المنتظم
الجزء الثامن
بسم الله الرحمن الرحيم
وهو حسبي
ثم دخلت
سنة سبع وثلاثين ومائة
فمن الحوادث فيها:
قدوم
المنصور من مكة، ونزوله الحيرة، فوجد عيسى بن موسى قد شخص إلى الأنبار،
واستخلف على الكوفة طلحة بن إسحاق بن محمد بن الأشعث،فدخل أبو جعفر
الكوفة، فصلى الجمعة بأهلها، وخطبهم وأعلمهم أنه راحل عنهم، ثم وافاه
أبو مسلم بالحيرة، ثم شخص أبو جعفر إلى الأنبار، فأقام بها، وجمع إليه
أطرافه، وقد كان عيسى بن موسى قد أحرز بيوت الأموال والخزائن والدواوين
حتى قدم عليه أبو جعفر، فبايع الناس له بالخلافة ثم لعيسى بن موسى من
بعده، وسلم الأمر إلى أبي جعفر، وبعث يزيد بن زياد وهو حاجب أبي العباس
إلى عبد الله بن علي ببيعة أبي جعفر، وذلك بأمر أبي العباس قبل أن يموت
حين أمر الناس بالبيعة، فلما قدم عليه دعا الناس إلى نفسه وقال: إن أبا
العباس حين أراد أن يوجه الجنود إلى مروان بن محمد دعا بني أمية
فأرادهم على المسير إلى مروان وقال: من انتدب منكم فسار إليه فهو ولي
عهدي، فلم ينتدب له غيري، فعلى هذا خرجت من عنده، وقبلت من قبلت، فقام
أبو غانم الطائي، وخفاف المروزي في عدة من قواد أهل خراسان، فشهدوا له
بذلك، فبايعه أبو غانم، وخفاف، وأبو الإصبع، وجميع من كان معه من أولئك
القواد منهم حميد بن قحطبة وغيره، فلما فرغ من البيعة ارتحل فنزل حران
وبها مقاتل العكي، وكان أبو جعفر استخلفه لما قدم على أبي العباس،
فأراد مقاتلاً على البيعة فلم يجبه وتحصن منه، فأقام عليه وحصره، وسرح
أبو جعفر لقتال عبد الله بن علي أبا مسلم، فسار إليه وقد جمع الجنود
والسلاح وخندق، وجمع الطعام والأعلاف، فسار أبو مسلم ومعه القواد كلهم،
وبعث مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي، وكان معه الحسن وحميد ابنا قحطبة،
وكان حميد قد فارق عبد الله بن علي، وكان عبد الله أراد قتله، فإنه كتب
إلى زفر بن عاصم إلى حلب: إذا قدم عليك فاقتله. ففتح حميد الكتاب وعلم
ما فيه، فلم يذهب.ولما بلغ عبد الله مسير أبي مسلم إليه أعطى العكي
أماناً، فخرج إليه فيمن كان معه، ثم وجهه إلى عثمان بن عبد الأعلى إلى
الرقة ومعه ابناه، وكتب إليه كتاباً، فلما قدموا على عثمان قتل العكي
وحبس ابنيه، فلما بلغته هزيمة عبد الله بن علي أخرجهما فقتلهما وكان
عبد الله بن علي قد خشي أن لا تناصحه أهل خراسان فقتل منهم نحواً من
سبعة عشر ألفاً، ثم اقتتلوا خمسة أشهر أو ستة، وعمل لأبي مسلم عريشاً،
فكان يجلس عليه إذا التقى الناس فينظر إلى القتال، فإن رأى خللاً في
أصحابه أصلحه، ثم إن أصحاب عبد الله بن علي انهزموا وتركوا عسكرهم،
فاحتواه أبو مسلم، وكتب بذلك إلى أبي جعفر، ومضى عبد الله وعبد الصمد
بن علي، وكانا مع عبد الله. فأما عبد الصمد فقدم الكوفة، فاستأمن له
عيسى بن موسى، فأمنه أبو جعفر. و أما عبد الله بن علي فأتى سليمان بن
علي بالبصرة، فأقام عنده، وأمن أبو مسلم الناس، فلم يقتل أحداً.
وفي هذه السنة قتل أبو مسلم
وكان سبب
ذلك أن أبا مسلم كان قد كتب إلى أبي العباس يستأذنه في الحج في سنة ست
وثلاثين، وإنما أراد أن يصلي بالناس فأذن له، وكتب أبو العباس إلى أبي
جعفر وهو على الجزيرة: أن أبا مسلم سألني الحج فاكتب إلي تستأذني في
ذلك، فإنك إذا كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك، فكتب إليه، فأذن له. فقال
أبو مسلم : أما وجد أبو جعفر عاماً يحج فيه غير هذا!! واضطغنها عليه،
فخرجا فكان أبو مسلم يصلح العقاب، ويكسو الأعراب في كل منزل، ويصل كل
من سأله، وحفر الآبار، وسهل الطريق، وكان الصيت له.فلما صدر الناس عن
الموسم نفر أبو مسلم قبل أبي جعفر فتقدمه، فأتاه كتاب بوفاة أبي العباس
واستخلاف أبي جعفر، فكتب إلى أبي جعفر يعزيه ولم يهنئه بالخلافة، ولم
يقم له حتى يلحقه، فغضب أبو جعفر فقال لأبي أيوب: اكتب إليه كتاباً
غليظاً. فلما أتاه كتاب أبي جعفر كتب إليه يهنئه بالخلافة. فقال يزيد
بن أبي أسيد السلمي لأبي جعفر: إني أكره أن تجامعه في الطريق والناس له
أطوع، وليس معك أحد فأخذ برأيه، فكان يتأخر ويتقدم أبو مسلم، وما كان
في عسكر أبي جعفر غير ستة أدرع، فمضى أبو مسلم إلى الأنبار، ودعا عيسى
بن موسى أن يبايع له، فأبى عيسى، فقدم أبو جعفر فنزل الكوفة، فأتاه
خروج عبد الله بن علي إلى الأنبار، وعقده لأبي مسلم وقال: سر إليه.
فقال أبو مسلم: إن عبد الجبار بن عبد الرحمن، وصالح بن الهيثم يعيبانني
فاحبسهما. فقال أبو جعفر: إن عبد الجبار على شرطي. وكان على شرط أبي
العباس وصالح بن الهيثم أخو أمير المؤمنين من الرضاعة، فلم أكن
لأحبسهما لظنك بهما. فقال: أراهما آثر عندك مني. فغضب أبو جعفر. فقال
أبو مسلم: لم أرد كل هذا. وقال رجل لأبي أيوب: إني قد ارتبت بأبي
مسلم،يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرأه، ثم يلوي شدقه،ويرمي
بالكتاب إلى أبي نصر مالك بن الهيثم فيقرأه ويضحك استهزاءً! ؟ فقال أبو
أيوب: نحن لأبي مسلم أشد تهمة منا لعبد الله بن علي، إلا أنا نعلم أن
أهل خراسان لا يحبون عبد الله بن علي، وقد قتل منهم من قتل.وكان أبو
مسلم قد أصاب من عسكر عبد الله بن علي، متاعاً كثيراً وجوهراً كثيراً،
فبعث أو جعفر مولاه أبا الخصيب ليحصي ذلك، فغضب وافترى عليه، وهم
بقتله، فقيل له: إنما هو رسول. فلما قدم به أبو الخصيب على أبي جعفر
أخبره. وقيل: إنما بعث إليه يقطين بن موسى بذلك، فقال أبو مسلم: يا
يقطين، أمين على الدماء جائر في الأموال. وشتم أبا جعفر، فأبلغه يقطين،
فكتب إلى أبي مسلم مع يقطين: إني قد وليتك مصر والشام، وهي خير من
خراسان، فوجه إلى مصر من أحببت، وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين؛
فإن أحب لقاءك أتيته من قرب. فلما أتاه الكتاب غضب وقال: هو يوليني
الشام ومصر، وخراسان لي! وعزم على المضي إلى خراسان مجمعاً على ذلك،
فكتب بذلك يقطين إلى أبي جعفر. وخرج أبو جعفر من الأنبار إلى المدائن،
وكتب إلى أبي مسلم في المصير إليه،فكتب أبو مسلم، وقد نزل الزاب وهو
على الرواح إلى طريق حلوان: قد كنا نروي عن ملك آل ساسان أن أخوف ما
يكون من الوزراء إذا سكنت الدهماء؛ فنحن نافرون من قربك، حريصون على
الوفاء بعهدك، حريون بالسمع و الطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها
السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبد لك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك
إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك، ضناً بنفسي.فلما وصل الكتاب إلى
المنصور كتب إلى أبي مسلم: قد فهمتك كتابك وليست صفتك صفة أولئك
الوزراء الغششة ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم،
وإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم، وأنت في
طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أبعاد هذا الأمر على ما أنت به!
وقد حمل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت
إليها، وأسأل الله أن يحول بين السلطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد
باباً يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من طبه من الباب فتحه عليك.ثم إن
أبا جعفر وجه إلى أبي مسلم جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي،
وكان واحد أهل زمانه، فخدعه ورده. قال جرير: نزلت معه جسر النهروان
فتغدينا، فقال: أين أمير المؤمنين؟ قلت: بالمدائن. قال: في أي المواضع؟
قلت: في صحراء. قال: فما اسم الموضع؟ قلت: رومية. فأطرق طويلاً ثم قال:
سر ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال
جرير: وقد
كان قيل له إنك تقتل أو تموت برومية. فظنها بلاد الروم.ثم قال: " إنا
لله وإنا إليه راجعون " ذهبت والله نفسي بيدي. ثم جعل يخاطب نفسه
ويقول: يا أبا مسلم، فتح لك من باب المكايد في عدوك وصديقك ما لم يفتح
لأحد حتى إذا دان لك من بالمشرق والمغرب، خدعك عن نفسك من كان يهاب
بالأمس من ينظر إليك " إنا لله وإنا إليه راجعون " .ثم تمثل: وقد كان
قيل له إنك تقتل أو تموت برومية. فظنها بلاد الروم.ثم قال: " إنا لله
وإنا إليه راجعون " ذهبت والله نفسي بيدي. ثم جعل يخاطب نفسه ويقول: يا
أبا مسلم، فتح لك من باب المكايد في عدوك وصديقك ما لم يفتح لأحد حتى
إذا دان لك من بالمشرق والمغرب، خدعك عن نفسك من كان يهاب بالأمس من
ينظر إليك " إنا لله وإنا إليه راجعون " .ثم تمثل:
فهل من خالدٍ إما هلكنا ... وهل بالموت عند الناس عار
فأقبل وتلقاه الناس وأنزله وأكرمه، وكان فيمن بعث إليه عيسى بن موسى،
فحلف له بعتق كل مملوك له، وصدقة كل ما يملك، وطلاق نسائه، وقال: لو
خير المنصور بين موت أبيه وموتك لاختار موت أبيه، فإنه لا يجد منك
خلفاً.
فأقبل
معه، فلما دخل أبو مسلم المدائن قال لعيسى بن موسى: تدري ما مثلي ومثلك
ومثل عمك؟ مثل ثلاثة نفر كانوا في سفرٍ فأتوا على عظام نخرة، فقال
أحدهم: عندي طب إذا رأيت عظاماً متفرقة ألفتها. فقال الثاني: وأنا إذا
رأيت عظاماً موصولة كسوتها لحماً. فقال الثالث: وأنا إذا رأيت عظاماً
مكسوة لحماً أجريت فيها الروح.ففعلوا ذلك، فإذا الذي أحيوه أسدٌ، فقال
الأسد في نفسه: ما أحياني هؤلاء إلا وهم على أن يميتوني أقدر. فوثب
عليهم فأكلهم، و الله ليقتلني و ليقتلن عمك، وليخلعنك أو ليقتلنك.وفي
رواية: أن أبا مسلم كتب إلى أبي جعفر: أما بعد، فإني اتخذت رجلاً
إماماً، فحرف القرآن عن مواضعه طمعاً في قليل قد بغاه الله عز وجل إلى
خلقه، فكان كالذي ولي بغرور، فأمرني أن أجرد السيف، وأن أرفع الرحمة
ولا أقيل العثرة، ففعلت توطئة لسلطانك حتى عرفكم من كان يجهلكم، ثم
استنقذني الله بالتوبة ، فإن يعف عني فقديماً عرف به ونسب إليه، وإن
يعاقبني فبما قدمت يداي، وما الله بظلام للعبيد.أخبرنا أبو منصور
القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري
قال: حدثنا المعافى بن زكريا قال:حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا
المغيرة بن محمد قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب قال: حدثنا علي بن
المعافى قال: كتب أبو مسلم إلى المنصور حين استوحش منه: أما بعد، فقد
كنت اتخذت أخاك إماماً وجعلته على الدين دليلاً وللوصية التي زعم أنها
صارت إليه، فأوطأني عشوة الضلالة، وأوثقني موثقة الفتنة، وأمرني أن آخذ
بالظنة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكت بأمره حرمات حتم
الله صونها، وسفكت دماء فرض الله حقنها، وزويت الأمر عن أهله، ووضعته
منه في غير محله، فإن يعف الله عني فبفضل منه، وإن يعاقب فبما كسبت
يداي، وما الله بظلام للعبيد. ثم أنساه الله هذا - يعني أبا مسلم - حتى
جاءه فقتله. وفي رواية: أن أبا مسلم خرج يريد خراسان، مراغماً مشاقاً،
فلما دخل أرض العراق وارتحل المنصور من الأنبار، فأقبل حتى نزل
المدائن، وأخذ أبو مسلم طريق حلوان، فقيل لأبي جعفر أخذ طريق حلوان،
فقال: رب أمر لله دون حلوان. وقال أبو جعفر لعيسى بن علي وعيسى بن موسى
ومن حضره من بني هاشم: اكتبوا إلى أبي مسلم. فكتبوا أليه يعظمون أمره
ويشكرونه على ما كان منه من الطاعة، ويحذرونه عاقبة الأمور، ويأمرونه
بالرجوع إلى أمير المؤمنين، وأن يلتمس رضاه، وبعث أبو جعفر بذلك مع أبي
حميد المروزي وقال له: كلم أبا مسلم بألين ما يكلم به أحد، ومنه،
وأعلمه إني رافعه وصانع به ما لم يصنعه به أحد إن هو صلح وراجع ما أحب،
فإن أبى أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين لست للعباس، وأنا بريء
من محمد، إن مضيت مشاقاً ولم تأتني، إن وكلت أمرك إلى أحدٍ سواي، وأن
لم أل طلبك وقتالك بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار
لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك، ولا تقولن له هذا الكلام حتى
تيأس من رجوعه، ولا تطمع منه في خير.فسار أبو حميد في مأمن من أصحابه
ممن يثق بهم، حتى قدموا على أبي مسلم بحلوان، فدخل عليه أبو حميد، فدفع
إليه الكتاب وقال له: إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله،
وخلاف ما عليه رأيه فيك؛ حسداً وبغياً؛ يريدون إزالة هذه النعمة
وتغييرها، فلا تفسد ما كان منك، وإنك لم تزل أمين آل محمد صلى الله
عليه وسلم، يعرفك بذلك الناس، وما ذخر الله لك من الأجر عنده أعظم مما
أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك، ولا يستهوينك الشيطان. فقال له أبا
مسلم: متى كنت تكلمني بهذا؟ فقال: لأنك دعوتنا إلى هذا وإلى طاعة بيت
أهل النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك، وقلت: إن
خالفتكم فاقتلوني. فعند ذلك أقبل أبو مسلم على أبي نصر فقال: يا مالك،
أما أن تسمع ما يقول لي هذا، ما هذا بكلامه. فقال: لا تسمع قوله، فما
هذا بكلامه، وما بعد هذا أشد منه، فامض لأمرك ولا ترجع، فو الله لئن
أتيته ليقتلنك، ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبداً. فقال أبو
مسلم: قوموا. وأرسل إلى نيزك فقال: ما ترى؟ فقال: ما أرى أن تأتيه،
وأرى أن تأتي الري، فتقيم بها، فيصير ما بين خراسان والري لك، وهم جندك
لا يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت في جندك، وكانت
خراسان من ورائك، فرأيت رأيك.
فدعا أبا
حميد فقال: ارجع إلى صاحبك، فليس من رأي أن آتيه. فقال: قد اعتزمت على
خلافه. قال: لا تفعل. قال: ما أريد أن ألقاه. فلما آيسه من الرجوع قال
له: ما أمره أبو جعفر أن يقوله. فوجم طويلاً ثم قال: قم. فكسره ذلك
القول وأرعبه. وكان أبو جعفر قد كتب إلى أبي داود وهو خليفة أبو مسلم
بخراسان حين اتهم أبا مسلم: إن لك إمرة خراسان ما بقيت. فكتب أبو داود
إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج بمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبينا صلى الله
عليه وسلم، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه. فوافاه كتابه على
تلك الحال فزاده رعباً وهماً، فأرسل إلى أبي حميد وإلى مالك فقال لهما:
إني قد كنت عازماً على المضي إلى خراسان، ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق
إلى أمير المؤمنين، فيأتيني برأيه، فإنه ممن أثق به، وكان صاحب حرس أبي
مسلم، فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب، وقال أبو جعفر:
اصرفه عن وجهه؛ ولك ولاية خراسان، وأجازه. فرجع أبو إسحاق إلى أبي مسلم
فقال له: ما أنكرت شيئاً، رأيتهم معظمين لحقك، يرون لك ما يرون
لأنفسهم، وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين فيعتذر إليه مما كان
منه، فأجمع على ذلك، فقال له نيزك: قد أجمعت على الرجوع؟ قال: نعم.
وتمثل: أبا حميد فقال: ارجع إلى صاحبك، فليس من رأي أن آتيه. فقال: قد
اعتزمت على خلافه. قال: لا تفعل. قال: ما أريد أن ألقاه. فلما آيسه من
الرجوع قال له: ما أمره أبو جعفر أن يقوله. فوجم طويلاً ثم قال: قم.
فكسره ذلك القول وأرعبه. وكان أبو جعفر قد كتب إلى أبي داود وهو خليفة
أبو مسلم بخراسان حين اتهم أبا مسلم: إن لك إمرة خراسان ما بقيت. فكتب
أبو داود إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج بمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبينا
صلى الله عليه وسلم، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه. فوافاه
كتابه على تلك الحال فزاده رعباً وهماً، فأرسل إلى أبي حميد وإلى مالك
فقال لهما: إني قد كنت عازماً على المضي إلى خراسان، ثم رأيت أن أوجه
أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين، فيأتيني برأيه، فإنه ممن أثق به، وكان
صاحب حرس أبي مسلم، فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب، وقال
أبو جعفر: اصرفه عن وجهه؛ ولك ولاية خراسان، وأجازه. فرجع أبو إسحاق
إلى أبي مسلم فقال له: ما أنكرت شيئاً، رأيتهم معظمين لحقك، يرون لك ما
يرون لأنفسهم، وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين فيعتذر إليه مما
كان منه، فأجمع على ذلك، فقال له نيزك: قد أجمعت على الرجوع؟ قال: نعم.
وتمثل:
ما للرجال مع القضاء محالةٌ ... ذهب القضاء بحيلة الأقوام
فقال: أما إذا اعتزمت على هذا فخار الله لك، احفظ عني واحدة: إذا دخلت
عليه فاقتله ثم بايع لمن شئت، فإن الناس لا يخالفونك. فكتب أبو مسلم
إلى أبي جعفر يخبره أنه منصرف إليه، فبينا كتاب أبي مسلم بين أيدي أبي
جعفر إذ دخل عليه أبو أيوب، فرمى أبو جعفر إليه بالكتاب، فقرأه فقال:
والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه. فاغتنم أبو أيوب وقال في نفسه: لئن
قتله لا يترك أصحابه أحداً ممن يتعلق بأبي جعفر حياً. وقال إسحاق
الموصلي لما عزم المنصور على الفتك بأبي مسلم هاب ذلك عمه عيسى بن علي،
فكتب إليه يقول:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبر ... فإن فساد الرأي أن تتعجلا
فوقع المنصور في كتابه:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا
ولا تهمل الأعداء يوماً بقدرة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
قال أبو
إسحاق: والشعر للمنصور. ثم سار أبو مسلم، فلما دنا من المدائن أمر أمير
المؤمنين الناس فتلقوه، فدخل أبو أيوب على أبي جعفر فقال: هذا الرجل
يدخل العشية، فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أقتله حين أنظر إليه.فقال
إن دخل عليك ولم تخرج لم آمن البلاء، ولكن إذا دخل عليك فأذن له أن
ينصرف، فإذا غدا عليك رأيت رأيك. فلما دخل عليه سلم وقام قائماً على
قدميه بين يديه. فقال: انصرف يا عبد الرحمن فأرح نفسك، وادخل الحمام،
فإن للسفر قشفاً، ثم أغد علي. فانصرف، ثم ندم أبو جعفر، وافترى على أبي
أيوب وقال: متى أقدر على هذه الحال ولا أدري ما يحدث في ليلتي!. فلما
أصبحوا جاء أبو أيوب فقال له أبو جعفر: يا ابن اللخناء؛ لا مرحباً بك،
أنت منعتني منه أمس، والله ما غمضت عيني الليلة. ثم شتمه حتى خاف أن
يأمر بقتله. ثم قال: ادع لي عثمان بن نهيك. فدعاه فقال:يا عثمان، كيف
بلاء أمير المؤمنين عندك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنما أنا عبدك،
والله لو أمرتني أن أتكىء على سيفي حتى يخرج من ظهري لفعلت. قال: كيف
أنت إن أمرتك بقتل أبي مسلم فوجم ساعة لا يتكلم فقال له أبو أيوب: مالك
لا تتكلم؟ فقال بصوت ضعيف: أقتله. قال: انطلق. فجيء بأربعة من وجوه
الحرس أقوياء، فمضى؛ فلما كان عند الرواق ناداه: يا عثمان يا عثمان،
ارجع واجلس وأرسل من تثق به من الحرس فليحضر منهم أربعة. فلما حضروا
قال لهم أبو جعفر نحواً مما قال لعثمان، فقالوا: نقتله. قال: كونوا خلف
الرواق. فإذا صفقت فاخرجوا فاقتلوه. فأرسل إلى أبي مسلم رسلاً بعضهم
على أثر بعض، فقالوا: قد ركب إلى عيسى بن موسى. فدعا له عيسى بالغداء،
ثم خرج إلى أبي جعفر وأبو نصر حاجبه بين يديه وحربته معه، فلما قربا من
الباب خرج سلام الحاجب فقال: انزل. فنزل فدخل الدهليز وأغلق الباب
دونه، فقال أبو مسلم: يدخل خاصة أصحابي، فقال له الربيع: لم نؤمر بذلك.
فنزع سيفه من وسطه وقال: الآن عرف الرامي موضع سهمه وهو مثلٌ يضرب لمن
أمكن عدوه من نفسه فلما بصر بالمنصور انحرف إلى القبلة، فخر ساجداً، ثم
دنا ليقبل أطرافه، فقال له: وراءك يا ابن اللخناء. فنصب له كرسي فقعد
فقال له أبو جعفر: أخبرني عن نصلين أصبتهما في متاع عبد الله بن علي.
فقال: هذا أحدهما الذي علي. قال: أرنيه. فانتضاه و ناوله إياه، فهزه
أبو جعفر ثم وضعه تحت فراشه وأقبل عليه يعاتبه. فقال له: اخترناك وأنت
لا تدري أية بيضة انفقأت عن رأسك، ولا من أي وكرٍ نهضت، خامل ابن خامل،
فل ابن فل، ذل ابن ذل، عشت أيام حداثتك، وخير يوميك، يوم تشتري فيه
لعاصم بن يونس إزار قدره،ومكشحة داره، فرقأنا بك المنابر، ووطئنا أعناق
العرب والعجم عقبيك، أخبرني عن كتابك إلى أبي العباس تنهاه عن الموات،
أردت أن تعلمنا الدين. قال: ظننت أخذه لا يحل، فكتب إلي، فلما أتاني
كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم. قال: فأخبرني عن
تقدمك إياي في الطريق؟ قال: كرهت اجتماعنا على الماء، فيضر ذلك بالناس،
فتقدمت التماس الرفق. قال: فقولك حين أتاك الخبر بموت أبي العباس لمن
أشار عليك أن تنصرف إلي: نقدم فنرى رأينا، ومضيت، فلا أنت أقمت حتى
ألحقك ولا أنت رجعت إلي؟ قال: منعني ما أخبرتك من طلب الرفق بالناس،
وقلت نقدم الكوفة. قال: فجارية عبد الله بن علي أردت أن تتخذها؟ قال:
لا، ولكن خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها. قال:
فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟ قال: خفت أن يكون قد دخلك مني شيء، فقلت
آتي خراسان، فأكتب إليك بعذري، ولو رأينا ذهب ما في نفسك علي؟ قال:
تالله ما رأيت كاليوم قط، والله ما زدتني إلا غضباً. قال: ليس يقال لي
هذا بعد بلائي، وما كان مني؟ قال: يا ابن الخبيثة، والله لو كانت أمة
مكانك لأجزأت، إنما عملت ما عملت في دولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك
ما قطعت فتيلاً، ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك!؟ ألست تخطب أمينة بنت
علي، وتزعم أنك ابن سليط عبد الله بن عباس، لقد ارتقيت لا أم لك مرتقىً
صعباً. وأخذ يعتذر وأبو جعفر يعاتبه، إلى أن قال أبو مسلم: دع هذا، فما
أصبحت أخاف أحداً إلا الله. فغضب وشتمه وضربه بعمود، وصفق بيديه،
فخرجوا عليه، فضربه عثمان فلم يصنع شيئاً، لم يزد على قطع حمائل سيفه،
وضربه آخر فقطع رجله، فصاح المنصور: اضربوا قطع الله أيديكم. فقال
أبو مسلم
في أول ضربة: استبقني لعدوك. فقال: وأي عدو أعدى إلي منك!؟ فصاح:
العفو. فقال المنصور: يا ابن اللخناء، العفو والسيوف قد اعتورتك؟! ثم
قال: اذبحوه، فذبحوه، وجاء عيسى بن موسى فقال: أين أبو مسلم؟ فقال:
مدرج في الكساء. فقال إنا لله، وجعل يلطم ويقول: أحنثتني في أيماني،
وأهلكتني. فقال له:علي لكل شيء تخرجه ضعفاه، ويحك اسكت، فما تم سلطانك
ولا أمرك إلا اليوم. ثم رمى به في دجلة. وذلك لخمس بقين من شعبان سنة
سبع وثلاثين ومائة. وقال المنصور:بو مسلم في أول ضربة: استبقني لعدوك.
فقال: وأي عدو أعدى إلي منك!؟ فصاح: العفو. فقال المنصور: يا ابن
اللخناء، العفو والسيوف قد اعتورتك؟! ثم قال: اذبحوه، فذبحوه، وجاء
عيسى بن موسى فقال: أين أبو مسلم؟ فقال: مدرج في الكساء. فقال إنا لله،
وجعل يلطم ويقول: أحنثتني في أيماني، وأهلكتني. فقال له:علي لكل شيء
تخرجه ضعفاه، ويحك اسكت، فما تم سلطانك ولا أمرك إلا اليوم. ثم رمى به
في دجلة. وذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة. وقال
المنصور:
زعمت أن الذي لا يقتضي ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
سيقت كأساً كنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم
وكان أبو مسلم قد قتل في دولته ستمائة ألف صبراً.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
أبو الطيب الطبري قال: حدثنا المعافي قال: حد ثنا الصولي قال: حدثنا
الغلابي قال: حدثنا يعقوب، عن أبيه قال: خطب المنصور بالناس بعد قتل
أبي مسلم فقال: أيها الناس، لاتنفروا أطراف النعم بقلة الشكر فتحل بكم
النقم، ولا تسروا غش الأئمة، فإن أحداً لا يسر منكراً إلا ظهر في فلتات
لسانه وصفحات وجهه، وطوالع نظره وإنا لن نجهل حقوكم ما عرفتم حقنا، ولا
ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم
رأسه خبىء هذا الغمد، وإن أبا مسلم بايع لنا على أنه من نكث بيعتنا، أو
أضمر غشاً لنا فقد أبحنا دمه، ومكث وغدر وفجر، فحكمنا عليه لأنفسنا
حكمه على غيره لنا. قال علماء السير: ثم إن أبا جعفر هم بقتل أبي إسحاق
حرس صاحب أبي مسلم، وبقتل نصر بن مالك وكان على شرط أبي مسلم فكلمه أبو
الجهم وقال: يا أمير المؤمنين، جنده جندك، أمرتهم بطاعته فأطاعوه. فدعا
أبا إسحاق وقال: أنت المبايع لعدو الله أبي مسلم على ما كان يفعل. فجعل
يلتفت يميناً وشمالاً تخوفاً من أبي مسلم. فقال له المنصور: تكلم بما
أردت، فقد قتل الله الفاسق. وأمر بإخراجه إليه مقطعاً، فخر أبو إسحاق
ساجداً، فأطال السجود وقال: الحمد لله، والله ما أمنته يوماً واحداً،
وما جئته يوماً إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت. فقال: استقبل طاعة
خليفتك، واحمد الله الذي أراحك من الفاسق، ثم دعا مالك بن الهيثم فكلمه
بمثل ذلك، فاعتذر إليه بأنه أمره بطاعته، ثم أمرهم بتفريق جند أبي
مسلم. وبعث إلى عدة من قواد أبي مسلم بجوائز سنية، وأعطى جميع جنوده
حتى رضوا. وكان أبو مسلم قد خلف أصحابه بحلوان وقدم المدائن في ثلاثة
آلاف، وخلف أبا نصر على ثقله وقال: أقم حتى يأتيك كتابي، قال: فاجعل
بيني وبينك آيةً أعرف بها كتابك. قال: إن أتاك كتابي مختوماً بنصف خاتم
فأنا كتبته، وإن أتاك بخاتم كله فلم أكتبه. فلما قتل أبو مسلم كتب أبو
جعفر إلى أبي نصر كتاباً عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف
عنده، وأن يقدم. وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى أبو نصر نقش
الخاتم تاماً علم أن أبا مسلم لم يكتبه، فقال: أفعلتموها، وانحدر إلى
همدان وهو يريد خراسان، فكتب أبو جعفر إلى أبي نصر بعهده على شهرزور،
فلما مضى العهد جاءه الخبر أنه قد توجه إلى خراسان، فكتب أبا جعفر إلى
عامله بهمدان: أن مر بك أبو النصر فاحبسه. فأخذه فحبسه، فقدم صاحب
الكتاب بالعهد لأبي نصر فخلى سبيله، ثم قدم كتاب آخر بعده بيومين يقول
فيه: إن كنت أخذت أبا نصر فاقتله. فقال: جاءني كتاب عهده فخليت سبيله.
وقدم أبو نصر على أبي جعفر فقال له: أشرت على أبي مسلم بالمضي إلى
خراسان فقال: نعم يا أمير المؤمنين، كانت له عندي أيادٍ وصنائع،
فاستشارني فنصحته، وأنت يا أمير المؤمنين إن اصطنعتني نصحت لك وشكرت.
فعفا عنه. وفي رواية: أن المنصور كتب إلى عامل أصبهان: لله دمك إن فاتك
يعني أبا نصر فأخذه وأوثقه وبعثه إليه فصفح عنه. وقد كان أبو الجهم بن
عطية أحد النقباء، وكان عيناً لأبي مسلم على المنصور، فلما اتهمه
المنصور طاوله يوماً بالحديث حتى عطش، فاستسقى ماءً فدعي له بسويق لوز
ممزوج بالسكر، وفيه سم، فشربه، فلما استقر في جوفه أحس بالموت، فوثب
مسرعاً فقال له: إلى أين؟ قال: إلى حيث أرسلتني. فرجع إلى رحله فمات.
فقال الشاعر:
تجنب سويق اللوز لا تقربنه ... فشرب سويق اللوز أودى أبا الجهم
وذهبت
شربة أبي الجهم مثلاً للشيء الطيب الطعم الخبيث العاقبة. قال أبو محمد
علي بن أحمد بن سعيد الحافظ: إن المنصور كان يقول: ثلاث كن في صدري شفى
الله منها: كتاب أبي مسلم إلي وأنا خليفة: عافانا الله وإياك من السوء،
ودخول رسوله علينا وقوله: أيكم ابن الحارثية؟ وضرب سليمان بن حبيب ظهري
بالسياط. قال أبو محمد: كان سليمان قد استعمل المنصور على بعض كور فارس
قبل أن تصير الخلافة إلى بني العباس، فاحتجز المال لنفسه، فضربه سليمان
بالسياط ضرباً شديداً وأغرمه المال، فلما ولي الخلافة ضرب عنقه. وفي
هذه السنة: خرج ملبد بن حرملة الشيباني بناحية الجزيرة: فسارت إليه
روابط الجزيرة وهم ألف، فقاتلهم ملبد فهزمهم، وقتل من قتل منهم، ثم
سارت إليه روابط الموصل فهزمهم، ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبي،
فهزمه أيضاً بعد قتال شديد، ثم وجه إليه أبو جعفر مولاه المهلهل في
ألفين من نخبة الجند، فهزمهم ملبد واستباح عسكرهم، ثم وجه إليه بعد ذلك
مراراً، فهزم الكل إلى أن قدم حميد بن قحطبة فهزمه أيضاً، وتحصن منه
حميد، وأعطاه مائة ألف درهم حتى كف عنه. وزعم الواقدي أن ظهور ملبد كان
في سنة ثمان وثلاثين. وفي هذه السنة: حج بالناس إسماعيل بن علي بن عبد
الله بن عباس، وكان على مكة العباس بن عبد الله بن معبد، وعلى المدينة
زياد بن عبيد الله، ومات العباس عند انقضاء الموسم، فضم إسماعيل عمله
إلى زياد، فأقره أبو جعفر. أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا علي بن
أيوب قال: أخبرنا علي بن شاذان قال: أخبرنا أبو علي الطوماري قال:
أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني
عمي مصعب بن عثمان قال: دخل أبو حمزة الربعي من ولد ربيعة بن الحارث بن
عبد المطلب على زياد بن عبيد الله الحارثي وهو والٍ على المدينة فقال:
أصلح الله الأمير، بلغني أن أمير المؤمنين المنصور وجه إليك بمال يقسمه
على القواعد والعميان والأيتام. قال: نعم قد كان ذلك، فتقول ماذا؟ قال:
اكتبني في القواعد. قال: أي رحمك الله، إنما القواعد النساء التي قعدن
عن الأزواج! وأنت رجل! قال: فاكتبني في العميان. قال: أما هذه فنعم،
اكتبه يا غلام، فقد قال الله تعالى عز وجل: " فإنها لا تعمي الأبصار
ولكن تعمي القلوب التي في الصدور " الحج 46 ،وأنا أشهد أن أبا حمزة
أعمى. قال: واكتب بني في الأيتام. قال: وذاك، اكتبهم يا غلام، فمن كان
أبو حمزة أ باه فهو يتيم. قال: فأخذ والله في العميان، وأخذ بنوه في
الأيتام. وكان على الكوفة عيسى بن موسى. وعلى البصرة وأعمالها سليمان
بن علي. وعلى قضائها عمرو بن عامر السلمي، وعلى خراسان أبو داود خالد
بن إبراهيم. وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة. وعلى مصر صالح بن علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
خير بن نعيم بن مرة بن كريب، أبو نعيم الحضرمي. ولي القضاء والقصص في
آخر خلافة بني أمية وأول خلافة بني العباس، وكان فقيهاً. روى عن عطاء
بن أبي رباح. وروى عنه: يزيد بن أبي حبيب، وحيوة بن شريح، والليث، وابن
لهيعة. قال سهيل بن علي: كنت أجالس خير بن نعيم، فرأيته يتجر في الزيت،
فقلت له: وأنت أيضاً تتجر؟ فضرب بيده على كتفي، ثم قال: انتظر حتى تجوع
ببطن غيرك. فقلت في نفسي:كيف يجوع الإنسان ببطن غيره. فلما بليت
بالعيال إذا أنا أجوع ببطونهم. توفي خير بن نعيم في هذه السنة.
