من قول قائل
فإن لنا قربى ومحض مودة ... وميراث آباء مشوا بالمناصل
فذادوا عمود الشرك عن عقر دارهم ... وأرسوا عمود الدين بعد التمائل
وقبلك ما أعطى هنيدة جلة ... على الشعر كعباً من سديس وبازل
رسول الإله المستضاء بنوره ... عليه سلام بالضحى والأصائل
فكل الذي عددت يكفيك بعضه ... ونيلك خير من بحور سوائل
فقال: يا أحوص، إنك تسأل عما قلت. وتقدم نصيب فاستأذنه في الإنشاد فلم
يأذن له وأمره بالغزو إلى دابق، فخرج وهو محموم، وأمر لي بثلاثمائة
درهم، وللأحوص بمثلها، ولنصيب بخمسين درهماً.
قال المصنف: وما زال عمر بن عبد العزيز منذ ولي يجتهد في العدل ومحو
الظلم وترك الهوى، وكان يقول للناس: ارحلوا إلى بلادكم فإني أنساكم ها
هنا وأذكركم في بلادكم. ومن ظلمه عامله فلا إذن له علي.
وخير جواريه لما ولي، فقال: قد جاء أمر شغلني عنكن فمن أحب أن أعتقه
أعتقته، ومن أراد أن أمسكه أمسكته ولم يكن مني إليها شيء، قالت زوجته
فاطمة ما أعلم أنه اغتسل لا من جنابة ولا من احتلام منذ ولي إلى أن
مات.
وقيل لها اغسلي قميصه فقالت: والله لا يملك غيره.
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: أخبرنا علي بن محمد العلاف، قال:
أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي، قال:
أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر، قال: أخبرنا أبو الفضل الربعي، قال:
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، عن الهيثم بن عدي، قال: كانت لفاطمة بنت عبد
الملك بن مروان - زوجة عمر - جارية ذات جمال فائق، وكان عمر معجباً بها
قبل أن تفضي إليه الخلافة، فطلبها منها وحرص، فغارت من ذلك، فلم تزل في
نفس عمر، فلما استخلف أمرت فاطمة بالجارية فأصلحت ثم حليت، فكانت
حديثاً في سنها وجمالها، ثم دخلت فاطمة بالجارية على عمر، فقالت يا
أمير المؤمنين، إنك كنت بفلانة معجباً، وسألتنيها فأبيت ذلك عليك، وإن
نفسي قد طابت لك بها اليوم، فدونكها، فلما قالت ذلك استبانت الفرح في
وجهه، ثم قال: ابعثي بها إلي، فلما دخلت عليه نظر في شيء أعجبه فازداد
بها عجباً، فقال لها: ألقي ثوبك، فلما همت أن تفعل قال: على رسلك،
اقعدي، اخبرني لمن كنت؟ ومن أين أنت لفاطمة؟ قالت: كان الحجاج بن يوسف
أغرم عاملاً كان له من أهل الكوفة مالاً وكنت في رقيق ذلك العامل
فاستصفاني عنه مع رقيق له وأموال، فبعث بي إلى عبد الملك بن مروان وأنا
يومئذ صبية، فوهبني عبد الملك لابنته فاطمة. قال وما فعل ذلك العامل،
قالت: هلك، وما ترك ولداً؟ قالت: بلى، قال: وما حالهم؟ قالت: بشرّ،
قال: شدي عليك ثوبك.
ثم كتب
إلى عبد الحميد عامله على بلدهم: أن سرح لي فلان بن فلان على البريد،
لما قدم قال: ارفع إلي جميع ما أغرم الحجاج أباك فلم يرفع إليه شيئاً
إلا دفعه إليه، ثم أمر بالجارية فدفعت إليه، فلما أخذها بيدها قال:
إياك وإياها فإنك حديث السن ولعل أباك أن يكون قد وطئها، فقال الغلام:
يا أمير المؤمنين هي لك، قال لا حاجة لي فيها، قال: فابتعها مني، قال
لست إذا ممن ينهى النفس عن الهوى. فمضى بها الفتى فقالت له الجارية:
فأين موجدتك بي يا أمير المؤمنين؟ قال: إنها لعلى حالها ولقد ازدادت،
فلم تزل الجارية في نفس عمر حتى مات.
أخبرنا هبة الله بن أحمد الجريري، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي،
قال: أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن خلف، قال: حدَّثنا أحمد بن مطرف،
قال: حدَّثنا أحمد بن المغلس الجماني، قال: حدَّثنا يحيى بن عبد
الحميد، قال: حدَّثنا ابن المبارك، عن سفيان عن أبي الزناد، عن أبي
حازم، قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز وقد ولي الخلافة، فلما نظر إلي
عرفني ولم أعرفه، فقال: ادن مني، فدنوت منه، فقلت أنت أمير المؤمنين؟
قال: نعم، فقلت: ألم تكن عندنا بالمدينة أميراً، فكان مركبك وطياً،
وثوبك نقياً ووجهك بهياً، وطعامك شهياً، وخدمك كثير، فما الذي غيرك
وأنت أمير المؤمنين؟ فبكى وقال: يا أبا حازم، فكيف لو رأيتني بعد ثلاث
في قبري وقد سالت حدقتاي على وجنتي، ثم جف لساني، وانشقت بطني وجرت
الديدان في بدني لكنت لي أشد إنكاراً، أعد عليّ الحديث الذي حدثتني
بالمدينة، قلت: يا أمير المؤمنين، سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبي صلى
الله عليه وسلم يقول: " إن بين أيديكم عقبة كؤوداً مضرسة لا يجوزها إلا
كل ضامر مهزول " قال: فبكى بكاء طويلاً ثم قال لي: يا أبا حازم، أما
ينبغي لي أن أضمر نفسي لتلك العقبة فعسى أن أنجو منها يومئذ، وما أظن
أني مع هذا البلاء الذي ابتليت به من أمور الناس بناج. ثم رقد ثم تكلم
الناس، فقلت أقلوا الكلام فما فعل به ما ترون إلا سهر الليل، ثم تصبب
عرقاً في يوم الله أعلم كيف كان، ثم بكى حتى علا نحيبه، ثم تبسم، فسبقت
الناس إلى كلامه، فقلت: يا أمير المؤمنين، رأيت منك عجباً، إنك لما
رقدت تصببت عرقاً حتى ابتل ما حولك، ثم بكيت حتى علا نحيبك ثم تبسمت،
فقال لي: وقد رأيت ذلك ؟ قلت: نعم ومن كان حولك من الناس رآه، فقال لي:
يا أبا حازم، أني لما وضعت رأسي فرقدت، رأيت كأن القيامة قد قامت
واجتمع الناس، فقيل: انهم عشرون ومائة صف فملأوا الأفق، أمة محمد من
ذلك ثمانون صفاً مهطعين إلى الداعي ينتظرون متى يدعون إلى الحساب، إذ
نودي أين عبد الله بن عثمان أبو بكر الصديق؟ فأجاب فأخذته الملائكة
فأوقفوه أمام ربه عز وجل، فحوسب ثم نجا وأخذ به ذات اليمين، ثم نودي
بعمر فقربته الملائكة، فوقفوه أمام ربه، فحوسب ثم نجا، وأمر به وبصاحبه
إلى الجنة. ثم نودي بعثمان، فأجاب، فحوسب يسيراً، ثم أمر به إلى الجنة،
ثم نودي بعلي بن أبي طالب، فحوسب ثم أمر به إلى الجنة. فلما قرب الأمر
مني أسقط في يدي، ثم جعل يؤتى بقوم لا أدري ما حالهم، ثم نودي أين عمر
بن عبد العزيز؟ فتصببت عرقاً، ثم سئلت عن الفتيل والنقير والقطمير وعن
كل قضية قضيت بها، ثم غفر لي، فمررت بجيفة، ملقاة، فقلت للملائكة: من
هذا؟ فقالوا إنك لو كلمته كلمك، فوكزته في رجلي فرفع رأسه إلي وفتح
عينيه، فقلت له: من أنت؟ فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا عمر بن عبد
العزيز، قال: ما فعل الله بك؟ قلت: تفضل علي وفعل بي ما فعل بالخلفاء
الأربعة الذين غفر لهم، وأما الباقون فما أدري ما فعل بهم، فقال لي:
هنيئاً لك ما صرت إليه. فقلت له: من أنت؟ قال: أنا الحجاج، قدمت على
الله عز وجل فوجدته شديد العقاب فقتلني بكل قتله قتلة، وها أنا موقوف
بين يدي الله عز وجل أنتظر ما ينتظر الموحدون من ربهم، إما إلى الجنة
أو إلى النار.
قال أبو حازم: فعاهدت الله عز وجل بعد رؤيا عمر بن عبد العزيز ألا اقطع
على أحد بالنار ممن يموت وهو يقول لا إله إلا الله.
وفي هذه السنة وجه عمر إلى مسلمة بن عبد
الملك
وهو بأرض الروم فأمره بالقفول منها بمن معه
من المسلمين
أنبأنا
زاهر بن طاهر، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، قال:
حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم، قال: حدَّثنا محمد بن
يعقوب، قال: حدَّثنا محمد بن النعمان بن بشير النيسابوري، قال: حدَّثنا
نعيم بن حماد، قال: حدَّثني نوح بن أبي مريم، عن حجاج بن أرطأة، قال:
كتب ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز: من ملك الهند الذي في مربطه ألف
فيل، والذي تحته ألف ملك، والذي له نهران ينبتان العود والكافور، إلى
ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئاً أما بعد.. فإني قد أهديت لك هدية
وما هي بهدية ولكنها تحية، وأحببت أن تبعث إليّ رجلاً يعلمني ويفهمني
الإسلام.
وفي هذه السنة: أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا جماعة من المسلمين
فوجه عمر من قتلهم فلم يفلت منهم إلا اليسير، وقدم عليه منهم بخمسين
أسيراً.
وفيها: عزل عمر يزيد بن المهلب عن العراق وحبسه، ووجه على البصرة
وأرضها عدي ابن أرطأة الفزاري، ووجه إلى الكوفة وأرضها عبد الحميد بن
عبد الرحمن القرشي، وضم إليه أبا الزناد، فكان أبو الزناد كاتب عبد
الحميد.
وفيها: حج بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان عامل عمر على
المدينة. وكان عامله على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد،
وعلى الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعلى البصرة وأرضها عدي
بن أرطأة وعلى خراسان الجراح بن عبد الله، وعلى قضاء البصرة إياس بن
معاوية بن قره المزني.
وكان الواقدي يقول: كان على قضاء الكوفة من قبل عبد الحميد الشعبي،
وعلى قضاء البصرة من قبل عدي بن أرطأة الحسن البصري، ثم إن الحسن
استعفى عدياً فأعفاه وولي أياساً.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي كان شريفاً كريماً، ويسمى
أسد قريش وأسد الحجاز، وكان أعرج، وهو أخو عبد الله بن حسن ين حسن بن
علي لأمه فاطمة بنت الحسين.
روى عن أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس، واستعمله عبد الله بن الزبير
على خراج الكوفة. توفي بمنى ليلة جمع محرماً، ودفن أسفل العقبة.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا علي بن أحمد بن البسري، عن أبي عبد
الله بن بطة العكبري، قال: أخبرنا أبو بكر الآجري، قال: أخبرنا أبو نصر
محمد بن كردي، قال: أخبرنا أبو بكر المرزوي، قال: أخبرت أن عمر بن عبد
العزيز قال:
لما ولي
الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتل ابن الزبير أشخص إبراهيم بن محمد بن
طلحة بن عبيد الله وقربه في المنزلة، فلم يزل كذلك عنده حتى خرج عبد
الملك بن مروان زائراً له، فخرج معادلاً له لا يترك توشيحه وتعظيمه،
فلما حضر باب عبد الملك حضر معه، فدخل على عبد الملك فلم يبدأ بشيء بعد
التسليم أولى من أن قال: قدمت عليك يا أمير المؤمنين برجل الحجاز، لم
أدع والله فيها نظيراً في كمال المروؤة والأدب وحسن المذهب و الطاعة
والنصيحة مع القرابة ووجوب الحق وفضل الأبوة إبراهيم بن محمد بن طلحة
بن عبيد الله وقد أحضرته بابك أسهل عليه أذنك، وتلقاه ببشرك، وتفعل به
ما تفعل بمثله ممن كانت مذاهبه مثل مذاهبه. فقال عبد الملك: ذكرتنا
حقاً وواجباً ورحماً قريبة، يا غلام ائذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة.
فلما دخل قربه حتى أجلسه على فراشه ثم قال له: يا ابن طلحة، إن أبا
محمد ذكرنا ما لم نزل نعرفك به في الفضل والأدب وحسن المذهب مع قرابة
الرحم ووجوب الحق، فلا تدعن حاجة في خاص من أمرك ولا عام إلا ذكرتها،
قال: يا أمير المؤمنين، إن أولى الأمور أن يفتتح به الحوائج وترجى به
الزلف ما كان الله عز وجل رضى، ولحق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
أداء، ولك ولجماعة المسلمين نصيحة، وإن عندي نصيحة لا أجد بداً من
ذكرها، ولا يكون البوح بها إلا وأنت خال، فأخلني حتى ترد عليك نصيحتي،
قال: دون أبي محمد؟ قال: دون أبي محمد، فقال قم يا حجاج، فلم جاز حد
الستر قال: قل يا أبا طلحة نصيحتك، قال: يا أمير المؤمنين، إنك عمدت
إلى الحجاج في تغطرسته وتعجرفه وبعده عن الحق وركونه إلى الباطل فوليته
الحرمين وبهما ما بهما، وفيهما ما فيهما من المهاجرين والأنصار
والموالي والأخيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناء الصحابة
يسومهم الخسف، ويطؤهم بالعسف، ويحكم بينهم بغير السنة، ويطؤهم بطغام من
أهل الشام، وزعازع لا روية لهم في إقامة حق ولا إزاحة باطل، ثم ظننت أن
ذلك فيما بينك الله راهق، وفيما بينك وبين رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا جاثاك لخصومته إياك في أمته، أما والله لا تنجو هنالك إلا
بحجة تضمن لك النجاة، فاربع على نفسك أو دع، فقال: كذبت ومنت وظن بك
الحجاج ما لم نجده عندك، فلربما ظن الخير بغير أهله، قم فأنت الكاذب
المائن، قال: فقمت وما أبصرت طريقاً، فلما خلفت الستر لحقني لا حق من
قبله فقال للحاجب: احبس هذا، ادخل يا أبا محمد.
قال: فدخل الحجاج ثم لبث ملياً لا شك أنهما في أمري، ثم خرج الإذن: ثم
يا أبا طلحة ادخل، فقمت فلما كشف لي الستر لقيني بالحجاج وهو خارج وأنا
داخل، فاعتقني وقبل ما بين عيني ثم قال: إذا ما جزى الله المتواخين
بفضل تواصلهم جزاك الله أفضل ما جزى أخاً عن أخيه، فوالله لئن سلمت
لأرفعن ناظرك ، ولأعلين كفك ولأتبعن الرجال غبار قدمك. قال: قلت: تهزأ
بي. فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أجلسني في مجلسي الأول ثم قال:
يا بن طلحة، لعل أحداً من الناس شاركك في نصيحتك، قلت: لا والله ولا
أعلم أحداً كان أظهر عندي معروفاً ولا أوضح يداً من الحجاج، ولو كنت
محابياً أحداً بديني لكان هو، ولكني آثرت الله، ورسوله صلى الله عليه
وسلم والمسلمين وأنت عليه، قال: قد علمت أنك آثرت الله، ولو أردت
الدنيا كان لك في الحجاج كفاية، وقد أزحت الحجاج عن الحرمين وأعلمته
أنك اسنتزلتني له عنهما استصغاراً لهما عنه ووليته العراقين لما هناك
من الأمور التي لا يدحضها إلا مثله، وأعلمته أنك استدعيتني إلى التولية
عليهما استزادة له ليلزمه من نصيحتك ما يؤدي به عني إليك الحق، وتصير
معه إلى الذي يستحقه، فاخرج معه فإنك غير ذام صحبته.
سعيد بن أبي الحسن، أخوه حسن البصري روى محمد بن سعد، قال: حدَّثنا
عارم بن الفضل، قال: حدَّثنا حماد بن زيد، عن يونس بن عبيد، قال: لما
مات سعيد بن أبي الحسن حزن عليه الحسن حزناً شديداً، فأمسك عن الكلام
حتى عرف ذلك في مجلسه وحديثه، فكلم في ذلك، فقال: الحمد لله الذي لم
يجعل الحزن عار على يعقوب، ثم قال: بئست الدار المفرقة.
وقال ابن عون: دفع إلي الحسن برنساً كان لأخيه سعيد لأبيعه، فقلت:
أشتريه أنا، فقال: أنت أعلم، ولكني لا أحب أن أراه عليك.
سليمان بن عبد الملك بن مروان:
لبس يوماً
حلة خضراء وعمامة خضراء، ونظر في المرآة، فقال: أنا الملك الشاب، فما
عاش بعد ذلك إلا اسبوعاً.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن البيع، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن
الصلت، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان، قال: حدَّثنا
أبو عبد الله بن عرفة، قال: أخبرنا محمد بن عيسى، أنه سمع عبد الله بن
محمد التيمي يقول: كان سليمان بن عبد الملك يوماً جالساً، فنظر في
المرآة إلى وجهه، وكان حسن الوجه، فأعجبه ما رآه من جماله، وكان على
رأسه وصيفه، فقال: أنا الملك الشاب، فرأى شفتي جاريته تتحركان، فقال
لها: ما قلت؟ قالت: خيراً. قال: لتخبرني، قالت: قلت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
وزاد غيره في الشعر بيتاً أخر، فقال:
أنت خلو من العيوب ومما ... يكره الناس غير أنك فاني
ثم خرج إلى المسجد يخطب، فسمع أقصى من في المسجد صوته، ثم لم يزل يضعف،
وانصرف محموماً حمى موصولة بمنيته، فكانت وفاته سنة تسع وتسعين، وهو
ابن أربعين سنة.
توفي بدابق من أرض قسرين يوم الجمعة لعشر ليال بقين - وقيل مضين - من
صفر. وكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر وخمس أيام.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو علي
التميمي، قال: حدَّثنا أبو بكر بن مالك، قال: حدَّثنا عبد الله بن
أحمد، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثنا يزيد، قال: حدَّثنا عبد الله ين
يونس، عن سيار أبي الحكم، قال: لما دخل سليمان بن عبد الملك قبره أدخله
عمر بن عبد العزيز وابن سليمان فاضطرب على أيديهما، فقال ابنه: عاش
والله أبي، فقال: لا والله ولكن عوجل أبوك.
عبد الله بن مطر، أبو ريحانة روى عن ابن عمر، وسفينة.
أخبرنا عبد الله بن علي المقري، قال: أخبرنا طراد بن محمد، قال: أخبرنا
أبو الحسين بن بشران، قال: حدَّثنا الحسين بن صفوان، قال: حدَّثنا أبو
بكر بن عبيد الله، قال: حدَّثني محمد بن الحسين، قال: حدَّثني موسى بن
عيسى العابد، قال: حدَّثنا ضمرة، عن فروة الأعمى، قال: قال: ركب أبو
ريحانة البحر، وكان يخيط فيه بإبرة معه، فسقطت إبرته في البحر، فقال:
عزمت عليك يا رب إلا رددت عليّ إبرتي، فظهرت حتى أخذها.
قال: واشتد عليهم البحر ذات يوم وهاج، فقال: اسكن أيها البحر، فإنما
أنت عبد حبشي، فسكن حتى صار كالزيت.
عبد الله بن خارجة بن حبيب ابن قيس بن حارثة بن أبي ربيعة بن ذهل بن
شيبان، شاعر من أهل الكوفة متعصب لبني أمية، وهو الأعشى؛ أعشى بني
ربيعة.
دخل على عبد الملك بن مروان فأنشده يقول:
وما أنا في أمري ولا في خصومتي ... بمهتضم حقي ولا قارع قرني
ولا مسلم مولاي عند جناية ... ولا خائف مولاي من شر ما أجني
وإن فؤادي بين جنبي عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
وفضلني في الشعر واللب أنني ... أقول على علم وأعرف من أعني
فأصبحت إذ فضلت مروان وابنه ... على الناس قد فضلت خير أب وابن
فقال عبد الملك من يلومني على هذا، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وعشر تخوت
من ثياب، وعشر قلائص من الإبل، أقطعة ألف جريب.
ودخل عليه يوماً فأنشده يقول:
رأيتك أمس خير بني معد ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الضعف ضعفاً ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
القاسم بن مخيمرة الهمداني: كوفي الأصل، ثم نزل الشام. وروى عن عبد
الله بن عمر، وعن خلق كثير من التابعين.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناد له عن الأوزاعي، عن القاسم، أنه كره
صيد الطير أيام فراخه.
وروى سعيد بن عبد العزيز، عن القاسم بن مخيمرة، قال: ما اجتمع على
مائدتي لونان من الطعام، ولا غلقت بابي ولي خلفه هم، وأتيت عمر بن عبد
العزيز فقضى عني سبعين ديناراً، وحملني على بغلة وفرض لي في خمسين
فقلت: أغنيتني عن التجارة، فسألني عن حديث، فقلت: هبني يا أمير
المؤمنين؛ فكأنه كره أن يحدثه بعد لأجل العطاء محمود بن الربيع بن
الحارث بن الخزرج
رأى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعقل مجة مجها في وجهه وهو ابن خمس سنين.
وتوفي في هذه السنة وهو ابن ثلاث وتسعين سنة. وقيل: أربع وتسعين سنة؟
ثم دخلت
سنة مائة
فمن الحوادث فيها
خروج الخارجة التي خرجت على عمر بالعراق
فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميّد بن عبد الرحمن عامل العراق
يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله عز زجل وسنة رسوله محمد صلى الله
عليه وسلم، فلما أعذر في دعائهم بكتاب الله وسنة نبيه بعث إليهم عبد
الحميّد جيشاً فهزمتهم الحرورية، فبلغ عمر فبعث إليهم مسلمة بن عبد
الملك في جيش من أهل الشام جهزهم من الرقة، فكتب إلى عبد الحميّد: قد
بلغني ما فعل جيشك جيش السوء، وقد بعثت مسلمة بأهل الشام فلم ينشب أن
أظهره الله عز وجل عليهم.
وذكر أبو عبيد معمر بن المثنى: أن الذي خرج على عبد الحميّد بالعراق في
خلافة عمر بن عبد العزيز ابن شوذب واسمه بسطام من بني يشكر، وكان مخرجه
يجوخي في ثمانين فارساً أكثرهم من ربيعة، فكتب عمر إلى عبد الحميّد؛
ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دماً، أو يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فحل
بينهم وبين ذلك، وانظر رجلاً حازماً، فوجهه إليهم ووجه معه جنداً وأوصه
بما أمرتك به.
فعقد عبد الحميّد لمحمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين من أهل
الكوفة وأمره بما أمر به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن
مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم. إنه بلغني
أنك خرجت غاضباً لله عز وجل ولنبيه صلى الله عليه وسلم ولست بأولى بذلك
مني، فهلم أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن
كان في يدك نظرنا في أمرك.
فلم يحرك بسطام شيئاً، وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك برجلين
يناظرانك، فدخلا عليه فقالا: أخبرنا عن يزيد لما تعده خليفة بعدك؟ قال
صيره غيري، قالا: أفرأيت لو وليت مالاً لغيرك، ثم وكلته إلى غير مأمون
عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من ائتمنك؟ فقال: انتظراني ثلاثاً،
فخرجا من عنده، وخاف بنو مروان أن يخرج ما في أيدهم من الأموال، وأن
يخلع يزيداً، فدسوا إليه من سقاه سماً، فلم يلبث بعد خروجهم إلا ثلاثاً
حتى مات رضي الله عنه.
وفي هذه السنة: - أغزى عمر الوليد بن هشام المعيطي، وعمر بن قيس الكندي
من أهل حمص الصائفة أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، قال: أخبرتنا فاطمة
بنت عبد الله الحيري، قالت: أخبرنا علي بن الحسين بن الفضل، قال:
أخبرنا أحمد بن محمد بن خالد الكاتب، قال: أخبرنا علي بن عبد الله بن
المغيرة، قال: حدَّثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، قال: حدَّثني الزبير بن
بكار، قال: حدَّثني عبد الله بن عبد العزيز، قال: أخبرني ابن العلاء -
أحسبه أبا عمرو بن العلاء، أو أخاه - عن جويرية عن إسماعيل بن أبي
حكيم، قال: بعثني عمر بن عبد العزيز حين ولي في الفداء، فبينا أنا أجول
في القسطنطينيه إذ سمعت صوتاً يغني ويقول:
أرقت وغاب عني من يلوم ... ولكن لم أنم أنا والهموم
كأني من تذكر ما ألاقي ... إذا ما أظلم الليل البهيم
سقيم مل منه أقربوه ... وودعه المداوي والحميّم
وكم في بحرة بين المنقا ... إلى أحد ماء زريم
إلى الجماء من خد أسيل ... نقي اللون ليس به كلوم
يضيء به الظلام إذا تبدى ... كضوء الفجر منظره وسيم
فلما أن دنا منا ارتحال ... وقرب ناجيات السير كوم
أتين مودعات والمطايا ... على أكوارها خوص هجوم
فقائلة ومثنية علينا ... تقول وما لها فينا حميّم
وأخرى لبها معنا ولكن ... تستر وهي واجمة كظوم
تعد لنا الليالي تحتصيها ... متى هو خائن منا قدوم
متى تر غفلة الواشين عنا ... تجد بدموعها العين السجوم
قال
الزبير: والشعر لبقيلة الأشجعي. قال إسماعيل بن أبي حكيم: فسألته حين
دخلت عليه، فقلت له: من أنت؟ قال: أنا الوابصي الذي أخذت فعذبت فجزعت
فدخلت في دينهم، فقلت: إن أميّر المؤمنين عمر بن عبد العزيز بعثني في
الفداء وأنت والله أحب من أفتديه إلا إن لم تكن بطنت في الكفر، قال:
والله لقد بطنت في الكفر، فقلت: أنشدك الله أسلم، فقال: أسلم، وهذان
ابناي وقد تزوجت امرأة، وهذان ابناها، وإذا دخلت المدينة قال أحدهم: يا
نصراني، وقيل لولدي وأمهم وولدهم كذلك، لا والله لا أفعل، فقلت له : قد
كنت قارئاً للقرآن؟ إني والله من أقرأ القراء للقرآن، فقلت: مابقي معك
من القرآن؟ قال: لا شيء إلا هذه الآية: " ربما يود الذين كفروا لو
كانوا مسلميّن " وفي هذه السنة: أشخص عمر بن هبيرة الفزازي إلى الجزيرة
عاملاً عليها.
وفيها حمل يزيد بن المهلب من العراق إلى عمر بن عبد العزيز.
وسبب ذلك أن يزيد نزل واسطاً، ثم ركب السفن يريد البصرة، فبعث إلى عمر
عدي بن أرطأة إلى البصرة فأوثقه ثم بعث به إلى عمر فدعا به عمر - وكان
عمر يبغضه ويبغض بنيه ويقول جبابرة، وكان يزيد يبغض عمر - فلما وصل إلى
عمر سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان، قال: إنما كتبت إليه
لأسمع الناس، ولم يكن سليمان ليأخذني بشيء سمعت به، فقال له: ما أجد في
أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأدّ ما قبلك فإنها حقوق المسلميّن لا يسعني
تركها فحبسه إلى أن مرض عمر.
وفي هذه السنة: عزل عمر الجراح عن خراسان وولاها عبد الرحمن بن نعيم
القشيري، وكانت ولاية الجراح خراسان سنة وخمسة أشهر.
وفي هذه السنة: وجه محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس إلى العراق
وإلى خراسان من يدعو إليه وإلى أهل بيته فاستجاب له جماعة، وكتب لهم
محمد بن علي كتاباً ليكون لهم مثالاً وسيرة يسيرون بها، وكان يقول
لرجال أهل الدعوة حين أراد توجيههم: أما الكوفة وسوادها فهناك شيعة علي
وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية ترى الكف، تقول: كن عبد الله
المقتول ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة فحرورية، وأما الرقة
فمسلمون أحلاف النصارى، وأما أهل الشام فلا يعرفون إلا طاعة بني مروان،
وأما أهل مكة والمدينة فقد غلب عليها أبو بكر عمر، ولكن عليكم بخراسان
فإن هناك الصدور السليمة والقلوب الفارغة التي لم تتقسمها الأهواء ولم
تتوزعها النحل.
وفي هذه السنة: حج بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان عمال
الأمصار في هذه السنة هم العمال في السنة التي قبلها ما خلا خراسان،
فإن عاملها في آخر السنة كان عبد الرحمن بن نعيم على الصلاة والحرب،
وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج.
وفي هذه السنة: وقع طاعون فقيل له: طاعون عدي بن أرطأة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بسر بن سعيد مولى الحضرميّين: روى عن زيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص،
وأبي هريرة، وأبي سعيد.
وكان بسر ثقة من العباد المنقطعين، وأهل الزهد في الدنيا، وتوفي
بالمدينة وهو ابن ثمان وسبعين، ولم يدع كفناً.
حنش بن عبد الله بن عمرو، أبو رشدين الصناعي: كان مع علي بن أبي طالب
بالكوفة، وقدم مصر بعد قتل علي، وغزا المغرب مع رويفع بن ثابت، وغزا
الأندلس مع موسى بن نصير، وكان فيمن ثار مع ابن الزبير على عبد الملك،
فأتى به عبد الملك في وثاق فعفا عنه، وكان عبد الملك حين غزا المغرب مع
معاوية بن خديج، ونزل عليه بإفريقيا سنة خمسين، فحفظ له ذلك. وكان حنش
أول من ولي عشور إفريقية في الإسلام، وكان إذا فرغ من عشائه وحوائجه
وأراد أن يرقد أوقد المصباح وقدم المصحف وإناء فيه ماء، وكان إذا وجد
النعاس أخذ الماء، وإذا تعايا في آية النظر في المصحف. وتوفي بإفريقية
في هذه السنة.
خارجة زيد بن ثابت بن الضحاك، أبو زيد: روى عن أبيه وكان ثقة، وقال:
رأيت في المنام كأني بنيت سبعين درجة، فلما فرغت منها تهورت، وهذه
السنة لي سبعون قد أكملتها. فمات فيها. توفي في هذه السنة بالمدينة.
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز:
توفي في
خلافة أبيه، وكان صالحاً. أخبرنا علي بن أبي عمر، قال: أخبرنا محمد بن
الحسن البقلاوي، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أبو بكر
الآجري، قال: حدَّثنا أبو عبد الله بن مخلد، قال: حدَّثني سهل بن عيسى
المروزي، قال: حدَّثني القاسم بن محمد بن الحارث، قال: حدَّثنا سهل بن
يحيى بن محمد المروزي، قال: أخبرني أبي، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد
العزيز، قال: لما ولي أبي عمر الخلافة وخطب إلى الناس ذهب يتبوأ
مقيلاً، فأتاه ابنه عبد الملك، فقال: ما تريد أن تصنع؟ قال: يا بني
أقيل، قال: تقيل ولا ترد المظالم، فقال: أي بني إني قد سهرت البارحة في
أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم، قال: يا أميّر
المؤمنين، من لك أن تعيش إلى الظهر، قال: أدن مني أي بني. فدنا منه
فالتزمه وقبل بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني
على ديني، فخرج ولم يقل.
أخبرنا ابن ناصر، عن أبي القاسم وأبي عمر ابني عبد الله بن منده، عن
أبيهما، قال: حدَّثنا أبو سعيد بن يونس، قال: حدَّثنا محمد بن نصر بن
القاسم، قال: حدَّثنا أحمد بن عمرو بن السراج، قال: حدَّثنا ابن وهب،
قال: حدَّثني الليث بن سعيد، قال: حدَّثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن
عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان: أنه وفد على سليمان بن عبد
الملك. قال: فنزلت على عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز وهو عزب، فكنت
معه في بيته، فلما صلينا العشاء وأوى كل رجل منا إلى فراشه، فلما ظن أن
قد نمنا قام إلى المصباح فأطفأه وأنا أنظر إليه، ثم جعل يصلي حتى ذهب
النوم قال: فاستيقظت وهو يقرأ: " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما
كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " . ثم بكى ثم رجع لم يزل
يفعل حتى قلت سيقتله البكاء، فلما رأيت ذلك قلت: سبحان الله والحمد
لله، كالمستيقظ من النوم لأقطع ذلك عنه، فلما سمعني ألبد فلم أسمع له
حساً.
أخبرنا عبد الوهاب ويحيى بن علي، قالا: أخبرنا عبد الله بن أحمد
السكري، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الصلت، قال: حدَّثنا حمزة بن
القاسم الهاشميّ، قال: حدَّثنا حنبل، قال: حدَّثنا أحمد بن حنبل، قال:
حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدَّثني زياد بن أبي حسان: أنه شهد
عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنه عبد الملك، استوى قائماً فأحاط به
الناس فقال: والله يا بني لقد كنت براً بأبيك، والله ما زلت منذ وهبك
الله لي مسروراً بك، ولا والله ما كنت قط أشد سروراً بك ولا أرجى لحظي
من الله منك مذ وضعتك في المنزل الذي صيرك الله إليه، فرحمك وغفر ذنبك
وجزاك بأحسن من عملك، ورحم كل شافع يشفع لك غيري شاهد أو غائب، رضينا
بقضاء الله وسلمنا لأمره، والحمد لله رب العالميّن. ثم انصرف.
عبد الرحمن بن مل بن عمر بن عدي بن وهب بن ربيعة، أبو عثمان النهدي حج
في الجاهلية حجتين، وأسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
أنه لم يلقه، وهاجر إلى المدينة بعد موت أبي بكر فلقي عمر بن الخطاب.
وروى عنه، وعن علي، وسعد وسعيد، وابن مسعود، وأبيّ، وغيرهم من الصحابة،
وكان ثقة ونزل الكوفة ثم صار إلى البصرة، فحدث عنه أيوب، وقتادة،
وسليمان، وغيرهم، وكان معه وشهد القادسية وجلولاء، وتستر ونهاوند
واليرموك وأذربيجان ورستم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا عبد العزيز بن علي الوراق، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم، قال:
حدَّثنا يوسف بن يعقوب النيسابوري، قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة،
قال: حدَّثنا يزيد ين هارون، قال: أخبرنا الحجاج بن أبي زينب، قال:
سمعت أبا عثمان النهدي يقول: كنا في الجاهلية نعبد حجراً، فسمعنا
منادياً ينادي: يا أهل الرحال، إن ربكم قد هلك فالتسموا ربا، قال:
فخرجنا على كل صعب وذلول، فبينا نحن كذلك نطلب إذا نحن بمناد ينادي:
إنا قد وجدنا ربكم أو شبهه، قال: فجئنا فإذا نحن بحجر فنحرنا عليه
الجزر.
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا ابن الفضل،
قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر، قال: حدَّثنا يعقوب، قال: حدَّثنا
الحجاج، قال: حدَّثنا حماد، عن حميّد، عن أبي عثمان، قال: أتت عليّ نحو
ثلاثين ومائة سنة، وما شيء مني إلا وقد أنكرته إلا أملي فإني أجده كما
هو.
توفي أبو
عثمان في هذه السنة وهو ابن ثلاثين ومائة سنة.
عمران بن ملحان، أبو رجاء العطاردي، فقال: بعث النبي صلى الله عليه
وسلم ونحن على ماء لنا، وكان لنا صنم مدور فحملناه على قتب وانتقلنا من
ذلك الماء إلى غيره، فمررنا برملة فانسل الحجر فوقع في الرمل فغاب فيه،
فلما رجعنا إلى الماء فقدنا الحجر فرفعنا في طلبه فإذا هو في رمل قد
غاب فاستخرجناه، فكان ذلك أول إسلامي، فقلت: إن إلهاً لم يمتنع من تراب
يغيب فيه لإله سوء وإن العنز لتمنع حياءها بثديها. فرجعت إلى المدينة
وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال مؤلف الكتاب: روى أبو رجاء العطاردي عن عمر وابن عباس، وأم قومه
أربعين سنة، وتوفي في خلافة عمر بن عبد العزيز.
مسلم بن يسار، أبو عبد الله مولى طلحة بن عبيد الله التيمي لقي جماعة
من الصحابة، وكان من العلماء المتعبدين، وكان حسن الخشوع في الصلاة،
فوقع مرة إلى جانبه حريق فما شعر به حتى طفئ.
وكان أرفع عند الناس من الحسن حتى خرج ابن الأشعث فوضعه ذلك.
وكان يقول: ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح، فقال له قائل: فكيف بمن رآك
واقفاً في الصف؟ قال: هذا مسلم بن يسار، ما وقف هذا الموقف إلا وهو على
الحق فقاتل فقتل. فبكى بكاء شديداً.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا علي بن محمد الأنباري، قال:
أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قال: حدَّثنا ابن صفوان، قال: حدَّثنا
أبو بكر القرشي، قال: حدَّثنا أحمد بن إبراهيم، قال: حدَّثنا علي بن
إسحاق، قال: حدَّثنا عبد الله قال: أخبرنا جعفر بن حيان، قال: ذكر
لمسلم بن يسار قلة التفاته في الصلاة، قال: وما يدركم أين قلبي قال
أحمد بن إبراهيم: وحدَّثنا هارون بن معروف، قال: حدَّثنا ضمرة، عن ابن
شوذب قال: كان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته: تحدثوا فلست
أسمع حديثكم.
قال: أخبرنا سعد الخير بن محمد، قال: أخبرنا علي بن أيوب، قال: أخبرنا
الحسين بن محمد الخلال، قال: حدَّثنا علي بن عمر بن علي التمار، قال:
حدَّثنا جعفر بن محمد الخالدي، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن مسروق،
قال: حدَّثنا البرجلاني، قال: حدَّثنا غياث بن زياد ، قال: حدَّثنا ابن
المبارك، قال: قال: مسلم بن يسار لأصحابه يوم التروية: هل لكم في الحج؟
قالوا: خرف الشيخ على ذلك فلنطيعه، قال: من أراد ذلك فليخرج، فخرجوا
إلى الحسان برواحلهم، فقال: خلوا أزمتها، فأصبحوا وهم ينظرون إلى جبال
تهامة.
ثم دخلت
سنة إحدى ومائة
فمن الحوادث فيها
هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر
وذلك أنه خاف من يزيد بن عبد الملك لأنه كان قد عذب أصهاره آل أبي
عقيل، وذلك أن أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف كانت عند
يزيد بن عبد الملك فولدت له الوليد بن يزيد، وكان يزيد قد عاهد الله
لئن أمكنه من يزيد بن المهلب ليقطهعن منه طابقاً فكان يخشى ذلك، فبعث
يزيد بن المهلب إلى مواليه فأعدوا له إبلاً، ومرض عمر فأمر يزيد بإبله
فأتى بها، فخرج من محبسه فذهب وكتب إلى عمر: إني والله لو علمت أنك
تبقى ما خرجت من محبسي، ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك، فقال عمر:
اللهم إن كان يزيد يريد بهذه الأمة شراً فاكفهم شره، واردد كيده في
نحره ومضى يزيد بن المهلب.
وقال الواقدي: إنما هرب من سجن عمر بعد موته رضي الله عنه.
وفي هذه السنة توفي عمر بن عبد العزيز واستخلف يزيد بن عبد الملك.
باب ذكر خلافة يزيد بن عبد الملك
ويكنى أبا خالد، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، استخلف بعد وفاة عمر،
وكان يومئذ ابن تسع وعشرين سنة.
أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا أحمد بن محمد العتيقي، قال: أخبرنا أبو بكر بن منصور النوشري،
قال: أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود الطوسي، قال: أخبرنا الزبير بن
بكار، قال: حدَّثني هارون بن عبد الله الزهري، عن عبيد الله بن عمرو
الفهري، قال: لما توفي عمر بن عبد العزيز، قال: يزيد بن عبد الملك: ما
جعل عمر بن عبد العزيز لربه أرجى مني، فتنسك وأقام أربعين يوماً لا
تفوته صلاة في جماعة، فقدم الأحوص فأرسلت له حبابة أنه ليس لي ولا لك
عنده شيء ما دام على هذه الحال فقل أبياتاً أغنيها له عسى أن يترك ما
هو عليه من النسك، فقال الأحوص:
ألا لا
تلمه اليوم أن يتبلدا ... فقد غلب المحزون أن يتخلدا
إذا كنت عزيفاً عن اللهو والصبا ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما يلذ ويشتهى ... وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
فلما خرج يزيد للجمعة عرضت له حبابة على طريقه فحركت العود وغنت البيت
الأول فسبح، فلما غنت الثاني قال: مه مه ويحك لا تفعلي، فلما غنت
الثالث نفض عمامته، وقال: مروا صاحب الشرطة أن يصلي بالناس، وجلس معها،
ودعي بالشراب وسألها عن قائل الشعر، فقالت: الأحوص، فأمر به فأدخل
فأجازه وأحسن إليه وأنشده مديحه.
فصل ولما استخلف يزيد نزع أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن المدينة
وولاها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، وبايع لأخيه هشام بالعهد
من بعده، ثم لابنه الوليد، ولم يكن قد أبلغ، فلما بلغ ندم وقال: الله
بيني وبين من جعل هشام بيني وبينك، يعني مسلمة.
وفي هذه السنة قتل شوذب الخارجي
وقد ذكرنا أنه بعث رجلين يناظران عمر بن عبد العزيز، فلما مات عمر أراد
عبد الحميّد أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب على محمد بن جرير
يأمره بمحاربة شوذب وأصحابه، ولم يرجع رسولا شوذب، ولم يعلم بموت عمر،
فلما رأى محمد بن جرير مستعداً للحرب أرسل إليه شوذب ما أعجلكم قبل
انقضاء المدة فيما بيننا وبينكم، أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع رسولانا،
فقيل له: لا يسعنا غير هذا، فبرز إليه شوذب فاقتتلوا وأصيب من الخوارج
نفراً، وأكثروا في أهل الكوفة القتل، فولوا منهزميّن والخوارج في
أكتافهم حتى بلغوا أخصاص الكوفة، فأقر يزيد عبد الحميّد على الكوفة،
ووجه من قبله تميّم بن الحباب في ألفين فراسل الخوارج وأخبرهم أنه لا
يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا يزيداً، فحاربهم فقتلوه
وهزموا أصحابه، فوجه إليهم نجدة بن الحكم الأزدي في جمع، فقتلوه وهزموا
أصحابه، فبعث آخر في ألفين فقتلوه فانفذ مسلمة بن عبد الملك، فنزل
الكوفة، ودعا سعيد بن عمرو الحرشي، فعقد له على عشرة آلاف ووجهه، فقال
لأصحابه: من كان يريد الله عز وجل فقد جاءته الشهادة، ومن كان خرج
للدنيا فقد ذهبت الدنيا منه، فكسروا أغماد سيوفهم وحملوا فكشفوا سعيداً
وأصحابه مراراً حتى خافوا الفضيحة، ثم حملوا على الخوارج فطحنوهم
وقتلوا شوذب.
وفي هذه السنة لحق يزيد بن المهلب بالبصرة فغلب عليها وخلع يزيد بن عبد
الملك وأخذ عامله عدي بن أرطأة فحبسه.
قد ذكرنا أن يزيد بن المهلب هرب من حبس عمر، فلما بويع يزيد كتب إلى
عبد الحميّد يأمره بطلب يزيد بن المهلب، وكتب إلى عدي بن أرطأة يأمره
أن يأخذ من كان في البصرة من أهل بيته، فأخذهم وفيه المفضل، وحبيب،
ومروان، والمهلب، وبعث عبد الحميّد هشام بن مساحق في طلب يزيد، فقال
له: أجيئك به أسيراً أم أتيك برأسه؟ فقال: أي شئت، فنزل هشام بالعذيب،
فمر بهم يزيد فاتقوا الإقدام عليه، فمضى نحو البصرة، فنزل داره واختلف
الناس إليه، وبعث إلى عدي بن أرطأة: ادفع إلي أخوتي وأنا أخليك والبصرة
حتى آخذ لنفسي ما أحب من يزيد بن عبد الملك. فلم يقبل منه، وكان يزيد
بن المهلب يعطي الناس المال، فمالوا إليه، وخرج حميّد بن عبد الملك بن
المهلب إلى يزيد بن عبد الملك، فبعث معه خالد بن عبد الله القسري، وعمر
بن يزيد الحكمي بأمان يزيد ين المهلب وأهل بيته، وخرج يزيد بن المهلب
حين اجتمع الناس إليه حتى نزل جبانة بني يشكر، فخرج إليه عدي فاقتتلوا
فهزم أصحاب يزيد، وجاء يزيد فنزل دار سلم بن زياد وأخذ عدياً فحبسه،
وهرب رؤوس أهل البصرة، فمنهم من لحق عبد الحميّد بالكوفة، ومنهم من لحق
بالشام.
وجاء خالد القسري وعمر بن يزيد ومعهما حميّد بن عبد الملك بالأمان
ليزيد بن المهلب من يزيد بن عبد الملك، فوصلوا وقد فات الأمر، وغلب
يزيد بن المهلب على البصرة، وخلع يزيد بن عبد الملك، واستوثقت له
البصرة، وبعث عماله إلى الأهواز وفارس وكرمان، وبعث أخاه مدرك بن
المهلب إلى خراسان، وخطب يزيد بن المهلب الناس وأخبرهم أنه يدعو إلى
كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويحث على الجهاد، ويزعم أن
جهاد أهل الشام أعظم ثواباً من جهاد الترك والديلم.
فدخل
الحسن البصري إلى المسجد فقال لصاحبه: انظر هل ترى وجه رجل تعرفه؟
فقال: لا والله، فقال: فوالله هؤلاء الغثاء، فدنا من المنبر وإذا هو
يدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال الحسن: يزيد
يدعو على كتاب الله، والله لقد رأيناك والياً ومولياً عليه، فجعل
أصحابه يأخذون على فيه لئلا يتكلم، فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس
يضرب رقاب هؤلاء ويسرح بها إلى آل مروان يريد رضاهم، فلما غضب نصب
هؤلاء وقال: أدعوكم إلى كتاب الله وسنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن
يوضع قيد في رجله ثم يرد إلى محبس عمر، فقال رجل: يا أبا سعيد، كأنك
راض عن أهل الشام، فقال: أنا راض عن أهل الشام، قبحهم الله وبرحهم،
أليسوا الذين أحلوا ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلوا أهله
ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام فهدموا الكعبة وأوقدوا النار بين أحجارها
وأستارها، عليهم لعنة الله.
ثم أن يزيد خرج من البصرة واستخلف عليهم مروان، فأقبل حتى نزل واسط،
واستشار أصحابه فقال: ما الرأي؟ فاختلفوا عليه، فأقام أياماً بواسط ثم
خرج.
حج بالناس عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، وهو عامل يزيد على
المدينة، وكان عامله على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد،
وعلى الكوفة عبد الحميّد بن عبد الرحمن بن نعيم. وكان يزيد بن المهلب
قد غلب على البصرة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أيوب بن شرحبيل أحد أمراء مصر، وليها لعمر بن عبد العزيز. روى عنه أبو
قبيل. توفي في رمضان هذه السنة.
ذكوان، أبو صالح السمان: سمع من كعب الأحبار، وتوفي بالمدينة في هذه
السنة.
عمر بن عبد العزيز: قد ذكرنا أنه لما تولى قام بالعدل فكانت بنو أميةّ
قد ألفوا التخليط وخافوا أن يعهد إلى غيرهم، فسمّوه فمرض عشرين يوماً.
أخبرنا الحسن بن محبوب، قال: أخبرنا طراد بن محمد، قال: أخبرنا أبو
الحسين بن بشران إذناً، إن الحسين بن صفوان حدثهم قال: حدَّثنا أبو عبد
الله بن محمد القرشي، قال: حدَّثني محمد بن الحسين، قال: هشام بن عبد
الله الرازي، قال: حدَّثنا أبو زيد الدمشقي، قال: لما ثقل على عمر بن
عبد العزيز دعي له بطبيب، فلما نظر إليه قال: أرى الرجل قد سقي السم
فلا آمن عليه من الموت، فرفع عمر بصره وقال: لا تأمن الموت أيضاً على
من لم يسق السم؟ قال: فتعالج يا أميّر المؤمنين فإني أخاف أن تذهب
نفسك، قال: ربي خير مذهوب إليه، والله لو علمت أن شفائي عند شحمة أذني
ما رفعت يدي إلى أذني فتناولته، اللهم خر لعمر في لقائك. فلم يلبث
أياماً حتى مات.
أنبأنا زاهر بن طاهر، قال: أخبرنا أبو بكر البيهقي، قال: أخبرنا أبو
عبد الله الحاكم، قال: أخبرني محمد بن الحسن بن الحسين بن منصور، قال:
حدَّثني أبي، قال: حدَّثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: سمعت علي بن هشام
يقول: لما سم عمر بن عبد العزيز قال للخادم الذي سمه: لم سممتني؟ قال:
أعطاني فلان أبن دينار على أن أسمك، قال: أين الدنانير؟ قال: هي ها
هنا، فأتى فوضعها في بيت مال المسلميّن، وقال للخادم اذهب ولم يعاقبه.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد، قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد،
قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله، قال: حدَّثنا أحمد بن إبراهيم،
قال: حدَّثني أبو إسحاق، قال : حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: حدَّثنا
هاشم، قال: لما كانت الصرعة التي هلك فيها عمر بن عبد العزيز دخل عليه
مسلمة بن عبد الملك، فقال: يا أميّر المؤمنين، إنك أفقرت أقواه ولدك من
هذا المال فتركتهم عيلة لا شيء لهم، فلو أوصيت بهم إليّ وإلى نظرائي من
أهل بيتك. فقال: اسندوني، ثم قال: ما منعتهم حقاً هو لهم، ولم أعطهم ما
ليس لهم، وإن وصيتي فيهم: " ولييّ الله الذي أنزل الكتاب، وهو يتولى
الصالحين " بني أحد رجلين: إما يتقي الله فيجعل الله له مخرجاً، وإما
رجل مكب على المعاصي فلم أكن أقويه على معصية الله عز وجل.
ثم بعث إليهم وهم بضعة عشر ذكراً، فنظر إليهم فذرفت عيناه فبكى، ثم
قال: بنفسي الفتية الذين تركتهم عيلة لا شيء لهم، وإني بحمد الله قد
تركتهم بخير، أي بني إن أباكم مثل بين أمرين: أن تستغنوا ويدخل أبوكم
النار، أو تفتقروا ويدخل الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه،
قوموا عصمكم الله.
قال أبو
نعيم: حدَّثنا أبو حامد بن جبلة، قال: حدَّثنا محمد بن إسحاق، قال:
حدَّثنا عباس بن أبي طالب، قال: حدَّثنا الحارث بن بهرام، قال: حدَّثنا
النضر، قال: حدَّثني ليث أن عمر قال في مرضه: أجلسوني، فأجلسوه فقال:
أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع
رأسه وأحد النظر وقال: إني أرى حضرة ما هم بإنس ولا جن. ثم قبض رضي
الله عنه.
ورثاه جماعة، فقال كثير يرثيه:
عمت صنائعه وعم هلاكه ... فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار رتة وزفير
يثني عليك اللسان من لم توله ... خيراً لأنك بالثناء جدير
ردت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
توفي عمر لعشر ليال بقين من رجب هذه السنة - وقيل لخمس بقين - وهو ابن
تسع وثلاثين سنة وأشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، ومات في دير
سمعان ، واشترى موضع قبره هناك فدفن فيه.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الحافظ، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد
الجبار، قال: أخبرنا محمد بن علي الخياط، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن
يوسف، قال: حدَّثنا ابن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال:
حدَّثنا محمد بن الحسين، قال: حدَّثني محمد بن أيوب، قال: حدَّثني يزيد
بن محمد بن مسلمة، قال: حدَّثني مولى لنا، قال: بكت فاطمة بنت عبد
الملك حتى عشي بصرها، فدخل عليها أخواها مسلمة وهشام، فقالا: ما هذا
الأمر الذي دمت عليه؟ أجزعك على بعلك فأحق من جزع على مثله، أم على شيء
فاتك من الدنيا فها نحن بين يديك وأموالنا وأهلونا، فقالت: ما من كل
جزعت، ولا على واحد منها أسفت، ولكني والله رأيت منه منظراً، فعلمت
الذي أخرجه إلى الذي رأيت منه، رأيت منه هولاً عظيماً قد أسكن في قلبه
معرفته، قالا: وما رأيت منه؟ قالت: رأيته ذات ليلة قائماً يصلي، فأتى
على هذه الآية: " يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن
المنفوش " فصاح واسوء صباحاه، ثم وثب فسقط، فجعل يخور حتى ظننت أن نفسه
ستخرج، ثم هدأ فظننت أنه قد قضى، ثم أفاق إفاقة فنادى: واسوء صباحاه،
ثم وثب فجعل يجول في الدار ويقول: ويلي من يوم يكون فيه الناس كالفراش
المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش.
غيلان بن عقبة بن بهيس بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن
كعب بن عوف، من بني صعب بن ملكان بن عدي ويقال لغيلان: ذو الرمة، ويكنى
أبا الحارث: سمع بشعره الفرزدق فقال: ما أحسن ما تقول، فقال: فما لي لا
أذكر في الفحول؟ قال: بصونك عن غاياتهم بكاؤك في الدين، وصفتك الأبصار
والفطن.
كان يتشبب بميّ بنت طلحة بن عاصم المنقري، وكانت تسمع شعره ولا تراه،
فجعلت الله أن تنحر بدنه إذا رأته، فلما رأته رأت رجلاً أسود دميّماً،
فقالت: وأسوءتاه، كأنه لم ترضه.
قال أبو سوار الغنوي: رأيت ميّاً، وكانت مسنونة الوجه، طويلة الخدين،
شماء الأنف عليها وسم جمال.
قال محمد بن سلام: كانت مولدة لابن قيس بن عاصم تسمى كثيرة قالت بيتين:
نحلتهما ذا الرمة، وهما:
على وجه ميّ مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الخزي لو كان باديا
ألم تر أن الماء يخبث طعمه ... ولو كان لون الماء في العين صافيا
فامتعض من ذلك ذو الرمة، وحلف أنه ما قالهما، وقال: كيف أقوله وقد
أفنيت شبابي أشبب بها وأمدحها.
وكانت ميةّ عن ابن عم لها يقال له عاصم، فقال ذو الرمة فيها:
ألا ليت شعري هل يموتن عاصم ... ولم يشتعبني للمنايا شعوبها
رمى الله من حتف المنية عاصماً ... بقاصمة يدعى لها فيجيبها
وقد كان ذو الرمة يشبب بخرقاء من بني عامر بن ربيعة وقال أبو زياد
الكلابي: خرقاء من بني عامر بن صعصعه.
قال الأصمعي: كان سبب تشبيبه بخرقاء أنه مر في بعض أسفاره فإذا بخرقاء
خارجة من خباء، فنظر إليها فوقعت في قلبه فخرق أدواته ليستطعم كلامه،
ثم قال لها: إني رجل على ظهر سفر وقد تخرقت أدواتي فأصلحيها، فقالت: لا
والله لا أحسن العمل، وإني لخرقاء، والخرقاء لا تحسن العمل لكرامتها
على أهلها.
وروى عبد
الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن منهال السدوسي قال: حدَّثني رجل من قريش:
أنه سلك طريق مكة للحج فعدل عن الطريق فرأى امرأة، فقال لها: من أنت؟
فقالت: أو ما تعرفني وأنا أحد مناسكك؟ قال: ومن أنت؟ قالت: خرقاء صاحبة
ذي الرمة الذي يقول فيها:
تمام الحج أن تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام
إلا أن جمهور شعره في ميّ، وحب خرقاء حدث بعد ميّ، وفي هذا دليل على
سلو، ويدل عليه قوله:
أخرقاء للبين استقلت حمولها ... نعم غربة فالغث تجري مسيلها
معنى غربة: أي استقلت لأرض بعيدة.
كأن لم يرعك الدهر بالبين قبلها ... لميّ ولم يشهد فراقاً نزيلها
أي قد راعك الدهر غير مرة.
أنبأنا علي بن عبيد الله بن نصير، عن أبي جعفر بن المسلمة، عن أبي عبيد
الله محمد بن عمران المرزباري، قال: حدَّثني أبو صالح الفزاري، قال:
ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب، فقال عصمة بن مالك الفزاري
شيخ منهم بلغ مائة وعشرين سنة: إياي فاسألوا عنه، كان حلو العينين، حسن
المضحك، براق الثنايا، خفيف العارضين، إذا نازعك الكلام لا تسام حديثه،
باد بزته، إذا أنشد بربر وحسن صوته، جمعني وإياه مربع مرة، فأتاني
فقال: يا عصمة إن ميّاً منقرية، ومنقر أخبث حي، وأقفاه لأثر وأثبته في
نظر، وأعلمه بشر، وقد عرفوا آثار إبلي، فهل من ناقة نزدار عليها ميّاً،
قلت: أي والله عندي الجؤذر، قال: فعلينا بها، فجئت بها فركب وردفته ثم
انطلقنا حتى نهبط حي ميّ، فإذا الحي خلوف، فلما رآنا النسوة عرفنا ذا
الرمة، فتقوضن في بيوتهن حتى اجتمعن إلى ميّ، وأنخنا قريباَ وجئناهن
فجلسنا، فقالت ظريفة منهن: أنشدنا يا ذا الرمة، فقال لي: أنشدهن،
فأنشدت قوله:
وقفت على ربع لميةّ ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
فلما انتهيت إلى قوله:
نظرت إلى أظعان ميّ كأنها ... ذرا النخل أو أثل تميّل ذوائبه
فأسبلت العينان والقلب كاتم ... بمغرورق نمت عليه سواكبه
بكى وامق حال الفراق ولم تجل ... جوائلها أسراره ومعاتبه
قالت الظريفة: لكن اليوم فلتجل. ثم مضيت إلى قوله
وقد حلفت بالله ميةّ ما الذي ... أحادثها إلا الذي أنا كاذبه
إذا فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرضي عدو أجاذبه
قالت ميةّ: ويحك يا ذا الرمة، خف عواقب الله عز وجل، ثم مضيت حتى
انتهيت إلى قوله:
إذا سرحت من حب ميّ سوارح ... على القلب آبته جميّعاً عوازبه
فقالت الظريفة: قتلتيه قتلك الله، فقالت: ما أصحه وهنيئاً له، قال:
فتنفس ذو الرمة تنفسة كاد يطير بلحيته، ثم مضيت حتى انتهيت إلى قوله:
إذا نازعتك القول ميةّ أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الدرع سالبه
فيا لك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلل جادبه
فقالت الظريفة: هذا الوجه قد بدا لك، وهذا القول قد تنوزع فيه، فمن لنا
بأن ينضو الدرع سالبه، فالتفتت إليها ميّ وقالت: مالك قاتلك الله ماذا
تجيئن به، فتضاحكن النسوة، فقالت الظريفة: إن لهذين شأناً، فقمت و قمن
ثم صرت إلى بيت قريب أراهما ولا أسمع كلامهما إلا الحرف بعد الحرف،
فوالله ما رأيته برح مكانه ولا تحرك، وسمعتها تقول: كذبت والله، فوالله
ما أدري ما الذي كذبته فيه، فتحدثا ساعة ثم جاءني معه قويريرة فيها دهن
طيب، فقال: هذه دهنة أتحفتني بها ميّ فشأنك بها، وهذه قلائد در زودتنا
للجؤذر، فلا والله لا قلدتهن بعيراً أبداً، ثم عقدهن في ذؤابة سيفه،
قال: فانصرفنا، فلم يزل يختلف إليها مربعنا حتى انقضى، ثم جاءني يوماً،
فقال: يا عصمة قد ظعنت ميّ فلم يبق إلا الديار، والنظر في الآثار،
فانهض بنا إلى ديارها، فخرجنا حتى وقف على ديارها فجعل ينظر ثم قال:
ألا فاسلميّ يا دار ميّ على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
وإن لم تكن في غير شام بقفرة ... تمر بها الأذيال صيفية كدر
ثم انفضحت عيناه بالعبرة، فقلت: مه قال: أني لجلد وإن كان مني ما ترى،
فما رأيت صبابة قط ولا تجلد أحسن من تجلده وصبابته يومئذ، ثم انصرفنا
فكان آخر العهد به
قوله: غير
شام الشام لون يخالف معظم لون الأرضيين، وهو جمع شامة، أي آثار، كأنها
شام في جيد، وهي بقع مختلفة الألوان مثل لون الشامة، وإنما يريد أثر
الرماد بأرض خالية. والصيفية: الرياح الكدر فيها غبرة.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت: أخبرنا أحمد بن جعفر السراج،
قال: أخبرنا القاضيان أبو الحسن الثوري، وأبو القاسم التنوخي، قالا:
أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، قال: أخبرنا محمد بن خلف، قال: أخبرنا محمد
بن الفضل، قال: أخبرني أبي قال: أخبرنا القحذميّ، قال:
دخل ذو الرمة الكوفة فبينا هو يسير في بعض شوارعها على نجيب له رأى
جارية سوداء واقفة على باب دار فاستحسنها ووقعت في قلبه فأومأ إليها
وقال: يا جارية اسقيني ماء، فأخرجت له كوزاً فشرب وأراد أن يمازحها
ويستدعي كلامها، فقال: يا جارية، ما أحر ماءك؟ لو شئت لأقبلت على عيوب
شعرك وترك حر مائي وبرده، فقال لها: وأي شعري له عيب؟ فقالت ألست ذا
الرمة؟ قال: بلى، قالت :
فأنت الذي شبهت عنزا بقفرة ... لها ذنب فوق أستها أم سالم
جعلت لها قرنين فوق جبينها ... وطبين مسودين مثل المحاجم
وساقين إن يستمكنا منك يتركا ... بجلدك يا غيلان مثل المناسم
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أمّ سالم
فقال لها: نشدتك بالله إلا أخذت راحلتي هذه وما عليها ولم تظهري هذا،
ونزل عن راحلته فدفعها إليها. وذهب يمضي، فدعتها إليه وضمنت له ألا
تذكر لأحد ما جرى.
قال أبو معاوية: كان ذو الرمة حسن الصلاة، فقيل له: ما أحسن صلاتك،
فقال: إن العبد إذا قام بين يدي الله لحقيق أن يتخشع.
وقال عيسى بن عمر: كان ذو الرمة ينشد فإذا فرغ قال: والله لأسجنك بشيء
ليس في حسابك، سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
روى الأصمعي، عن أبي الوجيه، قال: كان أحر ما قال ذو الرمة من الشعر:
يا رب قد أسرفت نفسي وقد علمت ... علماً يقيناً لقد أحصيت آثاري
ما مخرج الروح من جسميّ إذا احتضرت ... وفارج الكرب زحزحني عن النار
وروى ابن دريد، عن أبي حاتم السجستاني، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى،
قال: حدَّثني المنتجع بن نبهان، قال: كنت مع ذي الرمة حين حضرته
الوفاة، فلما أحس بالموت قال لي: يا منتجع إن مثلي لا يدفن في غموض من
الأرض ولا في بطون الأودية، فإذا أنا مت فادفني برأس فريدادين، فلما
مات جئنا بماء وسدر وتوقلنا الرملة فحفرنا له حفرة ودفناه فهناك قبره
إذا ظعنت في الدهناء برأس فريدادين.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا
إبراهيم بن عمر قال: أخبرنا أبو الحسن الزيني، قال: حدَّثنا ابن
المرزبان، قال: حدَّثني أحمد ين زهير، قال: حدَّثني هرقل بن مسلم، قال:
حدَّثني أبو هلال الأزدي، قال: حدَّثني عمارة قال: سمعت ذا الرمة لما
حضرته الوفاة، يقول: لقد مكثت مهيماً بميّ عشرين سنة في غير ريبة ولا
فساد.
قال ابن قتيبة: لما حضرت ذا الرمة الوفاة قال: أنا ابن نصف الهرم، أنا
ابن أربعين سنة.
همام بن منبه، أخو وهب بن منبه، يكنى أبا عقبة: توفي بصنعاء في هذه
السنة
ثم دخلت
سنة اثنتين مائة
فمن الحوادث فيها: أن يزيد بن عبد الملك بعث العباس بن الوليد بن عبد
الملك ومسلمة بن عبد الملك إلى حرب يزيد بن المهلب، فخرج يزيد بن من
واسط للقائهما، واستخلف بها ابنه معاوية بن يزيد، وجعل عنده الخزائن
وبيت المال وقدم بين يديه أخاه عبد الملك، فاستقبله العباس بسورا،
فاقتتلوا فشد عليهم أهل البصرة فكشفوهم وسقط إلى يزيد ناس كثير من أهل
الكوفة ومن الجبال والثغور، فقام فيهم فقال: قد ذكر لي أن هذه الجرادة
الصفراء - يعني مسلمة بن عبد الملك - وعاقر ناقة صالح - يعني العباس بن
الوليد، وكان العباس أزرق أحمر وكانت أمه رومية - والله لقد كان سليمان
أراد أن ينفيه حتى كلمته فأقره على نسبه، بلغني أنه ليس يهمهما إلا
التماسي في الأرض، والله لو جاءوا بأهل الأرض جميعاً وليس إلا أنا، ما
برحت العرصة حتى تكون لي أولهم.
وكان
الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد بن المهلب، فقام مروان بن الهلب
خطيباً في الناس بالجد والجهاد، ثم قال: لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال
المرائي - ولم يسمه - يثبط الناس عنا، والله لو أن جاره نزع من خض داره
قصبة لظل يرعف أنفه. ولم يدع الحسن كلامه ذلك.
فلما اجتمع يزيد بن المهلب ومسلمة أقاما ثمانية أيام حتى إذا كان يوم
الجمعة لأربع عشر ليلة مضت في صفر عبأ مسلمة جنود الشام، ثم ازدلف بهم
نحو يزيد، وبعث مسلمة فأحرق الجسر فانهزم أصحاب يزيد وتسللوا وهو
يزدلف، فكلما مر بخيل كشفها، فجاءه أبو رؤبة فقال له: هل لك أن تنصرف
إلى واسط فإنها حصن فتنزلها ويأتيك مدد البصرة وأهل عمان والبحرين في
السفن، وتضرب خندقاً، فقال: قبح الله رأيك، إليّ تقول هذا؟ إن الموت
أيسر علي من ذلك، وبرز فقتل وقتل أخوه محمد فبعث برأسه إلى يزيد بن عبد
الملك، فلما بلغ خبر الهزيمة، إلى واسط أخرج معاوية بن يزيد بن المهلب
اثنين وثلاثين أسيراً كانوا عنده، فضرب أعناقهم؛ منهم عدي بن أرطأة.
ثم اقبل على البصرة ومعه المال والخزائن، وجاء المفضل بن المهلب،
واجتمع أهل المهلب في البصرة، فحملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن
البحرية، ثم لججوا في البحر ومضوا إلى قندابيل، ورجع قوم فطلبوا
الأمان، وبعث مسلمة في آثارهم هلالا التميمي، فلحقهم بقندابيل، ومنعهم
قندابيل الدخول، فالتقوا فقتلوا عن آخرهم سوى رجلين، ولما فرغ مسلمة من
حرب يزيد بن المهلب جمع له يزيد بن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة
وخراسان في هذه السنة.
وفيها: غزا المسلمون الصغد والترك، وكانت الواقعة بينهم بقصر الباهلي.
وفيها: عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق وخراسان، وانصرف إلى الشام.
وكان سبب ذلك أنه لما ولي أرض العراق وخراسان لم يرفع شيئاً من الخراج،
فأراد يزيد عزله فاستحيا منه، فكتب إليه أن استخلف على عملك وأقبل،
فشاور في ذلك عبد العزيز بن حاتم، فقال له: إنك لا تخرج من عملك حتى
تلقى الوالي عليه. فشخص فلقيه عمر بن هبيرة على دواب البريد، فقال: إلى
أين يا ابن هبيرة؟ فقال: وجهني أمير المؤمنين في حيازة أموال بن
المهلب، وإنما أراد تغطية الحال عنه، فما لبث أن جاءه خبر بعزل ابن
هبيرة عماله والغلظة عليهم.
وفيها: غزا عمر بن هبيرة الروم بأرمينة، فهزمهم وأسر منهم سبعمائة
أسير.
وفيها: قتل يزيد بن أبي مسلم في بأفريقة وهو أول وال عليها.
وسبب ذلك أنه كان قد عزم أن يسير فيهم بسيرة الحجاج فقتلوه، وأعادوا
الوالي قبله، وهو محمد بن يزيد بن أبي مسلم مولى من الأنصار وكتبوا إلى
يزيد: إنا لم نخلع أيدينا عن الطاعة، ولكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما
لا يرضاه الله تعالى فقتلناه وأعدنا عاملك، فكتب: إليهم أني لم أرض ما
صنع يزيد، وأقر محمد بن يزيد على عمله بإفريقة.
وفيها: حج بالناس عبد الرحمن بن الضحاك وهو العامل على المدينة، وكان
على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة محمد بن
عمرو، وعلى قضائها القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعلى
البصرة عبد الملك ابن بشر بن مروان، وعلى خراسان سعيد بن عبد العزيز بن
الحارث بن الحكم بن أبي العاص، وعلى مصر أسامة بن زيد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، أبو خالد الأزدي قد ذكرنا أحواله في
الحوادث وخروجه على يزيد بن عبد الملك ومحاربته له، وأنه قتل في الحرب
في هذه السنة، وكان جواداً.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج، قال:
أخبرنا عبد العزيز بن الحسن بن الضراب، قال: أخبرنا أبي قال: حدَّثنا
أحمد ابن مروان، قال: حدَّثنا محمد بن موسى بن حماد، قال: حدَّثنا محمد
بن الحارث، عن المدائني، قال: كان سعيد بن عمرو مؤاخياً ليزيد بن
المهلب، فلما حبس عمر بن عبد العزيز يزيد ابن المهلب منع الناس من
الدخول إليه، فأتاه سعيد فقال: يا أمير المؤمنين لي على يزيد خمسون ألف
درهم قد حلت بيني وبينه، فإن رأيت أن تأذن لي فاقتضيه، فأذن له فدخل
فسرّ به يزيد وقال: كيف وصلت إليّ؟ فأخبره، فقال: والله لا تخرج إلا
وهي معك، فامتنع سعيد، فحلف يزيد ليقبضها، فوجه إلى منزله حتى حمل إلى
سعيد خمسون ألف درهم.
وروى
الصولي قال: دخل الكوثر بن زفر على يزيد بن المهلب حين ولاه سليمان
العراق، فقال له: أنت والله أكبر قدراً من أن يستعان عليك إلا بك، ولست
تصنع من المعروف إلا وهو أصغر منك، وليس العجب أن تفعل، ولكن العجب ألا
تفعل. فقال: يزيد: سل حاجتك، فقال: حلمت عن قوم عشر ديات وقد نهضني
ذلك، قال: قد أمرت لك بها وقد شفعتها بمثلها، فقال له الكوثر: أما ما
سألتك بوجهي فأقبله منك، وأما الذي ابتدأني به فلا حاجة لي فيه، قال:
ولم قد كفيتك فيه ذل المسألة؟ قال: إن الذي أخذته مني بمسألتي إياك
وبذل وجهي لك أكبر من معروفك عندي فكرهت الفضل علي، قال يزيد: وأنا
أسألك كما سألتني بحقك عليّ ما أهلتني له من إنزالك الحاجة بي إلا
قبلتها، ففعل.
ثم دخلت
سنة ثلاث ومائة
فمن الحوادث فيها: غزوة العباس بن الوليد الروم ففتح بها مدينة من
مدائن الروم.
وفيها: ضمت مكة إلى عبد الرحمن بن الضحاك الفهري، فجمعت له مع المدينة.
وعزل عبد العزيز عن مكة.
وفيها: ولي عبد الواحد بن عبد الله البصري الطائف.
وفيها: استعمل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي على خراسان، فارتحل
أهل الصغد عن بلادهم عند مقدمه، فلحقوا بفرغانة وسألوا ملكها إعانتهم
على المسلمين، فبعث إليهم بن هبيرة يسألهم أن يقيموا ويستعمل عليهم من
يريدون، فأبوا وخرجوا إلى خجنده.
وفي هذه السنة: حج بالناس عبد الرحمن بن الضحاك، وكان على مكة
والمدينة، وكان على الطائف عبد الواحد البصري، وعلى العراق عمر بن
هبيرة، وعلى خراسان من قبله سعيد بن عمرو الحرشي، وعلى قضاء الكوفة
القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعلى قضاء البصرة عبد
الملك بن يعلى.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جابر بن زيد، أبو الشعثاء: كان مفتي البصرة، وكان ابن عباس يقول: لو
نزل أهل البصرة عند قول جابر لأوسعهم عما في كتاب الله علماً.
وقال جابر في مرضه: اشتهي نظرة من الحسن، فجاء إليه في الليل وكان
متخفياً. وتوفي في هذه السنة.
خالد بن معدان، أبو عبد الله الكلاعي: أسند عن أبي عبيدة، ومعاذ،
وعبادة، وأبي ذر، وغيرهم.
وتوفي في رمضان هذه السنة.
عن أبي المغيرة، عن صفوان بن عمر، قال: كان خالد بن معدان إذا عظمت
حلقته قام فانصرف، قيل لصفوان: ولم كان يقوم؟ قال: كان يكره الشهرة.
عامر بن عبد الله بن قيس، أبو بردة ابن أبي موسى روى عن أبيه، وكان على
بيت المال، وولي قضاء الكوفة بعد شريح، وفيها توفي في هذه السنة.
عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: وقد مضى ذكره.
عطاء بن يسار، أخو سليمان بن يسار: روى عن أبيّ بن كعب، وابن مسعود،
وأبي أيوب، في خلق كثير من الصحابة، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار،
قال: أخبرنا علي بن أحمد الملطي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف،
قال: أخبرنا أبو الحسين بن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال:
حدَّثني محمد بن الحسين، قال: حدَّثني عبد العزيز بن يحيى الأويسي، عن
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: خرج عطاء بن يسار وسليمان بن يسار
حاجين إلى المدينة ومعهما أصحاب لهما حتى إذا كانوا بالأبواء نزلوا
منزلاً، فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم وبقي عطاء قائماً في المنزل
يصلي. قال: فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة، فلما رآها عطاء ظن أن
لها حاجة، فأوجز في صلاته ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم، قال: ما هي؟
قالت: قم فأصب مني فإني قد ودقت ولا بعل لي، قال: إليك عني لا تحرقيني
ونفسك بالنار.
ونظر إلى
امرأة جميلة فجعلت تراوده عن نفسه ويأبى إلا ما يريد. قال: فجعل عطاء
يبكي ويقول: ويحك إليك عني. قال: واشتد بكاؤه، فلما نظرت المرأة إليه
وما دخله من البكاء والجزع بكت المرأة لبكائه. قال: فجعل يبكي والمرأة
تبكي بين يديه. فبينا هو كذلك إذ جاء سليمان من حاجته، فلما نظر إلى
عطاء يبكي والمرأة بين يديه تبكي جلس في ناحية البيت يبكي لبكائها ولا
يدري ما أبكاهما، وجعل أصحابهما يأتون رجلاً رجلاً كلما أتى رجل فرآهم
يبكون جلس فبكى لبكائهم لا يسألهم عن أمرهم حتى كثر البكاء وعلا الصوت،
فلما رأت المرأة الإعرابية ذلك قامت فخرجت. قال: فقام القوم فدخلوا،
فلبث سليمان بعد ذلك وهو لا يسأل أخاه عن قصة المرأة إجلالاً له وهيبة،
قال: وكان أسن منه، ثم أنهما قدما مضر لبعض حاجتهما فلبثا بها ما شاء
الله، فبينا عطاء ذات ليلة نائم إذ استيقظ وهو يبكي، فقال سليمان: ما
يبكيك يا أخي؟ قال: رؤيا رأيها الليلة، قال: وما هي؟ قال: لا تخبر بها
أحداً ما دمت حياً، رأيت يوسف النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فجئت
أنظر إليه فيمن ينظر، فلما نظرت حسنه بكيت، فنظر إلي فقال: ما يبكيك
أيها الرجل؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، ذكرتك وامرأة العزيز وما
ابتليت به من أمرها، وما لقيت من السجن وفرقة يعقوب، فبكيت من ذلك
وجعلت أتعجب منه، قال: فهلا تعجبت من صاحب المرأة البدوية بالأبواء
فعرفت الذي أراد، فبكيت فاستيقظت باكياً قال: سليمان يا أخي وما حال
تلك المرأة؟ فقص عليه عطاء القصة، فما أخبر بها سليمان أحداً حتى مات
عطاء، فحدث بها بعده امرأة من أهله، وشاع الحديث بالمدينة بعد موت عطاء
بن يسار.
وقد رويت لنا هذه القصة عن سليمان أنها جرت له والله أعلم.
وتوفي عطاء في هذه السنة، وقيل: سنة أربع وتسعين.
يزيد بن الأصم، واسمه عبد عمرو بن عدس: وأمه برزة بنت الحارث بن حزن،
أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
روى عن أبي هريرة، وابن عباس، وكان ينزل بالرقة.
وتوفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة أربع ومائة
فمن الحوادث فيها: أن سعيداً الحرشي غزا فقطع النهر، فقتل أهل الصغد
واصطفى أموالهم وذراريهم، وكتب إلى يزيد بن عبد الملك ولم يكتب إلى عمر
بن هبيرة، وكان هذا فيما وجد عليه ابن هبيرة فيه، وكان على الأقباض
علباء بن أحمر فاشترى رجل منه جونة بدرهمين، فوجد فيها سبائك ذهب، فرجع
وهو واضع يده على عينه كأنه رمد فرّد الجونة وأخذ الدرهمين، وطلب فلم
يوجد.
وفي هذه السنة: عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس عن
مكة والمدينة، وذلك للنصف الأول من ربيع الأول، وكان عامله على المدينة
ثلاث سنين، وولى المدينة عبد الواحد النضري.
وكان سبب عزل ابن الضحاك أنه خطب فاطمة بنت الحسين، فقالت: ما أريد
النكاح، فألح عليها وتوعدها بأن يؤذي ولدها، وكان إلى ديوان المدينة
ابن هرمز الشامي، فدخل على فاطمة، فقال: هل من حاجة؟ فقالت: تخبر أمير
المؤمنين ما ألقى من ابن الضحاك، وبعثت رسولاً بكتاب إلى يزيد تخبره
بذلك، وتذكر فيها قرابتها وما يتواعدها بهن فقدم ابن هرمز على يزيد
فاستخبره عن المدينة وقال: هل من مغربة خبر؟ فلم يذكر له شأن فاطمة،
فقال الحاجب: بالباب رسول من فاطمة، فقال ابن هرمز: يا أمير المؤمنين،
إن فاطمة يوم خرجت حملتني رسالة إليك، وأخبره الخبر. قال: فنزل من أعلى
فراشه وقال: لا أم لك، أسألك عن مغربة خبر، وهذا عندك ولا تخبرنيه؟
فأعتذر بالنسيان، فأذن للرسول فدخل واخذ الكتاب فقرأه وجعل يضرب
بخيزران على يده ويقول: لقد اجترأ ابن الضحاك، هل من رجل يسمعني صوته
في العذاب وأنا على فراشي؟ قيل له: عبد الواحد بن عبد الله النضري فدعا
بقرطاس وكتب بيده إلى عبد الواحد وهو بالطائف: سلام عليك، أما بعد. فقد
وليتك المدينة، فإذا جاءك كتابي فأهبط إليها واعزل ابن الضحاك وأغرمه
أربعين ألف درهم وعد به حتى أسمع صوته وأنا على فراشي.
فقدم
البريد المدينة فلم يدخل على ابن الضحاك، فأحس بالشر، فأرسل على البريد
فكشف له عن طرف المفرش، فقال: هذه ألف دينار ولك العهد والميثاق، إن
أخبرتني خبر وجهك هذا دفعتها إليك، فاستنظر البريد ثلاثاً حتى يسير،
وخرج ابن الضحاك، فأغذ السير حتى نزل على مسلمة بن عبد الملك، فقال:
أنا في جوارك، فغدا مسلمة على يزيد فرققه، وقال: لي حاجة إليك، فقال:
كل حاجة فهي لك ما لم يكن ابن الضحاك، فقال: هو ابن الضحاك، فقال:
والله لا أعفيه أبدأَ وقد فعل ما فعل، فرده إلى النضري، وكان قد قدم
إلى المدينة للنصف من شوال. وعذب ابن الضحاك وافتقر حتى رأيت عليه جبة
صوف وهو يسأل الناس.
وكان قد عادى الأنصار في ولايته، وضرب أبا حازم ظلماً في باطل، فما بقي
بالمدينة صالح إلا عابه، ولا شاعر إلا هجاه، وكان ذلك آخر أمره.
- وفي هذه السنة: غزا الحجاج بن عبد الله الحكمي أرض الترك، ففتح على
يديه بلجنر، وفتحوا الحصون التي تليها، وجلا عنها عامة أهلها وسبوا ما
شاءوا.
- وفيها: ولد أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس
في ربيع الآخر.
وفيها: عزل ابن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي عن خراسان، وولى مسلم بن
سعيد الكلابي. وسبب عزله الحرشي أن الحرشي كان يستخف بأمر ابن هبيرة،
وكتب إليه يأمره بتخلية رجل فقتله، فدعى ابن هبيرة رجلاً فقال له: اخرج
إلى خراسان وأظهر أنك قدمت تنظر في أمر الدواوين واعلم لي علمه، فمضى
فجعل ينظر في الدواوين، فقيل للحرشي أنه لم يقدم إلا ليعلم علمك، فسم
بطيخة، وبعث بها إليه فأكلها فمرض وتساقط شعره، ورجع إلى ابن هبيرة،
فغضب ابن هبيرة، وعزل سعيداً وعذبه، وولى مسلم بن أسلم.
وفي هذه السنة: حج بالناس عبد الواحد بن عبد الله النضري، وكان هو
العامل على مكة والمدينة والطائف، وكان على العراق والمشرق عمر بن
هبيرة، وعلى قضاء الكوفة حسين بن الحسن الكندي، وعلى قضاء البصرة عبد
الله بن يعلى.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حيان بن شريح: كان صاحب خراج مصر لعمر بن عبد العزيز، حدث عنه يزيد بن
أبي حبيب، وعبد الملك بن جنادة، وتوفي في هذه السنة.
ربعي بن حراش بن جحش بن عمرو بن عبد الله بن بجاد العبسي الكوفي روى عن
عمر، وعلي، وأبي بكرة، وعمران بن حصين، حدث عنه الشعبي، ومنصور بن
المعتمر، وحصين بن عبد الرحمن وغيرهم. وكان ثقة صدوقاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر احمد بن علي بن
ثابت الخطيب، قال: أخبرنا حمزة بن محمد بن طاهر، قال: حدَّثنا الوليد
بن بكر الأندلسي، قال: أخبرنا علي بن أحمد بن زكريا الهاشمي، قال:
حدَّثنا صالح بن أحمد بن عبد الله العجلي، قال: حدَّثني أبي، قال: ربعي
بن خراش كوفي ثقة. ويقال أنه لم يكذب قط. كان له ابنان عاصيان في زمن
الحجاج، فقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب كذبة قط، لو أرسلت إليه فسألته
عنهما، فأرسل إليه فقال: أين ابناك؟ قال: هما في البيت، فقال: قد عفونا
عنها بصدقك.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن
أحمد المعدل، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: أخبرنا ابن أبي الدنيا، قال:
حدَّثني محمد بن الحسين، قال: حدَّثنا محمد بن جعفر بن عون قال: أخبرني
بكر بن أحمد العابد، عن الحارث الغنوي، قال: إلى ربعي بن حراش ألا تفتر
أسنانه ضاحكاً حتى يعلم أين مصيره، فما ضحك إلا عند موته، وآلى أخوه
ربعي بن حراش بعده ألا يضحك حتى يعلم أفي الجنة هو أم في النار.
قال الحارث الغنوي: فلقد أخبرني غاسلة أنه لم يزل مبتسماً على سريره
ونحن نغسله حتى فرغنا منه.
توفي ربعي بن حراش في هذه السنة، وقيل في سنة إحدى.
زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة القرشي، واسم أبي
زياد ميسرة.
وكان زياد عبداً، وكان عمر بن عبد العزيز يستزيده ويكرمه، وبعث إلى
مولاه ليبيعه إياه، فأبى وأعتقه.
وروي عن أنس بن مالك، قال أنس بن مالك: كان زياد عابداً معتزلا لا يزال
يذكر الله ويلبس الصوف.
أخبرنا
ابن ناصر، قال: أخبرنا رزق الله وطراد، قالا: أخبرنا علي بن محمد بن
بشران، قال: حدَّثنا الحسين بن صفوان، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد
القرشي، قال: حدَّثنا علي بن محمد، قال: حدَّثنا عبد الله بن صالح،
قال: حدَّثني يعقوب بن عبد الرحمن القاري، قال: قال: قال محمد بن
المنكدر: أني خلفت زياد بن أبي زياد وهو يخاصم نفسه في المسجد يقول:
اجلسي، أين تريدين أن تخرجي إلى أحسن من هذا المسجد؟ انظري إلى ما فيه،
تريدين أن تنظري إلى دار فلان وفلان. قال: وكان يقول لنفسه: مالك من
الطعام يا نفس إلا هذا الخبز والزيت، ومالك من الثياب إلا هذين
الثوبين، ومالك من النساء إلا هذه العجوز، أتحبين أن تموتي؟ فقالت: أنا
أصبر على هذا العيش.
عبد الله بن يزيد، أبو قلابة الجرمي كان فقيهاً عالماً بالفقه، بصيراً
بالقضاء، فلما طلب القضاء هرب ومرض، فدخل عليه عمر بن عبد العزيز
يعوده، فقال له: يا أبا قلابة، تشدد ولا تشمت بنا المنافقين. ومات
بالشام في هذه السنة.
أخبرنا علي بن عبيد الله الفقيه، وإسماعيل بن أحمد المنقري، قالا:
أخبرنا أحمد بن محمد النقور، قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز بن مردك،
قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: حدَّثنا عمار بن خالد
الواسطي، قال: حدَّثنا الحكم بن سيار، قال: حدَّثنا أيوب السختياني،
قال: قال: لي أبو قلابة: احفظ عني ثلاث خصال: إياك وأبواب السلطان،
ومجالسة أهل الأهواء، والزم سوقك فإن الغنى من العافية.
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا
عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الضراب، قال: أخبرني أبي، قال: حدَّثنا
أحمد بن مروان، قال: حدَّثنا يوسف بن عبد الله الحلواني، قال: حدَّثنا
عثمان بن الهيثم، قال: كان رجل بالبصرة من بني سعيد، وكان قائداً من
قواد عبيد الله بن زياد، فسقط من السطح، فانكسرت رجلاه، فدخل عليه أبو
قلابة يعوده فقال له: أرجو أن يكون لك خيرة، فقال: يا أبا قلابة، وأي
خيرة في كسر رجلي جميعاً، قال: ما ستر الله عنك أكثر، فلما كان بعد
ثلاث ورد عليه كتاب عبيد الله بن زياد أن يخرج فيقاتل الحسين بن علي
رضي الله عنهما فقال للرسول: قد أصابني ما ترى، فما كان سبعاً حتى وافى
الخبر بقتل الحسين، فقال الرجل: رحم الله أبو قلابة، لقد صدق أنه كان
خيرة لي.
عامر بن شراحيل وقيل: عامر بن عبد الله بن شراحيل - أبو عمرو الشعبي:
من شعب همدان، كوفي، وأمه من سبي جلولاء، ولد لست سنين خلت من خلافة
عمر بن الخطاب هو وأخ له توأماً. وسمع علي بن أبي طالب، والحسن،
والحسين، وعبد الله بن جعفر، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن
الزبير، وأسامة، وجابر، والبراء، وأنس، وأبا هريرة، وعدي بن حاتم،
وسمرة، وعمرو بن حريث، والمغيرة، وزيد بن أرقم، وغيرهم.
وكان مفتياً في العلوم وحافظاً ثقة، وقال: ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا
حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، وما أحببت أن يعيده عليّ، وما أروي
شيئاَ أقل من الشعر، ولو شئت لأنشدكم شهراً لا أعيد، ولقد نسيت من
العلم ما لو حفظه رجل لكان به عالماً، وليتني أفلت من ذلك كفافاً لا
علي ولا لي.
وسمعه عمر يحدث بالمغازي، فقال: هذا الفتى شهد معنا.
وقال أبو مخلد: ما رأيت أفقه من الشعبي، ولما بلغ عبد العزيز بن مروان
عقل الشعبي وعلمه وطيب مجالسته، كتب إلى أخيه عبد الملك أن يؤثره
بالشعبي، ففعل وكتب إليه: إني أوثرك على نفسي، لا يلبث عندك إلا شهراً،
وكان عبد العزيز بمصر فأقام عنده نحواً من أربعين يوماً ثم رده.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا احمد بن علي، قال: أخبرنا محمد بن عبد
الواحد بن علي البزاز، قال: أخبرنا القاضي أبو سعيد الحسن بن محمد بن
عبد الله بن المرزبان السيرافي، قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد،
قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن ابن أخي الأصمعي عن عمه، قال:
وجه عبد
الملك بن مروان عامراً الشعبي إلى ملك الروم في بعض الأمر فاستكثره،
فقال له: من أهل بيت الملك أنت؟ قال: لا، فلما أراد الرجوع إلى عبد
الملك حمله رقعة لطيفة وقال: إذا رجعت إلى صاحبك فأبلغه جميع ما يحتاج
إلى معرفة من ناحيتنا، وادفع إليه هذه الرقعة، فلما صار الشعبي إلى عبد
الملك ذكر له ما احتاج ذكره، ونهض من عنده، فلما خرج ذكر الرقعة فرجع،
فقال: يا أمير المؤمنين، أنه حملني إليك رقعة نسيتها حين خرجت، وكانت
في آخر ما حملني، فدفعها إليه ونهض فقرأها عبد الملك فأمر برده، فقال:
أعلمت ما في الرقعة؟ قال: لا، قال: فيها: عجبت من العرب كيف ملكت غير
هذا، أفتدري لم كتب إليّ بهذا؟ فقال: لا، قال: حسدني بك فأراد أن
يغريني بقتلك، فقال الشعبي: لو كان ذلك يا أمير المؤمنين ما استكثرني.
فبلغ ملك الروم ذلك، فذكر عبد الملك فقال: لله أبوه، والله ما أردت غير
ذلك.
كان الشعبي قد خرج مع القراء على الحجاج ثم دخل عليه فاعتذر فقبل عذره،
وولي القضاء.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: حدَّثنا
محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا ابن أخي ميمي، قال: أخبرنا جعفر بن
محمد الخواص، قال: حدَّثنا ابن مسروق، قال: حدَّثنا إبراهيم بن سعيد،
قال: حدَّثنا أبو أسامة، قال: حدَّثنا ذكريا بن يحيى، قال: دخلت على
الشعبي وهو يشتكي فقال له: كيف تجدك؟ قال: أجدني وجعاً مجهوداً اللهم
إني احتسب نفسي عندك فهي أعز الأنفس عندي.
توفي في هذه السنة. قاله الأكثرون، وقيل: في سنة سبع. وفي مقدار عمره
قولان: سبع وتسعون، والثاني اثنتان وثمانون.
مجاهد بن جبر يكنى أبا الحجاج، مولى قيس بن السائب المخزومي: كان
فقيهاً ديناً ثقة، روى عن ابن عمر، وابن عمرو، وأبي سعيد، وأبي هريرة،
وابن عباس، في آخرين.
قال بعض الرواة: كنت إذا رأيت مجاهداً ظننت أنه خربندج ضل حماره فهو
مهتم.
أخبرنا محمد بن عبد الله الدقاق، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار
قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: حدَّثنا أبو بكر بن عبيد الله، قال:
حدَّثني محمد بن الحسين، قال: حدَّثنا محمد بن كناسة، قال: حدَّثنا عمر
بن ذر، عن مجاهد، قال: إذا أراد أحدكم أن ينام فليستقبل القبلة ولينم
على يمينه وليذكر الله، وليكن آخر كلامة عند منامه لا إله إلا الله،
فإنها وفاة لا يدرى لعلها تكون منيته، ثم قرأ: " وهو الذي يتوافكم
بالليل " توفي مجاهد وهو ساجد في هذه السنة. وقيل: سنة اثنتين، وقيل:
في سنة ثلاث. وقد بلغ ثلاثاً وثمانين سنة.
ثم دخلت
سنة خمس ومائة
فمن الحوادث فيها: غزوة الجراح بن عبد الله اللان حتى إذا جاز مدائن
وحصن وراء بلنجر وأصاب غنائم كثيرة.
وغزوة سعيد بن عبد الملك أرض الروم، فبعث سرية في نحو من ألف مقاتل
فأصيبوا جميعاً وغزوة مسلم بن سعيد الترك، فلم يفتح شيئاَ.
وغزوة مسلم أفشين، فصالح ملكها على ستة آلاف رأس، ودفع إليه القلعة.
وفيها: توفي يزيد بن عبد الملك وولي هشام.
باب ذكر خلافة هشام بن عبد الملك
كان عبد الملك قد تزوج عائشة بنت هشام بن إسماعيل المخزومية، وكانت
حمقاء، فولدت هشاماً في العام الذي قتل فيه مصعب بن الزبير، فسماه
منصوراً وسمته أمه هشاماً فلم ينكر ذلك، وكان عبد الملك قد رأى في
منامه أم هشام قد فلقت رأسه فلطعت فيه عشرين لطعة، فعبرها سعيد المسيب،
فقال: تلد غلاماً يملك عشرين سنة، فولدت له هشاماً، ورأى هشام في منامه
أن طبقاً فيه تفاح قد قدم إليه، فأكل تسع عشر تفاحة وبعض الأخرى، فسأل
عن ذلك فقيل له: تملك تسع عشر سنة وكسراً، فكان لا يقدم إليه التفاح في
خلافته ولا يراه.
وكان يكنى أبا الوليد، وكان أبيض حسن الجسم، أحول، يخضب بالسواد، ولد
له عشر من الذكور، وكان لهاجاً بعمار الأرض وبالآلات والكسي والفرش،
فجمع من ذلك ما حمله على سبعمائة بعير، ووجد له اثنا عشر ألف قميص،
وسبعمائة تكة.
ذكر طرف من أخباره وسيرته. أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا أبو عبد الله
الحميدي، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، قال: أخبرنا
أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب، قال: أخبرنا ابن دريد، قال: أخبرنا أبو
حاتم، عن أبي عبيد، عن يونس، قال:
اشترى عبد
الملك جارية، وخلا بها، فقالت له: يا أمير المؤمنين، ما من منزلة أطمع
فيها فوق منزلتي إذ صرت للخليفة، وكان النار ليس لها خطر، إن ابنك
فلاناً اشتراني، فكنت عنده - لا أدري ذكر ليلة أو نحو ذلك - لا يحل لك
مسي، قال: فحسن منها هذا القول عنده وتركها وولاها أمرها.
قال علماء السير: وكان هشاماً إذا صلى الغداة كان أول من يدخل عليه
صاحب حرسه، فيخبره بما حدث في الليل، ثم يدخل عليه موليان له، مع كل
واحد منهما مصحف، فيقعد أحدهما على يمينه، والآخر على يساره حتى يقرأ
عليهما جزأة، ويدخل الحاجب ويقول: فلان بالباب، وفلان وفلان، فيقول:
ائذن. فلا يزال الناس يدخلون عليه، فإذا انتصف النهار، وضع طعامه ورفعت
الستور، ودخل الناس أصحاب الحوائج، فيسألون حوائجهم، فيقول: لا، ونعم،
والكاتب خلفه يوقع بما يقول، حتى إذا فرغ من طعامه وانصرف الناس صار
إلى قائلته، فإذا صلى الظهر دعى بكتابه فناظرهم فيما ورد من أمور الناس
حتى يصلي العصر، ثم يأذن للناس، فإذا صلى العشاء الآخرة حضر سماره،
الزهري وغيره.
فجاء الخبر من أرمينية أن خاقان قد خرج، فنهض في الحال وحلف أن لا
يؤويه سقف بيت حتى يفتح الله عليه، وسيأتي ذكر هذه القصة فيما بعد إن
شاء الله تعالى.
وقال بشر مولى هشام: تفقد هشام بعض ولده لم يحضر الجمعة، فقال له: ما
منعك؟ فقال: نفقت دابتي، فقال: وعجزت عن المشي فتركت الجمعة، فمنعه من
الدابة سنة.
وظهر في الشام غيلان بن مروان أبو مروان الدمشقي فأظهر الاعتزال فقتله
وصلبه بباب دمشق.
أخبرنا أبو الحصين: قال: أخبرنا أبو طالب محمد بن عبد الله الشافعي،
قال: حدَّثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، قال: حدَّثنا إسماعيل بن الحارث
بن كثير بن هشام، عن عبد الله بن زياد، قال: قال غيلان لربيعة بن أبي
عبد الرحمن: أنشدك الله، أترى الله يحب أن يعصى؟ قال ربيعة: أنشدك
الله، أترى الله يعصى قسراً، فكأني ربيعة ألقم حجراً.
أنبأنا عبد الوهاب الأنماطي، ومحمد بن ناصر الحافظان، قالا: أخبرنا
المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن قشيش،
قال: أخبرنا أبو محمد عبيد الله بن محمد بن علي الجوادي، قال: حدَّثنا
أبو بكر بن الأنباري، قال: أبي، حدَّثنا أحمد بن عبيد المدائني، قال:
حكي لنا أن أبا جعفر المنصور وجه إلى شيخ من أهل الشام كان بطانة هشام
بن عبد الملك فسأله عن تدبير هشام في بعض حروبه مع الخوارج، فوصف له
الشيخ ما دبر، فقال: فعل رحمه الله كذا، وصنع رحمه الله كذاو كذا،
فقال: له المنصور: قم عليك وعليه لعنة الله، تطأ بساطي وتترحم على
عدوي، فقام الرجل وهو يقول وهو مول: إن نعم عدوك لقلادة في عنقي لا
ينزعها إلا غاسلي، فقال له المنصور: ارجع يا شيخ، فرجع فقال: أشهد أنك
نهيض حر وغراس شريف، عد إلى حديثك، فعاد الشيخ إلى حديثه حتى إذا فرغ
دعي له بمال فأخذه وقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي إليه من حاجة،
ولقد مات عني من كنت في ذكر أنفاً، فما أحوجني إلى وقوف بباب أحد، ولو
لا جلالة عز أمير المؤمنين وإيثار طاعته ما لبست لأحد بعده نعمة، فقال
له المنصور: مت إذا شئت لله أبوك، فلو لم يكن لقومك غيرك كنت قد أبقيت
لهم مجداً مخلداً.
وكان هشام لا يلتفت إلى أولاد عمر بن عبد العزيز ولا يعطيهم شيئاً
ويقول: أرضى لهم ما رضي لهم أبوهم.
وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف عبد الواحد النضري،
وعلى قضاء الكوفة حسين بن حسن الكوفي، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
وكان خالد القسري على العراق وخراسان. وقيل إنما استعمل في سنة ست.
وكان العامل في هذه السنة عمر بن هبيرة، فعزله هشام في أول ولايته وولى
خالد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أبان بن عثمان بن عفان، يكنى أبا سعيد ولي المدينة لعبد الملك سبع سنين
وأشهر، وهو أحد سبعة من فصحاء الإسلام؛ سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن
عمير الليثي، وأبو الأسود الدؤلي، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، والحسن
البصري، وقبيصة ين جابر الأسدي.
وولد له
ستة ذكور منهم عبد الرحمن بن أبان. وكان من أزهد الناس، وعقب أبان كثير
بناحية الأندلس. توفي بالمدينة في هذه السنة بعد أن فلج سنه أعظم فالج
حتى ضرب به المثل. وكان به وضح عظيم، وصمم شديد، وحول قبيح، وهو وأخواه
عمرو وعمر لأم واحدة.
شفي ابن ماتع، أبو عبيد الأصبحي: يروى عن عبد الله بن عمرو، وأبي
هريرة، وكان حكيماً. روى عنه أبو قبيل المعافري وغيرة. وكان شفي إذا
أقبل يقول عبد الله بن عمرو: جاءكم أعلم من عليها.
الضحاك بن مزاحم، أبو القاسم الهلالي: أصله من الكوفة، حملت به أمه
سنتين، وكان عالماً بالتفسير، لقي سعيد ين جبير فأخذ عنه، ولم ير ابن
عباس، وكان يعلم ولا يأخذ أجراً، ثم أقام ببلخ.
قال قبيصة بن قيس العنبري: كان الضحاك بن مزاحم إذا أمسى بكى، فيقال
له: ما يبكيك؟ فيقول: لا أدري ما صعد اليوم من عملي.
توفي الضحاك في هذه السنة، وقيل: في سنة اثنين ومائة.
عبد الله بن حبيب بن ربيعة، أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي سمع عثمان،
وعلياً وابن مسعود، وحذيفة، وغيرهم، روى عنه جبير، وإبراهيم النخعي.
وأقرأ القرآن للناس أربعين سنة، وصام ثمانين رمضان.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أنبأنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا
محمد بن أحمد بن يوسف الصياد، قال: أخبرنا أحمد بن يوسف بن خلاد، قال:
حدَّثنا الحارث بن محمد، قال: حدَّثنا عفان، قال: حدَّثنا حماد بن
سلمة، عن عطاء بن السائب، قال: دخلنا على عبد الله بن حبيب وهو يقضي في
مسجده، فقلنا: يرحمك الله لو تحولت إلى فراشك فقال: حدَّثني من سمع
النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لا يزال العبد في صلاة ما كان في
مصلاه ينتظر الصلاة، تقول الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه " .
فأريد أن أموت وأنا في مسجدي.
توفي في هذه السنة وله تسعون سنة.
عكرمة مولى عبد الله بن عباس، يكنى أبا عبد الله: توفي ابن عباس وهو
عبد، فاشتراه خالد بن يزيد بن معاوية من علي بن عبد الله بن عباس
بأربعة آلاف دينار، فراح علي إلى خالد فاستقاله فأقاله فأعتقه.
وكان يروي عن ابن عباس، وأبي هريرة، والحسن بن علي، وعائشة.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن سليمان، قال: حدَّثنا حمد بن أحمد، قال:
حدَّثنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: حدَّثنا أبو علي محمد بن أحمد بن
الحسن، قال: حدَّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: حدَّثنا سعيد بن
عمر، قال: حدَّثنا حماد بن زيد، عن الزبير بن الحريث، عن عكرمة، قال:
كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل يعلمني القرآن والسنن.
وكان الشعبي يقول: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة.
وقال جابر: عكرمة أعلم الناس.
وقال قتادة: أعلمهم بالتفسير عكرمة.
توفي عكرمة في هذه السنة بالمدينة، وقيل: في سنة سبع، وقيل: في سنة ست،
وهو ابن ثمانين سنة.
غزوان بن غزوان الرقاشي، وقيل: غزوان بن زيد: كان من كبار الصالحين.
أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر، عن أبي محمد الجوهري، عن أبي عمرو بن
حيويه قال: أخبرنا ابن معروف، قال: حدَّثنا الحسين بن الفهم، قال:
حدَّثنا محمد بن سعد، قال: حدَّثنا يحيى بن راشد قال: حدَّثنا عثمان بن
عبد الحميد الرقاشي، قال: سمعت مشيختنا يذكرون: إن غزوان لم يضحك منذ
أربعين سنة.
وكان غزوان يغزز، فإذا أقبلت الرفاق راجعين تستقبلهم أمه فتقول لهم:
أما تعرفون غزوان؟ فيقولون: ويحك يا عجوز، ذاك سيد القوم.
كثير بن عبد الرحمن، الأسود بن عامر بن عويمر بن مخلد أبو صخر الخزاعي
الشاعر، اسم أمه جمعة بنت الأشيم بن خالد، وقيل: جمعة بنت كعب بن عمرو.
وقيل: كانت كنية جده أبي أمه أبا جمعة، فلذلك قيل: ابن أبي جمعة. وكان
شاعراً مجيداً إلا أنه كان رافضياً يقول بإمامة محمد بن الحنفية، وأنه
أحق من الحسن والحسين بالإمامة ومن سائر الناس. وأنه حي مقيم بجبل وضوي
لا يموت، ومدح عبد الملك وعمر بن عبد العزيز، وكان يقول بالتناسخ
والرجعة، وكان يقول: أنا يونس بن متى، يعني أن روحه نسخت فيّ. وقال
يوماً: ما يقول الناس في؟ قيل: يقولون أنك الدجال، فقال: إني لأجد في
عيني ضعفاً منذ أيام.
وكان بمكة وقد ورد على الأمراء الأمر بلعن علي رضي الله عنه، فرقي
المنبر وأخذ بأستار الكعبة وقال:
لعن لله
من يسب علياً ... وبنيه من سوقة وإمام
أيسب المطهرون أصولاً ... والكرام الأخوال الأعمام
يأمن الطير والحمام ولا ... يأمن آل الرسول عند المقام
فأنزلوه عن المنبر وأثخنوه ضرباً بالنعال وغيرها فقال:
إن أمرءاً كانت مساوئه ... حب النبي بغير ذي عتب
وبني أبي حسن ووالدهم ... من طاب في الأرحام والصلب
أترون ذنباً أن أحبهم ... بل حبهم كفارة الذنب
وكان كثير دميم الخلقة فاستزاره عبد الملك، فازدراه لدمامته، فقال:
تسمع بالمعيدي خير أن تراه فقال كثير:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مزير
فقال له: إن كنا أسأنا اللقاء فلسنا نسيء الثواء، حاجتك، قال: تزوجني
عزة، فأراد أهلها على ذلك، فقالوا: هي بالغ وأحق بنفسها، فقيل لها،
فقالت: أبعدما تشبب بي وشهرني في العرب مالي إلى ذلك سبيل.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا الحسين بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا أبو الطيب الطبري، قال: حدَّثنا المعافي بن زكريا، قال: حدَّثنا
الحسن بن علي بن المرزبان، قال: حدَّثنا عبد الله بن هارون النحوي،
قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن أبي يعقوب الدينوري، قال: حدَّثني نصر بن
ميمون، عن العتبي، قال: كان عبد الملك بن مروان يحب النظر كثيراً إذ
دخل عليه آذنه يوماً، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا كثير بالباب،
فاستبشر عبد الملك وقال: فأدخل كثير - وكان دميما حقيراً تزدريه العين
- فسلم بالخلافة، فقال: عبد الملك: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال
كثير: مهلاً يا أمير المؤمنين، فإنما الرجل بأصغريه لسانه وقبله، فإن
نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان، وأنا الذي أقول:
وجربت الأمور وجربتني ... فقد أبدت عريكتي الأمور
وما تخفى الرجال علي إني ... بهم لأخو مثابته خبير
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
وما عظم الرجال لهم بزين ... ولكن زينها كرم وخير
بغاث الطير أطولها جسوما ... ولم تطل البزاة ولا الصقور
بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلات نزور
لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
فيركب ثم يضرب بالهراوي ... ولا عرف لديه ولا نكير
ثم قال له: ما كثير أنشدني في إخوان ذكروك بهذا، فأنشده:
خير إخوانك في المنازل في المرّ ... وأين الشريك في المرّ أينا
الذي إذا حضرت سرك في الحي ... وإن غبت كان أذناً وعينا
ذاك مثل الحسام أخلصه القين ... جلاه الجلاء فازداد زينا
أنت في معشر إذا غبت عنهم ... بدلوا كل ما يزينك شيئاً
وإذا ما رأوك قالوا جميعاً ... أنت من أكرم الرجال علينا
فقال عبد الملك: يغفر الله لك يا كثير، فأين الإخوان غير أني أقول:
صديقك حين تستغني كثير ... وما لك عند فقرك من صديق
فلا تنكر على أحد إذا ما ... طوى عنك الزيارة عن ضيق
وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... على حنق وأشرقني بريقي
غفرت له ذنوبه وصفحت عنه ... مخافة أن أكون بلا صديق
وكان كثير قد عشق عزة بنت حميد بن وقاص، وهي من بني ضمرة، وتشبب بها،
وكانت حلوة مليحة، وكان ابتداء عشقه لها ما روى الزبير بن بكار، عن عبد
الله بن إبراهيم السعدي، قال: حدَّثني إبراهيم بن يعقوب بن جميع: أنه
كان أمر كثير أنه مر بنسوة من بني ضمرة ومعه غنم، فأرسلن له عزة وهي
صغيرة، فقالت: تقول لك النسوة: بعنا كبشاً من هذا الغنم وأنسئنا بثمنه
إلى أن ترجع، فأعطاه كبشاً فأعجبته حينئذ، فلما رجع جاءته امرأة منهن
بدراهمه، فقال: أين الصبية التي اخذت مني الكبش؟ قالت: وما تصنع بها،
هذه دراهمك، قال: لا أخذ دراهمي إلا ممن دفعت إليه، وقال:
قضى كل ذي
دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنّى غريمها
وفي رواية أنه أنشدهن:
نظرت إلها نظرة وهي عاتق ... على حين أن شبت وبان نهودها
نظرت إليها نظرة ما يسرني ... بها حمر أنعام البلاد وسودها
وكنت إذا ما جئت سعداً بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيده
من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
ثم أحبته عزة أشد من حبه إياها، ودخلت يوماً وهو يبري السهام فحدثته
وهو يبري فبرى ذراعه وسال الدم وهو لا يعلم.
وقد حكي عنه أنه لم يكن بالصادق في محبته. وروينا أن عزة تنكرت له
فتبعها وقال: يا سيدتي قفي أكلمك، قالت وهل تركت عزة بقية فيك لأحد؟
فقال: لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك، فقالت فكيف بما قلت في عزة؟ قال:
أقلبه لك، فسفرت عن وجهها وقالت: أغدراً يا فاسق، ومضت، فقال:
ألا ليتني قبل الذي قلت شيب لي ... من السم جدحات بماء الذرارح
فمت ولم تعلم عليّ خيانة ... وكم طالب للربح ليس برابح
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، وحمد بن ناصر، قالا: أخبرنا المبارك بن
عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: حدَّثنا أحمد بن يحيى،
عن الزبير بن بكار، قال: كتب إلي إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقول
حدَّثني أبو المتيع قال: خرج كثير يلتمس عزة ومعه شنينة ماء فأخذه
العطش فتناول الشنينة فإذا هي غطم ما فيها شيء من الماء، فرفعت له نار
فأمها، فإذا بقربها مظلة بفنائها عجوز، فقالت له: من أنت؟ قال: أنا
كثير، قالت: قد كنت أتمنى ملاقاتك فالحمد لله الذي أرانيك، قال: وما
الذي تلتمسينه عندي؟ قالت: الست القائل:
إذا ما أتينا خلة كي تزيلها ... أبينا وقلنا الحاجبية أول
سنوليك عرفاً إن أردت وصالنا ... ونحن لتلك الحاجبية أوصل
قال: بلى، قالت: أقلا قلت كما قال سيدك جميل:
يا رب عارضة علي وصالها ... بالجد تخلطه بقول الهازل
فأجبتها في القول بعد تأمل ... حبي بثينة عن وصالك شاغلي
لو كان في قلبي مقدار قلامة ... فضلاً وصلتك أو أتتك رسائلي
قال: دعي هذا واسقني ماء، قالت: والله لا سقيتك شيئاً، قال: ويحك إن
العطش قد أضر بي، قالت: ثكلت بثينة إن طعمت عندي قطرة ماء، فكان جهده
أن ركضت راحلته ومضى يطلب الماء، فما بلغه حتى أضحى النهار وقد أجهده
العطش.
قال أبو بكر بن الأنباري: حدَّثني أبي، قال: حدَّثنا أبو عكرمة وأحمد
بن عبيدة، قالا: لما أتى يزيد بن عبد الملك بأسرى بني المهلب أمر بضرب
أعناقهم، فكان كثير حاضراً، فقام وأنشأ يقول:
فعفو أمير المؤمنين وحسبه ... فما يحتسب من صالح لك أن يكتب
أساءوا فإن تغفر فإنك قادر ... وأفضل حلم حسبه حلم مغضب
فقال يزيد: ما كثير أطت بك الرحم قد وهبناهم لك، وأمر برفع القتل عنهم.
قال أبو بكر: أطت: حنت.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج، قال: أخبرنا
علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا علي بن عيسى الرماني، قال: أخبرنا
أبو بكر بن دريد، قال: أخبرنا عبد الله الأول بن مزيد، قال: أخبرني
حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: خرج كثير يريد عبد العزيز بن مروان
فأكرمه ورفع منزلته وأحسن جائزته وقال: سلني ما شئت من الحوائج، قال:
نعم أحب أن تنظر لي من يعرف قبر عزة فيقفني عليه، فقال رجل من القوم:
إني لعارف به، فانطلق به الرجل حتى انتهى إلى قبرها، فوضع يده عليه
وعيناه تجريان وهو يقول:
وقفت على ربع لعزة ناقتي ... وفي الترب رشاش من الدمع يسفح
فيا عز أنت البدر قد حال دونه ... رجيع تراب والصفيح المصرح
وقد كنت أبكي من فراقك خيفة ... فهذا لعمري اليوم إياي أنزح
فهلا فداك الموت من أنت قربه ... ومن هو أسوا منك حالاً وأقبح
ألا لا أرى بعد ابنة النضر لذة ... بشيء ولا ملحاً لمن يتملح
فلا زال وادي رمس عزة سائلاً ... به نعمة من رحمة الله تسفح
أرب لعيني
البكا كل ليلة ... فقد كان مجرى دمع عيني يقرح
إذا لم يكن ماء تجلتنا دماً ... وشر البكاء المستعار الممنح
ومن شعر كثير:
خليلي هذا رسم عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا مرجفات الحزن حتى تولت
فقلت لها يا عزّ كل مصيبة ... إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت
أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها ... وحلت بلاغاً لم تكن قبل حلت
ووالله ما قاربت إلا تباعدت ... بصرم ولا أكثرت إلا أقلت
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدنيا ولا مولية إن تقلت
فلا يحسب الواشون أن صبابتي ... بعزة كانت غمرة فتجلت
وكنا ارتقينا من صعود من الهوى ... فلما علوناه ثبت وزلت
وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا ... فلما توافينا شددت وحلت
وللعين أسراب إذا ما ذكرتها ... وللقلب أسرار إذا العين سلت
توفي كثير وعكرمة في هذه السنة في يوم واحد، فصلي عليهما في مكان واحد
بعد الظهر، فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس، وكان كثير يقول
عند موته لأهله: لا تبكوا عليّ فإني بعد أربعين يوماً أرجع.
يزيد بن عبد الملك بن مروان توفي بالبلقاء من أرض الشام وهو ابن ثمان
وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين، وكانت وفاته يوم الجمعة لخمس بقين من
شعبان هذه السنة، وصلى عليه نساء الوليد، وكان هشام بن عبد الملك يومئذ
بحمص، وكانت خلافته أربع سنين وشهراً.
وكان سبب موته أنه كانت له جارية اسمها حبابة، وكان يحبها حباً شديداً،
فماتت فتغير وبقي أياماً لا يظهر للناس، ثم مات.
وروى أبو بكر بن دريد، عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه، قال: حج
يزيد بن عبد الملك في خلافة أخيه سليمان بن عبد الملك، فعرضت عليه
جارية مغنية جميلة، فأعجب بها غاية الإعجاب فاشتراها بأربعة آلاف
دينار، وكان اسمها الغالية فسماها حبابة، وكان يهواها الحارث بن خالد
المخزومي، فقال لما بلغه خروج يزيد بها:
ظعن الأمير بأحسن الخلق ... وغدا بليل مطلع الشرق
وبلغ سليمان خبرها فقال: لهممت أن أحجر على يزيد يبتاع جارية بأربعة
آلاف دينار، وكان يزيد يهابه ويتقيه، فتأدى إليه قوله فردها إلى مولاها
واسترجع منه المال، وباعها مولاها م رجل من أهل مصر بهذا الثمن، ومكث
يزيد آسفاً متحسراً عليها، فلم تمض إلا مديدة حتى تقلد يزيد الأمر.
فينا هو في بعض الأيام مع امرأته سعدى بنت عمرو بن عثمان إذا قالت له:
بقي في قلبك شيء من أمور الدنيا لم تنله؟ قال: نعم حبابة، فأمسكت حتى
إذا كان من الغد أرسلت بعض ثقاتها إلى مصر، ودفعت إليه مالاً وأمرته
بابتياع حبابة، فمضى فما كان بأسرع من أن ورد وهي معه قد اشتراها،
فأمرت سعدى قيمة جواريها أن تصنعها، وكستها من أحسن الثياب، وصاغت لها
من أفخر الحليّ، ثم قالت لها: أمير المؤمنين متحسر عليك وله اشتريتك،
فسرت ودعت لها، ولبثت أياماً تصنعها تلك القيمة حتى إذا ذهب عنها وعث
السفر قالت سعدى ليزيد: إني أحب أن تمضي معي إلى بستانك بالغوطة لنتنزه
فيه، قال: أفعل فتقدميني، فمضت وضربت فيه قبة وشي ونجدتها بالفرش وجعلت
داخلها كله قصب وأجلست فيه حبابة، وجاء يزيد فأكلوا وجلسوا على شرابهم،
فأعادت سعدى عليه: هل بقي في قلبك من الدنيا شيء لم تبلغه؟ قال: نعم
حبابة، قالت: قد اشتريت جارية ذكرت أنها علمتها غناءها كله، فهي تغني
مثلها فتنشط لاستماعها، قال: أي والله، فجاءت به إلى القبة وجلسا
قدامها وقالت: غني يا جارية، فغنت الصوت الذي غنته ليزيد لما اشترها هو
من شعر كثير:
وبين التراقي والفؤاد حرارة ... مكان الشجى لا تستقل فتبرد
قال يزيد: حبابة والله، قالت سعدى: حبابة، والله لك اشتريتها وقد
أهديتها لك فسر سروراً عظيماً وشكرها غاية الشكر وانصرفت وتركته مع
حبابة، فلما كان بالعشي صعد معها إلى مستشرف في البستان وقال لها: غني
وبين التراقي والفؤاد حرارة ... مكان الشجي لا تستقل فتبرد
فغنته
فأهوى ليرمي بنفسه وقال: أطير والله، فتعلقت به وقالت له: الله الله يا
أمير المؤمنين، فأقام معها ثلاثة أيام ثم انصرفا، فأقامت أياماً ثم
مرضت وماتت فحزن عليها حزناً شديداً وامتنع عن الطعام والشراب ومرض
فمات.
أخبرنا ابن المبارك بن علي، قال: أخبرنا ابن العلاف، قال: أخبرنا عبد
الملك بن بشران، قال: أخبرنا احمد بن إبراهيم، قال: أخبرنا محمد بن
جعفر، قال: أخبرنا علي بن الإعرابي، قال: حدَّثنا علي بن عمروس.
أن يزيد بن عبد الملك دخل يوماً بعد موت حبابة إلى خزائنها ومقاصيرها،
فطاف فيها ومعه جارية من جواريها، فتمثلت الجارية بهذا البيت:
كفى حزناً بالواله الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا
فصاح صيحة وخر مغشياً عليه فلم يفق إلى أن مضى من الليل هوي فلم يزل
بقية ليلته باكياً، فلما كان اليوم الثاني وقد انفرد في بيت يبكي عليها
جاءوا إليه فوجدوه ميتاً.
أخبرنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، قالت أخبرنا ابن السراج بإسناده عن موسى
بن جعفر: أن يزيد بن عبد الملك بينا هو مع حبابة أسر الناس بها حذفها
بحبة رمان أو بعنبة وهي تضحك، فوقعت في فيها فشرقت فماتت، فأقامت عنده
في البيت حتى جيفت أو كادت أن تجيف، ثم خرج فدفنها وأقام أياماً ثم خرج
حتى وقف على قبرها وقال:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا ... فبالنفس أسلو عنك لا بالتجلدا
ثم رجع عما خرج من منزله حتى خرج نعشه.
وقال يحيى بن أسقوط الكندي: ماتت حبابة فأحزنت يزيد بن عبد الملك، فخرج
في جنازتها فلم تقله رجلاه، فأقام وأمر مسلمة فصلى عليها ثم لم يلبث
بعدها إلا يسيرا حتى مات.
ثم دخلت
سنة ست ومائة
فمن الحوادث فها: إن هشاماً عزل عبد الواحد النضري عن مكة والمدينة
والطائف، وولى ذلك خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، فقدم
المدينة يوم الجمعة لسبع عشر ليلة خلت في جمادي الآخرة، وكانت ولاية
النضري على المدينة سنة وثمانية أشهر.
وفيها غزا سعيد بن عبد الملك الصائفة، وغزا الحجاج بن عبد الملك
اللاّن، فصالح أهلها وأدوا الجزية.
وفيها: قدم خالد بن عبد الله القسري أميراً على العراق بعد خراسان،
فاستعمل أخاه لبيد بن عبد الله على خراسان.
وفيها : غزا مسلم بن سعيد الترك، فورد عليه عزله عن خراسان من خالد وقد
قطع النهر لحربهم. وتولية أسد بن عبد الله أخي خالد عليها.
وفيها: استقصى هشام بن إبراهيم بن هشام الجمحي، ثم عزله واستقصى الصلت
الكندي.
وفيها: ولد عبد الصمد بن علي في رجب.
وفيها: حج بالناس هشام بن عبد الملك، وكتب إلى أبي الزناد قبل أن يدخل
المدينة: أكتب إليّ بسنن الحج، فكتباه له وتلقاه، فلما صلى هشا م في
الحجر كلمه إبراهيم بن طلحة، فقال له : أسألك بالله وحرمة هذا البيت
والبلد الذي خرجت معظماً لحقه إلا رددت علي ظلامتي، قال: وأي ظلامة؟
قال: داري، قال: فأين كنت عن عبد الملك؟ قال: ظلمني والله، قال: فعن
الوليد؟ قال: ظلمني والله، قال: فعن سليمان؟ قال: ظلمني والله، قال:
فعن عمر؟ قال: يرحمه الله ردها والله علي، قال: فعن يزيد؟ قال: ظلمني
والله، هو قبضها من بعد قبضي لها، وهي في يديك، قال: والله لو كان فيك
ضرب لضربت، فقال: فيّ والله ضرب بالسيف والسوط، فقال: هشام هذه قريش
وألسنتها ولا يزال الناس بقايا ما رأيت مثل هذا.
ولما دخل هشام المدينة صلى على سالم بن عبد الله، فرأى كثرة الناس فضرب
عليهم بعث أربعة آلاف، فسمي عام الأربعة آلاف.
وكان العامل على مكة والمدينة الطائف إبراهيم بن هشام، وعلى العراق
وخراسان خالد القسري، واستعمل على صلاة البصرة عقبة بن عبد الأعلى،
وعلى الشرطة مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله
بن أنس، وعلى خراسان أخاه أسد بن عبد الله.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عمر: روى عن أبيه، وأبي أيوب،
وأبي هريرة، وكان فقيهاً عابداً جواداً صالحاً، وكان أشبه أولاد أبيه
به، وكان أبوه شديد المحبة له فإذا ليم على ذلك أنشد:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
أخبرنا
المبارك بن علي، قال: أخبرنا شجاع بن فارس، قال: أخبرنا محمد بن علي بن
الفتح، قال: أخبرنا ابن أخي ميمي، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: أخبرنا
أبو بكر القرشي، قال: حدَّثني محمد بن الحسين، قال: حدَّثني يحيى بن
أبي بكير، قال: حدَّثنا هودة بن عبد العزيز، قال: زحم سالم بن عبد الله
رجل فقال له سالم: بعض هذا رحمك الله، فقال له الرجل: ما أراك إلا رجل
سوء، فقال سالم: ما أحسبك أبعدت.
أخبرنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن
عبد الله الحافظ، قال: حدَّثنا أبي، قال: حدَّثنا إبراهيم بن محمد بن
الحسين، قال: حدَّثنا أحمد بن سعيد، قال: حدَّثنا ابن وهب، قال:
حدَّثني حنظلة، قال: رأيت سالم بن عبد الله بن عمر يخرج إلى السوق
فيشتري حوائج نفسه.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد بإسناد له عن أشهب بن مالك، قال: لم يكن أحد
زمن سالم بن عبد الله أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والقصد في
العيش منه، كان يلبس بدرهمين، وقال له سليمان بن عبد الملك ورآه حسن
السجية: أي شيء تأكل؟ قال: الخبز والزيت وإذا وجدت اللحم أكلته، فقال:
أو تشتهيه، قال: إذا لم أشتهه تركته حتى أشتهيه.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أنبأنا أبو طاهر بن أبي الصقر، قال:
أخبرنا هبة الله بن إبراهيم الصواف، قال: أخبرنا الحسن بن إسماعيل
الضراب، قال: أخبرنا أحمد بن مروان، قال: أخبرنا عمير بن مرداس، قال:
حدَّثنا الحميدي، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: دخل هشام بن عبد
الملك الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال له: يا سالم سلني حاجة،
فقال له: إني لأستحي من الله أن أسأل في بيت الله غيره، فلما خرج خرج
في أثره، فقال له: الآن قد خرجت فسلني حاجة، فقال له سالم: من حوائج
الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا، فقال له: ما سألت
من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها.
توفي سالم بالمدينة في آخر ذي الحجة من هذه السنة، وصلى عليه هشام بن
عبد الملك مقدمه المدينة ودفن بالبقيع.
طاوس بن كيسان اليماني ويكنى أبا عبد الرحمن، مولى لهمذان: حج أربعين
حجة، وجالس سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا أبو بكر العامري، قال: أخبرنا علي بن الصادق، قال: أخبرنا أبو
عبد الله بن باكويه، قال: حدَّثنا عبد الواحد بن بكر، قال: حدَّثنا عبد
الله بن محمد بن جعفر، قال: حدَّثنا أحمد بن روح، قال: حدَّثنا أحمد بن
حامد، قال: حدَّثنا عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه قال: صلى وهب بن منبه
وطاووس اليماني الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة.
أخبرنا عبد الوهاب الأنماطي بإسناده عن أبي بكر بن عبيد، قال: حدَّثنا
الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق ين داود بن إبراهيم: أن الأسد
حبس الناس ليلة في طريق الحج، فدق الناس بعضهم بعضاً، فلما كان السحر
ذهب عنهم، فنزل الناس يميناً وشمالاً فألقوا أنفسهم فناموا، وقام طاووس
يصلي، فقال له ابنه: ألا تنام فقد نصبت الليلة؟ فقال طاووس ومن ينام
السحر.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا أبو علي
التميمي، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد
بن حنبل، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثنا عبد الرزاق، وقال: قدم طاووس
مكة فقدم أمير فقيل له: إن من فضله، ومن، ومن، فلو أتيته، قال: ما إليه
من حاجة، قالوا: إنا نخافه عليك، قال: فما هو كما تقولون.
العابد اليمني: أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا أبو الحسن بن
عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا محمد بن
عبد الله الدقاق، قال: أخبرنا الحسين بن صوفان، قال: أخبرنا أبو بكر بن
عبيد، قال: حدَّثني أبو حاتم الرازي، قال: حدَّثني أحمد بن عبد الله بن
عياض القرشي، قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن كامل القرقساني، قال: حدَّثنا
علوان بن داود، عن علي بن زيد، قال: طاووس:
بينا أنا
بمكة بعث إلي الحجاج فأجلسني إلى جنبه وأتكأني على وسادة إذ سمع ملبياً
يلبي حول البيت رافعاً صوته بالتلبية، فقال: عليّ بالرجل، فأتي به،
فقال: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين، قال: ليس عن الإسلام سألتك، قال:
فعم سألت؟ قال: سألتك عن البلد، قال: من أهل اليمن، قال: كيف تركت محمد
بن يوسف؟ - يريد أخاه - قال: تركته عظيماً وسيماً لباسا ركاباً خراجاً
ولاجاً، قال: ليس عن هذا سألتك، قال: فعم سألت؟ قال: سألتك عن سيرته،
قال: تركته ظلوماً غشوماً، مطيعاً للمخلوق عاصياً للخالق، فقال الحجاج:
ما حملك على أن تتكلم بهذا الكلام وأنت لا تعرف مكانه مني؟ قال الرجل:
أتراه بمكانة منك أعز مني بكاني من الله عز وجل وأنا وافد بيته ومصدق
نبيه وقاضي دينه، قال: فسكت الحجاج فما أجاب جواباً، فقام الرجل م غير
أن يؤذن له فانصرف.
قال طاووس: فقمت في أثره وقلت: الرجل حكيم، فأتى البيت فتعلق بأستاره
ثم قال: اللهم بك أعوذ وبك ألوذ، اللهم اجعل لي في اللهف إلى جودك،
والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين وغنى عما في أيدي المستأثرين،
اللهم فرجك القريب، ومعروفك القديم وعادتك الحسنة. ثم ذهب الناس فرأيته
عشية عرفة وهو يقول: اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي وصلاتي ونصبي فلا
تحرمني الأجر على مصيبتي بتركك القبول، ثم ذهب الناس فرأيته غداة جمع
يقول: واسوءتاه منك والله وإن عفوت. يردد ذلك.
ثم دخلت
سنة سبع ومائة
فمن الحوادث بها غزوة معاوية بن هشام الصائفة وكان على جيش الشام ميمون
بن مهران، فقطعوا البحر حتى عبروا إلى قبرص وخرج معهم البعث الذي كان
هشام أمر به في حجته، وغزا البر مسلمة بن عبد الملك.
وفيها: خرج عباد الرعيني باليمن، فقتله يوسف بن عمر، وقتل أصحابه كلهم،
وكانوا ثلاثمائة.
وفيها: وقع طاعون شديد بالشام.
وفيها: وجه باكير بن ماهان جماعة إلى خراسان يدعون لخلافة بني هاشم،
وكانوا قد دعوا بكير بن ماهان إلى ذلك فرضي فأنفق عليهم مالاً كثيراً،
ودخل إلى محمد بن علي، فلما أنفذ دعاته إلى خراسان وشى بهم إلى أسد بن
عبد الله فقطع أيدي من ظفر بهم وأرجلهم، وصلبهم، فكتب ذلك بكير إلى
محمد.
وقيل: أول من قدم خراسان من دعاة بني العباس زياد أبو محمد مولى همدان
في ولاية أسد بن عبد الله، بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فقال
له: ادع الناس إلينا، وانزل في اليمن وألطف مضر، فقدم ودعا الناس إلى
بني العباس، وذكر سيرة بني مروان وظلمهم، وجعل يطعم الناس الطعام، وكان
في جماعة فقتلهم أسد بن عبد الله.
وفي هذه السنة: غزا أسد بن عبد الله جبال نمرون فصالحه الملك وأسلم على
يديه، وغزا أيضاً جبال هراة، وولى بناء مدينة بلخ برمك أبا خالد بن
برمك.
وفيها: حج بالناس إبراهيم بن هشام، وكان عمال الأمصار الذين ذكرناهم في
السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن عبيد، مولى عمرو بن حزم الأنصاري: حدث عمر وابن عباس. كان
يسكن في إفريقية، وله عبادة وفضل، غرق في بحر الروم في هذه السنة.
قال عبيد الله بن المغيرة: قلت لسعيد بن المسيب: إن عندنا رجلاً يقال
له إسماعيل بن عبيد من العباد، إذا سمعنا نذكر شعراَ صاح علينا، فقال
ابن المسيب: ذاك رجل نسك نسك العجم.
أسود بن كلثوم: أخبرنا محمد بن الباقي، قال: أخبرنا حمد بن أحمد
الحداد، قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد عبد الله، قال: حدَّثنا أبو بكر بن
مالك، قال: حدَّثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثنا
إسماعيل بن إبراهيم بن علية، قال: أخبرنا سليمان بن المغيرة، عن حميد
بن هلال، قال:
كان رجل
منا يقال له الأسود بن كلثوم، كان إذا مشى لا يجاوز بصره قدميه، وكان
يمر بالنسوة وفي الخدر يومئذ قصر، ولعل إحداهن أن تكون واضعة ثوبها أو
أخمارها فإذا رأينه راعهن ثم يقلن: كلا إنه الأسود بن كلثوم، فلما قرب
غازياً قال: اللهم نفسي هذه تزعم في الرخاء أنها تحب لقاءك فإن كانت
صادقة فارزقها ذلك. وإن كانت كاذبة فاحملها عليه فإن كرهت فأطعم لحمي
سباعاً وطيراً، فانطلق في خيل فدخلوا حائطاً فندر بهم العدو، فجاءوا
بثلمة الحائط، فنزل الأسود عن فرسه فضربها حتى غذت، فخرج ثم أتى الماء
فتوضأ وصلى، قال: يقول العجم: هكذا استسلم العرب إذا استسلموا، ثم تقدم
فقاتل حتى قتل. قال: فمر عظيم الجيش بعد ذلك بذلك الحائط فقيل لأخيه:
لو دخلت فنظرت ما بقي من عظام أخيك ولحمه، قال: لا، دعا أخي بدعاء
فاستجيب له، فلست أعرض في شيء من ذلك.
بكير بن عبد الله بن الآشج، مولى لبني زهرة، مديني: روى عنه الليث بن
سعد وغيره، توفي في هذه السنة.
حميد بن هلال، أبو نصر العدوي. أسند عن عبد الله بن مغفل، وأنس
وغيرهما، وكان من الفقهاء، كان قتادة يقول: ما بالمصريين أعلى من حميد.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو
نعيم الأصفهاني، قال: حدَّثنا الدروقي، قال: حدَّثنا موسى بن إسماعيل،
قال: حدَّثنا سليمان بن عبد المغيرة، عن حميد بن هلال، قال: ذكر لنا أن
الرجل إذا دخل الجنة فصور صورة أهل الجنة وألبس لباسهم وحلي حلاهم ورأى
أزواجه وخدمه ومساكنه في الجنة يأخذه سوار فرح، فلو كان ينبغي أن يموت
مات فرحاً، فيقال له: أرأيت سوار فرحتك هذه فإنها قائمة لك أبداً.
حسان عن علي عمران بن حصين روى عنه قتادة وهو من بني عدي بن زيد بن
مناة بن أد بن طابخة، وكذلك حميد بن هلال الذي ذكرناه قبله من بني عدي
بن زيد، وكذلك عمر بن حبيب القاضي العدوي. ولي القضاء للرشيد، وكذلك
محمد بن عمرو، وأبو غسان العدوي، ويلقب زينجا أخرج عنه البخاري ومسلم.
وثم من يقال له العدوي ينسب إلى عدي الأنصار، منهم حارثة بن سراقة
وحسان بن ثابت. وهما من عدي بن النجار.
وقد يقال العدوي وينسب إلى عدي بن كعب بن لؤي، وهم رهط عمر بن الخطاب
وقبيلته.
ويقال العدوي وينسب إلى العدوية وهي أمهم من بني عدي بن الرباب؛ منهم
زيد بن مرة أبو المعلى البصري، روى عن الحسن.
ويقال: العدوي منسوباً إلى عدي خزاعة؛ منهم حبشية العدوية زوجة سفيان
بن معمر البياضي من مهاجرة الحبشة.
كان أبو السواد من العلماء الحلماء الحكماء الزهاد الثقات، سبه رجل وهو
يمشي ساكتاً، فلما دخل منزله قال للرجل: حسبك إن شئت.
وقال هشام: كان أبو السوار يعرض له الرجل فيشتمه فيقول: إن كنت كما قلت
إني إذا لرجل سوء.
سلمان بن يسار أبو أيوب مولى ميمونة بنت الحارث زوجة رسول الله صلى
الله عليه وسلم: توفي في هذه السنة، وقيل: سنة ثلاثمائة وله ثلاث
وسبعون سنة.
ثم دخلت
سنة ثمان ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة مسلم بن عبد الملك حتى بلغ قيسارية ففتحها الله
على يديه.
وفيها: غزا إبراهيم بن هشام ففتح حصناً من حصون الروم.
وفيها: وقع حريق بدابق حتى احترق الرجال والدواب.
وفيها: حج بالناس إبراهيم بن هشام وهو الأمير على مكة والمدينة
والطائف.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بكر بن عبد الله المزني: أسند عن ابن عمر، وجابر، وأنس وغيرهم. وكان
فقيهاً ثقة حجة عابداً شديد الخوف من الله عز وجل.
وقف بعرفة فرق فقال: لو لا أني فيهم لقلت قد غفر لهم. وكان يلبس الثياب
الحسان، وكانت قيمة كسوته أربعة آلاف درهم، فاشترى طيلساناً بأربعمائة
درهم. وكان يقال: الحسن شيخ البصرة، وبكر فتاها.
أخبرنا أبو المعمر الأنصاري بإسناد له عن غالب القطان، عن بكر بن عبد
الله المزني قال: أحوج الناس إلى لطمة من دعي إلى وليمة فذهب معه بآخر،
وأحوج الناس إلى لطمتين رجل دخل إلى دار قوم فقيل له اجلس ها هنا فقال
لا بل ها هنا، وأحوج الناس إلى ثلاث لطمات رجل قدم إليه طعام، فقال: لا
آكل حتى يجلس معي رب البيت.
أخبرنا
إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري، قال: أخبرنا
محمد بن بشران، قال: أخبرنا صفوان قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال:
حدَّثني محمد بن الحسين، قال: حدَّثني يحيى بن بسطام، قال: حدَّثني
مسمع بن عاصم، قال: حدَّثني رجل من آل عاصم الجحدري، قال: رأيت عاصماً
الحجدري بعد موته بسنتين فقلت: أليس قد مت؟ قال: بلى، قلت: فأين أنت؟
قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل
ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني فنتلاقى. قال: قلت:
أرواحكم وأجسامكم؟ قال: هيهات بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأوراح.
توفي بكر في هذه السنة بالبصرة.
عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه روى عن أبيه أنبأنا
أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن
حيوية، قال: أخبرنا أبو أيوب الجلاب، قال: حدَّثنا الحارث بن أبي
أسامة، قال: حدَّثنا محمد بن سعد، قال: حدَّثنا مصعب بن عبد الله
الزبيري، عن مصعب بن عثمان، قال: كان عبد الرحمن بن أبان يشتري أهل
البيت ثم يأمر بهم فيكسون ويذهبون، ثم يعرضون عليه فيقول: أنتم أحرار
لوجه الله أستعين بكم على غمرات الموت. قال: فمات وهو قائم في مسجده،
يعني في السبخة.
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أبو محمد: كان ديناً، أمه أم ولد،
روى عن أبي هريرة، وابن عباس، وعائشة.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو
نعيم الأصفهاني، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن سنان، قال: أخبرنا أبو
العباس السراج، قال: حدَّثنا حاتم بن الليث، قال: حدَّثنا ابن نمير،
قال: حدَّثنا يونس بن بكير، قال: حدَّثنا محمد بن إسحاق، قال: جاء
أعرابي على القاسم بن محمد، فقال: أنت أعلم أو سالم؟ قال: ذاك منزل
سالم، فلم يزد عليها حتى قام الأعرابي، قال ابن إسحاق: كره أن يقول: هو
أعلم مني فيكذب، أو يقول: أنا أعلم منه فيزكي نفسه.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري، قال:
أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن
درستويه، قال: حدَّثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدَّثنا سليمان بن حرب،
قال: حدَّثنا وهيب، عن أيوب، قال: ما رأيت رجلاً أفضل من القاسم، ولقد
ترك مائة ألف وهي له حلال.
قال يعقوب: و حدَّثنا محمد بن أبي زكريا بن وهب، قال: حدَّثني مالك أن
عمر بن عبد العزيز قال: لو كان إلي من الأمر شيء لوليت القاسم للخلافة.