عبد الرحمن، أبو مسلم المروزي صاحب الدولة العباسية
روى عن
أبي الزبير، وثابت البناني، وغيرهما. ولد بأصبهان، وكان أبوه أوصى به
إلى عيسى بن موسى السراج، فحمل إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فقال له
إبراهيم بن علي بن عبد الله بن العباس لما عزم على توجيهه إلى خراسان
أن غير اسمك. فقال: قد سميت نفسي عبد الرحمن. ومضى وله ذؤابة، فركب
حماراً بإكافٍ وهو ابن سبع عشرة سنة فقال له: خذ نفقة من مالي، لا أريد
أن تمضي بنفقة من مالك ولا من مال عيسى. وكان شجاعاً ذا رأي وعقل وحزم،
إلا أنه كان فاتكاً. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن
علي بن ثابت قال: أخبرني عبيد الله بن أبي الفتح قال: حدثنا الحسن بن
أحمد بن محمد بن عبيد الله النيسابوري قال: أخبرنا علي بن محمد الحبيبي
قال: أخبرنا محمد بن عبدك قال: أخبرنا مصعب بن بشر قال: سمعت أبي يقول:
قام رجل إلى أبي مسلم وهو يخطب فقال له: ما هذا السواد الذي أرى عليك؟
فقال: حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، وهذه ثياب الهيبة و
ثياب الدولة، يا غلام اضرب عنقه. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال:
أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الأزهري قال: حدثنا محمد بن جعفر
النجار قال: أخبرنا أبو أحمد الجلوذي قال: حدثنا محمد بنزكوية قال: روي
لنا أبا مسلم قال: ارتديت الصبر، وآثرت الكتمان، وحالفت الأحزان
والأشجان، وسامحت المقادير و الأحكام حتى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية
بغيتي، ثم أنشأ يقول:
قد نلت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
مازلت أضربهم بالسيف فانتبهوا ... من رقدة لم ينمها قبلهم أحد
طفقت أسعى عليهم في ديارهم ... والقوم في ملوكهم بالشام قد رقدوا
ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ... ونام عنها تولى رعيها الأسد
قال علماء السير: ظهر أبو مسلم لخمس بقين من رمضان سنة تسع وعشرين
ومائة، ثم سار إلى أبي العباس أمير المؤمنين سنة ست و ثلاثين وقيل في
سنة سبع وثلاثين بالمدائن. فبقي أبو مسلم فيما كان فيه ثمانية وسبعين
شهراً غير ثلاثة عشر يوماً.وقد ذكرنا كيفية قتله في حوادث هذه السنة.
قال مؤلف الكتاب: نقلت من خط أبي الوفا بن عقيل قال: وجدت في تعاليق
محقق من أهل العلم: أن سبعة مات كل واحد منهم وله ست وثلاثون سنة،
فعجبت من قصر أعمارهم مع بلوغ كل منهم الغاية فيما كان فيه، وانتهى
إليه، فمنهم: الاسكندر ذو القرنين، وأبو مسلم صاحب الدولة العباسية،
وابن المقفع صاحب الخطابة و الفصاحة، وسيبويه صاحب التصانيف و المتقدم
في علم العربية، وأبو تمام الطائي وما بلغ من الشعر وعلومه، وإبراهيم
النظام المعمق في علم الكلام، وابن الريوندي وما انتهى إليه من التوغيل
في المخازي. فهؤلاء السبعة لم يجاوز أحدٌ منهم ستاً وثلاثين سنة، بل
اتفقوا على هذا القدر من العمر.
عثمان بن عروة بن الزبير بن العوام. سمع أباه، وروى عنه أخوه هشام،
وابن عيينة.وكان قليل الحديث، وكان من وجوه قريش وساداتهم، وكان جميل
الوجه، حسن الثوب والمركب، عطراً، حتى كان أبوه يقول له وهو يغلف لحيته
بالغالية: إني لأراها ستقطر. أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب قال:
أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: أخبرنا
أحمد بن سليمان بن داود والطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا
مصعب بن عثمان قال: وفد عثمان بن عروة على مروان بن محمد فأخبر به،
فقال: أنا راكب غداً، فلا ترونيه حتى أتوسمه في الناس، فركب، فتصفح
وجوه الناس، ثم أقبل على بعض من معه فقال: ينبغي أن يكون هاذاك عثمان
بن عروة، وأشار إليه. فقالوا: هو يا أمير المؤمنين. وكان وسيماً جسيماً
فأعطاه مروان مائة ألف درهم، ثم قدم من عند مروان فأغلي كراء الحمر من
كثرة من تلقاه. فقلت له: ولما ذاك؟ فقال: يرجون والله جوائزه.
واهب بن عبد الله، أبو عبد الله المعافري الكعبي. يروي عن: ابن عمر،
وابن عمر، وعقبة بن عامر. روى عنه: ابن لهيعة وغيره. توفي في هذه السنة
ببرقة، وكان قد عمر.
ثم دخلت
سنة ثمان وثلاثين ومائة
فمن
الحوادث فيها: دخول قسطنطين طاغية الروم ملططية عنوة،وقهره لأهلها،
وهدمه سورها،إلا أنه عفا عمن فيها من المقاتلة و الذرية. وفيها غزا
العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الصائفة مع صالح بن علي،
فوصله صالح بأربعين ألف دينار، وخرج معهم عيسى بن علي، فوصله أيضاً
بأربعين ألف دينار، وبنى صالح ما كان صاحب الروم هدمه من ملطية. وقد
قيل إن خروج صالح والعباس إلى ملطية للغزو كان في سنة تسع وثلاثين
ومائة.وفيها بايع عبد الله بن علي لأبي جعفر وهو مقيم بالبصرة مع أخيه
سليمان بن علي.
وفيها خلع جهور بن مرار العجلي المنصور
وكان السبب أن جهور هزم سنباذ، وحوى ما في عسكره، وكان فيه خزائن أبي
مسلم التي خلفها بالري، فلم يوجهها إلى أبي جعفر، فخاف فخلعه، فوجه
إليه أبو جعفر محمد بن الأشعث الخزاعي في جيش عظيم، فلقيه محمد
فاقتتلوا قتالاً شديداً، وهرب جهور، فلحق بأذبيجان، ثم أخذ بعد ذلك
وقتل.
وفيها قتل الملبد الخارجي
وقد ذكرنا شأنه في السنة التي قبلها، وما جرى له إلى أن تحصن منه حميد.
ثم وجه أبو جعفر إليه عبد العزيز بن عبد الرحمن أخا عبد الجبار، وضم
إليه زياد بن مشكان، فأكمن له الملبد مائة فارس، فلما لقيه عبد العزيز
خرج عليه الكمين فهزموه وقتلوا عامة أصحابه، فوجه إليه أبو جعفر خازم
بن خزيمة في نحو من ثمانية آلاف، فالتقوا فتسايروا من منزل إلى منزل،
فقتل الملبد في أكثر من ألف من أصحابه، وهرب الباقون فتبعهم فقتلوا
منهم مائة وخمسين. وفي هذه السنة: حج بالناس الفضل بن صالح بن علي بن
عبد الله بن عباس. وذكر أنه خرج من الشام حاجاً، فأدركته ولايته على
الموسم والحج بالناس في الطريق، فمر بالمدينة، فأحرم منها. وكان زياد
بن عبيد الله على مكة والمدينة والطائف. وعلى الكوفة وسوادها عيسى بن
موسى. وعلى البصرة وأعمالها سليمان بن علي. وعلى قضائها سوار بن عبد
الله. وعلى خراسان أبو داود خالد بن إبراهيم. وعلى مصر صالح بن علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
سليمان بن أبي سليمان وهو بن فيروز أبو إسحاق الشيباني. سمع ابن أبي
أوفى، والشعبي، وعكرمة. روى عنه: سليمان التميمي، والدوري، وشعبة؛ توفي
في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة تسع وثلاثين ومائة
فمن الحادث فيها: إقامة صالح بن علي والعباس بن محمد بملطية حتى استما
بناء ملطية، ثم غزوا الصائفة، فوغلا في أرض الروم. وفي هذه السنة: كان
الفداء الذي جرى بين المنصور وصاحب الروم، واستقذ المنصور منهم أسرى
المسلمين. وفيها: سار عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن
مروان إلى الأندلس، فملكه أهلها أمرهم، فولده ولاتها. وفيها: وسع أبو
جعفر المسجد الحرام. وفيها: عزل سليمان بن علي عن ولاية البصرة
وأعمالها، وولي ما كان إليه سفيان بن معاوية وذلك في رمضان. وقيل: إنما
كان عزل ذلك وتوليه هذا في سنة أربعين، ولما عزل سليمان توارى عبد الله
وأصحابه خوفاً على أنفسهم. فإنا قد ذكرنا أن عبد الله لما انهزم مضى
إلى سليمان، فكان عنده، وكتب أبو جعفر إلى سليمان وعيسى بن علي في
إشخاص عبد الله وأعطاهما الأمان ما رضيا به، فلما خرجا به أتى به
وبأصحابه إلى أبي جعفر يوم الخميس لاثني عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة.
ولما دخل سليمان وعيس على أبي جعفر أعلماه حضور عبد الله، وسألاه الإذن
له، فأنعم لهما بذلك، وشغلهما الحديث، وقد كان هيأ لعبد الله محبساً في
قصره، وأمر إليه أن يصرف إليه بعد دخول سليمان وعيسى عليه، ففعل ذلك
به، ثم قال لسليمان وعيسى: سارعا بعبد الله. فخرجا، فلم يرياه في
المكان الذي خلفاه فيه، فعلما أنه قد حبس، فرجعا إلى أبي جعفر، فحيل
بينهما وبينه، وقتل جماعة من أصحاب عبد الله وحبسوا. وفي هذه السنة: حج
بالناس العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان على مكة
والمدينة والطائف زياد بن عبيد الله الطائي. وعلى الكوفة وأرضها عيسى
بن موسى. وعلى البصرة وأعمالها سفيان بن معاوية المهلبي، وعلى قضائها
سوار بن عبد الله. وعلى خراسان أبو داود خالد بن إبراهيم. وسميت هذه
السنة بسنة الخصب، لاتصال الخصب فيها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جميل بن كريب المعافري
من أهل
إفريقية. حدث عن أبي عبد الرحمن الجيلي، وكان من أهل العلم
والدين.وسأله الأمير عبد الرحمن بن حبيب الفهري تولية القضاء فامتنع،
وتمارض وشرب ماء التبن حتى اصفر لونه، فبعث إليه عبد الرحمن فقال له:
إنما أردت أن تكون عوناً على الأمر، وأقلدك أمر المسلمين فتحكم علي
وعلى من دوني بما تراه من الحق،فاتق الله في الناس.فقال له جميل: آلله
إنك لتفعل؟ فقال: آلله، فقبل، فما مر إلا أيام حتى أتاه رجل يدعي على
عبد الرحمن بن حبيب دعوى، فمضى معه إلى باب دار الإمارة، فقال للحاجب:
أعلم الأمير بمكاني، وأن هذا يدعي عليه بدعوى. فدخل فأعلمه. وكان عبد
الرحمن من أغنى من ولي إفريقية، فلبس رداء ونعلين وخرج إليه، فأقعده
جميل مقعد الخصم مع صاحبه، ثن نظر بينهما، فأنصفه عبد الرحمن. وكان
جميل يركب حماراً ورسنه ليف، وقعد فأراد أحدهما أن يمسك رأس الحمار،
فمنعه وأمسكه هو، ثم ركب. وكان البربرقد رحلوا إلى القيروان، فخرج
إليهم الناس ومعهم ابن كريب، فاقتتلوا فقتل أبن كريب في هذه السنة.
خالد بن يزيد مولى عمير بن وهب الجهني، يكنى أبا عبد الرحمن، كان
فقيهاً مفتياً، وآخر من حدث عنه بمصر المفضل بن فضالة. توفي في هذه
السنة.
داود بن أبي هند، أبو بكر واسم أبي هند: دينار مولى لآل الأعلم
القشريين: ولد بسرخس، وروى عن أنس، وسعيد بن المسيب، وأبي عثمان
النهدي، وأبي العالية، والحسن. وكان يفتي في زمن الحسن. أنبأنا محمد بن
عبد الباقي قال: أنبأنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا ابن
المعروف قال: أخبرنا ابن الفهم قال: حدثنا محمد بن سعد قال: حدثنا علي
بن عبد الله قال: حدثنا سفيان قال: سمعت داود بن أبي هند يقول : أصابني
يعني الطاعون فأغمي علي، وكأن اثنان أتياني، فغمز أحدهما عكوة لساني،
وغمز الآخر اخمص قدمي، فقال: أي شيء تجد؟ فقال: تسبيحاً وتكبيراً،
وشيئاً من خطو إلى المساجد وشيئاً من قراءة القرآن. قال: ولم أكن أخذت
القرآن حينئذٍ، فعوفيت وأقبلت على القرآن فتعلمته. أخبرنا محمد بن عبد
الباقي بن أحمد قال:أخبرنا حمد بن أحمد الحداد قال: أخبرنا أحمد بن عبد
الله الحافظ قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثني الفضل بن جعفر عن
عمرو بن علي قال: سمعت ابن أبي عدي يقول: صام داود أربعين سنة لا يعلم
به أهله. كان خزازاً يحمل معه غداءه من عندهم فيتصدق به في الطريق
ويرجع عشياً فيفطر معهم.توفي داود في هذه السنة.
يونس بن عبيد، أبو عبد الله مولى لعبد القيس: اسند عن أنس ، والحسن،
وابن سيرين، وعطاء، وعكرمة. وكان عالماً ثقة زاهداً. أخبرنا ابن ناصر
قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني قال: حدثنا
عمر بن أحمد بن عمرو قال: حدثنا رستة قال: سمعت زهيراً يقول: كان يونس
بن عبيد خزازً، فجاء رجل يطلب ثوباً،فقال لغلامه: انشر الرزمة. وضرب
بيده على الرزمة وقال: صلى الله على محمد. فقال: ارفعه. وأبى أن يبيعه
مخافة أن يكون قد مدحه. قال أبو نعيم: وحدثنا عبد الله بن محمد قال:
أخبرنا أحمد بن المثنى قال: حدثنا هدبة بن خالد قال: حدثنا أمية بن
بسطام قال: كان يونس بن عبيد يشتري الأبريسم من البصرة فيبعث به إلى
وكيله بالسوس، وكان وكيله كتب إليه أن المتاع عندهم زائد قال أبو نعيم:
وحدثنا أبو محمد بن حباب قال: حدثا محمد بن أحمد بن معدان قال: حدثنا
ابن وارة قال: حدثنا الأصمعي قال: حدثنا مؤمن بن إسماعيل قال: جاء رجل
من أهل الشام إلى سرق الخزازين، فقال: أريد مطرفاً بأربعمائة. قال يونس
بن عبيد: عندنا بمائتي درهم، فنادى مناد بالصلاة. فانطلق يونس إلى بني
بشير ليصلي بهم، فجاء وقد باع ابن أخيه المطرف من الشام بأربعمائة،
وقال يونس: ما هذه الدراهم؟ قال: ذاك المطرف بعناه من هذا الرجل. قال
يونس: يا عبد الله، هذا الذي عرضت عليك بمائتي درهم، فإن شئت فخذه وخذ
مائتين، وإن شئت فدعه. قال: من أنت؟ قال: رجل من المسلمين. قال: بل
أسألك بالله من أنت؟ وما اسمك؟ قال: يونس بن عبيد. قال: فو الله إنا
لنكون في نحر العدو، فإذا اشتد الأمر علينا قلنا اللهم رب يونس بن عبيد
فرج عنا. أو شبيه هذا. فقال يونس: سبحان الله، سبحان الله. توفي يونس
في هذه السنة. وقيل: في سنة أربع وثلاثين ومائة.
ثم دخلت
سنة أربعين ومائة
فمن
الحوادث فيها: أن ناساً من الجند وثبوا على أبي داود بن إبراهيم عامل
خراسان، فأشرف عليهم من حائط المنزل الذي هو فيه، فوقع فانكسر ظهره
فمات، فولى أبو جعفر عبد الجبار بن عبد الرحمن خراسان، وقدمها فأخذ بها
ناساً من القواد ذكر أنه اتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بن أبي طالب
فقتلهم. وفي هذه السنة: خرج أبو جعفر المنصور حاجاً، فأحرم من الحيرة،
ثم رجع بعدما قضى الحج إلى المدينة، فتوجه منها إلى بيت المقدس، فصلى
في مسجدها، ثم سلك إلى الشام منصرفاً حتى انتهى إلى الرقة فنزلها، وكتب
إلى صالح بن علي يأمره ببناء المصيصة، ثم خرج منها إلى ناحية الكوفة،
فنزل المدينة الهاشمية بالكوفة، ثم انتقل عنها، فاختط مدينة السلام.
أنبأنا الحسين بن محمد البارع قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال:
أخبرنا المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود قال: حدثنا الزبير
بن بكار قال: حدثني يحيى بن محمد قال: حدثني أبو منصور عبد الرحمن بن
صالح بن دينار قال: حج أبو جعفر المنصور فأعطى أشراف القرشيين ألف
دينار لكل واحد منهم، فلم يترك أحداً من أهل المدينة إلا أعطاه، إلا
أنه لم يبلغ واحد ما بلغ بالأشراف، فكان ممن أعطاه الألف دينار سليم بن
عروة، ويعطي قواعد قريش صحاف الذهب والفضة وكساهن، وأعطى بالمدينة
عطايا لم يعطها أحد. وكان عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة
التي قبلها إلا خراسان، فإن عاملها كان عبد الجبار. وحج المنصور
بالناس. وما عرفنا أحداً من الأكابر توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة إحدى وأربعين ومائة
فمن الحوادث فيها: قدوم المنصور من الحج إلى المدينة، ثم إلى بيت
المقدس، فصلى فيه، ثم انحدر إلى الرقة، وقتل بها منصور بن جعونة، لأن
المنصور قال: احمدوا الله يا أهل الشام، فقد رفع عنكم بولايتنا
الطاعون. فقال منصور: الله أكرم من أن يجمعك علينا والطاعون. ثم انحدر
نت الشام إلى شط الفرات حتى نزل الهاشمية بالكوفة.
وفيها: كان خروج الراوندية: وهم قوم من أهل خراسان كانوا على رأي أبي
مسلم، إلا أنهم يقولون بتناسخ الأرواح، ويدعون أن روح آدم عليه السلام
في عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور،
وأن الهيثم بن معاوية جبرائيل. وهؤلاء طائفة من الباطنية يسمون السبعية
يقولون: الأرضون سبع، والسموات سبع، والأسبوع سبعة، يدل على أن دور
الأئمة يتم بسبعة. فعدو: العباس، ثم ابنه عبد الله، ثم ابنه علي، ثم
محمد بن علي، ثم إبراهيم، ثم السفاح، ثم المنصور، فقالوا: هو السابع.
وكانوا يطوفون حول قصر المنصور ويقولون: هذا قصر ربنا. فأرسل المنصور
فحبس منهم مائتين وكانوا ستمائة فغضب أصحابهم الباقون ودخلوا السجن،
فأخرجوهم وقصدوا نحو المنصور، فتنادى الناس، وغلقت أبواب المدينة، وخرج
المنصور ماشياً ولم يكن عنده دابة، فمن ذلك الوقت ارتبط فرساً، فسمي:
فرس النوبة، يكون معه في قصره، فأتى بدابةٍ وركبها، وجاء معن بن زائدة
فرمى بنفسه وقال: أنشدك الله عز وجل يا أمير المؤمنين إلا رجعت، فإني
أخاف عليك. فلم يقبل وخرج، فاجتمع إليه الناس، وجاء عثمان بن نهيك
فكلمهم، فرموه بنشابة وكانت سبب هلاكه، ثم حمل الناس عليهم فقتلوهم،
وكان ذلك في المدينة الهاشمية بالكوفة في سنة إحدى وأربعين. وقد زعم
بعضهم أن ذلك كان في سنة ست وأربعين أو سبع وأربعين ومائة. وفي هذه
السنة: وجه أبو جعفر المنصور ابنه محمداً وهو ولي عهده يومئذ إلى
خراسان في الجنود، وأمره بنزول الري، ففعل.
وفيها خلع عبد الجبار بن عبد الرحمن عامل
أبي جعفر
على خراسان
وسبب ذلك:
أن المنصور بلغه عن عبد الجبار أنه يقتل رؤساء أهل خراسان، وأتاه من
بعضهم كتاب فيه: قد نغل الأديم، فقال لأبي أيوب: إن عبد الجبار قد أفنى
شيعتنا، وما فعل هذا إلا وهو يريد أن يخلع. فقال: اكتب إليه: إنك تريد
غزو الروم، فيوجه إليك الجنود من خراسان، فإذا خرجوا منها فابعث إليه
من شئت، فليس به امتناع. فكتب بذلك إليه، فأجابه: أن الترك قد جاشت وإن
فرقت الجنود ذهبت خراسان. فقال لأبي أيوب: ما ترى؟ فقال: اكتب إليه: أن
خراسان أهم إلي من غيرها، وأنا موجه إليك من قبلي. ثم وجه إليه الجنود
ليكونوا بخراسان، فإن هم بخلع أخذوا بعنقه. فلما ورد على عبد الجبار
الكتاب كتب إليه: إن خراسان لم تكن قط أسوأ حالاً منها في هذا العام،
وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من غلاء السعر، فلما أتاه
الكتاب ألقاه إلى أبي أيوب فقال له: قد أبدى صفحته وقد خلع فلا تناظره.
فشخص المهدي، فلما بلغ ذلك أهل مرو الروذ ساروا إلى عبد الجبار فناصبوه
الحرب فهزم، فتبعه أحدهم فأخذه أسيراً وحمل إلى المنصور في مدرعة صوف
على بعير، ووجهه من قبل عجزه، ومعه ولده وأصحابه، فبسط عليهم العذاب
حتى استخرج منهم الأموال، وأمر المسيب بقطع يد عبد الجبار ورجليه، وضرب
عنقه ففعل. وقال الواقدي: كان هذا سنة اثنتين وأربعين.
وفيها فتحت طبرستان
وذلك أنه لما وجه المنصور المهدي إلى الري لقتال عبد الجبار، فكفى
أمره، كره المنصور أن يضيع نفقات التي أنفقت على المهدي، فكتب إليه أن
يغزو طبرستان، فذهب فطالت الحروب، فوجه أبو جعفر عمر بن العلاء الذي
يقول فيه بشار:
فقل للخليفة إن جئته ... نصيحاً ولا خير في المتهم
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمراً ثم نم
فتى لا ينام على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم
وفي هذه السنة: فرغ من بناء المصيصة على يدي جبرائيل بن يحيى
الخراساني، ورابط محمد بن إبراهيم الإمام بملطية. وفيها عزل زياد بن
عبيد عن المدينة ومكة والطائف، واستعمل على المدينة محمد بن خالد
فقدمها في رجب، وعلى مكة والطائف الهيثم بن معاوية العتكي. وفي هذه
السنة: حج بالناس صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو على قنسرين
وحمص ودمشق، وعلى المدينة: محمد بن خالد بن عبد الله القسري، وعلى مكة
و الطائف: الهيثم بن معاوية .
وعلى الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى خراسان المهدي، وخليفته بها أسد
بن عبد الله، وعلى مصر نوفل بن الفرات.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
خالد بن مهران، أبو المنازل الحذاء مولى لقريش لآل عبد الله بن عامر بن
كرز. سمع الحسن، وابن سيرين، وأبا قلابة. وكان ثقة، ولم يكن حذاء. وفي
تلقيبه بالحذاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان يجلس إلى حذاء، فلقب بذلك،
قاله يزيد بن هارون. والثاني: أنه تزوج امرأة فنزل عليها في الحذائين.
ذكره الخطابي. والثالث أن كان إذا تكلم يقول: احذوا على هذا النحو،
فلقي بالحذاء. قاله فهد بن حبان القيسي. توفي في هذه السنة. وقيل: في
سنة اثنتين وأربعين.
سلمة بن دينار، أبو حازم
مولى بن
أشجع. كان أعرج زاهداً عابداً، يقص بعد الفجر وبعد العصر في مسجد
المدينة. وكان ثقة كثير الحديث. اسند عن ابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس بن
مالك. قالت له امرأته: هذا الشتاء قد هجم علينا ولا بد لنا مما يصلحنا
فيه، وذكرت الثياب، والطعام، والحطب، فقال: من أين هذا كله؟ ولكن خذي
فيما لا بد منه: الموت، والبعث، ثم الوقوف بين يدي الله، ثم الجنة
والنار. كان يقول: ما مضى من الدنيا فحلم، ومل بقي فأماني. أخبرنا عبد
المالك الكروخي قال: أنبأنا أبو عبد الله بن محمد بن علي بن عمير قال:
أخبرنا أبو الفضل محمد بن محمد القاضي قال: حدثنا أبو سعيد محمد بن
حميد المرواني قال: حدثني محمد بن المنذر قال:حدثني محمد بن يوسف قال:
حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: حدثنا محمد بن إسحاق الموصلي قال: قال
أبو حازم إن بضاعة الآخرة كاسدة، فاستكثروا منها في أوان كسادها، فإنه
لو قد جاء يوم نفاقها لم نصل منها إلى قليل ولا كثير. أخبرنا عبد
الخالق بن أحمد قال: أخبرنا علي بن محمد بن إسحاق قال: أخبرنا عبد
الرحمن بن أحمد الراوي قال: أخبرنا جعفر بن عبيد الله بن يعقوب قال:
أخبرنا محمد بن هارون الروياني قال: حدثنا يحيى بن المغيرة قال: حدثنا
عبد الجبار بن عبد العزيز بن أبي حازم قال: حدثني أبي قال: بعث سليمان
بن عبد الملك إلى أبي حازم فجاءه فقال: يا أبا حازم، مالنا نكره الموت؟
قال: لأنكم أخربتم أخراكم، وأعمرتم دنياكم، فأنتم تكرهون ان تنتقلوا من
العمران إلى الخراب. قال: صدقت، فكيف القدوم على الله عز وجل؟ قال: أما
المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فاكالآبق يقدم على مولاه.
فبكى سليمان وقال: ليت شعري مالنا عند الله يا أبا حازم؟ فقال: أعرض
نفسك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عند الله. قال: يا أبا حازم، وأين
أصيب ذلك؟ قال: عند قوله عز وجل " إن الأبرار لفي نعيم وأن الفجار لفي
جحيم " فقال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: " قريب من المحسنين " قال:
ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: اعفني من هذا. قال سليمان: نصيحة تلقيها.
قال أبو حازم: إن ناساً أخذوا هذا الأمر عنوة من غير مشاورة من
المسلمين ولا اجتماع من رأيهم، فسفكوا فيه الدماء على طلب الدنيا، ثم
ارتحلوا عنها، فليت شعري ما قالوا وما قيل لهم. فقال بعض جلسائه: بئس
ما قلت يا شيخ. فقال أبو حازم: كذبت، إن الله تعالى أخذ على العلماء
ليبيننه للناس ولا يكتمونه. فقال سليمان:أصبحنا يا أبا حازم تصب منا
ونصب منك. قال: أعوذ بالله من ذلك. قال: ولم؟ قال: أخاف أن أركن إليكم
شيئاً قليلاً فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات. قال: فأشر علي.
قال: اتق الله أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك. فقال: يا أبا
حازم ادع لنا بخير. فقال: الله إن كان سليمان وليك فيسره للخير وإن كان
عدوك فخذ إلى الخير بناصيته. فقال: يا غلام، هات مائة دينار. ثم قال:
خذها يا أبا حازم. قال: لا حاجة لي فيها، إني أخاف أن يكون لما سمعت من
كلامي. وكان سليمان أعجب بأبي حازم فقال لزهري: إنه لجاري منذ ثلاثين
سنة ما كلمته قط. فقال أبو حازم: إنك نسيت الله فنسيتني، ولو أحببت
الله لأحببتني. قال الزهري: أتشتمني؟ قال سليمان: بل أنت شتمت نفسك،
أما علمت أن للجار على جاره حقاً؟ فقال أبو حازم: إن بني إسرائيل لما
كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفر
بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا ذلك العلم
وأتوا به إلى الأمراء، فاستغنت به عن الزهاد، واجتمع القوم على
المعصية، فسقطوا وانتكسوا، ولو كان علماؤنا يصونون علمهم لم تزل
الأمراء تهابهم. قال الزهري:كأنك إياي تريد، وبي تعرض. قال: هو ما
تسمع. أخبرنا ظفر بن علي بن العباس المهراني قال: أخبرنا أبو الحسن فيد
بن عبد الرحمن بن الحسن بن شادي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن سعيد
قال: أخبرنا أبو زرعة أحمد بن الحسين الرازي قال: أخبرنا العباس بن عبد
الله المزني قال: حدثنا المبرد، عن الرياشي، عن الأصمعي قال: دخل أبو
حازم الطواف، فإذا هو بامرأة سافرة عن وجهها تطوف، وقد فتنت الناس بحسن
وجهها فقال: يا هذه ألا تخمرين وجهك؟ فقالت: يا أبا حازم، إنا من
اللواتي يقول فيهن الشاعر:
أماطت
قناع الخز عن حر وجهها ... وأبدت من الخدين برداًمهلهلا
من اللائي لم يحججن تبغين ريبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
وترمي بعينيها القلوب إذا بدت ... لها نظر لم يخط للحي مقتلا
فأقبل أبو حازم إلى أهل الطواف فقال: يا أهل بيت الله، تعالوا ندعو
الله أن لا يعذب هذا الوجه بالنار، فذكر ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: لو
كان من بعض أهل العراق لقال: يا عدوة الله، ولكن ظرف أهل الحجاز. أبرنا
إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري قال: أخبرنا أبو
الحسين بن بشران قال: أخبرنا ابن صفوان قال: أخبرنا أبو بكر القرشي
قال: أخبرنا الحسن بن عبد العزيز قال: حدثنا الحارث بن مسكين قال:
أخبرنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن سليمان العمري قال:
رأيت أبا جعفر القارىء في المنام فقلت له: أبا جعفر. فقال: نعم، أقرىء
أبا حازم السلام وقل له: يقول لك: الكيس الكيس، فإن الله وملائكته
يتراءون مجلسك بالعشيات.
موسى بن كعب كان على بسط المنصور وعلى مصر والهند، وكان خليفته على
الهند ابنه عيينة. توفي موسى في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة اثنين وأربعين ومائة
فمن الحوادث فيها: خروج المنصور حتى نزل عند جسر البصرة الأكبر، وبنى
لهم قبلتهم التي يصلون إليها في عيدهم بالحمان، واستعمل عيسى بن عمرو
الكندي على البصرة، ومعن بن زائدة على اليمن. ووجه عمر بن أبي حفص بن
أبي صفرة عاملاً على السند والهند، ومحارباً لعيينة بن موسى، فسار حتى
ورد السند، وغلب عليها.
وفي هذه السنة
نقض إصبهبذ طبرستان العهد بينه وبين
المسلمين
وقتل من كان ببلاده من المسلمين
وكان من حديثه أن أبا جعفر لما انتهى إليه خبر الإصبهذ وما فعل
بالمسلمين وجه إليه جماعة منهم أبو الخصيب، فأقاموا على حصنه محاصرين
له ولمن معه في حصنه، فطال عليهم المقام، فاحتال أبو الخصيب فقال
لأصحابه: اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي. ففعلوا ذلك به، ولحق بالإصبهبذ
صاحب الحصن، فقال له: إنه ركب مني أمرٌ عظيم، وإنما فعلوا بي هذا تهمةً
لي أن يكون هواي معك، فأخبره أنه معه، وأنه دليل على عورة عسكرهم. فقبل
ذلك اللإصبهبذ وجعله في خاصته، وألطفه، وكان على باب مدينتهم من حجر
يلقى إلقاء، تدفعه الرجال وتضعه عند فتحه وإغلاقه. وكان قد وكل به
الإصبهبذ ثقات أصحابه، وجعل ذلك نوباً بينهم، وجعل أبو الخصيب فيمن
ينوب عن ذلك، فكتب إلى أصحابه، وجعل الكتاب في نشابة ورماها إليهم،
وأعلمهم أنه قد ظفر بالحيلة، ووعدهم ليلة سماها في فتح الباب، فلما
كانت الليلة فتح لهم، فقتلوا من فيها من المقاتلة، وسبوا الذراري،
فظفروا بأم منصور المهدي، وأم إبراهيم المهدي. فمص الإصبهبذ خاتماً له
كان فيه سم فقتل نفسه. وقيل: إن هذا كان سنة ثلاث وأربعين. وفي هذه
السنة: عزل نوفل بن الفرات عن مصر ووليها محمد بن الأشعث، ثم عزل محمد
ووليها نوفل، ثم عزل نوفل ووليها حميد بن قحطبة. وفيها ولى أبو جعفر
أخاه العباس بن محمد الجزيرة والثغور، وضم إليه عدة من القواد. وفيها:
اختط المنصور بغداد، ولم يشرع في البناء. وفيها: حج بالناس إسماعيل بن
علي بن عبد الله بن عباس. وكان العامل بالمدينة محمد بن عبد الله، وعلى
مكة والطائف الهيثم بن معاوية، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى
البصرة وأعمالها سفيان بن معاوية، وعلى قضائها سوار بن عبد الله، وعلى
مصر حميد بن قحطبة بن شبيب.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حميد بن هانىء، أبو هانىء الخولاني روى عن أبي قتيل، وشقي بن ماتع
وغيرهما. حدث عنه الليث، وابن لهيعة، وآخر من حدث عنه بمصر إسحاق بن
الفرات. وتوفي في هذه السنة.
سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس
أمه أم
ولد، ولي الإمارة بالبصرة وغيرها، ولاه المنصور. أخبرنا محمد بن عمر
الدموي قال: أخبرنا أبو الغنائم عبد الصمد بن المأمون قال: حدثنا أبو
الفضل محمد بن الحسن المأمون قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال:
حدثنا محمد بن مجيب المازني قال: حدثني أبي قال: لما قدم سليمان بن علي
البصرة والياً عليها قيل له: إن بالمربد رجلاً من بني سعد مجنوناً سريع
الجواب، لا يتكلم إلا بالشعر. فأرسل إليه سليمان بن علي قهرماناً له،
وكان المجنون يعمل على ناقة له، فاستاق القهرمان الناقة، وأتى بهما إلى
سليمان بن علي، فلما وقف بين يديه قال له سليمان: حياك الله يا أخا بني
سعد،فقال:
حياك رب الناس من أمير ... يافاضل الأصل عظيم الخبر
إني أتاني الفاسق الجلواز ... والقلب قد طار به اهتزاز
فقال سليمان: إنما بعثته إليك ليشتري ناقتك. فقال:
ما قال شيئاً في شراء الناقة ... وقد إتى بالجهل والحماقة
فقال: ما أتي؟ فقال:
خرق سربالي وشق بردتي ... وكان وجهي في الملا وزينتي
فقال: نخلف عليك، أفتعزم على بيع الناقة. فقال:
أبيعها من بعد مال أوكس ... والبيع في الأوان أكيس
قال: كم شراؤها عليك؟ فقال:
شراؤها عشر ببطن مكة ... من الدنانير القيام السكة
ولا أبع الدهر أو أزاد ... إني لربح في الشرا معتاد
قال: فبكم تبيعها؟ فقال:
خذها بعشر و بخمس وازنه ... فإنها ناقة صدق مازنة
فقال: تحنطا وتحسن.فقال:
تبارك الله العلي العالي ... تسألني الحط وأنت الوالي
قال: فنأخذها ولا نعطيك شيئاً. فقال:
فأين ربي ذو الجلال الأفضل ... إن أنت لم تخشى الإله فافعل
فقال: كم نزن لك فيها؟ فقال:
والله ما ينعشني ما تعطي ... ولا يداني الفقر مني خطي
خذها بما أحببت يا ابن عباس ... يا ابن الكرام من قريش والراس
فأمر له سليمان بألف درهم وعشرة أثواب، فقال:
إني رمتني نحوك العجاج ... ولي عيال معدم محتاج
طاوي المطي ضيق المعيش ... فأنبت الله لديك ريش
شرفتني منك بألف فاخرة ... شرفك الله بها في الآخره
وكسوة طاهرة حسان ... كساك ربي حلل الجنان
فقال سليمان بن علي: من يقول هذا مجنون!؟ ما كلمت أعرابياً قط أعقل
منه. توفي سليمان بالبصرة في هذه السنة، وهو ابن تسع وخمسين، وصلى عليه
أخوه عبد الصمد بن علي.
عاصم بن سليمان، عبد الرحمن الأحول البصري سمع أنساً، وعبد الله بن
سرخس، والحسن.وولي القضاء بالمدائن في خلافة المنصور، وكان وكان يحتسب
على المكاييل و الموازين، وهو معدود في كتاب الحفاظ الثقات.عن محمد بن
عبادة قال: حدثني أبي قال: ربما رئي عاصم الأحول وهو صائم فيفطر، فإذا
صلى العشاء تنحى فصلى، فلا يزال يصلي حتى يطلع الفجر، لا يضع جنبه.
توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وأربعين ومائة
فمن الحوادث فيها أن
الخبر جاء إلى المنصور بأن الديلم أوقعوا
بالمسلمين
وقتلوا مقتلة عظيمة، فبعث أهل البصرة والكوفة لجهادهم. وفيها: عزل
الهيثم بمن معاوية عن مكة و الطائف، وولي ما كان إليه من ذلك السري بن
عبد الله بن الحارث بن عباس بن عبد المطلب، فأتى السري عهده على ذلك
وهو باليمامة، فسار إلى مكة.ووجه المنصور إلى اليمامة محمد بن العباس
بن عبد الله بن عباس. وفي هذه السنة: عزل حميد بن قحطبة عن مصر، ووليها
نوفل، ثم عزل ووليها يزيد بن حاتم. وفي هذه السنة: حج بالناس عيسى بن
موسى، وكان إليه ولاية الكوفة وسوادها، وكان عامل مكة والمدينة السري
بن عبد الله، وعامل البصرة سفيان بن معاوية، وكان على قضائها سوار،
وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حميد بن مهران، أبو عبيدة الطويل مولى لخزاعة، ولد سنة ثمان وستين.
حيي بن شريح، أبو عبد الله المعافري ثم الحبلي: روى عنه: ابن لهيعة
وغيره، وآخر من حدث عنه بمصر ابن وهب. توفي في هذه السنة.
سليمان بن طرخان، أبو المعتمر التيمي
نزل في
التيم فنسب إليهم وليس بتيمي. وكان ثقة من العباد يصلي الغداة بوضوء
صلاة العشاء، وكان هو وابنه المعتمر يدوران الليل في المساجد فيصليان
في هذا المسجد وفي هذا المسجد حتى يصبحا. أخبرنا محمد بن عبد الله بن
حبيب قال: أخبرني علي بن عبد الله بن أبي صادق قال: أخبرنا ابن باكويه
قال: حدثنا عبد العزيز بن الفضل قال: حدثنا عبد الله بن أبي القاسم
قال: حدثنا أحمد بن الحسين الحذاء قال:حدثنا أحمد بن الزورقي قال :
حدثنا الوليد بن صالح قال : سمعت حماد بن سلمة يقول: ما أبقى سليمان
التيمي من ساعة يطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة
وجدناه مصلياً، وإن لم يكن في ساعة صلاة وجدناه إما يتوضأ للصلاة أو
عائداً لمريض أو مشيعاً لجنازة أو قاعداً في المسجد يسبح، وكنا نرى أنه
لا يحسن أن يعصي الله عز وجل. أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا حمد بن أحمد
قال: أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر
قال: حدثنا محمد بن الحسين بن علي بن يحيى قال: حدثنا محمد بن عبد
الأعلى قال: سمعت معتمر بن سليمان يقول: لولا أنك بين أهلي ما حدثتك عن
أبي بهذا، مكث أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويصلي الصبح بوضوء
العشاء، وربما أحدث الوضوء من غير نوم. قال أبو نعيم: وحدثنا أبو حامد
بن جميل قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثنا يوسف بن موسى قال: سمعت
جريراً، عن رقبة قال: رأيت رب العزة في المنام، فقال: وعزتي لأكرمن
مثوى سليمان؛ يعني التيمي. وبلغنا من طريق آخر قال: رأيت رب العزة في
النوم فقال لي:يا رقبة، وعزتي وجلالي لأكرمن مثوى سليمان التيمي، فإنه
صلى لي أربعين سنة الغداة على ظهر العتمة. قال: فجئت إلى سليمان فحدثته
فقال: أنت رأيت هذا؟ قلت: نعم. قال: لأحدثنك بمائة حديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم بما جئتني بهذه البشارة. قال: فلما كان بعد مديدة مات
فرأيته في المنام. فقلت ما فعل الله بك. قال: غفر لي وأدناني وقربني
غلفني بيده. وقال: هكذا أفعل بأبناء ثلاث وثمانين. أسند سليمان التميمي
عن أنس بن مالك وعن جماعة من أكابر التابعين. وتوفي بالبصرة.
فاطمة بنت محمد بن المنكدر
أخبرنا محمد بن ناصر بإسناد له عن إبراهيم بن مسلم القرشي قال: كانت
فاطمة بنت محمد بن المنكدر تكون نهارها، فإذا جنها الليل تنادي بصوت
حزين: هدأ الليل، واختلط الظلام، وأوى كل حبيب إلى حبيبه، وخلوتي بك
أيها المحبوب أن تعتقني من النار.
يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو
بن سهل بن ثعلبة، أبو سعيد الأنصاري المدني
سمع من أنس بن مالك، والسائب بن يزيد، وغبد الله بن عامر بن ربيعة،
وسعيد بن المسيب، والقاسم، وغيرهم. ثم روى عنه هشام بن عروة، ومالك،
وابن جريح، وشعبة، وغيرهم. وكان فقيهاً ثقة يتولى القضاء بمدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم في أيام الوليد بن عبد الملك، أقدمه المنصور العراق
وولاه القضاء بالهاشمية، وذلك قبل أن تبنى العراق. أخبرنا عبد الرحمن
بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا التنوخي قال:
أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر قال: حدثني علي بن محمد بن عبيد قال:
حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا يحيى بن
محمد بن طلحة قال: حدثني سليمان بن بلال قال: كان يحيى بن سعيد قد ساءت
حاله، وأصابه ضيق شديد، وركبه الدين، فبينا هو على ذلك إذ أتاه كتاب
أبي العباس يستقضيه. قال سليمان: فوكلني يحيى بأهله وقال لي: والله ما
خرجت وأنا أجهل شيئاً، وأنه والله لأول خصمين جلسا بين يدي، فاقتضيا
بشيء والله ما سمعته قط، فإذا جاءك كتابي هذا فسل ربيعة واكتب إلي بما
يقول، ولا يعلم أنني كتبت إليك بذلك. حدثنا القزاز قال: حدثنا أحمد بن
علي قال: أخبرنا عمر بن المهدي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب قال:
حدثني جدي قال: حدثني أبو بكر بن أبي الأسود قال: أخبرنا عبد الرحمن،
عن وهيب قال: قدمت المدينة فما رأيت أحداً إلا يعرف وينكر إلا يحيى بن
سعيد، ومالك بن أنس. توفي يحيى بالهاشمية من الأنبار في هذه السنة.
وقيل: سنة أربع. وقيل: سنة ست.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة
فمن الحوادث فيها
غزو الديلم
وفيها
انصرف المهدي عن خراسان إلى العراق، وشخص أبو حعفر إلى قنسرين، فلقيه
بها ابنه محمد، فانصرفا جميعاً إلى الحيرة. وفيها: بنى المهدي عند
مقدمه من خراسان بابنة عمه ريطة بنت أبي العباس. وفيها: ولى أبو جعفر
رباح بن عثمان المري المدينة، وعزل محمد بن خالد القسري عنها. وكان
السبب في ذلك أن أبا جعفر أهمه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن
بن حسن وتخلفهما عن حضوره؛ مع من شهده من بني هاشم عام حج في حياة أخيه
أبي العباس، ومعه أبو مسلم. وقد ذكر أن محمداً كان يذكر أن أبا جعفر
ممن بايع له ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين
اضطراب مروان. فسأل أبو جعفر عن محمد وإبراهيم حين حج ولم يرهما، فقال
له زياد بن عبد الله: ما يهمك من أمرهما! أنا آتيك بهما. فضمنه إياهما،
وأقره على المدينة. ولما ولي أبو جعفر لم يكن له هم إلا طلب محمد،
والسؤال عنه، فدعا بني هاشم رجلاً رجلاً يخلو به، فيسألهم عنه فيقولون:
هو يخافك على نفسه، وما يريد بذلك خلافاً إلا حسن بن يزيد، فإنه أخبره
خبره، وقال: والله ما آمن عليك؛ وإنه ما ينام عنك. فنظر المنصور إلى
رجل له فطنةٌ يقال له: عقبة بن سالم، فقال له: أخف شخصك، واستر أمرك،
وآتني لأمر إن كفيتنيه رفعتك. فأتاه فقال له: إن بني عمنا هؤلاء قد أبو
إلا كيداً لملكنا، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا، يكاتبونهم ويرسلون
إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من بلادهم، فأخرج بكساً وألطاف وعين حتى
تأتيهم متنكراً بكتاب تكتبه أهل هذه القرية، ثم تسبر ناحيتهم، فإن
كانوا نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علمت
ذلك، فأشخص حتى تلقى عبد الله بن حسن، فإن جبهك وهو فاعل فاصبر وعاوده
حتى يأنس بك، فإذا أطهر لك ما قبله فاعجل علي. فشخص حتى قدم على عبد
الله، فلقيه بالكتاب فأنكره ونهره وقال: ما أعرف هؤلاء القوم؛ فلم يزل
ينصرف ويعود إليه حتى قبل كتابه وألطافه وآنس به، فسأله الجواب، فقال:
إني لا أكتب إلى أحدٍ، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام وأخبرهم
أن ابني خارجان لوقت كذا وكذا. فقدم على أبي جعفر فأخبره الخبر، فأنشأ
حينئذ الحج وقال لعقبة: إني إذا صرت بمكان كذا وكذا لقيني بنو حسن،
فيهم عبد الله، فأنا مبجله ورافعٌ مجلسه وداع بالغداء، فإذا فرغنا من
طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائماً، فإنه سيصرف بصره، فعد حتى تغمز
ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينه منك، ثم حسبك، وإياك أن يراك ما دام
يأكل.فخرج حتى إذا تدفع في البلاد لقيه بنو حسن، فأجلس عبد الله إلى
جانبه، ثم دعا بالغداء، فأصابوا منه، ثم أمر به فرفع، فأقبل على عبد
الله فقال: يا محمد، قد علمت ما أعطيتني من المواثيق والعهود ألا
تبغيني سوءاً، ولا تكيد لي سلطاناً. قال: فأنا على ذاك يا أمير
المؤمنين. فلحظ أبو جعفر عقبة، فاستدار حتى قام بين يدي عبد الله،
فأعرض عنه، فاستدار حتى قام من وراء ظهره؛ فغمزه بإصبعه، فرفع رأسه،
فملأ عينه منه، فوثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر، فقال: أقلني يا أمير
المؤمنين أقالك الله. قال: لا أقالني الله إن أقلتك. ثم أمر بحبسه. وفي
رواية: أن المنصور أتاه عبد الله بن حسن، فجلس عنده، إذ تكلم المهدي
فلحن، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، ألا تأمر لهذا من يعدل لسانه،
فأحفظ المنصور من هذا وقال: أين ابنك؟ قال: لا أدري. قال: لتأتيني به.
قال: لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه. قال: يا ربيع، قم به إلى الحبس.
وقيل: إن حبسه كان في سنة أربعين، فأقام في الحبس ثلاث سنين. ولما حبسه
جد في طلب ابنيه وبعث عيناً له، وكتب معه كتباً على ألسن الشيعة إلى
محمد يذكرون طاعتهم، وبعث معه بمال وألطاف، فقدم الرجل المدينة، فسأل
عن محمد، فذكر له أنه في جبل جهينة، فمضى إليه، فعلم حاله، ثم عاد إلى
أبي جعفر، فكتب أبو جعفر إلى زياد بن عبيد الله يتنجزه ما ضمن له من
أمر محمد، فأعان زياد محمداً وقال له: اذهب حيث شئت، فما ينالك مني
مكروه. فبعث أبو جعفر من شد زياداً في الحديد، وأخذ جميع ماله، ووجد في
بيت المال خمسة وثمانين ألف دينار، وأخذ عماله، وشخص بالكل إلى أبي
جعفر، فقال له زياد: إن دماء بني فاطمة علي عزيزة. واستعمل أبو جعفر
محمد بن خالد بعد زياد، أمره بالجد في طلب محمد، ثم استبطأه فعزله،
وولى رياح بن عثمان بن حيان
المدينة،
وأمره بالجد في طلبهما، فخرج مسرعاً، فقدمها يوم الجمعة لسبع ليال بقين
من رمضان سنة أربع وأربعين ومائة. وكان عند أبي جعفر مرآة يرى بها ما
في الأرض جميعاً، يقال إنها نزلت على آدم، وصارت إلى سليمان بن داود،
ثم ذهبت بها الشياطين وبقيت منها بقية صارت إلى بني إسرائيل، فأخذها
رأس جالوت، فأتى بها مروان بن محمد، فكان يحكيها ثم يجعلها على مرآة
أخرى فيرى فيها ما يكره، فرمى بها وضرب عنق رأس جالوت، فلما استخلف أبو
جعفر طلبها، فأتي بها،فكان يرى فيها محمد بن عبد الله بن حسن، فيكتب
إلى رياح: إن محمداً ببلاد فيها الأترج و الأعناب، فاطلبه بها، فيطلبه
فلا يجد، فيكتب إليه أنه ببلاد فيها الجبال فلا يجد. وكان السبب: أن
محمداً كان لا يقيم بمكان إلا يسيراً، فاخبر رياح أنه في شعب من شعاب
رضوى، فاستعمل عمرو بن عثمان بن مالك، وأمره بطلبه، فخرج إليه بالخيل
والرجال، ففزع منهم محمد، فأحضر شداً، فأفلت، وكان معه جارية وله منها
ولد، فهربت الجارية، فسقط الصبي منها فتقطع، فقال محمد:المدينة، وأمره
بالجد في طلبهما، فخرج مسرعاً، فقدمها يوم الجمعة لسبع ليال بقين من
رمضان سنة أربع وأربعين ومائة. وكان عند أبي جعفر مرآة يرى بها ما في
الأرض جميعاً، يقال إنها نزلت على آدم، وصارت إلى سليمان بن داود، ثم
ذهبت بها الشياطين وبقيت منها بقية صارت إلى بني إسرائيل، فأخذها رأس
جالوت، فأتى بها مروان بن محمد، فكان يحكيها ثم يجعلها على مرآة أخرى
فيرى فيها ما يكره، فرمى بها وضرب عنق رأس جالوت، فلما استخلف أبو جعفر
طلبها، فأتي بها،فكان يرى فيها محمد بن عبد الله بن حسن، فيكتب إلى
رياح: إن محمداً ببلاد فيها الأترج و الأعناب، فاطلبه بها، فيطلبه فلا
يجد، فيكتب إليه أنه ببلاد فيها الجبال فلا يجد. وكان السبب: أن محمداً
كان لا يقيم بمكان إلا يسيراً، فاخبر رياح أنه في شعب من شعاب رضوى،
فاستعمل عمرو بن عثمان بن مالك، وأمره بطلبه، فخرج إليه بالخيل
والرجال، ففزع منهم محمد، فأحضر شداً، فأفلت، وكان معه جارية وله منها
ولد، فهربت الجارية، فسقط الصبي منها فتقطع، فقال محمد:
منخرق السربال يشكو المجى ... تبكيه أطراف مروٍ حداد
شرده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
وكان رياح
في طلبه، فرآه محمد قد جاء في الخيل، فعدل إلى بئر فوقف بين قرنيها
ليستقي الماء، فنظر إليه رياح فقال: قاتله الله أعرابياً ما أحسن
ذراعه! ولقيه مرة أخرى، فجلس محمد وجعل ظهره مما يلي الطريق، وسدل هدب
ردائه على وجهه، فقال: رياح؛ امرأة رأتنا فاستحيت. وكان محمد جسيماً
عظيماً آدم شديد الأدمة. وطال على المنصور أمره فلا يقدر عليه، وقيل
له: أتطمع أن تخرج محمد وإبراهيم، وابن حسن مخلون!؟ وكانوا ثلاثة عشر
رجلاً. وحبس معهم محمد بن عبد الله العثماني وولدين له، فلم يزالوا
محبوسين حتى حج أبو جعفر سنة أربع وأربعين ومائة، فيلقاه رياح بالربذة
فرده إلى المدينة، وأمر بإشخاص بني حسن إليه، وبإسخاص محمد بن عبد الله
بن عمرو بن عثمان وهو أخو بني حسن لأمهم فاطمة بنت حسين بن علي فحملهم
إليه، وكان محمد وإبراهيم يأتيان معتمين كهيئة الأعراب، فيسايران
أباهما و يسألانه ويستأذنانه في الخروج فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما
ذلك؛ و يقول: إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا
كريمين. وأمر أبو جعفر محمد بن عبد الله ففرقت اسطوانة مبنية ثم أدخل
فيها، فبني عليه وهو حي. وكان أول من مات. من المحبوسين من بني حسن:
إبراهيم بن حسن ثم عبد الله بن حسن وقد ذكرنا أن الذي حج بالناس في هذه
السنة المنصور، وكان الوالي على مكة السري بن عبد الله، والوالي على
المدينة رياح بن عثمان، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سفيان
بن معاوية، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بن حاتم. وجرت للمنصور في
حجة قصة مع بعض الصالحين: أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن
عبد الجبار قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح قال: حدثنا أبو نصر محمد
بن محمد النيسابوري عن إبراهيم بن أحمد الخشاب المقرئ قال: حدثنا أبو
علي الحسن بن عبد الله الرازي قال: حدثنا المثنى قال: حدثنا سلمة بن
سلمة القرشي قاضي اليمن قال: سمعت أبا المهاجر المكي يقول: قدم المنصور
مكة، فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل ويطوف ويصلي،
ولا يعلم به، فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا
عليه، أقيمت الصلاة، فيصلي بالناس، فخرج ذات ليلة حين أسحر، فبينا هو
يطوف إذا سمع رجلاً عند الملتزم و هو يقول: إني أشكو إليك ظهور البغي
والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع. فأسرع
المنصور في مشيته حتى ملأ مسامعه من قوله، ثم خرج فجلس ناحية من
المسجد، ثم أرسل إليه ودعاه، فصلى ركعتين، واستلم الركن، وأقبل مع
الرسول، فسلم عليه، فقال له المنصور: ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور
البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع؟ فو
الله لقد حشوت مسامعي ما أضرني فأقلقني، فقال: يا أمير المؤمنين، إن
أمنيتي على نفسي أنبأتك بالأمور من أصلها، وإلا احتجبت منك وأقتصر على
نفسي، ففيها لي شغل شاغل. فقال: أنت آمنٌ على نفسك. فقال: يا أمير
المؤمنين،إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من
تابغي والفساد في الأرض لأنت. قال: ويحك، كيف يدخلني الطمع والصفراء
والبيضاء بيدي، والحلو والحامض في قبضتي. قال: وهل دخل أحد من الطمع ما
دخلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله عز وجل أسترعاك أمور المسلمين
بأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم
حجاباً من الآجر والجص، وأبواباً من الحديد، وحجبة معهم السلاح، واتخذت
وزراء وأعواناً فجرة، إن نسيت لم يذكروك، وإن أحسنت لم يعينوك، وقويتهم
على ظلم الناس بالرجال و السلاح، وأمرت أن لا يدخل عليك من الناس إلا
فلان وفلان، ولم تآمر بإيصال المظلوم والملهوف والجائع والعاري، وما
أحد إلا وله في المال حق،فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك
وآثرتهم على رعيتك، وأمرت ألا يحجبوا عنك، تجبي المال ولا تقسمه،
قالوا: هذا قد خان الله، فما لنا لا نخونه، وقد سخر لنا، وائتمروا على
أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل
فيخالف أمرهم إلا أقصوه عنك حتى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك
وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم، وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا و
الأموال ليتقوا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك الثروة والقوة من رعيتك
لينالوا ظلم من دونهم من
الرعية،
وامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شركاءك في
سلطانك، وأنت غافل، وإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إلى مدينتك،
وإن أراد رفع قصة إليك عند ظهورك، وجدك قد نهيت عن ذلك، ووقفت للناس
رجلاً ينظر في مظالمهم،فإن جاء ذلك الرجل يبلغ بطانتك سألوا صاحب
المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك، فإن صرخ بين يديك ضرب ضرباً مبرحاً
ليكون نكالاً لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر ولا تغير، فما بقاء الإسلام
وأهله على هذا، وقد كانت بنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم مظلوم
إلا رفعت مظلمته، ولقد كان الرجل يأتي من أقصى الأرض حتى يبلغ سلطانهم
فينادي: يا أهل الإسلام.فيبتدرونه مالك مالك.فيرفعون مظلمته إلى
سلطانهم فينتصف له. وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض وبها ملك،
فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم، فجعل يبكي، فقال له وزراؤه: مالك تبكي
لا بكت عيناك؟ فقال: أما إني لست أبكي على المصيبة إذا نزلت بي، ولكن
المظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته، وقال: أما إن كان ذهب سمعي فإن
بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم. فكان
يركب الفيل في طرف النهار، هل يرى مظلوماً فينصفه. هذا يا أمير
المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في
ملكه، وأنت مؤمن بالله عز وجل وابن عم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم،
ألا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك!؟ فإنك لا تجمع الأموال إلا
لواحد من ثلاث: إن قلت أجمعها لولدي فقد أراك الله عبراً في الطفل
الصغير يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ومن دونه
يد شحيحة تحويه، فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل الصغير حتى تعظم رغبة
الناس إليه، ولست بالذي تعطي، بل الله يعطي من يشاء ما يشاء. وإن قلت
أجمع المال ليشتد سلطاني فقد أراك الله عز وجل عبراً فيمن كان قبلك م
أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة، وما أعدوا من السلاح والكراع ما
ضرك، وولد أبيك ما كنت فيه من الضعف حين أراد الله عز وجل بكم ما أراد،
وإن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فو
الله ما فوق ما أنت فيه منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح. يا أمير
المؤمنين هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قال:لا. قال: فكيف تصنع
بالملك الذي خولك ما أنت فيه من ملك الدنيا، وهو لا يعاقب من عصاه
بالقتل، ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم، وهو الذي يرى
منك ما عقد عليه قلبك، و أضمرته جوارحك، فما تقول إذا انتزع ملك الدنيا
من يدك، ودعاك إلى الحساب؟ هل يفي عنك ما كنت فيه شيئاً؟ فبكى المنصور
بكاءً شديداً حتى ارتفع صوته، ثم قال: يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئاً.
ثم قال: كيف احتيالي فيما خولت ولم أر من الناس إلا خائناً. قال: يا
أمير المؤمنين، عليك بالأئمة الأعلام المرشدين. قال: ومن هم؟ قال:
العلماء. قال: قد فروا مني. قال: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر
من طريقتك، ولكن افتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم، وامنع
الظالم، وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالعدل، وأنا ضامن لك عن من هرب
منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك. فقال المنصور: اللهم وفقني
أن أعمل بما قال هذا الرجل. وجاء المؤذنون فسلموا عليه، وأقيمت الصلاة،
فخرج فصلى بهم ثم قال للحارس: عليك بالرجل، فإن لم تأتني به لأضربن
عنقك، واغتاظ عليه غيظاً عظيماً، فخرج الحرسي يطلب الرجل، فبينا هو
يطوف إذا هو بالرجل قائم يصلي، ثم قال: يا ذا الرجل، أما تتقي الله؟
قال: بلى. قال: ما تعرفه؟ قال: فانطلق معي فقد يقتلني إن لم آته بك.
قال :ليس إلى ذلك سبيل. قال : يقتلني. قال: ولا يقتلك. قال: كيف؟ قال:
تحسن تقرأ؟ قال: لا. قال: فأخرج من مزود كان معه رقاع فيه شيء
مكتوب،فقال: خذه فاجعله في جيبك، فإن فيه دعاء الفرج. قال: وما دعاء
الفرج؟ قال: لا يرزقه إلا السعداء. قال: رحمك الله فقد أ حسنت إلي، فإن
رأيت أن الفرج؟ قال: لا يرزقه إلا السعداء. قال: رحمك الله فقد أحسنت
إلي، فإن رأيت أن تخبرني ما هذا الدعاء وما فضله! قال: من دعا به
صباحاً ومساءً هدمت ذنوبه، ودام سروره، ومحيت خطاياه، واستجيب دعاؤه،
وبسط له في رزقه، وأعطي أمله، وأعين على عدوه، وكتب عند اله صديقاً،
ولا يموت إلا شهيداً؛ تقول: اللهم كما لطفت في بعظمتك
دون
اللطفاء، وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق
عرشك، وكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك، و علانية القول كالسر في
علمك، فانقاد كل شيء لعظمتك، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك، وصار أمر
الدنيا والآخرة كله بيدك؛ اجعل لي من هم أمسيت فيه فرجاً ومخرجاً.
اللهم إن عفوك عن ذنوبي، وتجاوزك عن خطيئتي و سترك على قبيح عملي،
أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه منك، فصرت أدعوك آمناً،وأسألك مستأنساً،
إنك المحسن إلي وإني المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك تودداً لي وأتبغض
إليك، ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عليك، فعد بفضلك علي، إنك أنت
التواب الرحيم. قال: فأخذته فصيرته في جيبي، ثم لم يكن لي هم غير أمير
المؤمنين، فدخلت فسلمت عليه، فرفع رأسه ينظر إلي ويبتسم، ثم قال لي:
ويلك، تحسن السحر. فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين. ثم قصصت عليه أمري
مع الشيخ، فقال: هذا الرق. ثم جعل يبكي، ثم قال: به نجوت، وأمر بنسخه،
وأعطاني عشرة آلف درهم، ثم قال: أتعرفه؟ قلت: لا. قال: ذاك الخضر.ن
اللطفاء، وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق
عرشك، وكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك، و علانية القول كالسر في
علمك، فانقاد كل شيء لعظمتك، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك، وصار أمر
الدنيا والآخرة كله بيدك؛ اجعل لي من هم أمسيت فيه فرجاً ومخرجاً.
اللهم إن عفوك عن ذنوبي، وتجاوزك عن خطيئتي و سترك على قبيح عملي،
أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه منك، فصرت أدعوك آمناً،وأسألك مستأنساً،
إنك المحسن إلي وإني المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك تودداً لي وأتبغض
إليك، ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عليك، فعد بفضلك علي، إنك أنت
التواب الرحيم. قال: فأخذته فصيرته في جيبي، ثم لم يكن لي هم غير أمير
المؤمنين، فدخلت فسلمت عليه، فرفع رأسه ينظر إلي ويبتسم، ثم قال لي:
ويلك، تحسن السحر. فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين. ثم قصصت عليه أمري
مع الشيخ، فقال: هذا الرق. ثم جعل يبكي، ثم قال: به نجوت، وأمر بنسخه،
وأعطاني عشرة آلف درهم، ثم قال: أتعرفه؟ قلت: لا. قال: ذاك الخضر.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
خالد بن أبي يزيد وقيل ابن يزيد أبو عبد الرحمن الحراني، قدم بغداد،
فسمع بها من حجاج بن محمد الأعور. قال يحيى بن معين:هو ثقة.توفي في هذه
السنة.
سعيد بن أبي إياس، أبو مسعود الجريري منسوب إلى جرير بضم الجيم وهو
جرير بن عباد، قبيلة معروفة، يروي عن أبي العلاء، وأبي نضرة. سمع منه
الثوري، وشعبة، وكان ثقة، لكنه اختلط في آخر عمره. توفي في هذه السنة.
عبد الله بن المقفع
كان فصيح
العبارة، جيد الكلام، وله: " اليتيمة " كتاب فيه آداب حسان. فمن ذلك
أنه قال فيه: يا طالب العلم والأدب أعرف الأصول و الفصول فإن من الناس
من يطلب الفصول مع إضاعة الأصول، فلا تكون دركهم دركاً، ومن أحرز
الأصول اكتفى بها من الفصول، فإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل،
وأفضل الأمر أن تعقد على الإيمان، وتجتنب الكبائر، وتؤدي الفريضة، فإن
قدرت أن تجاوز إلى الفقه والعبادة، فهو أفضل، وأصل الأمر في إصلاح
البدن أن لا يحمل عليه من المآكل والمشارب والباءة إلا خفاً، ثم إن
قدرت أن تعلم عن جميع منافع الجسد ومضاره فهو أفضل. وأصل الأمر في
المعيشة أن لا تني عن طلب الحلال، وتحسن التقدير لما تفيد وتنفق، ولا
تغرنك سعة تكون فيها، فإن أعظم الناس خطراً أحوجهم إلى التقدير،
والملوك أحوج إليه من السوقة، فإن السوقة قد يعيشون بغير مال، والملوك
لا قوام لهم إلا بالمال. وإن ابتليت بالسلطان فتغوث بالعلماء، وأعلم أن
قائل المدح كمادح نفسه، و الراد له ممدوح، والقائل له معيب، إنك إن
تلتمس رضا الناس تلتمس ما لا يدرك، فعليك بالتماس رضا الأخيار ذوي
العقول، احرص الحرص كله على أن تكون خابراً بأمور عمالك، فإن المسيء
يفرق من خبرتك قبل أن يصيبه وقعك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن
يأتيه معروفك، تعرف الناس فيما يعرفون من أخلاقك، إنك لا تعاجل بالثواب
ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي.واعلم أن رأيك لا
يتسع لكل شيء، فدعه للمهم، فإن مالك لا يغني الناس كلهم، فخصص به أهل
الحق، وكرامتك لا تطيق العامة، فتوخ بها أ هل الفضل. واعلم إنما شغلت
من رأيك في غير المهم أزرى بك في المهم، ليس للملك أن يغضب؛لأن القدرة
من وراء حاجته، ولا أن يكذب؛ لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على ما لا
يريد، ولا أن يبخل؛ لأنه أول الناس عذراً في خوف الفقر، و لا أن يكون
حقوداً؛ لأن خطره قد جل عن المجازاة، وليتفقد الوالي حاجة الأحرار فيسد
بها طغيان السفلة فيقمعهم. وليتق حرم الكريم الجائع، واللئيم الشبعان،
فإنما يصول الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع. وأحوج الناس إلى التثبيت
الملوك، و اللئام أصبر أجساداً والكرام أصبر قلوباً. اعلم أن من أوقع
الأمور في الدين، وأنهكها للجسم، و أتلفها للمال، وأفسدها للعقل،
وأذهبها للوقار الأغلام بالنساء. ومن البلاء على الحر الغرم بهن، إنه
لا ينفك يسأم ما عنده، وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده، ومجهولاتهن خدع،
وربما هجم على ما يظنه حسناً، وهو قبيح حتى لو لم يبق في الأرض إلا
امرأة ظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق، وهذا من الحمق. ومن أتخم نفسه
الطعام والشراب والنساء كان مما يصيبه انقطاع تلك اللذات عنه لخمود نار
شهوته، فإن استطعت أن تضع نفسك دون غايتك بربوة فافعل، لا تجالس أميراً
بغير طريقته، فإنك إن لاقيت الجاهل بالعلم، والغني بالبيان؛ ضيعت عقلك،
و آذيت جليسك بحملك عليه ما لا يعرف، كمخاطبة الأعجمي بما لا يفقه، إذا
نزل بك مهم، فإن كان مما له حيلة فلا يعجز، وإن كان مما لا حيلة له فلا
يجرع. وقيل له: من أدبك؟ قال: نفسي، إذا رأيت شيئاً أذمه من غيري
اجتنبه. وكان ابن المقفع مع هذه الفصاحة والأدب كريماً. أخبرنا إسماعيل
بن أحمد السمرقندي قال: أخبرنا إسماعيل بن مسعدة الإسماعيلي قال: حدثنا
حمزة بن يوسف السهمي قال: أخبرنا عبد الله بن عدي الحافظ قال: أخبرنا
ابن مكرم قال: حدثنا عمرو بن علي قال: سمعت أبا عاصم يقول: حدثنا محمد
بن عمارة قال: لما ولي ابن شبرمة القضاء كتب إليه إسماعيل بن مسلم
المكي: إنه قد أصابتني حاجة. فكتب إليه: الحق بنا نواسك. فخرج إسماعيل،
فلما قدم تلقاه ابن المقفع. فقال: ما جاء بك بعد هذا السن؟ قال:
أصابتني حاجة فكتبت إلى ابن شبرمة،فكتب إلي: الحق بنا نواسك. قال:
استخف والله بك، لأنك من العجم، ولو كنت من العرب لبعث إليك في مصرك
تملك على نفسك ثلاثة أيام لا تأتيه. قال: فانطلق بي إلى منزله، فلما
كان في اليوم الثالث أتاني بسبعة آلاف درهم تنقص دريهمات، وأتمهما
بخلخال، وقال: خذها الآن إن شئت، فأقم عندي، وإن شئت فأته، وإن شئت
فارجع إلى مصرك. قلت: لا والله، لا آتيه ولا أقيم عندك. ورجعت إلى
بلدي. وروى شبيب بن شيبة قال: كنا وقوفاُ بالمربد وكان مواقف الأشراف
إذ أقبل ابن المقفع فتشبثنا
به،
وبادءناه بالسلام، فرد علينا، وقال: لو ملتم إلى داري، فودعتم أبدانكم،
وأرحتم دوابكم. فملنا، فلما استقر بنا المكان قال لنا: أي الأمم أعقل؟
فنظر بعضنا إلى بعض وقلنا: لعله أراد أصله من فارس. فقلنا: فارس. فقال:
ليسوا كذلك، إنهم ملكوا كثيراً من الأرض، وحووا عظيماً من الملك،
وغلبوا على كثيرمن الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئاً
بعقولهم، ولا ابتدعوا حكماً في أنفسهم. قلنا: فالروم. قال: أصحاب صبغة.