عن محمد، قال: حدَّثنا الحميدي، عن سفيان قال: اجتمعوا إلى القاسم بن
محمد في صدقة قسمها. قال: وهو يصلي، فجعلوا يتكلمون، فقال ابنه: إنكم
اجتمعتم إلى رجل والله ما نال منها درهماً ولا دانقاً، قال: فأوجز
القاسم ثم قال: يا بني قل فما علمت. قال سفيان: صدق ابنه ولكنه أراد
تأديبه في النطق وحفظه.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن سليمان، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال:
أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ، قال: حدَّثنا أبو بكر بن مالك، قال:
حدَّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدَّثنا الوليد بن شجاع، قال:
حدَّثنا ضمرة، عن رجاء بن أبي سلمة، قال: مات القاسم بن محمد بين مكة
المدينة حاجاً أو معتمراً، فقال لابنه: شن علي التراب شناً، وسو على
قبري والحق بأهلك، وإياك أن تقول كان وكان توفي القاسم في هذه السنة
بعد أن كف بصره بنحو ثلاث سنين، وقد عبر السبعين محمد بن كعب، أبو حمزة
القرظي أخبرنا علي بن إبراهيم، قال: أخبرنا رزق الله بن عبد الوهاب،
قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، قال: حدَّثنا ابن صفوان، قال: أخبرنا
أبو بكر القرشي، قال: حدَّثني سلمة بن شبيب، عن زهير بن عباد، قال:
حدَّثني أبو كثير البصري، قال: قالت أم محمد بن كعب القرظي لمحمد: يا
بني لولا أني أعرفك صغيراً طيباً وكبيراً طيباً لظننت أنك أحدثت ذنباً
موبقاً لما أراك تصنع بنفسك في الليل والنهار، فقال: يا أمتاه وما
يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي وأنا في بعض ذنوبي فمقتني فقال: اذهب
لا أغفر لك، مع أن عجائب القرآن تردني على أمور حتى أنه لينقضي الليل
ولم أفرغ من حاجتي.
كان محمد بن كعب يقص بالمدينة فسقط عليه مسجده وعلى جميع من كان معه
فقتلهم، وذلك في هذه السنة.
موسى بن
محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ولد بالسراة سنة إحدى وثمانين،
وتوفي ببلاد الروم غازياً في هذه السنة عن سبع وعشرين سنة مورق بن
المشمرح، أبو بكر العجلي البصري عابد زاهد، روى عن ابن عمر، وأنس
وغيرهما. وكان يقول: أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة لم أقدر عليه، ولست
بتارك طلبه أبداً، قيل: وما هو؟ قال: الصمت عما لا يعنيني، وما قلت في
الغضب شيئاً قط فندمت عليه في الرضى.
وكان يدخل على بعض إخوانه فيضع عندهم الدراهم فيقول: امسكوها حتى أعود
إليكم، فإذا خرج قال: أنتم في حل منها.
نصيب بن رباح وقيل أبو محيجن الشاعر، مولى عبد العزيز بن مروان: وكان
أسود شديد السواد، جيد الشعر، عفيف الفرج، كريماً يفضل بماله وطعامه،
وكان أهل البادية يدعونه النصيب تفخماً لما يرون من جودة شعره، ولم يهج
أحداً تديناً، وكان في أول أمره عبداً لبني كعب راعياً لهم، فباعوه من
قلاص بن محرز الكناني وكان يرعى إبله.
وزعم أبن الكلبي أن نصيباً من بني الحاف بن قضاعة، وكانت أمه أمة فوثب
عليها سيدها فجاءت بنصيب، فوثب عليه عمه فباعه من رجل، فاشتراه عبد
العزيز بن مروان من الرجل.
وقال غيره: إنما كان يتولع بالشعر، فلما جاء قوله استأذن مولاه في
إتيان بني مروان فلم يأذن له، فهرب على ناقة بالليل ودخل على عبد
العزيز بن مروان فمدحه، فقال: حاجتك، قال: أنا مملوك، فقال: للحاجب:
اخرج فأبلغ في قيمته، فجمع له المقومين فقال: قوموا غلا ماً أسود ليس
به عيب، قالوا: مائة دينار، قال: أنه راعي إبل يبصرها ويحسن القيام
عليها، قالوا: مائتا دينار، قال: إنه يبري النبل ويريشها ويبري القسي،
قالوا: أربعمائة دينار، قالوا إنه راوية للشعر، قالوا: ستمائة دينار،
قال: أعطوه ألف دينار، فعاد فاشترى أمه وأخته وأهله وأعتقهم.
وقد مدح عبد العزيز بن مروان وأخاه عبد الملك بن مروان وأولاده وعمر بن
عبد العزيز، وحصل منهم مالاً كثيراً.
وقال أيوب بن عباية: بلغني أن النصيب كان إذا قدم على هشام بن عبد
الملك أخلى له مجلسه واستنشده مراثي بني أمية، فإذا أنشده بكى وبكى
معه، فأنشده يوماً قصيدة مدحه بها يقول فيها:
إذا سبق الناس العلا سبقتهم ... يمينك عفواً ثم ضلت شمالها
فقال له هشام: يا أسود بلغت غاية المدح فسلني، فقال: يدك بالعطية أجود
وأبسط من لساني بمسألتك، فقال: هذا والله أحسن من الشعر. وأحسن جائزته.
ومن شعر نصيب يمدح نفسه:
ليس السواد بناقصي ما دام لي ... هذا اللسان إلى فؤاد ثابت
من كان ترفعه منابت أصله ... فبيوت أشعاري جعلن منابتي
كم بين أسود ناطق ببيانه ... ماضي الجنان وبين أبيض صامت
أني ليحسدني الرفيع بناؤه ... من فضل ذاك وليس بي من شامت
وكان نصيب قد تشبب بزينب، والمشهور عنها أنها كانت بيضاء مستحسنة. وقد
روي أيضاً أنها كانت سوداء.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا
إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: أنبأنا أبو الحسن الزينبي، قال: حدَّثنا
محمد بن خلف، قال: حدَّثنا عبد الله بن عمرو، وأحمد بن حرب، قالا:
حدَّثنا الزبير بن بكار، قال: حدَّثني محمد بن المؤمل بن طالوت، قال:
حدَّثني أبي، عن الضحاك بن عثمان الحزامي، قال: خرجت في آخر الحج فنزلت
بالأبواء على امرأة فأعجبني ما رأيت من حسنها وأطربني، فتمثلت قول
نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
خليلي من كعب إلى ما هديتما ... بزينب لا يقعدكما أبداً كعب
وقولا لها ما في العباد لذي الهوى ... بعاد وما فيه لصدع النوى شعب
فمن شاء رام أو قال ظالماً ... لصاحبه ذنب وليس له ذنب
فلما
سمعتني أتمثل بهذه الأبيات قالت لي: يا فتى العرب، أتعرف قائل هذا
الشعر؟ قلت: نعم ذاك نصيب، قالت: نعم هو ذاك، فتعرف زينب؟ قالت: لا ،
قالت: والله أنا زينب، قلت: فحياك الله، قالت: أما إن اليوم موعده من
عند أمير المؤمنين، خرج إليه عام أول ووعدني هذا اليوم، ولعلك لا تبرح
حتى تراه، قال: فما برحت من مجلسي حتى إذا أنا بركب يزول مع السراب،
فقالت: ترى خبب ذلك الفارس - أو ذاك الركب - إني لأحسبه إياه، قال:
واقبل الركب فأمنا حتى أناخ قريباً من الخيمة، فإذا هو نصيب، ثم ثنى
رجله عن راحلته فنزل ثم أقبل فسلم علي وجلس منها ناحية وسلم عليها
وساءلها وساءلته فأخفيا ثم أنها سألته أن ينشدها ما أحدث من الشعر
بعدها، فجعل ينشدها، فقلت في نفسي: عاشقان أطالا التنائي لا بد أن يكون
لأحدهما إلى صاحبه حاجة، فقمت إلى راحلتي أشد عليها، فقال لي على رسلك
أنا معك، فجلست حتى نهض ونهضت معه، فتسايرنا ساعة ثم التفت وقال: قلت
في نفسك: محبان التقيا بعد طول تناء لا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه
حاجة؟ قلت: نعم قد كان ذلك، قال فلا ورب هذه البنية التي إليها نعمد،
ما جلست منها مجلساً قط أقرب من مجلسي الذي رأيت ولا كان شيء مكروه قط.
أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: حدَّثنا محمد بن
خلف، قال: حدَّثنا محمد بن معاذ، عن إسحاق بن إبراهيم، قال: حدَّثني
رجل من قريش عمن حدثه قال: كنت حاجاً ومعي رجل من القافلة لا أعرفه ولم
أره قبل ذلك ومعه هوادج وأثقال وصبية وعبيد ومتاع، فنزلنا منزلاً، فإذا
فرش ممهدة وبسط قد بسطت، فخرج من أعظمها هودج امرأة زنجية فجلست على
تلك الفرش الممهدة، ثم جاء زنجي إلى جنبها على الفراش فبقيت متعجباً
منهما، فبينا أنا أنظر إليهما إذ مر بنا مار وهو يقود إبلاً، فجعل
يتغنى ويقول:
بزينب ألمم أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا عما ملك القلب
قال: فوثبت الزنجية إلى الزنجي فخبطته وضربته وهي تقول: شهرتي في الناس
شهرك الله، فقلت من هذا؟ قالوا: نصيب الشاعر وهذه زينب.
قال محمد بن خلف: وحدثني أبو بكر بن شداد، قال: حدَّثني أبو عبد الله
بن أبي بكر، قال: حدَّثني إبراهيم بن زيد بن عبد الله السعدي، قال:
حدَّثتني جدتي، عن أبيها، عن جدها، قالت: رأيت رجلاً أسوداً ومعه امرأة
بيضاء، فجعلت أتعجب من سواده وبياضها، فدنوت منه، فقلت: من أنت؟ فقال:
أنا الذي أقول:
ألا ليت شعري ما الذي تحدثين لي ... إذا ما غدا النأي المفرق والبعد
أتصرمني عن الألى فهم العدا ... فتشمتهم بي أم تدوم على العهد
قال: فصاحت: بلى والله تدوم على العهد، فسألت عنها فقيل: هذا نصيب وهذا
أم بكر.
قال ابن خلف: وأخبرني جعفر اليشكري، قال: حدَّثني الرياشي، قال: أخبرني
العتبي، قال: دخل نصيب على عبد العزيز بن مروان فقال له: هل عشقت يا
نصيب؟ قال: نعم جعلني الله فداك، قال: من؟ قال: جارية لبني مدلج فأحدق
بها الواشون فكنت لا أقدر على كلامها إلا بعين أو إشارة، أجلس لها على
الطريق حتى تمر بي فأراها، وفي ذلك أقول:
جلست لها كيما تمر لعلني ... أخالسها التسليم إن لم تسلم
فلما رأتني والوشاة تحدرت ... مدامعها خوفاً ولم تتكلم
مساكين أهل العشق ما كنت مشتر ... جميع حياة العاشقين بدرهم
فقال عبد العزيز: ويحك، وماذا فعلت المدلجية؟ قال: اشتريت وأولدت، قال:
فهل في قلبك منها شيء؟ قال: عقابيل أوجاع.
قال ابن خلف: وأخبرني نوفل بن محمد المهلبي، عن محمد بن سلام، قال: دخل
نصيب على يزيد بن عبد الملك، فقال: حدَّثني ببعض ما مر عليك، فقال: يا
أمير المؤمنين علقت جارية حمراء - يعني بيضاء - فمكثت زماناً تمنيني
بالأباطيل، فأرسلت إليها هذه الأبيات:
فإن أكو حالكاً فالمسك أحوى ... وما لسواد جلدي من دواء
ولي كرم عن الفحشاء ناء ... كبعد الأرض من جو السماء
ومثلي في رجالكم قليل ... ومثلك ليس يعدم من النساء
فإن ترضي فردي قول راض ... وإن تنأي فنحن على السواء
فلما قرأت
الكتاب قالت: المال والعقل يعفيان على غيرهما فزوجتني نفسها.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الفقيه، قال:
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجارزي، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا،
قال: حدَّثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، قال: حدَّثنا أحمد بن يحيى،
قال: حدَّثنا الزبير، قال: حدَّثنا أحمد بن عبد الله، عن معاذ صاحب
الهروي، قال: دخلت مسجد الكوفة فرأيت رجلاً لم أر قط أنقى ثياباً منه،
ولا أشد سواداً، فقلت له: من أنت؟ قال: نصيب، فقلت: أخبرني عنك وعن
أصحابك، فقال: جميل إمامنا، وعمر أوصفنا لربات الحجال، وكثير أبكانا
على الأطلال والدمن، وقد قلت ما سمعت، قلت: فإن الناس يزعمون أنك لا
تحسن أن تهجو، فقال: فأقروا لي أني أحسن أن أحمد؟ قلت: نعم، قال: فترى
ألا أحسن أن أجعل مكان عافاك الله أخزاك الله؟ بلى، قلت: ولكني رأيت
الناس رجلين، رجلاً لم أسأله فلا ينبغي أن أهجوه فأظلمه، ورجلاً سألته
فمنعني فكانت نفسي أحق بالهجاء إذ سولت لي أن أطلب منه.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر: قال: أنبأنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال:
أنبأنا أبو عمر بن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق المكي،
قال: حدَّثنا الزبير بن بكار قال: حدَّثني عمي، قال: حدَّثني أيوب بن
عباية، قال: حدَّثني خلف بن نوفل بن عبد مناف، قال: لما أصاب نصيب من
المال ما أصاب، وكانت عنده أم محجن - وكانت سوداء - تزوج امرأة بيضاء
فغضبت أم محجن، وغارت، فقال يا أم محجن والله ما مثلي يغار عليه أني
لشيخ كبير وما مثلك من يغار لأنك عجوز كبيرة، وما أجد أكرم علي منك ولا
أوجب حقاً فجوزي هذا الأمر ولا تكدريه علي، فرضيت وقرت، ثم قال لها بعد
ذلك: هل لك أن أجمع إليك زوجتي الجديدة فهو أصلح لذات البين وألم للشعث
وأبعد للشماتة، فقالت: افعل فأعطاها ديناراً وقال: أني أكره أن ترى بك
خصاصة وأن تفضل عليك، فاعملي لها إذا أصبحت عندك غداً نزلاً بهذا
الدينار ثم أتى زوجته الجديدة، فقال لها: أني قد أردت أن أجمعك إلى أم
محجن غداً وهي مكرمتك وأكره أن تفضل عليك، فخذي هذا الدينار فاهدي لها
به إذا أصبحت عندها غداً لئلا ترى بك خصاصة ولا تذكري الدينار لها، ثم
أتى صاحباً يستنصحه، فقال: أني أريد أن أجمع زوجتي الجديدة إلى أم محجن
غداً فأتني مسلماً فإني سأستجلسك للغداء فإذا تغديت فسلني عن أحبهما
إليّ فإني سأنفر وأعظم ذلك وآبى أن أخبرك، فإذا أبيت ذلك فاحلف علي،
فلما كان الغد زارت زوجته الجديدة أم محجن، ومر به صديقه فاستجلسه،
فلما تغديا أقبل الرجل عليه، فقال: يا أبا محجن، أحب أن تخبرني عن أحب
زوجتيك إليك، قال: سبحان الله، تسألني عن هذا وهما يسمعان، ما سأل عن
مثل هذا أحد، قال: فإني أقسم عليك لتخبرني فو الله إني لا أعذرك، ولا
أقبل إلا ذاك، قال: أما إذا فعلت فأحبهما إليّ صاحبة الدينار، والله لا
أزيدك شيئاً، فأعرضت كل واحدة منهما تضحك ونفسها مسرورة وهي تظن أنه
عناها بذلك القول.
ثم دخلت
سنة تسع ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة عبيد الله بن عقبة في البحر. وغزوة معاوية بن
هشام أرض الروم ففتح حصناً بها. وفي هذا السنة: عزل هشام بن عبد الملك
خالد القسري عن خراسان، وصرف أخاه أسداً عنها. وكان سبب ذلك أن أسداً
أخا خالد تعصب على نصر بن سيار ونفر معه زعم أنه بلغه عنهم ما لا يصلح،
فضربهم بالسياط وحلقهم، وبعثهم إلى خالد وكتب إليه أنهم أرادوا الوثوب
عليه، وخطب يوم الجمعة، فقال: قبح الله هذه الوجوه، وجوه أهل الشقاق
والنفاق والفساد، اللهم فرق بيني وبينهم، وأخرجني إلى مهاجري ووطني،
وقال: من يروم ما قبلي أمير المؤمنين خالي وخال أخي، ومعي اثنا عشر ألف
سيف يماني، فكتب هشام إلى خالد: أعزل أخاك، فعزل فقفل أسد إلى العراق
في رمضان، واستخلف على خراسان الحكم بن عوانة.
وفيها: استعمل هشام على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي، وأمر أن يكاتب
خالد القسري، وكان أول من اتخذ الرابطة بخراسان، واستعمل عليهم عبد
الملك بن دثار الباهلي، وتولى أشرس صغير الأمور وكبيرها بنفسه.
وفي هذه
السنة: حج بالناس إبراهيم بن هشام، فخطب بمنى من غد يوم النحر بعد
الظهر وقال: سلوني فما تسألون أحد أعلم مني، فقام إليه رجل من أهل
العراق فسأله عن الأضحية أواجبة هي؟ فما علم ما يقول، فنزل. وكان
العامل على المدينة ومكة والطائف، وكان على البصرة والكوفة خالد بن عبد
الله، وعلى الصلاة بالبصرة أبان بن ضبارة، وعلى شرطتها بلال بن أبي
بردة، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله الأنصاري من قبل خالد بن عبد
الله، وعلى خراسان أشرس بن عبد الله السلمي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عبد الرحمن بن أبي عمار العابد نزيل مكة أخبرنا المبارك بن علي
الصيرفي، قال: أخبرنا علي بن محمد العلاف، قال: أخبرنا عبد الملك بن
بشران، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم، قال: أخبرنا محمد بن جعفر
الخرائطي، قال: حدَّثنا أبو يوسف الزهري، قال: حدَّثنا الزبير بن بكار،
قال: كان عبد الرحمن بن أبي عمار من بني جشم ينزل بمكة، وكان من عباد
أهلها، فسمي القس من عبادته، فمر ذات يوم بسلامة وهي تغني، فوقف فسمع
غنائها فرآه مولاها، فدعاه إلى أن يدخله عليها، فأبى ذلك فقال له:
فاقعد في مكان تسمع غناها ولا تراها، ففعل فغنت فأعجبته، فقال له
مولاها: هل لك أن أحولها إليك: فتمنع بعض الامتناع ثم أجابه إلى ذلك،
فنظر إليها فأعجبته فشغف بها وشغفت به، وكان طريفاً فقال فيها:
أم سلام لو وجدت من الوجد ... غير الذي بكم أنا لاقي
أم سلام أنت همي وشغلي ... والعزيز المهيمن الخلاق
أم سلام ما ذكرتك إلا ... شرقت بالدموع مني المآقي
قال: وعلم بذلك أهل مكة فسموها سلام القس، فقالت له يوماً: والله أنا
أحبك، فقال: وأنا والله أحبك، فقالت له: أنا والله أحب أن تضع فمك على
فمي، وأنا والله أحب ذلك، فقالت فما يمنعك فوالله إن الموضع لخال، فقال
لها: ويحك أني سمعت الله يقول: " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا
المتقين " وأنا والله أكره أن تكون خلة بيني وبينك في الدنيا عدواة يوم
القيامة، ثم نهض وعيناه تذرفان من حبها، وعاد إلى الطريقة التي كان
عليها من النسك والعبادة، فكان يمر بين الأيام ببابها فيرسل السلام،
فيقال: ادخل فيأبى.
ومما قال فيها:
إن سلامة التي أفقدتني تجلدي ... لو تراها والعود في حجرها حين تنشد
الشر يحبي والغريض وللقوم معبد ... خلتهم تحت عودها حين تدعوه باليد
وفي رواية أخرى أنه لما قال لها: أكره أن تكون خلة ما بيني وبينك عداوة
يوم القيامة، فقالت: أتحسب أن ربنا لا يقبلنا إن نحن تبنا؟ بلى ولكن لا
آمن أن أفاجأ، ثم نهض يبكي بعد، وعاد إلى كان فيه من النسك.
وروى مصعب الزبيري، عن محمد بن عبد الله بن أبي ملكية، عن أبيه، عن
جده، قال: دخل عبد الرحمن بن أبي عمار وهو يومئذ فقيه أهل الحجاز على
نخاس فعلق فتاة فاشتهر بذكرها حتى مشى إليه عطاء و طاووس ومجاهد
يعذلونه، فكان جوابه:
يولمني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار اللوم أو وقعا
فانتهى الخبر إلى عبد الله بن جعفر، فلم تكن له همة غيره، فحج فبعث إلى
مولى الجارية فاشتراها منه بأربعين ألفاً، وأمر قيمة جواريه أن تزينها
وتحليها، ففعلت، وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه، فقال: مالي لا أرى ابن
أبي عمار زارنا، فأخبر الشيخ فأتاه، فلما أراد أن ينهض استجلسه فقعد،
فقال: له ابن جعفر: ما فعل حب فلانة، فقال: له سيط به لحمي ودمي وعصبي
ومخي وعظامي، فقال: تعرفها إن رأيتها؟ قال: وأعرف غيرها، قال: فإني قد
اشتريتها، والله ما نظرت إليها، وأمر بها فخرجت فزفت بالحلي والحلل،
فقال: أهذه هي؟ فقال: نعم بأبي وأمي، قال: فخذ بيدها فقد جعلها الله
لك، أرضيت؟ قال: أي والله بأبي وأمي و فوق الرضا، فقال له ابن جعفر:
ولكني والله لا أرضى أن أعطيكما صفراً، احمل معه يا غلام مائة ألف درهم
كيلا يهتم بمؤونتها، قال: فراح بها وبالمال.
ثم دخلت
سنة عشر ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة مسلمة بن عبد الملك الترك، وسار إليهم نحو باب
اللان حتى لقي خاقان في جموعه، فاقتتلوا قريباً من شهر وأصابهم مطر
شديد فهزم الله خاقان.
وفيها غزا معاوية أرض الروم ففتح بلده، وهو معاوية بن هشام.
وغزا
الصائفة عبيد الله بن عقبة الفهري، وكان على جيش البحر عبد الرحمن بن
معاوية بن خديج. وفيها: دعا الأشرس أهل الذمة من أهل سمرقند من وراء
النهر إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية، فأجابوا وأسلموا، فكتب
غوزك إلى أشرس: إن الخراج قد أنكسر، فقال: أشرس: إن الخراج قوة
للمسلمين وقد بلغني أن أهل الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، إنما دخلوا
في الإسلام تعوذاً من الجزية، فانظروا من أحسن وأقام الفرائض وحسن
إسلامه وقرأ سورة من القرآن فارفعوا عنه الخراج، فأعادوا الجزية فامتنع
الناس من أهل الصغد سبعة آلاف، فنزلوا على سبعة فراسخ من سمرقند.
وفيها: ارتد أهل كردر، فقاتلهم المسلمون فظفروا بهم.
وفيها: جعل خالد بن عبد الله الصلاة بالبصرة مع الشرطة مع القضاء إلى
بلال بن أبي بردة.
وفي هذه السنة: حج بالناس إبراهيم بن إسماعيل بن هشام المخزومي، وكان
هو العامل على مكة والمدينة والطائف، وعلى الكوفة والبصرة والعراق خالد
بن عبد الله، وعلى خراسان أشرس من قبل خالد بن عبد الله.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن أبي الحسن البصري، يكنى أبا سعيد: كان أبوه من أهل بيسان،
فسبي، فهو مولى الأنصار. ولد في خلافة عمر، وحنكة عمر بيده، وكانت أمه
تخدم أم سلمة فربما غابت فتعطيه أم سلمة ثديها فتعلله به إلى أن تجيء
أمه فيدر عليه ثديها فيشربه، فكانوا يقولون: فصاحته من بركة ذلك.
أخبرنا هبة الله بن أحمد الجريري، قال: أنبأنا محمد بن علي بن الفتح،
قال: أخبرنا أبو بكر البرقاني، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي،
قال: حدَّثنا محمد بن إسحاق السراج، قال: حدَّثنا فضل بن سهل، قال:
حدَّثنا علي بن حفص، قال: حدَّثنا سليمان بن المغيرة عن يونس، قال: كان
الحسن يقول: نضحك ولعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا، فقال: لا أقبل
منكم شيئاً. قال السراج: حدَّثني عبد الله بن محمد، قال: حدَّثني محمد
بن الحسين، قال: حدَّثني حكيم بن جعفر، قال: قال لي مسمع: لو رأيت
الحسن لقلت قد بث عليه حزن الخلائق من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك
التشنج. أخبرنا عبد الوهاب الأنماطي، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد
الجبار، قال: أخبرنا الحسين بن علي: أخبرنا عبد الله بن عثمان، قال:
حدَّثنا علي بن محمد المصري، قال: حدَّثنا أحمد بن واضح ، قال: حدَّثنا
سعيد بن أسد، قال: حدَّثنا ضمرة، عن حفص بن عمر، قال: بكى الحسن، فقيل
له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يبالي. أخبرنا
عبد الله بن علي المقري، قال: أخبرنا علي بن محمد العلاف، قال: أخبرنا
عبد الملك بن بشران، قال: أخبرنا أبو بكر الآجري، قال: حدَّثنا عبد
الله بن محمد بن عبد الحميد، قال: حدَّثنا الحسن بن محمد الزغفراني،
قال: حدَّثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: حدَّثنا أبو الباجي، أنه سمع
الحسن بن أبي الحسين يقول: حادثوا عن القلوب فإنها سريعة الدثور،
وأقذعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنها تنزع إلى شر غاية، وإنكم إن
تقربوها لم يبق لكم من أعمالكم شيء فتبصروا وتشددوا فإنما هي ليال
تعدو، وإنما أنتم ركب وقوف، يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب فلا يلتفت
فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم، إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم وبين
شهواتهم، وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله ورجا عاقبته.
أخبرنا علي بن عبيد الله، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن النقور، قال:
أخبرنا عيسى بن علي، قال: حدَّثنا البغوي، قال: حدَّثنا نعيم بن
الهضيم، قال: حدَّثنا خلف بن تميم، عن أبي همام الكلاعي، عن الحسن: أنه
مر ببعض القراء على أبواب بعض السلاطين، فقال: أفرختم حمائمكم، وفرطحتم
بغالكم، وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم فزهدوا فيكم، أما
أنكم لو جلستم في بيوتكم حتى يكونوا هم الذين يتوسلون إليكم لكان أعظم
لكم في أعينهم، تفرقوا تفرقوا فرق بين أعضائكم.
عاصر الحسن خلقاً كثيراً من الصحابة، فأرسل الحديث عن بعضهم، وسمع من
بعضهم، وقد جمعنا مسانيده وأخباره في كتاب كبير، فلم أر التطويل ها
هنا.
توفي عشية الخميس، ودفن يوم الجمعة أول يوم رجب هذه السنة، وغسله أيوب
السختاني وحميد الطويل، وصلى عليه النضر بن عمرو أمير البصرة، ومشى هو
وبلال بن أبي بردة أما الجنازة، وكان له تسع وثمانون سنة.
سعد بن
مسعود، أبو مسعود التجيي: من تجيب، وفد على سليمان بن عبد الملك، وكان
رجلاً صالحاً، وأسند حدَّثنا واحداً، وبعثه عمر بن عبد العزيز إلى أهل
إفريقية يفقه أهلها في الدين.
محمد بن سيرين، أبو بكر البصري، مولى أنس بن مالك: سمع أبا هريرة، وعبد
الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعمر بن حصين، وأنس بن مالك، وهو
أروى الناس عن شريح وعبيدة. روى عنه قتادة وخالد الحذاء، وأيوب
السختياني، وغيرهم. وكان فقيهاً ورعاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا محمد بن عبد الواحد، قال: أخبرنا محمد بن العباس الخزاز، قال:
أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى المكي، قال: حدَّثنا محمد بن القاسم أبو
العيناء، قال: حدَّثنا ابن عائشة، قال: كان أبو محمد بن سيرين من أهل
جرجرايا، وكان يعمل قدور النحاس، فجاء إلى عين النمر يعمل بها فسباه
خالد بن الوليد.
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا أبو الحسن
علي بن أحمد بن إبراهيم البزاز، قال: حدَّثنا أبو علي الحسن بن محمد بن
عثمان الفسوي، قال: حدَّثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدَّثنا سليمان بن
حرب، قال: حدَّثنا حماد بن زيد، عن عبيد بن أبي بكر بن أنس بن مالك،
قال: هذه مكاتبة سيرين عندنا: هذا ما كاتب عليه أنس بن مالك فتاه سيرين
على كذا وكذا ألفاً، وعلى غلامين يعملان عمله.
قال علماء السير: كان خالد بن الوليد قد بعث بسيرين إلى عمر عند مصيره
إلى العراق، فوهبه لأبي طلحة الأنصاري فوهبة أبو طلحة لأنس بن مالك،
فكاتبه أنس على أربعين ألفاً أداها.
وولد له محمد، وأنس، ومعبد، ويحيى، وحفصة، وأم محمد صفية مولاة أبي بكر
الصديق، حضر أملاكها ثمانية عشر بدرياً منهم أبي بن كعب، فكان يدعو وهم
يؤمنون. وولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان بن عفان. وولد له
ثلاثون ولداً من امرأة واحدة، وقد لقي محمد بن عمر، وعمر بن حصين، وأبا
هريرة. وكان ورعاً في الفقه فقيها في الورع.
وركبه دين فحبس لأجله، واختلفوا في سبب ذلك الدين، فقال ابن سعد: سألت
محمد بن عبد الله الأنصاري عن سبب الدين، فقال: اشترى طعاماً بأربعين
ألف درهم فأخبر عن أصل الطعام بشيء كرهه، فتركه وتصدق به وبقي المال
عليه فحبس.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد: قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا علي
بن أبي المعدل، قال: أخبرنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدَّثنا محمد
بن القاسم الأنباري، قال: حدَّثنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا المدائني،
قال: كان حبس ابن سيرين في الدين أنه اشترى زيتاً بأربعة آلاف درهم،
فوجد في زق منه فأره، فقال: الفأرة كانت في المعصرة، فصب الزيت كله.
وكان يقول عيرت رجلاً بشيء منذ ثلاثين سنة احسبني عوقبت به، وكانوا
يرون أنه عير رجلاً بالفقر فابتلي به.
عن بشر بن عمر، قال: حدَّثتنا أم عباد امرأة هشام بن حسان، قالت: قال:
ابن سيرين: إني لم أر امرأة في المنام فأعرف أنها لا تحل لي فأصرف بصري
عنها.
و أخبرنا عبد الرحمن القزاز بإسناده عن أبي عوانة، قالت: رأيت محمد بن
سيرين مر في السوق فجعل لا يمر بقوم إلا سبحوا وذكروا الله تعالى.
أخبرنا محمد بن ناصر بإسناده عن عبد الله ابن أخت ابن سيرين: أنه كان
مع محمد بن سيرين لما وفد إلى ابن هبيرة، فلما قدم عليه قال: السلام
عليكم، قال: وكان متكئاً فجلس فقال: كيف خلفت وراءك؟ قال: خلفت الظلم
فيها فاشياً، قال: فهم به فقال له أبو الزناد: أصلح الله الأمير إنه
شيخ، فما زال به حتى سكن، فلما أجازهم أتاه إياس بن معاوية بجائزة،
فأبى أن يقبلها، فقال: أترد عطية الأمير، قال: أتتصدق علي فقد أغناني
الله، أو تعطيني على العلم أجراً، فلا آخذ على العلم أجراً.
قال علماء السير: رأى محمد بن سيرين كأن الجوزاء تقدمت الثريا، فأخذ في
وصيته وقال: يموت الحسن وأموت بعده، وهو أشرف مني. فتوفي الحسن، ومات
بعده محمد بمائة يوم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا أبو
سعيد الصيرفي، قال: أخبرنا أبو العباس الأصم، قال: حدَّثنا عبد الله بن
أحمد، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثنا خالد بن خداش، قال: قال: حماد بن
زيد: مات محمد لتسع مضين من شوال سنة عشر ومائة.
وهب بن منبه
من
الأبناء؛ أبناء الفرس الذين أبعدهم كسرى إلى اليمن. أسند عن جابر،
والنعمان بن بشير، وابن عباس. وأرسل الرواية عن معاذ، وأبي هريرة. وكان
عالماً عابداً. وقال :قرأت من كتب الله عز وجل اثنين وتسعين كتاباً.
ومكث يصلي الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة.
أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق، قال: حدَّثنا محمد بن مرزوق، قال:
أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال:
أخبرنا ابن صفوان، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد القرشي، قال: أخبرنا
إسماعيل بن عبد الله بن زرارة، قال: حدَّثنا عبد المجيد بن عبد العزيز،
عن الثوري، عن عبد العزيز بن رفيع، عن وهب بن منبه، قال: الإيمان عريان
ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وماله الفقه.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا أبو محمد بن أبي عثمان، قال:
أخبرنا أحمد بن محمد بن الصلت، قال: أخبرنا محمد بن سهل بن عسكر، قال:
حدَّثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدَّثنا عبد الصمد بن معقل، قال:
إن وهب بن منبه قال في موعظة له: يا ابن أدم، أنه لا أقوى من خالق ولا
أضعف من مخلوق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أضعف ممن هو في يد
طالبه. يا ابن آدم، إنه قد ذهب منك ما لا يرجع إليك، وأقام معك ما
سيذهب عنك، يا ابن آدم، أقصر عن تناول ما لا ينال، وعن طلب ما لا يدرك،
وعن ابتغاء مالا يوجد، واقطع الرجاء منك عما فقدت من الأشياء. واعلم
أنه رب مطلوب هو شر لطالبه. يا ابن آدم إنما الصبر عند المصيبة، وأعظم
من المصيبة سوء الخلف بها، أمس شاهد مقبول، وأمين مؤد، وحكيم وارد، قد
فجعك بنفسه وخلف في يديك حكمته، واليوم صديق مودع، وكان طويل الغيبة
وهو سريع الظعن، وقد مضى قبله شاهد عدل، يا ابن آدم، قد مضت لنا أصول
نحن فروعها، فما بقي الفرع بعد أصله، يا ابن آدم، إنما أهل هذه الدار
سفر ولا يحلون عقد الرجال إلا في غيرها، وإنما يتبلغون بالعواري، فما
أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للمغير. إنما البقاء بعد الفناء وقد خلقنا
ولم نكن، وسنبلى ثم نعود، ألا وإنما العواري اليوم والهبات غداً، ألا
وإنه قد تقارب منا سلب فاحش أو عطاء جزيل، فأصلحوا ما تقدمون عليه بما
تظعنون عنه، إنما أنتم في هذه الدار عرض فيكم المنايا تنتصل، وإن الذي
فيه أنتم نهب للمصائب، ولا تتناولون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل
معمر منكم يوماً من عمره إلا بهدم آخر من آجله، ولا يحيى له أثر إلا
مات له أثر.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بن احمد، قال: أخبرنا أبو
نعيم الحافظ، قال: أخبرنا محمد بن علي، قال: حدَّثنا محمد بن الحسين بن
قتيبة، قال: حدَّثنا نوح حبيب، قال: حدَّثنا منير مولى الفضل بن أبي
عياش، قال: كنت جالساً مع ابن منبه، فأتاه رجل، فقال: إني مررت بفلان
وهو يشتمك فغضب وقال: ما وجد الشيطان رسولاً غيرك، فما برحت من عنده
حتى جاءه ذلك الشاتم فسلم على وهب فرد عليه ومد يده وصافحه وأجلسه إلى
جنبه.
توفي بصنعاء في هذه السنة. سنة أربع عشرة.
ثم دخلت
سنة إحدى عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وغزوة سعيد بن
هشام الصائفة اليمنى حتى أتى قيسارية.
وغزا على جيش البحر عبد الله بن أبي مريم.
وأمر هشام على عامة الناس من أهل مصر والشام الحكم بن قيس بن مخرمة.
وفيها: سار الترك إلى أذربيجان، فلحقهم الحارث بن عمر فهزمهم.
وفيها: ولى هشام الجراح بن عبد الله الجمحي أرمينية، وعزل هشام أشرس بن
عبد الله عن خراسان وولاها الجنيد بن عبد الله المري، وذلك أن أشرس شكى
إليه فعزله، وكان الجنيد قد أهدى لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة
هشام قلادة فيها جوهر، وأهدى إلى هشام واحدة أخرى، فاستعمله على خراسان
فقدمها في خمسمائة وأشرس بن عبد الله يقاتل أهل بخارى والصغد، فعبر
النهر إليه.
وفي هذه السنة: حج بالناس إبراهيم بن هشام المخزومي، وكان إليه من
العمل في هذه السنة ما كان في السنة التي قبلها، وكان على العراق خالد
بن عبد الله، وعلى خراسان الجنيد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جرير بن عطية بن الخطفي
والخطفي
لقب، واسمه حذيفة بن بدر بن سلمة بن كلب بن يربوع بن مالك بن حنظلة،
أبو حرزة الشاعر: ولد جرير لسبع أشهر، وعمر نيفاً وثمانين سنة، وكان له
ثمانية ذكور وابنتان، وهو والفرزدق والأخطل مقدمون على شعراء الإسلام
الذين لم يدركوا الجاهلية، والناس مختلفون أيهم المقدم، وكل من تعرض
لمضاهاتهم من الشعراء افتضح وسقط، على أن الأخطل إنما دخل بين جرير
والفرزدق في آخر أمرهما وقد أسن وليس من نجارهما. وكان أبو عمر
الشيباني يشبه جريراً بالأعشى، والفرزدق بزهير، والأخطل بالنابغة. قال
أبو عبيدة: ويحتج من قدم جريراً بأنه كان أكثرهم فنون شعر، وأسهلهم
ألفاظاً وارقهم تشيبهاً، وكان ديناً عفيفاً. وقال بعض العرب: الشعر
أربعة أصناف: فخر، ومدح، ونسيب، وهجاء، وفي كلها غلب جرير.
قال في الفخر:
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا
وقال في المديح:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقال في التشبيب:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وقال في الهجاء:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وقال العتبي: قال جرير: ما عشقت قط، ولو عشقت لتشببت تشبباً تسمعه
العجوز فتبكي على ما فاتها من شبابها.
وكان جرير يهاجي الفرزدق، فلقيه في طريق الحج، فقال الفرزدق: والله
لأفسدن عليه إحرامه، فقال له:
فإنك لاق بالمشاعر من منى ... فخاراً فخبرني بمن أنت فاخر
فقال جرير: لبيك أللهم لبيك.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا قال:
أخبرنا جعفر بن يحيى الحكاك، قال: أخبرنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي
بن صخر، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عدي بن جزء، قال: حدَّثنا سليمان
بن إبراهيم الهاشمي، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الهادي، عن أبي يعقوب
بن السكيت، عن أبيه، قال: ذكروا أن جرير بن الخطفي دخل على عبد الملك
بن مروان فقال له: يا أمير المؤمنين أني قد مدحتك بثلاثة أبيات ما قالت
العرب مثلها، ولست أنشدك كل بيت إلا بعشرة آلاف، قال: هاتها لله أبوك،
فأنشأ يقول:
رأيتك أمس خير بني معد ... وأنت اليوم خير منك أمس
ونبتك في المنابت خير نبت ... وغرسك في المغارس خير غرس
وأنت غداً تزيد الضعف ضعفاً ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
فأمر له بثلاثين ألف درهم، وخرج فلقيه يحيى بن معبد، فقال: يا أبا
جرزة، ما لنا فيك نصيب، قال له: كل بيت بعشرة آلاف درهم، فقال: قل،
فأنشأ يقول:
إذا قيل من للجود والفضل والندى ... فناد بأعلى الصوت يحيى بن معبد
فقال له: زدنا يا أبا حزرة، فقال: دع عنك هذا، كل شيء وحسابه.
وقد ذكرنا أن هذه الأبيات السينية للأعشى، وأنه أنشدها عبد الملك.
ومن مستحسن شعر جرير:
إلى الله أشكو أن بالغور حاجة ... وأخرى إذا أبصرت نجداً بدا ليا
إذا اكتحلت عيني بعينك لم تزل ... بخير وجلى غمرة عن فؤاديا
فقولا لواديها الذي نزلت به ... أوادي ذي القيصوم أمرعت واديا
فيا حسرات القلب في إثر من يرى ... قريباً ويلفي خيرة منك قاصياً
فأنت أبي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أبا ليا
وإني لأستحي أخي أن أرى له ... عليّ من الفضل الذي لا يرى ليا
وله أيضاً:
بان الخليط ولو طوعت ما بانا ... وقطعوا من حبال الوصل أقرانا
حي المنازل إذ لا نبتغي بدلا ... بالدار داراً ولا الجيران جيرانا
ياأم عمرو جزاك الله مغفرة ... ردي علي فؤادي كالذي كانا
قد خنت من لم يكن يخشى خيانتكم ... ما كنت أول موثوق به خانا
أبدل الليل لا تسري كواكبه ... أم طال حتى حسبت النجم حيرانا
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لا يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
أتبعتهم
مقلة إنسانها غرق ... هل ما ترى تارك للعين إنسانا
يا حبذا جبل الرايان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا
هل يرجعن وليس الدهر مرتجعاً ... عيش لنا طالما أحلولى وما لانا
وله أيضاً:
ما للمنازل لا يجبن حزيناً ... أصممن أم قدم المدى فبلينا
إن الذين تحملوا لك هيجوا ... وشلا بعينك ما يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
ولقد تسقطني الوشاة فصادقوا ... حصراً بسرك يا أميم ضنينا
أرعى كما يرعى بغيب سركم ... فإذا بخلت بنايل فعدينا
قد هاج ذكرك والصبابة والهوى ... داء تمكن في الفؤاد مكينا
وله أيضاً:
لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
فقلت للركب إذ جد الرحيل بنا ... ما بعد يبرين من باب الفراديس
هل دعوت من جبال الثلج مسمعة ... أهل الإياد وحيا بالنباريس
يخزى الوشيظ إذا قال الصميم لهم ... عدوا الحصى ثم قيسوا بالمقاييس
وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
قد جربت عركي في كل معترك ... غلب الأسود فما بال الضغابيس
توفي جرير باليمامة بعد القرزدق بأربعين يوماً.
الحجاج العابد أخبرنا المحمدان بن عبد الملك وابن ناصر، قالا: أخبرنا
أحمد بن الحسين بن خيرون، قال: قرئ على أبي القاسم عبد الملك بن بشران
وأنا أسمع، أخبركم محمد بن الحسين الآجري، قال: أخبرنا الفضل بن العباس
بن يوسف الشكلي، قال: حدَّثنا محمد بن إسحاق السلمي، قال: حدَّثنا محمد
بن صالح التميمي، قال: قال أبو عبد الله مؤذن مسجد بني جراد: جاورني
شاب فكنت إذا أذنت للصلاة وافي كأنه نقرة في قفاي، فإذا صليت صلى ثم
لبس نعليه ثم دخل على إلى دخل إلى منزله، فكنت أتمنى أن يكلمني أو
يسألني حاجة، فقال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله، عندك مصحف تعيرني أقرأ
فيه، فأخرجت إليه مصحفاً ورفعته إليه فضمه إلى صدره، ثم قال: ليكونن
اليوم لي ولك شأن، ففقدته ذلك اليوم، فلم أره يخرج، فأقمت للمغرب فلم
يخرج، وأقمت لعشاء الآخرة فلم يخرج، فساء ظني، فلما صليت العشاء الآخرة
جئت إلى الدار التي هو فيها، فإذا فيها دلو ومطهرة، وإذا على بابه ستر،
فدفعت الباب فإذا به ميت والمصحف في حجره، فأخذت المصحف من حجره،
واستعنت بقوم على حمله حتى وضعته على سريره، وبقيت أفكر ليلتي من أكلم
حتى يكفنه، فأذنت للفجر بوقت، ودخلت المسجد لأركع، فإذا بضوء في
القبلة، فدنوت منه فإذا كفن ملفوف في القبلة، فأخذته وحمدت الله عز وجل
وأدخلته البيت وخرجت، فأقمت الصلاة، فلما سلمت إذا عن يميني ثابت
البناني ومالك ابن دينار، وحبيب الفارسي، وصالح المري، فقلت: يا
أخواني، ما غدا بكم؟ قالوا لي: مات في جوارك أحد الليلة أحد، قلت مات
شاب كان يصلي معي الصلوات، فقالوا لي: أرناه، فلما دخلوا عليه كشف مالك
بن دينار عن وجهه، ثم قبل موضع سجوده، ثم قال: بأبي أنت يا حجاج إذا
عرفت في موضع تحولت منه إلى موضع غيره، ثم أخذوا في غسله وإذا مع كل
واحد منهم كفن، فقال واحد منهم: أنا أكفنه، فلما طال ذلك منهم قلت لهم:
إني فكرت في أمره الليلة فقلت: من أكلم حتى يكفنه، فأتيت المسجد فأذنت
ثم دخلت لأركع فإذا كفن ملفوف لا أدري من وضعه، فقالوا: يكفن في ذلك
الكفن، فكفناه وأخرجناه، فما كدنا نرفع جنازته من كثرة ما حضره من
الجمع.
همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن
دارم واسم دارم بحر بن مالك، أبو فراس، وهو الفرزدق الشاعر شبه وجهه
بالخبزة، وهي فرزدقة، فقيل: فرزدق، وكان جده صعصعة يستحيي المؤودات في
الجاهلية فجاء في الإسلام وقد استحيا ثلاثمائة. وقد سبق ذكره وقال
القرزدق:
وجدي الذي منع الوائدين ... وأحيا الوئيد فلم يوأد
سمع الفرزدق من علي، وابن عمر، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وروى عنهم. وسئل
عن سنة فقال: لا أدري لكن قذفت المحصنات في أيام عثمان.
وروى أعين
بن لبطة بن الفرزدق، عن أبيه، عن جده الفرزدق، قال: دخلت مع أبي على
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: من أنت؟ قال: غالب بن صعصعة
المجاشعي، قال: ذو الإبل الكثيرة؟ قال: نعم، قال: ما فعلت إبلك؟ قال:
نكبها النواكب، وعدتها الحقوق، قال: ذاك خير من سبلها، من هذا الفتى
الذي معك؟ قال: هذا ابني وهو شاعر، قال: علمه القرآن خير له من الشعر،
قال لبطة: فما زال في نفس أبي حتى شد نفسه فحفظ القرآن.
أنبأنا علي بن عبيد الله، قال: أنبأنا أحمد بن محمد بن النقور، قال:
حدَّثنا عيسى بن علي، قال: قرئ على أبي عبد الله محمد بن مخلد قيل له:
حدَّثكم أبو بكر محمد بن إسحاق الصاغاني، قال: حدَّثنا أبو حفص الفلاس،
قال: حدَّثنا عبد الله بن سوار، قال: حدَّثنا معاوية بن عبد الكريم، عن
أبيه، قال: دخلت على الفرزدق فتحرك فإذا في رجليه قيد، قلت: ما هذا يا
أبا فراس؟ قال: حلفت ألا أخرجه من رجلي حتى أحفظ القرآن.
أنبأنا علي بن عبيد الله، قال: أنبأنا أبو الحسين بن المهدي، قال:
أنبأنا ابن المأمون، قال: حدَّثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدَّثنا
الكديمي، قال: حدَّثنا عبد الله بن سوار، قال: أولاد الفرزدق لبطة
وسبطة وحبطة والحنطبا قال أبو علي الحرمازي: كانت النوار وهي بنت أعين
بن ضبيعة المجاشعي، وكان قد وجهه علي بن أبي طالب إلى البصرة أيام
الحكمين، فقتله الخوارج غيلة، فخطب ابنته النوار رجل من قريش، فبعثت
إلى الفرزدق، وكانت بنت عمه، فقالت: أنت ابن عمي وأولى الناس بي
وبتزويجي، فزوجني من هذا الرجل، قال: لا أفعل أو تشهدي أنك قد رضيت بمن
زوجتك، ففعلت. فلما أجتمع الناس حمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم
أن النوار قد ولتني أمرها، وأشهدكم أني قد زوجتها من نفسي على مائة
ناقة حمراء سود الحدق، فنفرت من ذلك واستعدت عليه ابن الزبير فقال له:
وفها صداقها، ففعل ودفعها إليه، فجاء بها إلى البصرة وقد أحبلها، ومكثت
عنده زمانا ترضى عنه أحياناً وتخاصمه أحياناً، ثم لم تزل به حتى طلقها
وشرط ألا تبرح منزله ولا تتزوج بعده، وأشهد على طلاقها الحسن، ثم قال:
يا أبا سعيد قد ندمت، فقال: إني والله لأظن، أن دمك يترقرق، والله لئن
رجعت لنرجمنك بأحجارك، فمضى وهو يقول:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار
فلو أني ملكت يدي وقلبي ... لكان علي للقدر الخيار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
؟وكنت كفاقئ عينيه عمدا فأصبح ما يضيء له النهار
وحكى
الفرزدق قال: رأيت أثر دواب قد خرجت ناحية البرية، فظننت أن قوماً
خرجوا للنزهة فتبعتهم، فإذا نسوة مستنقعات في غدير، فقلت: لم أر
كاليوم، ولا يوم داره جلجل، فانصرفت مستحياً منهن، فنادينني: بالله يا
صاحب البغلة ارجع نسألك عن شئ، فانصرفت إليهن وهن في الماء إلى حلوقهن،
فقلن: بالله حدَّثنا بحديث دارة جلجل، فقلت: إن امرأ القيس كان يهوى
بنت عم له يقال لها: عنيزة، فطلبها زماناً فلم يصل إليها حتى كان يوم
الغدير وهو يوم دارة الجلجل، وذلك أن الحي احتملوا فتقدم الرجال، وتخلف
النساء والخدم والثقل ، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعدما سار الرجال
غلوة، فكمن في غابة من الأرض حتى مر به النساء، فإذا فتيات وفيهن
عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا، فذهب بعض كلالنا فنزلن إليه،
ونحين العبيد عنهن، ثم تجردن واغتمسن في الغدير كهيئتكن الساعة فأتاهن
أمرؤ القيس محتالاً كنحو أثوابهن فجمعها وقال لهن: كما أقول: لكن والله
لا أعطي جارية منكن ثوبها لو أقامت في الغدير يومها حتى تخرج إلي مجردة
فقال الفرزدق: فقالت إحداهن: هذا امرؤ القيس كان عاشقاً لابنة عمه، أفا
عاشق أنت لبعضنا؟ فقلت: لا والله ولكني اشتهيتكن، قال: فتأبين أمري حتى
تعالى النهار وخشين أن يقصرن دون المنزل فخرجت إحداهن، فدفع إليها
ثوبها ووضعه ناحية، فأخذته ولبسته، وتتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة
وحدها، فناشدته أن يطرح لها ثوبها، فقال: دعينا منك، فأنا حرام إن أخذت
ثوبك إلا بيدك. قال: فخرجت فنظر إليها مقبلة مدبرة، فأخذت ثوبها،
وأقبلن عليه يعذلنه ويلمنه ويقلن: عريتنا وحبستنا وجوعتنا، قال: إن
نحرت لكن ناقتي، أتأكلن منها؟ قلن نعم، فاخترط سيفه فعقرها ونحرها
وكشطها وصاح بخدمهن، فجمعوا له حطباً، فأجج ناراً عظيمة، وجعل يقطع لهن
من سنامها وأطايبها وكبدها، فيلقيه على الجمر فيأكل ويأكلن معه، فلما
أراد الرحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته، وقالت الأخرى: أنا أحمل
رحله، وقالت الأخرى: أنا حشيته وأنساعه، فتقاسمن رحله بينهن، وبقيت
عنيزة، فقال لها امرؤ القيس: يا ابنة الكرام، لا بد أن تحمليني معك
فإني لا أطيق المشي وليس من عادتي، فحملته على غارب بعيرها، فكان يدخل
رأسه في خدرها فيقبلها، فإذا امتنعت مال حدجها، فتقول: يا امرأ القيس
عقرت بعيري فانزل، فذلك قوله:
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فلما فرغ الفرزدق من حديثه قالت إحداهن: اصرف وجهك عنا ساعة، وهمست إلى
صويحباتها بشيء لم أفهمه، فانغططن في الماء وخرجن ومع كل واحدة منهن
ملء كفها طينا، قال: فجعلن يتعادين نحوي ويضربن بذلك الطين والحمأة
وجهي وثيابي وملأن عيني، فوقعت على وجهي مشغولاً بعيني وما فيها، فأخذن
ثيابهن وركبن، وركبت تلك الماجنة بغلتي وتركتني ملقى بأقبح حال، فغسلت
وجهي وثيابي وانصرفت عند مجيء الظلام إلى منزلي ماشياً وقد وجهن بغلتي
إلى بيتي وقلن للرسول: قل له تقول لك أخواتك: طلبت منا ما لم يمكنا،
وقد وجهنا إليك بزوجتك فافعل بها سائر ليلتك، وهذا كسر درهم يكون
لحمامك إذا أصبحت. فكان يقول: ما منيت بمثلهن.
قال علماء السير: لقي الفرزدق الحسن عند قبر، فقال له الحسن: ما أعددت
لهذا اليوم؟ قال: أعددت له بشهادة لا إله ألا الله منذ ثمانين سنة.
فتوفي الفرزدق في سنة إحدى عشرة ومائة، وقد قارب المائة. وكانت علته
الدبيله، فرآه ابنه لبطة في النوم، فقال له: يا بني نفعتني الكلمة التي
راجعت بها الحسن عند القبر.
وقال أبو عبيدة: مات الفرزدق سنة عشر وقد نيف على التسعين، كان منها
خمس وسبعون يباري الشعراء فبزهم، وما ثبت له غير جرير.
ثم دخلت
سنة اثنتي عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة معاوية بن هشام الصائفة فافتتح خرشنة.
وفيها: سار الترك، فلقيهم الجراح بن عبد الله فيمن معه من أهل الشام،
وأهل أذربيجان، فاستشهد الجراح ومن كان معه بمرج أردبيل، وافتتحت الترك
أردبيل، وبعث هشام سعيد بن عمرو الجرشي، فأكثر القتل في الترك، ثم أنفذ
أخاه مسلمة بن عبد الملك في أثر الترك.
وفيها:
قتل سورة بن الحر؛ وذلك أن الجنيد خرج غازياً يريد طخارستان، فنزل على
نهر بلخ ووجه عمارة بن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر ألفاً،
وإبراهيم الليثي في عشرة آلاف في وجه آخر، فجاشت الترك، فأتوا سمرقند
وعليها سورة بن الحر، فكتب سورة إلى الجنيد الغوث، فهم أن ينفر، فقيل
له: جندك متفرقون وصاحب خراسان لا يعبر النهر في أقل من خمسين ألفاً
فلا تعجل، فقال: فكيف سورة ومن معه من المسلمين، فعبر ومضى بالناس حتى
دخل الشعب وبينه وبين سمرقند أربع فراسخ، فصحبه خاقان في جمع عظيم،
وزحف إليه أهل الصغد وشاش وفراغانة وطائفة من الترك، فجرت في المسلمين
مقتلة عظيمة، وكلت سيوف الفريقين، فصارت لا تقطع، فقيل للجنيد: اختر أن
تهلك أو تهلك سورة، فقال: هلاك سورة أهون علي.
قيل: فاكتب إليه فليأتك في أهل سمرقند، فإن الترك إن بلغهم أنه متوجه
إليك انصرفوا فقاتلوا. فكتب يأمره بالقدوم. فخرج في اثني عشر ألفاً،
فتلقاه خاقان، فحمل سورة فوقع فاندقت فخده وقتل أكثر ممن معه، ومضى
الجنيد إلى سمرقند، وحمل عيال من كان مع سورة إلى مرو، وأقام بالصغد
أربعة أشهر.
وفي هذه السنة: حج بالناس إبراهيم بن هشام المخزومي، وقيل: سليمان بن
هشام. وأما عمال الأمصار فهم الذين كانوا في سنة إحدى عشرة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب، أبو عبد الله: سمع من أنس بن مالك، وابن
أبي وافي، وابن الزبير، وكان قارئ أهل الكوفة يقرأون عليه القرآن. فلما
رأى كثرتهم عليه كره ذلك لنفسه، فمشى إلى الأعمش فقرأ عليه، فمال الناس
إلى الأعمش وتركوا طلحة. وكان ثقة صالحاً عابداً.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، قال:
حدَّثنا أبو نعيم الأصفهاني ، قال: حدَّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان،
قال: حدَّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدَّثنا أبو سعيد الأشج،
قال: حدَّثنا ابن أبي عتيبة، قال: حدَّثني شيخ، عن جدته قالت: أرسل إلي
طلحة بن مصرف: إني أريد أوتد في حائطك وتداً، فأرسلت إليه: نعم ، قالت:
ودخلت خادمتنا منزل طلحة تقتبس ناراً وطلحة يصلي، فقالت لها امرأته:
مكانك يا فلانة حتى نشوى لأبي محمد هذا القديد على قضيبك يفطر عليه.
فلما قضى الصلاة قال: ما صنعت لا أذوقه حتى ترسلي إلى سيدتها، لحبسك
إياها وشواك على قضيبها.
قال أبو نعيم: وحدَّثنا محمد، قال: حدَّثنا أبو يعلى وهو الموصلي، قال:
حدَّثنا عبد الصمد بن يزيد، قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: بلغني عن
طلحة أنه ضحك يوماً فوثب على نفسه، فقال: فيم الضحك، إنما يضحك من يقطع
الأهوال، وجاز الصراط. ثم قال: آليت ألا أفتر ضاحكاً حتى أعلم بم تقع
الواقعة، فما رؤي ضاحكاً حتى صار إلى الله عز وجل.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناد له، قال عبد الملك بن هانئ: خطب زيد
إلى طلحة ابنته، فقال: إنها قبيحة، قال: قد رضيت بها، قال: إن بعقبها
أثراً، قال: لقد رضيت.
قال أبو نعيم: وحدَّثنا أبو بكر بن مالك، قال: حدَّثنا عبد الله بن
أحمد، قال: حدَّثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدَّثنا محمد بن فضيل، عن
أبيه، قال: دخلنا على طلحة بن مصرف نعوده، فقال: له أبو كعب: شفاك
الله، قال: أستجير الله.
قال أبو سعيد: وحدَّثنا ابن إدريس، عن ليث، قال: حدَّثت طلحة في مرضه
الذي مات فيه أن طاووساً كان يكره الأنين، قال: فما سمع طلحة يئن حتى
مات.
المغيرة بن حكيم الصنعاني: من الأنبار، روى عن ابن عمر، وأبي هريرة.
أنبأنا يحيى بن علي المدير، قال: أخبرنا المبارك بن الحسين الأنصاري،
قال: أخبرنا ابن بشران، قال: حدَّثنا ابن صفوان، قال: حدَّثنا أبو بكر
القرشي، قال: حدَّثني الحسين بن علي البزاز، أنه حدث عن عبد الله بن
إبراهيم، قال: أخبرني أبي، قال: سافر المغيرة بن حكيم إلى مكة أكثر من
خمسين سفرة حافياً محرماً صائماً، لا يترك صلاة السحر في سفره، إذا كان
السحر قد نزل فصلى في أصحابه، فإذا صلى الصبح لحق متى لحق.
قال: عبد الله بن إبراهيم: أخبرني هشام بن يوسف، قال: سمعت إبراهيم بن
عمر يقول: كان جزء المغيرة بن حكيم في يومه وليلته القرآن كله، يقرأ في
صلاة الصبح من البقرة على هود، ويقرأ قبل الزوال إلى أن يصلي العصر من
هود إلى الحج، ثم يختم.
ثم دخلت
سنة ثلاثة عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها: هلاك عبد الوهاب بن بخت وهو مع البطال بن عبيد الله
بأرض الروم، وذلك أن عبد الوهاب غزا مع البطال، فكشفوا فألقى بيضته عن
رأسه وصاح: أنا عبد الوهاب بن بخت، أمن الجنة تفرون؟ ثم تقدم في نحور
العدو، فمر برجل يقول: واعطشاه، فقال له: تقدم فالري أمامك فخالط القوم
فقتل.
ومن ذلك: غزوة مسلمة بن عبد الملك فرق الجيوش في بلاد خاقان، ففتحت
مدائن وحصون على يديه، وقتل وأسر وسبى، فحرق خلق كثير من الترك أنفسهم
بالنار، ودان لمسلمة من كان وارء جبال بلنجر، وقتل ابن خاقان.
ومن ذلك: غزوة معاوية بن هشام أرض الروم، فرابط ثم رجع.
وفي هذه السنة: صار جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان، فأخذ الجنيد
رجلاً منهم فقتله، وقال: من أصيب منهم فدمه هدر.
وفي هذه السنة: حج بالناس سليمان بن عبد الملك، وقيل : بل إبراهيم بن
هشام المحزومي. وأما عمال البلاد فالذين كانوا في هذه السنة التي قبل
هذه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عبد الله بن عبيد بن عمير كان فصيحاً صالحاً، توفي بمكة في هذه السنة.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: حدَّثنا حمد بن أحمد، قال: حدَّثنا
أبو نعيم، قال: حدَّثنا أحمد بن جعفر الغساني، قال: حدَّثنا محمد بن
جرير، قال: حدَّثنا محمد بن حميد، قال: حدَّثنا زافر بن سليمان، عن
الوصافي، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: لا ينبغي لمن أخذ بالتقوى
وزن الورع إن يذل لصاحب الدنيا.
ثم دخلت
سنة أربع عشر ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وسليمان بن هشام
الصائفة اليمنى، والتقى عبد الله البطال هو قسطنطين في جمع فهزمهم،
وأسر قسطنطين، وبلغ سليمان بن هشام قيسارية.
وفي هذه السنة: عزل هشام بن عبد الملك إبراهيم بن هشام عن المدينة،
وأمر عليها خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم، فقدم خالد المدينة
للنصف من ربيع الأول، وكانت إمرة إبراهيم على المدينة ثماني سنين.
وفيها: ولي محمد بن هشام المخزومي على مكة.
وفيها: وقع الطاعون بواسط.
وفيها: قفل مسلمة بن عبد الملك عن الباب بعدما هزم خاقان، وبنى الباب
فأحكم ما هناك.
وفيها ولي هشام بن عبد الملك مروان بن محمد أرمينية وأذربيجان.
وفيها: حج بالناس خالد بن عبد الملك وهو على المدينة، وقيل: بل حج بهم
محمد بن هشام وهو أمير مكة، وقيل: بل حج بهم خالد بن الملك، وهو الأثبت
عند الواقدي. وكان العمال في الأمصار هم العمال في السنة التي قبلها،
غير أن عامل المدينة خالد بن عبد الملك، وعامل مكة، والطائف محمد بن
هشام، وعامل أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جميل بن ماعان بن عمير، أبو سعيد الرعيني ثم القياني: كان أحد القراء
الفقهاء، أخرجه عمر بن عبد العزيز من مصر إلى المغرب ليقرئهم القرآن،
واستعمله على القضاء بإفريقية هشام بن عبد الملك، وله عليه وفادة، وقد
روى عن أبي تميم عبد الله بن مالك الجيشاني، وحدث عنه بكر بن سودة.
عبد خير بن يزيد، أبو عمارة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم
يلقه، وسكن الكوفة وحدث بها عن علي بن أبى طالب، وشهد معه حرب الخوارج
بالنهروان. روى أبو إسحاق السبيعي، وحبيب بن أبى ثابت، وإسماعيل السدي،
وكان ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا ابن الفضل، قال: حدَّثنا محمد بن إسماعيل البخاري، قال: قال لي
يحيى بن موسى: حدَّثنا مسهر بن عبد الملك، قال: حدَّثني أبي قال: قلت
لعبد خير: كم أتى عليك؟ قال: عشرون ومائة سنة، كنت غلاماً ببلادنا
باليمن، فجاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس فخرجوا إلى
حيز واسع، فكان أبي فيمن خرج، فلما ارتفع النهار جاء أبي فقالت له أمي:
ما حبسك وهذه القدر قد بلغت وهؤلاء عيالك يتضورون يريدون الغذاء؟ فقال:
يا أم فلان، أسلمنا فأسلمي، ومري بهذا القدر فلتهرق للكلاب وكانت ميتة،
فهذا ما أذكر من الجاهلية.
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أبو جعفر
الباقر:
باقر
العلم، أمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، وولد له جعفر
وعبد الله من أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. وروى أبو
جعفر عن جابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس.
قال أبو حنيفة: لقيت أبا جعفر محمد بن علي، فقلت: ما تقول في أبي بكر
وعمر؟ فقال رحم الله أبا بكر وعمر، فقلت: إنه يقال عندنا في العراق إنك
لتبرأ منهما، فقال: معاذ الله كذب من قال هذا عني، أو ما علمت أن علي
بن أبي طالب زوج ابنته أم كلثوم التي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله
عليه وسلم عمر بن الخطاب وجدتها خديجة وجدها رسول الله صلى الله عليه
وسلم .
أخبرنا محمد بن عبد الباقي ين سليمان، قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد،
قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا محمد بن حبيش، قال:
حدَّثنا إبراهيم بن شريك الأسدي، قال: حدَّثنا عقبة بن مكرم، قال:
حدَّثنا يونس بن بكير، عن أبي عبد الله الجعفي ، عن عروة بن عبد الله،
قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيوف، قال: لا بأس به حلى
أبو بكر الصديق سيفه، قال: قلت: وتقول الصديق، فوثب وثبة واستقل القبلة
ثم قال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له الصديق فلا
صدق الله له قولاً في الدنيا ولا في الآخرة.
قال ابن حبيش: و حدَّثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدَّثنا أحمد بن
يونس، عن عمر بن شمر، قال: قال لي محمد بن علي: يا جابر، بلغني أن
قوماً بالعراق يزعمون أنهم يحبونا وينالون أبا بكر وعمر، ويزعمون أني
أمرتهم بذلك، فأبلغهم أني إلى الله منهم بريء، والذي نفس محمد بيده لو
وليت لتقربت إلى الله عز وجل بدمائهم لا نالتني شفاعة محمد إن لم أكن
أستغفر لهما وأترحم عليهما.
أخبرنا عبد الوهاب الأنماطي، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار،
قال: أخبرنا أبو بكر بن محمد بن علي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن
يوسف، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد القرشي،
قال: حدَّثني محمد بن الحسين، قال: حدَّثنا سعيد بن سليمان عن إسحاق بن
كثير، عن عبد الله بن الوليد، قال: قال لنا أبو جعفر محمد بن علي: يدخل
أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ ما يريد؟ قلنا: لا قال: فلستم إخواناً كما
تزعمون.
توفي محمد في هذه السنة، وقيل: سنة ثمان عشرة، وقيل: سبع عشر وهو ابن
ثلاث وسبعين سنة، وأوصى أن يكفن في قميصه الذي كان يصلي فيه.
المفضل بن قدامه بن عبيد الله بن عبيدة بن الحارث بن إياس بن عوف بن
ربيعة، من ولد ربيعة بن نزار، كذلك سماه أبو عمرو الشيباني، ويكنى أبا
النجم: وقال ابن الأعرابي: اسمه الفضل، وهو من رجاز الإسلام الفحول
المتقدمين، في الطبقة الأولى منهم. قال: أبو عبيدة: ما زالت الشعراء
تقصر بالرجاز حتى قال أبو النجم: الحمد لله الوهاب المجزل وقال العجاج:
قد جبر الدين الإله فجبر وقال رؤبة: وقاتم الأعماق خاوي المخترق
فانتصفوا منهم. قال المدائني: دخل أبو النجم على هشام بن عبد الملك وقد
أتت له سبعون سنة، فقال له هشام: ما رأيك في النساء؟ قال: إنهن لأنظر
إليهن شزراً وينظرن إلي شزراً فوهب له جارية وقال: أغد علي فأعلمني ما
كان منك، فلما غدا عليه فقال ما صنعت شيئاً ولا قدرت عليها، وقلت في
ذلك أبياتاً:
نظرت فأعجبها الذي في درعها ... من حسنه نظرت في سرباليا
فرأت لها كفلا يميل بخصرها ... وعثا روادفه وأجثم رابيا
ورأيت منتشر العجان مقلصا ... رخواً مفاصله وجلداً باليا
أدني به الركب الحليق كأنما ... أدني إليه عقارباً أو أفاعيا
فضحك هشام وأمر له بجائزة.
وقال: له هشام: حدَّثني عنك، قال: عرض لي البول فقمت بالليل أبول، فخرج
مني صوت فتشددت ثم عدت فخرج مني صوت، آخر فآويت إلى فراشي وقلت: يا أم
الخيار، هل سمعت شيئاً؟ قالت: لا والله ولا واحدة منهما، فضحك. وأم
الخيار التي يقول فيها:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ديناً كله لم أصنع
ثم دخلت
سنة خمس عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة معاوية بن هشام الروم.
وفيها: وقع الطاعون بالشام.
وفيها
أصاب الناس بخراسان قحط شديد ومجاعة، فأعطى الجنيد رجلاً درهماً فاشترى
به رغيفاً، فقال: تشكون الجوع ورغيف بدرهم، لقد رأيتني بالهند وإن الحب
من الحبوب لتباع عدداً بالدراهم.
وفيها: حج بالناس معاوية بن هشام بن إسماعيل وهو أمير مكة والطائف،
وكان عمال الأمصار عمال السنة التي قبلها، غير أنه اختلف في عامل
خراسان، فقال المدائني: الجنيد بن عبد الرحمن، وقال: غيره: عمارة بن
خريم المري، وإن الجنيد مات في هذه السنة فاستخلف عمارة، وأما المدائني
فقال: مات الجنيد بن عبد الرحمن في سنة ست عشرة ومائة، وهي السنة التي
بعد هذه السنة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
خيار بن خالد بن عبد الله بن معاذ، أبو نضلة المدلجي: قاضي مصر لهشام
بن عبد الملك، كان رجلاً صالحاً.
عطاء بن أبي رباح أبو محمد، واسم المكي، وهو مولى الجنيد ولد لسنتين
مضتا من خلافة عثمان، وكان أسود شديد السواد، أعور أفطس أعرج، ثم عمي
في آخر عمره، إلا أنه كان فصيحاً فقيهاً، أدرك أبا جحيفة وشهد جنازة
زيد ين أرقم.
وروى عن ابن عمر، وابن عمرو، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وزيد بن خالد،
وابن عباس، وابن الزبير.
روى عنه: عمرو بن دينار، والزهري، وقتادة، وأيوب.
وحج سبعين حجة، وكان ينادي في زمن بني أمية بمكة: لا يفت الناس إلا
عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن فعبد الله بن أبي نجيح.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: حدَّثنا
أبو عمر بن حيوية قال: حدَّثنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحسن بن
الفهم قال: حدَّثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا الفضل بن دكين قال:
حدَّثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل قال: ما رأيت أحداً يريد بهذا العلم
وجه الله غير هؤلاء الثلاثة: عطاء، وطاووس، ومجاهد.