قلنا: فالصين. قال: أصحاب طرفة. قلنا: فالهند. قال: أصحاب فلسفة. قلنا:
السودان.قال: شر خلق الله. قلنا: الترك. قال: كلاب مختلسة. قلنا:
الخرز.قال: بقر سائمة. قلنا: فقل. قال: العرب. فضحكنا. قال: إني ماأردت
موافقتكم، ولكني إذا فاتني حظي من النسبة فلا يفوتني حظي من المعرفة؛
إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم،
وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره
ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما
يشاء فيحسن، ويقبح ما يشاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم،
وأعلمتهم قلوبهم وألسنتهم، فرفع الله بهم أكرم الفخر، وبلغ بهم أشرف
الذكر، وختم لهم بملك الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته منهم إلى
الحشر، فمن دفع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم، ودفع الحق باللسان أكبت
للجنان. واجتمع ابن المقفع بالخليل بن أحمد فقال الخليل: علمه أكثر من
عقله. وكان المقفع مع هذا يتهم في دينه، فروي عن المهدي أنه قال: ما
وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابن المقفع. وقد حكى المرتضى عن الجاحظ
أنه قال: كان المقفع ومطيع بن إياس ومنقذ بن زياد يتهمون في دينهم. قال
المرتضى: ومر ابن المقفع ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم، فتلمحه ثم
قال:به، وبادءناه بالسلام، فرد علينا، وقال: لو ملتم إلى داري، فودعتم
أبدانكم، وأرحتم دوابكم. فملنا، فلما استقر بنا المكان قال لنا: أي
الأمم أعقل؟ فنظر بعضنا إلى بعض وقلنا: لعله أراد أصله من فارس. فقلنا:
فارس. فقال: ليسوا كذلك، إنهم ملكوا كثيراً من الأرض، وحووا عظيماً من
الملك، وغلبوا على كثيرمن الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا
شيئاً بعقولهم، ولا ابتدعوا حكماً في أنفسهم. قلنا: فالروم. قال: أصحاب
صبغة. قلنا: فالصين. قال: أصحاب طرفة. قلنا: فالهند. قال: أصحاب فلسفة.
قلنا: السودان.قال: شر خلق الله. قلنا: الترك. قال: كلاب مختلسة. قلنا:
الخرز.قال: بقر سائمة. قلنا: فقل. قال: العرب. فضحكنا. قال: إني ماأردت
موافقتكم، ولكني إذا فاتني حظي من النسبة فلا يفوتني حظي من المعرفة؛
إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم،
وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره
ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما
يشاء فيحسن، ويقبح ما يشاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم،
وأعلمتهم قلوبهم وألسنتهم، فرفع الله بهم أكرم الفخر، وبلغ بهم أشرف
الذكر، وختم لهم بملك الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته منهم إلى
الحشر، فمن دفع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم، ودفع الحق باللسان أكبت
للجنان. واجتمع ابن المقفع بالخليل بن أحمد فقال الخليل: علمه أكثر من
عقله. وكان المقفع مع هذا يتهم في دينه، فروي عن المهدي أنه قال: ما
وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابن المقفع. وقد حكى المرتضى عن الجاحظ
أنه قال: كان المقفع ومطيع بن إياس ومنقذ بن زياد يتهمون في دينهم. قال
المرتضى: ومر ابن المقفع ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم، فتلمحه ثم قال:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني قسماً ... إليك مع الصدود لأميل
وكان ابن
المقفع قد كتب كتاب أمير المؤمنين لعبد الله بن علي، وكتب فيه:ومتى غدر
أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار،
والمسلمون في حل من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور، فكتب إلى سفيان بن
معاوية وهو أمير البصرة فقتله. وروى أبو بكر الصولي: أن الربيع الحاجب
قال: لما قرأ المنصور الأيمان الذي كتبه ابن المقفع قال: من كتب هذا؟
فقيل: رجل يقال له عبد الله بن المقفع يكتب لعميك سليمان وعيسى ابني
علي بالبصرة، فكتب إلى عامله بالبصرة: لا يفلتنك ابن المقفع حتى تقتله.
فاستأذن يوماً عليه مع وجوه أهل البصرة، فأخر سفيان إذنه وأذن لمن كان
معه قبله، ثم أذن له، فلما صار بالدهلز عدل به إلى حجرة، فقتل فيها،
وخرج القوم فرأوا غلمانه فسألوهم عنه، فقيل: دخل بعدكم، فخاصم سليمان
وعيسى ابنا علي سفيان بن معاوية المهلبي وأشخصاه إلى المنصور، وقامت
البينة العادلة بأن ابن المقفع دخل دار سفيان سليماً ولم يخرج منها.
فقال المنصور: أنا أنظر في هذا، وأقيده به.ووعدهم الغد، فجاء سليمان
ليلاً فقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله في صنيعك ومتبع أمرك أن تجري
قتله علي. قال: لا ترع واحضر. فحضر وقامت البينة. فقال المنصور: أرأيتم
إن قتلت سفيان بن معاوية بابن المقفع، ثم خرج ابن المقفع عليكم من هذا
الباب وأومأ إلى باب خلفه من ينصب لي نفسه حتى أقتله مكان سفيان؟
فرجعوا كلهم عن الشهادة واندفع الأمر. وروى أبو الحسن المدائني: أن ابن
المقفع كان يعبث بسفيان بن معاوية بن بزيد بن المهلب بالحيرة، ويضحك
منه، فغضب سفيان مرة وافترى عليه، فقال له ابن المقفع: يا ابن
المغتلمة، والله ما اكتفت أمك برجال العراق حتى نكحها رجال أهل الشام؟
وكانت أم سفيان: ميسون بنت المغيرة بنت المهلب. فاضطغن عليه سفيان،
فقدم سفيان بن علي، وعيسى بن علي ليكتبوا لعبد الله بن علي أماناً.
وكان ابن المقفع يكتب لعيسى بن علي، وكان يتنوق في الشرط، فكتب فيما
اشترط: إن قتله أمير المؤمنين فلا بيعة له. فقال المنصور: من يتوثق
لهم؟ قالوا: ابن المقفع. قال: فما أحد يكفيني ابن المقفع. فكتب أبو
الخصيب إلى سفيان بن معاوية يحكي له هذا الكلام عن أمير المؤمنين،
فاعتزم على قتله إن أمكنه ذلك فاستدعاه فقال: أتذكر ما كنت تقول؟ قال:
أنشدك الله أيها الأمير. فقال: أمي مغتلمة كما قلت إن لم أقتلك قتلة لم
يقتل بها أحد. فأمر بتنور فسجر حتى إذا حمي أمر أن تقطع أعضاؤه، فكلما
قطعوا عضواً قال: ألقوه في النار. فيلقونه وهو ينظر إليه، حتى أتى على
جميع جسده، ثم أطبق التنور وقال: ليس علي في المثلة بك حرج؛ لأنك زنديق
قد أفسدت الناس،واختفى أثره وقال عيسى لغلمانه: قل لسفيان: إن لم تكن
قتلته فخله، وإن كنت قتلته فو الله لأطالبنك بدية. قال سفيان: ما أدري
أين هو. فمضى عيسى إلى المنصور وقال: قتله سفيان فجيء بسفيان مقيداً،
وجعل عيسى يطلب الشهود ويخاطب المنصور،ودخل الشهود فشهدوا، فقال لهم
المنصور: قد شهدتم، فإن أتيتكم بابن المقفع حتى يخاطبكم، ما تروني
صانعاً بكم؟ فقام الشهود، وضرب عيسى بن علي عن ذلك الحديث.
العلاء بن بشر الاسكندراني مولى قريش: سمع من القاسم بن محمد، وأبي عبد
الرحمن الحبلي. روى عنه حيوة بن شريح، وابن لهيعة. وكان مستجاب الدعوة.
توفي بالاسكندرية في هذه السنة.
عمرو بن عبيد بن باب، أبو عثمان وباب من سبي فارس، كان عمرو يسكن
البصرة، وجالس الحسن البصري، ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة،
فقال بالقدر، ودعا إليه، واعتزل أصحاب الحسن، وكان له سمت وإظهار زهد،
ودخل على المنصور فوعظه. أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن
ثابت قال: خبرنا القاضي أبو عبد الله الحسن بن علي الصيمري قال: حدثنا
محمد بن عمران بن موسى الكاتب قال: أخبرنا علي بن هلرون قال: أخبرنا
عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر ، عن أبيه، عن عقبة بن هارون قال: دخل
عمرو بن عبيد على المنصور وعنده المهدي بعد أن بايع له ببغداد، فقال:
يا أبا عثمان، عظني. فقال: إن هذا الأمر أصبح في يدك لو بقي في يد غيرك
ممن كان قبلك لم يصل إليك، فأحذرك ليلة تمخض بيوم ليلة بعده، ثم أنشده:
ياأيهذا الذي قد غره الأمل ... ودون ما يأمل التنغيص و الأجل
ألا ترى
أنما الدنيا وزينتها ... كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا
حتوفها رصد، وعيشها نكد ... وصفوها كدر، وملكها دول
تظل تفرغ بالروعات ساكنها ... فما يصوغ له لين ولا جذل
كأنه للمنايا و الردى غرض ... تظل فيه بنات الدهر تنتصل
تديره ما أدارته دوائرها ... منها المصيب ومنها المخطىء الزلل
والنفس هاربة والموت يرصدها ... فكل عثرة رجل عندها جلل
والمرء يسعى بما يسعى لوارثه ... والقبرما يسعى له الرجل
قال: فبكى
المنصور. أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
الصيمري قال: حدثنا أبو عبيد الله المرزباني قال: حدثنا أبو الحسين عبد
الواحد بن محمد الحصيني قال: حدثنا أبو العيناء محمد بن القاسم قال:
حدثنا الفضل بن يعقوب قال: حدثني عمي إسحاق بن الفضل قال: بينا أن على
باب المنصور وإلى جنبي عمارة بن حمزة إذ طلع عمرو بن عبيد على حمار،
فنزل عن حماره، ونحى البساط برجله، وجلس دونه، فالتفت إلي عمارة فقال:
لا تزال بصرتكم ترمينا بأحمق. فما فصل كلامه من فيه، حتى خرج الربيع
وهو يقول: أجب أمير المؤمنين، جعلني الله فداك. فمر متوكئاً عليه،
فالتفت إلى عمارة فقلت: إن الرجل الذي استحمقت قد دعي وتركنا. قال:
كثيراً ما يكون هذا. فأطال اللبث، ثم خرج الربيع وعمرو متوكئاً عليه،
وهو يقول: يا غلام، حمار أبي عثمان. فما برح حتى على سرجه، وضم إليه
نشر ثوبه، و استودعه الله. فأقبل عمارة على الربيع فقال: لقد فعلتم
اليوم بهذا الرجل فعلاً لو فعلتموه بولي عهدكم لكنتم قد قضيتم حقه.
قال: فما غاب عنك والله ما فعله أمير المؤمنين أكثر وأعجب. قال: فإن
اتسع لك الحديث فحدثنا. فقال: ما هو إلا أن سمع أمير المؤمنين بمكانه،
فما أمهل حتى أمر بمجلس ففرش لبوداً، ثم انتقل هو و المهدي، وكان على
المهدي سواده وسيفه، ثم أذن له، فلما دخل عليه بالخلافة فرد عليه،
ومازال يدينه حتى أتكأه على فخذه، وتحفى به،ثم سأله عن نفسه وعن عياله
يسميهم رجلاً رجلاً وامرأة امرأة، ثم قال: يا أبو عثمان، عظني. فقال:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: " بسم الله الرحمن
الرحيم، والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم
لذي حجر، ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها
في البلاد الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في
البلاد، فأطثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب " إن ربك يا أبا
جعفر لبالمرصاد. قال:فبكى بكاءً شديداً كأنه لم يسمع تلك الآيات إلا في
تلك الساعة، وقال: زدني. فقال: إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر
نفسك منه ببعضها، واعلم أن هذا الأمر الذي صار إليك إنما كان في يد من
قبلك، ثم أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إلى من هو بعدك، وإني أحذرك ليلة
تمخض صبيحتها عن يوم القيامة. قال: فبكى والله أشد من بكائه الأول حتى
جف جفناه. فقال له سليمان بن خالد: رفقاً بأمير المؤمنين، قد أتعبته
اليوم فقال له عمرو: بمثلك ضاع الأمر وانتشر، لا أبالك، وماذا خفت على
أمير المؤمنين أن بكى من خشية الله؟ عز وجل؟ فقال له أمير المؤمنين: يا
أبا عثمان، أعني بأصحابك أستعن بهم. قال: أظهر الحق يتبعك أهله. قال:
بلغني أن محمد بن عبد الله بن حسن كتب إليك كتاباً. قال: قد جاءني كتاب
يشبه أن يكون كتابه. قال: فيم أجبته؟ قال: أوليس قد عرفت رأيي في السيف
أيام كنت تختلف إلينا، إني لا أراه، قال: أجل، ولكن تحلف لي ليطمئن
قلبي. قال: لئن كذبتك تقية لأحلفن لك بقية. قال: أنت والله الصادق
البر. ثم قال: قد أمرت لك بعشرة آلاف درهم تستعين بها على سفرك وزمانك.
قال: لا حاجة لي فيها. قال: والله لتأخذنها. قال: والله لا آخذها. فقال
له المهدي: يحلف أمير المؤمنين وتحلف؟! فترك المهدي وأقبل على المنصور
وقال: من هذا الفتى؟ قال: هذا ابني محمد، هو المهدي وولي العهد. قال:
والله لقد أسميته اسماً ما استحقه عمله، وألبسته لباساً ما هو من لبس
الأبرار، ولقد مهدت له أمراً أمتع ما يكون به، أشغل ما يكون عنه. ثم
التفت إلى المهدي وقال له: يا ابن أخي، إذا حلف أبوك حلف عمك، لأن أباك
أقدر على الكفارة من عمك. ثم قال: يا أبا عثمان، هل من حاجة؟ قال: نعم.
قال: وما هي؟ قال: لا تبعث إلي حتى آتيك. قال: إذاً لا تأتيني. قال: عن
حاجتي سألتني. قال: فاستحفظه الله وودعه ونهض، فلما ولى أمده ببصره وهو
يقول:
كلكم يمشي رويد ... كلكم يطلب صيد
غير عمرو بن عبيد
قال مؤلف
الكتاب رحمه الله: تكلم العلماء في عمرو بن عبيد لأجل مذهبه في القدر،
وكذبه جماعة منهم في حديثه، وكان يقول: إن كانت " تبت يد أبي لهب " فما
على أبي لهب من لوم. أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو نعيم
الحافظ قال: سمعت أبا عمرو عبد الوهاب بن محمد بن أحمد بن إبراهيم
العسال يقول: سمعت أبي يقول: سمعت مسبح بن حاتم البصري يقول: سمعت عبيد
الله بن معاذ العنبري يقول: سمعت أبي يقول: سمعت عمرو بن عبيد يقول
وذكر حديث الصادق والمصدوق فقال: لو سمعت الأعمش يقةل هذا لكذبته، ولة
سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أحببته، ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول
هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته،
ولو سمعت الله تعالى يقول هذا لقلت له: ليس على هذا أخذت ميثاقنا.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد الأصفهاني قال: حدثنا محمد بن عبد الله
الشافعي قال: حدثنا محمد بن بشير بن مطير قال: حدثنا سواربن عبد الله
قال:حدثنا الأصمعي قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء،
فقال: يا أبا عمرو، يخلف الله وعده؟ قال: لا. قال: أفرأيت إن وعد الله
على عمل عقاباً، يخلف وعده؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت ياأبا
عثمان، إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعد خلفاً ولا عاراً، إن تعد
شراً ثم تفعله، ترى ذاك كرماً وفضلاً، إنما أن تعد خيراً ثم لا تفعله
قال: أوجدني هذا في كلام العرب. قال: أما سمعت إلى قول الأول:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسن بن أبي بكر
قال: أخبرنا ابن إسحاق البغوي قال: حدثنا الحسن بن علبك قال: حدثنا
عمرو بن علي قال: سمعت عبد الله بن سلمة الأفطس يقول: سمعت عمرو بن
عبيد يقول: والله لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير على سواك
ماأجزته. توفي عمرو في هذه السنة ودفن بمران على ليالٍ من مكة. وقيل:
توفي سنة ثمان وأربعين.
مجالد بن سعيد الهمداني روى عن الشعبي، وقد طعن بعض المحدثين فيه.
هلال بن خباب، ابو العلاء مولى زيد بن صوحان العبدي، وهو بصري سكن
المدائن، وحدث بها عن أبي جحيفة السوائي، وسعيد بن جبير، وعكرمة. روى
عنه: مسعر، والثوري. وكان ثقة مأموناً، وقد غلظ بعض المحدثين فقال:
ويونس بن خباب أخو هلال. وقال آخر: هلال ويونس وصالح بنو خباب. وكان
ذلك غلط ليس بينهم قرابة، إنما هو اتفاق في اسم الأب. توفي هلال بن
خباب بالمدائن في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة خمس وأربعين ومائة
فمن الحوادث فيها خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه بالمدينة، وخروج أخيه إبراهيم بن عبد الله بعده
بالبصرة ومقتلهما رضي الله عنهما
فأما خبر
محمد: فإن أب جعفر لما انحدر ببني حسن رد رياحاً إلى المدينة، فألح في
الطلب وأحرج محمداً حتى عزم على الظهور، فخرج قبل وقته الذي فارق عليه
أخاه إبراهيم. وقيل: إن إبراهيم هو الذي تأخر عن وقته لجدري أصابه.
وخرج محمد في مائتين وخمسين فارساً، وتناوش الناس. وذلك في أول يوم من
رجب هذه السنة. وقيل: لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة. فأمر برياح وابن
مسلم فحبسا، وجعل يقول لأصحابه: لا تقتلوا. وصعد المنبر، فحمد الله
وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فإن كان من أمر هذه الطاغية
عدو الله أبي جعفر ما لم يخف عليكم من بناية القبة الخضراء التي بناها
معاندة لله في ملكه، وتصغيراً لكعبة الله الحرام، وإنما أخذ الله فرعون
حين قال: " أنا ربكم الأعلى " فإن أحق الناس بالقيام في هذا الدين
أبناء المهاجرين الأولين والأنصار، اللهم إنهم قد أحلو حرامك، وحرموا
حلالك، وأمنو من خوفت وأخافوا من أمنت، اللهم فاحصهم عدداً، واقتلهم
بدداً، ولا تغادر منهم أحداً ياأيها الناس، إني والله ما خرجت بين
أظهركم وأنتم عندي أهل قوة ولاشدة، ولكني اخترتكم لنفسي، والله وفي
الأرض مصر يعبد الله فيه إلا وقد أخذ لي. وكان المنصور يكتب على ألسن
قواده يدعونه إلى الظهور، ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يقول: لو
التقينا مال إلي القواد كلهم. ولما أخذ محمد المدينة استعمل عليها
عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بن عبد
المطلب بن عبد الله المخزومي، وعلى الشرط أبا القاسم عثمان بن عبيد
الله، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن، واستعمل
القاسم بن إسحاق على اليمن، وموسى بن عبد الله على الشام يدعوان إليه،
فقتلا قبل أن يصلا. واستفتي مالك بن أنس في الخروج مع محمد، وقيل له:
إن في أعناقنا لأبي حعفر بيعة. فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على
مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمدٍ، ولزم مالك بيته، وأرسل محمد إلى
إسماعيل بن عبد الله بن حعفر، فدعاه فقال: يا ابن أخي، أنت والله
مقتول، فكيف أبايعك؟ فارتدع الناس عنه قليلاً، وخرج محمد وأبو جعفر قد
خط مدينة بغداد بالقصب. فلما خرج مضى زجل من بني عامر، فسار من المدينة
تسع ليال، فقدم على أبي جعفر، فقال الربيع: ما حاجتك؟ فقال: لا بد لي
من أمير المؤمنين فأعلمه. فقال: سله عن حاجته وأعلمني. قال: قد أبى إلا
مشافهتك. فأذن له، فدخل فقال: يا أمير المؤمنين، خرج محمد بن عبد الله
بالمدينة. فقال: قتلته والله، أخبرني من معه، فسمى له. فقال: أنت
رأيته. قال: أنا رأيته وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأدخله أبو جعفر بيتاً، فلما أصبح جاءه الخبر، فأمر للرجل بتسعة آلاف،
لكل ليلة سارها ألفاً. وكتب أبو جعفر إلى محمد بن عبد الله: بسم الله
الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله: "
إنما الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو
يصلبوا " إلى قوله: " غفور رحيم " ولك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله إن
تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك وجميع إخوتك وأهل بيتك ومن
اتبعكم على دمائكم وأموالكم، وأسوغك ما أصبت من دمٍ أو مالٍ، وأعطيك
ألف ألف درهم، وما سألت من الكراع، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق
من في حبسي من أهل بيتك، وأن أؤمن كل من جاءك أو بايعك أو دخل في شيء
من أمرك، فإن أردت أن تتوثق لنفسك فوجه إلي من أحببت يأخذ لك مني من
الأمان والميثاق ما تتثق به. فكتب إليه محمد بن عبد الله: من عبد الله
المهدي محمد بن عبد الله إلى محمد بن عبد الله: " طسم، تلك آيات الكتاب
المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق " إلى قوله تعالى: " ما
كانوا يحذرون " وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت علي، فإن الحق
حقنا، وأغما ادعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشعبتنا، وإن أبانا علياً
كان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟ فوالدنا من النبيين محمد
صلى الله عليه وسلم ومن السلف أولهم إسلاماً: علي بن أبي طالب، ومن
الأزواج أفضلهم خديجة، وأول من صلى للقبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة،
ومن المولودين حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة، وإن هاشماً ولد علياً
مرتين، وإن عبد المطلب ولد حسناً مرتين، وأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولدني مرتين من قبل حسن وحسين، وإني
أوسط بني
هاشم نسباً، وأصرحهم أباً، إنما لم نعرف في العجم، ولم ننازع في أمهات
الأولاد، ولك عهد الله إن دخلت في طاعتي،أن أؤمنك على نفسك ومالك وعلى
كل أمر أحدثته، إلا حداً من حدود الله، أو حقاً لمسلم أو معاهد، وأنا
أولى بالأمر منك، وأوفى بالعهد؛ لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما
أعطيته رجالاً قبلي، فأي الأمانات تعطيني!؟ أمان ابن هبيرة، أم أمان
عمك عبد الله بن علي، أم أمان أبي مسلم. فكتب إليه أبو جعفر: أما بعد،
فإني قد فهمت كتابك، فإذا جل فخرك بقرابة النساء لتضل به الغوغاء، ولم
يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الأباء كالعصيبة، والأولياء، ولقد بعث
الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وله عمومة أربعة، فأجاب اثنان
أحدهما أبي، وأبي اثنان أحدهما أبوك، فقطع الله ولايتهما منه، وأما ما
فخرت به علي، فقد حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة، فأمر غيره
فصلى بالناس، وكان في الستة فدفعوه، وقتل عثمان وهو له متهم، وقاتله
طلحة والزبير، ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم، فإن كان لكم
فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم
وصلبوكم ونفوكم، فطلبنا بثأركم، وأورثناكم أرضهم، ولقد علمت أن مكرمتنا
في الجاهلية سقاية الحاج وزمزم، ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسل عمر
إلا بأبينا. ولما ظهر محمد شخص إليه الحسن بت معاوية فرده إلى مكة،
فغلب عليها ودخل مكة فخطب بالناس ونعى إليهم أبا جعفر، ودعا لمحمد بن
عبد الله فدعا أبو جعفر جعفر بن حنظلة النهراني، وكان أعلم الناس
بالحرب، وقد شهد مع مروان حروبه، فقال له: يا جعفر، قد ظهر محمد، فما
عندك؟ فقال: وأين ظهر؟ قال: بالمدينة. قال: فاحمد الله، ظهر حيث لا مال
ولا سلاح ولا كراع، ابعث مولى لك تثق به الآن ينزل بوادي القرى، فيمنعه
ميرة الشام، فيموت مكانه جوعاً. ففعل وندب أبو جعفر عيسى بن موسى لقتال
محمد وقال: لا أبالي أيهما قتل صاحبه وضم إليه أربعة آلاف من الجند،
وبعث معه محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين، وقدم كثير بن أبي حصين
العبدي فعسكر بفيد، وخندق عليه خندقاً حتى قدم عليه عيسى بن موسى، فخرج
به إلى المدينة، وقال أبو جعفر لعيسى حين ودعه: يا عيسى، إني أبعثك إلى
مابين هذين وأشار إلى جنبه فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك وابذل الأمان، وإن
تغيب فضمنهم إياه حتى يأتونك به، فإنهم يعرفون مذهبه. ففعل ذلك. ولما
وصل عيسى إلى فيد كتب إلى رجال من أهل المدينة، فتفرقوا عن محمد وخرجوا
إلى عيسى، وقد كان مع محمد نحو من مائة ألف، فلما دنا عيسى إلى المدينة
قال محمد لأصحابه: أشيروا علي في الخروج والمقام. فاختلفوا، فقال
بعضهم: إنك بأقل بلاد الله فرساًو طعاماً، وأضعفها رجلاً وسلاحاً،
والرأي بأن تسير بمن معك حتى تأتي مصر، فو الله لا يردك رادٌ، فتقابل
الرجل بمثل سلاحه ورجاله.وقال بعضهم: أعوذ بالله أن تخرج من المدينة،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأيتني في درع حصينة فأولتها
المدينة " فحفر خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حفره يوم
الأحزاب، وخطب الناس وقال: " إن هذا الرجل قرب منكم في عدد وعدة، وقد
احللتكم من بيعتي، فمن أحب فليقم، ومن أحب فلينصرف. فتسللوا وخرج قوم
منهم إلى الجبال حتى بقي في شرذمة، حتى قال بعضهم: نحن اليوم في عد
أصحاب بدرٍ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ونزل عيسى بالحرف صبيحة اثنتي
عشرة من رمضان من هذه السنة يوم السبت، فأقام يوم السبت ويوم الأحد
وغداة الاثنين، حتى استولى على سلع، وشحن وجوه المدينة بالخيل، وأقبل
على دابته يمشي وحوله نحو من خمسمائة وبين يديه راية، فوقف على الثنية
ثم نادى: يا أهل المدينة، إن الله قد حرم دماء بعضنا على بعض ، فهلم
إلى الأمان، فمن قام تحت رايتنا فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن
دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو
آمن، خلوا بيننا وبين صاحبنا، فإما لنا وإما له. فشتمه أهل المدينة،
فانصرف يومه ذاك، وعاد من الغد، ففعل مثل ذلك فشتموه، فلما كان في
اليوم الثالث أقبل بالخيل والرجال والسلاح، ونادى بنفسه: يا محمد، إن
أمير المؤمنين أمرني أن لا أقاتل حتى أعرض عليك الأمان، فلك الأمان على
نفسك وأهلك وولدك وأصحابك، وتعطي من المال كذا وكذا، ويقضى عنك دينك.
فصاح محمد إله عن هذا
فو الله
لقد علمت إنه لايثنيني عنكم فزع، ولا يقربني منكم طمع، و لحج القتال
وترجل، فقتل يومئذٍ نحو من سبعين بيده، وكانت الهزيمة قد بلغت الخندق،
فأسل عيسى بأبواب بقدر الخندق، فعبروا عليها حتى كانوا من ورائه، ثم
اقتتلوا أشد القتال من بكرة حتى العصر. وفي رواية أخرى: أمرهم عيسى
فطرحوا حقائب الإبل في الخندق، وأمر ببابي دار سعد بن مسعود التي في
الثنية، فطرحا في الخندق، فجازت الخيل، فالتقوا، فانصرف محمد قبل
الظهر، فاغتسلوا وتحنط، فقيل له: الحق بمكة. فقال: لو خرجت لقتل أهل
المدينة، والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل. فعرقب دابته، وعرقب أصحابه
دوابهم، فلم يبق أحدٌ إلا كسر غمد سيفه، فجاز رجل فضرب محمداً بالسيف
دون شحمة أذنه اليمنى، فبرك لركبتيه، وتعاونوا عليه. وصاح حميد بن
قحطبة: لا تقتلوه، فكفوا، فجاء حميد فاجتز رأسه، وكان مع محمد سيف،
فأعطاه قبل أن يقتل رجلاً من التجار له عليه دين أربعمائة دينار. فقال
خذ هذا السيف، فإنك لا تلقى أحداً من آل أبي طالب إلا أخذه وأعطاك
حقك،فكان السيف عنده حتى ولي جعفر بن سليمان المدينة، فأخبر عنه، فدعا
الرجل وأخذ السيف منه وأعطاه أربعمائة دينار وقتل محمد رضي الله عنه
بعد العصر يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من رمضان، فلما أصبحوا أرسلت
أخته زينب وابنته فاطمة إلى عيسى: إنكم قد قتلتم هذا الرجل وقضيتم منه
حاجتكم، فلو أذنتم لنا فواريناه. فأذن في ذلك، فدفنوه بالبقيع، وأمر
عيسى بصلب أصحابه، وبعث عيسى بألوية فوضعها في أماكن ونادى مناديه: من
دخل تحت لواء فهو آمن، أو دخل داراً من هذه الدور فهو آمن. وجعل عيسى
يختلف إلى المسجد، فأقام بالمدينة أياماً، ثم شخص صبح تاسع عشر رمضان
يريد مكة، وحمل رأس محمد إلى أبي جعفر وهو بالكوفة، فأمر به فطيف به في
طبق أبيض، فلما أمسى بعث به في الآفاق، وتتبع من هرب من الخارجين معه
فقتل أكثرهم. ولما خرج عيسى من المدينة استخلف عليها كثير بن حصين،
فمكث والياً عليها شهراً، ثم قدم عبد الله بن الربيع الحارثي والياً
عليها من قبل أبي جعفر. وفيها: ثارت السودان بالمدينة وواليها عبد الله
بن الربيع، فهرب منهم. وكان السبب الذي هيج ذلك أن رياح بن عثمان
استعمل أبا بكر بن عبد الله بن سبرة على صدقة أسدٍ وطيء،فلما خرج محمد
أقبل إليه أبو بكر بما كان جبى،وشمر معه، فلما استخلف عيسى كثير بن
حصين أخذ أبا بكر فضربه سبعين سوطاً وحبسه، ثم قدم عبد الله بن الربيع
والياً يوم السبت لخمس بقين من شوال سنة خمسٍ وأربعين، فنازع بعض جنده
بعض تجار في بعض ما يشترون منهم، فخرجت طائفة منهم يعني التجار فشكوا
ذلك إلى ابن الربيع فنهرهم وشتمهم، فطمع فيهم الجند، فانتهبوا شيئاً من
طعام السوق ، وعدوا على رجل من الصرافين فغالبوه على كيسه، فاجتمع أهل
المدينة فشكوا ذلك إلى ابن الربيع فلم ينكر ذلك،وجاء رجل من الجند
فاشترى من جزار لحماً ولم يعطه ثمنه وشهر عليه السيف، فطعنه الجزار
بشفرة فخر عن دابته، واعتوره الجزارون فقتلوه، وتنادى السودان على
الجند وهم يروحون إلى الجمعة فقتلوهم بالعمد في كل ناحية، حتى أمسوا،
فلما كان الغد هرب ابن الربيع، ونفخ السودان في بوق لهم، فكان كل أسود
يسمعه فيؤم الصوت، وذلك في يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة، وعدوا
على ابن الربيع الناس في الجمعة، فأعجلوه عن الصلاة، وخرج حتى أتى
السوق، فمر بمساكين خمسة وهم يسألون الناس، فحمل عليهم بمن معه
فقتلوهم، وحمل عليه السودان، فهرب ابن الربيع إلى البقيع فرهقوه، فنثر
لهم دارهم فأشغلوا بها، ومضى لوجهه حتى نزل بطن نخلة، ووقع السودان في
طعام لأبي جعفر من سوق ودقيق وزيت، فانتهبوه. فخرج ابن أبي سبرة من
السجن في حديده، فخطب الناس وصلى بهم، ودعاهم إلى الطاعة، وقال ابن أبي
سبرة لجماعة من سادات العبيد: والله لئن ثبتت علينا هذه الثلاثة عند
أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى إنه لاصطلام البلد وأهله، فذهبوا إلى
العبيد فكلموهم. فذهبوا إليهم فقالوا: مرحباً بكم يا موالينا، والله ما
قمنا إلا إبقاء لكم. وأقبلوا بهم إلى المسجد فردوا ما انتهبوه، فرجع
ابن الربيع فقطع أيد جماعة من السودان.الله لقد علمت إنه لايثنيني عنكم
فزع، ولا يقربني منكم طمع، و لحج القتال وترجل، فقتل يومئذٍ نحو من
سبعين بيده، وكانت الهزيمة قد بلغت الخندق، فأسل عيسى بأبواب بقدر
الخندق، فعبروا عليها حتى كانوا من ورائه، ثم اقتتلوا أشد القتال من
بكرة حتى العصر. وفي رواية أخرى: أمرهم عيسى فطرحوا حقائب الإبل في
الخندق، وأمر ببابي دار سعد بن مسعود التي في الثنية، فطرحا في الخندق،
فجازت الخيل، فالتقوا، فانصرف محمد قبل الظهر، فاغتسلوا وتحنط، فقيل
له: الحق بمكة. فقال: لو خرجت لقتل أهل المدينة، والله لا أرجع حتى
أقتل أو أقتل. فعرقب دابته، وعرقب أصحابه دوابهم، فلم يبق أحدٌ إلا كسر
غمد سيفه، فجاز رجل فضرب محمداً بالسيف دون شحمة أذنه اليمنى، فبرك
لركبتيه، وتعاونوا عليه. وصاح حميد بن قحطبة: لا تقتلوه، فكفوا، فجاء
حميد فاجتز رأسه، وكان مع محمد سيف، فأعطاه قبل أن يقتل رجلاً من
التجار له عليه دين أربعمائة دينار. فقال خذ هذا السيف، فإنك لا تلقى
أحداً من آل أبي طالب إلا أخذه وأعطاك حقك،فكان السيف عنده حتى ولي
جعفر بن سليمان المدينة، فأخبر عنه، فدعا الرجل وأخذ السيف منه وأعطاه
أربعمائة دينار وقتل محمد رضي الله عنه بعد العصر يوم الاثنين لأربع
عشرة خلت من رمضان، فلما أصبحوا أرسلت أخته زينب وابنته فاطمة إلى
عيسى: إنكم قد قتلتم هذا الرجل وقضيتم منه حاجتكم، فلو أذنتم لنا
فواريناه. فأذن في ذلك، فدفنوه بالبقيع، وأمر عيسى بصلب أصحابه، وبعث
عيسى بألوية فوضعها في أماكن ونادى مناديه: من دخل تحت لواء فهو آمن،
أو دخل داراً من هذه الدور فهو آمن. وجعل عيسى يختلف إلى المسجد، فأقام
بالمدينة أياماً، ثم شخص صبح تاسع عشر رمضان يريد مكة، وحمل رأس محمد
إلى أبي جعفر وهو بالكوفة، فأمر به فطيف به في طبق أبيض، فلما أمسى بعث
به في الآفاق، وتتبع من هرب من الخارجين معه فقتل أكثرهم. ولما خرج
عيسى من المدينة استخلف عليها كثير بن حصين، فمكث والياً عليها شهراً،
ثم قدم عبد الله بن الربيع الحارثي والياً عليها من قبل أبي جعفر.