عن معاذ بن سعيد قال: كنا عند عطاء بن أبي رباح فتحدث رجل بحديث فاعترض
له آخر في حديثه، فقال عطاء: سبحان الله، ما هذه الأخلاق!؟ إني لأسمع
الحديث من الرجل وأنا أعلم به، فأريه أني لا أحسن منه شيئاً.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي قال: أخبرنا أبو محمد بن أبي عثمان
قال: أخبرنا أبو الحسن بن الصلت قال: أخبرنا أبو الحسين بن المنادي
قال: حدَّثنا الصاغاني قال: أخبرنا معلى بن عبيد قال: دخلنا على محمد
بن سوقة فقال: أحدثكم بحديث لعله ينفعكم، فإنه قد نفعني، ثم قال: قال
لنا عطاء بن أبي رباح: يا بني أخي، إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول
الكلام، أتنكرون أن عليكم حافظين، أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه
صحيفته التي أملى صدر نهاره، كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا
دنياه.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي قال: أخبرنا جعفر بن أحمد قال:
أخبرنا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الغراب قال: أخبرنا أبي قال:
أخبرنا أحمد بن مروان المالكي قال: حدَّثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي
قال: حدَّثنا الرياشي قال: سمعت الأصمعي يقول: دخل عطاء بن أبي رباح
على عبد الملك بن مروان وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن،
وذلك بمكة في وقت حجة في خلافته، فلما نظر إليه قام إليه وهو جالس
وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال له: يا أبا محمد، حاجتك؟
قال: يا أمير المؤمنين، اتق الله في حرم الله ورسوله، فتعاهده
بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فأنت بهم أجلست هذا
المجلس، واتق الله في أهل الثغور، فإنهم حصن المسلمين، وتعهد أمور
المسلمين فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك، ولا تغفل
عنهم، ولا تغلق دونهم بابك. فقال له: أفعل. ثم نهض فقبض عليه عبد الملك
فقال: يا أبا محمد، إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك؟
فقال: مالي إلى مخلوق حاجة. ثم خرج ، فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف،
وهذا وأبيك السؤدد.
أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق قال: حدَّثنا محمد بن مرزوق قال: أخبرنا
أحمد بن علي ثابت قال: حدَّثنا أحمد بن أبي جعفر القطيعي قال: حدَّثنا
محمد بن العباس الخراز قال: حدَّثنا أبو أيوب سليمان بن إسحاق الجلاب
قال: قال إبراهيم الحربي: كان عطاء أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه
كأنه باقلاء.
قال: وجاء
سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إليه
وهو يصلي، فلما انفتل إليهما، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد
حول قفاه إليهم ثم قال سليمان لابنيه: قوما، فقاما، فقال: يا بني لا
تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.
أنبأنا محمد بن عبد الملك بن خيرون قال: أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرني أبو الحسن علي بن أيوب الكاتب قال: أخبرنا أبو عبيد الله
محمد بن عمران المرزباني قال: حدَّثنا محمد بن أحمد الكاتب قال:
حدَّثنا عبد الله بن أبي سعيد الوراق قال: حدَّثنا عمرو بن شبة قال:
حدَّثني سعيد بن منصور الرقي قال: حدَّثني عثمان بن عطاء الخراساني
قال: انطلقت مع أبي وهو يريد هشام بن عبد الملك، فلما قربنا إذا بشيخ
أسود على حمار، عليه قميص دنس، وجبة دنسة، وقلنسوة لا طية دنسة،
وركاباه من خشب. فضحكت وقلت لأبي: من هذا الأعرابي؟ قال: اسكت، هذا سيد
فقهاء الحجاز، هذا عطاء بن أبي رباح، فلما قرب نزل أبي عن بغلته، ونزل
هو عن حماره، فاعتنقا وتسالا، ثم عادا فركبا فانطلقا حتى وقفا بباب
هشام، فلما رجع أبي سألته، فقلت: حدَّثني ما كان منكما. قال: لما قيل
لهشام عطاء بن أبي رباح بالباب أذن له، فوالله ما دخلت إلا بسببه. فلما
رآه هشام قال: مرحباً مرحباً ها هنا ها هنا، فرفعه حتى مست ركبته ركبه،
وعنده أشراف الناس يتحدثون، فسكتوا. فقال هشام: ما حاجتك يا أبا محمد؟
قال: يا أمير المؤمنين، أهل الحرمين، أهل الله، وجيران رسول صلى الله
عليه وسلم يقسم فيهم أعطياتهم وأرزاقهم، قال: نعم، يا غلام أكتب لأهل
المدينة وأهل مكة بعطاءين وأرزاقهم لسنة، ثم قال: هل من حاجة غيرها يا
أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد، أصل العرب،
ترد فيهم فضول صدقاتهم قال: نعم، يا غلام اكتب بأن ترد فيهم صدقاتهم،
قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل
الثغور يرمون من وراء بيضتكم، ويقاتلون عدوكم، قد أجريتم لهم أرزاقاً
تدرها عليهم، فإنهم إن هلكوا أغرتم. قال: نعم، اكتب بحمل أرزاقهم إليهم
يا غلام. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين،
أهل ذمتكم يحيى صغارهم ولا يتعتع كبارهم، ولا يكلفون إلا ما يطيقون،
قال: نعم، اكتب لهم يا غلام، هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم
يا أمير المؤمنين، اتق الله في نفسك، فإنك خلقت وحدك، وتموت وحدك،
وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، ولا والله ما معك ممن ترى أحداً، قال: فأكب
هشام وقام عطاء، فلما كان عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس لا أدري ما
فيه، أدراهم أم دنانير، فقال: إن أمير المؤمنين أمر لك بهذا. فقال: لا
أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على رب العالمين. قال: ثم خرج عطاء في
هذه السنة. وقيل: سنة أربع عشرة. وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقيل: بل
عاش مائة سنة.
عمر بن مروان بن الحكم، أبو حفص: لم يكن في بني أمية بمصر في أيامه
أفضل منه، كان خلفاء بني أمية يكتبون إلى أمراء مصر لا تعصوا له أمراً.
وكان يأتي عجائز في خراب المعافر، فيدفع إليهن ما يكفيهن طوال السنة.
روى عنه: يزيد أبي حبيب وغيره.
ثم دخلت
سنة ست عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها: غزوة معاوية بن هشام أرض الروم الصائفة وفيها: وقع
طاعون عظيم شديد بالعراق والشام، وكان أشده بواسط.
وفيها: وليّ هشام على خراسان عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي، فلما
قدم حبس عمارة بن خزيم الذي استخلفه الجنيد وجميع عمال الجنيد وعذبهم.
وفيها:
خرج الحارث بن شريح فقال: ادعوا إلى كتاب الله والسنة، والبيعة البيضا،
فمضى إلى بلخ وعليها نصر ، فلقيهم نصر في عشرة آلاف، والحارث في أربعة
آلاف، فهزم أهل بلخ، ومضى نصر إلى مرو، فأقبل الحارث إليها وقد غلب على
بلخ، والجوزجان، والفارياب، والطالقان، ومرو الروذ، وبلغ عاصم بن عبد
الله أن أهل مرو يكاتبون الحارث، فأجمع على الخروج وقال: يا أهل
خراسان، قد بايعتم الحارث بن شريح لا يقصد مدينة إلا خليتموها له، أنا
لاحق بأرض قومي وكاتب منها إلى أمير المؤمنين حتى يمدني بعشرين ألفاً
من أهل الشام. فقال أصحابه: لا نخليك. وحلفوا له بالطلاق أننا نقاتل
معك. وأقبل الحارث إلى مرو في ستين ألفاً، وعليه السواد ومعه فرسان
الأزد وتميم والدهاقين، واقتتلوا قتالا شديداً، ثم هزم الله الحارث،
وكان يرى رأي المرجئة، ثم عاد الحارث لمحاربة عاصم، فكتب عاصم بينه
وبينه كتاباً على أن ينزل الحارث أي كور خراسان شاء، وعلى أن يكتبوا
جميعاً إلى هشام يسألونه كتاب الله وسنة نبيه، فإن أبي أجمعوا أمرهم
جميعاً عليه، فأشار بعض الناس بمحو هذه الصحيفة، ثم عادوا إلى القتال.
وفي هذه السنة: حج بالناس الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو ولي عهده،
وكانت عمال الأمصار في هذه السنة الذين كانوا في الذي قبلها إلا ما كان
من خراسان، فإن عاملها كان عاصم بن عبد الله الهلالي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
حمزة بن بيض الحنفي: شاعر مجيد. قال المأمون للنضر بن شميل: أي بيت
أطيب؟ قال: قول حمزة بن بيض:
تقول لي والعيون هاجعة ... أقم علينا يوماً فلم أقم
أي الوجوه انتجعت قلت لها ... وأي وجه إلا إلى الحكم
متى تقل حاجباً سرداقة ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم
انقطع إلى المهلب بن أبي صفرة، ثم إلى ولده، ثم إلى أبان بن الوليد، ثم
إلى بلال بن أبي برزة، واكتسب بالشعر مالاً عظيماً، مدح مخلد بن يزيد
ين المهلب، وهو يخلف أباه على خراسان، فأعطاه مائة ألف درهم، ودخل على
يزيد بن المهلب السجن، فأنشده:
أغلق دون السماح والجود والنجدة ... باب حديد مفتاحه أشب
يرون سبق الجواد في مهل ... وقصرت دون سعيك الرتب
فقال: يا حمزة، أسأت إذ نوهت باسمي في غير وقت تنويه، ثم رمى إليه
بحزمة مصرورة وعليه صاحب خبر واقف، وقال: خذ هذا الدينار، فوالله ما
أملك غيره، فأخذه حمزة وأراد أن يرده عليه، فقال له سراً خذه ولا تجزع
عنه، فإذا فص ياقوت أحمر، فخرج إلى خراسان فباعه بثلاثين ألفاً، فلما
قبضها قال له المشتري: والله لو أبيت إلا خمسين ألف درهم لأخذته منك.
فضاق صدره فأعطاه مائة دينار أخرى.
حفصة بنت سيرين: قرأت القرآن وهي بنت اثنتي عشرة سنة، وكانت تختم كل
يومين، وتصوم الدهر وتقوم الليل.
أنبأنا علي بن عبيد الله قال: أنبأنا جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا أبو
الحسن ابن أخي ميمي قال: أخبرنا أبو مسلم بن مهدي قال: حدَّثنا أبو بكر
محمد بن قارن قال: حدَّثنا علي بن الحسن الفسنجاني قال: حدَّثنا نعيم
بن حماد قال: حدَّثنا مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان قال: ما رأيت
أحداً بالبصرة أفضله على حفصة ختمت القرآن وهي بنت اثنتي عشرة سنة،
ماتت وهي بنت تسعين سنة، وكانت تتوضأ ارتفاع النهار وتدخل مسجدها في
بيتها، فلا تخرج منه إلى مثلها من الغد، وكان يأتيها أنس بن مالك، وأبو
العالية مسلمون عليها.
أخبرنا ابن ناصر قال: أنبأنا جعفر بن أحمد قال: أخبرنا أحمد بن علي
الثوري قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الدقاق قال: أخبرنا ابن صفوان
قال: أخبرنا أبو بكر بن عبيد قال: حدَّثنا أحمد بن إبراهيم قال:
حدَّثني صالح قال: حدَّثنا ضراب بن عمرو، عن هشام قال: كانت حفصة تسرج
سراجها في الليل ثم تقوم مصلاها، فربما طفئ السراج فيضيء لها البيت حتى
تصبح.
قال الرياشي: حدَّثني ابن عائشة، عن سعيد بن عامر، عن هشام قال: قالت
حفصة بنت سيرين: بلغ من بر ابني الهذيل بي أنه كان يكسر القصب في الصيف
فيوقد لي في الشتاء.
قال: لئلا
يكون له دخان، قالت: وكان يحلب ناقته بالغداة فيأتيني به فيقول: اشربي
يا أم الهذيل فإن أطيب اللبن ما بات في الضرع. ثم مات فرزقت عليه من
الصبر ما شاء أن يرزقني، فكنت أجد مع ذلك حرارة في صدري لا تكاد تسكن،
قالت: فأتيت ليلة من الليالي على هذه الآية: " ما عندكم ينفذ وما عند
الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " فذهب عني
ما كنت أجد.
عمرو بن مرة الجملي: روى عن سعيد بن سنان قال: قال عمرو بن مرة: ما أحب
أني بصير أذكر أني نظرت نظرة وأنا شاب.
أسند عمرو عن عبد الله بن أبي أوفى.
وتوفي في هذه السنة وقيل: سنة ثمان عشرة.
مكحول الشامي، أبو عبد الله: كان عبداً لعمرو بن سعيد بن أبي العاص،
فوهبه لرجل من هذيل، وكان عالماً فقيهاً، ورأى أنس بن مالك، وواثلة بن
الأسقع، وأبا أمامة، وعنبسة بن أبي سفيان.
وسمع من معاوية حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي في هذه
السنة. وقيل: سنة ثلاثة عشرة.
أخبرنا موهوب بن أحمد قال: أخبرنا علي بن أحمد بن البسري قال: أخبرنا
محمد بن عبد الرحمن المخلص قال: حدَّثنا أحمد بن نصر بن يحيى قال:
حدَّثنا علي بن عثمان الحراني قال: حدَّثنا أبو مسهر قال: حدَّثنا سعيد
قال: لم يكن في زمان مكحول أبصر بالفتيا منه، وكان لا يفتي حتى يقول:
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويقول: هو رأي والرأي يخطئ
ويصيب. وما أدركنا أحسن سمتاً في العبادة من مكحول وربيعة بن يزيد.
وكان له خاتم لا يلبسه، وكان مكتوب: أعذ مكحول من النار.
هشام بن الربيع بن زرارة بن كثير بن خباب، أبو حية النميري: شاعر مجيد
فصيح، كان أبو عمرو بن العلاء يقدمه، أدرك الدولتين الأموية والعباسية،
إلا أنه كان فيه هوج وجبن، وكان يصرع في أوقات.
قال ابن قتيبة: كان من أكذب الناس، يحدث أنه يخرج في الصحراء فيدعو
الغربان فتقع حوله، فيأخذ منها ما يشاء، فقيل له: يا أبا حية، أفرأيت
إن أخرجناك إلى الصحراء تدعوها قلم تأتك، فماذا نصنع بك؟ قال: أبعدها
الله إذن.
وكان له سيف يسميه لعاب المنية، ليس بينه وبين الخشبة شيء، فحدث جاراً
له قال: دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصاً، فانتضا سيفه وقال: أيها
المغتر بنا، المجترئ علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، سيف صقيل لعاب
المنية الذي سمعت به، اخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك. فإذا
الكلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلباً، وكفانا حرباً.
ثم دخلت
سنة سبع عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها: غزوة ابن هشام الصائفة اليسرى، وسليمان بن هشام
الصائفة اليمني من نحو الجزيرة وفرق سراياه في أرض الروم.
وفيها: بعث مروان بن محمد بن وهو على أرمينية بعثين، فافتتح أحدهما
حصوناً ثلاثة، وصولح الأخر.
وفيها: عزل هشام بن عبد الملك عاصم بن عبد الله عن خراسان، وضمها على
خالد بن عبد الله، فولاها أخاه أسد بن عبد الله، وقال المدائني: كان
هذا في سنة ست عشرة.
وكان السبب: أن عاصماً كتب على هشام : أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإن
الرائد لا يكذب أهله، وقد كان من أمر أمير المؤمنين إلي ما تحقق به علي
نصيحته، وإن خراسان لا تصلح إلا أن تضم إلى صاحب العراق، فيكون موادها
ومعونتها في الأحداث والنوائب من قرب لتباعد أمير المؤمنين عنها، فولى
أسد بن عبد الله، فقدم فحبس عاصماً، وأخذه بمائة ألف، ووجه عبد الرحمن
بن نعيم العامري في أهل الكوفة وأهل الشام في طلب الحارث بن شريح، وسار
أسد إلى آمد فحاصرهم، ونصب المجانيق عليهم.
وفيها: أخذ أسد بن عبد الله جماعة من دعاة بني العباس فقتل بعضهم، ومثل
ببعضهم، وحبس بعضهم، وكان فيهم موسى بن كعب، فأمر به فألجم بلجام حمار،
ثم جذب اللجام فتحطمت أسنانه، ثم دق أنفه، ووجئ لحياه، وكان فيهم لا هز
بن قريظ، فضربه ثلاثمائة سوط، ثم خلى سبيلهم.
وفيها: حج بالناس خالد بن عبد الملك، وكان العامل فيها على المدينة،
وعلى مكة، وعلى الطائف: محمد بن هشام بن إسماعيل. وعلى العراق والمشرق:
خالد بن عبد الله القسري، وعلى أرمينية وأذربيجان: مروان بن محمد بن
مروان بن الحكم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بلال بن سعيد: كان عند أهل الشام كالحسن عند أهل البصرة
وأسند عن
ابن عمر، وجابر في آخرين.
عن الأوزاعي قال: سمعت بلال بن سعيد يقول: لا تنظر إلى صغر الخطيئة،
ولكن انظر إلى من عصيت.
سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب: واسمها: آمنة، وقيل: أميمة.
وسكينة لقب عرفت به، وأمها أم الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس
الكلبي، كان نصرانياً فجاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأسلم، فدعا
له برمح، فعقد له على من أسلم بالشام من قضاعة، فتولى قبل أن يصلي
صلاة، وما أمسى المساء حتى خطب إليه الحسين بن علي ابنته الرباب، فزوجه
إياها، فأولد عبد الله وسكينة، وكان الحسين عليه السلام يقول:
لعمرك إنني لأحب داراً ... تكون بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي ... وليس بعاتب عندي عتاب
ولست لهم وإن عابوا مطيعاً ... حياتي أو بغيبتي الركاب
وكانت سكينة من الجمال والأدب والفصاحة بمنزلة عظيمة، كان منزلها مألف
الأدباء والشعراء، وتزوجت عبد الله بن الحسن بن علي فقتل بالطائف قبل
أن يدخل بها، ثم تزوجها مصعب بن الزبير ومهرها ألف ألف درهم، وحملها
إليه أخوها علي بن الحسي، فأعطاه أربعين ألف دينار، فولدت له الرباب،
فكانت تلبسها اللؤلؤ وتقول: ما ألبسها إياه إلا لتفضحه، وخطبها عبد
الملك بن مروان فقالت أمها: لا والله، لا تتزوجه أبداً، وقد قتل ابن
أخي مصعباً، فتزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان، وكان يتولى مصر،
فنفس بها عليه عبد الملك، وكتب إليه: اختر مصر أو سكينة. فطلقها قبل أن
يدخل بها، ومتعها بعشرين ألف دينار، وخلف عليها بعد مصعب: عبد الله بن
عثمان بن ابن عبد الله بن الحكم، فولدت له حكيماً، وعثمان، وزبيحة،
وكانت عنده قبلها فاطمة بنت عبد الله بن الزبير، فلما خطب سكينة أحلفته
بطلاقها ألا يؤثر عليها فاطمة. ثم اتهمته أن يكون آثرها، فاستعدت عليه
هشام بن إسماعيل والي المدينة، فاستحلفه ثم أمر برد سكينة عليه، فبعث
إليها: أمرك الآن بيدك. فبعثت إليه: إنا ما ظننا أنا قد هنا عليك هذا
الهوان، إنما يلجلج في نفسي شيء، وخفت المأثم فأما إذ برئت من ذلك فما
أوثر عليك شيئاً.
ثم خلف على سكينة زيد بن عمر بن عثمان، ثم خلف عليها إبراهيم بن عبد
الرحمن بن عوف، وكانت وليه نفسها، فلم تنفذ نكاحه.
وقيل: حملت إليه في مصر فوجدته قد مات.
وروى علي بن الحسين الأصبهاني أن المدائني قال: حدَّثني أبو يعقوب
الثقفي، عن الشعبي: أن القرزدق خرج حاجاً، فلما قضى حجه عدل إلى
المدينة، فدخل إلى سكينة بنت الحسين فسلم، فقالت: يا فرزدق، من أشعر
الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت، أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنبه عزيز ... عليّ ومن زيارته لمام
ومن أمسي وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
فقال: والله لو أذنت لي لأسمعنك أحسن منه. قالت: أقيموه. فأخرج ثم عاد
إليها من الغد فدخل عليها، فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا،
قالت: كذبت صاحبك جرير اشعر منك حيث يقول:
لو لا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
كانت إذا هجر الضجيع فراشها ... كتم الحديث وعفت الأسرار
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار
فقال: والله إن أذنت لي أسمعتك أحسن منه، فأمرت به فأخرج، ثم عاد إليها
في اليوم الثالث وحولها مولدات لها كأنهن التماثيل، فنظر الفرزدق إلى
واحدة منهن فأعجب بها وبهت ينظر إليها، فقالت له سكينة: يا فرزدق، من
أشعر الناس قال: أنا، قالت: كذبت وصاحبك جرير أشعر منك حيث يقول:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
أتبعتم مقلة إنسانها غرق ... هل ما ترى تارك للعين إنسانا
فقال:
والله لئن تركتني لأسمعنك أحسن منه. فأمرت بإخراجه، فالتفت إليها وقال:
يا بنت رسول الله إن لي عليك حقاً عظيماً، صرت من مكة إرادة التسليم
عليك، فكان جزائي من ذلك تكذيبي وطردي وتفضيل جرير عليّ، ومنعك إياي أن
أنشدك شيئاً من شعري، وبي ما قد عيل صبري، وهذه المنايا تغدو وتروح،
ولعلي لا أفارق المدينة حتى أموت، فإذا مت فمري بي أن أدرج في كفني
وأدفن في حر هذه الجارية - يعني التي أعجبته - فضكحت سكينة وأمرت له
بالجارية. فحرج بها، وأمرت بالجواري، فدفعن في أقفيتهما، ونادته: يا
فرزدق، احتفظ بها وأحسن صحبتها، فإني آثرتك بها على نفسي.
قال علي بن الحسين: وأخبرني أين أبي الأزهر، قال: حدَّثنا حماد بن
إسحاق، عن أبيه، عن محمد بن سلام قال: اجتمع في ضيافة سكينة بنت
الحسين: جرير، والفرزدق، وكثير، وجميل، ونصيب، فمكثوا أياماً، ثم أذنت
لهم فدخلوا عليها، فقعدت حيث تراهم ولا يرونها، وتسمع كلامهم، ثم أخرجت
وصيفة لها وضيّة قد روت الأشعار والأحاديث، فقالت: أيكم الفرزدق؟ قال
لها: ها انا ذا، فقالت: أنت القائل:
هما دلتاني من ثمانين قامة ... كما أنقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا ... أحي فيرجى أم قتيل نحاذره
قال: نعم، قالت: عما دعاك إلى إفشاء سرها وسرك، هلا سترتها وسترت نفسك،
خذ هذه الألف والحق بأهلك، ثم دخلت على مولاتها وخرجت، فقالت: أيكم
جرير؟ فقال: ها أنا ذا. فقالت: أنت القائل:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
قال: نعم، قالت: فهلا رحبت بها؟؟؟ خذ هذه الألف وانصرف. ثم دخلت وخرجت
فقالت: أفيكم كثير؟ قال: ها أنا ذا. قالت: أنت القائل
فأعجبني منك يا عز خلائق ... كرام إذا عد الخلائق أربع
دنوك حتى يطمع الطالب الصبا ... ورفعك أسباب الهوى حين يطمع
فو الله ما يدري لريم مماطل ... أينساك إذ باعدت أم يتضرع
قال: نعم، قالت: ملحت وشكلت، خذ هذه الألف والحق بأهلك. ثم دخلت وخرجت
فقالت: أيكم نصيب؟ قال: ها أنا ذا. قالت: أنت القائل:
ولو لا أن يقول صبا نصيب ... لقلت بنفسي النساء الصغار
بنفسي كل مهضوم حشاها ... إذا ظلمت فليس لها انتصار
قال: نعم. قالت: رثيتنا صغاراً ومدحتنا كبارا، فخذ هذه الأربعة آلاف
درهم والحق بأهلك. ثم دخلت وخرجت فقالت: يا جميل، مولاتي تقرئك السلام
وتقول: والله مازلت مشتاقة لرؤيتك منذ سمعت قولك:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذا لسعيد
لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد
جعلت حديثنا بشاشة، وقتلانا شهداء، فخذ هذه ألف دينار والحق بأهلك.
وعن حماد، عن أبيه، عن أبي عبيد الله الزبيري قال: اجتمع راوية جرير،
وراوية كثير، وراوية جميل، وراوية الأحوص، وراوية نصيب، فافتخر كل واحد
منهم بصاحبه وقال: صاحبي أشعر، فحكموا سكينة بنت الحسين لما يعرفون من
عقلها وبصرها بالشعر، فاستأذنوا عليها فأذنت، فذكر لها الذي كان من
أمرهم فقالت لراوية: أليس صاحبك يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
فأي ساعة أحلى الزيارة من الطروق قبح الله صاحبك وقبح شعره، ألا قال
فادخلي بسلام؟ ثم قالت لراوية كثير: أليس صاحبك الذي يقول:
تقر بعيني ما تقر بعينها ... وأحسن شيء ما به العين تقر
وليس بعينيها أقر من النكاح، أفيحب صاحبك أن ينكح، قبح الله صاحبك وقبح
شعره.
ثم قالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي
عما أرى صاحبك هوي، إنما يطلب عقله، قبح الله صاحبك وقبح شعره.
ثم قالت لراوية نصيب أليس صاحبك الذي يقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فوا حزني من يهيم بها بعدي
فما أرى له همة إلا من يتعشقها بعده، قبحه الله وقبح شعره، ألا قال:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي حيلة بعدي
ثم قالت لراوية الأحوص: أليس صاحبك الذي يقول:
من عاشقين
تواعدا وتراسلا ... حتى إذا نجم الثريا حلقا
باتا بأنعم ليلة وألذها ... حتى إذا وضح الصباح تفرقا
قال: نعم، قالت: قبحه الله وقبح شعره، ألا قال: تعانقا.
فلم تثن على أحد يومئذ ولم تقدمه.
وفي رواية أخرى: قالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فيا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثينة لا يخفى عليّ كلامها
قال: نعم، قالت: رحم الله صاحبك، فإنه كان صادقاً في شعره، وكان كاسمه،
فحكمت له.
توفيت سكينة بمكة يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول من هذه السنة،
وصلى عليها شيبة بن نصاح المقرئ.
عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة بن عبد الله بن جدعان التيمي من
تيم قريش، واسم أبي مليكة زهير. وكان ابن جدعان أحد الأجواد، وكان ماله
عظيماً، وكانت له جفنة مباحة، فلما أسن حجر عليها رهطه، فإذا أعطى
رجعوا على المعطي فأخذوه منه، فكان إذا جاءه سائل قال له: كن مني
قريباً حتى ألطمك ولا ترضى مني إلا أن تلطمني، أو تفدي بلطمتك بفداء
رغيب. فلما أعلم أهله بذلك خلوا بينه وبين ماله.
وكان ابن جدعان يقول:
إني وإن لم ينل مالي مدى خلقي ... وهاب ما ملكت كفاي من مال
لا أحبس المال إلا حيث أتلفه ... ولا يغيرني حال على حال
وكان ابن أبي مليكة فقيهاً، رأى ثلاثين صحابياً، وتوفي في هذه السنة.
عبدة بن أبي لبابة، أبو القاسم: سمع من عبد الله بن عمر، قال الأوزاعي:
قال عبدة: إن أقرب الناس من الرياء أمنهم له.
عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي: عن علي ابن أبي جميلة قال: قال عبد
الله بن أبي زكريا: عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قبل أن أقدر
منه على ما أريد. قال: وكان لا يدع أحداً يغتاب في مجلسه أحداً، يقول:
إن ذكرتم الله أعناكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم.
أسند عبد الله عن عبادة، وأبي الدرداء، وتوفي في هذه السنة علي بن عبد
الله بن العباس بن عبد المطلب، أبو محمد أمه زرعة بنت مسرح، ولد ليلة
قتل علي بن أبي طالب عليه السلام في رمضان سنة أربعين، فسمي باسمه،
وكني بكنيته، فقال له عبد الملك بن مروان: لا أحتمل بك الاسم والكنية.
فغير كنيته، فكني أبا محمد.
وكان أجمل قرشي على وجه الأرض، وأكثر صلاة، كان يصلي في اليوم والليلة
ألف ركعة، وكان يصبغ بالسواد.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو
نعيم أحمد بن عبد الله قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن الفضل قال:
حدَّثنا محمد بن إسحاق الثقفي، قال: حدَّثني محمد بن زكريا قال:
حدَّثنا محمد بن عبد الرحمن التيمي قال: حدَّثني أبي عن هشام بن سليمان
المخزومي: أن علي بن عبد الله العباس كان إذا قدم مكة حاجاً أو معتمراً
عطلت قريش مجالسها في البيت الحرام، وهجرت مواضع حلقها، ولزمت مجلس علي
بن عبد الله إعظاماً وإجلالاً وتبجيلاً، فإن قعد قعدوا، وإن نهض نهضوا،
وإن مشى مشوا جميعاً حوله، وكان لا يرى لقريشي في المسجد الحرام مجلس
ذكر يجتمع فيه حتى يخرج علي بن عبد الله من الحرم.
توفي علي بالشام في هذه السنة. وقيل: في سنة ثماني عشرة.
علي بن رباح بن قصير، أبو عبد الله اللخمي: ولد سنة خمس عشرة، عام
اليرموك، وكان أعور، ذهبت عينه يوم ذات الصواري في البحر مع عبد الله
بن أبي سرح سنة أربع وثلاثين، وكان يفد لليمانية من أهل مصر على عبد
الملك بن مروان، وكانت له منزلة من عبد العزيز بن مروان، وهو الذي زف
أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان إلى الوليد بن عبد الملك ثم عتب
عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية، فلم يزل بها حتى توفي هذه السنة. وقيل
سنة أربع وعشرة ومائة.
عمران بن ملحان، أبو رجاء العطاردي: تميمي مخضرم، ولد قبل الهجرة بإحدى
عشر سنة، توفي في هذه السنة وقد بلغ مائة وثماني وعشرين سنة.
فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أمها أم إسحاق بنت
طلحة بن عبيد الله تزوجها الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فولدت له
عبد الله، ثم مات عنها زوجها فتزوجها عبد الله بن عمرو بن عثمان بن
عفان.
أنبأنا
الحسين بن محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال:
أبو طاهر المخلص قال: حدَّثنا أحمد بن سليمان الطوسي قال: حدَّثنا
الزبير بن بكار قال: كان الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله
عنهم قد خطب إلى عمه الحسين بن علي، فقال له الحسين: يا ابن أخي، قد
انتظرت منك هذا، فانطلق معي. فخرج حتى أدخله منزله، ثم أخرج إليه
بنيتيه: فاطمة، وسكينة، فقال: اختر فاختار فاطمة، فزوجه إياها، وكان
يقال: إن أمر سكينة مردود إليها، وإنها لمنقطعة، ولما حضرت الحسن بن
الحسن الوفاة قال لفاطمة: إنك امرأة مرغوب فيك، وكأني بعبد الله بن
عمرو بن عثمان إذا خرج بجنازي قد جاء على فرسه مرجلاً جمته، لابساً
حلته، يسير في جنب الناس يتعرض لك، فأنكحي من شئت سواه، فإني لا أدع من
الدنيا روائي همّاً غيرك، فقالت له: أنت آمن من ذلك، وأثلجته بالأيمان
من العتق والصدقة أن لا تتزوجه. ومات الحسن، وخرج بجنازته، فوافاها عبد
الله بن عمرو بن عثمان في الحال التي وصف الحسن، وكان يقال لعبد الله
بن عمرو بن عثمان: المطرف - من حسنه - فنظر إلى فاطمة حاسرة تضرب
وجهها، فأرسل إليها إن لنا في وجهك حاجة فأرفقي به، فاسترخت يداها،
وعرف ذلك فيها، وخمرت وجهها، فلما حلت أرسل من يخطبها، فقالت: كيف
بيميني التي حلفت بها؟ فأرسل إليها: لك بكل مملوك مملوكان، وعن كل شيء
شيئان، فعوضها عن يمنيها، فنكحته، وولدت له محمداً، والقاسم ورقية.
وكان عبد الله بن الحسن يقول: ما أبغضت بغض عبد الله بن عمرو أحداً،
ولا أحببت حب ابنه محمد أحداً.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا محمد بن الحسين بن القطان قال: أخبرنا محمد بن الحسن النقاش: أن
الحسن بن سفيان أخبرهم قال: حدَّثنا إبراهيم بن المنذر قال: أخبرنا
محمد بن معن الغفاري قال: حدَّثني محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان
قال: جمعتنا أمنا فاطمة بنت الحسين بن علي، فقالت: يا بني، والله ما
نال أحد من أهل السفه بسفههم شيئاً، ولا أدركوه من لذاتهم إلا وقد
نالوه أهل المروءات بمروآتهم، فاستتروا بجميل ستر الله.
قتادة بن دعامة، أبو الخطاب السدوسي: أسند عن أنس بن مالك، وعبد الله
بن سرخس، وحنظلة الكاتب، وأبي الطفيل. وكان يرسل الحديث عن الشعبي
ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي قلابة، ولم يسمع منهم.
وسأل سعيد بن المسيب وأكثر، فقال له: أكل ما سألتني عنه تحفظه؟ قال:
نعم، سألتك عن كذا فقلت كذا، وعن كذا فقلت كذا، قال سعيد: ما ظننت أن
الله خلق مثلك.
وكان يقول: ما سمعت أذناي شيئاً إلا وعاه قلبي.
وروى شهاب بن خراش عن قتادة، قال: باب من العلم يحفظه الرجل يطلب به
صلاح نفسه وصلاح الناس أفضل من عبادة حول كامل.
ميمون بن مهران، أبو أيوب مولى بني النضر بن معاوية كان مكاتباً لهم،
وأدى كتابته وعتق، وكان بزازاً، وتشاغل بالعلم، وسأل ابن المسيب عن
دقائق العلوم، استعمله عمر بن عبد العزيز على خراج الجزيرة، ومولده سنة
أربعين، توفي في هذه السنة. وأسند عن ابن عمر، وابن عباس وغيرهما. وكان
ثقة أخبرنا علي بن محمد بن حسون بإسناده له عن عيسى بن كثير الأسدي،
قال: مشيت مع ميمون بن مهران حتى إذا أتى باب داره ومعه ابنه عمرو،
فلما أردت أن أنصرف قال له عمرو: يا أبت، ألا تعرض عليه العشاء، قال:
ليس هذا من نيتي موسى بن وردان مولى عبد الله بن أبي سرح العامري، يكنى
أبا عمر سمع من سعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وغيرهم
من الصحابة. روى عنه الليث بن سعد وغيره، وكان يقص بمصر. توفي في هذه
السنة.
نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الله: أصابه عبد الله في
غزاته. وقد روى عنه وعن أبي هريرة، والربيع بنت مسعود وغيرهم، وكان
ثقة، وبعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر يعلمهم السنن. توفي هذه السنة.
أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر رضي الله عنه: كانت من
الأجواد الكرماء، وكانت تقول: لكل قوم نهمة في شيء، ونهمتي في العطاء.
وكانت تعتق في كل جمعة رقبة وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل.
أخبرنا
المحمدان ابن ناصر، وابن عبد الباقي، قالا: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال:
أخبرنا أحمد بن علي التوزي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الدقاق، قال:
أخبرنا أبو علي بن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حدَّثنا
الحسن بن علي بن عبد العزيز الجزري، عن ضمرة بن ربيعة، عن علي بن أبي
جميلة، قال: سمعت أم البنين بنت عبد العزيز تقول: أف للبخل، لو كان
قميصاً ما لبسته، ولو كان طريقاً ما سلكته.
قال القريشي: وحدثني محمد بن الحسن، قال: حدَّثني مروان بن محمد بن عبد
الملك، قال: دخلت عزة على أم البنين، فقالت لها ما يقول كثير:
قضى كل ذي دين علمت غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
ما كان هذا الدين يا عزة؟ فاستحيت فقالت: عليّ ذاك. قالت: كنت وعدته
قبلة فخرجت منها، فقالت أم البنين: أنجزيها له وإثمها عليّ.
قال يوسف: وحدثني رجل من بني أمية يكنى أبا سعيد، قال: بلغني أن أم
البنين أعتقت لكلمتها هذه أربعين رقبة، وكانت إذا ذكرتها بكت وقالت: يا
ليتني خرست ولم أتكلم بها.
ثم دخلت
سنة ثماني عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها: غزوة معاوية وسليمان ابني هشام بن عبد الملك الروم.
وفيها: وجه بكير بن ماهان عمار بن يزيد إلى خراسان والياً على شيعة بني
العباس وغير اسمه وتسمى بخداش، ودعا إلى محمد بن علي بن عبد الله بن
العباس فتسارع الناس إليه وسمعوا أطاعوا، ثم غير ما دعاهم إليه وكذب
وأظهر دين الخرمية، ورخص لبعضهم في نساء بعض وأخبرهم أن ذلك من أمر
محمد بن علي، فبلغ خبره أسد بن عبد الله، فوضع عليه العيون حتى ظفر به،
فأمر به فقطعت يده، وقلع لسانه، وسملت عينيه وقتله وصلبه بأمل.
وفيها: اتخذ أسد مدينة بلخ داراً، ونقل إليها الدواوين، واتخذ المصانع،
ثم غزا طخارستان، ففتح وأصاب وسبى.
وفيها: عزل خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم عن المدينة، واستعمل
عليها محمد بن هشام بن إسماعيل، وجاء كتاب إلى أبي بكر بن حزم يوم عزل
خالد عن المدينة. بإمرته فصعد المنبر وصلى بالناس ست أيام، ثم قدم محمد
بن هشام من مكة عاملاً على المدينة.
وفيها: حج بالناس محمد بن هشام وهو أمير مكة والمدينة والطائف. قاله
الواقدي.
وقال غيره: إنما كان عامل المدينة في هذه السنة خالد بن عبد الملك.
وكان على العراق خالد بن عبد الله وإليه المشرق، وعامله على خراسان
أخوه أسد بن عبد الله، وعامله على أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد،
وعامله على البصرة وأحداثها وقضائها والصلاة بأهلها بلال بن أبي بردة.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا
أبو بكر أحمد بن محمد المنكدري، قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن
الصلت، قال: حدَّثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدَّثني أبي، قال:
حدَّثنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا المدائني، قال: نظر مالك بن دينار
إلى رجل قد اشترى سمكة بستة دراهم، وثيابه تساوي ثلاثة دراهم، فقال: يا
هذا، اشتريت سمكة بستة دراهم وثيابك لعلها تساوي ثلاثة دراهم، فقال له:
يا أبا يحيى لسب أريدها لنفسي إنما اشتريتها للأمير الظالم الذي
يطالبنا بما لا نطيق - وذكر له بلال بن أبي بردة - قال: فامض معي إليه،
فمضى فاستأذن فأذن له، فقال له: يا ذا الرجل، أزل عن الناس ما تعتمده
من الظلم، ولا تعرض لهذا البائس، قال: قد أزلت عنه المظلمة لمكانك يا
أبا يحيى، ادع الله لي دعوة، قال: وما ينفعك أن أدعو لك وعلى بابك
مائتان يدعون عليك
؟ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إياس بن سلمة بن الأكوع، أبو بكر الأسلمي: روى عن أبيه، توفي بالمدينة.
ثابت بن أسلم، أبو محمد البناني البصري: نسب على بنانة بنت القين بن
حبشي تربى حاضنه، حضنت أولاد سعد بن لؤي، ونسب أولاده إليها.
أسند ثابت عن ابن عمر، وابن الزبير، وأنس وغيرهم، وكان متعبداً كثير
الصلاة والصيام.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو علي
التميمي، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدَّثنا عبد الله بن
أحمد بن حنبل، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثنا حسن بن موسى، قال:
حدَّثنا أبو هلال، عن بكر ابن عبد الله، قال:
من سره أن
ينظر إلى أعبد رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى ثابت البناني، فما
أدركنا الذي هو أعبد منه، تراه في يوم معمعاني بعيد ما بين الطرفين،
يظل صائماً، ويروح ما بين جبهته وقدمه.
قال أحمد: و حدَّثنا سيار، حدَّثنا جعفر، قال: سمعت ثابتاً يقول: ما
تركت في المسجد الجامع سارية إلا وقد ختمت القرآن عندها وبكيت عندها.
حي بن يؤمن بن جحيل، أبو عشانة المعافري: حدث عنه أبو قبيل، والليث،
وابن لهيعة. وكان من العباد. توفي في هذه السنة.
الحجاج بن فرافصة: روى عن أنس بن مالك، وكان من العباد المشتغلين.
أخبرنا علي بن عبيد الله، قال: أخبرنا أبو محمد الصيرفي، قال: أخبرنا
أبو محمد حفص الكتاني، قال: حدَّثنا أبو بكر النيسابوري، قال: حدَّثنا
يوسف، قال: حدَّثنا محمد بن كثير، عن سفيان، قال: بت عند الحجاج بن
فراصفة اثني عشرة ليلة، ما رأيته أكل ولا شرب ولا نام.
عبد الله بن عامر، أبو عبد الرحمن اليحصبي: إمام أهل الشام في القراءة،
قرأ على المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وقرأ المغيرة على عثمان. وروى
ابن عامر عن واثلة، النعمان بن بشير، وولي القضاء وتوفي هذه السنة.
عبادة بن نسي: قاضي الأردن وسيد أهلها، رأى عقبة بن عامر الجهني، وأبا
عبد الله الصنابحي. توفي هذه السنة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: حدَّثنا محمد بن هبة الله الطبري، قال:
حدَّثنا محمد بن الحسين بن الفضل، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد بن
دستوريه، قال: حدَّثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدَّثني سعيد بن أسد، قال:
حدَّثنا ضمرة، عن رجاء، قال: كان بين رجل وعباده بن نسي منازعة، فأسرع
إليه الرجل فلقي رجاء بن حيوية، فقال: بلغني أن فلاناً كان منه إليك
فأخبرني، فقال: لو لا أن تكون غيبة مني لأخبرتك بما كان منه.
عروة بن أذينة، أبو عامر: من بني ليث، وكان شريفاً أديباً ثبتاً يحمل
عنه الحديث، وفد هشام بن عبد الملك، فقال له: ألست القائل:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنيني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنيني
قال: بلى، قال: فما أقدمك علينا؟ قال: سأنظر في ذلك، وخرج وارتحل من
ساعته. وبلغ هشام ذلك فأتبعه بجائزته.
ووقفت عليه امرأة، فقالت: أنت الذي يقال عنك الرجل الصالح وأنت تقول:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... عمدت نحو سقاء القوم أبترد
هذا يؤدي ببرد الماء طاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد
فوالله ما قال هذا صالح قط.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ بإسناد له عن عبد الجبار بن سعيد، قال: مرت
سكينة ومعها جواريها ليلة بالعقيق، فإذا هي بعروة بن أذينة، فقالت
لجواريها: من في قصر ابن عنبسة جالس، فقلن لها: عروة بن أذينة، فمالت
إليه فقالت: أنت يا أبا عامر تزعم أنك بريء وأنت الذي تقول:
قالت وقد أبثثها وجدي فبحت به ... قد كنت ويحي تحت الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطي هواك وما ألقى على بصري
هن أحرار إن كان خرج هذا من قلب سليم، فإن شئت أن تعتقهن فقل.
أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني: كان كثير التعبد دائم
البكاء، قد جعلت الدموع في خديه طريقين.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال:
أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: أخبرنا محمد بن إبراهيم، قال: حدَّثنا
عبد الصمد بن سعيد، قال: سمعت أبا أيوب قال: سمعت يزيد بن عبد ربه
يقول: عدت أبا بكر بن أبي مريم وهو يقول في النزع، فقلت له: رحمك الله،
لو جرعت جرعة ماء، فقال: بيده لا، ثم جاء الليل فقال: إذن، فقلت: نعم،
فقطرنا في فمه قطرة ماء ثم مات.
ثم دخلت
سنة تسع عشرة ومائة
فمن الحوادث فيها: غزوة الوليد بن القعقاع العبسي أرض الروم وفيها: غزا
أسد بن عبد الله فملأ يديه من السبي، ولقي خاقان ملك الترك فقتله، وقتل
بشراً كثيراً من أصحابه وانصرف بغنائم كثيرة.
وكان
الحارث بن شريح قد انضم إلى خاقان، فتبارزوا، فانهزم الحارث والترك
وخاقان وتركوا قدورهم تغلي، وتبعهم الناس ثلاثة فراسخ يقتلون من قدروا
عليه، واستاقوا من أغنامهم أكثر من خمسين ومائة ألف شاة ودواب كثيرة،
ولحقهم أسد عند الظهر ووجل بخاقان بذدونه، فحماه الحارث بن شريح، وبعث
أسد بجواري الترك إلى دهاقين خراسان، واستنفذ من كان في أيديهم من
المسلمين، ومضى خاقان إلى الجوزجان فارتحل أسد فنزل بها، فهرب خاقان
ورجع أسد إلى بلخ، فقتلوا من قدروا عليه منهم، ثم رجع خاقان إلى بلاده
وأخذ في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند، وحمل الحارث وأصحابه على خمسة
آلاف برذون.
وأن خاقان لعب مع بعض الملوك بالنرد، فتنازعا فضرب ذلك الملك يد خاقان
فكسرها، فحلف خاقان ليكسرن يده، فبيت خاقان فقتله، وبعث أسد إلى خالد
بن عبد الله يخبره، فبعث إلى هشام يبشره بالفتح، فنزل هشام عن سريره
فسجد سجدة الشكر.
وقد روي لنا في حديث طول من أخبار هشام أنه جاءه الخبر أن خاقان قد خرج
فاستباح أرمينية، فلما سمع ذلك ضرب مضرباً وآلى ألا يكنه سقف بيت وأن
لا يغتسل من جنابة حتى يفتح الله عليه. فأمر مسلمة فعسكر، فلما أصبح
أذن للناس إذناً عاماً فأخبرهم بما ورد من الخبر. وبعث إلى سعيد بن
عمرو الحرشي فأنفذه، فجعل لكل من معه علماً في رمحه، فوصلوا ومع خاقان
ثمانية عشر ألف أسير من المسلمين، فكبر المسلمون تكبيرة واحدة، فرأت
الإسراء الأعلام، فعلموا أنها للمسلمين، فقطعوا أكتاف أنفسهم، وتناولوا
خشباً كان الكفار قد جمعوه، فثار الكفار إلى خيلهم، فهذا يسرج، وهذا
يركب، فلحقتهم خيول المسلمين، وأدرك خاقان فقتل واستبيح عسكرهم، وقتل
منهم مقتلة عظيمة وانهزم الباقون وقتل ابن خاقان.
وفي هذه السنة قتل المغيرة بن سعيد ومن معه.
خرج المغيرة بن سعيد وسار بظاهر الكوفة في نفر، فأخذهم خالد فقتلهم،
وأما المغيرة فذكر أنه كان ساحراً.
قال الأعمش: سمعت المغيرة يقول: لو أراد علي رضي الله عنه أن يحيي
عاداً وثموداً وقروناً بي ذلك كثيراً لأحياها.
قال أبو نعيم: كان المغيرة قد نظر في السحر فأخذه خالد القسري فقتله.
قال سعيد بن مرادابند: رأيت خالداً حين أتى بالمغيرة وبيان في ستة نفر
أو سبعة، أمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع، وأمر بأطنان قصب ونفط،
فأحضرا ثم أمر المغير أن يتناول طناً فتأنى فصبت الصياط على رأسه،
فتناول طناً فاحتضنه، فشد عليه ثم صب عليه وعلى الطن نفط ثم ألهبت
فيهما النار فاحترقا، ثم أمر الرهط ففعلوا كذلك. ثم أمر بياناً أخرهم
فتقدم إلى الطن مبادراً فاحتضنه فقال خالد: ويلكم في كل أمركم تحمقون،
هلا رأستم هذا لا المغيرة، ثم أحرقه.
وفي هذه السنة خرج بهلول بن بشر الملقب كثارة فقتل.
وكان منزله بدابق، وكان يتأله، فخرج يريد الحج، فأمر غلامه أن يبتاع له
بدرهم خلاً فجاءه بخمر، فأمره بردها وأخذ الدرهم، فمل يجب إلى ذلك،
فجاء بهلول إلى عامل القرية فكلمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن
قومك، فمضى في حجه، وعزم على الخروج على السلطان، فلقي بمكة من كان على
مثل رأيه، فاتّعدوا قرية من قرى الموصل، فاجتمعوا أربعين، وأمروا
البهلول، فجعلوا لا يمرون على أحد إلا أخبروه أنهم أقبلوا من عند هشام
إلى خالد لينفذهم في أعمالهم، فأخذوا دواباً من دواب البريد، فلما
انتهوا إلى القرية التي كانت ابتاع الغلام منها الخلّ، فقال بهلول:
نبدأ بهذا العامل الذي قال ما قال، فقال له أصحابه: نحن نريد قلت خالد،
فإن بدأنا بهذا شّهرنا وحذرنا خالد وغيره، فننشدك الله أن تقتل هذا
فيفلت منا خالد، فقال: لا أدع ما يلزمني لما بعده، وأنا أرجو أن أقتل
هذا وأدرك خالدً، وقد قال الله عز وجل: " قاتلوا الذين يلونكم من
الكفار " فأتاه فقتله فنذر بهم الناس وعلموا أنهم خوارج فابتدروا
هرّاباً.
وخرجت
البرد إلى خالد، فأعلموه أن خارجة قد خرجت، فبعث إليهم جنداً فالتقوا
على الفرات فهزمهم البهلول، وارتحل إلى الموصل فخافه عامل الموصل،
فتوجه يريد هشاماً، فخرجت إليه الأجناد فكانوا عشرين ألفاً وهو في
سبعين، فقاتلهم فقتل منهم جماعة، ثم عقد أصحابه دوابهم وترجلوا،
فأوجعوا في الناس، ثم طعنه رجل فوق، فقال أصحابه: وَلِّ أمرنا من يقوم
به، قال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني فإن هلك فعمرو
اليشكري، ثم مات من ليلته، فلما أصبحوا هرب دعامة وخلاهم، فخرج عمرو
اليشكري فلم يلبث أن قتل، ثم خرج العمريري، فخرج إليه الصمط بن مسلم،
فانهزمت الحرورية فتلقاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم فرموهم بالحجارة حتى
قتلوهم.
ثم خرج وزير السجستاني، وكان مخرجه بالحيرة، فجعل لا يمر بقرية إلا
أحرقها ولا أحد إلا قتله، وغلب على بيت المال، فوجه إليه خالد قائداً
من أصحابه فقتل عامة أصحابه وارتث، فحمل إلى خالد، فقرأ عليه آيات من
القرآن ووعظه، فأعجب خالد من كلامه فحبسه، وكان يبعث إليه في الليالي
فيؤتى به فيحادثه، فبلغ ذلك هشاماً وقيل: أخذ حروريا ً واتخذه سميراً،
فغضب هشام وكتب إلى خالد يشتمه ويأمره بقتله وإحراقه. فشده وأصحابه
بأطنان القصب، فصب عليهم النفط وأحرقهم بالنار، فما منهم إلا من اضطرب
إلا هذا الرجل، فإنه لم يتحرك، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
وفي هذه السنة خرج الصحاري بن شبيب على خالد، ووافقه جماعة، فبعث إليهم
خالد جنداً فاقتتلوا فقتلوهم بأجمعهم.
وفي هذه السنة حج بالناس مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وحج معه ابن شهاب
الزهري، وكان العامل في هذه السنة على مكة والمدينة والطائف محمد بن
هشام، وعلى العراق والمشرق خالد بن عبد الله، وعامل خالد على خراسان
أخوه أسد.
وقد قيل إن أسداً هلك في هذه السنة استخلف جعفر بن حنظلة البهراني،
وقيل: إنما هلك أسد في سنة عشرين، وكان على أرمينية وأذربيجان مروان بن
محمد بن مروان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حبيب بن أبي ثابت الأسدي، مولى لبني كاهل: روي عن عمر وابن عباس وجابر
وحكيم بن حرام، وأنس بن مالك وابن أبي أوفى. وكان كثير التعبد.
قال أبو بكر بن عياش: لو رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجداً لقلت: ميت من
طول سجوده، وكان كريماً، أنفق على القراء مائة ألف، وكان يقول: ما
استقرضت شيئاً من أحد أحب إلي من نفسي، أقول لها: أمهلي حتى يجيء من
حيث أحب.
وتوفي في هذه السنة.
حبيب أبو محمد الفارسي: حضر مجلس الحسن البصري فتأثر بموعظته، فخرج مما
كان يملكه وتعبد. وكان له زوجة يقال لها عمرة تنبهه في اسحر وتقول: قم
يا رجل فقد ذهب الليل وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد والزاد قليل،
وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ويقينا.
أخبرنا أبو بكر العامري، قال: أخبرنا أبو سعيد الحيري، قال: أخبرنا ابن
باكويه الشيرازي، قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الشيروزي، قال: حدثنا
عبد الصمد بن محمد العباداني، قال: حدثنا خلف بن الوليد، قال: اشترى
حبيب الفارسي نفسه ربه أربع مرات بأربعين ألف درهم، أخرج بدرة فقال: يا
رب اشتريت منك نفسي بهذه، وأخرج بدرة أخرى، فقال: إلهي إن كنت قبلت تلك
فهذه شكرانها، ثم أخرج الثالثة فقال: إلهي إن كنت لم تقبل الأولى
والثانية فاقبل هذه، ثم أخرج الرابعة فقال: إلهي إن كنت قبلت الثالثة
فهذه شكر لها.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا بإسناد له عن إسماعيل بن زكريا وكان جاراً
لحبيب، قال: كنت إذا أمسيت سمعت بكاءه، وإذا أصبحت سمعت بكاءه، فأتيت
أهله فقلت: ما شأنه يبكي إذا أمسى أن لا يصبح وإذا أصبح أن لا يمسي.
أخبرنا
المبارك بن علي الصيرفي، قال: أخبرنا عبد الواحد بن محمد الصباغ، قال:
أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا عبد العزيز بن الحسن الضراب، قال:
حدثنا أبي، قال: حدثنا أحمد بن مروان، قال: حدثنا الحسن بن علي، قال
أخبرنا محمد بن عبد الله، عن عبد الواحد بن زيد: أن حبيباً أبا محمد
جزع جزعاً شديداً عند الموت، فجعل يقول بالفارسية: أريد أسافر سفراً ما
سافرته قط، أريد أن أسلك طريقاً ما سلكته قط، أريد أن أدخل تحت التراب
فأبقى تحته إلى يوم القيامة ثم أوقف بين يدي الله فأخاف أن يقول لي:
حبيب، هات تسبيحة واحدة سبحتني في ستين سنة لم يظفر بك الشيطان فيها،
فماذا أقول وليس لي حيلة، أقول: يا رب هو ذا قد أتيتك مقبوض اليدين إلى
عنقي.
قال عبد الواحد: هذا عبد الله، ستين سنة مشتغلاً به ولم يشتغل من
الدنيا بشيء قط، فأي شيء حالنا؟ واغوثاه بالله.
مجمع بن سمعان، أبو حمزة. كان سفيان الثوري يرى له أمراً عظيماً حتى
قال: ليس شيء من عملي أرجو ألا يشوبه شيء كحبي لمجمع التيمي.
وقال سفيان: يروى عن أبي حيان التيمي أنه قال وحلف: ما من عمله شيء
أوثق في نفسه من حبه من مجمع التيمي.
وكان أبو بكر بن عياش يقول: ومن كان أروع من مجمع.
ورأيي مجمع في إزار سفيان خرقاً فأعطاه أربعة آلاف درهم، قال سفيان: لا
أحتاج إليها، قال: صدقت، أنت لا تحتاج إليها ولكني أحتاج.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن هبة الله الطبري، قال:
حدثنا محمد بن الحسين بن الفضل، قال: حدَّثنا ابن درستويه، قال:
حدَّثنا يعقوب بن سفيان، قال حدَّثنا أبو بكر، قال حدَّثنا سفيان، قال:
قال مسعر: جاء مجمع إلى أسوق بشاة يبيعها، فقال يخيل إليّ أن في لبنها
ملوحة.
قال أبو حاتم الرازي: دعا مجمع ربه عز وجل أن يميته قبل الفتنة فمات من
ليلته، وخرج زيد بن علي من الغد.
ثم دخلت
سنة عشرين ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة سليمان بن هشام الصائفة وافتتاحه سندرة وغزوة
إسحاق بن مسلم العقيلي فافتتح قلاعاً.
وغزوة مروان بن محمد أرض الترك. وكان قد ولاه أرمينية، فكتب إليه
يستأذنه في الدخول إلى بلادهم، فكتب إليه هشام: كيف أفعل ما لم يفعله
أحد قبلي. فكتب إليه: إن الناس يشتهون ذلك وأرجو أن يكون فيه خير. فأذن
له، فدخل والقوم غارون فهربوا إلى الآجام، فأضرمها ناراً واقتتلوا
قتالاً شديداً، وظفر المسلمون، وبعثوا إليه بالخبر.
وفي هذه السنة توفي أسد بن عبد الله، فاستخلف جعفر بن حنظلة البهراني،
فعلم أربعة أشهر، وجاء عهد نصر بن سيار في رجب.
وفي هذه السنة وجهت شيعة بني العباس بخراسان إلى محمد بن علي سليمان بن
كثير ليعلمه أمرهم وما هم عليه.
وسبب ذلك موجدة كانت من محمد بن عليّ على شيعته بخراسان من أجل طاعتهم
لخداش الذي كان يكذب على محمد بن علي، فترك مكاتبتهم، فبعثوا سليمان بن
كثير، فقدم عليه، فعنف أهل خراسان فيما فعلوا.
ثم وجه محمد بن علي بن بكير بن ماهان إلى خراسان بعد منصرف سليمان
يعلمهم أن خداشاً حمل شيعته على غير منهاجه فتابوا من ذلك.
وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله عن أعماله التي
ولاه كلها وكان لذلك أسباب منها: أنه اتخذ أموالاً وخفرا، فبلغت عشرين
ألف ألف، وكانوا يشيرون عليه أن يعرض بعضها على هشام فلا يفعل. فبلغ
ذلك هشاماً، ثم بلغه أن خالداً استخف برجل من قريش، وكان يقول لابنه:
ما أنت بدون مسلمة بن هشام؟ وكان خالد يذكر هشاماً فيقول: ابن الحمقاء،
وكانت أم هشام تستحمق. فكتب إليه هشام كتاباً في فيه غلظة، وقَّبح له
استخفافه بقريش، وسبه في الكتاب وعزم على عزله، وأخفى ذلك، فلما أحس
طارق خليفة خالد بالأمر ركب إلى خالد، فقال له اركب إلى أمير المؤمنين
فاعتذر إليه من شيء بلغه عنك: فقال: كيف أركب إليه بغير إذنه؟ قال: فسر
في عملك وأتقدمك، فأستأذنه لك، قال: ولا هذا، قال فأذهب فأضمن لأمير
المؤمنين جميع ما انكسر في هذه السنين، قال: وما مبلغه؟ قال: مائة ألف
ألف، قال: ومن أين أجد هذا؟ والله ما أجد عشرة آلاف درهم، قال: نتحمل
عنك ونفرق الباقي على العمال، قال: أين للئين إن كنت سوغت قوماً شيئاً
ثم أرجع فيه.
فخرج طارق
يبكي، وقال: هذا آخر ما نلقتي في الدنيا، وجاء كتاب هشام إلى يوسف بن
عمر: سر إلى العراق فقد وليتكها، وإياك أن تُعلم أحداً، وخذ ابن
النصرانية وعماله فأشفني منهم، فقدم يوسف العراق في جمادى فأخذ صالح،
فحبسه فصولح على تسعة آلاف ألف درهم، وقيل أخذ مائة ألف ألف فكانت
ولاية خالد في شوال سنة عشر ثم عزل في جمادى الآخر سنة عشرين.
وفي هذه السنة ولي يوسف بن عمر العراق فقدم والياً عليها على ما ذكرنا،
فولى خراسان جُديع بن علي الكرماني، وعزل جعفر بن حنظلة. واستشار هشان
فيمن يولي العراق، فذكروا له رجالاً، فاختار نصر بن سيار فولاه، وكتب
إليه أن يكاتب يوسف بن عمر، فكتب يوسف عهد نصر بن سيار مع عبد الكريم
الحنفي فأعطاه نصر عشرة آلاف درهم، وأحسن الولاية والجباية، وبث العمال
وعمرت خراسان عمارة لم تعمر قبلها مثلها.
وفي هذه السنة حدج بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل، وكان هو العامل على
المدينة ومكة والطائف.
وقيل: بل حج بهم سليمان بن هشام بن عبد الملك. وقيل: يزيد بن هشام.
وكان على المشرق والعراق يوسف بن عمر، وعلى خراسان نصر بن سيار، وقيل:
جعفر بن حنظلة، وعلى البصرة كثير بن عبد الله السلمي من قبل يوسف بن
عمر، وعلى قضائها عامر بن عبيدة الباهلي، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان
بن محمد، وعلى قاضي الكوفة ابن شبرمة.
؟ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أسد بن عبد الله، أخو خالد بن عبد الله القسري: وقد ذكرنا ما كان إليه
من خراسان وغيرها. وكانت به دبيلة في جوفه، فحضر المهرجان وهو ببلخ،
فقدم عليه الأمراء والدهاقين بالهدايا، وكان فيمن قدم عليه عامله على
هراة ودهقانها، فقدما بهدية قومت ألف ألف، كان فيها قصر من ذهب،. وقصر
من فضة، وأباريق من ذهب وفضة، وصحاف من ذهب وفضة، فأقبلا وأسد جالس على
سرير وأشراف الناس من خراسان على الكراسي، فوضعا القصرين، ثن وضعا
خلفهما الأباريق والصحاف والديباج القوهي، وغير ذلك. ففرق ذلك ثم مرض
فأفاق، فدم إليه كمثرى، فأخذ واحدة فرمى بها إلى عامل له فانقطع
الدبيلة فهلك.
سلم بن قيس العلوي يروي عن أنس. روى عنه جرير بن حازم. وثقه يحيى وأبو
بكر بن أبي داود.
وقال يحيى في رواية: هو ضعيف. وقال حماد: ذكرته لشعبة، فقال: الذي يرى
الهلال قبل الناس بيومين. قال له الحسن: خل بين الناس وهلالهم حتى
يروه. قال ابن قتيبة: يقال إن أشفار عينيه ابيضت، وكان إذا أبصر رأى
أشفار عينيه فيظنها الهلال.
وليس من أولاد علي بن أبي طالب، إنما هو من ولد علي بن يونان، قيل:
كانوا بالبصرة، وثم آخر يقال له: خالد بن يزيد العلوي من ولد علي بن
الأسود، يروي عن الحسن البصري، وثم آخر يقال له جندب بن سرحان العلوي
من بني مدلج، حدث عن بليغ، روى عنه ابن لهيعة، ومدلج من بني عبد مناة
بن كنانة، وإنما قيل لولده بنو علي لأن أمهم الدفراء واسمها فكيهة
تزوجها بعد أبيهم علي بن مسعود الغساني، فنسبوا إليه. وإياهم عنى أمية
بن أبي الصلت بقوله:
لله در بن علي ... إيّم منهم وناكح
وما عدا من ذكرنا ممن يقال له العلوي فمنسوب إلى علي بن أبي طالب رضي
الله عنه.
عبد الله بن كثير، أبو معبد المقري مولى عمر بن علقمة الكناني، ويقال:
الداري: والدار بطن من لخم، وهو من أبناء فارس الذين كانوا بصنعاء،
بعثهم كسرى إلى اليمن لما طرد الحبشية عنها، وهو أحد القراء السبعة.
أخذ عن مجاهد، وقرأ عليه أبو عمرو بن العلاء.
وكان ذا دين وورع، وكان عطاراً، وتوفي بمكة في هذه السنة.
عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان أبو عمر الظفري الأنصاري كان له علم
بالسير والمغازي. روى عن ابن إسحاق وغيره، وكان ثقة، ووفد على عمر بن
عبد العزيز في خلافته في دين لزمه، فقضاء عنه، وأمر له بمعونة، وأمره
أن يجلس في مسجد دمشق فيحدث الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومناقب أصحابه رضي الله عنهم، وقال: إن بني أمية كانوا يكرهون هذا
وينهون عنه، فأجلس فحدث، ففعل.
ثم رجع إلى المدينة فتوفي بها في هذه السنة.
قيس بن مسلم الجدلي: روى عن طارق بن شهاب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى،
وابن جبير. وكان من المتعبدين البكائين، وتوفي في هذه السنة.
أخبرنا
عبد الوهاب الحافظ بإسناده عن أبي بكر بن عبيد، قال: حدثني محمد بن
الحسين، قال: حدَّثنا الحميدي، قال حدَّثنا سفيان، قال: كان قيس بن
مسلم يصلي حتى السحر، ثم يجلس فيمج البكاء ساعة بعد ساعة ويقول: لأمرٍ
ما خلقنا، لئن لم نأت الآخرة بخير لنهلكن.
محمد بن واسع بن جابر، أبو عبد الله أسند عن أنس وغيره، وكان عالماً
خيراً متواضعاً، وكان الحسن يسميه سيد القراء، وكان يصوم الدهر ويخفي
ذلك، وكان يبكي طول الليل حتى قالت جارية له: لو كان هذا قتل أهل
الدنيا ما زاد على هذا. وكان يخرج فيغزو، فخرج مرة إلى الترك مع قتيبة
بن مسلم، فقيل لقتيبة: محمد بن واسع يرفع إصبعه - يعني يدعو - فقال:
تلك الإصبع أحب إليّ من ثلاثة آلاف عنان.
أنبأنا المبارك بن أحمد الكندي، أخبرنا عاصم بن الحسن، قال: أخبرنا علي
بن محمد بن بشران، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: حدَّثنا أبو بكر بن
عبيد، قال: حدثني أبو حفص الصيرفي، قال: حدثني علي بن بزيع الهلالي،
قال: قال مطر الوراق، قال: ما اشتهيت أن أبكي قط حتى أشتفي إلا نظرت
إلى وجه محمد بن واسع، وكنت إذا نظرت إلى وجهه كأنه قد ثكل عشرة من
الحزن.
أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري بإسناد له عن ابن شوذب، قال: كان إذا
قيل بالبصر: من أفضل أهل البصرة؟ قالوا: محمد بن واسع، ولم يكن يرى له
كثير عبادة، وكان يلبس قميصاً بصرياً وساجاً، وكان له علية، فإذا كان
الليل دخل ثم أغلقها عليه.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: حدَّثنا حمد بن أحمد قال: حدثنا أبو
نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا أبو بكر بن مالك، قال: حدَّثنا بن عبد الله
بن أحمد بن حنبل، قال: حدَّثنا سفيان بن وكيع، قال: حدَّثنا ابن علية،
عن يونس، قال: سمعت محمد بن واسع يقول: ول كان يجد للذنوب ريح ما قدرتم
أن تدونوا مني من نتن ريحي.
قال عبد الله: وحدثني علي بن مسلم، قال: حدثنا سيار، قال: حدَّثنا
الحارث بن نبهان، قال: سمعت محمد بن واسع يقول: وا أصحاباه، ذهب أصحابي
: قلت: رحمك الله، أليس قد نشأ شباب يصومون النهار، ويقومون الليل،
ويجاهدون في سبيل الله؟ قال: بلى، ولكن يداخ وثفل أفسدهم العجب.
قال عبد الله: وحدثنا هارون بن معروف، قال: حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب،
قال: قسم أمير البصرة على أهل البصرة، فبعث إلى مالك بن دينار فقبل،
فقال له محمد بن واسع: يا مالك قبلت جوائز السلطان، قال: سل جلسائي،
فقالوا: اشترى بها رقاباً وأعتقهم، فقال له محمد بن واسع: أنشدك الله،
أقلبك الساعة له على ما كان قبل أن يجيزك؟ قال: اللهم لا، قال: ترى أي
شيء دخل عليك؟ فقال مالك لجلسائه: إنما مالك حمار، إنما يعبد الله مثل
محمد بن واسع.
قال عبد الله: وحدثني عبيد الله القواريري، قال حدَّثنا حماد بن زيد،
قال: دخلنا على محمد بن واسع نعوده في مرضه، فجاء يحيى البكاء يستأذن،
فقالوا: يحيى البكاء، فقال: إن شر أيامكن يوم نسبتم إلى البكاء.
وفي رواية أخرى أنه قال: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا
تعلم.
وقال لرجل: هل أبكاك قط سابق علم الله فيك.
أخبرنا علي بن أبي عمر، قال: أخبرنا رزق الله، قال: أخبرنا أبو الحسين
بن بشران، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: حدَّثنا أبو بكر بن عبيد الله،
قال: حدَّثنا عبد الله بن عيسى الطفاوي، قال: حدَّثنا محمد بن عبد الله
الزراد، قال: رأى محمد بن واسع ابناً له وهو يخطر بيده، فقال: ويحك،
تعال، تدري من أنت؟ أمك اشتريتها بمائتي جرهم، وأبوك فلا أكثر الله في
المسلمين مثله.
قال ابن عبيد الله: و حدَّثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم، عن سعيد بن
عامر، عن حزم، قال: قال محمد بن واسع وهو في الموت: يا إخوتاه، تدرون
أين يذهب بي؟ يذب بي والله الذي لا إله إلا هو إلى النار أو يعفو عني.
أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري: اسمه كنيته، وكان فاضلاً،
وكان إليه القضاء والحج. ولما ولي عمر بن عبد العزيز ولاه إمرة
المدينة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد المسرقندي بإسناده عن عطاف بن خالد، عن أمه، عن
امرأة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنها قالت: ما اضطجع أبو بكر على
فراشه منذ أربعين سنة بالليل.
توفي بالمدين وهو ابن أربع وثمانين سنة.
ثم دخلت
سنة إحدى وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها
غزوة
مسلمة الروم، وافتتح بها مطامير.
وغزوة مروان بن محمد بلاد صاحب سرير الذهب، ففتح قلاعه، وخر أرضه،
وأذعن له بالجزية في كل سنة ستة آلاف رأس يؤديها، وأخذ بذلك الرهن،
وملكه مروان على أرضه.
وفي هذه السنة قتل زيد بن علي في بعض الأقوال، وفي قول: إنه قتل في سنة
عشرين. وزعم هشام بن محمد أنه قتل سنة اثنتين وعشرين.
واختلف في سبب خروجه. فقال عبد الله بن عياش: قد زيد بن علي ومحمد بن
عمر بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وداود بن علي بن عبد الله بن
عباس على خالد بن عبد الله وهو على العراق فأجازهم إلى المدينة، فلما
ولي يوسف بن عمر كتب إلى هشام بأسمائهم وبما أجازهم به، وكتب يذكر أن
خالداً ابتاع من زيد أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ثم رد الأرض
عليه. وكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسرحهم إليه، ففعل، فسألهم هشام
فأقروا بالجائزة، وأنكروا ما سوى ذلك، فسأل زيداً عن الأرض فأنكرها
وحلفوا لهشام فصدقهم.
وفي رواية: أن يزيد بن خالد القسري ادعى مالاً قبل زيد بن علي ومحمد بن
عمر وداود بن علي في آخرين فأنكروا.
وفي رواية أن خالداً القسري لما عذب ادعى أنه استودع هؤلاء مالاً، فكتب
فيهم يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك، فقال لهم هشام: فإنا باعثون
بكم إليه يجمع بينكم وبينه، فقال له زيد بن علي: أنشدك الله والرحم أن
تبعث بي إلى يوسف فإني أخاف أن يعتدي علي، قال: ليس ذلك له، ثم كتب إلى
يوسف: أما بعد، فإذا قدم عليك فلان وفلان فاجمع بينهم وبين يزيد بن
خالد، فإنهم هم أقروا بنا ادعى عليهم فسرحهم إلي، وإن هم أنكروا فسله
بينة، وإن لم يقم بينة فاستحلفهم بعد العصر بالله الذي لا إله إلا هو
ما استودعكم يزيد وديعة ولا له قبلك شيء، ثم خل سبيلهم، فلما قدموا
سألهم عن المال فأنكروا جميعاً وقالوا: لم يستودعنا مالاً ولا له قبلنا
حق، فقال له يوسف: هؤلاء الذين ادعيت عليهم ما ادعيت، فقال: ما لي قبله
قليل ولا كثير، فقال له: أفبي تهزأ أم بأمير المؤمنين فعذبه عذاباً ظن
أنه قتله، فاستحلفهم وخلى سبيلهم، فلحقوا بالمدينة.
وقيل لخالد: لم ادعيت عليهم؟ فقال: اشتد علي العذاب فرجوت مجيء فرج قبل
وصولهم. وأقام زيد بن علي بالكوفة.
وقيل: إنما كانت الخشونة بين زيد وعبد الله بن حسن بن حسن، فقدم زيد
على هشام لمخاصمة ابن عمه عبد الله، فقال له هشام: قد بلغني أنك تذكر
الخلافة وتتمناها وليست هناك أنت ابن أمة، فقال: إن لك يا أمير
المؤمنين جواباً، قال: فتكلم، قال: ليس أحد أولى بالله من نبي ابتعثه،
وقد كان إسماعيل من خير الأنبياء، وكان ابن أمة.
وخرج فجعلت الشيعة تختلف إلى زيد وتأمره بالخروج، ويقولون: إنا لنرجو
أن تكون المنصور، وأن يكون هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية، فأقام
بالكوفة، وكتب هشام إلى يوسف: أشخص زيداً إلى بلده فإنه لا يقيم ببلد
فيدعو أهله إلا أجابوه، فإنه جدل لسن حلو الكلام، فإن أعاره القوم
أسماعهم فحشاها من لين لفظه مع ما يدلي به من قرابة رسول الله صلى الله
عليه وسلم - مالوا إليه، فجعل يوسف بن عمر يسأل عنه، فيقال: هو هاهنا،
فيبعث إليه: أن أشخص، فيقول: نعم، ويعتل بالوجع، ويبلغ يوسف أن الشيعة
تختلف إلى زيد، فسأل عنه بعد مدة، فقيل: لم يبرح، وكان قد أقام نحو
خمسة عشر شهراً، فبعث إليه يستحثه، وكان يوسف بالحيرة، وإنما كان يكتب
إلى عامله بالكوفة، فتهيأ زيد وخرج، فلحقته الشيعة فقالوا: أين تذهب
ومعك مائة ألف راجل من أهل الكوفة يضربون دونك بأسيافهم غداً، وليس
قبلك من أهل الشام إلا عدة قليلة، لو أن قبيلة من قبائلنا نصبت لهم
لكفتهم بإذن الله، فننشدك الله لما رجعت. فلم يزالوا به حتى ردوه إلى
الكوفة.
وفي
رواية: أن جماعة من وجوه أله الكوفة بايعوه حين كان بالكوفة منهم سلمة
بن كيهل، ونصر بن خزيمة، وحجية بن الأجلح، ثم أن سلمة أشار على زيد ألا
يخرج، فلما رأى ذلك داود بن علي قال له: يا ابن عم، لا يغرنك هؤلاء من
نفسك ففي أهل بيتك لك عبرة، وفي خذلان هؤلاء إياهم، فقال: يا داود، إن
بني أمية قد عتوا. فلم يزل به داود حتى شخص إلى القادسية، فتبعه أهل
الكوفة فقالوا: نحن أربعون ألفاً فإن رجعت إلى الكوفة لم يتخلف عنك
أحد، وأعطوه المواثيق والأيمان المغلظة، فجعل يقول: إني أخاف أن
تخذلوني وتسلموني كفعلكم بابي وجدي، فيحلفون له فيقول داود بن علي: يا
ابن عم، إن هؤلاء يغرونك، أليس قد خذلوا من كان أعز منك عليهم، جدك علي
بن أبي طالب رضي الله عنه حتى قتل، والحسن بعده بايعوه ثم وثبوا عليه
فانتهبوا فسطاطه وجرحوه، أو ليس قد أخرجوا جدك الحسين، وحلفوا له ثم
خذلوه، ثم لم يرضوا بذلك حتى قتلوه، فلا تفعل ولا ترجع معهم، فقالوا
له: إن هذا لا يريد أن تظهر، ويزعم أنه وأهل بيته أحق بهذا الأمر.
فمضى داود إلى المدينة، ورجع زيد إلى الكوفة فاستخفى فأقبلت الشيعة
تختلف إليه وتبايعه حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل، فأرسل إلى
السواد وأهل الموصل رجالاً يدعون إليه.
وتزوج بالكوفة، فكان ينزل تارة في دار امرأته في دار أصهاره، ومرة عند
نصر بن خزيمة، ثم تحول إلى دار معاوية بن إسحاق، وكانت بيعته التي بايع
الناس: ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وجهاد الظالمين، والدفع عن
المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهل بالسواد، ورد
المظالم، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا. فإذا قال القائل: نعم، وضع
يده على يده، وقال: عليك عهد الله وميثاقه وذمة الله وذمة رسوله لتفين
بيعتي ولتقاتلن عدوي ولتنصحن في السر والعلانية؟ فإذا قال: نعم، مسح
يده على يده ثم قال: اللهم أشهد.
فمكث كذلك بضعة عشر شهراً، فلما دنا خروجه أمر أصحابه بالاستعداد
والتهيؤ، فشاه أمره في الناس، فلما عزم على الخروج أمر أصحابه بالتأهب،
فانطلق سليمان بن سراقة البارقي إلى يوسف بن عمر فأخبره خبره، فبعث
يوسف في طلب زيد فلم يجده، فلما رأى الناس الذين بايعوه أن يوسف بن عمر
يستبحث عن أمره اجتمع إليه جماعة من رؤسائهم، فقالوا له: رحمك الله، ما
تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: رحمهما الله ورضي عنهما، ما سمعت أحداً من
أهل بيتي يتبرأ منهما ولا يقول فيهما إلا خيراً، قالوا: فلم تطلب إذاً
بدم أهل هذا البيت، إلا أنهما وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم، فقال
زيد: لو قلنا إنهم استأثروا علينا لم يبلغ ذلك بهم كفراً، قد والله
ولّوا فعدلوا، قالوا: فإذا كان أولئك لم يظلموكم فلم تدعونا إلى قتال
هؤلاء، فقال: إن هؤلاء ظالمون لكم ولأنفسهم، وإنما ندعوكم إلى كتاب
الله وإلى السنن أن تحيى، وإلى البدع أن تطفأ. ففارقوه ونكثوا بيعته
وقالوا: سبق الإمام - وكانوا يزعمون أن أبا جعفر محمد بن علي أخا زيد
بن علي هو الإمام، وكان قد هلك يومئذ - وكان ابنه جعفر بن محمد حياً،
فقالوا: جعفر إمامنا اليوم بعد أبيه وهو أحق بالأمر ولا نتبع زيداً
وليس بإمام، فسماهم زيد الرافضة.
ثم استتب لزيد خروجه، فواعد أصحابه ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر سنة
اثنتين وعشرين، وبلغ يوسف بن عمر، فبعث إلى الحكم بن الصلت وهو يومئذ
على الكوفة، فأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم ويحصرهم فيه.
فجمع الناس في المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بيوم، وطلب زيد فخرج
ليلاً، ورفع أصحابه هرادي النار ونادوا: زيد يا منصور. ومر الحكم بن
الصلت بدروب السوق فغلقت وأغلقوا أبواب المسجد على أهل الكوفة، وكان
جميع من وافى زيداً في تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلاً، فقال
زيد: سبحان الله ، أين الناس؟ فقيل له: هم في المسجد الأعظم محصورون.
فذهب زيد إلى الكناسة، فإذا بها جمع من جموع أهل الشام فهزمهم، ثم خرج
إلى الجبانة، وخرج يوسف بن عمر، فنزل على تل قريب من الحيرة ومعه أشراف
الناس، ثم عاد زيد فدخل الكوفة فقصد المسجد، فجعل أصحابه يقولون: يا
أهل المسجد اخرجوا. واقتتل هو وأهل الشام.
فما كانت
غداة الخميس بعث يوسف بن عمر جنداً فلقوا زيداً فاقتتلوا فهزمهم زيد،
وقتل من أهل الشام نحواً من سبعين، فانصرفوا وهم بشر حال. ثم عبأهم
يوسف بن عمر وسرحهم، فالتقوا بأصحاب زيد فحمل عليهم زيد وأصحابه،
فكشفهم وقاتل معاوية بن إسحاق الأنصاري بين يدي زيد، فقتل وثبت زيد حتى
إذا جاء الليل رُمي بسهم فأصاب جبهته، فثبت في الدماغ، فأدخل إلى بيت،
وجيء بالطبيب فانتزع السهم فجعل يضج حتى مات. فقال القوم: أين ندفنه؟
فقال بعض أصحابه: نلبسه درعه ونطرحه في الماء، وقال آخر: بل نحتز رأسه
ونطرحه بين القتلى، فقال ابنه لا والله لا تأكل لحم أبي الكلاب. فجاءوا
به إلى نهر فسكروا الماء وحفروا له فدفنوه وأجروا عليه الماء، وتصدع
الناس، وتوارى ولده يحيى بن يزيد.
فلما سكن الطلب خرج في نفر من الزيدية إلى خراسان، ثم دل القوم على قبر
زيد، فاستخرجوه وقطعوا رأسه وصلبوا جسده، وبعث برأسه إلى هشام، فأمر به
فنصب على باب دمشق، ثم أرسل به إلى المدينة فصلب بها، ومكث البدن
مصلوباً حتى مات هشام، فأمر به الوليد فأنزل وأحرق، فلما ظهر ولد
العباس عمد عبد الله بن علي إلى هشام بن عبد الملك، فأخرجه من قبره
وصلبه بما فعل بزيد.
وذكر أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي في كتاب المقالات:
أن زيد بن علي لما خرج قتل في المعركة ودفنه أصحابه، فعلم به يوسف بن
عمر، فنبشه وصلبه ثم كتب هشام يأمر بحرقه ونسف رماده في الفرات.
ثم خرج يحيى بن زيد بالجوزجان على الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فبعث
نصر بن سيار إليه سلم بن أجوز المازني فحاربه فقتل في المعركة ودفن في
بعض الخانات.
وخرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بالمدينة، وبويع له في
الآفاق، فبعث إليه المنصور بعيسى بن موسى، وحميد بن قحطبة فقتلاه،
وقتلا من أجله تحت الهدم أباه عبد الله، وعلي بن الحسن بن الحسن
وجماعة، ودفن إبراهيم بن الحسن بن الحسن وهو حي بالكوفة، وكان محمد بن
عبد الله وجه ولده وإخوته إلى الآفاق يدعون إليه فوجه ابنه علياً إلى
مصر، فأخذ هناك وقتل، ووجه ابنه عبد الله إلى خراسان فطلب فهرب إلى
السند فأخذ بها وقتل، ووجه ابنه الحسن إلى اليمن فأخذ لنفسه أماناً ثم
حبس فمات في السجن، ثم وجه أخاه موسى إلى الجزيرة، فأخذ لنفسه أماناً،
ووجه أخاه إدريس إلى المغرب، ووجه أخاه يحيى إلى الري، وخرج بعده أخوه
إبراهيم بن عبد الله إلى البصرة فغلب عليها وعلى الأهواز وفارس وأكثر
السواد، وشخص عن البصرة يريد محاربة المنصور، فبعث إليه المنصور بعيسى
بن موسى وسعيد بن سلم، فحارب حتى قتل ومضى أخوه إدريس بن عبدالله إلى
المغرب فغلب على بلدان كثيرة وبسط العدل فيها.
وخرج الحسين بن علي بن حسن بن حسن فبايعه الناس، وعسكر بفخ على ستة
أميال من مكة، فخرج إليه موسى بن عيسى في أربعة آلاف فقلت وأكثر من كان
معه ولم يتجاسر أحد أن يدفنهم ثلاثة أيام، فأكلت أكثرهم السباع، وكان
خروجه سنة سبع وستين ومائة في خلافة موسى، وأسر ممن كان معه سليمان بن
عبدالله بن الحسن بن الحسن فضرت عنقه بمكة صبراً وقتل معه جماعة.
وخرج يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن فقتل، وخرج محمد بن جعفر بن
يحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي بتاهرت فغلب عليها. وخرج بالكوفة
أيام المأمون محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن
ثم مات بعد أربعة أشهر. فخرج من بعده محمد بن محمد بن زيد بن زيد بن
علي فأخذ وأظهر موته.
وخرج باليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين داعية
لمحمد بن إبراهيم فأمنه المأمون. وخرج جعفر بن إبراهيم بن موسى بن جعفر
باليمن فقدم به على المأمون فأمنه. وخرج محمد بن القاسم بن علي بن عمر
بن علي بن الحسين بالطالقان في خلافة المعتصم، فوجه إليه عبد الله بن
طاهر فانهزم محمد ثم وقعوا به فأنفذ إلى المعتصم، فحبسه في قصره فقيل
إنه مات، وقال قوم من الشيعة إنه سيظهر.
وخرج محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين داعية لمحمد بن إبراهيم،
فلما مات محمد دعي إلى نفسه فحمل إلى المأمون، وخرج الأفطس بالمدينة
داعية لمحمد بن إبراهيم فلما مات محمد دعى على نفسه، وهرب العباس بن
محمد بن عبد الله بن علي من الرشيد، فدعى به فشتمه فرد عليه ما قال،
فضرب بين يديه بالعمد حتى مات.
وخرج
الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بطبرستان فما زالت بيده حتى مات،
وخلفه أخوه محمد فحاربه رافع بن هرثمة، ثم تابعه بالري محمد بن جعفر بن
الحسن فاسروا وحمل إلى محمد بن طاهر فحبسه حتى مات.
وخرج الكوكبي واسمه الحسين بن أحمد بن محمد بن إسماعيل فهزمه موسى بن
بغا، وخرج بالكوفة أيام المستعين يحيى بن عمر بن يحيى بن زيد بن علي بن
الحسين ين علي فحارب فقتل. وخرج الحسين بن محمد بن حمزة فأخذ وحبس.
وخرج ابن الأفطس بالمدينة، وخرج بالمدينة إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم
بن عبد الله، فخلفه أخوه محمد فطلب فهرب ومات.
وخرج ابن لموسى بن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
فمضى إلى فارس فمات بها. وخرج صاحب البصرة وكان يدعي أنه علي بن محمد
بن علي بن عيسى بن زيد بن علي، وكان أنصاره الزنج، وكان يرى رأي
الأزارقة وسيأتي.
وستأتي أخبار هؤلاء في أماكنها إن شاء الله.
وفي هذه السنة غزا نصر بن سيار ما وراء النهر مرتين وقتل أمير الترك:،
وذهب إلى فرغانة فسبى بها ثلاثين ألف رأس، وصالح ملكها. فجاءت أم الملك
إلى نصر بن سيار فقالت له في مخاطبتها إياه: كل ملك لا يكون عنده ستة
أشياء فليس بملك: وزير يباثه بنيات صدره ويشاوره ويثق بنصحه، وطباخ إذا
لم يشته الطعام اتخذ له ما يشتهيه، وزوجة إذا دخل عليها مغتماً فنظر
إليها ذهب غمه، وحصن إذا فزع أو جهد فزع إليه فأنجاه - تعني الفرس -
وسيف إذا قارع الأقران لم يخش خيانته، وذخيرة إذا حملها عاش بها أينما
وقع من الأرض.
وكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار: سر إلى هذا الغارز ذنبه في الشاش -
يعني الحارث بن شريح - فإن أظفرك الله وبأهل الشاش فخرب ديارهم واسب ذر
أريهم. فسار فقتل المسلمون فارس الترك.
وفي هذه السنة حج بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي وهو عامل
مكة والمدينة والطائف. وكان العامل على أذربيجان وأرمينية مروان بن
محمد، وعلى خراسان نصر بن سيار، وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة، وعلى
قضاء الكوفة بن شبرمة. وكان على العراق كله يوسف بن عمر الثقفي.
أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك وأحمد قالا: أخبرنا عبد
الجبار الصيرفي وهو أبونا قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين بن المهتدي،
قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن المأمون، قال: حدَّثنا أبو بكر
بن الأنباري، قال: حدثني أحمد بن بشار بن الحسن بن بيان، قال: حدَّثنا
إسحاق بن بهلول بن حسان التنوخي، قال: حدثني أبي، قال: حدَّثنا إسحاق
بن زياد عن شبيب بن شبة، عن خالد بن صفوان بن الأهتم، قال: أوفدني يوسف
بن عمر إلى هشام بن عبد الملك في وفد العراق، فقدمت عليه وقد خرج
متبدياً بقرابته وأهله وحشمه وغاشيته من جلسائه، فنزل في أرض قاع صحصح
متنايف أفيح في عام قد بكر وسميه، وتتابع وليه، وأخذت الأرض زينتها من
اختلاف نبتها من نور ربيع مونق ، فهو أحسن منظر وأحسن مختبر وأحسن
مستمطر، بصعيد كان ترابه قطع الكافور حتى لو أن بضعة ألقيت فيه لم
تترب، وقد ضرب له سرادق من حبرة، وكان صنعه له يوسف بن عمر باليمن، فيه
أربعة أفرشة من خز أحمر مثلها مرافقها، وعليه درّاعة من خز أحمر مثلها
عمامتها، وقد أخذ الناس مجالسهم، فأخرجت رأسي من ناحية السماط فنظر إلي
مثل المستنطق لي، فقلت: أتم الله عليك يا أمير المؤمنين نعمة، وسوغكها
بشكره، وجعل ما قلدكم من هذه الأمور رشداً وعاقبة ما يؤول إليه حمداً
أخلصه الله لك بالتقى، وكثره لك بالنماء، لا كدر عليك منه ما صفا، ولا
خالط مسروره الردى، فقد أصبحت للمسمين ثقة ومستراحاً، إليك يفزعون في
مظالمهم، وإليك يلجأون في أمورهم، وما أجد يا أمير المؤمنين جعلني الله
فداك شيئاً هو أبلغ في قضاء حقك من أن أذكرك نعمة الله عليك فأنبهك على
شكرها، وما أجد في ذلك شيئاً هو أبلغ من حديث من يقدم قبلك من الملوك،
فإن أذن لي أمير المؤمنين أخبرته. وكان متكئاً فاستوى قاعداً وقال: هات
يا ابن الأهتم، فقلت:
يا أمير
المؤمنين، إن ملكاً من الملوك قبلك خرج في عام مثل عامنا هذا إلى
الخورنق والسدير في عام قد بكر وسميه، وتتابع وليه، وأخذت الأرض فيه
زخرفها من اختلاف ألوان نبتها من نور ربيع مونق، فهو في أحسن منظر،
وأطرف مختبر، وألذ مستمطر، بصعيد كأن ترابه قطع الكافور، حتى لو أن
بضعة ألقيت فيه لم تترب، وكان قد أعطي فتاء السن مع الكثرة والغلبة
والنماء فنظر فأبعد النظر فقال: لمن هذا الذي أنا فيه، هل رأيتم مثل ما
أنا فيه؟ هل أعطي أحد مثل ما أعطيت؟ وعنده رجل من بقايا حملة الحجة
والمضير على أدب الحق ومنهاجه، فقال له: أيها الملك، إنك قد سألت عن
أمر أفتأذن في الجواب؟ قال: نعم، قال: أرأيتك هذا الذي قد أعجبت به،
أهو شيء لم تزل فيه أم شيء صار إليك ميراثاً عن غيرك وهو زائل عنك،
وصائر غيرك كما صار لك؟ قال: فكذلك هو، قال: أفر أراك إنما أعجبت بشيء
يسير تكون فيه قليلاً وتغيب عنه طويلاُ، وتكون غداً لحسابه مرتهناً،
قال: ويحك فأين المهرب وأين المطلب؟ قال: إما أن تقيم في ملكك فتعمل
بطاعة ربك على ما ساءك وسرك ومضّك وأومضك، وإما أن تضع تاجك وتلبس
أمساحك، وتعبد ربك في هذا الجبل حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا كان السحر
فاقرع على بابي، فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيراً لا تعصى وجليساً لا
يقصى، وإن اخترت خلوات الأرض وقعر البلاد كنت رفيقاًً لا يخالف فلما
كان السحر قرع عليه بابه، فإذا هو قد وضع تاجه ولبس أمساحه وتهيً
للسياحة، فلزما والله الجبل حتى أتتهما أجالهما، وذلك حيث يقول أخو بني
تميم عدي بن زيد العبادي:
أيها الشامت المعير بالده ... رأأ،ت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنتجاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملك أو سا ... سان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الر ... وم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحصن إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمراً وجلله كل ... ساً فللطير في ذراه وكور
لم تهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور
وتأمر رب الخورنق إذ أش ... رف يوماً وللهدى تكفير
سرهماله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرض والسدير
فارعوى قلبه وقال وما غب ... طة حي إلى الممات بصير
ثم بعد الإفلاح والملكولأ ... مة وارتهم هناك القبور
ثم أضحوا كأنهم ورق ج ... ف فألوت به الصبا والدبور
قال: فبكى هشام حتى اخضلت لحيته وبل عمامته وأمر بنزع أبنيته وبنقلان
قرابته وأهله وحشمه وغاشيته من جلسائه، ولزم قصر. قال: فاجتمعت الموالي
والحشم على خالد بن صفوان فقالوا: ما أردت بأمير المؤمنين، نغصت عليه
لذته وأخذت عليه ناديته، فقال لهم: إليكم عني فإني عاهدت الله تعالى
عهداً لن أخلو بملك إلا ذكرته الله عز وجل.
قال ابن الأنباري: الذي حفظناه عن مشايخنا متنايف أفيح.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: الصواب مسايف جمع مسافة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الربيع بن أبي راشد، أبو عبد الله: أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال:
أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: أخبرنا أبو
بكر بن مالك، قال: حدَّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني الفضل
بن سهل، قال: حدَّثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثني من سمع عمر بن ذر
يقول: كنت إذا رأيت الربيع بن أبي راشد كأنه مخمار من غير شراب.
أخبرنا علي بن أبي عمر، قال: أخبرنا رزق الله، قال: أخبرنا أحمد بن
محمد بن يوسف، قال: حدَّثنا الحسين بن صفوان، قال: حدَّثنا أبو بكر
القرشي، قال: حدَّثنا مالك بن إسماعيل، قال: حدثني عبد السلام بن حرب،
عن خلف بن حوشب، قال: قال الربيع بن أبي راشد:
أقرأ علي:
" يا أيها الناس إن كنت في ريب من البعث " فقرأتها عليه فبكى ثم قال:
والله لو لا أن تكون بدعة لسحت - أو قال : لهمت في الجبال.
زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب: دخل على هشام بن عبد الملك
فرفع ديناً وحوائج فلم يقضها له، وأسمعه كلاماً شديداً، فخرج إلى
الكوفة، وخرج بها ويوسف بن عمر الثقفي عامل هشام على العراق، فوجه إلى
زيد من يقاتله، فاقتتلوا، فتفرق عن زيد من خرج معه، ثم قتل وصلب، فلما
ظهر ولد العباس أخرج هشام من قبره فصلب. وكان قتل زيد في هذه السنة،
وكان ابن اثنتين وأربعين سنة عطاء السليمي: كان شديد الخوف والحياء من
الله، لم يرفع رأسه إلى السماء أربعين سنة. وكان يبكي حتى يبل ما حوله،
فعوتب في بكائه، فقال: إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من العذاب
تمثلت نفسي بينهم، فكيف لنفس تغل وتسحب في النار؟ ألا تبكي؟.
وكان يقول: ارحم في الدنيا غرتي، وفي القبر وحدتي وطول مقامي غداً بين
يديك.
وقال جعفر بن سليمان: التقى ثابت وعطاء السليمي ثم افترقا، فلما كان
وقت الهاجرة جاء عطاء فخرجت الجارية إليه فقالت: أخوك عطاء، فخرج إليه
فقال: يا أخي في هذا الحر، قال: ظللت صائماً فاشتد علي الحر، فذكرت حر
جهنم فأحببت أن تعينني على البكاء، فبكيا حتى سقطا.
قال جعفر: ولما مات عطاء رأيته في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال:
رحمني ووبخني وقال لي: يا عطاء، ما استحييت مني، تخافني ذلك الخوف كله،
أما علمت أني أرحم الراحمين.
عطية بن قيس الكلابي من أهل القرآن والفضل، توفي في هذه السنة وهو ابن
مائة سنة وأربع سنين.
محمد بن يحيى بن حبان بن منقذ بن عمر بن مالك، أو عبد الله كانت له
حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يفتي، وكان كثير
الحديث ثقة. توفي بالمدينة في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة اثنتين وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها قتل كلثوم القشيري الذي كان بعثه هشام في خيول أهل
الشام إلى إفريقية حين وقعت الفتنة بالبربر.
وفيها: قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم.
وفيها: ولد محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها وجه يوسف بن عمر بن شبرمة على سجستان، واستقضى ابن أبي ليلى.
وفي هذه السنة حج بالناس محمد بن هشام المخزومي، وكانت عمال الأمصار في
هذه السنة العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم، إلا أن قاضي
الكوفة فيما ذكر محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إياس بن معاوية بن قرة بن إياس المزني: سمع من أبيه، وأنس، وابن
المسيب، وغيرهم. روى عنه حماد بن سلمة وغيره.
ولي قضاء البصرة لعمر بن عبد العزيز، وكانت له فراسة وذكاء وفطنة.
وتوفي في هذه السنة وكان له عقب.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا محمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو
نعيم الأصفهاني، قال: حدَّثنا سليمان بن أحمد، قال: حدَّثنا الحسين بن
المتوكل، قال: حدَّثنا أبو الحسن المدائني، عن أبي إسحاق بن حفص قال:
قيل لإياس بن معاوية: فيك أربع خصال: دمامة، وكثرة كلام، وإعجاب بنفسك،
وتعجيل في القضاء. أما الدمامة فالأمر فيها إلى غيري، وأما كثرة الكلام
فبصواب أم بخطأ؟ قالوا: بصواب، قال: فالإكثار من الصواب أمثل. أما
إعجابي بنفسي، أفيعجبكم ما ترون مني؟ قالوا: نعم، قال: فإني أحق أن
أعجب بنفسي. وأما قولكم إني أعجل بالقضاء، فكم هذه - وأشار بيده خمسة؟
فقالوا: خمسة، فقال: عجلتم، ألا قلتم: واحد واثنان وثلاثة وأربعة
وخمسة؟ قالوا: ما نعد شيئاً قد عرفناه، قال: فما أحبس شيئاً قد تبين لي
فيه الحكم.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا محمد
بن أحمد بن رزق، قال: أخبرنا أبو اليسر إبراهيم بن موسى الجزري، قال:
حدَّثنا القاضي المقدمي، قال: حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب، قال:
حدَّثنا قريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد، قال:
كنت
جالساً عند إياس بن معاوية، فأتاه رجل فسأله عن مسألة فطول عليه، فأقبل
عليه إياس فقال: إن كنت تريد الفتيا فعليك بالحسن فإنه معلمي ومعلم
أبي، وإن كنت تريد القضاء فعليك بعبد الملك بن يعلى - وكان على قضاء
البصرة يومئذ - وإن كنت تريد الصلح فعليك بحميد الطويل، وتدري ما يقول
لك؟ يقول لك: حط عنه شيئاً، ويقول لصاحبك زده شيئاً حتى يصلح بينكما
وإن كنت تريد الشغب فعليك بصالح السدوسي، وتدري ما يقول لك، اجحد ما
عليك وادع ما ليس لك، وادع بينة غيباً.
زبيد اليامي: أدرك ابن عمر وأنساً، وكان عابداً ثقة ديناً، كان يقول
سعيد بن جبير: لو خيرت عبداً ألقى الله في صلاحه لاخترت زبيد اليامي.
أخبرنا ابن موسى الحصين، قال: أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان،
قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي، قال: حدَّثنا محمد بن المسيب،
قال: حدَّثنا يوسف بن موسى، قال: حدَّثنا جرير، عن ابن شبرمة، قال: كان
زبيد اليامي يجزئ الليل ثلاثة أجزاء: جزءاً عليه، وجزءاً على عبد
الرحمن ابنه، وجزءاً على عبد الله ابنه، فكان زبيد يصلي ثلث الليل ثم
يقول لأحدهما: قم ، فإن تكاسل صلى جزأه، ثم يقول للآخر: قم، فإن تكاسل
صلى جزأه فيصلي الليل كله.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناده عن سفيان، قال: كان زبيد إذا كانت
ليلة مطيرة أخذ شعلة من النار فطاف على عجائز الحي فقال: أولف عليكم
بيت، أتريدون ناراً، فإذا أصبح طاف على عجائز الحي: ألكم في السوق حاجة
أوتريدون شيئاً؟.
قال أحمد: حدثني أبو سعيد الأشج، حدثني المجازي، عن سفيان، قال: دخلنا
على زبيد نعوده، فقلنا: شفاك الله، فقال: أستجير الله.
توفي زبيد في هذه السنة، وكان طلحة أسن منه بعشر سنين، فاستوفى زبيد
عشر سنين ثم مات.
سيار بن دينار ويقال: ابن وردان أبو الحكم القسري: روى عن طارق بن
شهاب، والشعبي، وأبي وائل، وأبي حازم، وكان شديد الحزن كثير البكاء.
وقال: إن الفرح بالدنيا والحزن بالآخرة لا يجتمعان في قلب عبد، إذا سكن
أحدهما القلب خرج الآخر.
أنبأنا يحيى بن الحسين بن البنا، قال: أنبأنا أبو غالب محمد بن أحمد بن
بشران، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسن الحاجري، قال : أخبرنا محمد
بن عثمان بن سمعان، قال: أخبرنا أسلم بن سهل الرزاز، قال: حدَّثنا وهب
بن بقية، قال: أخبرني حسين بن زياد، قال: بعث بعض القضاة إلى سيار
بواسط، فأتاه فقال له: لم لا تجيء إلينا؟ فقال له: إن أدنيتني فتنتني،
وإن باعدتني غممتني، وليس عندك ما أرجو، ولا عندي ما أخافك عليه. ثم
قام.
قال أسلم: وحدثني عبد الحميد بن بيان، قال: سمعت أبي يقول: خرج سيار بن
يسار إلى البصرة، فقام يصلي إلى سارية في المسجد الجامع، وكان حسن
الصلاة وعليه ثياب جياد، فرآه مالك بن دينار فجلس إليه، فسلم سيار فقال
له مالك: هذه الصلاة وهذه الثياب؟ فقال له سيار: ثيابي هذه ترفعني عندك
أو تضعني؟ قال: تضعك، قال: هذا أردت، ثم قال له: يا مالك، إني لأحسب
ثوبيك هذين قد أنزلاك من نفسك ما لم ينزلك من الله، فبكى مالك وقال له:
أنت سيار؟ قال: نعم، فعانقه. وفي رواية: جاء مالك فقعد بين يديه.
عبد الملك بن حبيب، أبو عمران الجوني: أسند عن أنس، وجندب بن عبد اله،
وعائذ بن عمرو، وأبي برزة، وكان عالماً متعبداً.
قال أبو بكر القرشي: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثني أبو عمر الضرير،
قال: حدثنا الحارث بن سعيد، قال: كان أبو عمران الجوني إذا سمع الأذان
تغير لونه وفاضت عيناه.
عثمان بن أبي دهرش المكي: يروي عن رجل من الصحابة، روى عنه ابن عيينة.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا
ابن المذهب، قال: حدَّثنا أحمد بن جعفر، قال: حدَّثنا عبد الله بن
أحمد، قال: حدَّثنا العباس بن محمد مولى بني هاشم، قال: حدثنا علي بن
الحسن بن شقيق، عن عبد الله بن المبارك، عن عثمان بن أبي دهرش: أنه كان
إذا رأى الفجر أقبل عليه تنبه وقال: أسير الآن مع الناس ولا أدري ما
أجني على نفسي.
وقال عثمان: ما صليت صلاة قط إلا استغفرت الله عز وجل من تقصيري فيها.
مسلمة بن عبد الله بن مروان، كنيته أبو سعيد: كان شجاعاً جواداً ذا رأي
وحزم وفضل، وغزا غزوات، وكان حسن التدبير.
قال: ما
لمت نفسي على خطأ افتتحته بحزم، ولا حمدتها على صواب افتتحته بعجز.
وإنما زوت عنه بنو أمية لأن أمه أم ولد. توفي هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وعشرون ومائة
فمن الحوادث فيها ما جرى بين الصغد ونصر بن سيار من الصلح.
وفيها: غزا نصر فرغانة غزوته الثانية.
وفيها أوفد يوسف بن عمر الحكم بن أبي الصلت إلى هشام بن عبد الملك
يسأله ضم خراسان إليه، وعزل نصر بن سيار. وذلك أن ولاية نصر طالت،
ودانت له خراسان، فحسده يوسف وأمر من قدح فيه عند هشام بالكبر فلم
يلتفت هشام إلى ذلك.
وفيها : حج بالناس يزيد بن هشام بن عبد الملك، وكان عمال الأمصار في
هذه السنة العمال الذين كانوا في السنة قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
سماك بن حرب السدوسي: كان قد ذهب بصره فرأى في منامه إبراهيم الخليل
عليه السلام فأصبح يبصر.
وسماك بن حرب بن أوس بن خالد بن نزار، أبو المغيرة الذهلي: رأى المغيرة
بن شعبة، وسمع من النعمان بن بشير، وجابر بن سمرى، وسويد بن قيس، وأنس
بن مالك، ومحمد بن حاطب، وثعلبة بن الحكم.
وقال سماك: أدركت ثمانين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى عنه إسماعيل بن أبي خالد، والثوري، وشعبة، وزائدة، وحماد بن سلمة
وكان ثقة، وبعثه ابن هبيرة إلى بغداد فقدمها قبل أن تمصر.
وتوفي هذه السنة سعيد بن أبي سعيد المقبرة، مولى بني ليث: روى عن سعد
بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وأبي سعيد وغيرهم، وكان ثق.
قال محمد بن سعد: لكنه بقي حتى اختلط قبل موته بأربع سنين.
ومات في هذه السنة عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي: سمع من
ابن عمر، وابن عباس، وجمهور رواياته عن أبيه.
أخبرنا أحمد بن عبد الباقي بإسناد له عن ابن عيينة، عن مسعر، قال: قال
عون بن عبد الله: كفى بك من الكبر أن ترى لك فضلاً على من هو دونك؟ قال
عبد الله: وحدثني أبو معمر، قال: حدَّثنا سفيان، عن أبي هارون، قال:
كان عون يحدثنا ولحيته ترش بالدموع.
عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمي: أمها أم كلثوم بنت أبي بكر
الصديق. روت عن عائشة أم المؤمنين خالتها.
وكانت فائقة الحسن، تزوجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، فولدت
له عمران، وعبد الرحمن، وأبا بكر، وطلحة، ونفيسة، ثم فارقت زوجها ثم
عادت إليه ثم توفي عنها، فما فتحت فاها عليه.
ثم تزوجها بعده مصعب بن الزبير وأمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل
ذلك. وكانت تكثر مخاصمته، ودخل عليها وهي نائمة بثماني لؤلؤات قيمتها
عشرون ألف دينار فأيقظها ونشر اللؤلؤ في حجرها، فقالت له: نومتي كانت
أحب إلي من هذا اللؤلؤ. ثم قتل عنها مصعب. فخطبها بشر بن مروان.
وقدم عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي من الشام، فنزل الكوفة، فبلغه أن
بشراً خطبها، فأرسل إليها جارية لها، وقال لها: قولي لها ابن عمك يقرئك
السلام ويقول لك أنا خير لك من هذا الميسور والمطحول، وإن تزوجت بي
ملأت بيتك خيراً. فتزوجته فبنى بها بالحيرة.
وفي رواية
أن بشراً بعث إليها عمر بن عبيد الله يخطبها، فقالت له: أما وجد بشر
رسولاً إلى ابنة عمك غيرك، فأين بك عن نفسك؟ قال: أوتفعلين؟ قالت: نعم،
فتزوجها وحمل إليها ألف ألف درهم، خمسمائة ألف مهراً وخمسمائة ألف
هدية، وقال لمولاتها: لك علي ألف دينار إن دخلت بها الليلة، فحمل المال
فألقي في الدار وغطي بالثياب، وخرجت عائشة فقالت لمولاتها: ما هذا أفرش
أم ثياب؟ قالت: انظري، فنظرت فإذا به مال، فتبسمت فقالت لها: أجزاء من
حمل هذا أن يبيت عندنا؟ قالت: لا والله ولكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن
أتزين له وأستعد، قالت: وبماذا فوالله لوجهك أحسن من كل زينة، وما
تمدين يديك إلى طيب وثوب أو فرش إلا وهو عندك، وقد عزمت عليك أن تأذني
له، قالت: افعلي، فذهبت إليه فقالت: بت ببيتنا الليلة، فجاءهم عند
العشاء الآخرة، ومكثت معه ثماني سنين، وكانت تصف له مصعباً فيكاد يموت
من الغيظ، فما مات ندبته قائمة وقالت: كان أكرمهم علي وأمسهم رحماً بي،
فلا أتزوج بعده، وكانت المرأة إذا ندبت زوجها قائمة علم أنها لا تتزوج
بعده، ودخلت على الوليد بن عبد الملك وهو بمكة، فقالت: يا أمير
المؤمنين، مر لي بأعوان يكونون معي، فضم إليها جماعة يكونون معها، فحجت
ومعها ستون بغلاً وعليها الهوادج والرحال.
وحجت سكينة بنت الحسين، فكانت عائشة أحسن منها آلة وثقلاً، فقال حادي
عائشة يترنم:
عائش يا ذات البغال التين
لازلت ما عشت غداً تحجين
فشق على سكينة، فنزل حاديها فقال:
عائش هذه ضرة تشكوك
لولا أبوها ما اهتدى أبوك
فأمرت عائشة حاديها أن يكف، وكانت عائشة لما تأيمت تقيم بمكة سنة،
وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مال لها بالطائف وقصر لها فتتنزه. وقدم على
هشام بن عبد الملك، فقال: ما أقدمك؟ فقالت: حبست السماء قطرها ومنع
السلطان الحق، فأمر لها بمائة ألف درهم وردها إلى المدينة.
ثم دخلت
سنة أربع وعشرون ومائة
فمن الحوادث فيها أن جماعة من شيعة بني العباس اجتمعوا بالكوفة، فغمز
بهم، فأخذوا وحبسوا، وفيهم بكير بن ماهان، فرأى بكير أبا مسلم صاحب
دعوة بني العباس مع عيسى بن معقل العجلي، فقال: ما هذا الغلام؟ فقال:
مملوك، فقال: بعينه، فأعطاه أربعمائة ألف درهم، وبعث به إلى إبراهيم
فدفعه إبراهيم إلى موسى السراج، فسمع منه وحفظ واختلف إلى خراسان.
وفي هذه السنة: غزا سليمان بن هشام الصائفة، فلقي أليُونْ ملك الروم
فسلم وغنم؟ وفيها: حج بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل، وكان عمال
الأمصار في هذه السنة عمالها في السنين التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام: روى عن أبيه وغيره من الصحابة،
وعن جماعة من التابعين، وكان رجلاً صالحاً لا يعرف الشر. أتى يوماً
بعطائه، فوضعه في المسجد ثم قام فنسيه، فذكر، فقال لخادمه: ادخل وائتني
بعطائي، قال: وأين أجده؟ قال: سبحان الله أو يأخذ أحد ما ليس له؟
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد ن أحمد، قال: حدَّثنا أحمد
بن عبد الله الحافظ، قال: حدَّثنا عمر بن أحمد بن عثمان، قال: حدَّثنا
محمد بن أحمد بن شيبان الرملي، قال: حدَّثنا أبي، قال: حدَّثنا عمران
بن أبي عمران، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: اشترى عامر بن عبد الله
نفسه من الله عز وجل بتسع ديات.
أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن الخياط، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن
يوسف، قال: حدَّثنا ابن صفوان، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد القرشي،
قال: حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدَّثنا قدامة، قال: سمعت أبا مودود
يقول: كان عامر بن عبد الله بن الزبير يتحين العباد وهم سجود: أبا حاز،
وصفوان بن سليم، وسليمان بن سيحم وأشباههم، فيأتيهم بالصرة فيها
الدنانير والدراهم، فيضعها عند نعالهم بحيث يحسون بها ولا يشعرون
بمكانه، فيقال: ما يمنعك أن ترسل بها إليهم؟ فيقول: أكره أن يتمعر وجه
أحدهم إذا نظر إلى رسولي وإذا لقيني.
أخبرنا
الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، قال:
أخبرنا أبو طاهر المخلص، قال: أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود الطوسي،
قال: أخبرنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عياش بن المغيرة، قال: كان
عامر بن عبد الله بن الزبير إذا شهد جنازة وقف على القبر، فقال: ألا
أراك ضيقاً، ألا أراك رقعاً، ألا أراك مظلماً، لئن سلمت لأتأهبن لك
أهبتك، فأول شيء يراه من ماله يتقرب به إلى ربه، فإن كان رقيقه
ليتعرضون له عند انصرافه من الجنازة ليعتقهم.
قال الزبير: وحدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: سمع عامر بن عبد الله
المؤذن وهو يجود بنفسه ومنزله قريب من المسجد، فقال: خذوا بيدي، فقيل
له: إنك عليل، فقال: أسمع داعي الله فلا أجيب، فأخذوا بيده فدخل في
صلاة المغرب فركع مع الإمام ركعة ثم مات.
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن
كلاب، أبو بكر الزهري ولد سنة ثمان وخمسين، وهي السنة التي توفيت فيها
عائشة رضي الله عنها. وسمع جماعة من الصحابة، وأخذ عن ابن المسيب سنين
وعن غيره. وجمع الفقه والحديث.
أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزار، قال: أخبرنا الحسن بن علي
الجوهري، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، قال: أخبرنا أبو أيوب سليمان
بن إسحاق الخلال، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدَّثنا محمد
بن سعد، قال: حدَّثنا محمد بن عمر، قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن عبد
العزيز، قال: سمعت الزهري يقول: نشأت وأنا غلام لا مال لي من الديوان،
وكنت أتعلم نسب قومي من عبد الله بن ثعلبة بن صعير، وكان عالماً بنسب
قومي، فأتاه رجلا فسأله عن مسألة من الطلاق فعيي بها وأشار له إلى سعيد
بن المسيب فقلت في نفسي: ألا أراني مع هذا الرجل المسن يعقل أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم مسح على رأسه وهو لا يدري ما هذا، فانطلقت مع
السائل إلى سعيد بن المسيب فسأله فأخبره، فجلست إلى سعيد وتركت عبد
الله بن ثعلبة وجالست عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة،
وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث حتى فهمت، فرحلت إلى الشام فدخلت
مسجد دمشق فأتيت حلقة وجاه المقصورة فجلست فيها، فنسبني القوم، فقلت:
رجل من قريش من ساكني المدين، قالوا: أهل لك علم بالحكم في أمهات
الأولاد؟ فأخبرتهم بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فيهم، فقال لي
القوم: هذا مجلس قبيصة بن ذؤيب وهو جائيك، وقد سأله عبد الملك عن هذا
فلم يجد عنده في ذلك علماً، فجاء قبيصة فأخبروه الخبر، فنسبني فانتسبت،
وسألني عن سعيد بن المسيب ونظرائه فأخبرته فقال: أنا أدخلك على أمير
المؤمنين.
فصلى الصبح ثم انصرف فتبعته، فدخل على عبد الملك بن مروان وجلست على
الباب ساعة حتى ارتفعت الشمس، ثم خرج الأذان فقال: أين هذا المديني
القرشي؟
قال: قلت:
ها أنا ذا، قال: فقمت فدخلت معه إلى أمير المؤمنين، فأجد بين يديه
المصحف قد أطبقه وأمر به فرفع، وليس عنده غير قبيصة جالس، فسلمت عليه
بالخلافة، فقال: من أنت؟ قلت: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله
بن شهاب فقال: أوه قوم يغارون في الفتن. قال: وكان مسلم بن عبيد الله
مع ابن الزبير، ثم قال: ما عندك في أمهات الأولاد؟ فأخبرته فقلت: حدثني
سعيد بن المسيب - فقال: كيف سعيد المسيب، وكيف حاله؟ ثم قلت: - وحدثني
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وحدثني عروة، وحدثني عبيد الله بن
عبد الله، ثم حدثته الحديث في أمهات الأولاد عن عمر بن الخطاب رضي اله
عنه. قال: فالتفت إلي قبيصة بن ذؤيب، فقال: هذا يكتب به إلى الآفاق،
فقلت: لا أجده أخلى منه الساعة، ولعلي لا أدخل عليه بعد هذه المرة،
فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يصل رحميي وأن يفرض لي فرائض أهل بيتي،
- فإني رجل لا ديوان لي - ، فعل، فقال: إيهاً الآن امض لشأنك، فخرجت
موئساً من كل شيء، خرجت له، وأنا حينئذ مقل مرمل، فجلست حتى خرج قبيصة
فأقبل علي لائماً لي، فقال لي: ما حملك على ما صنعت من غير أمري ألا
استشرتني؟ قلت: ظننت والله أني لا أعود إليه بعد ذلك المقام، قال: ولم
ظننت ذلك؟ تعود إليه، فالحق بي. فمشيت خلف دابته حتى دخل منزله، فقل ما
لبث حتى خرج إلي خادمه، برقعة فيها: هذه مائة ألف دينار قد أمرت لك
بها، وبغلة تركبها، وغلام يكون معك يخدمك، وعشرة أثواب كسوة، فقلت
للرسول: ممن أطلب هذا؟ فقال: ألا ترى في الرقعة اسم الذي أمرك أن
تأتيه؟ فنظرت في طرف الرقعة، فإذا فيها. تأتي فلاناً فتأخذ من ه ذلك.
قال: فسألت عنه فقيل: قهرمانه، فأتيته بالرقعة فأمر بذلك من ساعته،
فانصرفت وقد ريشني، فغدوت إليه من الغد وأنا على بغلته فسرت إلى جنبه،
فقال: احضر باب أمير المؤمنين حتى أوصلك إليه، قال: فحضرت فأوصلني
إليه، وقال: إياك أن تكلمه بشيء حتى يبتدئك وأنا أكفيك أمره، فسلمت
عليه بالخلافة فأومأ إلي أن أجلس، فلما جلست ابتدأ عبد الملك الكلام،
فجعل يسائلني عن أنساب قريش، فلهو كان أعلم بها مني. قال: وجعلت أتمنى
أن يقطع ذلك لتقدمه علي في العلم بالنسب، ثم قال: قد فرضت لك فرائض أهل
بيتك، ثم التفت إلى قبيصة فأمره أن يثبت ذلك في الدواوين.
فلما خرج قبيصة قال: إن أمير المؤمنين قد أمر أن تثبت في صحابته وأن
يجري عليك رزق الصحابة، وأن ترفع فريضتك إلى أرفع منها، فالزم باب أمير
المؤمنين. قال: وكان علي عرض الصحابة رجل فظ غليظ، فتخلفت يوماً أو
يومين فجبهني جبهاً شديداً، فلم أعد لذلك التخلف. وجعل عبد الملك يقول:
من لقيت؟ فجعلت أسمي له وأخبره بمن لقيت من قريش لا أعدوهم، قال: فأين
أنت عن الأنصار فإنك واجد عندهم علماً؟ أين أنت عن خارجة بن زيد بن
ثابت؟ أين أنت عن عبد الرحمن بن يزيد؟ فسمى رجالاً، فقدمت المدينة
فسألتهم وسمعت منهم.
وتوفي عبد الملك فلزمت الوليد حتى توفي، ثم سليمان، ثم عمر، ثم يزيد.
واستقضى يزيد الزهري وسليمان بن حبيب.
قال: وحج هشام سنة ست ومائة، وحج معه الزهري، فصيره هشام مع ولده
يعلمهم وفقههم ويحدثهم، فلم يفارقهم حتى مات.
قال ابن سعد: وأخبرنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: حدثني
إبراهيم بن سعد ، عن أبيه، قال: ما أرى أحداً أجمع بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما جمع ابن شهاب.
قال: وأخبرنا مطرف بن عبد الله اليساري، قال: سمعت مالك بن أنس يقول:
ما أدركت بالمدينة فقيهاً محدثاً غير واحد، فقلت: من هو؟ قال: ابن شهاب
الزهري.
وفي رواية عن مالك قال: أول من دولن العلم ابن شهاب.
وقال أيوب: ما رأيت أحداً أعلم من الزهري.
وقال عمر بن دينار ما رأيت أحداً أهون عليه الدينار والدرهم من الزهري.
توفي ابن شهاب في رمضان هذه السنة بأدامى وهيمن أعمال فلسطين وهو ابن
خمس وسبعين، فأوصى أن يدفع على قارعة الطريق.
نصر بن عمران، أبو جمرة الضبغي: قال: كنت أدفع الزحام عن ابن عباس
فحممت أياماً فتأخرت، فلما حضرته سألني عن تأخري فأخبرته بالحمى، فقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحمى من فيح جهنم فابردوها
بالماء " .
توفي هذه السنة.
ثم دخلت
سنة خمس وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها
غزوة
النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة.
وفيها: مات هشام بن عبد الملك، وولي الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
؟باب ذكر خلافة الوليد بن يزيد بن عبد
الملك
عقد يزيد بن عبد الملك الخلافة لولده الوليد بعد أخي هشام بن عبد
الملك، وكان يومئذ ابن إحدى عشرة سنة، فلم يمت يزيد حتى بلغ ابنه خمس
عشرة سنة، فندم على استخلافه هشاماً، وولي هشام وهو للوليد مكرم معظم،
فظهر من الوليد لعب وشرب للشراب، واتخذ ندماء، فولاه هشام الحج سنة ستة
عشرة ومائة، فحمل معه كلاباً في الصناديق، وعمل قبة على قدر الكعبة
ليضعها على الكعبة، وحمل معه خمراً، وأراد أن ينصب القبة على الكعبة
ويجلس فيها، فخوفه أصحابه، فجمع المغنين بمكة، وتشاغل باللهو.
أنبأنا علي بن عبيد الله بالنصر، قال: أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة قال:
أخبرنا أبو الحسين ابن أخي ميمي، قال: أخبرنا أبو مسلم بن مهدي، قال:
حدَّثنا أبو بكر محمد بن قارن، قال: حدَّثنا علي بن الحسن الهسنجاني،
قال: حدَّثنا أصبغ بن الفرج، قال: سمعت ابن عيينة يحدث: أن الوليد بن
يزيد كان أمر بالقبة من حديد أن تعمل وتركب على أركان الكعبة ويخرج لها
أجنحة لتظلله، إذا حج وطاف، فعملت ولم يبق إلا أن تركب، فقال الناس في
ذلك - الفقهاء والعباد - وغضبوا في ذلك وتكلموا وقالوا: لا يكون هذا
قط، وكان أشدهم في ذلك كلاماً وقياماً سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن،
وكتب إلى الوليد بذلك، فكتب: اتركوها، فقال سعد بن إبراهيم عند ذلك:
ليس إلا هذا لاها الله حتى يصنع بها كما صنع بالعجل لنحرقنه ثم لننسفنه
في اليم نسفاً، النار النار، فدعي بالنار حتى أحرقت.
أخبرنا محمد بن أبيمنصور، قال: أنبأنا علي بن أحمد بن البثري، عن
أبيعبد الله بن بطة العكبري، قال: حدثني أبو صالح محمد بن أحمد، قال:
حدثنا الحارث بن أبيأسامة، قال: حدثنا الواقدين قال: حدثنا موسى بن
أبيبكر، عن صالح بن كيسان: أن الوليد ولي سعيد بن إبراهيم على قضاء
المدينة، وأراد الوليد الحج، فاتخذ قبة من ساج ليجعلها حول الكعبة
ليطوف هو ومن أحب من أهله ونسائه فيها، وكان فظاً متجبراً، فأراد بزعمه
أن يطوف بها حول الكعبة، ويطوف الناس من وراء القبة، فحملها على الإبل
من الشام، ووجه معها قائداً من قواد أهل الشام في ألف فارس، وأرسل معه
مالاً يقسمه في أهل المدينة، فقدم بها فنصبت في مصلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ففزع لذلك أهل المدينة ثم اجتمعوا فقالوا: إلى من نفزع
في هذا الأمر، فقالوا: إلى سعد بن إبراهيم، فأتاه الناس فأخبروه الخبر،
فأمرهم أن يضرموها بالنار، فقالوا: لا نطيق ذلك، معها قائد في ألف فارس
من أهل الشام، فدعى مولى له فقال: هلم الجراب، فأتاه بجراب فيه درع عبد
الرحمن الذي شهد فيها بدراً فصبها عليه وقال لغلامه: هلم بغلتي، فأتاه
ببغلته فركبها، فما تخلف عنه يومئذ قريشي ولا أنصاري حتى إذا أتاه قال:
علي بالنار، فأوتي بنار فأضرمها فيها، فغضب القائد وهم بالخصومة، فقيل
له: هذا قاضي أمير المؤمنين ومعه الناس ولا طاقة لك به، فانصرف راجعاً
إلى الشام، وشبع عبيد أهل المدينة من الناطق مما استلبوه من حديدها.
فلما بلغ ذلك الوليد كتب إليه: ولِّ القضاء رجلاً وأقدم علينا، فولى
القضاء رجلاً، وركب حتى الشام، فأقام ببابه شهراً لا يؤذن له حتى نفذت
نفقته، وأضر به طول المقام، فبين هو ذا عشية في المسجد إذا هو بفتى في
جبة صفراء سكران، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا خال أمير المؤمنين سكران
يطوف في المسجد، فقال لمولى له: هلم بالسوط، فأتاه بسوطه، فقال: علي
به، فأتي به فضربه في المسجد ثمانين سوطاً وركب بغلته ومضى راجعاً إلى
المدينة، فأدخل الفتى على الوليد مجلوداً، فقال: من فعل هذا به؟ قالوا:
مديني كان في المسجد، قال: علي به، فلحق على مرحلة، فدخل عليه، فقال
أبا إسحاق: ماذا فعلت يا ابن أخيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنك وليتنا
أمراً من أمورك، وأني رأيت حد الله ضائعاً، سكران يطوف في المسجد وفيه
الوفود ووجوه الناس، وكرهت أن يرجع الناس عنك بتعطيل الحدود، فأقمت
عليه حده، فقال: جزاك الله خيراً، وأمر له بمال وصرفه إلى المدينة، ولم
يذاكره شيئاً من أمر القبة ولا عن فعله فيها.
ولما ظهر
من الوليد تهاوناً بالدين طمع فيه هشام وأراد خلعه والبيعة لابنه مسلمة
بن هشام فأبى فتنكر له هشام وعمل سراً في البيعة لابنه وتمادى الوليد
في الشراب فأفرط، فقال له هشام: ويحك يا وليد.ما أدري أعلى الإسلام أنت
أم لا، ما تدع شيئاً من المنكر إلا أتيته، غير متحاش، فكتب إليه الوليد
يقول:
يا أيها السائل عن ديننا ... ديني على دين أبيشاكر
نشربها صرفة وممزوجة ... بالسخن أحياناً وبالفاتر
فغضب هشام على ابنه مسلمة، وكان يكنى أبى شاكر، وقال له: يعيرني بك
الوليد وأنا أرشحك للخلافة فالزم الأدب واحضر الجماعة، وولاه الموسم
سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر المسك والوقار، وقسم بمكة والمدينة أموالاً،
فلما رأى الوليد تقصير هشام في حقه، خرج في ناس من خاصته ومواليه، فنزل
بالأزرق من أرض بلقين وفزارة على ماء يقال له الأغدق، وخلف كاتبه عياض
بن مسلم وقال له: اكتب لي ما يحدث قبلكم، فقطع هشام ما كان يجري على
الوليد، وضرب عياضاً ضرباً مبرحاً، فلم يزل الوليد مقيماً بتلك البرية
حتى مات هشام ووصلت إليه الخلافة، فسأل عن كاتبه عياض، فقيل يا أمير
المؤمنين لم يزل محبوساً، حتى نزل أمر الله بهشام، فلما صار في حد لا
ترجى الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخزان احتفظوا بما في أيديكم، ولا
يصلنا أحد منه إلى شيء، فأفاق هشام إفاقة، فطلب شيئاً فمنعوه، فقال:
أرانا كنا خزاناً للوليد، ثم مات من ساعته.
فخرج عياض من السجن، فختم أبواب الخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه،
فما وجدوا قمقماً يسخن له فيه ماء حتى استعاروه، ولا وجدوا كفناً من
الخزائن، وكفنه غالب مولى هشام.
فولي الوليد الخلافة يوم السبت في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين
ومائة. هذا قول هشام بن محمد.
وقال الواقدي: استخلف يوم الأربعاء لست خلون من ربيع الآخر، ولما ولي
الوليد يكنى أبا العباس أبا العباس وكانت أمه يقال لها أم الحجاج بنت
محمد بن يوسف بن الحكم أخي الحجاج بن يوسف - وكان أبيض أحمر أعين
جميلاً، قد شاب، طويل أصابع الرجلين يوتر له سكة حديد فيها خيط، ويشد
الخيط في رجله يثب على الدابة فينتزع السكة ويركب، ما يمس الدابة بيده.
وكان عالماً باللغة والشعر، فمن شعره قوله:
شاع شعري في سليمة وظهر ... ورواه كل بدو وحضر
فتهاداه العذارى بينها ... وتغنين به حتى اشتهر
قلت قولاً في سليمى معجباً ... مثلما قال جميل وعمر
لو رأينا لسليمى أثراً ... لسجدنا ألف ألف للأثر
واتخذناها إماماً مرتضى ... ولكانت حجنا والمعتمر
إنما بنت سعيد قمر ... هل خرجنا إن سجدنا للقمر
وسلمى هذه بنت سعيد بن خالد بن عثمان بن عفان، وكانت أخت امرأته ولم
يكن لجمالها نظير، وأحبها وطلق أختها حتى تزوجها في الخلافة، وله فيها:
إن القرابة والمودة ألفا ... بين الوليد وبين بنت سعيد
سلمى هواي ولست أذكر غيرها ... دون الطريف ودون كل تليد
ومن شعره:
أنا الوليد أبو العباس قد علمت ... عليا معد مدى كري وإقدامي
إني لفي الذروة العليا إذا انتسبوا ... مقابل بين أخوالي وأعمامي
مللت من جوهر الأغراض قد علموا ... في بازخ مشمخر الغز قمقام
وكان مقبلاً على اللهو والشراب والأغاني حتى أنه أحضر معبداً المغني من
المدينة، فحضر وهو على بركة مملوءة خمراً، فغناه فقذف نفسه في البركة
فنهل منها ثم خرج فتلقي في الثياب والمجامر، فأعطاه خمسة عشر ألف
دينار، وقال: انصرف بها إلى أهلك واكتم ما رأيت.
وقد روى أبو عبيدة المرزباني، قال: حدثنا أحمد بن كامل، قال: كان
الوليد بن يزيد زنديقاً، وأنه فتح المصحف يوماً فرأى فيه " واستفتحوا
وخاب كل جبار عنيد " فألقاه ورماه بالسهام، وقال:
تهددني بجبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب حرقني الوليد
وقد
أخبرنا هبة الله بن محمد بن الحصين، قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن علي
بن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن مالك، قال: أخبرنا عبد الله بن
أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدَّثنا أبو المغيرة، قال: حدَّثنا
ابن عياش، قال: حدثني الأوزاعي، وغيره عن الزهري، عن سعيد بن المسيب،
عن عمر بن الخطاب، قال: ولد لأخي أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم
غلام فسموه الوليد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سميتموه اسم
فراعينكم ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد هو شر على هذه الأمة
من فرعون لقومه " .
وفي رواية عن الأوزاعي، قال: سألت عن هذا الحديث الزهري، فقال: إن
استخلف الوليد بن يزيد وإلا فهو الوليد بن عبد الملك.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: والوليد بن يزيد أحق من الوليد بن عبد
الملك، وكان الوليد بن يزيد مشهوراً بالإلحاد، مبارزاً بالعناد، مطرحاً
للدين، وإنما قال عليه السلام: " سميتموه بأسماء فراعينكم " لأن اسم
فرعون موسى الوليد.
فلما ولي الوليد زاد ماكان يفعله من اللهو، وكتب إلى العباس بن عبد
الملك بن مروان أن يأتي الرصافة فيحصي ما فيها من أموال هشام وولده،
ويأخذ عماله وحشمه إلا مسلمة بن هشام فإنه كتب إليه: لا يعرض له ولا
يدخل منزله، فإنه كان يكثر أن يكلم أباه في الرفق ويكفه. فقدم العباس
الرصافة فأحكم ما كتب به الوليد إليه.
واستعمل الوليد العمال، وجاءت بيعته من الآفاق، وأقبلت إليه الوفود
وأجري على زمني أهل الشام وعميانهم، وكساهم، وأمر لكل إنسان منهم
بخادم، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة وزادهم على ما كان يخرج لهم
هشام، وزاد الناس جميعاً في العطاء عشرات ثم زاد أهل الشام بعد زيادة
العشرات عشرة عشرة لأهل الشام خاصة، وزاد من وفد إليه من أهل بيته في
جوائزهم الضعف.
وفي جمادى الآخرة من هذه السنة، وذلك بعد شهرين من ولايته عقد البيعة
لابنيه الحكم وعثمان بعده، وجعلهما وليي عهده أحدهما بعد الآخر، وجعل
الحكم مقدماً على عثمان، وقلد الحكم الشام، وعثمان حمص، وكتب بذلك إلى
الأمصار، وكان ممن كتب إليه بذلك يوسف بن عمر، وهو عامل الوليد يومئذ
على العراق، وكتب بذلك يوسف إلى نصر بن سيار ليبايع الناس لهما.
وفي هذه السنة: ولى الوليد بن يزيد نصر بن سيار خراسان كلها وأفرده بها
ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى نصراً وعماله منه، فرد إليه
ولاية خراسان، فكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يأمره بالقدوم عليه،
ويحمل ما قدر عليه من الهدايا والأموال، وأن يقدم عليه بعماله أجمعين،
فلما أتى نصراً كتابه قسم على أهل خراسان الهدايا وعلى عماله، فلم يدع
بخراسان جارية ولا عبداً ولا برذوناً فارهاً إلا أعده، واشترى ألف
مملوك وأعطاهم السلاح وحملهم على الخيل، وأعد خمسمائة وصيفة، وأمر
بصياغة الأباريق من الذهب والفضة، وتماثيل الظباء، ورؤوس السباع،
والأيائل وغير ذلك. فلما فرغ من ذلك كله كتب إليه الوليد يستحثه، فسرح
الهدايا التي بلغ أوائلها بيهق، وكتب إليه الوليد يأمره أن يبعث إليه
ببرابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن، يجمع كل صناجة بخراسان وكل بازي
وبرذون فاره، ثم يسير بذلك كله بنفسه ووجوه خراسان فلم يزل يتوقف حتى
وقعت الفتنة، فتحول نصر إلى قصره بما حاز، وكان أتاه آت وأخبره أ،
الوليد قد قتل، ووقعت الفتنة بالشام.
وفي هذه السنة: وجه الوليد بن يزيد خاله يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي
والياً على المدينة ومكة والطائف، ودفع إليه إبراهيم ومحمد ابني هشام
بن إسماعيل المخزومي موثقين في عبائتين وأقامهما للناس في المدينة، ثم
كتب الوليد إليه يأمره أن يبعث بهما إلى يوسف بن عمر وهو يومئذ عامله
على العراق، فلما قدما عليه عذبهما حتى قتلهما، وقد كان رفع عليهما عند
الوليد أنهما أخذا مالاً كثيراً.
وفي هذه السنة: عزل يوسف بن محمد سعد بن إبراهيم عن قضاء المدينة،
وولاها يحيى بن سعيد الأنصاري.
وفيها:
قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وقحطبة بن شبيب فلقوا محمد بن علي
- في بعض قول أهل السير - فأخبروه بقصة أبي مسلم وما رأوا منه، فقال
لهم: أحر هو أم عبد؟ فقالوا: أما عيسى فيزعم أنه عبد، وأما هو فيزعم
أنه حر، فاستروه واعتقوه وأعطوا محمد بن علي مائتي ألف درهم، وكسى
بثلاثين ألف درهم، فقال لهم: ما أظنكم تلقوني بعد عامكم هذا، فإن حدث
فصاحبكم إبراهيم بن محمد فإني أثق به لكم ، وأوصيكم به خيراً، قد
أوصيته بكم فصدروا من عنده.
وفيها: قتل يحيى بن زيد بن علي بخراسان، وقد ذكرنا أنه مضى بعد موت
أبيه إليها، وأقام ببلخ عند الحريش بن عمر وحتى هلك هشام وولي الوليد،
فكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار ليأخذ الحريش بن عمرو، فبعث نصر إلى
عقيل بن معقل العجلي يأمره بأخذ الحريش، فأخذه فسأله عن يحيى، فقال: لا
علم لي به، فجلده ستمائة سوط، فقال ابنه: لا تقتل أبي وأنا أدلك عليه،
فدله، فإذا هو في جوف بيت، فأخذه فجاء كتاب الوليد بتخليته، فدعاه نصر
فأمره بتقوى الله وحذره الفتنة وأمره أن يلحق بالوليد، وأمر له بألفي
درهم وبغلين، فمضى حتى انتهى إلى سرخس، فأقام بها، فأخرجه واليها وبعث
نصر بن سيار سلم بن أحوز في طلب يحيى بن زيد، فبعث سلم سورة بن محمد
الكندي فلقيه فقاتله فقتله وقتل أصحابه وأخذ رأسه.
وفيها: حج بالناس يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي، وكانت عمال الأمصار في
هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
صالح بن أبي صالح مولى التوأمة، يكنى أبا عبد الله: واسم أبي صالح
نبهان، والتوأمة بنت أمية بن خلف الجمحي، ولدت مع أخت لها توأمين، وهي
أعتقت أبا صالح. روى عن أبي هريرة، وحديثه قليل ضعيف.
توفي هذه السنة.
محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب: أمه العالية بن عبيد
الله بن العباس، وكان بينه وبين أبيه في السنة أربعة عشر سنة، وكان
أشبه الناس به، ولا يفرق بينهما إلى أن خضب علي، فعرف بخضابه، وكان له
من الولد اثنا عشر ذكراً وخمس بنات فمن الذكور: إبراهيم الإمام، وإليه
أوصى، فقام بالإمامة من بعده. وعبد الله السفاح، وعبد الله المنصور،
وعبد الله الأصغر، وإسماعيل، وموسى، وداود، وعبيد الله، والعباس،
ويعقوب، ويحيى.
ومن الإناث: بريهة، وريطة، والعلية، ولبابة، وأم حبيب.
ومحمد بن علي أول من نطق بالدولة العباسية، وأول من دعي إليه من بني
العباس وسمي بالإمام، وكوتب وأطيع. وكان ذلك في سنة تسع وثمانين في
خلافة الوليد بن عبد الملك.
وكان عبد الله بن محمد بن الحنفية قد أوصى إليه ورفع إليه كتبه وقال:
إنما الأمر في ولدك.
فتوفي محمد بن علي قبل تمام الدعوة في ذي القعدة من هذه السنة، وكان
بين وفاته ووفاة أبيه سبع سنين، وبلغ من العمر ستين، وقيل: ثلاثاً
وستين، وأوصى إلى ابنه إبراهيم، فسمي الإمام.
محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حارثة بن النعمان: أمه عمرة بنت عبد
الرحمن بن سعد بن زرارة. ويكنى أبا الرجال، وإنما كني بذلك لأجل ولده،
وكان له عشرة ذكور، وروى عن أنس وأمه وكان ثقة، وروى عنه مالك الفقيه.
وثم آخر اسمه سالم ويكنى أبا الرجال، روى عن عطاء، وروى عنه الفضل بن
غزوان، لا يعلم من يكنى أبا الرجال سوى هذين.
فأما من يكنى أبا الرحال - بالحاء المهملة المشددة فثلاثة: أبو الرحال
عقبة بن عبيد الطائي، كوفي رأى أنس بن مالك. وأبو الرحال خالد بن محمد
الأنصاري، يروي عن النضر بن أنس الخزرجي، قال البخاري: هو منكر الحديث.
وأبو الرحال سمع الحسن، حديثه مرسل، روى عنه أبو نعيم.
معبد بن وهب بن قطن، أبو عباد المغني: الذين كان يضرب به المثل في
الغناء، وكان من أحسن الناس غناء وأجودهم صناعة، مولى العاص بن وابصة
المخزومي. وقيل: هو مولى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. خلاسياً
مديد القامة أحول، وكان أبوه أسود. عاش معبد حتى كبر وانقطع صوته، توفي
في عسكر الوليد بن يزيد عن خمس وثمانين سنة، فمشى الوليد بين يدي
جنازته.