وفيها: ثارت السودان بالمدينة وواليها عبد الله بن الربيع، فهرب منهم.
وكان السبب الذي هيج ذلك أن رياح بن عثمان استعمل أبا بكر بن عبد الله
بن سبرة على صدقة أسدٍ وطيء،فلما خرج محمد أقبل إليه أبو بكر بما كان
جبى،وشمر معه، فلما استخلف عيسى كثير بن حصين أخذ أبا بكر فضربه سبعين
سوطاً وحبسه، ثم قدم عبد الله بن الربيع والياً يوم السبت لخمس بقين من
شوال سنة خمسٍ وأربعين، فنازع بعض جنده بعض تجار في بعض ما يشترون
منهم، فخرجت طائفة منهم يعني التجار فشكوا ذلك إلى ابن الربيع فنهرهم
وشتمهم، فطمع فيهم الجند، فانتهبوا شيئاً من طعام السوق ، وعدوا على
رجل من الصرافين فغالبوه على كيسه، فاجتمع أهل المدينة فشكوا ذلك إلى
ابن الربيع فلم ينكر ذلك،وجاء رجل من الجند فاشترى من جزار لحماً ولم
يعطه ثمنه وشهر عليه السيف، فطعنه الجزار بشفرة فخر عن دابته، واعتوره
الجزارون فقتلوه، وتنادى السودان على الجند وهم يروحون إلى الجمعة
فقتلوهم بالعمد في كل ناحية، حتى أمسوا، فلما كان الغد هرب ابن الربيع،
ونفخ السودان في بوق لهم، فكان كل أسود يسمعه فيؤم الصوت، وذلك في يوم
الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة، وعدوا على ابن الربيع الناس في الجمعة،
فأعجلوه عن الصلاة، وخرج حتى أتى السوق، فمر بمساكين خمسة وهم يسألون
الناس، فحمل عليهم بمن معه فقتلوهم، وحمل عليه السودان، فهرب ابن
الربيع إلى البقيع فرهقوه، فنثر لهم دارهم فأشغلوا بها، ومضى لوجهه حتى
نزل بطن نخلة، ووقع السودان في طعام لأبي جعفر من سوق ودقيق وزيت،
فانتهبوه. فخرج ابن أبي سبرة من السجن في حديده، فخطب الناس وصلى بهم،
ودعاهم إلى الطاعة، وقال ابن أبي سبرة لجماعة من سادات العبيد: والله
لئن ثبتت علينا هذه الثلاثة عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى إنه
لاصطلام البلد وأهله، فذهبوا إلى العبيد فكلموهم. فذهبوا إليهم فقالوا:
مرحباً بكم يا موالينا، والله ما قمنا إلا إبقاء لكم. وأقبلوا بهم إلى
المسجد فردوا ما انتهبوه، فرجع ابن الربيع فقطع أيد جماعة من السودان.
وفيها أسست مدينة بغداد
وكان سبب
ذلك: أن أبا جعفر بنى حين أفضي الأمر إليه الهاشمية قبالة مدينة ابن
هبيرة إلى جنب الكوفة، وبنى أبو جعفر أيضاً مدينة بظهر الكوفة سماها
الرصافة. فلما ثارت الروندية بأبي جعفر في مدينته التي يقال لها:
الهاشمية كره سكناها لاضطراب من اضطرب عليه من الروندية، ولم يأمن على
نفسه. فخرج يرتاد موضعاً يتخذه مسكناً لنفسه وجنده، ويبني به مدينة،
فانحدر إلى جرجرايا، ثم صار إلى بغداد، ثم مضى إلى الموصل، ثم عاد إلى
بغداد فقال: هذا موضع صالح، وهذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء،
يأتينا فيها كل ما في البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينيةو ما
حول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيها كل شيء بالشام و الرقة، وضرب عسكره على
الصراة، وخط المدينة، ووكل بكل ربع قائداً. أخبرنا عبد الرحمن بن
القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني محمد بن علي الورق
وأحمد بن علي المحتسب قالا: أخبرنا أبو محمد بن جعفر بن هارون الكوفي
قال: حدثنا الحسن بن محمد السكوني قال: حدثنا محمد بن خلف قال: زعم عبد
الله بن أبي سعيد قال: حدثني أحمد بن حميد بن جبلة قال: حدثني أبي، عن
جدي جبلة قال: كانت مدينة أبي جعفر قبل بنائها مزرعة البغداديين يقال
لها: المباركة، وكانت لستين نفساً من البغداديين، فعوضهم عنها عوضاً
أرضاهم فأخذ جدي جبلة قسمة فيهم. أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد
بن علي قال: ذكر علماء الأوائل أن أقاليم الأرض السبعة، وأن الهند
رسمته فجعلت صفة الأقاليم كأن حلقة، فالإقليم الأول منها: إقليم بلاد
الهند، والإقليم الثاني إقليم الحجاز، والإقليم الثالث إقليم مصر،
والإقليم الرابع إقليم بابل، وهو أوسط الأقاليم وأعمرها ، وفي جزيرة
العرب، وفيه العراق الذي هو سرة الدنيا، وبغداد في أوسط هذا الإقليم.
والإقليم الخامس بلاد الروم، والإقليم السادس بلاد الترك، والإقليم
السابع بلاد الصين. والإقليم الرابع الذي فيه العراق وفي العراق بغداد
هو صفوة الأرض ووسطها لا يلحق من فبه عيب سرف ولا تقصير، فكذلك اعتدلت
ألوان أهله، وامتدت أجسامهم، وسلموا من شقرة الرومو الصقالبة، ومن سواد
الحبش وسائر أجناس السودان، ومن غلظ الترك، ومن جفاء أهل الجبال و
خراسان، ومن دمامة أهل الصين ومن جانسهم، واجتمعت في أهل هذا القسم من
الأرض محاسن جميع الأقطار، وكما اعتدلوا في الخلقة، كذلك لطفوا في
الفطنة و التمسك بالعلم والآداب؛ وهم أهل العراق ومن جاورهم. أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن
بي علي بن عبد الله المقرىء قال: أخبرنا محمد بن جعفر التميمي قال:
أجبرنا أبو أحمد الجلوذي قال: حدثنا محمد بن زنجويه، عن عائشة قال: كتب
عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى كعب الأحبار اختر لي المنازل.قال:
فكتب: يا أمير المؤمنين إنه بلغنا أن الأشياء اجتمعت فقال السخاء: أريد
اليمن. فقال حسن الخلق: أنا معك. فقال الجفاء: أريد الحجاز فقال الفقر:
وأنا معك. فقال البأس: أريد الشام. فقال السيف: وأنا معك . فقال العلم
أريد العراق. فقال العقل: وأنا معك. فقال الغنى: أريد مصر. فقال الذل:
وأنا معك. فاختر لنفسك، فلما ورد الكتاب على عمر قال: فالعراق إذن،
فالعراق إذن. أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: قرأت على
أبي بكر أحمد بن محمد اليزدي، عن أبي شيخ عبد الله بن محمد بن حيان
قال: حدثني أبو الحسن البغدادي قال: قال إبراهيم بن عبد الله: جئت إلى
الجاحظ فقال: الأمصار عشرة: الصناعة ببصرة، والفصاحة بالكوفة، والخير
ببغداد، والغدر بالري، الحسد بهراة، والجفاء بنيسابور، والبخل بمرو،
والطرمذة بسمرقند، والمروءة ببلخ، والتجارة بمصر. وقال سليمانبن خالد:
خرج المنصور يرتاد منزلاً، فخرجنا على ساباط، فتخلف بعض أصحابي لرمد
أصابه، وأقام يعالج عينيه، فسأله الطبيب أين يريد أمير المؤمنين؟ قال:
يرتاد منزلاً قال: فإنا نجد في كتاب عندنا أن رجلاً يدعى مقلاصاً يبني
مدينة بين دجلة والصراة تدعى: الزوراء، فإذا أسسها وبنى عرقأ منها أتله
فتق من الحجاز فقطع بناءها وأقبل على إصلاح ذلك الفتق، فإذا كاد يلتئم
أتاه فتق من البصرة هو أكبر منه، فلا يلبث الفتقان أن يلتئما ثم يعود
إلى بنائها فيتمه، ثم يعمر طويلاً، ويبقى الملك في عقبه. قال سليمان:
فإن
أمير
المؤمنين لبأطراف الجبال في ارتياد منزل إذا قدم علي صاحبي فأخبرني
الخبر، فأخبرت به أمير المؤمنين. فدعا الرجل فحدثه الحديث، فكر راجعاً
عوده على بدئه وقال: والله أنا ذلك لقد سميت مقلاصاً وأنا صبي، ثم
انقطعت عني، ثم شاور في ذلك، فاتفق رأي القوم على بغداد، وقالوا له:
تجيئك الميرة من العرب في الفرات وطرائف مصر والشام، وتجيئك الميرة في
السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من
أرمينية وما تصل بها في تامرا حتى تصل إلى الزاب، وتجيئك الميرة من
الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة، وأنت بين أهار لا يصل إليك عدوك
إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدو
وأنت بين دجلة والفرات، لا يجيئك أحدٌ من المشرق أو المغرب إلا احتاج
إلى العبور بدجلة والفرات خنادق لمدينة أمير المؤمنين. فوجه في حشر من
الصناع والفعلة من الشاك والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة
فأحضروا، وأمر قوم من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة
بالهندسة، وكان ممن أحضر الحجاج بن أرطأة وأبو حنيفة والنعمان بن ثابت.
وأمر بخط المدينة، وحفر الأساسات، وضرب اللبن، وحرق الآجر، وكان أول ما
ابتدأ به في عملها سنة خمس وأربعين ومائة، وأحب أن ينظر إليها، فأمر أن
تخط بالرماد، وأقبل أن يدخل من كل باب، ويمر في فضلاتها وطاقاتها
ورحابها وهي مخطوطة بالرماد، وأمر أن يحفر أساس ذلك على ذلك الرسم. قال
ابن عياش: فوضع أول لبنة بيده وقال: بسم الله وبالله، و " الأرض لله
يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " ثم قال: ابنو على بركة
الله وعونه. وقال حماد التركي: لما وقع اختيارهم على موضع بغداد، وكان
في موضع الخلد دير وفي فرات الصراة قرية، وكانت القرية تسمى العتيقة،
وهي التي افتتحها المثنى بن حارثة، وجاء المنصور فنزل في موضع الخلد
غللا الصراة، فوجده قليل البق، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من
الفرات ودجلة. فبناه، وكان موضع قرى ومزارع. ولما احتاج المنصور في
بنائه إلى الأنقاض قال لخالد بن برمك: ما ترى في نقض بناء كسرى
بالمدائن وحمل نقضه إلى مدينتي هذه. فقال: لا أرى ذلك. قال: ولم؟ قال:
لأنه علم من أعلام الإسلام يستدل به الناظر إليه على أنه لم يكن ليزال
مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما هو بأمر دين. فقال: أبيت إلا الميل
إلى أصحابك العجم. وأمر أن ينقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، وحمل
نقضه، فنظر في مقدار ما يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثمن
الجديد، فرفع ذلك إلى المنصور، فدعا خالداً فأخبره وقال: ما ترى؟ قال:
قد كنت أرى أن لا تفعل، فأما إذ فعلت فأرى أن تهدم الآن حتى تلحق
بقواعده لئلا يقال إنك عجزت عن هدمه. فأعرض المنصور عن ذلك وأمر أن لا
يهدم. أخبرنا أبو المنصور عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أبو
بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا
محمد بن عمر المرزباني قال: أخبرنا أبو الحسين عبد الواحد بن محمد
الحصيني قال: حدثني أبو علي أحمد بن إسماعيل قال: لما صارت الخلافة إلى
المنصور أمر بنقض إيوان المدائن فاستشار جماعة من أصحابه، وكلهم أشار
عليه بمثل ما هم، وكان معه كاتب من الفرس فاستشاره في ذلك فقال له: يا
أمير المؤمنين، أنت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من تلك
القرية يعني المدينة وكان له بها مثل ذلك المنزل، ولأصحابه مثل تلك
الحجر، فخرج أصحاب ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جاءوا مع ضعفهم
إلى صاحب هذا الإيوان مع عزته وصعوبة أمره، حتى غلبوه وأخذوه من يديه
قسراً وقهراً، ثم قتلوه، فيجيء الجائي من أقاصي الأراضي فينظر إلى تلك
المدينة وإلى هذا الإيوان، ويعلم أن صاحبا قهر صاحب هذا الإيوان، فلا
يشك أنه بأمر الله عز وجل، وأنه هو الذي أيده، وكان معه ومع أصحابه،
وفي تركه فخر لكم، فاستغشاه المنصور واتهمه لقربته من القوم، ثم بعث في
بعض الإيوان فنقض منه الشيء اليسير، ثم كتب إليه أنه يغرم في نقضه أكثر
مما يسترجع، وأن هذا تلف للأموال وذهابها. فدعا الكاتب فاستشاره فيما
كتب به إليه، فقال له: قد كنت أشرت بشيء لم يقبل مني، وأما الآن فإني
آنف لكم أن يكونوا أولئك بنوا بناءً تعجزون أنتم عن هدمه والصواب أن
تبلغ به الماء، ففكر المنصور
فعلم أنه
قد صدق، ثم نظر فإذا هدمه يتلف الأموال فأمر بالإمساك عنه. وقيل إن أبا
جعفر لما أمر بحفر الخنادق وأنشأ بناء الأساس أمر أن يجعل عرض السور من
أسفله خمسين ذراعاً، وقدر أعلاه عشرين ذراعاً، فلما بلغ البناء قامة
أتاه خروج محمد فقطع البناء، وخرج إلى الكوفة، فلما فرغ من حرب محمدٍ
رجع إلى بغداد. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن
ثابت قال: أخبرنا الحسن بن أبي طالب قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عروة
قال: قال رجل من ولد الربيع. لما أراد أبو جعفر أن يبني لتفسه كان يؤتى
من كل مدينة بتراب فيعفنه فيصير عقارب وهوام، حتى أتى بتربة بغداد،
فخرج صرارات، واتى الخلد فنظر إلى دجلة والفرات فأعجبه، فرآه راهب كان
هناك وهو يقدر بناءها. فقال: لا يتم؛ فبلغه فأتاه. فقال: نعم!. نجد في
كتبنا ين الذي يبنيها ملك يقال له: مقلاص. قال أبو جعفر: كانت والله
أمي تلقبني في صغري مقلاصاً. أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أبو بكر
الخطيب قال: أخبرنا ابن أبي علي المعلى قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن
جعفر قال: أخبرنا محمد بن جرير إجازة: أن أبا جعفر ابتدأ أساس المدينة
سنة خمس و أربعين ومائة، واستتم البناء سنة ست وأربعين ومائة وسماها
مدينة السلام.قال الخطيب: وبلغني أنه لما عزم على بنائها أحضر
المهندسين وأهل المعربة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرض،
فمثل لهم صفتها التي في نفسه، ثم أحضر الفعلة والصناع من النجارين
والحفارين والحدادين وغيرهم، وأجرى عليهم الأرزاق، وكتب إلى كل بلد في
حمل من فيه ممن يقهم شيئاً من أمر البناء، ولم يبتدىء في البناء حتى
تكامل بحضرته من أهل الصناعات ألوفٌ كثيرة، ثم اختطها وجعلها مدورة.
ويقال: لا يعرف في أقطار الأرض كلها مدينة مدورة سواها، ووضع أساسها في
وقت اختاره نوبخت المنجم. أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي
قال: أخبرنا أبو عمر الحسن بن عثمان بن الفلو قال: أخبرنا جعفر بن محمد
بن أحمد بن الحكم قال: حدثني أبو الفضل العباس بن أحمد الحداد قال:
سمعت أحمد البربري يقول: مدينة أبي جعفر ثلاثون ومائة جريب، خنادقها
وسورها ثلاثون جريباً، وانفق عليها ثمانية عشر ألف ألف. قال الخطيب:
ورأيت في بعض الكتب أن المنصور أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب
فيها والأبواب والأسواق إلى أن فرغ من بنائها أربعة آلاف وثلاثة
وثمانين درهماً، مبلغها من الفلوس مائة ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس،
وذلك أن الأستاذ من الصناع كان يعمل يومه بقيراطٍ إلى خمس حبات،
والروزداري يعمل بحبتين إلى ثلاث حبات، وهذا خلاف ما تقدم ذكره، وبين
القولين تفاوت كثير. أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت
الخطيب قال: أخبرنا محمد بن علي الوراق قال: أخبرنا محمد بن جعفر
النحوي قال: حدثنا الحسن بن محمد السكوني قال: حدثنا محمد بن خلف قال:
قال يحيى بن الحسن بن عبد الخلق: خط المدينة ميل في ميل، ولبها ذراع في
ذراع. قال ابن خلف: قال أحمد بن محمد الشروي: وهدمنا من السور الذي على
باب المحول قطعة، فوجدنا فيها لبنة مكتوبٌ عليها بمغرة وزنها مائة
وسبعة عشر رطلاً، فوزناها فوجدناها كذلك. قال الخطيب: وبلغني عن محمد
بن خلف أن أبا حنيفة النعمان بن ثابت كان يتولى القيام بضرب لبن
المدينة وعدده حتى فرغ من استتمام بناء حائط المدينة مما يلي الخندق.
وكان أبو حنيفة يعد اللبن بالقصب، وهو أول من فعل ذلك، فاستفاده الناس
منه. قال مؤلف الكتاب رحمه الله: وقد روي في حديث آخر أن المنصور أراد
أبا حنيفة على القضاء فامتنع، فحلف لا بد أن يتولى له، فولاه القيام
ببناء المدينة وضرب اللبن ليخرج من يمينه. فتولى ذلك. قال الخطيب: وذكر
محمد بن إسحاق البغوي أن رياحاً البناء حدثه وكان ممن كان يتولى بناء
سور مدينة المنصور قال: كان بين كل باب من أبواب المدينة إلى الباب
الآخر ميل في كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنتان وستون ألف
لبنة، فلما بنينا الثلث من السور لقطناه، فصيرنا في الساف مائة ألف
لبنة وخمسين ألف لبنة، فلما جاوزنا الثلثين لقطناه فصيرنا في البناء
مائة ألف لبنة وأربعين ألفاً إلى أعلى. وذكر أبو بكر بن ثابت أن ارتفاع
هذا السور خمسة وثلاثون ذراعاً، وعرضه من أرضه نحو من عشرين ذراعاً،
وجعل لها أربعة أبواب، فإذا
جاء أحد
من الحجاز دخل من باب الكوفة، وإذا جاء أحد من المغرب دخل من باب
الشام، فإذا جاء أحد من الأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين دخل
من باب البصرة، وإذا جاء من المشرق دخل من باب خراسان، فمن باب خراسان
إلى باب الكوفة ألفا ذراع ومائتا ذراع، ومن باب البصرة إلى باب الشام
ألفا ذراع ومائتا ذراع، وعلى كل أزج من أزاج هذه الأبواب مجلس ودرجة،
وعليه قبة عظيمة، وعليه تمثال تديره الريح. وكان المنصور يجلس إذا أحب
أن ينظر إلى من يقبل من باب خراسان في القبة التي تليه، وإذا أحب أن
ينظر إلى الأرباض وما والاها جلس في قبة باب الشام، وإذا أحب النظر إلى
الكرخ جلس في قبة باب البصرة، وإذا أحب النظر إلى البساتين جلس في
القبة التي على باب الكوفة، وعلى كل باب من أبوا ب المدينة باب حديد،
نقل تلك الأبواب من واسط وهي أبواب الحجاج، وأن الحجاج نقلها من مدينة
بناها سليمان بن داود عليهما السلام، وكان على أبواب المدينة مما يلي
الرحاب سور وحجار، وعلى كل باب قائد، فكان على باب الشام سليمان بن
مجالد في ألف، وعلى باب البصرة أبو الأزهر التميمي في ألف، وعلى باب
الكوفة خالد العكي في ألف، وعلى باب خراسان مسلمة بن صهيب الغساني، و
جعل بين كل ثمانية وعشرين برجاً، إلا بين باب البصرة وباب الكوفة، فإنه
يزيد واحداً وعمل عليها الخنادق، وجعل لها سورين وفيصلين، وكان لا يدخل
أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من هذه الأبواب إلا راجلاً؛ إلا عمه
داود، فإنه كان منقرساً، كان يحمل في محفة. ومحمد المهدي ابنه، وكانت
تكنس الرحاب في كل يوم يكنسها الفراشون، ويحمل التراب إلى خارج
المدينة. وقال له عمه عبد الصمد: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير، فلو
أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب، فلم يأذن له. فقال: يا أمير المؤمنين،
عدني بعض بغال الروايا التي تصل إلى الرحاب. فقال: يا ربيع، بغال
الروايا تصل إلى رحابي، فقال: نعم. فقال: تتخذ الساعة قنى بالساج من
باب خراسان حتى تجيء إلى قصري. وكانت الأبنية متصلة بالمدينة من شاطىء
دجلة إلى الكبش و الأسد، وهما موضعان قريبٌ من قبر إبراهيم الحربي.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: قال لي هلال
بن المحسن: حدثني بشر بن علي بن عبيد الكاتب قال: كنت أجتاز بالكبش
والأسد فلا أتخلص من أسواقها من كثرة الزحمة، ثم بنى القصر والجامع،
وكانت مساحة قصره أربعمائة ذراع، ومساحة المسجد الأول مائتين في
مائتين، وأساطين الخشب في المسجد كل أسطوانة قطعتين معقبة بالعقب و
الغراء وضباب الحديد إلا خمساً أو ستاً عند المنارة، فإن كل أسطوانة
قطع ملفقة، وكان في صدر قصره القبة الخضراء، من الأرض إلى رأس القبة
الخضراء ثمانون ذراعاً، وعلى رأس القبة تمثال فرس عليه فارس. أخبرنا
محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو القاسم التنوخي قال: سمعت جماعة من
مشايخنا يذكرون أن القبة الخضراء كان على رأسها صنم على صورة فارس في
يده رمح، فكان السلطان إذا رأى ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات ومد
الرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت حتى
ترد عليه الأخبار بأن خارجياً قد نجم من تلك الجهة. قال التنوخي:
وحدثني أبو الحسن بن عبيد الزجاج الشاهد قال: أذكر في سنة سبع
وثلاثمائة وقد كسرت العامة الحبوس بمدينة المنصور، فأفلت من كان فيها،
وكانت الأبواب الحديد التي للمدينة باقية فغلقت، وتتبع أصحاب ا لشرط من
أفلت من الحبو س فأخذوا جميعهم حتى لم يفتهم منهم أحدٌ. أخبرنا عبد
الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أخمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسين بن
محمد المؤدب قال: أخبرني إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم بجرجان قال:
حدثنا أبو إسحاق الهجيمي قال: قال: أبو العيناء: بلغني أن المنصور جلس
يوماً فقال للربيع: انظر من بالباب من وفود الملوك فأدخله. فقال: وافد
من قبل ملك الروم. فقال: أدخله. فدخل فبينا هو جالس عبد أمير المؤمنين
إذ سمع المنصور صرخة كادت تقلع القصر. فقال: يا ربيع، ينظر ما هذا؟
قال: ثم سمع صرخة هي أشد من الأولى. فقال: يا ربيع، ينظر ما هذا؟ قال:
ثم سمع صرخة هي أشد من الأوليين، فقال: يا ربيع، اخرج بنفسك فخرج، ثم
دخل فقال: يا أمير المؤمنين، بقرة قربت لتذبح فغلبت الجازر وخرجت تدور
في الأسواق. فأصغى الرومي إلى الربيع
يتفهم ما
قال، ففطن المنصور لإصغاء الرومي، يا ربيع، أفهمه، فأفهمه. فقال
الرومي: يا أمير المؤمنين، إنك بنيت بناءً لم يبنه أحد كان قبلك وفيه
ثلاث عيوب، قال: وما هي؟ قال: أول عيب فيه بعده عن الماء، ولا بد للناس
من الماء لشفاهم. وأما العيب الثاني: فإنها ليس فيها بساتين يتنزه
فيها. وأما الغيب الثالث: فإن رعيتك معك في بنيانك إذا كانت الرعية مع
الملك في بنيانه فشا سره. قال: فتجلد عليه المنصور فقال: أما قولك في
الماء فحسبنا من الماء ما بل شفاهنا. وأما العيب الثاني فإنا لم نخلق
للهو واللعب، وأما العيب الثالث في سري فما لي سر دون رعيتي. ثم عرف
وجه الصواب. فقال: مدوا لي قناتين من دجلة واغرسوا لي العباسية،
وانقلوا الناس إلى الكرخ. قال الخطيب: مد المنصور قناة من نهر دجيل
الآخذ من دجلة، وقناة من نهر كرخايا الآخذ من الفرات وجرهما إلى مدينته
في عقود وثيقة من أسفلها، محكمة بالصاروخ والآجر من أعلاها، فكانت كل
قناة منها تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض، وتجري
صيفاً وشتاءً لا ينقطع ماؤها، وجر لأهل الكرخ وما يتصل بها أنهاراً.
وأما الجامع فقد ذكرنا أن المنصور جعل مساحته مائتين في مائتين، ولما
جاء الرشيد أمر بنقضه و إعادة بنائه بالآجر والجص، ففعل ذلك وكتب عليه
اسم الرشيد، وتسمية البناء والنجار، وذلك ظاهر الجدران إلى الآن، وكانت
الصلاة في الصحن العتيق الذي هو الجامع، حتى زيد في الدار المعروفة
بالقطان، وكانت قديماً ديواناً للمنصور، فأمر مفلح التركي ببنائها على
يد صاحب القطان، فنسب إليه، ثم زاد المعتضد الصحن الأول وهو قصر
المنصور ووصله بالجامع، وزاد بدر مولى المعتضد من قصر المنصور السفطات
المعروفة بالبدرية. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي
بن ثابت قال: قال لي: هلال بن المحسن قال: حدثني أبو الحسين محمد بن
الحسن بن محفوظ قال: كنت أمضي مع والدي إلى الجامع بالمدينة لصلاة
الجمعة، فربما وصلنا إلى باب خراسان في دجلة وقد قامت الصلاة، وامتدت
الصفوف إلى الشاطىء، فنصعد ونفرش إلى السميرية ونصلي. قال هلال: وأذكر
الصفوف ممتدة من جامع الرصافة إلى الباب الجديد من شارع الرصافة. أما
جسور بغداد فإن المنصور أمر أن تعقد ثلاثة جسور، أحدها للنساء، ثم عقد
لنفسه وحشمه جسرين بباب البستان، فكان بالزندورد جسران قد عقدهما
المهدي،ا قال، ففطن المنصور لإصغاء الرومي، يا ربيع، أفهمه، فأفهمه.
فقال الرومي: يا أمير المؤمنين، إنك بنيت بناءً لم يبنه أحد كان قبلك
وفيه ثلاث عيوب، قال: وما هي؟ قال: أول عيب فيه بعده عن الماء، ولا بد
للناس من الماء لشفاهم. وأما العيب الثاني: فإنها ليس فيها بساتين
يتنزه فيها. وأما الغيب الثالث: فإن رعيتك معك في بنيانك إذا كانت
الرعية مع الملك في بنيانه فشا سره. قال: فتجلد عليه المنصور فقال: أما
قولك في الماء فحسبنا من الماء ما بل شفاهنا. وأما العيب الثاني فإنا
لم نخلق للهو واللعب، وأما العيب الثالث في سري فما لي سر دون رعيتي.
ثم عرف وجه الصواب. فقال: مدوا لي قناتين من دجلة واغرسوا لي العباسية،
وانقلوا الناس إلى الكرخ. قال الخطيب: مد المنصور قناة من نهر دجيل
الآخذ من دجلة، وقناة من نهر كرخايا الآخذ من الفرات وجرهما إلى مدينته
في عقود وثيقة من أسفلها، محكمة بالصاروخ والآجر من أعلاها، فكانت كل
قناة منها تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض، وتجري
صيفاً وشتاءً لا ينقطع ماؤها، وجر لأهل الكرخ وما يتصل بها أنهاراً.
وأما الجامع فقد ذكرنا أن المنصور جعل مساحته مائتين في مائتين، ولما
جاء الرشيد أمر بنقضه و إعادة بنائه بالآجر والجص، ففعل ذلك وكتب عليه
اسم الرشيد، وتسمية البناء والنجار، وذلك ظاهر الجدران إلى الآن، وكانت
الصلاة في الصحن العتيق الذي هو الجامع، حتى زيد في الدار المعروفة
بالقطان، وكانت قديماً ديواناً للمنصور، فأمر مفلح التركي ببنائها على
يد صاحب القطان، فنسب إليه، ثم زاد المعتضد الصحن الأول وهو قصر
المنصور ووصله بالجامع، وزاد بدر مولى المعتضد من قصر المنصور السفطات
المعروفة بالبدرية. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي
بن ثابت قال: قال لي: هلال بن المحسن قال: حدثني أبو الحسين محمد بن
الحسن بن محفوظ قال: كنت أمضي مع والدي إلى الجامع بالمدينة لصلاة
الجمعة، فربما وصلنا إلى باب خراسان في دجلة وقد قامت الصلاة، وامتدت
الصفوف إلى الشاطىء، فنصعد ونفرش إلى السميرية ونصلي. قال هلال: وأذكر
الصفوف ممتدة من جامع الرصافة إلى الباب الجديد من شارع الرصافة. أما
جسور بغداد فإن المنصور أمر أن تعقد ثلاثة جسور، أحدها للنساء، ثم عقد
لنفسه وحشمه جسرين بباب البستان، فكان بالزندورد جسران قد عقدهما
المهدي
وكان
الرشيد قد عقد عند باب الشماسية جسرين، وكان للمنصور جسر عند سويقة
قطوطة، فلم تزل هذه الجسور إلى أن قتل الأمين فعطلت، وبقي منها ثلاثة
إلى أيام المأمون ثم عطل واحد. أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا
أحمد بن علي قال: سمعت أبا علي بن شاذان يقول: أدركت ببغداد ثلاثة جسور
أحدها محاذي سوق الثلاثاء، وآخر بباب الطاق، و الثالث في أعلى البلد
عند الدار المعزية. وذكر لي غير ابن شاذان: أن الجسر الذي كان عند
الدار المعزية نقل إلى باب الطاق فصار هناك جسران يمضي الناس على
أحدهما ويرجعون على الآخر. قال الخطيب: لم يبق ببغداد غير جسر واحد
بباب الطاق إلى دخول سنة ثمان وأربعين. قال عبد الرحمن: وأخبرنا أحمد
قال: حدثني هلال بن المحسن قال: ذكر أنه أحصيت السميرات المعبرات بدجلة
أيام الموفق أبي أحمد فكملت ثلاثين ألفاً، فقدر من كسب ملاحتها كل يوم
تسعين ألف درهم. وأما الأنهار؛ فإن نهري بغداد دجلة والفرات، وكانت
الأنهار التي تجري بمدينة المنصور و الكرخ، وتخترق بين المحال تأخذ من
نهر عيسى بن علي، وكان عند فوهته قنطرة دمما، وكان على الياسرية قنطرة،
وعلى الرومية قنطرة، وعلى الزياتين قنطرة، وبعدها قنطرة عند باعة
الأشنان، ثم قنطرة الشوك، ثم قنطرة عند باعة الرومان، ثم قنطرة عند
الأرحاء، ثم قنطرة البستان، ثم قنطرة المعبدي، ثم قنطرة بني زريق، ثم
يصب في دجلة والأنهار التي تجري في المحال كالكرخ وغيرها من نهر عيسى،
وكان على الصراة قناطر يتفرع منها أنهار، وفي الجانب الشرقي نهر موسى
يأخذ من نهريين ينقسم ثلاثة: نهر يمضي إلى الزاهر، والثاني باب بييرز،
ويدخل البلد من هناك ويسمى نهر المعلى، ويمر بين الدور إلى سوق
الثلاثاء ثم يدخل دار الخلافة، ويجري إلى دجلة والثالث يمر إلى دار
الخلافة أيضاً، ونهر من الخالص يقال له نهر الفضل، إلى أن ينتهي إلى
باب الشماسية، فيأخذ منه نهر يقال له: نهر المهدي ويدخل المدينة في
شارع المهدي، ثم يجيء إلى قنطرة البردان، ويخرج إلى سويقة نصر بن مالك
ثم يدخل الرصافة، ويمر في الجامع. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال:
أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أحمد بن علي الوراق قال: اخبرنا أبو
الحسن أحمد بن محمد بن عمران قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى النديم
قال: ذكر أحمد بن أبي طاهر أن ذرع بغداد الجانبين ثلاثة وخمسون ألف
جريب وسبعمائة وخمسون جريباً، منها الجانب الشرقي ستة وعشرون ألف جريب
وسبعمائة وخمسون جريباً. والغربي سبعة وعشرون ألف جريب. وأن عدد
الحمامات كانت في ذلك الوقت ببغداد ستين ألف حمام. قال: أقل ما يكون في
كل حمام خمسة نفر: حمامي، وقيم، وزبال، ووقاد، وسقاء، يكون ذلك
ثلاثمائة ألف رجل. وذكر أنه يكون بإزاء كل حمام خمسة مساجد يكون ذلك
ثلاثمائة ألف مسجد، وتقدير ذلك أن أقل ما يكون في كل مسجد خمسة أنفس،
يكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان، يحتاج كل إنسان في ليلة العيد
إلى رطل صابون، فيكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف رطل صابون ويكون ذلك
حساب الجرة مائة وثلاثين رطلاً : ألف جرة ومائة جرة وخمسين جرة وثمانية
جرار ونصفاً، يكون ذلك زيتاً حساب الجرة ستين رطلاً ستمائة ألف رطل
وتسعة آلاف رطل وخمسمائة وعشرة أرطال. وقد روي أن الحمامات كانت في عهد
معز الدولة بضعة عشر ألف حمام، وفي زمن عضد الدولة خمسة آلاف وكسر. وقد
اتفق الناس أن بغداد لا نظير لها، وأحسن ما كانت في أيام الرشيد، فحدثت
بها الفتن، وتتابعت المحن، وانتقل قطانها. أخبرنا أبو المنصور القزاز
قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثني أبو القاسم التنوخي قال:
اخبرني أبي قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي في سنة ستين
وثلاثمائة قال: أخبرني رجل يبيع سويق الحمص منفرداً به أنه حصر ما يعمل
في سوقه من هذا السويق كل سنة؛ فكان مائة وأربعين كراً؛ يكون حمصاً
مائتين وثمانين كراً، يخرج كل سنة حتى لا يبقى منه شيء، ويستأنف عمل
ذلك للسنة الأخرى. قال هلال بن المحسن: عبرت إلى الجاني الشرقي من
مدينة السلام بعد الأحداث الطارئة فرأيت ما بين سوق السلاح و الرصافة
وسوق العطش ومربعة الحرسي والزاهر، وما في دواخل ذلك ورواضعه قد خرب
خراباً فاحشاً، ولم يترك النقض فيه جداراً قائماً، ولا مسجداً باقياً،
وأما ما بين باب البصرة والعتابين
والخلد
وشارع الرقيق من الجانب الغربي فقد اندرس اندراساً كلياً، وصار
الجامعان بالمدينة والرصافة متوسطين الصحراء بع أن كانا في وسط
العمارة. وعرفني بعض العارفين بأمر الحمامات في جانبي البلد عدد ما بقي
منها في هذا الوقت وهي سنة عشرين وأربعمائة نحو مائة وسبعين حماماً.
وأنني لأذكر وقد حضر عند جدي إبراهيم بن هلال في سنة اثنين وثمانين
وثلاثمائة أحدٌ ممن كان يغشاه، وجرى ذكر مدينة السلام في كبرها، فقال
الرجل: لعل هذه الحال كانت قديماً، فأما الآن فحدثني فلان وله معرفة
بالحمامات أن جميع ما بقي منها نحو ثلاثة آلاف، فقال جدي: لا إله إلا
الله، كذا يكون الانقراض!؟ فإنها أحصيت في زمان المقتدر، وقد فشا
الخراب، فكانت تسعاً وعشرين ألف حمام. ولقد ورد كتاب ركن الدولة على
أبي محمد المهلبي يقول فيه: بلغنا كثرة المساجد والحمامات ببغداد،
فيذكر لنا الموجود اليوم فكانت المساجد تتجاوز حد الإحصاء، وأما
الحمامات سبعة عشر ألفاً. وقال ابن هلال: كنت أركب من داري في باب
المراتب إلى دار معز الدولة بالشماسية في الأسواق وتحت الظلال والمحال
والدروب. وكذلك الجاني الغربي والدور على دجلة وبساتينها متناهية
وأقطارها متباعدة وما فيها دار يخلو من الأغاني والدعوات، وجميع ما بقي
من الحمامات في بغداد نيف وتسعون حماماً. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد
قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا محمد
بن عباس الخزاز قال: حدثنا أبو بكر الصولي قال: حدثنا أبو خليفة قال:
حدثنا محمد بن سلام قال: سمعت أبا الوليد يقول: قال لي شعبة: أدخلت
بغداد؟ قلت: لا. قال: فكأنك لم تر الدنيا. أخبرنا عبد الرجمن قال:
أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثنا عبد العزيز بن علي الوارق قال: سمعت
محمد بن أحمد بن يعقوب الجرجاني يقول: سمعت أحمد بن يوسف بن موسى يقول:
سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: قال لي محمد بن إدريس: دخلت بغداد؟ قلت:
لا. قال: يا يونس ما رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس. أخبرنا عبد الرحمن
بن محمد قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا الجوهري قال: حدثنا علي بن عبد
الله الهمداني يقول: حدثنا علي بن محمد القاضي قال: حدثني أبو الحسين
المالكي قال: حدثني عبد الله بن محمد التميمي قال: سمعت ذا النون يقول:
من أراد أن يتعلم المروءة والظرف فعليه بسقاة الماء ببغداد. قيل: كيف؟
قال: لما حملت إلى بغداد رمي بي على باب السلطان مقيداً، فمر بي رجل
مؤتزر بمنديل مصري، معتم بمنديل ديبقي، بيده كيزان وخزف رقاق، وزجاج
مخروط، فسألت: هذا ساقي السلطان؟ فقيل لي: هذا ساقي العامة. فأومأت
إليه: اسقني. فسقاني، فشممت من الكوز رائحة مسك، فقلت لمن معي: ادفع
إليه ديناراً. فأعطاه الدينار. فأبى. وقال: ليس آخذ شيئاً. فقلت له:
ولم؟ فقال: أنت أسير، وليس من المروءة أن آخذ منك شيئاً.فقلت: كمل
الظرف في هذا. أخبرنا هبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي
الحافظ قال: أخبرني أبو القاسم القاضي قال: حدثني علي بن المحسن
التنوخي قال: قال: قال لي أبو القاسم بزياشي بن الحسن الديلمي وهو شيخ
يتعلق بعلوم فصيح العربية قال: سافرت الآفاق، ودخلت البادان من حد
سمرقند إلى القيروان، ومن سرنديب إلى بلد الروم، فما وجدت بلداً أفضل
ولا أطيب من بغداد. قال: وكان سبكتكتين حاجب معز الدولة من جملة
أنسائي. فقال لي يوماً: قد سافرت الأسفار الطويلة، فأي بلد وجدت أفضل
وأطيب؟ فقلت له: أيها الحاجب، إذا خرجت من العراق فالدنيا كلها رستاق.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا بن علي قال: حدثني أبو القاسم
عبد الله بن علي الرقي قال: أخذ أبو العلاء المعري يوماً يدي فغمزها
وهو ببغداد ثم قال لي: يا أبا القاسم، هذا بلد عظيم لا يأتي زمان عليك
وأنت به إلا رأيت فيه من أهل الفضل من لم يره فيمن تقدم. أخبرنا عبد
الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أنشدني التنوخي قال: أنشدنا أبو
سعيد بن محمد بن علي بن خلف الهمذاني لنفسه يقول:والخلد وشارع الرقيق
من الجانب الغربي فقد اندرس اندراساً كلياً، وصار الجامعان بالمدينة
والرصافة متوسطين الصحراء بع أن كانا في وسط العمارة. وعرفني بعض
العارفين بأمر الحمامات في جانبي البلد عدد ما بقي منها في هذا الوقت
وهي سنة عشرين وأربعمائة نحو مائة وسبعين حماماً. وأنني لأذكر وقد حضر
عند جدي إبراهيم بن هلال في سنة اثنين وثمانين وثلاثمائة أحدٌ ممن كان
يغشاه، وجرى ذكر مدينة السلام في كبرها، فقال الرجل: لعل هذه الحال
كانت قديماً، فأما الآن فحدثني فلان وله معرفة بالحمامات أن جميع ما
بقي منها نحو ثلاثة آلاف، فقال جدي: لا إله إلا الله، كذا يكون
الانقراض!؟ فإنها أحصيت في زمان المقتدر، وقد فشا الخراب، فكانت تسعاً
وعشرين ألف حمام. ولقد ورد كتاب ركن الدولة على أبي محمد المهلبي يقول
فيه: بلغنا كثرة المساجد والحمامات ببغداد، فيذكر لنا الموجود اليوم
فكانت المساجد تتجاوز حد الإحصاء، وأما الحمامات سبعة عشر ألفاً. وقال
ابن هلال: كنت أركب من داري في باب المراتب إلى دار معز الدولة
بالشماسية في الأسواق وتحت الظلال والمحال والدروب. وكذلك الجاني
الغربي والدور على دجلة وبساتينها متناهية وأقطارها متباعدة وما فيها
دار يخلو من الأغاني والدعوات، وجميع ما بقي من الحمامات في بغداد نيف
وتسعون حماماً. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن
ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا محمد بن عباس الخزاز قال: حدثنا
أبو بكر الصولي قال: حدثنا أبو خليفة قال: حدثنا محمد بن سلام قال:
سمعت أبا الوليد يقول: قال لي شعبة: أدخلت بغداد؟ قلت: لا. قال: فكأنك
لم تر الدنيا. أخبرنا عبد الرجمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثنا
عبد العزيز بن علي الوارق قال: سمعت محمد بن أحمد بن يعقوب الجرجاني
يقول: سمعت أحمد بن يوسف بن موسى يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول:
قال لي محمد بن إدريس: دخلت بغداد؟ قلت: لا. قال: يا يونس ما رأيت
الدنيا، ولا رأيت الناس. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: حدثنا أحمد
قال: حدثنا الجوهري قال: حدثنا علي بن عبد الله الهمداني يقول: حدثنا
علي بن محمد القاضي قال: حدثني أبو الحسين المالكي قال: حدثني عبد الله
بن محمد التميمي قال: سمعت ذا النون يقول: من أراد أن يتعلم المروءة
والظرف فعليه بسقاة الماء ببغداد. قيل: كيف؟ قال: لما حملت إلى بغداد
رمي بي على باب السلطان مقيداً، فمر بي رجل مؤتزر بمنديل مصري، معتم
بمنديل ديبقي، بيده كيزان وخزف رقاق، وزجاج مخروط، فسألت: هذا ساقي
السلطان؟ فقيل لي: هذا ساقي العامة. فأومأت إليه: اسقني. فسقاني، فشممت
من الكوز رائحة مسك، فقلت لمن معي: ادفع إليه ديناراً. فأعطاه الدينار.
فأبى. وقال: ليس آخذ شيئاً. فقلت له: ولم؟ فقال: أنت أسير، وليس من
المروءة أن آخذ منك شيئاً.فقلت: كمل الظرف في هذا. أخبرنا هبد الرحمن
بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرني أبو القاسم القاضي
قال: حدثني علي بن المحسن التنوخي قال: قال: قال لي أبو القاسم بزياشي
بن الحسن الديلمي وهو شيخ يتعلق بعلوم فصيح العربية قال: سافرت الآفاق،
ودخلت البادان من حد سمرقند إلى القيروان، ومن سرنديب إلى بلد الروم،
فما وجدت بلداً أفضل ولا أطيب من بغداد. قال: وكان سبكتكتين حاجب معز
الدولة من جملة أنسائي. فقال لي يوماً: قد سافرت الأسفار الطويلة، فأي
بلد وجدت أفضل وأطيب؟ فقلت له: أيها الحاجب، إذا خرجت من العراق
فالدنيا كلها رستاق. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا بن علي
قال: حدثني أبو القاسم عبد الله بن علي الرقي قال: أخذ أبو العلاء
المعري يوماً يدي فغمزها وهو ببغداد ثم قال لي: يا أبا القاسم، هذا بلد
عظيم لا يأتي زمان عليك وأنت به إلا رأيت فيه من أهل الفضل من لم يره
فيمن تقدم. أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أنشدني
التنوخي قال: أنشدنا أبو سعيد بن محمد بن علي بن خلف الهمذاني لنفسه
يقول:
فدى لك يا
بغداد كل قبيلة ... من الأرض حتى خطتي وبلاديا
فقد طفت في شرق البلاد وغربها ... وسيرت رحلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلاً ... ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائللاً ... وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا
وكم قائل لو كان ودك صادقاً ... لبغداد لم ترحل فكان جوابيا
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثني علي بن محمد بن
عبد قال: كتب إلي أخي من البصرة وأنا ببغداد يقول:
طيب الهواء ببغداد يصرفني ... قدماً إليها وإن عاقت معاذير
فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت ... طيب الهواءين ممدود ومقصور
قال
المصنف: وقد كان أبو الوفاء بن عقيل يصف ما شاهد من بغداد، وهذا عند
خربها وذهاب أهلها، فيذكر العجائب، وقد ذكرت ذلك في " مناقب بغداد " .
وفيها: ظهر إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن علي بالبصرة فحارب المنصور.
وفيها: قتل أيضاً، وكان من قضيته أنه لما أخذ المنصور عبد الله بن حسن
أشفق محمد وإبراهيم فخرجا إلى عدن، فخافا بها، فركبا البحر حتى سارا
إلى السند، فسعى بهما، فقدما الكوفة، وكانت أم ولد إبراهيم تقول: ما
أقرتنا الأرض منذ خمس سنين، مرة بفارس، ومرة بكرمان، ومرة بالجبل، ومرة
بالحجاز. ووضع المنصور إلى إبراهيم الرصد، وكانت له مرآة قد سبق ذكرها
ينظر فيها فيرى عدوه من صديقه، فنظر فيها فقال للمسيب: يا مسيب، قد
رأيت والله إبراهيم في عسكري، فانظر ما أنت صانع. وأمر المنصور ببناء
قنطرة الصراة العتيقة، ثم خرج ينظر إليها فوقعت عينه على إبراهيم، وجلس
إبراهيم، فذهب في الناس، فأتى مأمناً فلجأ إليه، فأصعده غرفة له، وجد
المنصور في طلبه، فقال سفيان العمي لإبراهيم: قد ترى ما نزل بنا، ولا
بد من المخاطرة. قال: فأنت وذاك. فأقبل إلى الربيع فسأله الإذن. قال:
ومن أنت؟ قال: سفيان العمي. فأدخله إلى أبي حعفر، فلما رآه شتمه فقال:
يا أمير المؤمنين، أنا أهل لما تقول، غير أني أتيك تائباً، ولك عندي كل
ما تحب إن أعطيتني ما أسألك. قال: وما لي عندك؟ قال: تأتيني بإبراهيم.
قال: فما لي عندك إن فعلت؟ قال: كل ما تسأل، فأين إبراهيم؟ قال: قد دخل
بغداد، وهو داخلها عن قريب، فاكتب لي جوازاً ولغلام لي ولفرانق،
واحملني على البريد، ووجه معي جنداً، آتيك به. قال: فكتب إليه جوازاً،
ودفع إليه جنداً وقال: هذه ألف دينار فاستعن بها. قال: لا حاجة لي
إليها كلها. فأخذ معه ثلاثمائة دينار، وأقبل حتى أتى إبراهيم وهو في
بيت عليه مدرعة صوف وقيل بل فياء كأقبية العبيد فصاح به " قم. فوثب
كالفزع، فجعل يأمره وينهله حتى قدم المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها،
فدفع إليه جوازه. قال: فأين غلامك؟ قال: هذا. فلما نظر في وجهه قال:
والله ما هذا بغلامك، وإنه لإبراهيم، فاذهب راشداً فأطلقهما، فركبا
البريد، ثم ركبا سفينة إلى البصرة فاختفيا فيها. وقيل: أنه قد البصرة،
فجعل يأتي بالجند الدار ولها بابان فيقعد العشرة منهم على أحد البابين
ويقول: لا تبرحوا حتى آتيكم. ثم يدخل الدار فيخرج من الجانب الآخر
ويتركهم حتى فرق الجند وبقي وحده واختفى، فبلغ الخبر سفيان بن معاوية،
فأرسل إليهم، وطلب العمي، فأعجزه، ونزل إبراهيم على أبي فروة، وأرسل
إلى الناس يندبهم إلى الخروج، فلما بلغ الخبر أبا جعفر شاور، فقيل له:
إن الكوفة له شيعة، والكوفة قد رافقوا، وأنت طبقتها. فاخرج حتى ينزلها.
ففعل. وخرج إبراهيم ليلة الاثنين لغرة شهر رمضان من سنة خمس وأربعين،
فصار إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر فارساً، فكان أول شيء أصاب دواب
لجماعة من الجند، وأسلحة، وصلى بالناس الغداة بالمسجد الجامع، وتحصن
سفيان بن معاوية في الدار، ثم طلب الأمان فأجيب له، ففتح الباب ودخل
إبراهيم الدار، فألقي له حصير، فهبت ريح فقلبت الحصير ظهراً لبطن،
فتطير الناس لذلك، فقال إبراهيم: لا تتطيروا.ثم جلس عليه مقلوباً
والكراهة ترى في وجهه، وحبس سفيان بن معاوية في القصر وقيده قيداً
خفيفاً. ووجد ببيت المال ستمائة ألف، فغدا بذلك، وفرض لكل رجل خمسين،
ووجه رجلاً إلى الأهواز فبايعوا له، وخرج عاملها فخاصم أصحاب إبراهيم
فهزموه. وبلغ جعفراً ومحمداً ابني سليمان بن علي وكانا بالبصرة مصير
إبراهيم إلى دار الإمارة وحبسه سفيان، فأقبلا في ستمائة، فوجه إليهما
إبراهيم المضاء بن جعفر في ثمانية عشر فارساً وثلاثين راجلاً، فهزمهم
المضاء، وصارت البصرة والأهواز وفارس في سلطان إبراهيم، ولم يزل
إبراهيم مقيماً بالبصرة بعد ظهوره بها يفرق العمال في النواحي، ويوجه
الجيوش إلى البلدان حتى أتاه نعي أخيه محمد، فأخبر الناس بذلك،
فازدادوا بصيرة في قتال أبي جعفر، وأصبح إبراهيم من الغد فعسكر. وأبلغ
الخبر إلى أبي جعفر فقال: والله ما أدري ما أصنع، ما في عسكري سوى ألفي
رجل، فرقت جندي مع المهدي بالري ثلاثون ألفاً، ومع محمد بن الأشعث
بإفريقية أربعون ألفاً، والباقون مع عيسى بن موسى. والله لئن سلمت من
هذا لا يفارق عسكري
ثلاثون
ألفاً. ثم كتب إلى عيسى: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل ودع ما أنت فيه. فلم
يلبث أن قدم فبعثه على الناس، وكتب إلى سالم بن قتيبة، فقدم عليه من
الري، فضمه إلى جعفر بن سليمان، وكتب إلى المهدي يأمره بتوجيه خازم بن
خزيمة إلى الأهواز، فوجهه في أربعة آلاف من الجند، وبقي المنصور في
أيام حرب محمد وإبراهيم على مصلى ينام عليه، و يجلس عليه، وعليه جبة
ملونة قد اتسخ جيبها، ولم يلتفت إلى النساء، فقيل له في ذلك، فقال:
ليست هذه الأيام من أيام النساء حتى أعلم رأس إبراهيم لي أم رأسي
لإبراهيم، وكان قد أعد دواب وإبلاً، فإن كانت الكرة عليه خرج للري.
وكان قد أحصى ديوان إبراهيم من أهل البصرة مائة ألف، فالتقى عيسى
وإبراهيم فاقتتلوا قتالاً شديداً، إلى أن جاء سهمٌ غائر، لا يدرون من
رمى به، فوقع في حلق إبراهيم فنحوه عن موضعه، وقال: أنزلوني. فأنزلوه
وهو يقول: " وكان أمر اله قدراً مقدوراً " أردنا أمراً وأراد الله
غيره، فأنزل وهو مثخن، واجتمع عليه أصحابه يقاتلون دونه، فشدوا عليهم،
فخلصوا إليه، فجزوا رأسه، فأتوا به عيسى، فسجد، وبعث به إلى أبي جعفر،
فقال: والله لو كنت لهذا كارهاً، ولكني ابتليت بك، وابتليت بي. فنصبه
في السوق، وكان قتله يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة سنة خمس
وأربعين ، وكان يوم قتل ابن ثمان وأربعين سنة. ومكث منذ خرج إلى أن قتل
ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام. وفيها: خرجت الترك فقتلوا من المسلمين جماعة
كثيرة بأرمينية. وفيها: حج بالناس السري بن عبد الله بن الحارث، وكان
عامل أبي جعفر على مكة، وكان والي المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي.
ووالي الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، ووالي البصرة سالم بن قتيبة
الباهلي، وكان على قضائها عباد بن منصور، وعلى مصر يزيد بن حاتم.ن
ألفاً. ثم كتب إلى عيسى: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل ودع ما أنت فيه. فلم
يلبث أن قدم فبعثه على الناس، وكتب إلى سالم بن قتيبة، فقدم عليه من
الري، فضمه إلى جعفر بن سليمان، وكتب إلى المهدي يأمره بتوجيه خازم بن
خزيمة إلى الأهواز، فوجهه في أربعة آلاف من الجند، وبقي المنصور في
أيام حرب محمد وإبراهيم على مصلى ينام عليه، و يجلس عليه، وعليه جبة
ملونة قد اتسخ جيبها، ولم يلتفت إلى النساء، فقيل له في ذلك، فقال:
ليست هذه الأيام من أيام النساء حتى أعلم رأس إبراهيم لي أم رأسي
لإبراهيم، وكان قد أعد دواب وإبلاً، فإن كانت الكرة عليه خرج للري.
وكان قد أحصى ديوان إبراهيم من أهل البصرة مائة ألف، فالتقى عيسى
وإبراهيم فاقتتلوا قتالاً شديداً، إلى أن جاء سهمٌ غائر، لا يدرون من
رمى به، فوقع في حلق إبراهيم فنحوه عن موضعه، وقال: أنزلوني. فأنزلوه
وهو يقول: " وكان أمر اله قدراً مقدوراً " أردنا أمراً وأراد الله
غيره، فأنزل وهو مثخن، واجتمع عليه أصحابه يقاتلون دونه، فشدوا عليهم،
فخلصوا إليه، فجزوا رأسه، فأتوا به عيسى، فسجد، وبعث به إلى أبي جعفر،
فقال: والله لو كنت لهذا كارهاً، ولكني ابتليت بك، وابتليت بي. فنصبه
في السوق، وكان قتله يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة سنة خمس
وأربعين ، وكان يوم قتل ابن ثمان وأربعين سنة. ومكث منذ خرج إلى أن قتل
ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام. وفيها: خرجت الترك فقتلوا من المسلمين جماعة
كثيرة بأرمينية. وفيها: حج بالناس السري بن عبد الله بن الحارث، وكان
عامل أبي جعفر على مكة، وكان والي المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي.
ووالي الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، ووالي البصرة سالم بن قتيبة
الباهلي، وكان على قضائها عباد بن منصور، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
كان يألف الوحدة هو وأخوه، وخرجا إلى البادية ثم خرج أخوه محمد على
المنصور على ما سبق ذكره فقتل. وخرج هو فقتل على ما سبق.
إسماعيل بن أبي خالد، أبو عبد الله
واسم أبي
خالد: سعد.راى أنساً، وسمع ابن أبي أوفى، وعمرو بن حوشب، وكان سفيان
معجباً.وتوفي في هذه السنة. أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو
بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا إبراهيم بن مخلد قال: حدثنا محمد
بن أحمد الحكيمي قال: حدثنا عبد السلام بن محمد بن شاكر قال: حدثنا
محمد بن عثمان العاصمي قال: حدثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل بن أبي
خالد، عن يزيد بن طريف قال: توفي أخي عمير بن طريف فأصغيت إلى قبره،
فسمعت صوت أخي صوتاً ضعيفاً أعرفه وهو يقول: ربي الله. فقال له الآخر:
فما دينك؟ قال: الإسلام.
الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب سمع أمه فاطمة بنت الحسين بن علي بن
أبي طالب. قدم الأنبار على السفاح مع أخيه عبد الله بن الحسن في جماعة
من الطاليبين، فأكرمهم السفاح وأجازهم، ورجعوا إلى المدينة. فلما ولي
المنصور حبس الحسن بن الحسن وأخاه عبد الله لأجل محمد وإبراهيم ابني
عبد الله، فلم يزل في حبسه حتى مات. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز
قال: حدثنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال:
أخبرنا الحسن بن محمد العكبري قال: حدثنا جدي قال: حدثنا غسان الليثي،
عن أبيه قال: كان أبو العباس قد خص عبد الله بن الحسن بن الحسن حتى كان
يتفضل بين يديه بقميص بلا سراويل، فقال له يوماً: ما رأى أمير المؤمنين
على هذه الحال غيرك، ولا أعدك إلا ولداً. ثم سأله عن ابنيه فقال له: ما
خلفهما عني، فلم يفدا علي مع من وفد علي من أهلهما، ثم أعاد عليه
المسألة عنهما مرة أخرى. فشكى ذلك عبد الله بن الحسن إلى أخيه الحسن بن
الحسن فقال له: إن أعاد المسألة عليك عنهما فقل له: علمهما عند عمهما.
فقال له عبد الله: وهل أنت محتمل ذلك لي؟ قال: نعم. فلما أعاد أبو
العباس على عبد الله المسألة عنهما قال: يا أمير المؤمنين، علمهما عند
عمهما. فبعث أبو العباس إلى الحسن فسأله عنهما. فقال: يا أمير
المؤمنين، أكلمك على هيبة الخلافة، أو كما يكلم الرحل ابن عمه. فقال له
أبو العباس: بل كما يكلم الرجل ابن عمه. فقال له الحسن: أنشدك الله يا
أمير المؤمنين، إن كان الله قدر لمحمد وإبراهيم أن يليا من الأمر
شيئاً، فجهدت وجهد أهل الأرض معك أن ترد ما قدر الله لهما أيردونه!؟
قال: لا. قال: فأنشدك الله إن كان الله لم يقدر لهما أن يليا من هذا
الأمر شيئاً، فاجتمعا واحتمع أهل الأرض معهما على أن ينالا ما لم يقدر
لهما، أينالانه؟! قال: لا. قال: فما تنغيصك على هذا الشيخ النعمة التي
أنعمت بها عليه. فقال أبو العباس: لا أذكرهما بعد اليوم، فما ذكرهما
حتى فرق الموت بينهما. قال العلوي: قال جدي: توفي الحسن بن الحسن بن
علي سنة خمس وأربعين ومائة في ذي القعدة بالهاشمية في حبس أبي حعفر،
وهو ابن ثمان وستين سنة.
الحسن بن ثوبان بن عامر، أبو ثوبان الهمداني الهوزني روى عن موسى بن
وردان وغيره. حدث عنه حيوة بن شريح، الليث بن سعد، وغيرهما. وكان
أميراً على بعض الثغور في خلافة مروان بن محمد . قال المفضل بن فضالة:
دخل علينا الحسن بن ثوبان يوماً ونحن في المسجد الجامع فوقف فسلم ثم
ذهب فجال في المسجد، ثم رجع إلينا، فقلنا له: يا أبا ثوبان، وقفت علينا
ثم ذهبت ثم عدت فقال: إني طلبت من هو أربح لي منكم، فلم أجده. توفي
الحسن في رمضان هذه السنة.
حبيب بن الشهيد، أبو محمد البصري مولى لمزينة. سمع الحسن، وابن سيرين،
وعكرمة. توفي بواسط في أيام التشريق يوم جاءت هزيمة إبراهيم بن عبد
الله بن حسن، وصلى عليه سوار.
عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أبو
محمد
من أهل
المدينة، كانت له منزلة من عمر بن عبد العزيز في خلافته، وفد مع جماعة
من الطالبين إلى السفاح وهو بالأنبار، فوهب له ألف ألف درهم. ثم عاد
إلى المدينة، فلما ولي المنصور حبسه بالمدينة لأجل ابنيه محمد
وإبراهيم، فبقي مدة طويلة، ثم نقله إلى الكوفة، فحبسه بها إلى أن مات
في الحبس يوم الأضحى من هذه السنة، وهو ابن ست وأربعين سنة. أخبرنا عبد
الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن ثابت قال: أخبرنا ابن أبي بكر قال:
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى العلوي قال: حدثنا جدي قال:
حدثنا أبو الحسن بن علي الباهلي قال: سمعت مصعب بن عبد الله يقول: جعل
أبو العباس أمير المؤمنين يطوف في بنيانه بالأنبار، ومعه عبد الله بن
الحسن، فجعل يريه البناء ويطوف به فيه، فقال عبد الله بن الحسن، يا
أمير المؤمنين، وأنشده:
ألم تر حوشباً أمسى يبني ... بيوتاً نفعها لبني بقيلة
يؤمل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يحدث لك ليلة
فقال أبو العباس: ما أردت بهذا. قال: أردت أن أزهدك في هذا. وقد روي من
طريق أخرى أنه لما أنشد البيتين انتبه فقال: أقلني. فقال: لا أقالني
الله إن بت في عسكري فأخرجه إلى المدينة. وبقيلة أم ولد للحسين بن علي،
جاءت منه بالقاسم وأبي بكر وعبد الله، وقتلوا مع الحسين رضي الله عنه.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرما أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا علي
بن المحسن التنوخي قال: وجدت في كتاب جدي علي بن محمد بن أبي الفهم
قال: حدثني أحمد بن أبي العلاء المعروف بحرقى قال: حدثنا أبو يعقوب
إسحاق بن محمد بن أبان قال: حدثني أبو معقل وهو ابن إبراهيم بن داجة
قال : حدثني أبي قال: أخذ أبو جعفر أمير المؤمنين عبد الله بن حسن بن
حسن فقيده وحبسه في داره، فلما أراد أبو جعفر الخروج إلى الحج جلست له
ابنة لعبد الله بن حسن يقال لها: فاطمة، فلما مر بها أنشأت تقول:
إرحم كبيراً سنه متهدماً ... في السجن بين سلاسلٍ وقيود
وارحم صغار بني يزيد إنهم ... يتموا لفقدك لا لفقدك يزيد
إن جدت بالرحم القريبة بيننا ... ما جدنا من جدكم ببعيد
فقال أبو جعفر: أذكرتنيه، ثم أمر به فحدر إلى المطبق، فكان آخر العهد
به.
عبد الملك بن أبي سليمان، أبو سليمان وقيل: أبو عبد الله واسم أبي
سليمان، ميسرة، وهو عم محمد بن عبد الله العزرمي. نزل جبانة عزرم
بالكوفة فنسب إليها. حدث عن أنس بن مالك، وعطاء، وسعيد بن جبير. روى
عنه الثوري، وشعبة، وابن مبارك.وكان من الحفاظ ،كان شعبة يعجب من
حفظه،وكان سفيان يسميه الميزان .قال أحمد بن حنبل ويحيى: هو ثقة. توفي
ببغداد في هذه السنة، دفن بسوق يحيى.
عمرو بن ميمون بن مهران، أبو عبد الله الجزري
نزل
الرقة، وسمع أباه، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز. روى عنه
الثوري، وشريك، وابن المبارك. وكان ثقة صالحا " عالما " دينا " .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا احمد بن علي قال: أخبرنا
الأزهري قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أحمد بن جامع قال: قال علي بن
محمد بن سعيد الحراني قال: حدثنا عبد الملك الميموني قال: حدثت أبا عبد
الله أحمد بن حنبل قال: لما رأيت قدر عمي عند أبي حعفر قلت: يا عم، لو
سألت أمير المؤمنين أن يقطعك قطيعة. فسكت عني، فلما ألححت عليه قال: يا
بني، إنك لتسألني أن أسأله شيئاً قد ابتدأني به هو غير مرة، فقد قال لي
يوماً: يا أبا عبد الله، إني أريد أن أقطعك قطيعة وأجعلها لك طيبة، وإن
أحبابي وولدي وأهلي يسألوني ذلك فأبى عليهم، فما يمنعك أن تقبلها؟ قال:
قلت: يا أمير المؤمنين، إني رأيت لهم الرجل على قدر انتشار صيته، وإني
يكفيني من همي ما أحاطت به داري، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني فعل،
قال: قد فعلت. فقال أحمد بن حنبل: أعده علي. فأعدته عليه حتى حفظه.
أخبرنا عبد الرحمن قال: حدثنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الأزهري قال:
حدثنا ابن جامع قال: حدثنا أبو علي الحراني قال: حدثنا الميموني قال:
حدثنا أبي قال: كان عمي عمرو يعطش فما يستسقي من أحدٍ ماء حتى يشربه من
بيته، ويقول كل معروف صدقه، وما أحب أن يتصدق علي. توفي عمرو بن ميمون
في هذه السنة. وقيل: في سنة أربعين. وفي مكان موته قولان: أحدهما:
الرقة. والثاني: الكوفة.
محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، أبو عبد الله لقي
نافعاً، وسمع منه ومن غيره، ولم يزل هو وأخوه إبراهيم يلزمان البادية
ويحبان الخلوة، ولا يأتيان الخلفاء والولاة، فلما ولي المنصور طلبهما
فنفرا منه وهربا في الجبال وأشخص أباهما وأهل بيتهما فحبسوا حتى ماتوا
في حبسه، فبلغ ذلك محمد بن عبد الله، فخرج على المنصور، واجتمع إليه
خلقٌ كثير، فبيض ودعي له بالخلافة، فأقبل إلى المدينة، فأخذها وغلب
عليها ثم وجه إلى مكة فأخذت له فبيضوا فشمر أبو جعفر في طلبه وحربه،
فقتل هو وأخوه على ما سبق. وكان مكث محمد من حين ظهر إلى أن قتل شهرين
وسبعة عشر يوماً.
محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، أبو عبد الله القرشي وكان
يعرف بالديباج لحسن وجهه، أمه فاطمة بنت الحسين ، وكانت قبل أبيه عند
الحسن بن الحسن، فولدت له عبد الله وحسناً، ثم مات عنها، فخلف عليها
عبد الله بن عمرو فولدت له محمداً، وهو الديباج. وكان جواداً ظاهر
المروءة. حدث عن أبيه، وعن نافع، وعن أبي الزناد. أخبرنا عبد الرحمن
قال: أخبرنا أحمد بم علي الحافظ قال: أخبرنا يحيى بن عبد العزيز قال:
أخبرنا علي بن عبد الله بن عباس الجوهري قال: أخبرنا أحمد بن سعيد
الدمشقي قال: حدثني الزبير بن بكار قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز
، عن أبي السائب قال: احتجت إلى لقحة، فكتبت إلى محمد بن عبد الله بن
عمرو بن عثمان أسأله أن يبعث لي بلقحةٍ، فإني لعلى بابي فإذا أنا بزجر
إبلٍ، وإذا فيها عبدٌ يزجرها، فقلت: يا هذا، ليس ها هنا الطريق. قال:
أردت أبا السائب. فقلت: أنا أبو السائب. فدفع إلي بكتاب محمد بن عبد
الله، فإذا فيه: أتاني كتابك تطلب فيه لقحة، وقد جمعت ما كان بحضرتنا
منها، وهي تسع عشرة لقحة، وبعثت معها بعبد راعٍ، وهن بدنٌ، وهو حرٌ إن
رجع، فما بعثت به بشيء في مالي أبداً. قال: فبعت منهم بثلاثمائة دينار
سوى ما احتسبت لحاجتي. أخذ أبو جعفر المنصور محمد بن عبد الله في هذه
السنة، وقتله ليلة جاءه خروج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة، وبعث
برأسه إلى خراسان، وذلك لأن محمد أخو عبد الله بن حسن بن حسن لأمه.
كذلك ذكر الخطيب. وذكر محمد بن سعد أنه حبسه فمات في حبسه، وكان لهذا
الرجل بنت تسمى:حفصة، لا نعرف امرأة ولدها رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير سواها. لأن أمها
خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير، وأم عروة: أسماء بنت أبي بكر، وأم
أبيها: فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وأم الحسين: فاطمة بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم فاطمة بنت الحسين: أم إسحاق بنت
طلحة بن عبيد الله، وأم عبد الله بن عمرو: زينب بنت عبد الله بن عمر بن
الخطاب.
يزيد بن
أبي سعيد، أبو الحسين النحوي نسب إلى بطن يقال لهم: بني نحوة النحو بن
شمس بضم الشين المعجمة بطن من الأزد، وليس منسوباً إلى النحو. قال أبو
أحمد العسكري: وكذلك شيبان بن عبد الله النحوي. وقال أبو الحسين ابن
المنادي: وهو يزيد لا شيبان. وروى يزيد عن علقمة، ومجاهد. ويروي عن
الحسين بن واقد وأبي حمزة.