هشام بن عبد الملك بن مروان
مرض
بالذبحة، قال سالم أبو العلاء: خرج علينا هشام يوماً وهو كئيب، فسألته
عن حاله، فقال: لا أغتم وقد زعم أهل العلم إني ميت إلى ثلاثة وثلاثين
يوماً. قال: فلما استكمل الأيام إذا خادم يدق الباب يقول: أجب أمير
المؤمنين واحمل معك دواء الذبحة، وقد كان أخذه مرة فعولج به فأفاق،
فخرجت ومعي الدواء فتغرغر به فازداد الوجع شدة ثم سكن، فانصرفت إلى
أهلي فما كان إلا ساعة حتى سمعت الصراخ، فقالوا: مات. فأغلق الخزان
الأبواب، فطلبوا له قمقماً يسخن فيه الماء فما وجدوه حتى استعاروه من
الخزان.
قال علماء السير: لما رأى هشام أولاده حوله يبكون في مرضه، قال: جلد
لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما
اكتسب، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له.
وكان قد خلف سبعمائة ضيعة، وكان له الهني والمري بالرقة، وكانا يرفعان
عشرة آلاف ألف، وهو الذي احتفر الهني.
ووحد له اثنا عشر ألف قميص ولم يوجد له إلا أربعة أرؤس من الدواب،
ونعلان وبضعة عشر خادماً.
قال أبو معشر: كانت وفاته لست ليال خلون من ربيع الآخر. وكانت خلافته
تسع عشرة سنة وثمانية أشهر ونصف.
وقال المدائني وابن الكلبي: وسبعة أشهر وأحد عشر يوماً.
واختلفوا في مبلغ سنه، فقال هشام بن محمد: كان له خمس وخمسون سنة. وقال
الواقدي: أربع وخمسون، وقال غيره: اثنتان وخمسون.
وكانت وفاته بالرصافة وبها قبره، وصلى عليه ابنه سلمة.
ثم دخلت
سنة ست وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها قتل خالد بن عبد الله القسري، وكان قد عمل لهشام خمس
عشرة سنة إلا ستة أشهر على العراق، خراسان، فلما ولي يوسف بن عمر أخذه
وحبسه وعذبه لأحل انكسار الخراج، فكتب هشام بتخلية سبيله فخلي سبيله في
شوال سنة إحدى وعشرين فخرج إلى ناحية هشام فلم يأذن له في القدوم عليه،
وخرج يد بن علي فقتل. وكتب يوسف إلى هشام: إن أهل هذا البيت من بني
هاشم قد كانوا هلكوا جوعاً حتى كانت لقمة أحدهم قوت عياله. فلما ولي
خالد العراق أعطاهم الأموال فقووا بها، فتاقت نفوسهم إلى طلب الخلافة،
وما خرج زيد إلا عن رأي خالد، فقال لرسوله: كذبت وكذب من أرسلك، لسنا
نتهم خالداً في طاعة، وأقام خالد بدمشق حتى هلك هشام.
وقام الوليد فكتب إلى خالد أن أمير المؤمنين قد علم حال الخمسين ألف
ألف، فأقدم على أمير المؤمنين، فقدم فقال له: أين ابنك؟ قال: كنا نراه
عند أمير المؤمنين، قال: لا ولكنك خلفته للفتنة، فقال: قد علم أمير
المؤمنين أنّا أهل بيت طاعة، فقال: لتأبين به أو لأزهقن نفسك، فقال له:
هذا الذي أردت وعليه عولت، والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها، فأمر
الوليد صاحب حرسه بتعذيبه، فعذبه فصبر فحبسه، فقدم يوسف بن عمر فقال:
أنا أشتريه بخمسين ألف ألف، فأرسل الوليد إلى خالد يخبره ويقول: إن كنت
تضمنها وإلا دفعتك إليه، فقال: ما عهدت العرب تباع.
فدفعه إلى يوسف فعذبه مراراً، ثم أتى بعود فوضعه على قدميه، وقامت عليه
الرجال حتى كسرة قدماه، فوالله، ما تكلم ولا عبس، ثم على ساقيه حتى
كسرتا، ثم على فخذيه، ثم على حقويه، ثم على صدره حتى مات.
ودفن بناحية الحيرة، وذلك في المحرم سنة ست وعشرين ومائة.
وفيها: قتل الوليد بن يزيد، قد ذكرنا أن الوليد كان مشتغلاً باللعب
واللهو، معرضاً عن الدين قبل الخلافة، فلما وليها زاد ذلك فثقل أمره
على رعيته وكرهوه، ثم ضم إلى ذلك أنه فسد أمره مع بني عمه ومع اليمانية
وهي أعظم جند الشام، فضرب سليمان بن هشام مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته
وغربه إلى عمان فحبسه بها، فلم يزل بها حتى قتل الوليد، وغضب الوليد
على خالد بن عبد الله، وكان يسميه يوسف الفاسق، ورماه بنو هاشم بالكفر
والزندقة وغشيان أمهات أولاد أبيه. وقالوا إنه اتخذ مائة جامعة، وكتب
على كل جامعة اسم رجل من بني أمية ليقتله بها، وكان أشدهم فيه قولاً
ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل، لأنه
كان يظهر النسك ويقول: ما يسعنا الرضى بالوليد، حتى حمل الناس على
الفتك به، وأجمع على قتله قوم من قضاعة واليمانية من أهل دمشق خاصة،
فأتى قوم منهم خالد بن عبد الله، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، قالوا:
فاكتم علينا، قال: لا أسمي أحداً منكم.
ثم إن
الوليد أراد الحج، فخاف خالد أن يفتكوا به في الطريق، فقال: يا أمير
المؤمنين أخر الحج العام. قال: ولم؟ فلم يخبره، فأمر بحبسه وأن يستأدي
ما عليه من أموال العراق، وبايع الناس يزيد بن الوليد سراً، واجتمع
عليه أكثر أهل دمشق، وأجمع يزيد على الظهور، فقيل للعامل: إن يزيد
خارج، فلم يصدق، فأرسل يزيد أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة
ست وعشرين ومائة، فمكثوا عند باب الفراديس حتى أذنوا العتمة، فدخلوا
فصلوا وللمسجد حرس، وقد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل، فلما صلى
الناس صاح بهم الحرس، وتباطأ أصحاب يزيد، فجعلوا يخرجون من باب ويدخلون
من آخر حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد، فقبض أصحاب يزيد
على الحرس جميعهم، ومضى يزيد بن عن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فأعلمه
وأخذ بيده وقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه، فقام
وقال: اللهم إن كان هذا لك رضاً فأعني عليه وسددني، فإن كان غير رضاً
فاصرفه عني بموت، وأقبل في اثني عشر رجلاً، ثم اجتمع أصحابهم وأخذ خزان
بيت المال وصاحب البريد وكل من يحذره، وقبضوا سلاحاً كثيراً من المسجد
كان فيه. وخرج الوليد إلى حصن للعرب، وقصده أصحاب يزيد فقاتلهم في
جماعة معه، وقال لأصحابه: من جاء برأس فله خمسمائة، فجاء قوم بأرؤس،
فقال: اكتبوا أسماءهم، فقال رجل: ما هذا يوم يعمل فيه بنسيئة، فتفرق
عنه أصحابه فدخل الحصن وأغلق الباب وقال: أما فيكم رجل له حسب وحياء
أكلمه كلمة؟ فقال له يزيد بن عنبسة: كلمني، قال: ألم أزد في أعطياتكم،
ألم أعط فقراءكم، ألم أخدم زمناكم، فقال: ما ننقم عليك في أنفسنا ولكن
ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك
واستخفافك بأمر الله، فرجع إلى الدار فجلس وأخذ مصحفاً وقال: يوم كيوم
عثمان.
ثم أن أصحاب يزيد علوا حائط الدار، وكان أول من علاه يزيد بن عنبسة،
فنزل إلى الوليد وسيف الوليد إلى جنبه، فقال له ابن عنبسة: نحّ سيفك،
فقال له الوليد: لو أردت السيف لكان لي ولك حال غير هذه ، فأخذ بيد
الوليد وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه، فنزل من الحائط عشرة، فضربه
أحدهم على رأسه، وضربه آخر على وجهه، واحتز آخر رأسه، وقدم بالرأس على
يزيد فسجد، وكانوا قد قطعوا كفه، فبعثوا بها إلى يزيد قبل الرأس فطيف
به في دمشق ثم نصب.
وكان يزيد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف، وانتهب الناس عسكره وخزانته.
باب ذكر خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك
كان يكنى أبا خالد، وأمه أم ولد، وهي بنت فيروز بن يزدجرد. وكان أسمر
طويلاً، صغير الرأس، بوجهه خال، وكان جماعة قد بايعوه قبل قتل الوليد،
فلما قتل اجتمعوا عليه فنقص من أعطيات الناس ما كان زادهم الوليد،
وردهم إلى أعطيات هشام، فسموه الناقص. وأول من سماه بهذا الاسم مروان
بن محمد.
وقيل: بل سمي بذلك لنقصان كان في أصابع رجليه، وهو أول خليفة كانت أمه
أمَة، وكانت بنو أمية تتجنب ذلك توطيداً للخلافة، ولأنهم سقط إليهم أن
ملكهم يزول على يد خليفة منهم أمه أمَة، فكان ذلك مروان بن محمد،
وسيأتي ذكره بعد خلافة يزيد هذا.
ثم أن يزيداً خطب الناس بعد قتل الوليد، وقال: إني والله ما خرجت أشراً
ولا بطراً ولا حرصاً على الدنيا، ولا رغبة في الملك، ولكن خرجت غضباً
لله ولرسوله ولدينه، وداعياً إلى كتابه وسنة نبيه، لما هدم الوليد
معالم الهدى، وأطفأ نور أهل التقى، وكان جباراً مستحلاً للحرم مع أنه
ما كان يصدق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب، فسألت الله تعالى فأراح
منه العباد والبلاد، أيها الناس إن لكم علي ألا أضع حجراً على حجر، ولا
لبنة على لبنة، ولا أكري نهراً، ولا أكثر مالاً، ولا أعطيه زوجة ولا
ولداً، ولا أثقله من بلد إلى بلد حتى أسد ثغرة ذلك البلد وخصاصة أهله
بما يغنيهم، ولا أغلق بابي دونكم، وإن لكم أعطياتكم في كل سنة،
وأرزاقكم في كل شهر، فإن أنا وفيت لكم بمالكم وبما قلت فعليكم بالسمع
والطاعة، وإن أنا لم أف لكم فلكم أن تخلعوني، وإن علمتم أحداً ممن يعرف
بالصلاح، يعطيكم مننفسه مثلما أعطيتكم وأردتم أن تبايعوه فأنا أول من
يبايعه. أيها الناس، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ثم دعا
أناس إلى تجديد البيعة له، وأظهر النسك وقراءة القرآن وأخلاق عمر بن
عبد العزيز وأحسن السيرة، فلما علم أهل البلاد بقتل الوليد ثارت الفتن،
ووثب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعمان، وكان محبوساً بها، حبسه ابن
عمه الوليد، فأخذ ما فيها من الأموال، وأقبل إلى دمشق.
ووثب أهل حمص، وغلقوا أبوابها، وأقاموا النوائح على الوليد، وهدموا دار
العباس بن الوليد بن عبد الملك لأنه أعان على الوليد، فكتبوا بينهم
كتاباً ألا يدخلوا في طاعة يزيد، وخرجوا عليه، فبعث إليهم جيشاً
فانهزموا وقتل منهم ثلاثمائة.
ووثب أهل فلسطين والأردن على عاملهم فأخرجوه.
ولما تم الأمر ليزيد بن الوليد عزل يوسف بن عمر عن العراق وولاها منصور
بن جمهور، فسار إلى العراق، فبلغ خبره يوسف بن عمر فهرب إلى البلقاء
فقدم منصور الحيرة في أيام خلت من رجب فأخذ بيوت الأموال وأخرج العطاء
وولي العمال، وبايع ليزيد بن الوليد بالعراق وكورها، وكتب بذلك ، وأطلق
من في سجون يوسف، وبلغ خبر يوسف إلى يزيد بن الوليد، فبعث من يأتيه به،
فجيء به في وثاق، فأقام في الحبس ولا يزيد كلها وشهرين وعشرة أيام في
ولاية إبراهيم، فلما قدم مروان الشام وقرب من دمشق ولى قتله يزيد بن
خالد، فبعث مولى لاه فضرب عنق يوسف.
وفيها: امتنع نصر بن سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل يزيد منصور بن
جمهور، وكان يزيد قد ولاها منصور مع العراق.
وقد ذكرنا أن يوسف بن عمر كبت إلى نصر بالمصير إليه مع الهدايا للوليد
بن يزيد، فشخص نصر من خراسان إلى العراق، وتباطأ في سفره حتى قتل
الوليد، فجاءه من أخبره بأن منصور بن جمهور قد أقبل أميراً على العراق،
وأن يوسف بن عمر قد هرب، فرد نصر تلك الهدايا، وأعتق الرقيق، وقسم تلك
الآنية، ووجه العمال، وأمرهم بحسن السيرة ودعى الناس إلى البيعة
فبايعوه.
وفيها: عزل يزيد بن الوليد منصور بن جمهور عن العراق، وولاها عبد الله
بن عمر بن عبد العزيز بن مروان.
وفيها: كتب يزيد إلى عامله عبد الله بن عمر بن عبد العزيز أن يرد على
الحارث بن شريح ما كان أخذ من ماله وولده لأنه خاف منه أن يقدم عليه
بالترك، طمع أن يناصحه، وأرسل إليه من يرده من بلاد الترك.
وفيها: وجه إبراهيم بن محمد الإمام بكير بن ماهان إلى خراسان، وبعث معه
بالسيرة والوصية، فقدم مرو، وجمع النقباء ومن بها من الدعاة، فنعى
إليهم الإمام محمد بن علي ودعاهم إلى إبراهيم، ودفع إليهم كتاب إبراهيم
فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على
إبراهيم بن محمد.
وفيها: أخذ يزيد بن الوليد البيعة لأخيه إبراهيم بن الوليد على الناس
وجعله ولي عهده، ولعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك من بعد إبراهيم.
وكان سبب ذلك أن يزيد مرض في ذي الحجة من سنة ست وعشرين، فقيل له: بايع
لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز من بعده، ففعل.
وفيها : عزل يزيد بن الوليد يوسف بن محمد بن يوسف عن المدينة، وولاها
عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان رضي الله عنه.
وفيها: أظهر مروان بن محمد بن مروان الخلاف ليزيد، وانصرف من أرمينية
إلى الجزيرة مظهراً أنه طالب بدم الوليد بن يزيد، فلما صار بحرّان وجمع
جمعاً كثيراً وتهيأ للمسير إلى يزيد، كاتبه يزيد على أن يبايعه ويوليه
ما كان عبد الملك بن مروان ولى إياه من الجزيرة وأرمينية والموصل
وأذربيجان فبايع له بحران.
وفي هذه السنة: حج بالناس عمر بن عبد الله بن عبد الملك، بعثه يزيد بن
الوليد، وخرج معه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو على المدينة
ومكة والطائف والعراق. وكان على قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى قضاء
البصرة عامر بن عبيدة، وكان على خراسان نصر بن سيار.
وفيها: مات يزيد، وكان إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، يكنى أبا
إسحاق، وأمه أم ولد بربرية اسمها خشف، وكان يزيد بن الوليد قد جدد
البيعة لإبراهيم قبل موته بثلاثة أيام غير أنه لم يتم له أمره، فكان
يسلم عليه جمعة بالخلافة وجمعة بالإمارة وجمعة لا يسلم عليه لا
بالإمارة، ولا بالخلافة، فكان على ذلك حتى قدم مروان بن محمد فخلصه،
وقتل عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان الذي كان يزيد عقد له
البيعة من بعد إبراهيم بن الوليد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
خالد بن
عبد الله القسري البجلي اليماني: كان بواسط، وقيل: بالكوفة، وقد ذكرنا
كيف هلاكه في الحوادث.
دراج بن سمعان، أبو السمح مولى عبد الله بن عمرو بن العاص: سمع من عبد
الله بن الحارث بن جزء. روى عنه الليث وابن لهيعة.
وكان يقص بمصر ويقول: أدركت زماناً إذا سمعنا أنه قد جمع القرآن حججنا
إليه لننظر إليه.
شميط بن عجلان، أبو عبيد الله: كان عابداً واعظاً.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن أبي عثمان، قال:
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن الصلت، قال: حدَّثنا أحمد بن جعفر
بن المنادي، قال: حدَّثنا هارون بن الحكم، قال: حدَّثنا مجاهد بن موسى،
قال: حدَّثنا عبد الله بن عيسى المقابري، قال: حدَّثنا عبد الله بن
شميط، عن أبيه أنه كان يقول في مواعظه: إن المؤمن يقول لنفسه: إنما هي
ثلاثة أيام، فقد مضى أمس بما فيه، وغداً أملك لعلك لا تدركه، إنما هو
يومك هذا فإن كنت من أهل غد فسيجيء رب غد برزق غد، إن دون غد يوم وليلة
تخترم فيه أنفس كثيرة، فلعلك المخترم فيه، كفى كل يوم همه، ثم قد حملت
على قلبك الضعيف همّ السنين والدهور، وهم الغلاء والرخص، وهم الشتاء
قبل أن يجيء، وهم الصيف قبل أن يجيء، فماذا أبقيت من قلبك الضعيف
للآخرة، العجب لمن صدق بدار الحيوان كيف يسعى لدار الغرور.
عبد الله بن غالب الحراني: أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا حمد
بن أحمد الحداد، قال: أخبرنا أبو تنعيم أحمد بن عبد الله، قال: حدَّثنا
أبي، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن عمر، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد
بن عبيد، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثني صدقة بن بكر السعدي،
قال: حدثني المغيرة بن حبيب، قال: قال عبد الله بن غالب الحراني: لما
برز العدو على ما أساء من الدنيا، فوالله ما فيها للبيب جدل، ووالله
لولا محبتي لمباشرة السهر بصفحة وجهي وافتراش الجبهة لك يا سيدي،
والمراوحة بين الأعضاء في ظلم الليل، رجاء ثوابك وحلول رضوانك، لقد كنت
متمنياً فلفراق الدنيا وأهلها. قال: ثم كسر جفن سيفه ثم تقدم فقاتل حتى
قتل. قال: فحمل من المعركة وإنه لرمق، فمات، دون العسكر، فلما أن دفن
أصابوا من قبره رائحة المسك. قال: فرآه رجل من إخوانه في منامه، فقال:
يا أبا فراس، ما صنعت؟ قال: خير الصنع، قال: إلى ما صرت؟ قال: إلى
الجنة، قال: بم؟ قال : بحسن اليقين وطول التهجد وظمأ الهواجر، قال: ما
هذه الرائحة الطيبة التي توجد من قبرك؟ قال: تلك رائحة التلاوة والظمأ،
قال: قلت: أوصني، قال: اكسب لنفسك خيراً، لا تخرج عنك الليالي والأيام
عطلاً.
عبد الله بن سريج أبو يحيى مولى بني نوفل بن عبد مناف وقيل: مولى بني
الحارث بن عبد المطلب، وقيل: مولى لبني مخزوم، وقيل: مولى لبني ليث.
ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وكان نائحاً ثم صار من مشاهير المغنين
وكبارهم، وكان آدم أحمر ظاهر الدم سفاطاً، في عينه فتل، وفي رأسه صلع،
وكان منقطعاً إلى عبد الله بن عفر.
وذكر الكلبي عن أبيه، قال: كان ابن سريج مخنثاً أحول أعمش، وكان أحسن
الناس غناء، وغنى فيزمن عثمان.
وقال غيره: كان مغني أهل مكة ابن سريج، ومغني أهل المدينة معبد.
الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد: ولد سنة ستين. شاعر متقدم مقدم، عالم
باللغة، كان في أيام بني أمية، ولم يدرك الدولة العباسية، تكلم مع حماد
الواوية فأفحم حماداً، وأنشد هشام بن عبد الملك فأعطاه مالاً كثيراً.
وأنشد خالداً القسري فأعطاه مائة ألف درهم.
وقال معاذ الهزاء: الكميت أشعر الأولين والأخرين وبلغ شعره خمسة آلاف
ومائتين وتسعاً وثمانين بيتاً.
الوليد بن يزيد بن عبد الملك: قتل يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى
الآخرة من هذه السنة. وكانت خلافته سنة وثلاثة اشهر في قول أبي معشر.
وقال هشام: سنة وشهرين واثني عشر يوماً.
وفي مقدار عمره خمسة أقوال، أحدها: ثمانية وثلاثون سنة، قاله هشام.
والثاني: ست وثلاثون، قاله الواقدي، والثالث: إحدى وأربعون سنة،
والرابع خمس وأربعون، والخامس: ست وأربعون.
يزيد بن الوليد بن عبد الملك: ولي ستة أشهر وليلتين. وقال هشام: ستة
أشهر وأياماً. وقال المدائني: خمسة أشهر واثني عشر يوماً.
وتوفي
لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن ست وأربعين سنة،
وقيل: ابن ثلاثين سنة، وقيل: سبع وثلاثين سنة.
ثم دخلت
سنة سبع وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها مسير مروان بن محمد إلى الشام. وقد ذكرنا أنه خرج بعد
مقتل الوليد بن يزيد مظهراً أنه ثائر بالوليد منكر لقتله، ثم لما كاتبه
يزيد عاد فبايع له، وبعث بذلك جماعة من وجوه الجزية منهم محمد بن
عُلاثة، فأتاه موت يزيد، فأرسل إلى ابن علاثة فردهم من منبج، وشخص إلى
إبراهيم بن الوليد، فلما انتهى إلى قنسرين دعا الناس إلى مبايعته، ثم
توجه إلى حمص، وكانوا قد امتنعوا حين مات يزيد، أن يبايعوا إبراهيم،
فوجه إبراهيم لهم عبد العزيز في جند أهل دمشق، فحاصرهم في مدينتهم،
وأغذ مروان السير، فلما دنا من مدينة حمص رحل عبد العزيز عنهم، وخرجوا
إلى مروان فبايعوه وساروا معه.
ووجه إبراهيم بن الوليد مع سليمان بن هشام عشرين ومائة ألف، فلقيهم
مروان في نحو من ثمانين ألفاً، فاقتتلوا. وبعث مروان أقواماً قطعوا
الشجر وعقدوا على نهر هناك جسوراً، فعبروا إلى عسكر سليمان من ورائهم،
فلم يشعروا إلا بالخيل فانهزموا وقتل منهم نحواً من ثمانية عشر ألفاً.
وفي هذه السنة دعا عبد الله بن معاوية بن عبد الإله بن جعفر بن أبي
طالب إلى نفسه بالكوفة، وحارب بها عبد اله بن عمر بن عبد العزيز، فهزمه
عبد الله بن عمر، فلحق بالجبال فغلب عليها. وكان خروجه فيم محرم سنة
سبع وعشرين.
وكان سبب خروجه أنه قدم إلى الكوفة زائراً لعبد الله بن عمر يلتمس صلته
ولا يريد خروجاً فتزوج ابنة حاتم بن الشرقي، فلما وقعت العصبية، وكان
سببها أن عبد الله أعطى قوماً ومنع قوماً فاختصموا، فقال أهل الكوفة
لعبد الله: ادع إلى نفسك، فبنو هاشم أولى بالأمر من بني مروان، فدعا
سراً بالكوفة وبايعه ابن ضمرة الخزاعي، فدسم إليه ابن عمر فأرضاه،
فأرسل إليه: إذا التقينا انهزمت بالناس، فقيل لابن عمر: قد جاء ابن
معاوية، فأخرج مالاً وخرج فأمر منادياً ينادي: من جاء برأس فله
خمسمائة، فأتى رجل برأس فأعطي خمسمائة، فلما رأى أصحابه الوفاء ثاروا
بالقوم فإذا خمسمائة رأس، فانكشف أمر ابن معاوية، وانهزم ابن ضمرة فلم
يبق مع أين معاوية أحد، فخرج إلى المدائن فبايعوه، وأتاه قوم من أهل
الكوفة، ثم خرج إلى المدائن فغلب على حلوان والجبال وهمدان وقومس
وأصبهان والري.
وفي هذه السنة: وافى الحارث بن شريح مرو، وجاء إليها من بلاد الترك
بالأمان الذي كتب له يزيد بن الوليد، فصار إلى نصر ثم حالفه وبايعه على
ذلك جمع كبير، وكان قدم مرو لثلاث بقين من جمادى الآخرى، سنة سبع
وعشرين، فتلقاه نصر وأجرى عليه نزلاً كل يوم خمسين درهماً، وأطلق نصر
من كان عنده من أهله، وبعث إليه بفرس وفرش، فباع ذلك وقسمه في أصحابه،
وكان يجلس على برذعة، وتثنى له وسادة غليظة، وعرض عليه نصر أن يوليه
ويعطيه مائة ألف فلم يقبل، وقال لست من أهل اللذات، إنما أسألك كتاب
الله والعمل بالسنة فإن فعلت ساعدتك، وإني خرجت من هذا البلد منذ ثلاث
عشرة سنة إنكاراً للجمر، أنت تريدني عليه، فانضم إلى الحارث ثلاثة
آلاف.
وفي هذه السنة: بويع لمروان بن محمد بن مروان بالخلافة بدمشق.
وذلك أنه لم قيل: قد دخلت خيل مروان دمشق هرب إبراهيم بن الوليد ونهب
بيت المال، وثار موالي الوليد بن يزيد، فقتلوا عبد العزيز بن الحجاج،
ونبشوا قبل يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية ودخل مروان دمشق،
فبايعوه واستوت له الشام وانصرف، فنزل حران وطلب الأمان منه إبراهيم بن
الوليد وسليمان بن هشام فأمنهما، وخلع إبراهيم في ربيع الآخر من هذه
السنة، وكان مكثه أربعة أشهر، وقيل: أربعين ليلة.
باب ذكر خلافة مروان بن محمد بن مروان
وهو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، ويكنى أبا عبد الله، وقيل بويع
عبد الملك، وقيل أبا الوليد، أمه أم ولد كردية، وقيل: رومية، اسمها
مارية البرما، بويع له وهو ابن إحدى وخمسين سنة، ويلقب بالجعدي، لأن
الجعد بن إبراهيم كان مؤدبه، وكان الجعد متهماً بالزندقة، فقتله خالد
بن عبد الله القسري، وخص مروان في ملكه بأشياء لم تكن لمن بعده، منها
البقرة التي يضرب بها المثل، كان يقف تحته في الحرب يومه وليلته لا
يبول ولا يروث.
قال
الأصمعي: خطباء بني أمية خمسة: معاوية، وعبد الملك، وعمر بن عبد
العزيز، وهشام، ومروان بن محمد.
وفي هذه السنة: انتفض على مروان أهل حمص، وسائر أهل الشام فحاربهم.
وذلك أنه أقام بحران بعد أن بويع له أربعة أشهر، وقيل: ثلاثة أشهر وهو
الأصح - ثم خالفه أهل الشام، وكان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بن نعيم،
راسلهم وكاتبهم، فبلغ مروان خبرهم، فسار إليهم بنفسه ومعه إبراهيم بن
يزيد المخلوع، وسليمان بن هشام يكرمهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه،
فانتهى إلى حمص، فأحدقت بها خيله فأشرفوا عليه، فناداهم مناديه: ما
الذي دعاكم إلى النكث؟ فقالوا: لم ننكث، فاقتحم عمرو بن الوضاح في
ثلاثة آلاف، فقاتلوهم داخل المدينة، فلما كثرتهم خيل مروان انتهوا إلى
باب من أبواب المدينة يقال له: باب تدمر، فخرجوا منه والروابط عليهم،
فقاتلوهم، فقتل عامتهم وأسر منهم قوم، فأتى بهم مروان فقتلهم، وأمر
بالقتلى وهم ستمائة، فصلبوا حول المدينة، وهُدم من حائط المدينة نحو من
غلوة، وثار أهل الغوطة إلى دمشق فحاصروا أميرهم زامل بن عمرو، وولوا
عليهم يزيد بن خالد القسري، وقتل مروان خلقاً كثيراً، وأقام بدير أيوب
حتى بايع لابنيه: عبيد الله، وعبد الله، وزوجهما ابنتي هشام بن عبد
الملك، وهما: أم هشام، وعائشة. وقطع على جند أهل الشام بعثاً، وأمرهم
باللحاق بيزيد بن عمر بن هبيرة، وكان قبل مسيره إلى الشام قد وجهه في
عشرة آلاف من أهل قنسرين والجزيرة، وصيره مقدمه له وانصرف مروان إلى
قرقيسياء وابن هبيرة بها ليقدمه إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس
الشيباني الحروري.
وأقبل نحو من عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو
العراق مع قوادهم، فزادهم حتى جاءوا الرصافة سليمان إلى خلع مروان
ومحاربته.
وفي هذه السنة: خرج الضحاك بن قيس الشيباني، فدخل الكوفة. وسبب ذلك أنه
لما قتل الوليد خرج بالجزيرة حروري يقال له سعيد بن بهدلة الشيباني في
مائتين من أهل الجزيرة وفيهم الضحاك، فاغتنم قتل الوليد واشتغال مروان
بالشام، وخرج بسام البيهقي وهو مفارق لرأيه في مثل عدتهم من ربيعة،
فسار كل واحد منهما إلى صاحبه، فلما تقارب العسكران قتل بسطام وجميع من
معه إلا أربعة عشر لحقوا بمروان، فكانوا معه. ثم مضى سعيد بن بهدلة نحو
العراق لما بلغه من تشتت الأمر بها واختلاف أهل الشام، فمات سعيد بن
بهدلة من طاعون أصابه، واستخلف الضحاك بن قيس، فاجتمع مع الضحاك نحو من
ألف، فتوجه إلى الكوفة ومر بأرض الموصل فاتبعه منها ومن السواد نحو من
ثلاثة آلاف، فبرز له أهل الكوفة فهزمهم استولى على الكوفة ومضى إلى
واسط فحاصرها وخرجوا يقاتلونه، فلم يزالوا على ذلك شعبان ورمضان وشوال،
ثم خرج والي واسط إلى الخارجي فبايعه.
وفيها: خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد ونصب له الحرب.
وذلك أنه لما شخص مروان إلى الرقة لتوجه ابن هبيرة إلى العراق لمحاربة
الضحاك بن قيس استأذنه سليمان بن هشام أن يقيم أياماً لإصلاح أمره،
فأذن له فقيل له: أنت أرضى عند أهل الشام من مروان وأولى بالخلافة،
فأجابهم وعسكر بهم وسار بهم إلى قنسرين، وكاتب أهل الشام فانفضوا إليه
من كل جانب فأقبل إلى مروان وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالثبوت في
عسكره، واجتمع إلى سليمان بن هشام نحو من سبعين ألفاً من أهل الشام
وغيرهم، فلما دنا منه مروان قدم إليه السكسكي في نحو من سبعة آلاف،
ووجه مروان عيسى بن مسلم في نحو من عدتهم، فالتقوا فاقتتلوا قتالاً
شديداً، وانهزمت مقدمة مروان، فانهزم سليمان، واتبعته خيول مروان
تقتلهم وتأسرهم، واستباحوا عسكرهم، وقتل منهم أكثر من ثلاثين ألفاً،
ومضى سليمان مفلولاً حتى انتهى إلى حمص، فانضم إليه من أفلت من أصحابه،
فعسكر بهم وبنى ما كان مروان هدمه من حيطانها، وجاءهم مروان فخرجوا
إليه فاقتتلوا، وعلم سليمان أنه لا طاقة له بهم، فذهب إلى تدمر. ونزل
مروان بحمص فحاصرهم عشرة أشهر، ونصب عليهم نيفاً وثمانين منجنيقاً وهم
في ذلك يخرجون إليه فيقاتلونه، ثم استأمنوه على أن يدفعوا إليه جماعة
ممن كان يسبه ويؤذيه، فقبل ذلك منهم، ثم أقبل متوجهاً إلى الضحاك،
فارتحل الضحاك حتى لقي مروان بكفر توثا من أرض الجزيرة.
وفي هذه
السنة: توجه سليمان بن كثير ولا هز بن قريظة، وقحطبة بن شبيب إلى مكة،
فلقوا إبراهيم بن محمد بالإمام بها، وأعلموه أن معهم عشرين ألف دينار
ومائتي ألف درهم ومسكاً ومتاعاً كثيراً، فأمرهم بدفع ذلك إلى عروة مولى
محمد بن علي، وكانوا قدموا معهم بأبي مسلم في ذلك العام، فقال سليمان
بن كثير لإبراهيم: هذا مولاك.
وفي هذه السنة: حج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو عامل
مروان على مكة والمدينة والطائف، وكان العامل على العراق النضر بن
الحرشي، وكان بخراسان نصر بن سيار.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أبو إسحاق: أسند عن عبد الله بن
جعفر، وأنس، غيرهما، وولي قضاء المدينة.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزارز، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري،
قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، قال: أخبرنا أبو أيوب الجلاب، قال:
حدثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا
الحجاج، عن شيبة، قال: كان سعد بن إبراهيم يصوم الدهر ويقرأ القرآن في
كل يوم وليلة.
توفي سعد بالمدينة في هذه السنة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، أبو خالد الفهمي: أمير مصر لهشام بن عبد
الملك، روى عنه الليث بن سعد، ويحيى بن أيوب. وكان ثبتاً في الحديث،
توفي في هذه السنة.
عمر بن عبد الله بن علي بن أحمد الهمداني أبو إسحاق السبيعي ولد لثلاث
سنين بقين من خلافة عثمان، وأجاز شريح شهادته وحده في وصية، وكان يقول:
يا معشر الشباب اغتنموا شبابكم وقوتكم، فقلما مر بي في شبابي ليلة لا
أقرأ فيها ألف آية، ولقي من الصحابة: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن
عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان،
وعدي بن حاتم، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وجابر بن سمرة، وحارثة
بن وهب، وحبيش بن جنادة، وأبو جحيفة، والنعمان بن بشير، وسليمان بن
صرد، وعبد الله بن يزيد وجرير بن عبد الله، وذا الجوشن، وعمارة بن
رويبة، والأشعث بن قيس، والمغيرة بن شعبة، وأسامة بن زيد، وعمرو بن
الحارث بن المصطلق، ورافع بن خديج، وعمر بن حريث، والمسور بن مخرمة،
وسلمة بن قيس الأشجعي، وسراقة بن مالك، وعبد الرحمن بن أبزي.
وانفرد أبو إسحاق بالرواية عن ثلاثة من الصحابة لم يرو عنهم غيره،
أحدهم عبدة بن جري، ويقال: عبيدة. والثاني كديد الضبي، والثالث مطر بن
عكامس. فهؤلاء الثلاثة عدهم جماعة من العلماء في الصحابة، وأبى قوم أن
تكون لهم صحبة.
توفي أبو إسحاق يوم دخول الضحاك بن قيس الكوفة سنة سبع وعشرين ومائة،
وهو ابن خمس وتسعين سنة. وتغير أبو إسحاق بآخرة، والذي سمع من حديثه
فهو الجيد.
ثم دخلت
سنة ثمان وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها قتل الحارث بن شريح بخراسان. وقد ذكرنا أن يزيد بن
الوليد كتب إليه يؤمنه، وأن الحارث خرج من بلاد الترك إلى خراسان، وأتى
إلى نصر بن سيار، فلما ولي ابن هبيرة العراق كتب إلى نصر بعهده، فبايع
لمروان، فقال الحارث: إنما أمنني يزيد بن الوليد، ومروان لا يجيء أمان
يزيد، فلا آمنه. فدعي إلى البيعة، وأرسل إلى نصر فقال: اجعل الأمر
شورى، فأبى نصر، فخرج الحارث وأمر جهم بن صفوان مولى بني راسب، فقرأ،
كتاباً في سيرة الحارث على الناس، فانصرفوا يكبرون، وأرسل الحارث إلى
نصر: اعزل فلاناً واستعمل فلاناً، فاختاروا قوماً يسمون لهم من يعمل
بكتاب الله، فأختار نصر مقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حبان، واختار
الحارث المغيرة الجهضمي، ومعاذ بن جبل، وأمر نصر كاتبه أن يكتب من
يرضون من السنن، وما يختارون من العمال، وعرض نصر على الحارث أن يوليه
ما وراء النهر، ويعطيه ثلاثمائة ألف، فلم يقبل، ثم تناظر نصر والحارث
فتراضيا أن يحكم بينهما مقاتل بن حيان، وجهم بن صفوان، فحكما أن يعتزل
نصر ويكون الأمر شورى، فلم يقبل نصر، وكان جهم يقص في عسكر الحارث
فاتهم نصر قوماً من أصحابه أنهم كاتبوا الحارث، فأمر نصر منادياً
ينادي: إن الحارث عدو الله قد نابذ وحارب، فاقتتلوا فانهزم الحارث وأسر
يومئذ جهم بن صفوان صاحب الجهمية وقتل. وكان يكنى أبا محرز، وآل الأمر
إلى قتل الحارث، وصلب قبله رجل يقال له: الكرماني.
وفي هذه
السنة: وجه إبراهيم بن محمد أبا مسلم إلى خراسان، وكتب إلى أصحابه: إني
قد أمرته بأمري، فاسمعوا منه واقبلوا قوله، فإني قد أمرته على خراسان،
ما غلب عليه بعد ذلك، فأتاهم فلم يقبلوا قوله وخرجوا من قابل فالتقوا
بمكة عند إبراهيم، فأعلمه أبو مسلم أنهم لم ينفذوا كتابه وأمره وذلك
أنه كان حدثاً، فقال إبراهيم: أين كنت عرضت هذا الأمر على غير واحد
فأبوا علي، وقد أجمع رأيي على أبي مسلم، فاسمعوا له وأطيعوا.
وفي هذه السنة: قتل الضحاك بن قيس الخارجي، وكان معه عشرون ومائة ألف،
فخرج إلى نصيبين فحاصرها وأقام بها وأقبل إليه مروان فالتقيا فاقتتلوا،
فقتل الضحاك في المعركة، فبعث مروان برأسه إلى الجزيرة، فطيف به فيها.
وقيل: إن هذا كان في سنة تسع وعشرين.
وفي هذه السنة: قتل الخيبري الخارجي. وذلك أنه لما قتل الضحاك أصبح
أصحابه فبايعوا الخيبري، فحمل الخيبري على مروان فانهزم، ودخل أصحاب
الخيبري إلى عسكره وقطعوا أطناب خيمته، وجلس الخيبري على فرشه، ثم ثار
إليه عبيد من عسكر مروان فقتلوا الخيبري وأصحابه، ورجع مروان وانصرف
أصحاب الخيبري فولوا عليهم شيبان، فقاتلهم مروان بعد ذلك.
وفي هذه السنة: وجه مروان يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب من بها
من الخوارج.
وفيها: حج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وكان هو العامل على
مكة والمدينة والطائف، وكان بالعراق عمال الضحاك، وعبد الله بن عمر بن
عبد العزيز، وكان بخراسان نصر بن سيار، وعلى قضاء البصرة ثمامة بن عبد
الله بن أنس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بكر بن سوادة بن ثمامة الجذامي: حدث عن سهل بن سعد، وسفيان بن وهب
الخولاني، وأبي ثور الفهمي، وكلهم صحابي. وروى عن سعيد بن المسيب، وأبي
سلمة. وتوفي بإفريقية في هذه السنة.
جهم بن صفوان، أبو محرز، الذي ينسب إليه الجهمية: كان في عسكر الحارث
بن شريح الخارجي يقص ويعظ فحاربهم نصر بن سيار فأسر في الحرب وقتل.
جابر بن يزيد الجعفي: كان رافضياً غالياً، يقول بالرجعة، وروى عنه
سفيان، وشعبة.
وتوفي في هذه السنة.
حُيَي بن هانئ، أبو قبيل المعافري: قدم مصر في أيام معاوية، وغزا رودس
مع نادة بن أبي أمية، والمغرب مع حسان بن النعمان. روى عنه الليث، وابن
لهيعة.
سئل عن القدر، فقال: أنا في الإسلام أقدم منه، ودين أنا أقدم منه، لا
خير فيه. وكان يلي شراء الشيء بنفسه من السوق، وكان يصوم الاثنين
والخميس.
وتوفي بالرأس في هذه السنة.
عبد الواحد بن زيد: كان متعبداً كثير البكاء، يقص على أصحابه فيموت في
المجلس جماعة، وصلى الغداة بوضوء العشاء أربعين سنة.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناده عن أحمد بن أبي الحواري، قال: قال
لي أبو سليمان الداران: أصاب عبد الواحد بن زيد الفالج، فسأل الله أن
يطلقه في وقت الوضوء، فإذا أراد أن يتوضأ انطلق، وإذا رجع إلى سريره
عاد إليه الفالج.
يزيد بن أبي حبيب واسم حبيب سويد مولى شريك بن الطفيل العامري يكنى أبا
رجاء ولد سنة ثلاث وخمسين، وكان نوبياً وكان يقول: كان أبي نوبياً من
أهل دملقة فابتاعه شريك بن الطفيل فأعتقه، فولاؤنا له.
يروي عن أبي الطفيل، وعبد الله بن الحارث بن جزء. روى عنه سليمان
التيمي. وكان يزيد مفتي أهل مصر في أيامه، وهو أول من أظهر العمل بمصر
والكلام في الحلال والحرام ومسائل الفقه، وإنما كانوا يتحدثون قبل ذلك
بالفتن والملاحم، والترغيب في الخير، وكان أحد الثلاثة الذين جعل إليهم
عمر بن عبد العزيز الفتيا بمصر، وكان حليماً عاقلاً. ولما كثرت مسائل
الناس على يزيد لزم منزله.
دوكان الليث بن سعد يقول: كان يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا.
يزيد بن القعقاع، أبو جعفر المخزومي القاري المديني، مولى عبد الله بن
عباس: سمع من عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس. روى عنه مالك بن
أنس. وكان إمام أهل المدينة في القرآن. وكان تقياً خيراً، توفي في أيام
مروان بن محمد بن مروان.
ثم دخلت
سنة تسع وعشرين ومائة
فمن الحوادث فيها
هلاك
شيبان بن عبد العزيز اليشكري. وكان السبب في ذلك أن الخوارج لما قتل
الضحاك والخيبري بعده ولوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان تسعة
أشهر، فلجأوا إلى الموصل واتبعهم مروان وخندق بإزائهم. فكتب مروان إلى
يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسياء، بجميع من معه إلى
عبيدة بن سوار خليفة الضحاك بالعراق، فلقي خيوله بعين التمر، فقاتلهم
عبيدة فهزمهم، ثم تجمعوا لهم بالكوفة بالنخيلة فهزمهم، ثم اجتمعوا
بالصراة ومعهم عبيدة، فقاتلهم فقتل عبيدة وهزم أصحابه، واستباح عسكرهم
فلم يكن لهم بقية بالعراق، وخرج شيبان وأصحابه، من الموصل فتبعهم مروان
فمضوا إلى الأهواز، فوجه مروان إلى عامر بن ضبارة ثلاثة نفر من قواده
في ثلاثة آلاف، وأمره بأتباعهم إلى أن يستأصلهم، فتبعهم فوردوا فارس
فمضى شيبان إلى ناحية البحرين فقتل بها.
وكان مع شيبان سليمان بن هشام، فركب مع مواليه وأهل بيته السفن إلى
السند.
وقيل كان ذلك في سنة ثلاثين.
إظهار الدعوة العباسية بخراسان.
وفي هذه السنة - أعني سنة تسع وعشرين ومائة - أمر إبراهيم بن محمد بن
علي بن عبد الله بن عباس أبا مسلم بالانصراف إلى شيعته بخراسان، وأمرهم
بإظهار الدعوة العباسية، والتسويد. فقدم أبو مسلم مرو في أول شعبان.
وقيل: في أول يوم من رمضان.
فدفع كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير، وكان فيه: أن أظهر دعوتك ولا
تربص. فنصبوا أبا مسلم وقالوا: رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بني
العباس، وأرسلوا إلى كل من أجابهم قريب وبعيد، فأمروه بإظهار أمرهم
والدعاء إليهم.
ونزل أبو مسلم قرية من قرى خزاعة، فبث دعاته في الناس، فوجه النضر
التميمي إلى مرو الروذ، ووجه أبا عاصم عبد الرحمن بن سليمان إلى
الطالقان، ووجه أبا الجهم بن عطية إلى خوارزم.
فما كانت ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان عقد اللواء الذي بعث به
للإمام على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً، وعقد الراية التي بعث بها
للإمام على لواء طوله ثلاثة عشر ذراعاً. وكان اللواء يُدعى الظل،
والراية تدعى السحاب - وكان تأويل الاسمين عندهم أن السحاب يطبق الأرض،
وكذلك دعة بني العباس تطبق الأرض. وتأويل الظل أن الأرض لا تخلو من
الظل أبداً، كذلك لا تخلو الأرض من خليفة - ولبس السواد هو وسليمان بن
كثير وأخوه سليمان ومواليه ومن أجاب الدعوة، وأوقد النيران، فتجمع
أصحابه مُغِذين، وقدم عليه من الأماكن من أجاب.
فلما كان يوم الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي به وبالشيعة،
ونصب له منبراً في العسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير آذان
ولا إقامة - وكانت بنو أمية تبدأ الخطبة بأذان، ثم الصلاة بإقامة على
صلاة يوم الجمعة، ويخطبون على المنابر جلوساً في الأعياد والجمع - وأمر
أبو مسلم سليمان بن كثير أن يكبر في الركعة الأولى ست تكبيران، وفي
الثانية خمس تكبيرات - وكانت بنو أمية تكبر في الركعة الأولى أربع
تكبيرات يوم العيد، وفي الثانية ثلاث تكبيرات - فلما قضى سليمان بن
كثير الصلاة والخطبة انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام قد أعده لهم أبو
مسلم، فطعموا مستبشرين.
وكان أبو مسلم في أول الأمر يكتب إلى نصر بن سيار: الأمير نصر. فلما
قوي أبو مسلم بمن معه بدأ بنفسه فكتب إلى نصر، وأمر أن يقطع مادة نصر
بن سيار من مرو الروذ ومن بلخ، فوجه نصر خيلاً لمحاربة أبي مسلم وذلك
بعد ثمانية عشر شهراً من ظهروه، فوجه إليه أبو مسلم بمالك بن الهيثم
الخزاعي، فالتقوا بقرية فانهزم أصحاب نصر وقتل منهم جماعة وجيء
برؤوسهم، فأمر أبو مسلم بنصب تلك الرؤوس، فهي أول حرب كانت بين الشيعة
العباسية وشيعة بني مروان.
وفي هذه السنة: غلب خازم بن خزيمة على مرو الروذ، وقتل عامل نصر بن
سيار الذي كان عليها، وكتب بالفتح إلى أبي مسلم.
وفيها تحالف عامة من كان بخراسان من قبائل العرب على قتال أبي مسلم.
وذلك حين
قوي أمره، فبعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة عليها عيسى بن
عقيل الليثي فطرده من هراة، وضاق المنزل بأبي مسلم لكثرة عسكره، فارتاد
منزلاً فسيحاً وحفر به خندقاً، وذلك لتسع خلون من ذي القعدة. واستعمل
على الشرطة مالك بن الهيثم وعلى الحرس خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند
كامل بن مظفر، وعلى الرسائل مسلم بن صبيح. وكان القاسم بن مجاشع يصلي
بأبي مسلم الصلوات، ويقص بعد العصر، فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني
أمية، وكان أبو مسلم كرجل من الشيعة في هيئته حتى أتاه عبيد الله بن
مسلم بالأروقة، والفساطيط والمطابخ وحياض الأدم للماء.
وبلغت عدة أصحاب أبي مسلم سبعة آلاف، فأعطى لكل رجل ثلاثة دراهم، ثم
أعطاهم أربعة أربعة، وكتب نصر بن سيار إلى مروان يعلمه حال أبي مسلم
وخروجه وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، وكتب بأبيات شعر.
أرى بين الرماد وميض جمر ... فأحج بأن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام
فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
فكتب إليه مروان: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول قبلك،
فقال نصر: أما صاحبكم فقد أعلمكم أن لا نصر عنده. وجاء كتاب إبراهيم
الإمام يلوم أبا مسلم أن لا يكون واثب نصراً، وأمره ألا يدع بخراسان
متكلماً بالعربية إلا قتله.
وكتب مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك وهو على دمشق أن يكتب
إلى عامل البلقاء فليأخذ إبراهيم بن محمد، ويشده وثاقً، ويبعث به إليه
في خيل، فأخذه فحمله الوليد إلى مروان وفي هذه السنة: وافى الموسم أبو
حمزة الخارجي من قبل عبد الله بن يحيى مخالفاً مروان بن محمد، فلم يشعر
الناس بعرف إلا وقد طلعت أعلام سود، فسألهم الناس: ما حالك؟ فأخبروهم
بخلافهم مروان وآل مروان وقد طلعت أعلام سود، فسألهم الناس: ما حالكم؟
فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبرؤ منهم.
فراسلهم عبد الواحد بن سليمان في الهدنة، فقالوا: نحن بحجنا أضنّ،
فصالحهم على أنهم جميعاً آمنون حتى ينفر الناس النفر الأخير، ويصبحوا
من الغد، فوقفوا على جدة بعرفة ودفع بالناس عبد الواحد، ثم مضى إلى
المدينة فضرب على الناس البعث.
وفيها: حج بالناس عبد الواحد، وكان هو العامل على مكة والمدينة،
والطائف. وكان على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وعلى الكوفة الحجاج بن
عاصم المحاربي، على قضاء البصرة عباد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن
سيار.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
خالد بن أبي عمران التجيبي، يكنى أبا عمر: سمع من ابن جزء، وكان فقيه
أهل المغرب ومصر يفتيهم، وكان مستجاب الدعوة. توفي في هذه السنة
بإفريقية. وقيل: في سنة خمس وعشرين.
عاصم بن أبي النجود، أبو بكر الأسدي الخياط مولى لبني خزيمة بن مالك بن
نضر بن قعص، واسم أبي النجود: بهدلة: أدرك عاصم ثلاثة عشر صحابياً،
وكان كثير الرواية، وقرأ على أبي عبد الواحد السلمي.
يحيى بن أبي كثير مولى طيء، يكنى أبا نصر: أخبرنا محمد بن أبي القاسم
بإسناد له عن أبي عمرو، عن يحيى بن أبي كثير، قال: ما صلح منطق رجل إلا
عرفت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطقه إلا عرفت ذلك في سائر عمله.
أسند يحيى بن أبي كثير عن أنس، وابن أبي أوفى وغيرهما من الصحابة.
وتوفي في هذه السنة. وقيل: في سنة اثنتين وثلاثين.
ثم دخلت
سنة ثلاثون ومائة
فمن الحوادث فيها: دخول أبي مسلم مرو ونزوله دار الإمارة فيها، ومطابقة
علي بن جديع الكرماني إياه على حرب نصر بن سيار، ودخلها لتسع خلون من
جمادي يوم الخميس.
وكان سبب موافقة عليّ أبا مسلم، أن أبا مسلم وبخه وقال: أما تستحي من
مصالحة نصر وقد قتل أباك في الأمس وصلبه، فرجع عنه فانتفض صلح العرب
الذين اصطلحوا على قتال أبي مسلم، فتمكن لذلك أبا مسلم من دخول دار
الإمارة بمرو وعبأ جنوده لقتال نصر، فأرسل إلى جماعة بالقتال، ففهم
لاهز، فقرأ لا هز: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " ففطن فهرب، وذلك
يوم الجمعة لعشر خلون من جمادي الأول هذه السنة، وهو اليوم الثاني من
دخول أبي مسلم دار الإمارة.
وصفت مرو
لأبي مسلم، وأمر أبا منصور طلحة بن زريق أن يأخذ البيعة على الجند،
وكان طلحة أحد النقباء الأثني عشر الذين اختارهم محمد بن علي من
السبعين الذين استجابوا له حين بعث رسوله إلى خراسان سنة ثلاث ومائة،
أو أربع ومائة، وأمره أن يدعو إلى الرضا ولا يسمين أحداً.
تسمية الاثني عشر:
سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وزياد بن صالح، وطلحة بن الزريق،
وعمرو بن أعين، وقحطبة بن شبيب واسم قحطبة زياد، وموسى بن كعب أبو
عيينة، ولاهز بن قرظ، والقاسم بن مجاشع، وأسلم بن سلام، وأبو داود خالد
بن إبراهيم، وأبو علي الهروي.
وقد جعل بعض الرواة شبل بن طهمان مكان عمرو بن أعين، وعيسى بن كعب مكان
موسى، وأبا النجم إسماعيل بن عمران مكان أبي علي الهروي.
لما هرب نصر بن سيار سار أبو مسلم إلى معسكره، وأخذ ثقات أصحابه
وصناديد مضر الذين كانوا في معسكره، فكتفهم وحبسهم ثم أمر بقتلهم
جميعاً. ومضى نصر بن سيار حتى نزل سرخس فيمن اتبعه، وكانوا ثلاثة آلاف،
ومضى أبو مسلم علي بن جديع في طلبه، فطلباه ليلتهما ثم رجعا إلى مرو،
وقيل إن لاهزاً قرأ: " وإن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " فقال: يا لاهز
أتدغل في الدين؟ فقدمه فضرب عنقه.
وفي هذه السنة: قتل شيبان بن سلمة الحروري، وسبب قتله، أنه كان هو وعلي
بن جديع مجتمعين على قتال نصر، فلما صالح علي بن الكرماني أبا مسلم،
وفارق شيبان، تنحى شيبان عن مرو إذ علم أنه لا طاقة له بحرب أبي مسلم
وعلي بن جديع مع اجتماعهما على خلافه وقد هرب نصر من مرو، فأرسل إليه
أبو مسلم يدعوه إلى بيعته، فأرسل شيبان: بل أنا أدعوك، فقال أبو مسلم:
إن لم تدخل في أمرنا فارتحل، فسار إلى سرخس، فاجتمع إليه جمع من بكر بن
وائل، فأرسل إليه أبو مسلم يدعوه ويسأله أن يكف، فاخذ الرسل فحبسهم،
فكتب أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم يأمره أن يسير إلى شيبان فيقاتله،
ففعل فهزمه بسام، فقتل شيبان وعدة من بكر بن وائل، فلما قتل شيبان مر
رجل من بكر بن وائل برسل أبي مسلم وهم في بيت فأخرجهم وقتلهم. ثم قتل
أبو مسلم علي بن جديع.
وفي هذه السنة: قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم خراسان منصرفاً من عند
إبراهيم بن محمد ومعه لواؤه الذي عقده له إبراهيم، فوجهه أبو مسلم حين
قدم عليه على مقدمته، وضم إليه الجيوش، وجعل إليه العزل والاستعمال،
وكتب إلى الجنود بالسمع والطاعة.
فوجه قحطبة إلى نيسأبور للقاء نصر، وذلك أن شيبان الحروري لما قتل لحق
أصحابه بنصر وهو بنيسأبور، فبلغه فارتحل حتى نزل قومس وتفرق عنه
أصحابه.
وفيها: قتل نباتة بن حنظلة عامل يزيد بن هبيرة على جرجان، وذلك أن يزيد
بن عمر بن هبيرة بعث نباتة بن حنظلة إلى نصر، فأتى فارس وأصبهان ثم سار
إلى الري وأتى إلى جرجان، فأرسل أبو مسلم إلى قحطبة، فلقيه فقتل نباتة
وانهزم أهل الشام وقتل منهم عشرة آلاف.
وفيها كانت الوقعة بقديد بين أبي حمزة الخارجي وأهل المدينة. وذلك أنه
خرج فلقي قريشاً بقديد، فأصاب منهم عدداً كثيراً ثم ورد فلال الناس
المدينة، ثم دخل أبو حمزة المدينة، ومضى عبد الواحد بن سليمان والي
المدينة إلى الشام فرقي أبو حمزة المنبر وقال: يا أهل المدينة،
سألناكم: هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام؟ فقلتم: نعم، فقلنا
لكم: تعالوا نناشدهم إلا تنحوا عنا وعنكم، فقلتم: لا تفعلوا ذلك،
فقلنا: تعالوا نقاتلهم فإن نظهر نأت بمن يقيم فينا وفيكم كتاب الله
وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقلتم: لا نقوى، فقلنا لكم: فخلوا بيننا
وبينهم، فإن نظفر في أحكامكم. ونحملكم على سنة نبيكم صلى الله عليه
وسلم، ونقسم فيأكم بينكم فأبيتم، وقاتلتمونا دونهم، فقاتلناكم فأبعدكم
الله وأسحقكم.
وسبب ذلك إن الخوارج لقوا رجال المدينة بقديد، فقالوا: دعونا نمضي على
حكم القرآن، فدعوهم إلى حكم بني مروان، فقالوا لهم: ما لنا حاجة
بقتالكم، فأبى أهل المدينة فالتقوا يوم الخميس لسبع خلون من صفر سنة
ثلاثين، فقتل أهل المدينة حتى لم يفلت منهم إلا الشريد، وقدمت الحرورية
المدينة لسبع عشرة خلون من صفر، وأقاموا بها ثلاثة أشهر.
وكان أبو حمزة يقول على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: من زنى فهو
كافر، ومن شك فهو كافر، ومن سرق فهو كافر.
وبعث
مروان أربعة آلاف من عسكره ليقاتلهم، واستعمل عليهم ابن عطية فإن ظفر
مضى إلى اليمن، فقاتل عبد الله بن يحيى بن زيد ومن تبعه، فلما التقى
أبو حمزة وابن عطية بوادي القرى قال أبو حمزة: لا تقاتلوهم حتى
تختبروهم، فصاحوا: ما تقولون في القرآن؟ فصاح ابن عطية: نضعه في جوف
الجوالق، قالوا: فما تقولون في اليتيم؟ قالوا: نأكل ماله ونفجر بأمه،
فقاتلوهم. فلما جاء الليل قالوا: ويحك يا ابن عطية إن الله قد جعل
الليل سكناً، فاسكن نسكن، فأبى فقاتلهم حتى قتلهم وفر منهم قوم إلى
المدينة، فقتلهم أهل المدينة.
وأقام ابن عطية بالمدينة شهراً، ثم مضى إلى عبد الله بن يحيى بصنعاء
فلما وصل التقيا، فقتل عبد الله وبعث برأسه إلى مروان، فكتب مروان إلى
ابن عطية: أغذ السير لتحج بالناس، فأسرع وخلف عسكره وخيله، فلقيته خيل
فقالوا: أنتم لصوص، فأخرج ابن عطية كتابه وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين
وعهده إلي بالحج، وأنا ابن عطية، قالوا: هذا باطل لكنكم لصوص. فقتلوه
وقتلوا أصحابه.
وفي هذه السنة: قتل قحطبة بن شبيب من أهل خراسان زهاء ثلاثين ألفاً.
وذلك أنهم أجمعوا بعد قتل نباته على الخروج على قحطبة، فقتل منهم هذا
المقدار.
وكتب أبو مسلم إلى قحطبة أن يتبع نصراً، فكتب نصر إلى ابن هبيرة يستمده
فأبطأ عليه المدد.
في هذه السنة: غزا الوليد بن هشام الصائفة.
وفيها: وقع الطاعون بالبصرة.
وفيها: حج بالناس محمد بن عبد الملك بن مروان، وكان إليه مكة والمدينة
والطائف، وكان على العراق يزيد بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن
عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن
سيار.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر .
بديل بن ميسرة العقيلي: أسند عن أنس وغيره، وكان متعبداً طويل البكاء،
ما زال يبكي حتى ذهب بصره أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناده له، عن
سيار قال: قال مهدي بن ميمون: رأيت ليلة مات فيها بديل قائلاً يقول:
ألا أن بديلاً أصبح من سكان الجنة.
الخليل بن أحمد، أبو عبد الرحمن الفراهيدي الأزدي النحوي البصري ولا
يعرف أحداً سمي بأحمد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أحمد والد
الخليل.
سمع الخليل من جماعة، وبرع في علم اللغة وإنشاء العروض، وروى عنه حماد
بن زيد، والنضر بن شميل. وكان الخليل بالبصرة، وهو أليق بالصحة، وكان
الخليل منفرداً بعلم العربية متعبداً ذا زهادة في الدنيا.
كتب إليه سليمان بن علي الهاشمي يستدعيه لتعليم ولده بالنهار ومنادمته
في الليل، وبعث إليه ألف دينار ليستعين بها على خاله، فأخرج إلى الرسول
زنبيلا فيه كسر يابسة، فأراه إياها وقال له: أني ما دمت أجد هذه الكسر
فإني عنه غني وعن غيره، ورد الألف دينار وقال للرسول: اقرأ على الأمير
السلام وقل له: إني قد ألفت قوماً، وألفوني، أجالسهم طول نهاري وبعض
ليلي، وقبيح لمثلي أن يقطع عادة تعودها إخوانه، وكتب إليه بهذه
الأبيات:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
وإن بين الغنى والفقر منزلة ... مقرونة بجديد ليس بالبالي
سخى بالنفس إني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا
المال
والرزق عن قدر لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
كل امرئ بحبال الموت مرتهن ... فاعمد لبالك إني عامد بالي
وقد روي لنا أن الذي بعث إليه سليمان بن حبيب المهلبي، بعث إليه من أرض
السند. وكان الخليل في البصرة، وهذا أليق بالصحة، وقيل: من أرض
الأهواز، ثم آل الأمر إلى أن صار الخليل وكليلاً ليزيد بن حاتم
المهلبي، وكان يجري عليه في كل شهر مائتي درهم.
قال الثوري: اجتمعنا بمكة، أدباء من كل أفق، فتذاكرنا أمر العلماء،
فجعل أهل كل بلد يرفعون علماءهم ويصفونهم حتى جرى ذكر الخليل فلم يبق
أحد منهم إلا قال: الخليل أذكى العرب، وهو مفتاح العلوم ومصرفها.
وقال نصر
بن علي الجهضمي: عن أبيه، كان الخليل من أزهد الناس وأعلاهم نفساً،
وأشدهم تعففاً، ولقد كان الملوك يقصدونه ويتعرضون له لينال منهم فلم
يكن يفعل ذلك وكان يعيش من بستان خلفه له أبوه.
وقال عبيد الله بن محمد بن عائشة: كان الخليل يحج سنة ويغزو سنة حتى
مات.
وقال النصر بن شميل: ما رأينا أحد أقبل على الناس إلى علمه فطلبوا ما
عنده أشد تواضعاً من الخليل.
وقال محمد بن سلام: سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن في العرب بعد الصحابة
أذكى من الخليل ولا أجمع ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا
أجمع.
وقال النضر: سمعت الخليل يقول: الأيام ثلاثة، فمعهود وهو أمس، ومشهود
وهو اليوم، وموعود وهو غد وقال الخليل: ثلاث تيسر المصائب: مر الليالي،
والمرأة الحسناء، ومحادثة الرجال.
وأنشد لنفسه:
يكفيك من دهرك هذا القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
شيبة بن نصاح بن سرخس بن يعقوب القاري مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله
عليه وسلم: توفي في هذه السنة.
محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير، أبو عبد الله: وكان المنكدر
دخل على عائشة فقالت: لك ولد؟ قال: لا، فقالت: لو كان عندي عشرة آلاف
درهم لوهبتها لك، فما أمسيت حتى بعث إليها معاوية بمال، فقالت: ما أسرع
ما ابتليت، وبعثت إلى المنكدر بعشرة آلاف درهم فاشترى منها جارية، فهي
أم محمد وأبي بكر وعمر، وكانوا عباد المدينة.
وسمع محمد من جابر بن عبد الله، وأميمة بنت رقية، والحسن، وعروة، وسعيد
بن جبير في آخرين. وتوفي بالمدينة.
أخبرنا إسماعيل بن محمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري، قال:
أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستوية، قال: حدَّثنا يعقوب بن سفيان،
قال: حدَّثني زيد بن بشر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن زيد،
قال: أتى صفوان بن سليم إلى محمد بن المنكدر وهو في الموت، فقال: يا
أبا عبد الله، كأني أراك قد شق عليك الموت، قال: فما زال يهون عليه
الأمر حتى كان في وجهه المصابيح، ثم قال محمد: لو ترى ما أنا فيه لقرت
عينك، ثم قضى رحمه الله.
محمد بن سوقة ، أبو بكر البزاز، مولى بجيلة: وكان بزازاً أدرك أنس بن
مالك، وأبا الطفيل وروى عن التابعين، وكان سفيان يقول: ما بقي أحد يدفع
به عن أهل الكوفة إلا ابن سوقة، وكانت عنده عشرون ومائة ألف فقدمها،
وكان يقول: أحب الأشياء إليّ إدخال السرور إلى المؤمن.
أخبرنا احمد بن محمد المزاري، وقال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن البنا،
قال: أخبرنا ابن بشران، قال: حدَّثنا ابن صفوان، قال: حدَّثنا أبو بكر
القرشي، قال: حدَّثنا محمد بن علي بن شقيق، قال: حدَّثنا إبراهيم بن
الأشعث، قال: حدَّثنا فضل بن عياض، عن محمد بن سوقة، قال: أمران لو لم
نعذب إلا بهما لكنا مستحقين بهما عذاب الله: أحدنا يزاد بالشيء من
الدنيا فيفرح فرحاً ما علم الله أنه فرحه بشيء زاده قط في دينه، وينقص
من الدنيا فيحزن عليه حزناً ما علم الله أنه حزنه على شيء نقصه في
دينه.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا حمد بن أحمد: قال: أخبرنا أبو
نعيم الحافظ بإسناده له عن مهدي بن سابق، قال: طلب ابن أخي محمد بن
سوقة منه شيئاً فبكى، فقال له: يا عم، لو علمت أن مسألتي تبلغ منك هذا
ما سألتك، قال: ما بكيت لسؤالك، إنما بكيت لأني لم أبتدئك قبل سؤالك
محمد بن جحادة الأودي، مولى لبني أود: روى عن أبي صالح، وروى عنه
الثوري.
أنبأنا عبد الوهاب الأنماطي، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الدقاق،
قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حدَّثني محمد بن الحسين، قال:
حدَّثنا الحميدي، عن سفيان، قال: كان محمد بن جحادة من العابدين، وكان
يقال إنه لا ينام من الليل إلا أيسره، قال: فرأت امرأة من جيرانه كأن
حللا فرقت على أهل مسجدهم، فلما انتهى الذي يفرقها إلى محمد بن جحادة
دعى بسفط مختوم، وأخرج منه حلة صفراء، قالت: فلم يقم لها بصري، فكساه
إياها وقال: هذه لك بطول السهر، قالت تلك المرأة: لقد كنت أراه بعد ذاك
فأتخايلها عليه.
مالك بن دينار، أبو يحيى مولى امرأة من بني سامة بن لؤي: وكان ثقة يكتب
المصاحف، وكان زاهداً في الدنيا. وأسند الحديث عن أنس.
أخبرنا
أحمد بن أحمد المتوكلي، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا علي
بن المظفر الأصفهاني، قال: حدَّثنا حبيب ابن الحسن، قال: حدَّثنا أحمد
بن محمد الشطري، قال: حدَّثنا حسين بن جعفر بن سليمان الضبعي، قال:
سمعت أبي يقول: مر والي البصرة بمالك يرفل، فصاح به مالك: أقل من مشيتك
هذه، فهم خدمه به، فقال: دعوه، ما أراك تعرفني، فقال له مالك: ومن أعرف
بك مني، أما أولك فنطفة مذرة، وأخرك فجيفة قذرة، ثم أنت بين ذلك تحمل
العذرة، فنكس الوالي رأسه ومشى.
أخبرنا أبو الحسن الأنصاري، قال: أخبرنا علي بن أيوب قال: أخبرنا الحسن
بن محمد الخلال، قال: أخبرنا ابن شاهين، قال: حدَّثنا ابن أبي داود،
قال: حدَّثنا مسلمة بن شبيب، قال: حدَّثنا عبد الله بن أبي بكر، عن
جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار: أنه كان يرى يوم التروية بالبصرة،
ويوم عرفة بعرفات.
أخبرنا محمد بن أبي حبيب، قال: أخبرنا علي بن عبد الله بن أبي صادق،
قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن باكوية، قال: حدَّثنا بكر بن أحمد،
قال: حدَّثنا محمد بن يعقوب بن إسحاق، قال: حدَّثنا أحمد بن الحسين
النيسابوري، قال: سمعت محمد بن عبد الله الطبري، يقول: سمعت الحسين بن
علي الحلواني يقول: دخل اللصوص إلى بيت مالك بن دينار فلم يجدوا في
البيت شيئاً فأرادوا الخروج من داره فقال مالك: ما عليكم لو صليتم
ركعتين.
يزيد بن أبان الرقاشي: أسند عن أنس، وكان عابداً كثير البكاء والسهر
حتى قال فيه ثابت البناني: ما رأيت أصبر على طول القيام والسهر من يزيد
بن أبان الرقاشي، وكان بعد هذا يقول: وألهفاه سبقني العابدون وقطع بي.
أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا علي بن أحمد الملطي، قال: أخبرنا أحمد بن يوسف، قال: أخبرنا ابن
صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال: حدَّثني محمد بن الحسين، قال:
حدَّثني عبد الله بن محمد التيمي، قال: حدَّثني زهير السكوني، قال :
كان يزيد الرقاشي قد بكى حتى تناثرت أشفاره وأحرقت الدموع مجاريها من
وجهه.
يزيد بن عبيد بن سعد بن بكر بن هوازن أبو وجزة السعدي الشاعر توفي
بالمدينة في هذه السنة، قال ابن قتيبة: هو أول من شبب بعجوز.
ثم دخلت
سنة إحدى وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها توجيه قحطبة ابنه الحسن، إلى نصر وهو بقومس، وذلك أنه
لما قتل نباته ارتحل نصر بن سيار فنزل الخوار ووجه قحطبة ابنه الحسن
إلى قومس في حرم هذه السنة، ثم وجه إلى ابنه جماعة من الرؤوس في
سبعمائة، فدخلوا حائطاً فوجه إليهم نصر جنداً فحصروهم، فنقبوا الحائط
وخرجوا، وسار نصر حتى نزل الري، فأقام يومين ثم مرض حتى كان بساوة
قريباً من همذان، فمات بها.