ثم دخلت
سنة ست وأربعين ومائة
فمن الحوادث فيها
استتمام المنصور بناء بغداد
وقد ذكر محمد بن عمران أن أبا جعفر تحول إلى بغداد في صفر سنة ست
وأربعين، فنزلها. وفيها: عزل المنصور عبد الله بن الربيع الحارثي عن
المدينة، وولاها جعفر بن سليمان بن علي. وعزل عن مكة السري بن عبد
الله، وولاها عبد الصمد بن علي. وولى البصرة سالم بن قتيبة يسيراً ثم
عزله. وكان سبب عزله: أن المنصور كتب إليه: بأي ذلك أبدأ؟ بالدور أم
بالنخل؟ فكتب إليه: لو أمرتك بإفساد ثمرهم لكتبت تستأذني بأيه أبدأ؟
بالبرني أم بالشهريز. وعزله وولى محمد بن سليمان بن علي، فهدم دوراً
كثيرة وعقر نخلهم، ثم عزله وولى محمد بن العباس، وعزل عيسى بن موسى عن
الكوفة وولاه البصرة في جمادى الأولى من هذه السنة. وفيها: دخلت الترك
تفليس فهزموا جبريل بن يحيى، وقتلوا حرب بن عبد الله، وسبوا سبياً
كثيراً من المسلمين. وفيها: حج بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بن
إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن العباس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن علي عم المنصور. توفي في هذه السنة.
أشعث بن عبد الملك، أبو هانىء الحمراني مولى حمران بن أبان. سمع الحسن،
وابن سيرين. روى عنه يحيى القطان. توفي في هذه السنة. وكان ثقة.
رباح القيسي يكنى أبا المهاصر. كان كثير البكاء والتعبد، وكان قد اتخذ
غلاً من حديد يضعه في عنقه بالليل ويبكي ويتضرع إلى الصباح. أخبرنا عبد
الوهاب الحافظ قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو بكر
محمد بن علي الخياط قال: أخبرنا أحمد بم محمد بن يوسف قال: أخبرنا
الحسين بن صفوان قال: أخبرنا أبو بكر بن عبيد قال: حدثني محمد بن
الحسين قال: حدثني أبو عمر الضرير قال: حدثني الحارث بن سعيد قال: أخذ
بيدي رباح فقال: هلم يا أبا محمد حتى نبكي على قصر الساعات ونحن على
هذه الحال. قال: فخرجت معه إلى المقابر، فلما نظر إلى القبور صرخ، ثم
خر مغشياً عليه. قال: فجلست والله عند رأسه أبكي، فأفاق، فقال: ما
يبكيك؟قلت: لما أرى بك. قال: لنفسك فأبك. ثم قال: وانفساه، وانفسا، ثم
غشي عليه. قال: فرحمته والله مما نزل به، ثم لم أزل عند رأسه حتى أفاق،
فوثب وهو يقول: " تلك إذن كرة خاسرة " " تلك إذن كرة خاسرة " ومضى على
وجهه وأنا أتبعه لا يكلمني حتى انتهى إلى منزله، فدخل وأصفق بابه،
فرجعت إلى أهلي، ولم يلبث إلا يسيراً حتى مات.
ضيغم بن مالك، وأبو مالك العابد كان ورده كل يوم أربعمائة ركعة، وكان
كثير البكاء، طويل الحزن، وكان يقول: لو أعلم أن رضاه في أن أقرض لحمي
لدعوت بالمقراض فقرضته. أخبرنا عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو الحسين بن
عبد الجبار قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن علي الخياط قال: أخبرنا أحمد
بن محمد يوسف قال: أخبرنا ابن صفوان قال: حدثنا أبو بكر بن عبيد قال:
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثني مالم بن ضغيم قال: قالت أم ضغيم لي
يوماً: ضغيم. قال لها: لبيك يا أماه. قالت: كيف فرحك بالقدوم على الله؟
قال: فحدثني غير واحد من أهله أنه صاح صيحة لم يسمعوه صاح مثلها قط،
وسقط مغشياً عليه، فجلست العجوز تبكي عند رأسه وتقول: بأبي أنت، ما
تستطيع أن يذكر بين يديك شيء من أمر ربك. قال: وقالت له يوماً: ضغيم.
قال: لبيك يا أماه. قالت: تحب الموت؟ قال: نعم يا أماه. قالت: ولم يا
بني؟ قال: رجاء خير ما عند الله. قال: فبكت العجوز وبكى، وتسامع أهل
الدار، فجلسوا يبكون لبكائهم. قال: وقالت له يوماً آخر: ضغيم. قال:
لبيك ياأماه. قالت: تحب الموت؟ قال: لا يا أماه . قالت: ولم يا بني؟
قال: لكثرة تفريطي وغفلتي من عن نفسي. قال: فبكت العجوز وبكى ضغيم،
فاجتمع أهل الدار يبكون. وكانت أمه عربية كأنها من أهل البادية.
عمرو بن قيس، أبو عبد الله الملائي
سمع عكرمة
مولى ابن عباس، و أبا إسحاق السبيعي، وعطاء ، وعمر بن المنكدر. روى عنه
الثوري، وكان يثني عليه، ويجلس بين يديه ينظر إليه لا يكاد يصرف بصره
عنه، يتأدب برويته. وكان ثقة صالحاً يقال: إنه من الأبدال. أخبرنا عبد
الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا حمزة بن محمد بن
طاهر الوراق قال: حدثنا الوليد بن بكر الأندلسي قال: حدثنا علي بن أحمد
بن زكريا الهاشمي قال: حدثنا أبو مسلم صالح بن أحمد بن عبد الله العجلي
قال: حدثنا أبي، عن أبيه عبد الله قال: جاءت امرأة إلى عمرو بن قيس
بثوب فقالت: يا أبا عبد الله، اشتر هذا الثوب، واعلم أن غزله ضعيف.
قال: فكان إذا جاءه إنسان فعرضه عليه قال: إن صاحبته أخبرتني أنه كان
في غزله ضعف. حتى جاءه رجل فاشتراه، وقال: قد أبرأناك منه. أخبرنا محمد
بن ناصر قال: أخبرنا ثابت بن بندار قال: أخبرنا أبو بكر البرقاني قال:
سمعت عبد الله بن إبراهيم الأنبذوني يقول: أخبرنا أحمد بن عامر الدمشقي
قال: أخبرنا أحمد بن أبي الحواري قال: حدثنا إسحاق بن خلف قال: أقام
عمرو بن قيس عشرين سنة صائماً ما يعلم به أهله، يأخذ غداه ويغدو إلى
الحانوت، فيتصدق بغدائه ويصوم وأهله لا يدرون. قال: وكان إذا حضرته
الرقة يحول وجهه إلى الحائط ويقول: هذا الزكام. وإذا نظر إلى أهل السوق
قال: ما أغفل هؤلاء عما أعد لهم. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال:
أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل قال: أخبرنا الحسين
بن صفوان قال:حدثنا ابن أبي الدنيا قال: حدثنا محمد بن الحسين قال:
حدثنا حفص بن غياث قال: حدثنا أبي قال: لما احتضر عمرو بن قيس الملائي
بكى. فقال أصحابه: علام تبكي من الدنيا؟ فو الله لقد كنت منغص العيش
أيام حياتك. فقال: والله ما أبكي على الدنيا إنما أبكي خوفاً أن أحرم
خير الآخرة. أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا أحمد بن أحمد
الحداد قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثنا عبد
الله بن جعفر قال: حدثنا علي بن أبي قال: حدثنا حعفر بن كزال قال:
حدثني محمد بن بشير قال: حدثنا المحاربي قال:قال لي سفيان: عمرو بن قيس
هو الذي أدبني، علمني قراءة القرآن، وعلمني الفرائض، فكنت أطلبه في
سوقه، فإن لم أجده في سوقه وجدته في بيته، إما يصلي وإما يقرأ القرآن
في المصحف، كأنه يبادر أموراً تفوته، فإن لم أجده في بيته وجدته في بعض
مساجد الكوفة في زاوية من زوايا المسجد كأنه سارق قاعد يبكي، فإن لم
أجده وجدته في المقبرة قاعداً ينوح على نفسه. فلما مات أغلق أهل الكوفة
أبوابهم وخرجوا بجنازته، فلما أخرجوه إلى الجبانة وبرزوا بسريره وكان
أوصى أن يصلي عليه أبو حيان التيمي فلما تقدم أبو حيان وكبروا سمعوا
صائحاً يصيح: قد جاء المحسن، قد جاء المحسن عمرو بن قيس. وإذا البرية
مملوءة من طير أبيض لم ير على خلقتها وحسنها، فجعل الناس يعجبون من
حسنها وكثرتها. قال أبو حيان: من أي شيء تعجبون؟ هذه ملائكة جاءت فشهدت
عمراً. أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن حسن الطبري
قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد المقرىء قال: حدثنا محمد بن مخلد قال:
حدثنا أبو العباس عيسى بن إسحاق السائح قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أبو
خالد هو الأحمر قال: لما مات عمرو بن قيس رأوا الصحراء مملوءة رجالاً
عليهم ثياب بيض، فلما صلي عليه ودفن لم يروا في الصحراء أحداً، فبلغ
ذلك لأبي حعفر فقال لابن شبرمة، وابن أبي ليلى: ما منعكما أن تذكرا هذا
الرجل لي فقالا: كان يسألنا أن لا نذكره لك. اختلفوا أين توفي، فقيل:
بالكوفة، وقيل: بسجستان. وقيل: بالشام. وقيل: ببغداد. والأول أليق.
هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، أبو المنذر
وقيل أبو
عبد الله الأسدي. ولد سنة إحدى وستين، رأى ابن عمر، وجابر، وأنس بن
مالك، وسهل بن سعد، وعبد الله بن الزبير، وسمع أباه، وابن المنكدر،
والزهري، وغيرهم. روى عنه أيوب السجستاني، ومالك، وابن جريج، والثوري،
والليث بن سعد، و غيرهم. وكان ثقة، وقدم على المنصور. أخبرنا عبد الله
بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن
رزق قال: أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن
حنبل قال: حدثنا عاصم بن عمر بن علي المقرىء قال: حدثني أبي، عن هشام
بن عروة: أنه دخل على أبي حعفر المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين، اقض
عني ديني. قال: وكم دينك؟ قال: مائة ألف. قال: وأنت في فضلك وفهمك تأخذ
ديناً مائة ألف وليس عندك قضاؤها؟ قال يا أمير المؤمنين، شب فتيان من
فتياننا، فأحببت أن أبوئهم وخشيت أن ينتشر علي من أمرهم ما أكره
فبوأتهم واتخذت لهم منازل وأولمت عنهم ثقة بالله وبأمير المؤمنين قال:
فرد عليه مائة ألف استعظاماً لها، ثم قال: قد أمرنا لك بعشرة آلاف.
قال: يا أمير المؤمنين، فأعطني ما أعطيت وأنت طيب النفس، فإني سمعت أبي
يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أعطى عطية وهو بها
طيب النفس بورك للمعطي وللمعطى " قال: فإني بها طيب النفس. أخبرنا أبو
منصور القزاز بإسناد له عن شيخ من قريش قال: أهوى هشام بن عروة إلى يد
المنصور يقبلها فمنعه وقال: يا ابن عروة، إن نكره ذلك، إن نكرمك عنها
ونكرمها عن غيرك. توفي هشام عند المنصور فصلى عليه المنصور، وكانت
وفاته في هذه السنة وهو ابن خمس وثمانين سنة. وقيل: توفي في سنة خمس
وأربعين. وقيل: سبع وأربعين. واختلفوا في قبره. قال أبو الحسين بن
المنادي: أبو المنذر هشام بن عروة بن الزبير بن العوام مات أيا خلافة
أبي جعفر في سنة ست وأربعين، ودفن في الجانب الغربي خارج السور نحو باب
قطربل. وأخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد قال: حدثني حمزة، عن طاهر
الدقاق: أنه سمع أبا أحمد بن عبد الله بن الخفر ينكر أن يكون قبر هشام
المشهور بالجانب الغربي، وإنما هو بالخيزرانية من الجانب الشرقي. قال
أحمد: ونرى أن هذا هو الصواب.
ثم دخلت
سنة سبع وأربعين ومائة
فمن
الحوادث فيها: أن الكواكب تناثرت كثيراً. وفيها إغارة الترك على
المسلمين بناحية أرمينية، وسبيهم منهم ومن أهل الذمة خلقاً كثيراً
ودخلوا بهم تفليس، وقتلهم حرب بن عبد الله الذي تنسب إليه الحربية
ببغداد، وكان حرب مقيماً بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارج
الذين بالجزيرة، وكان أبو حعفر حين بلغه تحرك الترك هناك وجه إليهم
جبريل بن يحيى، وكتب إلى حرب يأمره بالمسير معه، فسار معه، فقتل وهزم
جبريل وأصيب من ذكرنا. وفيها: كان مهلك عبد الله بن علي بن عبد الله بن
عباس، وكان السبب: أن أبا جعفر كان قد عزل عيسى بن موسى عن الكوفة و
أرضها وولى مكانه محمد بن سليمان، وأوفده إلى مدينة السلام، فدعا به،
فدفع إليه عبد الله بن علي سراً في جوف الليل وقال له: يا عيسى، إن هذا
أراد أن يزيل النعمة عني وعنك، وأنت ولي عهد بعد المهدي، والخلافة
صائرة إليك، فخذه إليك واضرب عنقه، وإياك أن تخور أو تضعف. ثم كتب إليه
ما فعلت فيما أمرتك به؟ فكتب إليه ثم أنفذت ما أمرت به. فلم يشك أبو
جعفر أنه قد قتل عبد الله بن علي، وكان عيسى حين أخذ عبد الله بن علي
قد ستره، ودعا كاتبه يونس بن فروة فقال: إن هذا الرجل دفع إلي عمه
فأمرني فيه بكذا وكذا. فقال:أراد أن يقتلك ويقتله، أمرك بقتله سراً، ثم
يدعيه عليك علانية فيقيدك به. قال: فما الرأي؟ قال: أن تستره في منزلك
ولا تطلع على ذلك أحداً، فإن طلبه منك علانية دفعته إليك علانية، ولا
تدفعه إليه سراً أبداً، فإنه إن كان أسره إليك سيظهر، ففعل ذلك عيسى.
وقدم المنصور ودس على عمومته من يحركهم على مسألته فيه هبة عبد الله بن
علي لهم ويطمعهم أنه سيفعل يعني المنصور فجاءوا إليه فكلموه ورققوه،
وأظهروا له الرقة، وذكروا له الرحم. فقال المنصور: نعم علي بعيسى بن
موسى. فأتى فقال: يا عيسى، قد علمت أني دفعت إليك عمي وعمك عبد الله بن
علي قبل خروجي إلى الحج، وأمرتك أن يكون في منزلك. قال: قد فعلت ذلك.
قال: وقد كلمني عمومتك فيه، فرأيت الصفح و تخلية سبيله، فأتنا به.
فقال: يا أمير المؤمنين، ألم تأمرنا بقتله. فقال: ما أمرتك بقتله.
فقال: يا أمير المؤمنين، أنت أمرتني بقتله. فقال: كذبت، ما أمرتك
بقتله. ثم قال لعمومته: إن هذا قد اقر لكم بقتل أخيكم، وادعى أني أمرته
بذلك، وقد كذب. قالوا: فادفعه إلينا نقيده. قال: شأنكم به. فأخرجوه إلى
الرحبة، واجتمع الناس، واشتهر الأمر، فقام أحدهم وشهر سيفه وتقدم إلى
عيسى ليضربه، فقال له عيسى: أقاتلي أنت؟ قال: أي والله. قال: لا تعجلوا
ردوني إلى أمير المؤمنين. فردوه إليه. فقال: إنما أردت بقتله أن
تقتلني، هذا عمك حي سوي، إن أمرتني بدفعه إليك دفعته. قال: إتنا به.
فقال له عيسى: دبرت علي أمراً فحبسته فكان كما حسبت، فشأنك بعمك. فأمر
به فجعل في بيت. وتوفي عبد الله في هذه السنة في الحبس.
وفيها خلع المنصور عيسى بن موسى
وبايع لابنه المهدي فجعله ولي العهد
وكان سبب
خلعه بعد أن بايع له السفاح بعد المنصور أقر على ما كان عليه من ولاية
الكوفة وسوادها في زمن السفاح، فكان يكرمه ويجلسه عن يمينه والمهدي عن
يساره، إلى أن عزم المنصور على تقديم المهدي في الخلافة عليه، فلما عزم
على ذلك كلم عيسى بن موسى في ذلك برقيق من الكلام. فقال عيسى: يا أمير
المؤمنين، فكيف بالأيمان والمواثيق التي علي وعلى المسلمين في العتق
والطلاق وغير ذلك، ليس إلى ذلك سبيل، فلما رأى امتناعه تغير له وباعده
بعض التباعد، وأمر بالإذن للمهدي قبله، فكان يدخل فيجلس في مجلس عيسى،
ثم يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس دون المهدي عن يمين المنصور أيضاً، ولا يجلس
عن يساره فيغتاظ من ذلك المنصور، ويبلغ منه، فكان يأمر بالإذن للمهدي،
ثم لعيسى بن علي، ثم عبد الصمد بن علي، ثم عيسى بن موسى. ثم صار الأمر
إلى أوحش من ذلك بأن كان يكون في المجلس فيسمع الحفر في أصل الحائط،
فيخاف أن يخر عليه الحائط، وينتثر عليه التراب، وينظر إلى الخشبة من
سقف المجلس قد حفر عند طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه،
فيأمر من معه من ولد بالتحول، ويقوم هو فيصلي، ويأتيه الإذن فيدخل على
حالته والتراب عليه. وقيل: إنه دس لعيسى بعض ما يتلفه، ونهض وخرج، فقال
له بختيشوع: ما أجترىء على معالجتك بالحضرة، فاستأذن في الكوفة، فأذن
له، وبلغت العلة من عيسى كل مبلغ حتى تمعط شعره. وقد اختلفوا في نزول
عيسى عن الخلافة للمهدي على خمسة أقوال: أجدها: أنه قيل للمنصور: إنما
يحب عيسى الخلافة لولده، فلو أوهمته قتله لنزل عن الخلافة فأخذ ولده
بحضرته وقال للربيع: اخنقه فلف حمائل سيفه على حلقه توهم أنه يخنقه.
فلما رأى عيسى الجد قال: أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وكل ما
أملك في سبيل الله، وهذه يدي بالبيعة للمهدي. والثاني: أن الجند كانوا
يؤذون عيسى إذا ركب ويسبونه، فشكاهم إلى المنصور، فقال إنهم قد أشربوا
حب هذا الفتى، فبايع حينئذ للمهدي. والثالث: أنه ذهب إليه ثلاثون
نفساً، فسألوه أن ينزل عن الخلافة، فلم يفعل، فخرجوا فأخبروا المنصور
أنه قد نزل وشهدوا عليه بذلك، فكتب بذلك إلى الأنبار، فلما أنكر شهدوا
عليه. والرابع: أن سالم بن قتيبة أشار عليه بذلك فقبل منه. والخامس:
أنه بذل له مال فخرج إلى الناس، فقال: قد بعت نصيبي من مقدمة ولاية
العهد من أمير المؤمنين لابنه المهدي بعشرة آلاف ألف درهم وثلاثمائة
ألف بين يدي ولدي فلان وفلان وسبعمائة ألف من فلانة امرأة من نسائه
بطيب نفسٍ مني؛ لأنه أولى بها مني وأحق،فما أدعيه بعد يومي هذا فإني
فيه مبطل. وكساه أبو جعفر وكسا أولاده بقيمة ألف ألف درهم ومائتي ألف
درهم، وكان ولاية عيسى الكوفة وسوادها وما حولها ثلاث عشرة سنة، حتى
عزل محمد بن سليمان حين امتنع من تقديم المهدي على نفسه. وقال المنصور
للمهدي لما عهد إليه: يا أبا عبد الله، استدم النعمة بالشكر والقدرة
بالعفو، والطاعة بالتألف، والنصر بالتوضع، ولا تبرم أمراً حتى تفكر
فيه، فإن فكر العاقل مرآته تريه حسنة وسيئه. واعلم أنه لا يصلح رعيته
إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولا تدوم نعمة السلطان
وطاعته إلا بالمال، وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز
الناس من ظلم من هو دونه، واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره، ومن أحب
الحمد أحسن السيرة، وليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى
يخرج منه، ولكن هو الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه. وقال له
يوماً: كم دابة عندك؟ قال: لا أدري. هذا والله التصنيع، أنت لأمر
الخلافة أشد تضييعاً. وفي هذه السنة: ولى أبو جعفر محمد بن العباس ابن
أخيه البصرة، فاستعفى منها فأعفاه، فانصرف عنها إلى مدينة النبي صلى
الله عليه وسلم، فمات بها. واستخلف على البصرة عقبة بن مسلم، وأقره أبو
جعفر عليها.
وفيها ضرب مالك بن أنس
أنبأنا
زاهر بن طاهر قال: أخبرنا أحمد بن الحسين البيهقي قال: سمعت أبا أحمد
ابن أبي الحسن يقول: سمعت أبا عوانة يقول: سمعت أبا يوسف الفارسي يقول:
سمعت مكي بن إبراهيم يقول: ضرب مالك بن أنس رضي الله عنه في سنة سبع
وأربعين ومائة. ضربه سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس سبعين سوطاً.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: والسبب في ضربه أنهم سألوه عن مبايعة محمد
بن عبد الله بن حسن بن حسن وقالوا له: إن في أعناقنا بيعة أبي حعفر.
فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محممد.
فلذلك ضرب. وفي هذه السنة: حج بالناس المنصور، وقبض على جعفر بن محمد
بن علي بالمدينة. أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا أبو الحسين
بن عبد الجبار قال: أخبرنا علي بن عمر القزويني قال: أخبرنا أحمد بن
إبراهيم بن شاذان قال: حدثنا القاسم بن داود الكاتب قال: حدثنا أبو بكر
بن عبيد القرشي قال: حدثني عيسى بن حرب والمغيرة بن محمد قالا: حدثنا
عبد الأعلى بن حماد قال: حدثني الحسين بن الفضل بن الربيع قال: حدثني
عبد الله بن الفضل بن الربيع ولم يحفظ الدعاء وبعضه عن غيره قال: حج
أبو جعفر سنة سبع وأربعين ومائة، فقدم المدينة فقال: ابعث إلى جعفر بن
محمد من يأتينا به متعباً، قتلني الله إن لم أقتله. فتغافل عنه الربيع
لينساه، ثم أعاد ذكره للربيع وقال: ابعث إليه من يأتي به متعباً.
فتغافل عنه، ثم أرسل إلى الربيع برسالة قبيحة في جعفر وأمره أن يبعث
إليه ففعل. فلما أتاه فقال: أبا عبد الله، اذكر الله، فإنه قد أرسل
إليك التي لا سوى لها. قال جعفر: لا حولة ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم. ثم أعلن أبا جعفر حضوره، فلما دخل أوعده وقال أبو عبد الله:
إتخذك أهل العراق إماماً يجبون إليك زكاة أموالهم، و تلحد في سلطاني
وتبغيه الغوائل، قتلني الله إن لم أقتلك. فقال: يا أمير المؤمنين، إن
سليمان عليه السلام أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلى فصبر، وإن يوسف ظلم
فغفر، وأنت من ذلك الشيخ. فقال له أبو جعفر: إلي وعندي أبا عبد الله
البريء الساحة، السليم الناحية، القليل الغائلة، جزاك الله من ذي رحم
أفضل ما جزى ذوي الأرحام عن أرحامهم. ثم تناول يده فأجلسه معه على
فرشه، ثم قال: علي بالمحفة. فأتى بدهن فيه غالية فعلقه بيده حتى خلت
لحيته قاطرة، ثم قال: في حفظ الله وكلاءته. ثم قال: يا ربيع، ألحق أبا
عبد الله جائزته وكسوته، انصرف أبا عبد اله في حفظ الله وفي كنفه.
فانصرف، ولحقته فقلت له: إني رأيت قبل ذلك ما لم تره، ورأيت بعد ذلك ما
قد رأيت، فما قلت يا أبا عبد الرحمن حين دخلت. قال: قلت: اللهم احرسني
بعينك التي لا تنام، واكنفني ببركتك التي لا أخاف وأحذر، اللهم بك أدفع
في نحره، وأستعيذك من شره. وكان عامل المنصور في هذه السنة على مكة
والطائف عمه عبد الصمد بن علي، وعلى البصرة جعفر بن سليمان، وعلى
الكوفة وأرضها محمد بن سليمان، وعلى البصرة عقبة بن سالم، وعلى قضائها
سوار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حسين بن ذكوان المعلم البصري سمع عبد الله بن بريدة، ويحيى بن أبي
كثير. سمع منه: شعبة، وعبد الوارث، وابن المبارك، وكان ثقة.
سهيل بن حيان بن المنصور بن سعد، أبو السحماء الكلبي روى عنه: الليث،
وابن وهب. وكانت له عبادة وفضل. توفي بالإسكندرية في هذه السنة.
عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي
عم أبو
جعفر المنصور. أمه أو ولد بربرية، ولاه أبو العباس السفاح حرب مروان بن
محمد، وضمن له لأنه إن جرى قتل مروان على يده أن يجعله الخليفة من
بعده، فسار عبد الله إلى مروان حتى قتله، واستولى على بلاد الشام، ولم
يزل أميراً عليها مدة خلافة السفاح، ثم تغيرت نية السفاح له، فعهد إلى
المنصور، فلما ولي المنصور خالف عليه عبد الله، ودعا إلى نفسه محتجباً
بما كان السفاح وعده، فوجه إليه المنصور أبا مسلم صاحب الدولة، فحاربه
بنصيبين، فانهزم عبد الله واختفى، وصار إلى البصرة إلى أخيه سليمان بن
علي، فأقام عنده إلى أن أخذ له أماناً من المنصور، ولم يصل إليه فحبسه،
فلم يزل في الحبس حتى وقع عليه البيت الذي حبس فيه في ليلة مطيرة فقتله
في هذه السنة، وهو ابن اثنين وخمسين. وقيل: بل كان عمره خمساً وأربعين.
ودفن في مقابر باب الشام، فكان أول من دفن بها. وقد روى أصحاب التواريخ
أن المنصور قال لابن عياش المتنوف وكان له انبساط على المنصور على طريق
المزاح: تعرف ثلاثة أول أسمائهم عين، قتلوا ثلاثة أوائل أسمائهم عين؟
قال: نعم، عبد الرحمن قتل علي بن أبي طالب، وعبد الملك بن مروان قتل
عبد الله بن الزبير، ووقع البيت على عمك عبد الله. وكان قد كتب العهد
لعبد الله واستوثق فيه، وغلظ في الأيمان، وفيه: أن أحج حافياً حاسراً،
وأموالي وأملاكي حبيس في سبيل الله، وأقول كذا وكذا، وأبرأ من كذا
وكذا. فلما وقف المنصور على هذا المكتوب قال: متى وقعت عليه عيني فهذا
كله يلومني. فلما جيء به أعلم بمجيئه، فقال: يدخل بيتاً. وكان قد أعد
له بيتاً بني أساسه بالملح، فلما استقر فيه أجري الماء حواليه فانهدم
البيت عليه. وذكر أبو بكر الصولي عن عبد الله بن العياش قال: قال لنا
المنصور: أخبروني عن أول خليفة اسمه عين، قتل ثلاثة جبابرة أول أسمائهم
عين؟ فقلت: عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد العاص، وعبد الله بن
الزبير، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. قال: فخليفة آخر أول اسمه عين
فعل مثل ذلك بثلاثة جبابرة أول أسمائهم عين. قلت: أنت يا أمير المؤمنين
عبد الله بن محمد قتلت أل مسلم واسمه عبد الرحمن، وقتلت عبد الجبار بن
عدي، وسقط البيت على عمك عبد اله. فضحك المنصور وقال: ويحك، وما ذنبي
إذا سقط البيت عليه. قال الصولي: إنما قال: وسقط البيت عليه يريد أنك
قتلته لأنه بنى له بيتاً أساسه ملحٌ فسقط عليه، ولم يفصح بهذا ولكنه
عرض به. وقال الصولي: ويروي أنه قال لهم: أتعرفون عين ابن عين ابن عين
ابن عين ابن عين قتل ميم ابن ميم ابن ميم؟ قالوا: نعم، عمك عبد الله بن
علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب قتل مروان بن محمد بن مروان.
عثمان، أبو عمرو البتي الثقفي البصري وقيل: هو عثمان بن سليمان بن
هرمز. وقيل: ابن سليمان بن جرموز. سمع الحسن. وروى عنه الثوري. وكان
يبيع البت، وهي ثياب معروفة بالبصرة.
هشام بن حسان بن عبد الله الفردوسي روى عن عطاء وغيره. أخبرنا عبد
الوهاب بإسناد له عن أبي بكر بن أبي الدنيا قال: حدثني ابن هرمز بن
مروان قال: سمعت حماد بن زيد قال: حدثتني فارسية كانت تكون مع هشام بن
حسان في الدار قالت: أي ذنب عمل هذا من قبل هذا الليل كله يبكي. توفي
هشام في هذه السنة. وقيل في سنة ثمان، وقيل: في سنة ست.
هلني بن المنذر الكلاعي روى عنه ابن لهيعة. وكان علامة بالأنساب،
مستطلعاً معرفتها، وبأخبار العرب وأيامها، وأخبار مصر وما جرى فيها.
وكان يوثق فيما يحكيه. توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثمان وأربعين ومائة
فمن الحوادث فيها: توجيه المنصور حميد بن قحطبة إلى أرمينية لحرب الترك
الذين قتلوا حرب بن عبد الله، وعاثوا بتفليس، فسار فوجدهم قد ارتحلوا،
فانصرف ولم يلق منهم أحداً. وفيها: عسكر صالح بن علي بدابق ولم يغز.
وفيها: خرج الهند من البحر فأتوا دجلة البصرة. وفيها: حج بالناس جعفر
بن أبي جعفر المنصور، وكان عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة
التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
أبو عبد
الله جعفر الصادق. أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر. كان
عالماُ زاهداً عابداً، أسند عن أبيه وعطاء وعكرمة. حدثنا محمد بن أبي
القاسم قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: حدثنا أبو نعيم الأصفهاني قال:
حدثنا أبي قال: حدثنا أبو الحسن بن أبان قال: حدثنا أبو بكر بن عبد
الله قال: حدثنا الوليد بن شجاع قال: حدثنا إبراهيم بن أعين، عن يحيى
بن الفرات قال: قال جعفر بن محمد بن لسفيان الثوري. لا يتم المعروف إلا
بثلاثة: تعجيله، وتصغيره، وستره. أخبرنا محمد بن القاسم قال: حدثنا حمد
بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو الحسن أحمد
بن محمد بن مقسم قال: حدثني أبو الحسن بن الحسين الكاتب قال: حدثني أبي
قال: حدثني الهيثم قال: حدثني بعض أصحاب جعفر الصادق قال: دخلت على
جعفر وموسى بين يديه وهو يوصيه بهذه الوصية، فكان مما حفظت منها أن
قال: يا بني، إنه من قنع بما قسم له استغنى، ومن مد عينه إلى ما في يد
غيره مات فقيراً، ومن لم يرض بما قسم الله له اتهم الله في قضائه، ومن
استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه. يا بني، من كشف حجاب غيره انكشفت
عورات بيته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن احتفر لأخيه بئراً سقط فيها،
ومن داخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر، ون دخل مداخل السوء اتهم.
يا بني، قل الحق لك وعليك، وإياك والنميمة، فإنها تزرع الشحناء في قلوب
الرجال. يا بني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه. أخبرنا محمد بن ناصر
قال: أنبأنا عبد المحسن بن محمد قال: حدثنا مسعود بن ناصر السجستاني
قال: أخبرنا سعيد بن أبي عمرو البحتري قال: سمعت أبا الحسن علي بن محمد
بن عبيدة يقول: سمعت أحمد بن سهل البخاري يقول: سمعت صالح بن محمد
يقول: سمعت أحمد بن عبيدة يقول: سمعت محمد بن يوسف يقول: سمعت الثوري
يقةل: دخلت على جعفر بن محمد الصادق فقلت له: يا ابن رسول الله، مالي
أراك قد اعتزلت عن الناس؟ قال: يا سفيان، فسد الزمان، وتغير الإخوان،
فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد، ثم أنشأ يقول:
ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب ... والناس بين مخاتل وموارب
يفشون بينهم المودة والصفا ... وقلوبهم محشوة بعقارب
سليمان بن مهران، أبو محمد الأعمش
مولى بني
كاهل. أصله من طبرستان، من قرية يقال لها: دياوند. ولد يوم قتل الحسين
يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وسكن الكوفة، ورأى أنس بن مالك، ولم يسمع
منه. ورأى أبا بكرة الثقفي وأخذ بركابه، فقال له: يا بني، إنما أكرمت
ربك عز وجل. وسمع المغرور بن سويد، وأبا وائل، إبراهيم التيمي، وسفيان
الثوري، وغيرهم، وكان من أقرأ الناس للقرآن وأعرفهم بالفرائض، وأحفظهم
للحديث وأوثقهم. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن
ثابت قال: أخبرنا ابن رزق قال: أخبرنا عمر بن أحمد قال: حدثنا حنبل بن
إسحاق قال: حدثنا محمد بن داود قال: حدثنا عيسى بن يونس قال: لم نر نحن
ولا القرآن الذين كانوا قبلنا مثل الأعمش، وما رأيت الأغنياء والسلاطين
عند أحد أحقر منهم عن الأعمش مع فقره وحاجته.أخبرنا عبد الرحمن بن محمد
قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر بن شاذان
قال: أخبرنا أحمد بن علي بن محمد بن الجهم قال: أخبرنا محمد بن جرير
قال: حدثنا أبو هشام قال: سمعت عمي يقول: قال عيسى بن موسى لابن أبي
ليلى: اجمع الفقهاء. قال: فجمعتهم، فجاء الأعمش في جبة فرو وقد ربط
وسطه بشريط، فأبطأوا فقام الأعمش فقال: إن أردتم أن تعطونا شيئاً وإلا
فخلوا سبيلنا. فقال: يا ابن أبي ليلى، قلت لك تأتي بالفقهاء تجيء
بهذا؟! قال: هذا سيدنا، هذا الأعمش. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال:
أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت بإسناد له، عن وكيع قال: كان الأعمش قريباً
من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلف إليه قريباً من سنتين،
فما رأيته يقضي ركعة. أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد
الجبار قال: أخبرنا أبو بمر المنكدري قال: أخبرنا أبو الحسن بن الصلت
قال: أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني ابن المرزبان قال:
حدثنا أبو محمد البلخي قال: حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا جرير قال:
جئنا الأعمش يوماً فوجدناه قاعداً في ناحية، فجلسنا في ناحية أخرى وفي
الموضع خليج من ماء المطر، فجاء رجل عليه سواد، فلما بصر بالأعمش عليه
فروة حقيرة قال: قم عبرني هذا الخليج. وجذب بيده فأقامه وركبه وقال: "
سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " فمضى به الأعمش حتى توسط
به الخليج، ثم رمى به وقال: " وقل ربي أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير
المنزلين " ثم خرج وترك المسود يتخبط في الماء. قال سلم بن إبراهيم:
سمعت شعبة يقول: كان الأعمش إذا رأى ثقيلاً قال له: كم عرضك تقيم في
هذه البلدة. قال الربيع بن نافع: كنا نجلس إلى الأعمش فيقول: في السماء
غيم. يعني ها هنا من نكره. أخبرنا ابن ناصر بإسناد له عن إسماعيل بن
زياد قال: نشزت على الأعمش امرأته، وكان يأتيه رجل يقال له: أبو البلاد
مكفوف، فصيح يتكلم بالإعراب يتطلب الحديث منه، فقال له: يا أبا البلاد،
إن امرأتي قد نشزت علي، وضيعت بيتي وغمتني، فأنا أحب أن تدخل عليها
فتخبرها بمكاني من الناس وموضعي عندهم. فدخل عليها فقال: يا هنياه، إن
الله قد أحسن قسمك، هذا شيخنا وسيدنا، وعنه نأخذ أصل ديننا، وحلالنا
وحرامنا، لا يغرنك عموشة عينيه، ولا خموشة ساقيه، فغضب الأعمش وقال: يا
أعمى يا خبيث، أعمى اله قلبك، قد أخبرتها بعيوبي كلها، اخرج من بيتي.