وفيها: تحول أبو مسلم من مرو إلى نيسابور، فنزلها، ولما نزل قحطبة الري
كتب إلى أبي مسلم بخبره، فارتحل أبو مسلم من مرو، فنزل نيسابور وخندق
بها، وبنى الجامع والمقصورة، وغصب أكثر الأرض التي بناها، إلا أن
المسلمين سألوا من غصبت منهم، فأباحهم الصلاة فيها. وقيل: بل استوهبها
أبو مسلم ولم يأخذها غصباً وفيها: قتل قحطبة، عامر بن ضبارة، وسبب ذلك
أن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر لما ابن ضبارة مضى نحو
خراسان وتبعه عامر، وكتب إلى ابن هبيرة إلى عامر وإلى ابنه داود بن
يزيد بن عمر أن يسير إلى قحطبة، فسار في خمسي ألفاً حتى نزلوا أصفهان
بمدينة يقال لها جي فاقتتلوا، فانهزم أهل الشام وقتلوا قتلاً ذريعاً،
وقتل ابن ضبارة، وانهزم داود، وأصيب عسكرهم ما لا تدري عدده من السلاح
والمتاع والرقيق، ووجدوا عندهم ما لا يحصى من البرابط والطنأبير
والمزامير والخمر.
وفيها: كانت وقعة قحطبة بنهاوند بمن لجأ إليها من جنود مروان بن محمد
وقيل: كانت هذه الواقعة بجابلق من أرض أصفهان يوم السبت لسبع بقين من
رجب..
وذلك أن
قحطبة أرسل إلى أهل خراسان الذين في مدينة نهاوند يدعوهم إلى الخروج
إليه، فأعطاهم الأمان فأبوا، ثم أرسل إلى أهل الشام بمثل ذلك فقبلوا
وبعثوا إليه: اشغل أهل المدينة حتى نفتح الباب وهم لا يشعرون، فشغل أهل
المدينة بالقتال، ففتح أهل الشام الباب الذي كانوا عليه، فخرج أهل
خراسان، فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى رجل من قواد أهل خراسان، ثم أمر
مناديه أن ينادي: من كان في يديه أسير ممن خرج إلينا من المدينة فليضرب
عنقه، وليأتينا برأسه، ففعلوا فلم يبق أحد من الذين كانوا هربوا من أبي
مسلم وصاروا في ذلك الحصن إلا قتل، ما خلا أهل الشام فإنه أخلى سبيلهم،
وأخذ عليهم الأيمان ألا يمالئوا عليه عدواً.
وفي هذه السنة: سار قحطبة نحو ابن هبيرة، وكان ابن هبيرة قد استمد
مروان، وأقبل حتى نزلوا جلولاء، واحتفر الخندق الذي كانت العجم احتفرته
أيام وقعة جلولاء، وأقام حتى نزل قرماسين، ثم سار إلى حلوان، ثم جاء
إلى خانقين، ولم يزل حتى انتهى إلى الموضع الذي فيه ابن هبيرة وكان في
هذه السنة: طاعون سلم بن قتيبة. قال: الأصمعي: كان يمر في كل يوم بطريق
المربد أحد عشر ألف نعش.
قال المدائني: كان هذا الطاعون في رجب واشتد في رمضان. وكان يحصى في
سكة المربد كل يوم عشرة آلاف جنازة أياماً، وخف في شوال.
وقال الأصمعي: مات في أول يوم سبعون ألفاً. وفي الثاني نيف وسبعون ألفا
وأصبح الناس في اليوم الثالث موتى. وكان على البصرة سلم بن قتيبة فلما
قام على المنبر جعل ينظر يمنة ويسرة فلا يرى أحداً يعرفه، وكان يغلق
على الموتى الباب مخافة أن تأكلهم الكلاب، وينادي المنادى: أدركوا آل
فلان فقد أكلته الكلاب.
وفي هذه السنة: حج بالناس الوليد بن عروة بن محمد بن عطية السعدي وهو
كان عامل مكة والمدينة والطائف، من قبل عمه عبد الملك بن محمد وكان
عامل العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وكان على قضاء الكوفة الحجاج بن
عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور الناجي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أيوب بن أبي تميمة السختياني يكنى أبا بكر، مولى لعنزة، واسم أبي تميمة
كيسان: كان ثقة ثبتاً ورعاً يستر حاله، وكان النساك حينئذ يشمرون
ثيابهم، وكان في ذيله بعض الطول، وحج أربعين حجة. وكان الحسن يقول: سيد
شباب أهل البصرة أيوب، وكان سفيان بن عيينة قد لقي ستة وثمانين من
التابعين، وكان يقول: ما رأيت مثل أيوب.
أخبرنا محمد بن ناصر بإسناده له، عن أبي بكر القرشي قال: حدَّثني أحمد
بن عاصم العباداني، عن سعيد بن عامر، عن وهب بن جابر، قال: قال أيوب
السختياني: إذا ذكر الصالحون كنت منهم بمعزل.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو علي
التميمي قال: حدَّثنا أبو بكر بن مالك، قال: حدَّثنا عبد الله بن أحمد،
قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني سليمان بن حرب، قال: حدَّثنا حماد بن
زيد، قال : كان أيوب ربما حدث بالحديث فيرق فيلتفت فيمتخط ويقول: ما
اشد الزكام؟ أخبرنا إسماعيل بن أبي بكر، قال: أخبرنا طاهر بن أحمد،
قال: أخبرنا علي بن محمد بن بشران، قال: حدَّثنا عثمان بن أحمد الدقاق،
قال: حدَّثنا الحسن بن عمر، قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: دخل بديل
على أيوب السختياني وقد مد على فراشه سبينة حمراء يدفع الرياء، فقال له
بديل: ما هذا؟ فقال أيوب: هذا خير من هذا الصوف الذي عليك.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا الفضل بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم
الأصفهاني، قال: حدَّثنا عثمان بن محمد العثماني، قال: حدَّثنا خالد بن
النضر القرشي، قال: حدَّثنا محمد بن موسى الجرشي، قال: حدَّثنا النضر
بن كثير السعدي، قال: حدَّثنا عبد الواحد بن زيد قال: كنت مع أيوب على
حراء فعطشت عطشاً شديداً حتى رأى ذلك في وجهي، فقال: ما الذي أرى بك؟
قلت: العطش قد خفت على نفسي، قال: تستر علي؟ قلت: نعم، فاستحلفني فحلفت
له ألا أخبر أحداً ما دام حياً، قال: فغمز برجله على حراء فنبع الماء
حتى رويت وحملت معي من الماء قال: فما حدثت به حتى مات.
قال عبد الواحد: فأتيت موسى الأسواري فذكرت ذلك له فقال: ما بهذه
البلدة أفضل من الحسن بن أيوب. توفي في هذه السنة وهو ابن ثلاث وستين.
إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس:
أمه أم
ولد، وهو الذي يقال له الإمام، أوصى إليه أبوه، وانتشرت دعوته في
خراسان كلها.
وكان شيعته يختلفون إليه ويكاتبونه من خراسان، ووجه بأبي مسلم إلى
خراسان والياً على شيعته ودعاته، فتجرد أبو مسلم لمحاربة عمال بني
أمية، وقوي أمره، وأظهر لبس السواد، وغلب على البلاد يدعو إلى الإمام
ويعمل بما يرد عليه من مكاتباته من غير أن يظهر للناس اسمه إلا لمن كان
من الدعاة والشيعة إلى أن ظهر اسمه وانكشف، فعلم بالحالة مروان بن
محمد، فاخذ إبراهيم فحبسه فمات في حبسه بأرض الشام وهو ابن ثمان
وأربعين سنة، وقيل: أنه هدم عليه بيتاً. وقيل: سقي لبناً فأصبح ميتاً.
عبد الله بن ذكوان، أبو الزناد مولى بنت رملة بنت شيبة بنت ربيعة وذكر
أن أبوه هو أخو أبي لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الشعبي: كفلتني وأبا الزناد فاطمة بنت عثمان، فلم يزل يعلو واسفل
حتى بلغنا ما ترى، مات أبو الزناد فجأة بالحجاز في مغتسلة لثلاث عشرة
ليلة بقيت من رمضان، وله ست وستون سنة.
فريد بن يعقوب السبخي، يكنى أبا يعقوب: أسند عن أنس، وكان يضعف في
الحديث لأنه كان زاهداً متعبداً.
أخبرنا أحمد بن محمد المذاري، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن البنا،
قال: أخبرنا علي بن محمد بن بشران، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال:
حدَّثنا عبد الله بن محمد، قال: حدَّثنا هارون بن عبد الله، قال:
حدَّثنا سيار قال: حدَّثنا جعفر، قال: سمعت السبخي يقول: اتخذوا الدنيا
ظئراً، واتخذوا الآخرة أماً، ألم تروا إلى الصبي يلقي نفسه على الظئر
فإذا ترعرع وعرف والدته ترك ظئره وألقى نفسه على والدته، وإن الآخرة
توشك أن تجيركم.
منصور بن زاذان مولى عبد الله بن أبي عقيل الثقفي: روى عن الحسن، وابن
سيرين، وأرسل الحديث عن الحسن، وكان كثير التعبد والبكاء، يختم القرآن
وليلة ختمتين، ويبكي ويمسح عينيه بعمامته ويخلها كوراً كوراً فيمسح
بها، فإذا ابتلت وضعها بين يديه.
وقيل له: ألا تخرج بنا إلى الصحراء، فقال: ينكسر الروزحاء.
أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الدقاق،
قال: حدَّثنا الحسين بن صفوان، قال: أخبرنا أبو بكر القرشي، قال:
حدَّثني من سمع عمرو بن عون يقول: سمعت هشيماً يقول: مكث منصور بن
زاذان يصلي الفجر بوضوء العشاء عشرين سنة.
أخبرنا المبارك بن أحمد الأنصاري، قال: أخبرنا عبد الله بن احمد
السمرقندي، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن أحمد
المعدل، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال: حدَّثنا ابن البراء،
قال: حدَّثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي، قال: قال هشيم، لو قيل
لمنصور بن ذازان إن ملك الموت على الباب ما كان عنده زيادة في العمل،
وذلك أنه كان يخرج فيصلي الغداة في الجماعة، ثم يجلس فيسبح حتى تطلع
الشمس،ثم يصلي إلى الزوال، ثم يصلي الظهر، ثم يصلي العصر، ثم يجلس
فيسبح إلى المغرب، ثم يصلي المغرب، ثم يصلي العشاء، ثم ينصرف إلى بيته
فيكتب عنه في ذلك الوقت.
توفي في هذه السنة، وقيل سنة ثمان وعشرين، وقيل في سنة تسع وعشرين نصر
ين سيار، أمير خراسان: ولي الولايات، وروى عنه عكرمة، وأسند الحديث،
وتوفي لاثني عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة وهو ابن خمس
وثمانين سنة.
واصل بن عطاء، أبو حذيفة الغزالي مولى بني ضبة، وقيل: مولى بني مخزوم،
وقيل مولى بني هاشم: ولد سنة ثمانين، وكان يجالس الغزاليين، فقيل له:
الغزالي، كان من رؤساء المعتزلة، وكان لا يقيم الراء، وكان يتجنبها في
كلامه.
توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة اثنين وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها هلاك قحطبة بن شبيب، وكان السبب في ذلك أن قحطبة لما
نزل بخانقين، وابن هبيرة بجلولاء، وبينهما خمسة فراسخ وأمده مروان
بعشرون ألفاً من أهل الشام والتقيا، فحمل على ابن هبيرة فولى أصحابه
منهزمين، وفقدوا قحطبة فبايعوا حميد بن قحطبة، فسار حتى نزل كربلاء ثم
اجتمعوا على الحسن بن قحطبة، ثم وجد قحطبة قتيلاُ في جدول فدفنوه.
وفي
رواية: أن معن بن زائدة ضرب قحطبة على حبل عاتقة فسقط في الماء،
فاخرجوه فقال: إن مت فألقوني في الماء لا يعلم أحداً بقتلي، فإذا قدمتم
الكوفة فوزير الإمام أبو سلمة حفص بن سليمان، فسلموا هذه الأمر إليه،
ورجع ابن هبيرة إلى واسط.
وفي هذه السنة: خرج محمد بن خالد بالكوفة، وسود قبل أن يدخلها الحسن بن
قحطبة، وضبطها وأخرج عنها عامل بن هبيرة، ثم دخلها الحسن.
وكان قد خرج محمد بن خالد ليلة عاشوراء، وعلى الكوفة زياد بن صالح
الحارثي، فسار إلى القصر، فارتحل زياد وأهل الشام وخلوا القصر فدخله
محمد بن صالح، فلما أصبح يوم الجمعة وذلك صبيحة اليوم الثاني من مهلك
قحطبة بلغه نزول حوثرة ومن معه مدينة ابن هبيرة، وأنه تهيأ للمسير إلى
محمد فتفرق الناس عن محمد، فأرسل إليه أبو سلمة الخلال يأمره بالخروج
من القصر واللحوق بأسفل الفرات، فإنه يخاف عليه لقلة من معه، فأبى محمد
وجاء أصحاب حوثرة، فصاروا مع محمد فارتحل الحسن بن قحطبة نحو الكوفة
فدخلها واستخرجوا أبا سلمة بالنخيلة يومين، ثم ارتحل إلى حمام أعين،
ووجه الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة، وخطب أبو سلمة حين
بايعه أهل خراسان، فدعا إلى طاعة بني العباس، وفرق العمال في البلدان،
ووجه بسام بن إبراهيم إلى عبد الواحد بن عمر بن هبيرة، وهو بالأهواز،
فقاتله بسام حتى فضه، فلحق بسلم بن قتيبة الباهلي وهو بالبصرة وهو
يومئذ عامل ليزيد بن عمرو بن هبيرة، وكتب إلى سفيان بن معاوية بعهده
إلى البصرة، وأمره أن يظهر بها دعوة بني العباس وينفي سلم بن قتيبة.
فقدم سفيان على سلم يأمره بالتحول عن دار الإمارة ويخبره بما أتاه من
رأي أبي سلمة، فأبى سلم ذلك، وامتنع منه، وحشد مع سفيان جميع اليمانية
وغيرهم، وحلفاءهم، وجنح إليه قائد من قواد ابن هبيرة، وكتب إلى سفيان
بن معاوية بعهده إلى البصرة، وأمره أن يظهر بها دعوة بني العباس وينفي
سلم بن قتيبة.
فكتب سفيان إلى سلم يأمره بالتحول عن دار الإمارة ويخبره بما أتاه من
رأي أبي سلمة، فأبى سلم ذلك، وامتنع منه. وحشد مع سفيان جميع اليمانية
وغيرهم، وحلفاءهم، وجنح إليه قائد من قواد بني هبيرة كان بعثه مدداً
لسلم في ألفي رجل من كلب، فأجمع السير إلى سلم فاستعد له سلم.
فقدم سفيان يوم الخميس في صفر، فالتقوا فانكسر سفيان وقتل ابنه وانهزم
ومن معه، ولم يزل سلم مقيماً بالبصرة حتى بلغه مقتل ابن هبيرة فشخص
عنها.
واجتمع من بالبصرة من ولد الحارث بن عبد المطلب إلى محمد بن جعفر،
فولوه أمرهم، فوليهم، أياماً حتى قدم عبد الله بن أسد الخزاعي من قبل
أبي مسلم.
وفي هذه السنة: بويع لأبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله
بن العباس بن عبد المطلب.
باب ذكر خلافة أبي العباس السفاح
قد روى في الحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم العباس أن
الخلافة تؤول إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقعونها ويتحدثون بذلك بينهم.
أخبرنا أبو المنصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا
عبد العزيز بن علي الوراق، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب، قال:
حدَّثنا أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري، قال: حدَّثنا إبراهيم
بن سعيد الجوهري، قال: حدَّثنا أبو أسامة، قال: حدَّثني زائدة، عن
الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: يخرج منا رجل انقطاع من الزمن وظهور من الفتن يسمى السفاح، يكون
عطاؤه للمال حثياً.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرني علي بن أحمد
الرزاز، قال: حدَّثنا أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد الكاتب، قال:
حدَّثنا أبو عبد الله جعفر بن محمد بن عبيد الكندي، قال: حدَّثنا
الحسين بن محمد بن علي الأزدي، قال: أخبرني سلام مولى العباسة بنت
المهدي، قال: حدَّثني محمد بن كعب مولى المهدي قال: سمعت المهدي يقول:
حدَّثي أبي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، قال: والله لو لم يبق إلا
يوم لأدال الله من بني أمية ليكونن منا السفاح والمنصور والمهدي.
أنبأنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا أبو عبد الله الحميدي، قال: قال لنا
أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الحافظ.
إن أول
الأسماء التي وقعت على الخلفاء، الصديق، والفاروق، وذو النورين، ثم لم
يسم أحد من الخلفاء حتى ولي أبو العباس، فسمي السفاح، ثم المنصور، وهو
أول من تسمى بهذا الاسم، وتسمى به بعده إسماعيل بن أبي القاسم الشيعي،
ثم محمد بن أبي عامر، ثم ذاوي، وسأبور والي بطليوس في آخرين.
والمهدي، وكان تسمى به قبل ذلك كله محمد الحنفية، ثم رجل من بني علي
قام باليمن، ثم عبيد الله الشيعي بالقيروان، أول قائم قام بالقيروان،
ثم محمد بن هشام بن عبد الجبار، ثم عبد العزيز بن الأصبع، ثم محمد بن
إدريس الحسيني بمألفة.
والهادي ابن المهدي، ثم تسمى به رجل من بني علي قام بصعده، في اليمن،
والرشيد، ثم تسمى به صالح حاجب المعتضد.
والمأمون، ثم تسمى به عبد الرحمن بن أبي عامر، ثم القاسم بن محمود، ثم
يحيى بن إسماعيل بن ذي النون.
والمعتصم، ثم تسمى به محمد بن المظفر بن أبي عامر، ثم محمد بن عبد
العزيز من أولاد أبي عامر.
المعتضد، وتسمى به عباد بن محمد بن عباد اللخمي صاحب إشبيلية.
والمستكفي، ثم تسمى به محمد بن عبد الرحمن.
وقد حكيت ألقاب لبني أمية ولا يصح ذلك.
وقال الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس: لنا ثلاثة أوقات: موت
يزيد بن معاوية، ورأس المائة، وفتق إفريقية. فعند ذلك يدعو لنا دعاة،
ثم تقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم إلى المغرب ويستخرجوا ما كنز
الجبارون فيها.
فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية ونقضت البربر بعث محمد بن علي
رجلاً إلى خراسان وأمره أن يدعو إلى الرضا، ولا يسمي أحداً.
وكان بنو أمية يحسون بولاية بني العباس، فروى خليد بن عجلان، قال: لما
خالف ابن الأشعث أرسل عبد الملك إلى خالد بن يزيد، فأخبره، فقال: أما
إذا كان الفتق من سجستان فليس عليك بأس، وإنما كنا نتخوف لو كان من
خراسان.
وقد ذكرنا أنه لما مات محمد بن علي جعل وصيته بعده لأبنه إبراهيم، فبعث
إبراهيم أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع إلى خراسان، وكتب معه إلى
النقباء بها، ثم رجع إليه فرده ومعه أبو مسلم.
وبلغ الخبر مروان، فبعث إلى إبراهيم، فأخذه وقد كان عرف صفة الرجل الذي
يقتلهم فلما رأى إبراهيم قال: ليس هذه صفته، فردهم في طلبه.
وفي رواية أن مروان وصف له وصفة فجاء فرأى تلك الصفة في أبي العباس،
فأخذه فقيل للرسول: إنما أمرت بأخذ إبراهيم، فترك أبا العباس وأخذ
إبراهيم، فانطلق به، فأوصى إبراهيم إلى أخيه أبي لعباس، وجعله خليفة من
بعده، وأمر أهله بالمسير إلى الكوفة مع أخيه.
ثم أن مروان قتله، فشخص أبو العباس ومن معه من أهل بيته :عبد الله بن
محمد، وداود بن علي، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، وعبد الله، وعبد الصمد،
بنو علي، ويحيى بن محمد، وعيسى بن موسى بن محمد بن علي، وعبد الوهاب،
ومحمد ابنا إبراهيم الإمام، وموسى بن داود، وعيسى بن جعفر بن تمام، حتى
قدموا الكوفة في صفر، فأفرد لهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد، مولى بني
هاشم، وكتم أمرهم نحواً من أربعين ليلة من جميع القواد والشيعة.
ونقل إنه أراد بذلك تحويل الأمر إلى آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت
إبراهيم بن محمد، وذهب قوم من الشيعة، فدخلوا إلى أبي العباس، وجاء أبو
سلمة فمنعوه أن يدخل معه أحد، فدخل وحده فسلم بالخلافة، فقال أبو حميد:
على رغم أنفك.
وبويع أبو العباس السفاح بالكوفة في يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من
ربيع الأول، وانتقل إلى الأنبار فسكنها حتى مات.
وأمه ريطة بنت عبيد الله الحارثي من بني عبد المدان، وكان مولده
بالشراة سنة خمس ومائة، واستخلف وهو ابن سبع وعشرين سنة، وهو أول خلفاء
بني العباس، وكان أصغر سناً من أخيه المنصور، وكان أشعر جعداً طويلاً
أبيض، أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية جعدها، وكان يقال له: السفاح،
والمرتضى، والقائم، وهو أول من تلقب من بني العباس.
وقيل: إنما لقب بالسفاح لما سفح من دماء المبطلين.
ورفعت إليه سعاية مكتوب عليها بصيحة فوقع عليها: تقربت إلينا بما باعدك
من الله تعالى، ولا ثواب عندنا لمن آثرنا عليه، وظفر ببردة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فابتاعها بأربعة آلاف دينار، ولم يرو إلا حديثاً
واحداً، وكان نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله.
وكان
وزيره أبو الجهم عطية بن حبيب. وقال أبو بكر الصولي: أول من وزر لبني
العباس أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال، ثم خالد بن برمك فصل: ولما ولي
الخلافة خرج يوم الجمعة فصلى بالناس ثم قال في خطبته: الحمد لله الذي
اصطفى الإسلام لنفسه، وكرمه، وشرفه، وعظمة، واختاره لنا وأيده، وجعلنا
أهله وكهفه وحصنه والقوام به، والذأبين عنه، والناصرين له، وخصنا برحم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته،
وأنزل بذلك كتاباً، فقال فيه: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في
القربى " فلما قبض الله رسوله قام بذلك الأمر أصحابه، وأمرهم شورى
بينهم، فعدلوا وخرجوا خماصاً، ثم وثب بنو حرب ومروان، فابتزوها،
وتداولوها فاستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حيناً، فلما
أسفوه أنتقم الله منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا، وأنا السفاح المبيح،
الثائر المبير.
وكان موعوكاً فاشتد عليه الوعك، فجلس على المنبر وتكلم فقال: إنا والله
ما خرجنا لنكثر لجيناً ولا عقياناً، ولا نحفر نهراً، وإنما أخرجتنا
الأنفة من ابتزازهم لحقنا، ولقد كانت أموركم ترمضنا، لكم ذمة الله عز
وجل، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة العباس أن نحكم فيكم بما أنزل
الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير فيكم بسيرة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى ابن
مريم.
ثم نزل أبو العباس وداود أمامه حتى دخل القصر، فأجلس أبا جعفر وأخذ
البيعة على الناس في المسجد، وأعظم تدبير أبو سلمة حفص بن سليمان، ولقب
الوزارة، وهو أول من سمي بها، وكتب إليه أبو مسلم: للأمير أبي سلمة،
وزير آل محمد من عبد الرحمن أبي مسلم أمير آل محمد.
ثم استعمل السفاح على الكوفة عمه داود بن علي، وعلى واسط أخاه جعفر،
وحضر جماعة من أهل بيته، فذكروا جمع المال، فقال عبد الله بن حسن: سمعت
بألف ألف درهم وما رأيتها مجتمعة، فقال أبو العباس: أنا أصلك بها حتى
تراها مجتمعة، فلما قبض المال استأذنه في الخروج إلى المدينة، فأذن له
ودفع إليه مالاً ليقسمه على بني هاشم بالمدينة، فلما قسمه أخذوا يشكرون
أبا العباس، فقال عبد الله: هؤلاء أحمق الناس، يشكرون من أعطاهم بعض
حقهم، فبلغه ذلك فأخبر أهله، فقالوا: أدبه، فقال: من شدد أنفر، ومن
تراخى ألف، والعفو أقرب للتقوى، والتغافل من فعل الكرام.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي
الخطيب، قال: أخبرنا أحمد بن عمر بن روح، قال: أخبرنا المعافى بن
زكريا، قال: حدَّثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدَّثنا القاسم بن
إسماعيل، قال: حدَّثنا أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، عن أبيه قال:
حدَّثني من حضر مجلس السفاح وهو أحشد ما كان ببني هاشم والشيعة ووجوه
الناس، فدخل عبد الله بن حسن بن حسن ومعه مصحف، فقال: يا أمير
المؤمنين: أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف، قال: فأشفق
الناس من أن يجعل السفاح بشي عليه، ولا يريدون ذلك في شيخ بني هاشم في
وقته أو يعي بجوابه فيكون ذلك عاراً عليه. قال: فأقبل عليه غير مغضب
ولا مزعج، فقال: إن جدك علياً - وكان خيراً مني وأعدل - ولي هذا الأمر
فما أعطى جديك الحسن والحسين - وكانا خير منك - شيئاً، وكان الواجب أن
أعطيك مثله، فإن كنت فعلت فقد أنصفتك، وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك،
قال: فما رد عبد الله جواباً، وانصرف الناس يعجبون من جوابه له.
وكتب أبو العباس إلى خاله زياد بن عبد الله، وكان عامله على المدينة،
قربني من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ جيرانه، وإكرام أهل بيته،
ولا تسلط هواك فيما وجب إسخاطي فإن الله شاهدي وأنت المأخوذ بالتقصير.
وكتب إلى داود بن علي وهو عامله على مكة: أما بعد، فهذه سنة طمس فيها
عيون الجور، وأخمد نيران الظلم، أباد الشجرة الملعونة، فهن زوار بيت
الله بنصر أوليائه، وخذلان أعدائه ليحمدوه على ذلك.
وفي هذه
السنة: هزم مروان بالزاب، وذلك أن قحطبة كان قد وجه أبا عون عبد الله
بن يزيد الأزدي فقتل عثمان بن سفيان، وأقام بناحية الموصل، فلما بلغ
مروان قتل عمه عثمان أقبل من حران حتى أتى الموصل، فنزل على الزاب وحفر
خندقاً، فسار إليه أبو عون، فوجه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بن موسى،
والمنهال بن حبان، وإسحاق بن طلحة كل واحد في ثلاثة آلاف، فلما ظهر أبو
العباس بعث مسلمة بن محمد في ألفين، وعبد الله الطائي في ألف وخمسمائة،
وعبد الحميد بن ربعي الطائي في ألفين، وداس بن نضلة في خمسمائة إلى أبي
عون، ثم قال: من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟ فقال عبد الله بن علي:
أنا، فقال: سر على بركة الله.
فسار فقدم على أبي عون، فتحول له أبو عون عن سرادقه، وخلاه له وما فيه،
فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة ثنتين وثلاثين ومائة سأل
عبد الله بن علي عن مخاضة، فدل عليها بالزاب، فأمر عيينة بن موسى، فعبر
في خمسة آلاف وانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا، ورجع
عيينة فعبر المخاضة إلى عسكر عبد الله، فأصبح مروان فعقد الجسر وسرح
ابنه عبد الله بن مروان فحفر خندقاً أسفل من عسكر ابن علي، فبعث عبد
الله بن علي المخارق في أربعة آلاف، فنزل على خمسة أميال من عسكر ابن
علي، فسرح عبد الله بن مروان إليه الوليد بن معاوية، فلقي المخاريق،
فانهزم أصحابه، وأسر المخاريق، وقتل يومئذ عدة، فبعث بهم إلى عبد الله
وبعثه عبد الله إلى مروان مع الرؤوس، فقال مروان: أدخلوا علي رجلا من
الأسارى، فأتوه بالمخارق، فقال: أنت المخارق؟ فقال: أنا عبد من عبيد
أهل العسكر، قال: فتعرف المخارق؟ قال: نعم، قال: انظر في هذه الرؤوس هل
تراه؟ فنظر على رأس منها فقال: هو هذا، فخلى سبيله.
وبلغ عبد الله انهزام المخارق، فقال له موسى بن كعب: اخرج إلى مروان
قبل أن يصل الفل إلى العسكر، فنظر ما لقي المخارق، فدعا عبد الله بن
علي محمد بن صول، فاستخلفه على العسكر وسار على ميمنته ابن عون وعلى
ميسرته الوليد ين معاوية، ومع مروان ثلاثة آلاف، فقال مروان لعبد
العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنا
الذي ندفعها إلى عيسى ابن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال فإنا لله وإن
إليه لراجعون، وأرسل مروان إلى عبد الله بن علي يسأله الموادعة، فقال:
كذب، لا تزول الشمس حتى أوطئهم بالخيل، إن شاء الله، فقال مروان لأهل
الشام: قفوا لا تبدأوهم بقتال فحمل الوليد بن معاوية فقاتل أهل الميمنة
فغضب مروان وشتمه، فأنحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقال موسى بن
كعب لعبد الله: مر الناس أن ينزلوا، فنودي: الأرض، فنزل الناس وشرعوا
الرماح، وجثوا على الركب واشتد القتال، فقال مروان لقضاعة: انزلوا،
فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا، فأرسل إلى السكاسك: احملوا، فقالوا: قل
لبني عامر فليحملوا، فأرسل إلى السكون أن احملوا، فقالوا: قل لغطفان
فليحملوا، فقال لصحب شرطته: انزل، فقال: لا والله ما كنت لأجعل نفسي
غرضاً، قال: أما والله لأسوءنك، قال: وددت والله لو أنك قدرت على ذلك،
فانهزم أهل الشام وانهزم مروان، وقطع الجسر، فكان من غرق يومئذ أكثر
ممن قتل، وكان ممن غرق يومئذ إبراهيم ابن الوليد المخلوع، فأمر عبد
الله بن علي فعقد الجسر على الزاب واستخرج الغرقى، فأخرجوا ثلاثمائة،
وأقام عبد الله في عسكره سبعة أيام، وحوى عسكر مروان بما فيه، فوجدوا
فيه سلاحاً كثيراً، وأمولاً.
وكتب عبد الله بن علي بالفتح إلى أمير المؤمنين أبي العباس السفاح،
فلما أتاه الخبر صلى ركعتين وأمر لمن شهد الواقعة بخمسمائة خمسمائة،
ورفع أرزاقهم إلى ثمانين.
وكان مروان منذ لقيه أهل خراسان لا يدبر شيئاً إلا وقع فيه خلل، ولقد
وقف يوم انهزم الناس يقتتلون فأمر بأموال فأخرجت وقال للناس: اصبروا
وقاتلوا، هذه الأموال لكم، فجعل الناس يصيبون من ذلك المال، فأرسلوا
إليه: إن الناس قد مالوا على هذا المال، ولا تأمنهم أن يذهبوا، فأرسل
إلى ابنه عبد الله: أن سر في أصحابك فاقتل من أخذ من ذلك المال
وامنعهم، فمال عبد الله برايته وأصحابه، فقال الناس: الهزيمة فانهزموا.
وذلك صبيحة يوم السبت لإحدى عشر خلت من جمادى الآخرة.
أخبرنا
أبو القاسم بن الحصين، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر،
قال: أخبرنا أحمد بن منصور اليشكري، قال: قرئ على الصولي وأنا حاضر،
قال: حدَّثنا الغلابي، قال: حدَّثنا عبد الله بن عائشة، قال: لما
استقام الأمر لأبي العباس السفاح خطب يوماً فأحسن الخطبة، فلما نزل عن
المنبر قام إليه السيد فأنشده:
دونكموها يا بني هاشم ... فجددت أمراءها الطامسا
دونكموها ما على كعب ... من أمسى عليكم ملكها نافسا
دونكموها فالبسوا تاجها ... لا تعدموا منكم لها لابسا
خلافة الله وسلطانه ... وعنصراً كان لكم دارسا
لو خير المنبر فرسانه ... ما اختار إلا منكم فارسا
والملك لو شوور في ساسة ... ما اختار إلا منكم سائسا
لم يبق عبد الله بالشام من ... آل أبي العاص امرأً عاطسا
فقال له أبو العباس السفاح: سل حاجتك، قال: ترضى عن سليمان بن حبيب بن
المهلب وتوليه الأهواز، قال: قد فعلت، ثم أمر أن يكتب عهد سليمان على
الأهواز، وتدفع إلى السيد، فكتب ثم أخذه السيد وقدم على سليمان
بالبصرة، فلما وقعت عليه عينه انشده يقول:
أتيناك يا قرم أهل العراق ... بخير كتاب من القائم
أتيناك من عند خير الأنام ... وذاك ابن عم أبي القاسم
أتينا بعهدك من عنده ... على من يليك من العالم
يوليك فيه جسام الأمور ... فأنت صنيع بني هاشم
فقال له سليمان: شريف وشافع، ووافد وشاعر، ونسيب، سل حاجتك، قال: جارية
فارهة جميلة ومن يخدمها، وبدرة ومن يحملها، وفرس راتع وسايسه، وتخت من
صنوف الثياب وحاملها، قال: قد أمرت لك بجميع ما سألت ولك عندي في كل
سنة مثله.
قال الصولي: و حدَّثنا جبلة بن محمد، قال: حدَّثنا أبي هذا الخبر وزاد
فيه: أن سليمان قال للسيد: احتكم فقال:
سأحكم إذ حكمتني غير مسرف ... ولا مقصر يا ابن الكماة الأكارم
ثلاثة آلاف وعبد وبغلة ... وجارية حسناء ذات مآكم
وسرج وبرذون صليع وكسوة ... وما ذاك بالإكثار من حكم حاكم
على ذي ندى يعطيك حتى كأنما ... يرى بالذي يعطيك أحلام نائم
أرحني بها من مجلسي ذا فإنني ... وحقك إن لم أعطها غير رايم
وفي هذه السنة قتل مروان بن محمد: وذلك إنه لما هرب من الزاب مر
بقنسرين وعبد الله بن علي يتبعه، ثم مضى إلى حمص، فتلقاه أهله بالسمع
والطاعة، فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم شخص منها، فلما رأوا قلة عدده
طمعوا فيه وقالوا: مرعوب منهزم، فاتبعوه بعد ما رحل، فلحقوه أميال،
فلما رأى غبرة خيولهم كمن لهم كمينين، ثم صافهم وناشدهم فأبو إلا
قتاله، فنشب القتال بينهم، وثار الكمينان من خلفهم فهزموا أصحاب مروان،
ومر مروان إلى دمشق، ثم بالأردن ثم فلسطين، واتبعه عبد الله بن علي.
فأنفذ أبو العباس عمه صالح بن علي في جموع كثيرة إلى الشام على طريق
السماوة حتى لحق بأخيه عبد الله بن علي وسار إلى دمشق وبها الوليد بن
مروان بن الحكم خليفة مروان بن محمد، فحصرها وفتحها عنوة، وقتل الوليد
وأنهب البلاد ثلاثة أيام، وقلع أسوارها حجراً حجراً، وبعث بيزيد بن
معاوية بن مروان، وعبد الله بن عبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك بن
مروان إلى أبي العباس فقتلهما وصلبهما.
وهرب
مروان إلى مصر فدخلها في رمضان وبها عبيد الله ابنه وقد سبقه، ونزل عبد
الله بن علي نهر أبي فرطس، وجمع بني أميه وأظهر أنه يريد أن يفرض لهم
العطاء، فلما اجتمعوا وهم نيف وثمانون أنساناً خرجوا عليهم فقتلوهم،
وجاء كتاب أبي العباس بأن ينفذ صالح بن علي لطلب مروان، ويجعل على
مقدمته أبا عون عبد الملك بن يزيد، فمضى ومعه أبو عون والحسن بن قحطبة،
وعامر بن إسماعيل التميمي، ومنهال بن قنان، فبلغوا إلى العريش، وبلغ
مروان الخبر، فأحرق ما حوله من علف وطعام وهرب، ومضى صالح ومن معه في
طلبه إلى الصعيد، وقدم أبا عون أمامه وعامر بن إسماعيل، وسعيد ين عثمان
المازني، فلقوا خيلاً لمروان، فهزموهم وأسروهم وسألوهم عن مروان على أن
يؤمنهم ، فعرفوهم خبره ومكانه، وساروا حتى أدركوه بقريه من قرى الصعيد،
تسمى بوصر في أخر الليل، وقد نزل الكنيسة ومعه حرمه وولده وثقله، قال
عامر: لما وصلنا كنا في جمع يسير، فلو علم قلتنا شد علينا، فلجأنا إلى
شجر ونخل، فقلت لأصحابي: إن أصبحنا ورأوا قلتنا أهلكونا، وخرج مروان
فقاتل وهو يقول: كانت لله علينا حقوق ضيعناها، ولم نقم بما يلزمنا
فيها، فحلم عنا ثم انتقم منا.
قال علماء السير: كان مروان قد عرض جيشه بالرقة فمر به ثمانون ألف عربي
على ثمانين ألف فرس عربي، ففكر ساعة ثم قال: إذا انقضت المدة لم تنفع
العدة، إلا أنه في ذلك الوقت بالغ في القتال، فقتل ثلاثمائة رجل،
وأثخنته الجراح، وحمل عليه رجل فقتله واحتز رأسه رجل من أهل البصرة كان
يبيع الرمان، فقال الحسن بن قحطبة: اخرجوا إلي كبرى بنات مروان،
فأخرجوها وهي ترعد، فقال لها: لا بأس عليك، فقالت: أي بأس اعظم من
إخراجك إياي حاسرة من حيث لم أر رجلا قط، فأجلسها ووضع الرأس في حجرها،
فصرخت واضطربت، فقيل له: ما حملك على هذا؟ فقال: كفعلهم بزيد بن علي
حين قتلوه، فإنهم جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي.
وبعث براس مروان إلى صالح بن علي، فنصب على باب مسجد دمشق، وبعث به إلى
السفاح فخر ساجداً وتصدق بعشرة آلاف دينار.
وأوغل أولاد مروان إلى بلاد النوبة، فقاتلهم الحبشة، فقتل بعضهم وأفلت
بعضهم، وكان فيهم بكر بن معاوية الباهلي فسلم حتى كان في خلافة المهدي
فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين، فبعث به إلى المهدي.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ: قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الكلوذاني،
فقال: أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجارزي، قال: حدَّثنا المعافى بن
زكريا، قال: حدَّثنا الحسين بن قاسم الكوكبي، قال: حدَّثنا الفضل بن
العباس الربعي، قال: حدَّثني إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور،
قال: سمعت عمي سليمان بن أبي جعفر يقول: كنت واقفاً على رأس المنصور
ليلة وعنده إسماعيل بن علي وصالح بن علي وعيسى بن علي، فتذاكروا زوال
ملك بني أمية وما صنع بهم عبد الله وقتل من قتل منهم بنهر أبي فرطس،
فقال المنصور: ألا منّ عليهم ليروا من دولتنا ما رأينا من دولتهم،
ويرغبوا إلينا كما رغبنا إليهم، فلقد لعمري عاشوا سعداء، وماتوا فقداء،
فقال له إسماعيل بن علي: يا أمير المؤمنين، إن حبسك عبيد الله بن مروان
بن محمد بن مروان بن الحكم، وقد كانت له قصة عجيبة مع ملك النوبة فابعث
إليه فاسأله عنها، فقال يا مسيب: علي به، فأخرج فتى مقيد بقيد ثقيل وغل
ثقيل، فمثل بين يديه، فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله
وبركاته، فقال: يا عبيد الله، رد السلام أمن ولم تسمح لك نفسي بذلك
بعد، ولكن أقعدوه، فجاءوا بوسادة فثنيت فقعد عليها، فقال له: قد بلغني
أنه كان لك مع ملك النوبة قصة عجيبة، فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين،
لا والذي أكرمك بالخلافة ما أقدر على النفس من ثقل الحديد، ولقد صدئ
قيدي مما أرشق عليه من البول وأصب عليه من الماء في أوقات الصلوات،
فقال: يا مسيب أطلق عنه حديده.
ثم قال:
نعم يا أمير المؤمنين، لما قصد عبد الله بن علي إلينا كنت المطلوب من
بين الجماعة لأني كنت ولي عهد أبي من بعده، فدخلت إلى خزانة فاستخرجت
منها عشرة آلاف دينار، ثم دعوت عشرة من غلماني، كل واحد على دابة،
ودفعت إلى كل غلام ألف دينار، وأوقرت خمسة أبغل فرشاً، وشددت في وسطي
جوهراً له قيمة مع ألف دينار، وخرجت هارباً إلى بلاد النوبة، فسرت فيها
ثلاثاً فوقعت إلى مدينة خراب، فأمرت الغلمان فعدلوا إليها فكسحوا منها
ما كان قذراً ، ثم فرشوا بعض تلك الفرش، ودعوت غلاماً لي كنت أثق
بعقله، فقلت له: انطلق إلى الملك، فأقرئه مني السلام، وخذ منه الأمان
وابتع لي ميرة.
قال: فمضى ثم أنه أبطأ علي حتى سؤت ظناً، ثم أقبل ومعه رجل أخر، فلما
دخل كفر لي ثم قعد بين يدي، فقال لي: الملك يقرأ عليك السلام ويقول لك:
من أنت وما جاء بك إلى بلادي؟ أمحارب لي؟ أم راغب إلي؟ أم مستجير بي؟
قلت له: رد على الملك السلام وقل له: أما محارب لك فمعاذ الله، أما
راغب في دينك فما كنت لأبغي بديني بدلاً، وأما مستجير بك فلعمري.
قال: فذهب ثم رجع إلي فقال: الملك يقرأ عليك السلام ويقول لك: أنا صائر
إليك غداً، فلا تحدثن في نفسك حدثا ولا تتخذ شيئاَ من ميرة فإنها تأتيك
وما تحتاج إليه، فأقبلت الميرة فأمرت غلماني ففرشوا ذلك الفرش كله،
وأمرت بفرش لي، فنصب لي وله مثله، وارتقبت في غد مجيئه، فبينا أنا كذلك
أقبل غلماني يخطرون وقالوا: إن الملك قد أقبل، فقمت بين شرفتين من شرف
القصر أنظر إليه، فإذا أنا برجل قد لبس بردتين ائتزر بإحداهما وارتدى
الأخرى، حاف راجل، وإذا عشرة معهم الحراب ثلاثة يقدمونه، وسبعة خلفه،
وإذا الرجل الموجه إلى جنبه، فاستصغرت أمره وهان علي لما رأيته في تلك
الحال، وسولت لي نفسي قتله، فلما قرب من الدار إذا بسواد عظيم، فقلت:
ما هذا السواد؟ فقيل: الخيل فوافى يا أمير المؤمنين زهاء عشرة آلاف
عنان، فكانت موافاة الخيل إلى الدار وقت دخوله، فأحدقوا بها، ثم دخل
فلما نظر إليّ قال لترجمانه: أين الرجل؟ فأومأ الترجمان إلي، فلما نظر
وثبت إليه، فأعظم ذلك وأخذ بيدي فقبلها ووضعها على صدره، وجعل يدفع ما
على الفسطاط برجله فشوش الفراش، فظننت إن ذلك شيء يجلونه أن يطأ على
مثله، حتى انتهى إلى الأرض، فقلت لترجمانه، سبحان الله، لم لا يصعد إلى
الموضع الذي وطئ له؟ فقال: قل له أني ملك وكل ملك حقه أن يكون متواضعاً
لعظمة الله سبحانه إذا رفعه الله، ثم أقبل ينكث بإصبعه الأرض طويلاً،
ثم رفع رأسه فقال لي: كيف سلبتم هذا الملك وأحذ منكم وأنتم أقرب إلى
نبيكم؟ فقلت جاء من كان أقرب قرابة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم،
فسلبنا وطردنا، فخرجت إليك مستجيراً بالله عز وجل ثم بك، قال: كنتم
تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ قلت: فعل ذلك عبيد واتباع
دخلوا في ملكنا من غير رأينا، قال: فلم كنت تركبون وعلى دوابكم الذهب
والفضة، وتلبسون الديباج وقد حرم ذلك عليكم؟ قلت: عبيد وأتباع وأعاجم
دخلوا في مملكتنا من غير رأينا، قال: فلم كنتم أنتم إذا أخرجتم صيدكم
عبرتم على القرى وكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم بالضرب الوجيع ثم لا
يقنعكم ذلك حتى تمشوا زروعهم فتفسدوها في طلب دارج قيمته درهم، أوفي
عصفور قيمته لا شيء، والفساد محرم عليكم في دينكم؟ قلت: عبيد وأتباع،
قال: لا ولكنكم استحللتم ما حرم الله عليكم، وأتيتم ما نهاكم عنه،
فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها بعد،
وإني لأتخوف أن تنزل بك النقمة من الظلمة فتشملني معك، وإن النقمة إذا
نزلت عمت وشملت، فاخرج بعد ثلاث فإنني إن أخذتك بعدها أخذت جميع ما معك
وقتلتك وقتلت جميع من معك، ثم وثب وخرج.
فأقمت ثلاثاً وخرجت إلى مصر فأخذني وليك فبعث بي إليك، وها أنا ذا
والموت أحب إلي من الحياة. فهم أبو جعفر بإطلاقه، فقال له إسماعيل بن
علي: في عنقي بيعة له: قال: فماذا ترى؟ قال: يترك في دار من دورنا
ويجري عليه ما يجري على مثله، قال: ففعل ذلك به، فوالله ما أدري أمات
في حبسه أم أطلقه المهدي.
وروى
الحسن بن جعفر عن أبيه، قال: لما أفضت الخلافة إلى بني العباس اختفى
رجل من بني أمية، وكان فيمن اختفى إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك، حتى
أخذ له داود بن علي بن عبد الله أماناً من أبي العباس، فقال أبو العباس
يوماً: حدَّثني عما مر بك في اختفائك فقال: كنت يا أمير المؤمنين
مختفياً بالحيرة في منزل شارع على الصحراء. فبينا أنا ذات يوم على ظهر
بيت نظرت إلى أعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فوقع في روعي
إنها تريدني، فخرجت من الدار متنكراً حتى دخلت الكوفة، ولا أعرف بها
أحداً أختفي عنده، فدخلت متلدداً، فإذا أنا باب كبير ورحبة واسعة،
فدخلت الرحبة، فجلست بها، فإذا رجل وسيم حسن الهيئة على فرس قد دخل
الرحبة مع جماعة من غلمانه وأتباعه، فقال: من أنت وما حاجتك؟ فقلت: رجل
مختف يخاف على دمه واستجار بمنزلك، قال: فأدخلني منزله ثم سيرني في
حجرة تلي حرمه، فمكثت عنده حولاً في كل ما أحب من مطعم ومشرب وملبس، لا
يسألني عن شيء من حالي، ويركب كل يوم ركبة، فقلت له يوماً: أراك تدمن
الركوب، ففيم ذاك؟ قال: إن إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبراً، وقد بلغني
أنه مختف، فأنا أطلبه لأدرك ثأري فكثر عجبي من إدبارنا إذ ساقني القدر
إلى الاختفاء في منزل من يطلب دمي وكرهت الحياة، وسألت الرجل عن اسمه
واسم أبيه، فأخبرني بهما، فعلمت أني قتلت أباه، فقلت: يا هذا، قد وجب
علي حقك، ومن حقك أن أقرب عليك الخطوة، قال: وما ذاك؟ فقلت: أنا
إبراهيم بن سليمان قاتل أبيك فخذ بثأرك، فقال: أحسب إنك رجل قد مضه
الاختفاء فأحب الموت، فقلت: بل الحق، قلت: قتلته يوم كذا وكذا بسبب كذا
وكذا، فلما عرف أني صادق تربد وجهه واحمرت عيناه، وأطرق ملياً ثم قال:
أما أنت فستلقى أبي فيأخذ حقه منك، وأما أنا فغير مخفر ذمتي فاخرج عني
فلست آمن نفسي عليك، وأعطاني ألف دينار، فلم أقبلها وخرجت من عنده،
وهذا أكرم رجل رأيته.
وقد روينا أن مرية زوجة محمد بن مروان قد استأذنت على الخيزران، وعندها
زينب بنت سليمان بن علي الهاشمي، فلما دخلت قالت زينب: الحمد لله الذي
أزال نعمتك وصيرك عبرة، تذكرين يا عدوة الله حين أتاك أهل بيتي يسألونك
أن تكلمي أصحابك في أموال إبراهيم بن محمد فلقيتيهن ذلك اللقاء،
وأخرجتيهن ذلك المخرج، فضحكت وقالت: أي بنت عم، أي شيء أعجبك من حسن
صنيع الله بي على ذلك حتى أردت أن تتأسي بي فيه، ثم ولت خارجة.
وفي هذا
السنة: خلع أبو الورد، واسمه مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث
الكلابي، وهو من أصحاب مروان وفرسانه وقواده، خلعه أبو العباس السفاح،
وذلك لما هزموا بقنسرين جاء إلى عبد الله بن علي فبايعه، ودخل فيما دخل
فيه جنده من الطاعة، فجاء قائد من قواد عبد الله بن علي، فبعث بولد
مسلمة بن عبد الملك ونسائهم، وكانوا مجاورين لأبي الورد، فخرج حتى هجم
على ذلك القائد فقتله ومن معه، وأظهر الخلع وبيض، ودعا أهل قنسرين إلى
ذلك فأجابوه وأبو العباس يومئذ بالحيرة، فلما بلغ عبد الله بن علي ذلك
خرج متوجهاً إلى قنسرين للقاء أبي الورد، فلما قدم حمص إذا أهل قنسرين
قد بيضوا، ونهضوا مع عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة، وانتهبوا ما كان
عبد الله بن علي خلفه من متاع وثقل، واجتمع مع أبي الورد جماعة من أهل
قنسرين، وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، فقدم منهم ألوف وعليهم
محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وقالوا: هو السفياني
الذي يذكروهم في نحو أربعين ألفاً - فلما دنا منهم عبد الله بن علي،
وأبو محمد معسكر في جماعتهم، أبو الورد المتولي لأمر العسكر والمدبر
له، وهو صاحب الحرب - وجه عبد الله بن علي عبد الصمد في عشرة آلاف،
فناهضهم أبو الورد، واستحر القتل بين الفريقين، وثبت القوم وانكشف عبد
الصمد ومن معه، وقتل يومئذ منهم ألوف، وجاء عبد الصمد إلى عبد الله بن
علي، فنهض إليهم عبد الله ومعه حميد بن قحطبة وجماعة من القواد،
فالتقوا ثانية فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانكشف جماعة ممن كان مع عبد
الله، ثم ثابوا، وثبت لهم عبد الله وحميد بن قحطبة، فهزموهم وثبت أبو
الورد في نحو من خمسمائة من أهل بيته وقومه، فقتلوا جميعاً وذلك في ذي
الحجة، وهرب أبو محمد ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وأمن عبد الله أهل
قنسرين، وسودوا وبايعوا، ودخلوا في طاعته، ثم مضى إلى أهل دمشق فهرب
الناس وتفرقوا، فلم يكن بينهم وقعة، وآمن أهلها فبايعوه، ولم يؤاخذهم
بما كانوا فعلوا.
فأما أبو محمد فلحق بأهل الحجاز، فوجه إليه زياد بن عبيد الحارثي عامل
أبي جعفر على المدينة خيلاً، فقاتلوه حتى قتل.
وفي هذه السنة خلع حبيب بن مرة، وبيض هو ومن معه من أهل الشام، وكان
تبيض هذا قبل تبيض أبي الورد، وإنما بيض أبو الورد وعبد الله مشتغل
بقتال حبيب، وإنما بيض حبيب خزفاً على نفسه وقومه، فبايعته قيس وغيرهم
من أهل ذلك الكور، البثنية وحوران، فلما بلغ عبد الله بن علي تبييض أهل
قنسرين، دعا حبيباً إلى الصلح، فصالحه وآمنه، ثم خرج متوجهاً للقاء أبي
الورد، وفعل به ما فعل.
وفي هذه السنة: بيض أهل الجزيرة، وخلعوا أبا العباس. وإنما فعلوا هذا
حين بلغهم خروج أبي الورد ونقض أهل قنسرينن ثم استقام أهل الجزيرة وأهل
الشام.
وولى أبو العباس أبا جعفر المنصور الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل
على ذلك حتى استخلف.
أخبرنا علي بن عبد الله، قال: أخبرنا محمد بن أبي نصر الحميدي، قال:
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن سلامة القاضي القضاعي، قال: أخبرنا محمد
بن أحمد الكاتب قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن، عن أبيه، قال:
أخبرني بعض الهاشميين قال: كنت جالساً عند المنصور بأرمينية وهو أميرها
لأخيه أبي العباس وقد جلس للمظالم، فدخل عليه رجل فقال: إن لي مظلمة،
وإني أسألك أن تسمع مني مثلاً أضربه قبل أن أذكر مظلمتي، قال: قل، قال:
إني وجدت الله تبارك وتعالى اسمه خلق الخلق على طبقات، فالصبي إذا خرج
إلى الدنيا لا يعرف إلا أمه، ولا يطلب غيرها فإن فزع من شيء لجأ إليها،
ثم يرتفع عن ذلك طبقة فيعرف أن أباه أعز من أمه، فإن أفزعه شيء لجأ إلى
أبيه، ثم يبلغ فإن أفزعه شيء لجأ إلى سلطانه، فإن ظلمه ظالم انتصر به
منه، فإذا ظلمه السلطان لجأ إلى ربه فاستنصره، وقد كنت في هذه الطبقات،
وقد ظلمني ابن نهيك في ضيعة لي في ولايته، فإن نصرتني عليه وأخذت لي
بمظلمتي وإلا استنصرت الله عز وجل ولجأت إليه، فانظر لنفسك أيها الأمير
أو دع، فتضاءل أبو جعفر وقال: أعد علي الكلام، فأعاده، فقال: أما أول
شيء فقد عزلت ابن نهيك من ناحيته، وأمر برد ضيعته.
وفي هذه السنة: شخص أبو جعفر المنصور إلى أبي مسلم بخراسان لاستطلاع
رأيه في قتل أبي سلمة حفص بن سليمان. وذلك أن أبا سلمة ستر حال أبي
العباس حتى قدم الكوفة.
وقد ذكرنا
أن قوماً يذكرون ويقولون إنما أراد أن يجعل الأمر في آل أبي طالب، فصار
عند القوم بهذا متهماً، فتذاكروا بعد ظهور السفاح ما فعله أبو سلمة،
فقال قائل منهم: فما يدريكم لعل ما صنع أبو سلمة كان عن رأي أبي مسلم،
فقال أبو العباس: لئن كان هذا عن رأي أبي مسلم إنا بعرض بلاء، إلا أن
يدفعه الله عنا. ثم تفرقوا، فأرسل أبو العباس إلى أبي جعفر فقال: ما
ترى؟ فقال: الرأي رأيك، قال: فاخرج إلى أبي مسلم حتى تعلم ما رأيه،
فليس يخفي عليك لو قد لقيته، فإن كان عن رأيه أخذنا لأنفسنا، وإن لم
يكن عن رأيه طابت نفوسنا.
قال أبو جعفر: فحرجت على وجل، فلما انتهيت إلى الري إذا صاحب الري قد
أتاه كتاب أبي مسلم: أنه بلغني أن عبد الله بن محمد توجه إليك فإذا قدم
فأشخصه ساعة يقدم عليك. فلما قدمت أتاني عامل الري، فأخبرني بكتاب أبي
مسلم وأمرني بالرحيل، فازددت وجلاً وخرجت وأنا خائف، فسرت فلما كنت
بنيسابور إذا عاملها قد أتاني بكتاب أبي مسلم: إذا قدم عليك عبد الله
بن محمد فأشخصه ولا تدعه يقيم فإن الأرض أرض خوارج ولا آمن عليه، فطابت
نفسي وقلت: أراه يعنى بأمري. فسرت فلما كنت من مرو على فرسخين تلقاني
أبو مسلم في الناس، فلما دنا مني أقبل يمشي إلي حتى قبل يدي، فقلت:
اركب، فركب. فدخلت مرو فنزلت داراً، فمكثت ثلاثة أيام لا يسألني عن
شيء، ثم قال لي في اليوم الرابع: ما أقدمك؟ فأخبرته، فقال: فعلها أبو
سلمة أنا أكفيكموه. ثم دعا مرار بن أنس الضبي، فقال له: انطلق إلى
الكوفة فاقتل أبا سلمة حيث لقيته وانته في ذلك إلى رأي الإمام، فقدم
مرار الكوفة، وكان أبو سلمة يسمر عند أبي العباس، فعقد له في طريقه
فلما خرج قتله، وقالوا: قتلته الخوارج.
وقال سليمان بن المهاجر:
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيراً
وكان أبو مسلم إذا جاء إلى أبي جعفر وهو بالري ينزل على باب الدار ثم
يجلس في الدهليز ويقول للحاجب: استأذن لي، فغضب أبو جعفر على حاجبه،
وقال له: ويلك إذا رأيته فافتح له الباب وقل له يدخل على دابته. وانصرف
أبو جعفر إلى أبي العباس، فقال له: لست خليفة ولا آمرك بشيء إن تركت
أبا مسلم ولم تقتله، قال: وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلا ما يريد، فقال
أبو العباس اسكت واكتمها.
وفي هذه السنة: وجه أبو العباس أخاه أبا جعفر إلى واسط لحرب يزيد بن
عمر بن هبيرة.
وقد سبق ذكرنا حال يزيد بن عمر بن هبيرة مع الجيش الذي لقوه من أهل
خراسان مع قحطبة، ثم ابنه الحسن إلى أن انهزم ولحق بواسط وتحصن بها.
ولما انهزم تفرق عنه الناس، وخلف على الأثقال قوماً، فذهبوا بتلك
الأموال، فقيل له: لو لحقت بمروان فإنه ليس بعد الحصار إلا القتل، وكان
يخاف من مروان لأنه كان يكتب إليه في الأمر فيخالفه، فخافه إن قدم عليه
أن يقتله فسرح أبو سلمة الحسن بن قحطبة، فخندق وخرج ابن هبيرة للقتال
واقتتلوا ثم تحاجزوا ثم اقتتلوا بعد أيام، فهزم أهل الشام هزيمة قبيحة،
فدخلوا المدينة فمكثوا ما شاء الله لا يقتتلون إلا رمياً من وراء
الفصيل، ومكثوا على القتال أحد عشر شهراً، فلما طال عليهم وجاءهم قتل
مروان طلبوا الصلح. وكان أصحاب ابن هبيرة قد تقاعدوا به حتى هم أن يدعو
إلى محمد بن عبد الله بن الحسن وكتب إليه فأبطأ جوابه، جرت السفراء بين
أبي جعفر وبين ابن هبيرة حتى جعل له أماناً، وكتب بذلك ابن هبيرة
كتاباً مكث يشاور فيه العلماء أربعين يوماً حتى رضيه ابن هبيرة، ثم
أرسله إلى أبي جعفر فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس فأمره بإمضائه،
وكان رأي أبي حعفر الوفاء له بما أعطاه.
وكان أبو العباس لا يقطع أمراً دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عيناً
لأبي مسلم على أبي العباس، يكتب إليه أخباره كلها، فكتب أبو مسلم إلى
أبي العباس: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، ولا والله لا
يصلح طريق فيه ابن هبيرة.
ولما تم
الكتاب الذي كتبه ابن هبيرة لنسفه خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف
وثلاثمائة، فأراد أن يدخل الحجرة على دابته، فقام إليه الحاجب سلام بن
سليم، فقال: مرحباً بك أبا خالد، انزل راشداً، وقد طاف بالحجرة نحو من
عشرة آلاف من أهل خراسان، فنزل، ودعا له بوسادة فجلس عليها، ثم دعا
بالقواد فدخلوا ثم قال سلام: ادخل أبا خالد، فقال: أنا ومن معي؟ فقال:
إنما استأذنت لك وحدك، فقام فدخل فحادثه ساعة ثم قام وأتبعه أبو جعفر
بصره حتى غاب عنه، ثم مكث يقيم عنه يوماً ويأتيه يوماً في خمسمائة فارس
وثلاثمائة راجل، فقام يزيد بن حاتم لأبي جعفر: أيها الأمير، إن ابن
هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر، وما نقص من سلطانه شيء، فقال أبو جعفر
لسلام: قل لابن هبيرة يدع الجماعية يأتينا في حاشيته، قال: فلما سمع
ذلك تغيرت وجهه وجاء في حاشيته نحو من ثلاثين، ثم كان بعد ذلك يأتي في
ثلاثة، ثم ألح أبو العباس على أبي جعفر يأمره بقتله، وهو يراجعه، حتى
كتب إليه: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك، ثم يتولى
قتله. فأزمع على قتله، فأخذ جماعة من أصحابه فقتلهم، ثم بعث إليه من
قتله.
وفيها : بعث أبو مسلم محمد بن الأشعث على فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي
سلمة فيضرب أعناقهم، ففعل ذلك.
وفيها: عزل أبو العباس عمه داود بن علي عن الكوفة وسوادها وولاه مكة
والمدينة، واليمن واليمامة، وولى ما كان إليه عيسى بن موسى، واستقضى
عيسى على الكوفة ابن أبي ليلى.
وفيها: وجه أبو العباس أخاه يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله والياً
على الموصل.
وفيها: حج بالناس داود بن علي، وكان العامل على مكة والمدينة واليمن،
وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان أبو جعفر، وعلى الموصل يحيى بن محمد،
وعلى كور الشام عبد الله بن علي، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد،
وكان على البصرة سفيان بن معاوية المهلبي، وعلى قضائها الحجاج بن
أرطأة، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى
خراسان والجبال أبو مسلم وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك ذكر من توفي
في هذه السنة من الأكابر حفص بن سليمان، أبو سلمة الخلال وزير أبي
العباس السفاح وهو أول من وزر لهم، ولم يكن خلالاً إنما كان منزله
بالكوفة بقرب الخلالين، وكان يجلس عندهم فسمي خلالاً. وقتل في هذه
السنة على ما ذكرنا في حوادث السنة.
الربيع بن أبي راشد، أبو عبد الله: سمع من سعيد بن جبر، ومن الثوري.
وكان كالغائب عن الخلق.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدَّثنا محمد بن أبي يزيد الآدمي، قال:
حدَّثنا سفيان بن عيينة، عن خلف بن حوشب، قال: كنت مع الربيع بن أبي
راشد في الجبانة، فقرأ رجل: " يا أيها الناس إن كنت في ريب في
البعث.... " الآية فقال الربيع: حال ذكر الموت بيني وبين كثير مما أريد
من التجارة، ولو فارق ذكر الموت قلبي ساعة خشيت أن يفسد علي قلبي،
ولولا أن أخالف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت.
قال: وقال عمر بن ذر: كنت إذا رأيت الربيع بن أبي راشد :انه مخمار من
غير شراب.
زبان بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، أبو إبراهيم: كان سيد بني عبد
العزيز وفارسهم، حضر الوقعة مع مروان بن محمد ليلة بوصير فتقنطر به
فرسه، فقتله المسور في هذه السنة، ولم يعرفوه. وقد روى عنه الأوزاعي.
صفوان بن سليم، أبو عبد الله الزهري مولى حميد بن عبد الرحمن روى عن
ابن عمر، وجابر، وعبد الله بن جعفر، وسهل بن حنيف، وجماعة من كبار
التابعين، كان ثقة كثير الحديث عابداً.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، قال:
أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: حدَّثنا ابن جعفر، قال: حدَّثنا جعفر
بن محمد الفريابي، قال: حدَّثنا أبو أمية، قال: حدَّثنا يعقوب بن محمد،
قال: حدَّثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال: عادلني صفوان بن سليم إلى
مكة، فما وضع جنبه في المحمل حتى رجع.
قال أبو نعيم: وأخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم في كتابه، قال: حدَّثنا
أحمد بن محمد بن عاصم، قال: حدَّثنا سعيد بن كثير بن يحيى، قال: حدثني
أبي، قال:
قدم
سليمان بن عبد الملك المدينة وعمر بن عبد العزيز عامله عليها. قال:
فصلى بالناس الظهر ثم فتح باب المقصورة، واستند إلى المحراب واستقبل
الناس بوجهه، فنظر إلى صفوان بن سليم من غير معرفة، فقال: يا عمر، من
هذا الرجل؟ ما رأيت سمتاً أحسن منه، قال: يا أمير المؤمنين، هذا صفوان
بن سليم، قال: يا غلام، كيس فيه خمسمائة دينار، فأتى بكيس فيه خمسمائة
دينار، فقال لخادمه: ترى هذا الرجل القائم يصلي، فوصفه للغلام حتى
أثبته. قال: فخرج الغلام بالكيس حتى جلس إلى صفوان فلما نظر إليه صفوان
ركع وسجد ثم سلم وأقبل عليه، فقال: ما حاجتك؟ قال: أمرني أمير المؤمنين
- وهو ا ينظر إليك وإلي أن أدفع إليك هذا الكيس فيه خمسمائة دينار، وهو
يقول لك استعن بهذه على زمانك وعلى عيالك، فقال صفوان: ليس أنا بالذي
أرسلت إليه، فقال الغلام: ألست صفوان بن سليم؟ قال: بلى أنا صفوان بن
سليم، قال: فإليك أرسلت - قال: اذهب فاستثبت، فإذا أثبت فهلم، فقال
الغلام: فأمسك الكيس معك وأنا أذهب، قال: لا إذا أمسكت كنت قد أخذت،
ولكن اذهب فاستثبت وأنا ها هنا جالس. فولى الغلام وأخذ صفوان نعليه
وخرج، فلم ير بها حتى خرج سليمان من المدينة.
قال أحمد بن محمد بن عاصم: وحدثنا أبو مصعب، قال: قال لي ابن حازم:
دخلت أنا وأبي نسأل عن صفوان بن سليم وهو في مصلاه، فما زال أبي حتى
رده إلى فراشه، فأخبرتني مولاته أن ساعة خرجتم مات.
عبد الحميد بن يحيى بن سعيد مولى بني عامر بن لؤي، الكاتب، كاتب مروان
بن محمد: كان الأساس في البلاغة، رسم رسومها، وأصل أصولها، وفرع
فروعها، وقد كان قبله سالم مولى سعيد بن عبد الملك مقدماً في هذه
الصناعة إلا أنه دون عبد الحميد، وكان متصلاً في حداثته بعبد الله بن
مالك الثقفي كاتب الوليد بن عبد الملك، فتأدب وبرع، ثم اتصل بمروان بن
محمد قبل الخلافة فغلب عليه، فكان يخط بين يديه قبل الخلافة أحسن خط،
ولا ينتحل شيئا من البلاغة، ثم قام في الخلافة مقام الوزير أخبرنا أبو
منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا علي بن علي:
قال: حدَّثنا محمد بن عمر المرزبان، قال: حدَّثنا علي بن سلمان الأخفش،
قال: قال أحمد بن يوسف الكاتب: رآني عبد الحميد بن يحيى وأنا أكتب خطاً
رديئاً، فقال: إن أردت أن تجود خطك فأطل جحفتك واشممها، وحرف قطتك
وأيمنها.
قال علماء السير: انقرض ملك بني أمية على أربعة لم يجتمع مثلهم في
دولة: مروان بن محمد بن الحكم في شجاعته وسياسته، وعبد الحميد في
كتابته وبلاغته، ويزيد بن عمر بن هبيرة في تدبيره وصحة رأيه، ونصر بن
سيار في صولته وضبطه وبعد صوته.
عمر بن المنكدر: كان من العباد المجتهدين، وقوام الليل.
أخبرنا عبد الوهاب الحافظ بإسناده، عن بن أبي بكر الرشي، قال: حدثني
الحسن بن الصباح، قال: حدَّثنا العلاء بن عبد الجبار، عن نافع، عن ابن
عمر، قال: قالت أم عمر بن المنكدر لعمر: إني لأشتهي أن أراك نائماً،
فقال : يا أماه، والله إن الليل ليرد علي فيهولني، فينقضي عني وما قضيت
إربي.
وفي رواية: أنهم قالوا له: فما هذا البكاء الكثير؟ فقال: آية من كتاب
الله تعالى أبكتني: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " .
منصور بن المعتمر، أبو عتاب، السلمي: أسند عن أنس وعن جماعة من كبار
التابعين، وكان من العلماء المتعبدين الثقات. صام أربعين سنة وتمامها،
وكان محروماً كأنه قد أصيب بمصيبة، وبكى حتى عمش.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ويحيى بن علي، قالا: أخبرنا عبد الله بن
محمد الصريفيني، قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن عبدان، قال: حدثنا
الحسين بن إسماعيل، قال: حدَّثنا محمد بن يحيى الأزدي، قال: حدَّثنا
خلف بن تميم، عن زائدة بن قدامة، قال: صام منصور بن المعتمر أربعين سنة
قام ليلها وصام نهارها، وكان يبكي الليل، فتقول له أمه: يا بني، قتلت
قتيلاً؟ فيقول: أنا أعلم ما صنعت بنفسي، فإذا أصبح كحل عينيه ودهن رأسه
وبرق شفتيه خرج إلى الناس فأخذه ذات يوم يوسف بن عمر عامل الكوفة يريده
على القضاء، فامتنع، قال: فدخلت عليه وقد جيء بالقيد ليقيد، قال: فجاءه
خصمان، فقعدا بين يديه، فلم يسألهما ولم يكلمهما، فقيل ليوسف بن عمر:
إنك لو نثرت لحمه لم يل لك قضاء، فخلى عنه وتركه.
أخبرنا
ابن ناصر بإسناد له عن العلاء بن سالم العبدي، قال: كان منصور يصلي في
سطحه، فلما مات قال غلام لأمه: يا أماه الجذع الذي كان في آل فلان ليس
أراه، قال: يابني ليس ذلك جذع، ذلك منصور، وقد مات.
أخبرنا ابن منصور، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم
الأصفهاني، قال: حدَّثنا أبو محمد بن حيان، قال: حدَّثنا محمد بن يحيى،
قال: حدَّثنا أزهر بن جميل، قال: حدَّثنا ابن عيينة، قال: رأيت منصور
بن المعتمر في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: كدت أن ألقى الله
بعمل نبي.
قال سفيان: إن منصوراً صام ستين سنة يقوم ليلها ويصوم نهارها.
مروان بن محمد بن مروان بن الحكم: قتل في ذي الحجة من هذه السنة وهو
ابن اثنتين وستين سنة، وقيل: تسع وستين. وقيل ثمان وخمسين. وكانت
ولايته خمس سنين وعشرة أشهر وستة عشر يوماً.
ثم دخلت
سنة ثلاثة وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها توجيه أبي العباس عمه سليمان بن علي والياً على
البصرة وأعمالها وكور دجلة، والبحرين وعمان ومهرجان قذق. وتوجيه عمه
إسماعيل بن علي على كور الأهواز.
وفي هذه السنة : قتل داود بن علي من كان أخذ من بني أمية بمكة والمدينة
وفيها: مات داود بن علي، فلما بلغت وفاته إلى أبي العباس وجه إلى مكة
والطائف واليمامة خاله زياد بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي.
ووجه محمد بن يزيد ين عبيد الله بن عبد المدان الحارثي. على اليمن
فقدمها في جمادى الأولى، فأقام زياد بالمدينة ومضى محمد إلى اليمن. ثم
وجه زياد بن عبيد الله من المدينة إبراهيم بن حسان السلمي إلى المثنى
بن يزيد بن عمر بن هبيرة وهو باليمامة، فقتله وقتل أصحابه.
وفيها: كتب أبو العباس إلى أبي عون بإقراره على مصر والياً عليها. وإلى
عبد الله بن علي، وصالح بن علي على أجناد الشام.
وفيها: خرج سويد بن شيخ المهري بخراسان على أبي مسلم ببخارى ونقم عليه
وقال له: ما على هذا اتبعنا آل محمد، على أن نسفك الدماء، ونعمل بغير
الحق، وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفاً، فوجه إليه أبو مسلم ابن
صالح الخزاعي فقاتله فقتله.
وفيها: قتل عبد الرحمن بن يزيد بن المهلب بالموصل، قتله سليمان بن
الأسود.
وفيها : وجه صالح بن علي سعيد بن عبد الله لغزو الصائفة وراء الدرب.
وفيها : عزل يحيى بن محمد عن الموصل، واستعمل مكانه سليمان بن علي.
وفيها: أقبل طاغية الروم، فنزل على ملطية، فقاتلوه قتالاً شديداً ثم
نزلوا على أمان، فهدم المدينة والمسجد الجامع ودار الإمارة، ووجه مع
المسلمين خيلاً حتى بلغتهم مأمنهم.
وفيها: حج بالناس زياد بن عبيد الله الحارثي خال السفاح، وكان على
الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرة
وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان ومهرجان قذق سليمان بن علي، وعلى
قضائها عباد بن منصور، وعلى الأهواز إسماعيل بن علي، وعلى فارس محمد بن
الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم،
وعلى قنسرين وحمص وكور دمشق والأردن عبد الله بن علي، وعلى فلسطين صالح
بن علي، وعلى مصر عبد الملك بن يزيد أبو عون، وعلى الجزيرة أبو جعفر،
وعلى الموصل إسماعيل بن علي، وعلى أرمينية صالح بن صبيح، وعلى أذربيجان
مجاشع بن يزيد، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
داود بن علي بن عبد الله بن العباس: روى عن أبيه، وكان داود لما ظهر
ابن أخيه السفاح وصعد ليخطب الناس فحصر فلم يتكلم، فوثب داود من بين
يدي المنبر، فخطب وذكر أمرهم وخروجهم، ومنى الناس ووعدهم العدل فتفرقوا
عن خطبته، وولاه السفاح مكة والمدينة، وحج بالناس سنة اثنتين وثلاثين
ومائة، وهي أول حجة حجها بنو العباس، ثم صار داود إلى المدينة، فأقام
بها أشهراً ثم مات بها في شهر ربيع الأول من هذه السنة.
ضرار بن مرة أبو سنان الشيباني: روى عن سعيد بن جبير، وكان من
البكائين، وكان قد حفر لنفسه قبراً قبل موته بخمس عشرة سنة، وكان يأتيه
فيختم فيه القرآن.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن هبة الله، قال: حدَّثنا
محمد بن الحسين بن الفضل، قال: أخبرنا ابن درستويه، قال: حدَّثنا يعقوب
بن يوسف، قال: أخبرنا أبو سعيد الأشج، قال: حدَّثنا المخارق، قال:
كان ضرار
بن مرة ومحمد بن سوقة إذا كان يوم الجمعة طلب كل واحد منهما صاحبه،
فإذا اجتمعا جلسا يبكيان.
روى أبو سعيد الأشج، قال: حدَّثنا عبد الله بن الأجلح، قال: كان ضرار
بن مرة يقول لنا: لا تجيئوني جماعة، ولكن ليجيء الرجل وحده، فإنكم إذا
اجتمعتم تحدثتم، وإذا كان الرجل وحده لم يخل من أن يدرس جزأه من القرآن
أو يذكر ربه.
ثم دخلت
سنة أربع وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها إن بسام بن إبراهيم - وكان من فرسان أهل خراسان خالف
وخلع من عسكر أبي العباس مع جماعة بايعوه على ذلك مستبشرين بخروجهم،
فأقاموا بالمدائن، فبعث إليهم أبو العباس خازم بن خزيمة، فانهزم بسام
وأصحابه، وقتل أكثرهم، واستبيح عسكره.
وفيها: شخص خازم إلى عمان، فأوقع من فيها من الخوارج وغلب على ما قرب
منها من البلدان، وقتل شيبان الخارجي، وكان أهل عمان ظفروا به، ثم نصب
لهم الجلندى وأصحابه، وهم الأباضية، فاقتتلوا فقتل الجلندى فيمن قتل،
وبلغ عدد القتلى عشرة آلاف.
وفيها: غزا أبو داود خالد بن إبراهيم أهل كش، فقتل الأخريد، وهو ملكها،
وأخذوا من السروج الصينية والأواني المذهبة، ومن طرائف الصين، فحمله
أبو داود إلى أبي مسلم.
وفيها : وجه أبو العباس موسى بن كعب إلى الهند لقتال منصور بن جمهور،
فهزم منصور، فمات عطشاً في الرمال وفيها: تحول أبو العباس من الكوفة
إلى الأنبار في ذي الحجة، وبنى مدينتها.
وفيها: عزل صالح بن صبيح عن أرمينية وجعل مكانه يزيد بن أسيد.
وفيها: عزل مجاشع بن يزيد عن أذربيجان، واستعمل عليها محمد بن صول.
وفيها: ضرب المنار من الكوفة.
وفيها: حج بالناس عيسى بن موسى وهو على الكوفة وأرضها. وكان على قضائها
ابن أبي ليلى، وكان على مكة والمدينة والطائف واليمامة زياد بن عبيد
الله، وعلى اليمن، علي بن الربيع الحارثي، وعلى البصرة، وأعمالها وكور
دجلة والبحرين وعمان والعواصم ومهرجان قذق سليمان بن علي، وعلى قضائها
عباد بن منصور، على السند موسى بن كعب، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم،
وعلى فلسطين صالح بن علي، وعلى أرمينية يزيد بن أسيد، وعلى أذربيجان
محمد بن صول. وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك، وعلى الجزيرة أبو جعفر،
وعلى قنسرين وحمص وكور دمشق والأردن عبد الله بن علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
محمد بن يزيد بن عبيد الله: كان على اليمن من قبل السفاح، فتوفي. فكتب
السفاح بولايتها لعلي بن الربيع بن عبيد الله الحارثي، ابن خال السفاح.
ثم دخلت
سنة خمس وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها خروج زياد بن صالح وراء نهر بلخ، فشخص أبو مسلم من
مرو مستعداً للقائه وسأل عمن أفسد زياد بن صالح، فقيل له: سباع بن
النعمان، فأمر بقتله فقتل زياداً قواده، فلجأ إلى دهقان، فقتله الدهقان
وجاء برأسه إلى أبي مسلم، ورجع أبو مسلم إلى مرو.
وفيها: ولي سليمان بن علي البصرة، وعزل عنها محمد بن حفص، واستعمل على
شرط السفاح.
وفيها: حج بالناس سليمان بن علي وهو على البصرة وأعمالها، وكان على
قضائها ابن منصور، وكان على مكة العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس،
وعلى المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بن
موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى الجزيرة أبو جعفر، وعلى مصر أبو
عون، وعلى قنسرين وحمص وبعلبك والغوطة وحوران والجولان والأردن عبد
الله بن علي، وعلى أرمينية يزيد بن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بن صول،
وعلى ديوان الخراد خالد بن برمك.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن سالم، أبو يحيى الأسدي: سمع من عامر الشعبي، وسعيد بن جبير
وغيرهما. وروى عنه الثوري، وهشيم.
نزل بغداد قبل تمصيرها. وسئل عنه أحمد بن حنبل فقال: ثقة ثقة.
وقال يحيى: هو أوثق من أساطين الجامع.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت،
قال: أخبرني أبو القاسم الأزهري، قال: حدَّثنا محمد بن العباس، قال:
حدَّثنا أحمد بن معروف، قال: حدَّثنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد
بن سعد، قال: قال إسماعيل بن سالم الأسدي:
الذي روى
عنه هشيم وأصحابه كان ثقة ثبتاً وكان أصله من الكوفة، ثم تحول فسكن
بغداد قبل أن تبنى وتسكن، وكانت ببغداد لهشام بن عبد الملك وغيره من
الخلفاء خمسمائة فارس رابطة يغيرون على الخوارج إذا خرجوا في ناحيتهم
قبل أن يضعف أمرهم.
رابعة العدوية: أخبرنا أبو القاسم الجريري، قال: أنبأنا أبو طالب
العشاري، قال: أخبرنا أبو بكر البرقاني، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد
المزكي، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق بن إسحاق السراج، قال: حدَّثنا حاتم
بن الليث الجوهري، قال: حدَّثنا عبد الله بن عيسى، قال: دخلت على رابعة
العدوية بيتها، فرأيت على وجهها النور، وكانت كثيرة البكاء، فقرأ رجل
عندها آية ذكر فيها النار، فصاحت ثم سقطت.
ودخلت عليها وهي جالسة على قطعة بوري خلق فتكلم رجل عندها بشيء، فجعلت
أسمع وقع دموعها على البوري مثل الوكف، ثم اضطربت وصاحت فقمنا وخرجنا.
قال محمد بن عمر: دخلت على رابعة. وكانت عجوزاً كبيرة بنت ثمانين سنة،
كأنها الشن، تكاد تسقط، ورأيت في بيتها كراحة بوري، ومحشب قصب فارسي
طوله من الأرض قدر ذراعين، عليه أكفانها وستر البيت جله، وربما بوري
وجب وكوز ولبد هو فراشها وهو مصلاها. وكانت إذا ذكرت الموت انتفضت
وأصابتها رعدة، وإذا مرت بقوم عرفوا فيها العبادة.
وقال لها رجل: ادعي لي، فالتصقت بالحائط وقالت: من أنا يرحمك الله، أطع
ربك وادعه فإنه يجيب دعوة المضطر.
قال مؤلف الكتاب: كانت رابعة محققة فطنة، ومن كلامها الدال على قوة
فهمها قولها: أستغفر الله من قلة صدقي في قولي أستغفر الله.
وكان سفيان الثوري يقول: مروا بنا إلى المؤدبة التي لا أجد من أستريح
إليه إذا فارقتها. وقال يوماً بين يديها: واحزناه، فقالت: لا تكذب، قل:
واقلة حزناه، لو كنت محزوناً ما هناك العيش.
وقيل لها: هل عملت عملاً ترين أنه يقبل منك؟ فقالت: إن كان فمخافتي أن
يرد علي.
وقد جمعت أخبارها في كتاب، فلهذا اقتصرت على هذا القدر ها هنا.
دفنت بظاهر القدس على رأس جبل، وقبرها يزار.
زهرة بنت معبد بن عبد الله بن هشام أبو عقيل التميمي مديني سكن مصر،
روى عن ابن عمر، وابن الزبير، روى عنه الليث، وابن لهيعة وآخر من حدث
عنه رشدين، وتوفي في هذه السنة.
عبد الله بن السائب المخزومي المديني: كان يقول: كان جدي في الجاهلية
يكنى أبا السائب، وبه اكتنيت، وكان خليطاً لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، إذا ذكره في الإسلام، قال: نعم الخليط، وكان لا يساري ولا يماري.
كان عبد الله أديباً فاضلاً خيراً عفيفاً، لكنه مشتهر بحب الغزل، يهش
عند سماع الشعر ويطرب له، قدم على السفاح في الأنبار.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز، بإسناد له عن أبي عبد الله الزبيري، قال:
كان أبو السائب المخزومي مع حسن بن زيد بالأنبار، كان له مكرماً وذلك
في ولاية أبي العباس، فأنشده ليلة الحسن بن زيد أبياتاً لمجنون بني
عامر:
وخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الضيف ألقى المراسيا
فجعل أبو السائب يحفظها، فلما انصرف إلى منزله، فذكرها شذ عليه بعضها،
فرجع إلى الحسن بن زيد، فلما وقف على الباب صاح بأعلى صوته: أبا فلان،
فسمع ذلك الحسن، فقال: افتحوا الباب لأبي السائب فقد دعاه أمر، فلما
دخل عليه قال: أجاء خبر؟ قال: أعظم من ذلك، قال: ما هو؟ قال: تعيد لي:
وخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الضيف ألقى المراسيا
فأعادها عليه حتى حفظها.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز بإسناده عن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم
التيمي، قال: حدثني أبي، قال: بينا أبو السائب في داره إذ سمع رجلاً
يتغنى بهذه الأبيات:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
حسبي بأن تعلمي أن قد يحبكم ... قلبي فإن تجدي بعض الذي أجد
ألفيت بيني وبين الحب معرفة ... فليس ينفذ حتى ينفذ الأبد
وليس لي مسعد فامنن علي به ... فقد بليت وقد أضناني الكمد
قال: فخرج
أبو السائب خلفه وقال: فق يا حبيب فقد أجبت دعوتك، أنا مسعدك، أين
تريد؟ قال: خيام السعف من وادي العرج، فأصابتهما سماء شديدة، فجعل أبو
السائب يقرأ: " فما وهنا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما
استكانوا والله يحب الصابرين " فرجع إلى منزله وقد كانت نفسه تتلف،
فدخل عليه أصحابه، فقالوا له: يا أبا السائب، ما الذي تصنع بنفسك؟ قال:
إليكم عني، فإن مشيت في مكرمة، وأحببت مسلماً، والمحسن معان.
قال مؤلف الكتاب: والأخبار عنه في هذا المعنى كثيرة حتى أن ابنه أنشده
بيتين وقد اجتمع أهل الدار على المائدة، فقال له: أمك طالق إن تعشينا
ولا تسحرنا إلا بهذين البيتين فرفعوا الطعام وجعلوا يرددون البيتين، ثم
أيقظهم سحراً فأنشدوه.
وجاز على حداد، وهو ينشد، فحلف لينفخن له بمنفاخه، فجلس ينفخ وذلك
ينشده إلى المغرب.
وروى عبد الرحمن المدائني قال: حدَّثنا أبو عثمان المازني، قال: صام
أبو السائب المخزومي يوماً، فلما صلى المغرب وقدمت مائدته خطر بقلبه
بيت لجرير:
إن الذين غدوا بقلبك غادروا ... وشلاً بعينك ما يزال معيناً
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوا ولقينا
فقال: كل امرأة له طالق وكل مملوك له حر إن أفطر الليلة إلا على هذين
البيتين.
أخبرنا المبارك بن علي بإسناد له عن عبد الملك بن عبد العزيز، قال: قال
لي أبو السائب: يا ابن أخي، أنشدني للأحوص، فأنشده قوله:
قالت وقلت تحرجي وصلي ... حبل امرئ يوصي لكم صب
صاحت إذا بعلي فقلت لها ... العذر شيء ليس من شعبي
ثنتان لا أوثر لوصلهما ... عرس الخليل وجاره الجنب
أما الخليل فلست فاجعه ... والجار أوصاني به ربي
فقال: هذا يا ابن أخي المحب غبناً.
عطاء بن أبي مسلم الخراساني: وفي اسم أبيه قولان: أحدهما ميسرة،
والثاني عبد الله، وفي كنية عطاء قولان: أحدهما أبو عثمان، والثاني أبو
أيوب. وأصله من بلخ، أسند عن ابن عمر، وابن عباس، وأنس، وأبي هريرة،
وغيرهم من العلماء الصالحين.
أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان، قال:
أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد
بن زهير الطوسي، قال: حدَّثنا يوسف بن عيسى، قال: حدَّثنا الوليد بن
مسلم، قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: كنا مقاربي عطاء
الخراساني، وكان يحيي الليل صلاة، وكان إذا ذهب من الليل ثلثه أو نصفه
نادانا وهو في فسطاطه يا إسماعيل، يا عبد الرحمن بن يزيد، يا فلان بن
فلان، قوموا فتوضئوا وصلوا، فإن صلاة هذا الليل وصيام هذا النهار أيسر
من شراب الصديد، ومقطعات الحديد، الوحا الوحا.
محب بن حازم مولى ثابت بن يزيد بن رعين، يكنى أبا جبرة يروي عن موسى بن
وردان حديثاً واحداً بسنده، لا يروي غيره، روى عنه سعيد بن أيوب، وضمام
بن إسماعيل، والليث بن عاصم.
وكان فاضلاً توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ست وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها قدوم مسلم العراق على أبي العباس أمير المؤمنين، وذلك
أنه كتب إليه يستأذنه في القدوم، فأذن له، فقدم في جماعة عظيمة، فأمر
أبو العباس الناس بالتلقي له، فلما دخل عليه اعظمن وأكرمه، فاستأذنه في
الحج، فقال: لولا أن أبا جعفر يحج لاستعملناك على الحج والموسم، وأنزله
قريباً منه، وكان يأتيه في كل يوم يسلم عليه، وكان بين أبي جعفر، وبين
أبي مسلم تباعد.
وكان
السبب في ذلك أن أبا العباس بعث أبا جعفر إلى أبي مسلم وهو بنيسابور
وقد صفت له الأمور بعهده على خراسان، وبالبيعة لأبي العباس ولأبي جعفر
من بعد موته، فبايع له، وكان في مدة مقامه عنده يهون أمره، ويستخف
بشأنه، فلما قدم أبو جعفر أخبر أبا العباس باستخفافه به، وقال له:
أطعني واقتل أبا مسلم، فوالله إن في رأسه لغدرة، فقال: يا أخي قد عرفت
بلاءه وما كان منه، فقال: إنما كان بدولتنا، والله لو بعثت سنواراً
لقام مقامه، فقال: وكيف نقتله؟ قال: إذا دخل عليك وحادثته دخلت إليه
فتغفلته وضربته ضربة أتيت بها على نفسه، قال: وكيف بأصحابه الذين
يؤثرونه على دينهم ودنياهم؟ قال: يؤول ذلك كله إلى ما تريد، ولو علموا
أنه قتل تفرقوا وذلوا، قال: عزمت عليك ألا كففت عن هذا، قال: والله
أخاف إن لم تتغده اليوم أن يتعشاك غداً، قال: فدونكه، أنت أعلم. فخرج
أبو جعفر عازماً على ذلك، وندم أبو العباس فأرسل إلى أبي جعفر لا تفعل
ذلك الأمر.
وفي هذه السنة: عقد أبو العباس لأخيه أبي جعفر بالخلافة من بعده، وجعله
ولي عهده، ومن بعد أخيه جعفر عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وكتب العهد
بذلك، وصيره في ثوب وختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته، ودفعه إلى عيسى
بن موسى.
وفي هذه السنة: حج بالناس أبو جعفر، وحج معه أبو مسلم.
وقد ذكرنا أن أبا مسلم استأذن أبا العباس في القدوم، فأذن له وكتب إليه
أقٌدم في خمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم: إني قد وترت الناس
ولست آمن على نفسي. فكتب إليه: أن أقبل في ألف، وطريق مكة لا يحتمل
العسكر، فشخص في ثمانية آلاف فرقهم فيما بين نيسابور والري، وقدم
بالأموال والخزائن، فخلها بالري، فلما قدم استأذن في الحج، فأذن له،
وخرج أبو مسلم وأبو جعفر، فلما كان قريباً من ذات عرق أتى أبا جعفر
كتاب بموت أبي العباس، وكان أبو جعفر قد تقدم أبا مسلم بمرحلة، فكتب
إلى أبي مسلم: إنه قد حدث أمر، فالعجل العجل. فلحق أبا جعفر أبو مسلم
ثم أنهما حجا وأقبلا إلى الكوفة وأقر المنصور أبا مسلم على عمله وصرفه.
وفي هذه السنة: توفي السفاح وبويع لأبي جعفر المنصور.
باب ذكر خلافة منصور
وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ويكنى أبا جعفر، ولد
بالسراة في ذي الحجة سنة خمس وتسعين، وأمه بربرية يقال لها سلامة، وحكى
الصولي أنه ولد يوم مات الحجاج.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الخطيب،
قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد البزاز، قال: أخبرنا محمد
بن المظفر الحافظ، قال: حدَّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، قال: حدَّثنا
الحارث بن محمد، قال: حدَّثنا منصور بن أبي مزاحم، قال: حدثني أبو سهل
الحاسب، قال: حدثني طيفور مولى أمير المؤمنين، قال: حدثتني سلامة أم
أمير المؤمنين، قالت: لما حملت بأبي جعفر رأيت كأنه خرج من فرجي أسد
فزأر، ثم أقعى، فاجتمعت حوله الأسد، فكلما انتهى إليه أسد سجد له.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا الحسن بن أبي
بكر، قال: أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان،
قال: أخبرنا محمد بن الفرج الأزرق، قال: حدثني يحيى بن غيلان، قال:
حدَّثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن الضحاك بن مزاحم، عن عبد الله بن
عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " منا السفاح والمنصور
والمهدي " .
ولي المنصور الخلافة وهو ابن اثنتين وأربعين سنة. بويع بالأنبار يوم
مات السفاح. وولي ذلك والإرسال به في الوحدة عيسى بن علي عمه، ولقيت
أبا جعفر بيعته في الطريق عند منصرفه من الحج، ومضى أبو جعفر حتى قدم
الكوفة وصلى بالناس.
ذكر صفته أخبرنا أبو منصور بن عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا
أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر
المقري، قال: أخبرنا علي بن أحمد بن أبي قيس، قال: أخبرنا أبو بكر عبد
الله بن محمد بن أبي الدنيا، قال: حدثني حمدون بن سعد المؤذي، قال:
رأيت أبا جعفر يخطب على المنبر متعرق الوجه، يخضب بالسواد، وكان أسمر
طويلاً نحيف العارضين، وأمه أم ولد يقال لها: سلامة.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا عبد
العزيز بن علي الوراق، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن المفيد، قال:
حدَّثنا أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري، قال: أخبرنا طاهر بن
يحيى بن حسن الطالبي، عن علي بن حبيش المديني، عن علي بن ميسرة الرازي،
قال: رأيت أبا جعفر بمكة فتى أسمر اللون، رقيق السمرة، موفر الجمة،
خفيف اللحية، رحب الجبهة، أقنى الأنف بين القنى، أعين، كأن عينيه
لسانان ناطقان تخالطه أبه الملوك، بزي النساك، تقبله القلوب، يعرف
الشرف في تواضعه والعتق في صورته واللب في مشيته.
ذكر أولاده كان له المهدي واسمه محمد، وجعفر، أمهما أروى بنت منصور بن
عبد الله بن يزيد بن شمر الحميرية، وكانت تكنى أم موسى، وكان المنصور
قد شرط لها ألا يتزوج عليها، ولا يتسرى، وكتبت علي بذلك كتاباً وأشهدت
عليه شهوداً، فبقي عليه عشر سنين من سلطانه كذلك، وكان يكتب إلى الفقيه
بعد الفقيه ليفتيه برخصة، فإذا علمت أم موسى أرسلت إلى ذلك الففيه بمال
فلا يفتيه، فلما ماتت أتته وفاتها وهو بحلوان، فأهديت إليه تلك الليلة
مائة بكر.
ومن أولاد المنصور صالح، أمه أمة، ويقال: بنت ملك الصغد. وسليمان،
وعيسى، ويعقوب، أمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله.
والغالية أمها من ولد خالد بن أسيد. وجعفر والقاسم، وعبد العزيز،
والعباس، فأما جعفر بن أبي جعفر فولي الموصل لأبي جعفر ومات ببغداد،
فولد لجعفر إبراهيم، وزبيدة وهي أم جعفر، أمهما سلسل أم ولد جعفر بن
جعفر، وعبيد الله بن جعفر، وصالح بن جعفر، ولبابة بنت جعفر. فأما
إبراهيم فلا عقب له. وأما زبيدة فتزوجها هارون الرشيد، وأما لبابة
فكانت عند موسى بن المهدي، وأما عيسى بن جعفر فولي البصرة وكورها وفارس
والأهواز واليمامة والسند.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي
بن ثابت، قال: أخبرنا القاضي أبو العلاء محمد بن علي بن يعقوب الواسطي،
قال: أخبرنا أبو الحسين علي بن عمر الحافظ، قال: حدَّثنا أبو إسحاق
إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى الهاشمي، قال: حدثني عبد الصمد، قال:
حدثني أبي موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام، عن أبيه محمد بن إبراهيم،
قال: قال المنصور يوماً ونحن جلوس عنده: أتذكرون رؤيا كنت رأيتها ونحن
بالشراة؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين ما نذكرها، فغضب من ذلك، وقال: كان
ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب وتعلقوها في أعناق الصبيان، فقال
عيسى بن علي: إن كنا قصرنا في ذلك فنستغفر الله يا أمير المؤمنين،
فليحدثنا أمير المؤمنين بها، قال: نعم، رأيت كأني في المسجد الحرام،
وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة وبابها مفتوح والدرجة
موضوعة، وما أفقد أحداً من الهاشميين ولا من القرشيين، إذا منادٍ
ينادي: أين عبد الله؟ فقام أخي أبو العباس فتخطى الناس حتى صار على
الدرجة، فأخذ بيده فأدخل البيت، فما لبث أن خرج علينا ومعه قناة عليه
لواء قدر أربعة أذرع وأرجح، فرجع حتى خرج من باب المسجد، ثم نودي: أين
عبد الله؟ فقمت أنا وعبد الله بن علي نستبق حتى صرنا إلى الدرجة فجلس
فأخذ بيدي فأصعدت فأدخلت الكعبة، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومعه أبو بكر وعمر وبلال. فعقد لي وأوصاني بأمته وعممني، وكان كورها
ثلاثة وعشرين كوراًً، وقال: خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال:
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا محمد بن عبد
الرحيم المازني، قال: حدَّثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، قال:
حدثنا أبو سهل بن علي بن نوبخت قال: كان جدنا نوبخت على دين المجوسية،
وكان في علم النجوم نهاية وكان محبوساً بسجن الأهواء، فقال:
رأيت أبا
جعفر المنصور وقد أدخل السجن، فرأيت من هيبته وحالته وسيماه وحسن وجهه
وثيابه ما لم أره لأحد قط. قال: فصرت من موضعي إليه فقلت: يا سيدي ليس
وجهك من وجوه هذه البلاد، فقال: أجل يا مجوسي قلت: فمن أي البلاد أنت؟
فقال: من المدينة، فقلت: أي مدينة؟ فقال: مدينة النبي صلى الله عليه
وسلم، فقلت: وحق الشمس والقمر إنك لمن ولد صاحب المدينة، قال: لا
ولكنني من عرب المدينة. قال: فلم أزل أتقرب إليه وأخدمه حتى سألته عن
كنيته، فقال: كنيتي أبو جعفر، قلت: أبشر فوحق المجوسية لتملكن جميع ما
في هذه البلدة حتى تملك فارس وخراسان والجبال، فقال لي: وما يدريك يا
مجوسي؟ قلت: هو كما أقول فاذكر لي هذه البشرى، قال: إن قضي شيء فسوف
يكون، قال: فقلت: قد قضاه الله من السماء فطب نفساً، فطلبت دواة
فوجدتها فكتب لي بسم الله الرحمن الرحيم، يا نوبخت إذا فتح الله على
المسلمين، وكفاهم مؤونة الظالمين، ورد الحق إلى أهله لم نغفل عما يجب
من حق خدمتك إيانا. وكتب أبو جعفر.
قال نوبخت: فلما ولي الخلافة صرت إليه وأخرجت الكتاب، فقال: أنا له
ذاكر ولك متوقع، والحمد لله الذي صدق وعده وحقق الظن ورد الأمر إلى
أهله. وأسلم نوبخت وكان منجماً لأبي جعفر ومولى.
ذكر بيعة المنصور لما حضرة السفاح الوفاة أمر الناس بالبيعة لأخيه
المنصور، فبويع له يوم توفي أخوه والمنصور يومئذ بمكة،. وكان الذي أخذ
له البيعة بالعراق، وقام بأمر الناس عمه عيسى بن علي، وكتب إليه يعلمه
بموت أخيه وبالبيعة له، فلما وصل الكتاب إليه دعا الناس فبايعوه وبايعه
أبو مسلم.
وقيل: بل عر ف الخبر أبو مسلم، قبله، فأنفذ الكتاب إليه وتأخر عن بيعته
يومين ليرهبه.
وفي رواية: أنه ورد عليه الخبر بعدما صدر من الحج في منزل يقال له:
صفية، فتفاءل باسمه، قال: صفي أمرنا إن شاء الله. وجعل يجزع، فقال له
أبو مسلم: ما هذا الجزع؟ قال: أتخوف من شر عبد الله بن علي وسعيد بن
علي، قال: لا تخف وأنا أكفيك أمره إن شاء الله، إنما عامة جنده أهل
خراسان وهم لا يعصوني، فسري عن أبي جعفر، وكان عبد الله بن علي قد قدم
في هذه السنة على أبي العباس الأنبار، فعقد له على الصائفة في أهل
خراسان وأهل الشام، وأهل الجزيرة والموصل، فسار فأتته وفاة أبي العباس،
وبعث إليه عيسى بن علي، وأبو الجهم بن يزيد بن زياد ببيعة المنصور،
فانصرف بمن معه إلى حران وبايع لنفسه.
ذكر طرف من أخبار المنصور وسيرته كان المنصور قبل الخلافة يطلب العلم.
أنبأنا زاهر بن طاهر، قال: أخبرنا أبو عثمان الصابوني، وأبو بكر
البيهقي، قالا: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم، قال:
حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، قال: حدَّثنا جعفر بن محمد
بن الحسين، قال: حدَّثنا محمد بن سعد الجلاب، قال: حدَّثنا الجارود بن
يزيد، قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، قال: كنت
أطلب العلم مع أبي جعفر أمير المؤمنين قبل الخلافة، فأدخلني يوماً إلى
منزله قدم طعاماً ومريقة من حبوب ليس فيها لحم، ثم قدم إلي زبيباً ثم
قال: يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا، قال: ولا التمر؟ قالت: ولا التمر،
فاستلقى ثم تلى هذه الآية: " وعسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في
الأرض فينظر كيف تعملون " . فما ولي الخلافة دخلت عليه، فقال: يا عبد
الرحمن، بلغني أنك كنت تغد لبني أمية، قال: قلت: أجل كنت أفد لهم وأفد
إليهم. قال: فكيف رأيت سلطاني من سلطانهم؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين،
والله ما رأيت من سلطانهم من الجور والظلم إلا رأيته في سلطانك، تحفظ
يوم أدخلتني منزلك فقدمت إلي طعاماً ومريقة من حبوب لم يكن فيها لحم،
ثم قدمت إلي زبيباً ثم قلت: يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا، قلت: ولا
التمر، قالت: ولا التمر. فاستلقيت ثم تلوت هذه الآية: وعسى ربكم أن
يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " فقد والله أهلك الله
عدوك، واستخلفك في الأرض، فانظر ما ذا تعمل، قال: يا عبد الرحمن، إنا
لا نجد الأعوان، قلت: يا أمير المؤمنين، السلطان سوق نافق لو نفق عليك
الصالحون لجلبوا إليك. قال: فكأني ألقمته حجراً، فلم يرد علي شيئاً.
أخبرنا
محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا عبد المحسن بن محمد المالكي، قال:
أخبرنا أبو الطيب الطبري، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا، قال: حدَّثنا
الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدَّثنا أبو الفضل الربعي، قال: حدثني
أبي، قال: بينا المنصور ذات يوم يخطب وقد علا بكاؤه إذ قام رجل، فقال:
يا وصاف تأمرنا بما تجتنبه، وتنهى عما ترتكبه، بنفسك فابدأ ثم بالناس.
فنظر إليه المنصور ثم تأمله ملياً ثم قطع الخطبة وقال: يا عبد الجبار
خذه إليك، فأخذه عبد الجبار وعاد خطبته فأتمها، وقضى الصلاة ثم دخل،
ودعى بعبد الجبار فقال: ما فعل الرجل؟ فقال: محبوس عندنا يا أمير
المؤمنين، قال: أمل له ثم اعرض له بالدنيا فإن عزف عنها فلعمري إنه
لمريد للآخرة، وإن كان كلامه ليقع موقعاً حسناً، وإن مال إلى الدنيا
ورغب فيها إن لي فيه أدباً يزعه عن الوثوب على الخلفاء وطلب الدنيا
بعمل الآخرة.
فخرج عبد الجبار فدعا بالرجل ودعا بغذائه، فقال له: ما حملك على ما
صنعت؟ قال: حق الله كان في عنقي فأديته إلى خليفته، قال: إذاً، فكل،
قال: لا حاجة لي فيه، قال: وما عليك من أكل الطعام إن كانت نيتك حسنة،
فدنا فأكل، فلما أكل طمع فيه، فتركه أياماً ثم دعاه فقال: لهى عنك أمير
المؤمنين وأنت محبوس، فهل لك في جارية تؤنسك وتسكن إليها؟ قال: ما أكره
ذلك. فأعطاه جارية، ثم أرسل إليه: هذا الطعام قد أكلت، والجارية قد
قبلت، فهل لك في ثياب تكتسيها وتكسو عيالك إن كان لك عيال، ونفقة
تستعين بها على أمرك إلى أن يدعو بك أمير المؤمنين إن أردت الوسيلة
عنده إذا ذكرك، قال: وما هي؟ قال: أوليك الحسبة والمظالم، فتكون أحد
عماله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قال: ما أكره ذلك. فولاه الحسبة
والمظالم، فلما أتى عليه شهر قال عبد الجبار للمنصور: الرجل الذي تكلم
بما تكلم به فأمرت بحبسه قد أكل من طعام أمير المؤمنين ولبس من ثيابه،
وعاش في نعمته، وصار أحد ولاته، فإن أحب أمير المؤمنين أن أدخله عليه
في زي الشيعة فعلت. قال: فأدخله.
فخرج عبد الجبار فقال: قد دعا بك أمير المؤمنين وقد أعلمته أنك أحد
عماله على المظالم والحسبة، فأدخل عليه في الزي الذي يحب فألبسه قباء،
وعلق خنجراً في وسطه وسيفاً بمعاليق، وأسبل جمته، ودخل فقال: السلام
عليك يا أمير المؤمنين، فقال: وعليك، ألست القائم بنا والواعظ لنا
ومذكرنا بأيام الله على رؤوس الملأ؟ قال: نعم، قال: فكيف تخليت عن
مذهبك؟ قال: يا أمير المؤمنين، فكرت في أمري فإذا أنا قد أخطأت فيما
تكلمت به، ورأيت أين مصيب في مشاركة أمير المؤمنين في أمانته، قال:
هيهات أخطأت استك الحفرة هناك يوم أعلنت الكلام وظننا أنك أردت الله
فكففنا عنك، فلما تبين لنا أنك أردت الدنيا جعلناك عظة لغيرك حتى لا
يجترئ بعدك مجترئ على الخلافة، أخرجه يا عبد الجبار فاضرب عنقه، فأخرجه
فقتله.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرني أبو الفضل محمد بن عبد العزيز بن المهدي الخطيب قال: حدَّثنا
الحسن بن محمد بن القاسم المخزومي، قال: حدَّثنا أحمد بن موسى بن
مجاهد، قال: حدَّثنا أبو العيناء، قال: حدَّثنا الأصمعي، قال: صعد أبو
جعفر إلى المنبر فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل
عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فقام إليه رجل فقال:
يا أمير المؤمنين، أذكرك من أنت في ذكره، فقال أبو جعفر: مرحباً
مرحباً، لقد ذكرت جليلاً وخوفت عظيماً، وأعوذ بالله ممن إذا قيل له:
اتق الله، أخذته العزة بالإثم، والموعظة منا بدت، ومن عندنا خرجت، وأنت
يا قائلها فاحلف بالله ما الله أردت بها، إنما أردت أن يقال: قام فقال
فعوقب فصبر، وأهون بها من قائلها، وإياكم معشر الناس وأمثالها. وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله. فعاد إلى خطبته كأنهما يقرأها من قرطاس.
وكان
المنصور يشتغل في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات، وسجن الثغور
والأطراف، والنظر في الخراج والنفقات ومصالح الرعية. فإذا صلى العصر
جلس لأهل بيته، فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور
والأطراف، وشاور سماره، وكانت ولاة البريد يكتبون إليه كل يوم بسعر
القمح، والحبوب والإدام، وكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وما يرد
بيت المال وكل حدث، فإذا صلى المغرب يكتبون إليه بما كان ذلك اليوم،
وإذا نظر في كتبهم، فإن رأى الأسعار على حالها أمسك وإن تغير شيء منها
كتب إلى العامل هناك وسأله عن العلة، فإذا ورد الجواب تلطف حتى يعود
سعر ذلك البلد إلى حاله، وإن شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه في
ذلك وسأل من بحضرته من علمه، فإن أنكر شيئاً كتب إليه يوبخه ويلومه.
فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف إلى سماره، فإذا مضى الثلث
الباقي قام من فراشه، فأسبغ الوضوء ووقف في محرابه حتى يطلع الفجر.
وأول من اتخذ الخيش المنصور، وإنما كانت الأكاسرة تطين لها في الصيف
سقف بيت في كل يوم، فتكون قائلة الملك فيه، وكان يؤتى بأطنان الخلاف
طوالاً غلاظاً فيوضع حوالي السرير، ويؤتى بقطع الثلج والعظام ما بين
أضعافها، وكانت بنو أمية تفعل ذلك، فاتخذ المنصور الخيش.
وشكى إليه رجل من بعض عماله في قصة فوقع عليها: أكفني أمره وإلا كفيته
أمرك.
ووقع إلى عامل آخر: قد كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت.
قال أبو بكر الصولي: أول من وزر لبني العباس أبو سلمة الخلال، ثم خالد
بن برمك، فلما توفي السفاح أقره المنصور مديدة، ثم استوزر أبا أيوب
سليمان بن أبي سليمان المورياني، ثم ولى الفضل بن الربيع بن يونس بعد
أبي أيوب.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا الحسين بن محمد أخو الخلال، قال: أخبرني إبراهيم بن عبد الله
الشطي، قال: حدَّثنا أبو إسحاق الهجيمي، قال: حدَّثنا محمد بن القاسم
أبو العيناء، قال: قال لي إسماعيل بن بريهة عن بعض أهله، عن الربيع
الحاجب، قال: لما مات المنصور قال لي المهدي: يا ربيع، قم بنا حتى ندور
في خزائن أمير المؤمنين، قال: فدرنا فوقعنا على بيت فيه أربعمائة جب
مطينة الرؤوس. قال: قلنا ما هذه ؟ قيل: هذه فيها أكباد مملحة أعدها
المنصور للحصار.
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، عن أحمد بن ثابت بن علي الخطيب عن أبي
القاسم بن علي البصري، عن إبراهيم بن محمد الطبري، قال: أخبرنا إبراهيم
بن علي الهجيمي، قال: حدثنا أبو العيناء، قال: دخل المنصور في باب
الذهب، فإذا ثلاثة قناديل مصطفة، فقال: ما هذا، أما واحد من هذا كان
كافية؟ يقتصر من هذا على واحد. قال: فلما أصبح أشرف على الناس وهم
يتغدون، فرأى الطعام قد خف من بين أيديهم قبل أن يشبعوا، فقال: يا
غلام، علي بالقهرمان، قال: مالي رأيت الطعام قد خف من بين أيديهم قبل
أن يشبعوا قال: يا أمير المؤمنين، رأيتك قد قدرت الزيت فقدرت الطعام،
فقال: ويلك، أنت لا تفرق بين زيت يحترق في غير ذات الله، وبين طعام إذا
فضل وجدت له آكلاً، ابطحوه، فبطحوه فضربه سبع درر.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي، قال: أنبأنا أبو غالب محمد بن أحمد
بن سهل بن بشران، قال: أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن دينار الكاتب،
قال: أخبرنا أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد الأصفهاني، قال: أخبرنا
حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدَّثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني
عبد الله بن الحسن الحراني، قال: حدثني أبو قدامة، قال: حدثني المؤمل
بن أميل، قال:
قدمت على
المهدي وهو بالري وهو إذ ذاك ولي عهد فامتدحته بأبيات فأمر لي بعشرين
ألف درهم، فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره
أن الأمير المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم، فكتب إلى كاتب المهدي أن
يوجه إليه بالشاعر، فطلب فلم يجدوه، فكتب إلى أبي جعفر: إنه قد توجه
إلى مدينة السلام، فأجلس المنصور قائداً من قواده عند جسر النهروان،
وأمر أن يتصفح وجوه الناس رجلاً رجلاً، فجعل لا تمر به قافلة إلا تصفح
من فيها حتى مرت به القافلة التي فيها المؤمل، فتصفحه، فلما سأله: من
أنت؟ قال: أنا المؤمل بن أميل المحاربي الشاعر أحد زوار الأمير المهدي،
قال: إياك طلب. قال المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفاً من أبي جعفر، فقبض
علي وسلمني إلى الربيع، فدخل بي إلى أبي جعفر، وقال: هذا الشاعر الذي
أخذ من الأمير المهدي عشرين ألف درهم قد ظفرنا به، قال: أدخلوه إلي.
فأدخلت فسلمت عليه تسليم مروع، فرد علي السلام، وقال: ليس ها هنا إلا
خير، أنت المؤمل بن أميل؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين أنا المؤمل بن
أميل، قال: أتيت غلاماً غراً فخدعته، قلت: نعم، أصلح الله أمير
المؤمنين، أتيت غلاماً غراً كريماً فخدعته فانخدع، قال: فكان ذلك
أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته ما قلت، وهي:
هو المهدي إلا أن فيه ... مشابه صورة القمر المنير
تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا يشعلان على البصير
فهذا في الظلام سراج ليل ... وهذا في النهار ضياء نور
ولكن فضل الرحمن هذا ... على ذا المنابر والسرير
وبالملك العزيز فذا أمير ... وماذا بالأمير ولا الوزير
ونقص الشهر ينقص ذا وهذا ... منير عند نقصان الشهور
فيا ابن خليفة الله المصفى ... به تعلو مفاخرة الفخور
لئن فت الملوك وقد توافوا ... إليك من السهولة والوعور
لقد سبق الملوك أبوك حتى ... بقوا من بين كاب أو حسير
وجئت مصلياً تجزي حثيثاً ... وما بك حين تجزي من فتور
فقال الناس ما هذان إلا ... كما بين الفتيل إلى النصير
فإن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى الكبير ... فقد خلق الصغير من الكبير
فقال هل المنصور: قد والله أحسنت ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم،
فأين المال؟ قال: ها هو ذا، قال: يا ربيع امض معه فأعطه أربعة آلاف
درهم وخذ منه الباقي، ففعل الربيع ما أمره به المنصور.
ثم أن المهدي ولي الخلافة بعد ذلك فولى ابن ثوبان المظالم، فكان يجلس
للناس بالرصافة، فإذا ملأ كساءه رقاعاً رفعها إلى المهدي فرفعت إليه لي
قصة، فلما دخل بها ابن ثوبان جعل المهدي ينظر في الرقاع حتى وصل إلى
رقعتي، فلما قرأها ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين،
ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة، فقال: نعم، هذه
رقعة أعرف قصتها، ردوا إليه عشرين ألف درهم، فردها إلي وانصرفت.
وقد رويت لنا هذه القصة من طريق آخر ومنها: وكتبت قصة أشرح فيها ما جرى
علي، فرفعها ابن ثوبان إلى المهدي، فلما قرأها ضحك حتى استلقى، ثم قال:
هذه مظلمة أنا بها عارف، ردوا عليه ماله الأول، وضموا إليه عشرين
ألفاً.
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا أحمد بن عمر
بن روح، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: حدَّثنا ابن دريد، قال:
حدَّثنا الحسن بن خضر، عن أبيه، قال: دخل رجل على المنصور، فقال:
أقول له حين واجهته ... عليك السلام أبا جعفر
فقال المنصور: وعليك السلام، فقال:
فأنت المهذب من هاشم ... وفي الفرع منها الذي يذكر
فقال له المنصور: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
فهذه ثيابي قد أخلقت ... وقد عضني زمن منكر.
فألقى إليه المنصور ثيابه وقال: هذه بدلها.
وذكر
الصولي عن الهيثم بن عدي، قال: كان المنصور يبخل إلا في الطيب، فإنه
كان يأمر أهله به، فكان يشتري في رأس كل سنة اثني عشر ألف مثقال من
سائره، فيتطيب كل شهر بألف مثقال يخضب به رأسه ولحيته.
وقال يحيى بن سليم كاتب الفضل بن الربيع: ولم ير في دار المنصور لهو قط
ولا شيء يشبه اللعب والعبث.
وقال حماد التركي، كنت واقفاً على رأس المنصور فسمع جلبة في الدار،
فقال: ما هذا يا حماد انظر؟ فذهبت فإذا خادم له قد حبس حوله الجواري
وهو يضرب لهن الطنبور وهن يضحكن، فجئت فأخبرته، فقال: وأي شيء الطنبور؟
فقلت خشبة من حالها وصفتها، فقال: فما يدريك أنت ما الطنبور، قلت:
رأيته بخراسان، فقال: هات نعلي، فأتيته بها، فقام يمشي رويداً حتى أشرف
عليهم، فلما بصروا به تفرقوا، فقال: خذه، فأخذته، فقال: اضرب به رأسه،
فلم أزل أضرب به رأسه حتى كسرته، ثم قال: أخرجه من قصري واذهب به إلى
حمران بالكرخ، وقل له يبيعه.
وقال سالم الأبرش: كان المنصور من أحسن الناس، فإذا لبس ثيابه تغير
لونه، وتربد وجهه فاحمرت عيناه ويكون منه ما يكون، فإذا قام من مجلسه
رجع بمثل ذلك: وقال يوماً: يا بني إذا رأيتموني قد لبست ثيابي ورجعت من
مجلسي فلا يدنون أحد منكم مني لئلا أغره بشر.
ذكر طرف من كلامه أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا محمد بن
الحسين الجازري، قال: حدَّثنا المعافى بن زكريا، قال: حدَّثنا محمد بن
أبي الأزهر، قال: حدَّثنا الزبير بن بكار، قال: حدَّثنا مبارك الطبري،
قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول: الخليفة لا يصلحه
إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا
العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلاً من
ظلم من هو دونه.
أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو
الطيب الطبري، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا، قال: أخبرنا إبراهيم بن
محمد بن عرفة، قال: أخبرنا أبو العباس المنصوري عن القثمي، عن مبارك
الطبري قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: يا
أبا عبد الله لا تجلس مجلساً إلا ومعك فيه رجل من أهل العلم يحدثك، فإن
محمد بن مسلم بن شهاب قال: إن الحديث ذكر لا يحبه إلا الذكور من
الرجال، ويكرهه مؤنثوهم، وصدق أخو بني زهرة.
وكان المنصور يقول: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون على
بابي أعف منهم، قيل: يا أمير المؤمنين، من هم؟ قال: هم أركان الملك ولا
يصلح الملك إلا بهم، كما أن السرير لا يصلح إلا بأربعة قوائم، إن نقصت
قائمة واحدة فقد وهي، أما أحدهم فقاضٍ لا يأخذه في الله لومة لائم،
والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث: صاحب خراج يستقضي ولا
يظلم الرعية فإني غني عن ظلمهم. ثم عض أصبعه السبابة ثلاث مرات يقول في
كل مرة: آه آه على الرابع فقيل له: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب
بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة.
وكتب أبو جعفر إلى عامله بالمدينة: أن بع الثمار التي في الضياع، ولا
تبعها إلا ممن نغلبه ولا يغلبنا، والذي يغلبنا المفلس الذي لا مال له
ولا رأي لنا في عذابه ويذهب مالنا قبله، وبعها بدون من ذلك ممن ينصفك
ويوفيك.
قال المنصور: كانت العرب تقول: العري الفادح خير من الزي الفاضح.
وقال أيضاً: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثاً: إفشاء السر، والتعرض
للحرمة، والقدح في الملك.
وقال: سرك من دمك فانظر من تملكه.
وقال: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافى، ومن أضعف فقد شكر، ومن علم أنه
إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولا تلتمس من غيرك شكر ما
أتيته إلى نفسك، ووقيت به عرضك، واعم أن طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه
عن قصدك فأكرم وجهك عن رده.
أنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن صرما، قال: أنبأنا أبو الحسين بن
المهتدي، قال: حدَّثنا أبو حاتم محمد بن عبد الواحد بن محمد بن زكريا
الخزاعي، قال: حدَّثنا أبو بكر أحمد بن محمد العنبري، قال: سمعت الفضل
بن الحارث، يقول: سمعت محمد بن سلام الجمحي يقول:
قيل
للمنصور: هل بقي من ذات الدنيا شيء لم تنله؟ قال: بقيت خصلة، أن أقعد
في مصطبة وحولي أصحاب الحديث، فيقول المستملي: من ذكرت رحمك الله؟ قال:
فغدى عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر، فقال: لستم هم،
إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، برد الآفاق
ونقلة الحديث.
وفي هذه السنة: حج بالناس أبو جعفر، وكان على الكوفة عيسى بن موسى،
وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرة وعملها سليمان بن علي، وعلى
قضائها عباد بن منصور، وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد، وعلى مصر
صالح بن علي.
ورخصت الأسعار.
فأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا جعفر الخلدي، قال: أخبرنا
الفضل بن مخلد، قال: سمعت داود بن صغير يقول: رأيت زمن أبي جعفر كبشاً
بدرهم، وحملاً بأربع دوانيق، والتمر ستين رطلاً بدرهم، والزيت ستة عشر
رطلاً بدرهم، والسمن ثمان أرطال بدرهم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
ربيعة بن أبي عبد الرحمن واسمه فورخ مولى آل المنكدر التيمي، تيم قريش،
الذي يقال له: ربيعة الرأي، ويكنى ربيعة أبا عثمان، ويقال: أبا عبد
الرحمن، مديني: سمع من أنس بن مالك، والسائب بن يزيد، وعامة التابعين
من أهل المدينة. روى عنه مالك، وسفيان الثوري، وشعبة، والليث بن سعد،
وغيرهم.
وكان عالماً فقيهاً ثقة، وأقدمه السفاح الأنبار ليوليه القضاء.
وقال يونس بن يزيد: رأيت أبا حنيف، عند ربيعة ومجهود أبي حنيفة أن يفهم
ما يقول.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا أبو القاسم الأزهري، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان،
قال: أخبرنا أحمد بن مروان المالكي، قال: حدَّثنا يحيى بن أبي طالب،
قال: حدَّثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، قال: حدثني مشيخة أهل
المدينة: أن فروخاً أبا عبد الرحمن خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني
أمية غازياً، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين
ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة، وهو راكب فرساً، وفي يده
رمح، فنزل عن فرسه ثم دفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، فقال له: يا عدو
الله، أتهجم على منزلي؟ فقال: لا، وقال: فروخ: يا عدو الله، أنت دخلت
على حرمتي، فتواثبا وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران،
فبلغ مالك بن أنس والمشيخة، فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول:
والله لا فارقتك إلا عند السلطان، وجعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا
بالسلطان وأنت مع امرأتي، وكثر الضجيج، فلما بصروا بمالك سكت الناس
كلهم، فقال: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري،
وأنا فورخ مولى بني فلان، فسمعت امرأته كلامه فخرجت، فقالت: هذا زوجي،
وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به، فاعتنقا جميعاً وبكيا، فدخل فروخ
المنزل وقال: هذا ابن؟ قال: نعم، قال: فأخرجي المال الذي لي عندك، وهذه
معي أربعة آلاف دينار، فقالت: المال قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام.
ثم خرج ربيعة إلى المسجد وجلس في حلقته، وأتاه مالك بن أنس، والحسن بن
زيد، وابن أبي علي اللهبي، والمساحقي، وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس
به، فقالت امرأته: اخرج فصل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فخرج
فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها فوقف بها وفرجوا له قليلاً ونكس ربيعة
رأسه وأوهمه أنه لم يره، وعليه طرحة طويلة، فشك فيه أبو عبد الرحمن،
فقال: من هذا الرجل؟ فقالوا له: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال أبو
عبد الرحمن: لقد رفع الله ابني، ثم رجع إلى منزله، فقال لوالدته: لقد
رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها، فقالت
أمه: فأيما أحب إليك؟ ثلاثون ألف دينار، أو هذا الجاه الذي هو فيه؟
فقال: لا والله إلا هذا، قال: فإني أنفقت المال كله عليه، قال: فوالله
ما ضيعتيه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الحافظ،
قال: أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي، قال: أخبرنا محمد بن جعفر
التميمي، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد أبو سعيد النيسابوري، قال: حدَّثنا
الحسن بن صاحب بن حميد، قال: سمعت أبا سلمة الصنعاني الفقيه، يقول:
سمعت بكر بن عبد الله بن الشرود الصنعاني، يقول:
أتينا
مالك بن أني، فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي، فكنا نستزيده من حديث ربيعة،
فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة؟ هو نائم في ذاك الطاق، فأتينا
ربيعة فأنبهناه، فقلنا له: أنت ربيعة بن أبي عبد الرحمن؟ قال: نعم،
قلنا: ربيعة بن فروخ؟ قال: بلى، قلنا: ربيعة الرأي؟ قال: نعم، قلنا:
الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: نعم، قلنا: كيف حظي بك مالك ولم تحظ
أنت بنفسك؟ قال: أما علمتم أن مثقالاً من دولة خير من حمل علم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا ابن
الفضل، قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدَّثنا يعقوب بن سفيان،
قال: حدثني محمد بن أبي بكر، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال مالك: لما
قدم ربيعة بن أبي عبد الرحمن على أمير المؤمنين أبي العباس أمر له
بجائزة فأبى أن يقبلها، فأعطاه خمسة آلاف درهم ليشتري بها جارية، فأبى
أن يقبلها.
قال ابن وهب: وحدثني مالك، عن ربيعة، قال: قال لي حين أراد الخروج إلى
العراق: إن سمعت أني حدثتهم شيئاً أو أفتيتهم فلا تعدني شيئاً، قال:
فكان كما قال، لما قدمها لزم بيته فلم يخرج إليهم ولم يحدثهم بشيء حتى
رجع.
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا
الأزهري، والجوهري، قالا: حدَّثنا محمد بن العباس، قال: حدَّثنا سليمان
بن إسحاق الجلاب، قال: حدَّثنا الحارث بن محمد بن مطرف، قال: أخبرنا
مطرف بن عبد الله، قال: سمعت مالك بن أنس يقول: ذهبت حلاوة الفقه منذ
مات ربيعة الرأي.
توفي ربيعة بالمدينة، وقيل : بالأنبار في هذه السنة.
عبد الله السفاح، أبو العباس: كانت وفاته بالجدري.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد
بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق، قال:
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن المكتفي، قال: حدَّثنا جحظة، قال:
قال جعفر بن يحيى: نظر أمير المؤمنين السفاح في المرآة وكان من أجمل
الناس وجهاً، فقال: اللهم إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك:
أنا الملك الشاب، ولكني أقول: اللهم عمرني طويلاً في طاعتك ممتعاً
بالعافية. فما استتم كلامه حتى سمع غلاماً يقول لغلام آخر: الأجل بيني
وبينك شهران وخمسة أيام، فتطير من كلامه، وقال: حسبي الله، لا قوة إلا
بالله، عليه توكلت، وبه أستعين فما مضت إلا أيام حتى أخذته الحمى، فجعل
يوم يتصل إلى يوم حتى مات بعد شهرين وخمسة أيام.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرني الحسن بن محمد
الخلال، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن عمران، قال: حدثنا محمد بن سهل
بن الفضل الكاتب، قال حدَّثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: ذكر محمد بن
عبد الله بن مالك الخزاعي: إن الرشيد قال لابنه: كان عيسى بن علي
راهبنا وعالمنا أهل البيت، ولم يزل في خدمة أبي محمد بن علي بن عبد
الله إلى أن توفي، ثم خدم أبا عبد الله إلى حين وفاته، ثم إبراهيم
الإمام، وأبا العباس ، والمنصور، فحفظ جميع أخبارهم وسيرهم وأمورهم.
وكان قرة عينه في الدنيا ابنه إسحاق، فليس فينا أهل البيت أعلم بأمرنا
من إسحاق، فاستكثر منه، واحفظ جميع ما يحدثك به، فإنه ليس دون أبيه في
الفضل وإيثار الصدق.
قال: فأعلمته أني قد سمعت منه شيئاً كثيراً، فقال لي: هل سمعت خبر وفاة
أبي العباس السفاح؟ فقلت: نعم، فقال: قد سمعت هذا الحديث من أبي العباس
بن عيسى بن علي، فحدثني ما حدثك به إسحاق لأنظر أين هو مما حدثني به
أبوه. فقال: حدثني إسحاق بن عيسى، عن أبيه:
أنه دخل
في أول النهار يوم عرفة على أبي العباس وهو في مدينته بالأنبار قال
إسحاق: قال أبي: وكنت قد تخلفت عنه أياماً لم أركب إليه فيها، فعاتبني
على تخلفي عنه، فأعلمته أني كنت أصوم منذ أول يوم من أيام العشر، فقبل
عذري وقال لي: أنا في يومي هذا صائم فأقم عندي لتقضين فيه بمحادثتك
إياي ما فاتني من محادثتك في الأيام التي تخلفت عني فيها، ثم نختم ذلك
بإفطارك عندي، فأقمت إلى أن تبينت النعاس في عينه قد غلب عليه، فنهضت
عنه استمر به النوم فملت بين القائلة في داره، وبين القائلة في داري،
فمالت نفسي إلى الانصراف إلى منزلي وقلت إلى وقت الزوال ثم ركبت إلى
داره، فوافيت إلى باب الرحبة الخارج، فإذا برجل دحداح حسن الوجه مؤتزر
بإزار، مترد بآخر. فسلم علي وقال: هنأ الله الأمير هذه النعمة وكل
نعمة، البشرى، أنا وافد أهل السند، أتيت أمير المؤمنين بسمعهم وطاعتهم
وبيعتهم، فما تمالكت سروراً أن حمد الله على توفيقه إياي للانصراف في
أن أبشره بهذه البشرى. فما توسطت الرحبة حتى وافى رجل في مثل لونه
وهيئته وقريب الصورة من صورته، فسلم علي وهنأني بمثل ما هنأني به ذلك،
وذكر أنه وافد أهل إفريقية أتى أمير المؤمنين بسمعهم وطاعتهم، فتضاعف
سروري، أكثرت من حمد الله على ما وفقني له من الانصراف، ثم دخلت الدار
فسألت عن أمير المؤمنين، فأخبرت أنه في موضع يتهيأ فيه للصلاة، فدخلت
إليه وهو يسرح لحيته، فابتدأت بتهنئته وأعلمته أني رأيت ببابه رجلين
أحدهما وافد أهل السند، فوقع عليه زمع، وقال: الآخر وافد أهل إفريقية
بسمعهم وطاعتهم، فقلت نعم، فسقط المشط من يده ثم قال: سبحان الله كل
شيء بائد سواه، نعيت والله نفسي، حدثني إبراهيم الإمام، عن أبي هاشم
عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن علي بن أبي طالب، عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أنه يقدم علي في يوم واحد وافدان: أحدهما
وافد السند، والآخر وافد إفريقية بسمعهم وطاعتهم وبيعتهم، فلا يمضي بعد
ذلك ثلاثة أيام حتى أموت. وقد أتاني الوافدان، فأعظم الله أجرك يا عم
في ابن أخيك، فقلت: كلا يا أمير المؤمنين إن شاء الله، فقال: بلى أنا
إن شاء الله لئن كانت الدنيا حبيبة إلي، فصحة الرواية عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أحب إلي منها، والله ما كذبت ولا كذبت. ثم نهض وقال لي:
لا تبرح من مكانك حتى أخرج إليك، فما غاب كثيراً حتى أذنت المؤذنون
بصلاة الظهر، فخرج إلي خادم له، فأمرني بالخروج إلى المسجد والصلاة
بالناس، ففعلت ذلك، ورجعت إلى موضعي حتى أذنت المؤذنون بصلاة المغرب،
فخرج إلي الخادم فأمرني بمثل ذلك. ففعلت وعدت إلى مكاني، ثم أذنت
المؤذنون بصلاة العشاء، فخرج إلي الخادم بمثل ما كان يأمرني به، ففعلت
ولم أزل مقيماً في مكاني إلى أن مر الليل، فتنفلت حتى فرغت من صلاة
الليل والوتر إلا بقية بقيت من القنوت، فخرج عن ذلك ومعه كتاب، فدفعه
إلي حين سلمت، فإذا هو معنون مختوم من عبد الله أمير المؤمنين إلى
الرسول والأولياء وجميع المسلمين وقال: يا عم، اركب في غد، فصل بالناس
في المصلى، وانحر واخبر بعلة أمير المؤمنين، وأكثر لزومك داري، فإذا
قضيبت نحبي فاكتم وفاتي حتى تقرأ هذا الكتاب على الناس، وتأخذ عليهم
البيعة للمسمى في هذا الكتاب، وإذا أخذتها واستحلفت الناس عليها
بمؤكدات الإيمان فانع إليهم أمير المؤمنين وجهزه، وتول الصلاة عليه
وانصرف في حفظ الله وتأهب لركوبك، فقلت: يا أمير المؤمنين، هل وجدت
علة، فقال: يا عم، وأي علة هي أقوى وأصدق من الخبر الصادق عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأخذت الكتاب ونهضت، فما مشيت إلا خطاً حتى هتف بي
هاتف يأمرني بالرجوع، فرجعت، فقال لي: إن الله قد ألبسك كمالاً وأكره
أن يحطك الناس فيه، وكتابي الذي في يدك مختوم، وسيقول لك من يحسدك على
ما جرى على يديك من هذا الأمر الجليل إنك إنما وفيت للمسمى في هذا
الكتاب، لأن الكتاب كان مختوماً وقد رأى أمير المؤمنين أن يدفع إليك
خاتمه ليقطع بذلك ألسنة الحسدة عنك، فخذ الخاتم، فوالله ما كذبت ولا
كذبت، فانصرفت وتأهبت للركوب، وركبت وركب معي الناس حتى صليت بأهل
العسكر ونحرت وانصرفت إليه فسألته عن خبره فقال: خبر من يموت لا محالة،
فقلت: يا أمير المؤمنين، وجدت شيئاً؟ فأنكر علي قولي وكشر في وجهي
وقال: يا سبحان الله، أقول لك إن
رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال إنه يموت، وتسألني عما أجد، لا تعد لمثل هذا ثم
دخلت عليه عشية يوم العيد، وكان أحسن من عاينته عيناي وجهاً، فرأيته
وقد حدثت في وجهه وردية لم أكن أعهدها فزادت وجهه جمالاً، ثم بصرت
بإحدى وجنتيه حبة مثل حبة الخردل، بيضاء، فارتبت بها، ثم صوبت نظري إلى
الوجنة الأخرى فوجدت فيها حبة أخرى، ثم أعد نظري إلى الوجنة التي
عاينتها بدئاً فرأيت الحبة قد صارت اثنتين، ثم لم أزل أرى الحب يزداد
حتى رأيت في كل جانب من وجنتيه مثل الدينار مقداراً حباً أبيض صغاراً،
فانصرفت وهو على هذه الحالة، وغسلت غداة اليوم الثاني من يوم التشريق،
فوجدته قد هجر وذهبت عنه معرفتي ومعرفة غيري، فخرجت إليه بالعشي فوجدته
قد صار مثل الزق المنفوخ، وتوفي وفي اليوم الثالث من أيام التشريق،
فسجيته كما أمرني وحرجت إلى الناس وقرأت عليهم الكتاب، وكان فيه: من
عبد الله أمير المؤمنين إلى الرسول والأولياء وجميع المسلمين. أما بعد،
فإن أمير المؤمنين قد قلد الخلافة بعده عليكم أخاه، فاسمعوا له
وأطيعوا، وقد قلد الخلافة ن بعد عبد الله عيسى بن موسى إن كان. ثم أخذت
البيعة على الناس وجهزته وصليت عليه ودفنته في اليوم الثالث عشر من ذي
الحجة سنة ست وثلاثين ومائة.رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنه
يموت، وتسألني عما أجد، لا تعد لمثل هذا ثم دخلت عليه عشية يوم العيد،
وكان أحسن من عاينته عيناي وجهاً، فرأيته وقد حدثت في وجهه وردية لم
أكن أعهدها فزادت وجهه جمالاً، ثم بصرت بإحدى وجنتيه حبة مثل حبة
الخردل، بيضاء، فارتبت بها، ثم صوبت نظري إلى الوجنة الأخرى فوجدت فيها
حبة أخرى، ثم أعد نظري إلى الوجنة التي عاينتها بدئاً فرأيت الحبة قد
صارت اثنتين، ثم لم أزل أرى الحب يزداد حتى رأيت في كل جانب من وجنتيه
مثل الدينار مقداراً حباً أبيض صغاراً، فانصرفت وهو على هذه الحالة،
وغسلت غداة اليوم الثاني من يوم التشريق، فوجدته قد هجر وذهبت عنه
معرفتي ومعرفة غيري، فخرجت إليه بالعشي فوجدته قد صار مثل الزق
المنفوخ، وتوفي وفي اليوم الثالث من أيام التشريق، فسجيته كما أمرني
وحرجت إلى الناس وقرأت عليهم الكتاب، وكان فيه: من عبد الله أمير
المؤمنين إلى الرسول والأولياء وجميع المسلمين. أما بعد، فإن أمير
المؤمنين قد قلد الخلافة بعده عليكم أخاه، فاسمعوا له وأطيعوا، وقد قلد
الخلافة ن بعد عبد الله عيسى بن موسى إن كان. ثم أخذت البيعة على الناس
وجهزته وصليت عليه ودفنته في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة سنة ست
وثلاثين ومائة.
فقال الرشيد: هكذا حدثني أبو العباس ما غادر إسحاق من حديث أبيه حرفاً
واحداً، فاستكثروا من الاستماع منه، فنعم حامل العلم هو.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: واختلفوا في مقدار عمره على أربعة أقوال،
أحدها: ثلاثون سن، والثاني: إحدى وثلاثون، والثالث: ثمان وثلاثون،
والرابع: ثمان وعشرون.
فأما الصلاة، فإنه صلى عليه عيسى بن علي، دفن بالأنبار العتيقة في
قصره، وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر ويومين، وقيل: وتسعة أشهر،
منها ثمانية أشهر مشتغلاً بقتال مروان بن محمد، وخلف تسع جباب وأربعة
أقمصة، وخمس سراويل، وأربع طيالسة، وثلاثة مطارق خز.
عبيد الله بن أبي جعفر ، مولى بني كنانة: ولد سنة ستين، ورأى عبد الله
بن الحارث بن جزء، وكان عالماً زاهداً. روى عن محمد بن إسحاق وغيره من
أهل المدينة، وكان سليمان بن داود يقول: ما رأيت عيناي عالماً زاهداً
إلا عبيد الله بن أبي جعفر.
أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ، عن أبي القاسم، وأبي عمرو ابني عبد الله
بن مندة، عن أبيهما، قال: حدَّثنا أبو سعيد بن يونس الحافظ، قال: حدثني
أبي، عن جدي ، قال: حدثني ابن وهب، قال: حدثني أبو شريح عبد الرحمن بن
شريح، عن عبيد الله بن أبي جعفر، قال: غزونا إلى قسطنطينية فانكسر
مركبنا، فألقانا الموج على حشفة في البحر، وكنا خمسة أو ستة، فأنبت
الله بعددنا ورقاً، لكل رجل منا ورقة، فكنا نمصها فتشبعنا وتروينا،
فإذا أمسينا أنبت الله لنا مكانها أخرى حتى مر بنا مركب، فحملنا.
توفي عبيد الله بمصر في هذه السنة. ويقال: في سن اثنتين وثلاثين، وصلى
عليه أبو عون عبد الملك بن يزيد أمير مصر.
عبد الكريم بن الحارث بن يزيد، أبو الحارث الحضرمي:
روى عنه حية بن شريح، وابن لهيعة وغيرهما. وكان من العباد المجتهدين،
فلو قيل إن الساعة تقوم غداً ما كان فيه فضل لمزيد، وقيل له: ما أحسن
عزاءك عند المصائب، فقال: إني أوطن نفسي عليها قبل نزولها.
مليكة بنت المنكدر: كانت عابدة مجتهدة وكلمت في الرفق بنفسها، فقالت:
دعوني أبادر طي صحيفتي.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الصوفي، قال : أخبرنا ابن أبي صادق
الحيري، قال: حدَّثنا ابن باكويه الشيرازي، قال: حدثني عيسى بن عمر بن
عبد المؤمن، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد القرشي، قال: حدَّثنا إبراهيم
بن عيسى، قال: حدثني موسى بن عبد الملك، أبو عبد الرحمن المروزي، قال:
قال مالك بن دينار: بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بامرأة جهيرة في
الحجر وهي تقول: أتيتك من شقة بعيدة مؤملة بمعروفك، فأنلني معروفك
تعينني به عن معروف من سواك يا معروفاً بالمعروف. فعرفت أيوب السختياني
وسألنا عن منزلها وقصدناها وسلمنا عليها، فقال لها أيوب السختياني:
قولي خيراً يرحمك الله، قال: وما أقول؟ أشكو إلى الله قلبي وهواي فقد
أضراني وشغلاني عن عبادة ربي عز وجل، قوما فإني أبادر طي صحيفتي.
قال أيوب الخستياني: فما حدثت نفسي بامرأة قبلها، فقلت لها: لو تزوجت
رجلاً كان يعينك على ما أنت عليه، قالت: لو كان مالك بن دينار أو أيوب
السختياني ما أردته، فقلت: أنا مالك بن دينار وهذا أيوب السختياني،
فقالت: أف لقد ظننت أنه يشغلكما ذكر الله سبحانه وتعالى عن محادثة
النساء، وأقبلت على صلاتها، فسألت عنها، فقالوا: هذه مليكة بنت
المنكدر.
توفيت مليكة رضي الله عنها في هذه السنة، وهي سنة ست وثلاثين ومائة،
ودفنت بالمدينة، وقيل بمكة، والله عز وجل أعلم. |