فأخرجه من بيته. عن الحسن بن يحيى بن آدم قال: حدثتني أمي قالت: لم تكن
بالكوفة امرأة أجمل من امرأة الأعمش، فابتليت بالأعمش وبقبح وجهه، وسوء
خلقه. توفي الأعمش في ربيع الأول من هذه السنة، وهو ابن ثمان وثمانين
سنة. وقيل: توفي سنة سبع.
عمار بن سعد السلهمي يروي عنه عطاء بن دينار، وحيوة بن شريح، وكان
فاضلاً، كان يقول: من تخايل الثواب خف عليه العمل، وما لاءم القلب خف
على الجسد، ولسان الحكيم في قلبه، و قلب الأحمق في طرف لسانه، ما خطر
على قلبه نطق به.
محمد بن عجلان
مولى
فاطمة بنت الوليد بن عتبة، يكنى أبا عبد الله: وكان ثقة كثير الحديث،
روى عنه حيوة بن شريح، والليث، وغيرهما. وكان يخضب بالصفرة. توفي في
هذه السنة. أخبرنا أبو المنصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرنا أبو محمد الخلال قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا
عبد العزيز بن أحمد الغافقي قال: سمعت عياش بن نصر البغدادي يقول: سمعت
صفوان بن عيسى يقول: مكث محمد بن عجلان في بطن أمه ثلاث سنين، فشق بطن
أمه فأخرج وقد نبتت أسنانه. أخبرنا أحمد بن عبد الباقي بإسناد له عن
محمد بن عمر قال: خرج محمد بن عجلان مع محمد بن عبد الله بن حسين حتى
خرج بالمدينة، فلما قتل وولي جعفر بن سليمان المدينة بعث إلى محمد بن
عجلان فأتى به فبكته وكلمه كلاماً شديداً وقال له: خرجت مع الكلاب.
وأمر بقطع يده. فلم يتكلم إلا أنه يحرك شفتيه بشيء لا ندري ما هو، يظن
أنه يدعو. قال: فقام من حضر جعفر بن سليمان من فقهاء المدينة وأشرافهم.
فقالوا: أصلح الله الأمير، محمد بن عجلان فقيه أهل المدينة وعابدها،
وإنما شبه عليه، فظن أنه المهدي الذي جاءت فيه الرواية، فلم يزالون
يشفعون له حتى تركه. فولى محمد بن عجلان منصرفاً لم يتكلم بكلمة إلى
منزله.
ثم دخلت
سنة تسع وأربعين ومائة
فمن الحوادث فيها
غزو العباس بن محمد الصائفة أرض الروم
ومعه الحسن بن قحطبة، ومحمد بن الأشعث، فهلك ابن الأشعث في الطريق.
وفيها: استتم المنصور جميع ما أراد من البناء ببغداد، واستتم حائط
بغداد. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرنا محمد بن علي الوارق قال: أخبرنا محمد بن جعفر النحوي قال:
حدثنا محمد بن الحسن السكوني قال: قال محمد بن خلف: أنبأني محمد بن
موسى القيسي، عن محمد بن موسى الخوارزمي: أن أبا جعفر تحول من الهاشمية
إلى بغداد ونزلها مع جنده، وسماها: مدينة السلام، واستتم حائط بغداد
وجميع عملها بعد مائة سنة وثمان وأربعين وستة أشهر وأربعة أيام من
الهجرة. وفي هذه السنة: شخص المنصور إلى مدينة الموصل ثم عاد إلى مدينة
السلام. وعزل السري بن عبد الله عن مكة والطائف، وولاها محمد بن
إبراهيم بن محمد. وفيها: حج بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن
عبد الله بن العباس. وكانت العمال التي في الأمصار في هذه السنة هم
العمال في السنة التي قبلها غير مكة والطائف، فإن واليها كان في هذه
السنة محمد بن إبراهيم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن يزيد، أبو يونس العجلي القوي سمع من أبي سلمة، وسعيد بن جبير،
ومجاهد. أخبرنا ابن الناصر قال: أخبرنا محمد بن علي بن ميمون قال:
أخبرنا عبد الله بن محمد بن رجاء قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الجعفي
قال: حدثنا جعفر بن أحمد بن كعب قال: حدثنا علي بن كعب قال: حدثنا
إسماعيل بن زياد قال: إنما سمي أبو يونس: القوي لقوته على العبادة، صلى
حتى أقعد، وبكى حتى عمي، وصام حتى صار كالحشفة.
زكريا بن أبي زائدة، أبو يحيى الهمداني سمع الشعبي، وأبا إسحاق. روى
الثوري، ووكيع.
سالم بن قتيبة كان أمير كبيراً، غزير العقل، حسن المحضر، وولاه المنصور
البصرة ثم عزله. عن أبي المعلى الثقفي يقول: جرى ذكر رجلٍ في مجلس سالم
بن قتيبة فتناوله بعض أهل المجلس، فقال: يا هذا أوحشتنا من نفسك،
وآنستنا من مودتك، ودللتنا على عورتك. قال الأصمعي: أتى أهلنا سالم بن
قتيبة في حاجة فقالوا له: جئناك فيما لا يرزأك ولا ينكأك. فقال: لا جاء
الله بكم إذن، فلم جئتموني عليكم بلئام الناس. توفي سالم في هذه السنة،
وصلى عليه المهدي.
عمران بن حرير، أبو عبيدة السدوسي البصري سمع عكرمة، وأبا مجلذ. وسمع
منه: شعبة، ووكيع. وتوفي في هذه السنة.
عيسى بن عمرو الثقفي النحوي كان فاضلاُ غاية في النحو، صنف كتباً
حساناُ.
كرز بن وبرة
كوفي
الأصل، سكن جرجان، أسند عن طاووس، وعطاء والربيع بن خثيم وغيرهم. وكان
متعبداً. أخبرنا ابن الناصر قال: أخبرنا أبو الفضل بن أحمد قال: أخبرنا
أبو نعيم الأصفهاني قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك قال: حدثنا عبد الله
بن أحمد بن حنبل قال: حدثني شريح بن يونس قال: حدثنا محمد بن فضيل بن
غزوان، عن أبيه قال: دخلت على كرز بن وبرة بيته وإذا عند مصلاه حفرة قد
ملأها تبناً، وبسط عليها كساء، من طول القيام. وكان يقرأ في اليوم
والليلة القرآن ثلاث مرات. قال أبو نعيم: وحدثنا محمد بن حيان قال:
حدثنا أحمد بن الحسين الحذاء قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الدورقي قال:
حدثنا خرير بن زناد الحارثي، عن شجاع بن صبيح مولى كرز بن وبرة قال:
أخبرني أبو سليمان المكتب قال: صحبت كرزاً إلى مكة، وكان إذا نزل أدرج
ثيابه فألقاها على الرجل، ثم تنحى للصلاة، فإذا سمع رغاء الإبل أقبل
فاحتبس يوماً عن الوقت، فانبثت أصحابه في طلبه. فكنت فيمن طلبه. قال:
فأصبته في وهدة يصلي في ساعة حارة، قلت: وما حاجتك؟ قال: أحب أن تكتم
علي ما رأيت. قال: قلت: ذاك لك: أوثق لي. فحلفت لا أخبر به أحداً حتى
يموت.
كهمس بن الحسن، أبو عبد الله القيسي كان متعداً ورعاً، يصلي كل يوم
وليلة ألف ركعة، ويقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء، فو الله ما رضيتك
لله ساعة قط. عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أحمد بن إبراهيم
قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال: حدثنا عمارة بن زادان قال: قال لي
كهمس: يا أبا سلمة، أذنبت ذنباً، فأنا أبكي عليه أربعين سنة. قلت: ما
هو يا أبا عبد الله. قال: زارني أخٌ لي فاشتريت له سمكاً بدانق، فلما
أكل قمت إلى حائط جار لي، فأخذت منه قطعة طين فغسل بها يده، فأنا أبكي
عليه منذ أربعين سنة.
عابد علوي مديني
أخبرنا
المحمدان: ابن عبد الملك وابن ناصر قالا: أخبرنا أحمد بن خيرون قال:
أخبرنا عبد العزيز بن علي الوارق قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد
المفيد قال: حدثنا محمد بن عبد الواحد الكتاني قال: حدثنا عبد الله بن
محمد الأنصاري قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن العلاء قال: حدثني
أبي قال: سمعت أبا عامر الواعظ يقول: بينا أنا جالس في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم جاءني غلام أسود برقعة فقرأتها، فإذا فيها مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم. متعك الله بمسامرة الفكرة، ونعمك بمؤانسة
العبرة، وأفردك بحب الخلوة، يا أبا عامر، أنا رجل من إخوانك بلغني
قدومك المدينة فسررت بذلك، وأحببت زيارتك وبي من الشوق إلى مجالستك
والاستماع لمحادثتك، ما لو كان فوقي لأظلني، ولو كان تحتي لأقلني،
سألتك بالذي حباك بالبلاغة لما ألحقتني جناح التوصل من زيارتك.
والسلام. قال أبو عامر: فقمت مع الرسول حتى أتى بي إلى فناء فأدخلني
منزلاً رحباً خرباً. فقال لي: قف ها هنا حتى أستأذن لك. فوقف، فخرج إلي
فقال لي: لج. فدخلت، فإذا بيت مفرد في الخربة، له باب من جريد النخل،
وإذا بكهل قاعد مستقبل القبلة، تخاله من الوله مكروباً، ومن الخشية
محزوناً، قد ظهرت في وجهه أحزانه، وذهبت من البكاء عيناه، ومرضت
أجفانه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم تحرك، فإذا هو أعمى أعرج مسقام.
فقال لي: يا أبا عامر، غسل الله من درن الذنوب قلبك، لم يزل قلبي إليك
تواقاً، وإلى سماع الموعظة منك مشتاقاً، وبي جرح بعدٍ، قد أعيا
الواعظين دواه، وأعجز المتطببين شفاؤه، وقد بلغني نفع مراهمك للجراح
ةالآلام ، فلا تألو رحمك الله في إيقاع الترياق، وإن كان مر المذاق،
فإني ممن يصبر على ألم الدواء رجاء الشفاء. قال أبو عامر: فنظرت إلى
منظر بهرني، وسمعت كلاماً قطعني، فأفكرت طويلاً، ثم تأتى من كلامي ما
تأتى، وسهل من صعوبته مامنه يرق لي. فقلت: يا شيخ، ارم ببصر قلبك في
ملكوت السماء، وأجل سمع معرفتك في سكان الأرجاء، وتنقل بحقيقة إيمانك
إلى جنة المأوى فترى ما أعد الله فيها للأولياء، ثم تشرف على نار لظى
فترى ما أعد فيها للأشقياء، فشتان ما بين الدارين، أليس الفريقان في
الموت سواء؟ قال أبو عامر: فأن أنةً، وصاح صيحة، وزفر والتوى، وقال: يا
أبا عامر، وقع والله دواؤك على دائي، وأرجو أن يكون عندك شفائي، زدني
رحمك الله. فقلت له: يا شيخ، إن الله عالم بسريرتك، مطلع على خفيتك،
شاهدك في خلوتك بعينه، أين كنت عند استتارك من خلقه ومبارزته. فصاح
صيحة كصيحته الأولى. ثم قال: من لفقري، من لفاقتي، من لذنبي، من
لخطيئتي؟ أنت مولاي، وإليك منقلبي. ثم خر ميتاً رحمه الله. قال أبو
عامر: فأسقط في يدي وقلت: ما جنيت على نفسي. فخرجت إلي جارية عليها
مدرعة صوف، وخمار من صوف، قد ذهب السجود بجبينها وأنفها، وأصفر لطول
القيام لونها، وتورمت قدماها، فقالت: أحسنت والله يا حادي قلوب
العارفين، ومثير أشجان غليل المحزونين، لا نسي لك هذا المقام رب
العالمين، يا أبا عامر، هذا الشيخ والدي، مبتلى بالسقم منذ عشر سنين،
صلى حتى أقعد، وبكى حتى عمي، وكان يتمناك على الله ويقول: حضرت مجلس
أبي عامر البناني، فأحيا موات قلبي، وطرد وسن نومي، فإن سمعته ثانية
قتلتني، فجزاك الله من واعظ خيراً، ومتعك من كلمك بما أعطاك، ثم أكبت
على أبيها تقبل عينيه وهي تبكي وتقول: يا أبي، يا أبتاه، يا من أعماه
البكاء، يا أبي يا أبتاه، يا من قتله ذكر وعيد ربه ثم علا البكاء
والنحيب والاستغفار ةالدعاء، وجعلت تقول: يا أبي، يا أبتاه، يا حليف
الحرقة والبكاء. يا أبي يا أبتاه، يا قتيل الوعاظ والحكماء. قال أبو
عامر: فأجبتها: أيتها الباكية الجرباء، والنادبة الثكلى، إن أباك نحبه
قد قضي، وورد دار الجزاء، وعاين كل ما عمل، وعليه يحصى في كتاب عند
ربي، لا ينسى لمحسن فله الزلفى، أو مسيء فوارد دار من أساء. فصاحت
الجارية كصيحة أبيها، ثم جعلت ترشح عرقاً، وخرجت مبادراً إلى مسجد
المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفرغت إلى الصلاة والدعاء والاستغفار
والتضرع والبكاء حتى إذا كان عند صلاة العصر، فجاءني الغلام الأسود
فأذنني بجنازتيهما وقال: احضر الصلاة عليهما ودفنتهما. وسألت عنهما
فقيل لي من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. قال أبو
عامر: فما زلت
جزعاً
حذراً مما جنيت، حتى رأيتهما في المنام عليهما حلتان خضراوتان، فقلت:
مرحباً بكما وأهلاً، فما زلت حذراً بما وعظتكما به، ماذا صنع الله
بكما؟ فقال الشيخ:ً حذراً مما جنيت، حتى رأيتهما في المنام عليهما
حلتان خضراوتان، فقلت: مرحباً بكما وأهلاً، فما زلت حذراً بما وعظتكما
به، ماذا صنع الله بكما؟ فقال الشيخ:
أنت شريكي في الذي نلته ... مستأهلاً ذاك يا أبا عامر
وكل من أيقظ ذا غفلة ... فنصف مايعطاه للآمر
من رد عبداً آبقا مذنباً ... كان كمن قد راقب القاهر
واجتمعا في دار عدل وفي ... جوارب سيد غافر
ثم دخلت
سنة خمسين ومائة
فمن الحوادث فيها: خروج بعض الأعاجم بخراسان في ثلاثمائة ألف مقاتل
فغلبوا على عامة خراسان، فوجه المنصور خازم بن خزيمة إلى المهدي، فولاه
الحرب، وضم إليه اثنين وعشرين ألفاً. ثم ضم إليه ستة آلاف من الجند
متخيرين، فالتقوا، فقتل من المشركين أكثر من سبعين ألفاً، وأسر أربعة
عشر ألفاً، فضربت أعناقهم، ونجا ملك الأعاجم في جماعة لجأوا إلى جبل،
فحاصرهم المسلمون، فنزلوا على حكمهم فحكموا بأن يؤسر الملك وأولاده
ويعتق الباقون. وقد قيل: كان هذا في سنة إحدى وخمسين ومائة. وفي هذه
السنة: عزل المنصور جعفر بن سليمان الهاشمي عن المدينة وولاها الحسن بن
زيد بن علي. وفيها: حج بالناس عبد الصمد بن علي، وكان العامل على مكة
الطائف محمد بن إبراهيم بن محمد، وعلى المدينة الحسن بن زيد العلوي،
وعلى الكوفة محمد بن سليمان بن علي، وعلى البصرة عقبة بن مسلم، وعلى
قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حجاج بن أرطأة، أبو أرطأة النخعي الكوفي سمع عطاء بن أبي رباح وغيره.
وروى عنه: سفيان الثوري، وهشيم، وبن المبارك، ويزيد بن هارون. وكان من
حفاظ الحديث ومن الفقهاء. استفتي وهو ابن ست عشرة سنة. وولي القضاء
بالبصرة، إلا أنه كان مدلساً، يروي عن من لم يلقه، فيرسل تارة عن
مجاهد، وتارة عن الزهري ولم يلقهما، وكان مع المنصور في بناء مدينته،
وتولى خطها، ونصب قبلة مسجدها، وكان في هذا الرجل تيه كثير، وكبر خارج
عن الحد. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن
ثابت قال:أخبرني حمد بن محمد بن طاهر الدقاق قال: أخبرنا علي بن عمر
الحافظ قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبيد قال: سمعت أبا قلابة
يقول: سمعت أبا عاصم يقول: أول من ولي القضاء لبني العباس بالبصرة
الحجاج بن أرطأة، فجاء إلى حلقة البتي، فجلس في عرض الحلقة، وقيل له:
ارتفع إلى الصدر. فقال أنا صدر حيث كنت. قال: وقال: أنا رجل حبب إلي
الشرف. أخبرنا القزاز قال: أخحبرنا أحمد بن علس بن ثابت قال: أخبرني
محمد بن جعفر بن علان قال: أخبرنا مخلد بن جعفرقال: حدثنا محمد بن جرير
الطبري قال: حدثت عن قيس بن الوليد قال: سمعت أبا يوسف يقول: كان
الحجاج بن أرطأة لا يشهد جمعة ولا جماعة، ويقول: أكره مزاحمة الأنذال.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني الأزهري
قال: حدثنا محمد بن العباس قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا
الحسين بن الفهم قال: حدثنا محمد بن سعد قال: كان الحجاج بن أرطأة في
أصحاب أبي جعفر، فضمه إلى المهدي، فلم يزل معه حتى توفي بالري والمهدي
بها يومئذ في خلافة أبي جعفر.وكان ضعيفاً في الحديث.
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح المكي
مولى أمية
بن خالد. وكان يكنى أبا الوليد، وأبا خالد. سمع من طاووس مسألة واحدة،
ومن مجاهد حرفين في القراءات. وسمع الكثير من عطاء بن أبي رباح، وعمرو
بن دينار، وابن المنكدر وغيرهم. روى عنه: الأوزعي، والثوري، وابم
المبارك، وغيرهم. وكان ثقة، يقال إنه أول من صنف الكتب، وكان عطاء
يقول: ابن جريح سيد شباب أهل الحجاز، وقيل له: من نسألك بعدك؟ فقال:
هذا الفتى إن عاش؛ يعني ابن جريج. وقال عبد الرزاق: كنت إذا رأيت ابن
جريج علمت أنه يخشى الله، وما رأيت أحداً أحسن صلاة منه. وقال مالك:
كان ابن جريج صاحب ليل. أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي بن
ثابت قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد
الصفار قال: حدثنا محمد بن عبيد الله المنادي قال: حدثنا أحمد بن حنبل
قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أهل مكة يقولون أخذ ابن جريج الصلاة من
عطاء، وأخذ عطاء من أبي الزبير، وأخذها أبو الزبير من أبي بكر، وأخذها
أبو بكر من النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الرزاق: وكان ابن جريج
حسن الصلاة. توفي في هذه السنة، هكذا قال يحيى بن سعيد، ومكي بن
إبراهيم، وخليفة بن خياط. وقال علي بن المديني: سنة إحدى وخمسين. وقال
أحمد بن عبد الله العجلي سنة تسع وأربعين.
عبد الملك بن سعيد بن أبجر المتطبب أسند عن أبي الطفيل عامر بن وائلة ،
وذر، والشعبي، وغيرهم. وكان شديد الورع، خصوصاً في نطقه، وكان من
البكائين. أخبرنا محمد بن أبي القاسم قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال:
أخبرنا أحمد بن عبد الله الأصفهاني قال: حدثنا محمد بن إبراهيم في
كتابه قال: حدثنا عبد الرحمن بن الحسن قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن
قال: حدثنا حسن الجعفي، عن عبد الملك بن أبجر قال: ما من الناس إلا
مبتلي بعافية لينظر كيف شكره، أو يبليه لينظر كيف صبره.
عبد العزيز بن سليمان، أبو محمد الراسبي أخبرنا محمد بن ناصر قال:
أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد قال: أخبرنا هلال بن محمد قال: حدثنا
جعفر الخالدي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال: حدثنا محمد بن
الحسين قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: سمعت دهثماً وكان
من العابدين يقول: اليوم الذي كنت لا آتي فيه عبد العزيز أكون مغبوناً،
وأبطأت عليه ذات يوم ثم أتيته فقال: ما الذي بطأ بك. قلت: خير. قال:
على حال. قلت: شغلنا العيال، كنت ألتمس لهم شيئاً. قال: فوجدته لهم؟
قلت: لا. قال: هلم فلندع. قال: فدعا فأمنت ودعوت فأمن، ثم نهضنا لنقوم،
فإذا والله الدنانير والدراهم تتناثر في حجورنا. فقال: دونكها. ومضى
ولم ياتفت إلي. قال: فأخذتها، فإذا هي مائة دينار ومائة درهم. قال
محمد: فقلت له: ما صنعت بها؟ قال احتبست قوت عيالي جمعة حتى لا يشغلني
عن عبادته وشكره وخدمته فكرٌ في شيء من عرض الدنيا. ثم أمضيتها والله
في سبيل الله. أخبرنا عبد اله بن علي ومحمد بن ناصر قالا: أخبرنا طراد
بن محمد قال: أخبرنا علي بن بشران قال:حدثنا ابن صفوان قال: حدثنا أبو
بكر بن عبيد قال: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثني محمد بن عبد العزيز
بن سلمان قال: حدثني واقد الصفار قال: دعا عبد العزيز بن سليمان يوماً
لمقعد كان في مجلسه وأمن إخوته. قال: فو الله ما انصرف المقعد إلى أهله
إلا ماشياً على رجليه. أخبرنا عبد الوهاب وعلي بن عمر قالا: أخبرنا رزق
الله قال: أخبرنا محمد بن يوسف قال: حدثنا الحسن بن صفوان قال: حدثنا
عبد الله بن محمد قال: حدثني محمد بن إدريس قال: حدثنا محمد بن أبي
الحواري قال: حدثنا عبد العزيز بن عمير قال: قيل لعبد العزيز الراسبي
وكانت رابعة تسميه: سيد العابدين ما يقي مما تلذ به؟ قال: سرداب أخلو
فيه.
مقاتل بن سليمان بن بشر، أبو الحسن البلخي
قدم بغداد
فحدث بها عن عطية العوفي، وسعيد المقبري والضحاك، وعمرو بن شعيب،
وغيرهم. وجمع تفاسير الناس، فجعلها لنفسه، وكان يروي عن الضحاك وقد مات
الضحاك قبل مولد مقاتل بأربع سنين. قال ابن عيينة: قلت له: لم تحدث عن
الضحاك وقد زعموا أنك لم تسمع منه؟ قال: كان يغلق علي وعليه الباب. قال
ابن عيينة: قلت في نفسي: باب المدينة. وكان أحمد بن سيار يقول: مقاتل
متهم متروك الحديث، كان يتكلم في الصفات بما يحل. وقال وكيع: كان مقاتل
كذاباً، فلم نسمع منه. وقال أبو عبد الرحمن النسائي: مقاتل من
المعروفين بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال
البخاري: مقاتل لا شيء البتة. وقال أبو حفص عمر بم علي: مقاتل كذاب
متروك الحديث. وكذلك قال الساجي. توفي مقاتل في هذه السنة.
مسعود الضرير، أبو جهير البصري
أخبرنا
أحمد بن أحمد المتوكلي الهاشمي قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
حدثني عبد لله بن أبي الفتح الفارسي قال: حدثني عبيد الله بن عثمان
الدقاق قال: حدثنا علي بن محمد الواعظ قال: حدثنا علي بن عيسى أبو سعيد
الخراز قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الختلي قال: حدثنا محمد بن
الحسين قال: حدثنا شغيب بن محرز الأودي قال: حدثنا صالح المري قال: قال
مالك بن دينار: أغد علي يا صالح إلى الجبان فإني قد وعدت نفراً من
إخواني بأبي جهير مسعود الضرير. فسلم عليه. قال صالح المري: وكان أبو
جهيل هذا رجلاً قد انقطع إلى زاوية يتعبد فيها، ولم يكن يدخل البصرة
ألا يوم الجمعة في وقت الصلاة، ثم يرجع من ساعته. قال: فغدوت إلى موعد
مالك إلى الجبان، فانتهيت إلى مالك وقد سبقني ومعه محمد بن واسع، وإذا
ثابت البناني وحبيب، فلما رأيتهم قد اجتمعوا قلت: هذا والله يوم سرور.
قال: فانطلقنا نريد أبا جهير. قال: فكان مالك إذا مر بموضع نظيف قال:
يا ثابت صل ها هنا، لعله يشهد لم غداً. قال: فكان يصلي، قال: ثم
انطلقنا حتى أتينا موضعه فسألنا عنه، فقالوا: الآن يخرج إلى الصلاة.
قال: فانتظرنا فخرج علينا رجل إن شئت قلت: قد نشر من قبره. قال: فوثب
رجل فأخذ بيده حتى أقامه عند باب المسجد، فأمهل يسيراً، ثم دخل المسجد
فصلى ما شاء الله، ثم أقام الصلاة فصلينا معه، فلما قضى صلاته جاس
كهيئة المهموم فتوافد القوم في السلام عليه، فتقدم محمد بن واسع، فسلم
عليه، فرد عليه السلام وقال: من أنت؟ لا أعرف صوتك. قال: أنا من أهل
البصرة. قال: ما اسمك يرحمك الله؟ قال: أنا محمد بن واسع. قال: مرحباً
وأهلاً، أنت الذي يقول هؤلاء القوم وأومأ بيده إلى البصرة إنك أفضلهم،
لله أبوك إن قمت بشكر ذلك، اجلس، فجلس فقام ثابت البناني فسلم عليه،
فرد عليه، وقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا ثابت البناني. فقال:
مرحباً بك يا ثابت، أنت الذي يزعم أهل هذه القرية أنك من أطراهم صلاة،
اجلس فقد كنت أتمناك على ربي. فقام إليه حبيب أبو محمد، فسلم عليه، فرد
السلام وقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا حبيب، أبو محمد. فقال:
مرحباً بك يا أبا محمد، أنت الذي يزعم هؤلاء القوم أنك لم تسأل الله
شيئاً إلا أعطاك، ألا سألته أن يخفي لك ذلك، اجلس يرحمك الله. قال:
وأخذ بيده فأجلسه إلى جنبه. قال: فقام إليه مالك بن دينار فسلم عليه،
فرد عليه السلام وقال: من أنت رحمك الله؟ قال: أنا مالك بن دينار. قال:
بخ بخ أبو يحيى إن كنت كما يقولون، أنت الذي يزعم هؤلاء أنك أزهدهم،
اجلس فالآن تمت أمنيتي على ربي في عاجل الدنيا. قال صالح: فقمت إليه
لأسلم عليه، فأقبل على القوم فقال: انظروا كيف تكونون غداً بين يدي
الله في مجمع القيامة. قال: فسلمت عليه فرد علي وقال: من أنت يرحمك
الله؟ قلت: صالح المري. قال: أنت الفتى الفارسي؟ أنت أبو معشر؟ قلت:
نعم. قال: فاقرأ يا صالح. فابتدأت فقرأت، فما استتممت الاستعاذة حتى
خرى مغشياً عليه، ثم أفاق فقال: عد في قراءتك. قال صالح: فعدت فقرأت: "
وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً " . قال: فصاح صيحة
ثم انكب لوجهه، وانكشف بعض جسده، فجعل يخور كما يخور الثور، ثم هدأ
فدنونا منه ننظر، فإذا هو قد خرجت نفسه كأنه خشبة، فخرجنا فسألنا: هل
له أحد؟ قيل: عجوز تخدمه، تأتيه الأيام، فبعثنا إليها، فجاءت فقالت: ما
له؟ قلنا: قرىء عليه القرآن فمات. قالت: حق له، من ذا الذي قرأ عليه؟
لعله صالح المري القارىء؟ قلنا: نعم، وما يدريك؟ من صالح؟ قالت: لا
أعرفه غير أن كثيراً مما كنت أسمعه يقول: إن قرأ علي صالح قتلني. قلنا:
فهو الذي قرأ عليه. قالت: هو الذي قتل حبيبي. فهنأناه، ودفناه رحمه
الله.
النعمان بن ثابت ، أبو حنيفة التيمي
إمام
أصحاب الرأي. ولد سنة ثمانين، رأى أنس بن مالك، وسمع من عطاء بن أبي
رباح، وأبي إسحاق السبيعي، ومحارب بن دثار، وحماد بن أبي سليمان، ومحمد
بن المنكدر، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة وغيرهم. وروى عنه:
هشيم، وابن المبارك، ووكيع، ويزيد بن هارون وغيرهم. وكان ربعة من
الرجال تعلوه سمرة، حسن الثياب، كثير التعطر كريماً. وكان أول أمره
يبيع الخز، ثم تشاغل بالعلم. أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو
بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الخلال قال: أخبرنا علي بن عمر
الجريري: أن علي بن محمد النخعي حدثهم قال: حدثنا الحسن بن أبي مالك،
عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: لما أردت أطلب العلم جعلت أتخير
العلوم، وأسأل عن عواقبها، فقيل لي: تعلم القرآن. فقلت: إذا تعلمت
القرآن وحفظته فما يكون آخر أمري؟ قالوا: تجلس في المسجد ويقرأ عليك
الناس: الصبيان والأحداث، ثم لا تلبث أن تخرج منهم من هو أحفظ منك أو
يساويك في الحفظ، فتذهب رئاستك. قلت: فإن سمعت الحديث وكتبته حتى لم
يبقى في الدنيا أحفظ مني؟ قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت واجتمع عليك
الصبيان والأحداث، ثم لا تأمن أن تغلط فيرمونك بالكذب، فيصير عاراً
عليك في عقبك. فقلت: لا حاجة لي في هذا. ثم قلت: أتعلم النحو، فإذا
حفظت النحو والعربية، ما يكون آخر أمري؟ قالوا: تقعد معلماً، فأكثر
رزقك ديناران إلى ثلاثة. قلت: وهذا لا عاقبة له. قلت: فإن نظرت في
الشعر فلم يكن أحد أشعر مني، ما يكون من أمري؟ قالوا: تمدح فيهب لك
ويحملك على دابة، ويخلع عليك خلعة، وإن حرمك هجوته، فصرت تقذف
المحصنات. فقلت: لا حاجة لي في هذا. قلت: فإن نظرت في الكلام؟ ما يكون
آخره؟ قالوا: لا يسلم من نظره في الكلام من مشنعات الكلام، فيرمى
بالزندقة، فإما أنك تأخذ فتقتل، وإما تسلم فتكون مذموماً ملوماً. قلت:
فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تسأل فتفتي الناس، وتطلب للقضاء، وأن كنت
شاباً. قلت: فليس في العلوم شيء أنفع من هذا. فلزمت الفقه. حدثنا أبو
منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا الصيمري قال:
حدثنا عمرو بن إبراهيم المقرىء قال: حدثنا مكرم بن أحمد قال: حدثنا
أحمد بن محمد الحماني قال: حدثنا الفضيل بن غانم قال: كان أبو يوسف
مريضاً شديد المرض، فعاده أبو حنيفة مراراً، فصار إليه آخر مرة فرآه
ثقيلاً فاسترجع وقال: كنت أؤملك المسلمين بعدي، ولئن أصيب الناس بك
ليموتن معك علم كثير، ثم رزق الله أبا يوسف العافية، وأخبر بقول أبي
حنيفة فيه، فارتفعت نفسه، وانصرفت وجوه الناس إليه، فعقد لنفسه مجلساً
في الفقه، وقصر عن لزوم مجلس أبي حنيفة، فسأل عنه فأخبر أنه قد عقد
لنفسه مجلساً، وأنه بلغه كلامك فيه، فدعا رجلاً كان له عنده قدرٌ فقال:
صر إلى مجلس يعقوب فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قصار ثوباً ليقصره
بدرهم فصار إليه بعد أيام في طلب الثوب، فقال له القصار: ما لك عندي
شيء. وأنكره، ثم أن رب الثوب رجع إليه، فدفع له الثوب مقصوراً، أله
أجرة؟ فإن قال له أجرة، فقل أخطأت، وإن قال لا أجرة له فقل أخطأت فصار
إليه فسأله فقال أبو يوسف له الأجرة. فقال: أخطأت. فنظر ساعة ثم قال:
لا أجرة له. فقال: أخطأت. فقام أبو يوسف من ساعته، فأتى أبا حنيفة فقال
له: ما جاء بك إلا مسألة القصار. قال: أجل. قال: سبحان الله، من قعد
يفتي الناس وعقد مجلساً يتكلم في دين الله وهذا قدره لا يحسن أن يجيب
في مسألة من الإجارات. فقال: يا أبا حنيفة، علمني. فقال: إن قصره بعد
غصبه فلا أجرة له، لأنه قصره لنفسه، وإن كان قصره قبل أن يغصبه فله
الأجرة، لأنه قصره لصاحبه، ثم قال: من ظن أنه يستغني عن التعلم فليبك
على نفسه. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرنا القاضي أبو جعفر محمد بن أحمد السمناني قال: حدثنا أبو
محمد الحسن بن أبي عبد الله السمناني قال: حدثنا الحسين بن رحمة قال:
حدثنا محمد بن شجاع الثلجي قال: حدثنا محمد بن سماعة، عن أبي يوسف قال:
سمعت أبا حنيفة يقول: إذا كلمت القدري فإنما هو حرفان، إما أن يسكت
وإما أن يكفر، يقال له: هل علم الله في سابق علمه أن تكون هذه الأشياء
كما هي؟ فإن قال: لا، فقد كفر، وإن قال: نعم، يقال له: أفأراد أن يكون
كما علم؟ أو أراد أن يكون بخلاف ما علم؟ فإن قال: أراد أن يكون
كما علم
فقد أقرأ نه أراد من المؤمن الإيمان، ومن الكافر الكفر. وإن قال: أراد
أن يكون بخلاف ما علم فقد جعل ربه متمنيا " متحسرا " ؛ لأن من أراد أن
يكون ما علم أنه لا يكون، أو يكون ما علم أنه يكون فإنه متمن متحسر،
ومن جعل ربه متمنيا " متحسرا " فهو كافر. قال مؤلف الكتاب رحمه الله "
: لا يختلف الناس في فهم أبي حنيفة وفقهه. كان سفيان الثوري، وابن
المبارك يقولان: أبو حنيفة أفقه الناس. وقيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟
فقال: رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته.
قال الشافعي رحمة الله عليه: الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه. قال
مؤلف الكتاب: وبعد هذا فاتفق الكل على الطعن فيه، ثم انقسموا على ثلاثة
أقسام: فقوم طعنوا فيه لما يرجع إلى العقائد و الكلام في الأصول. وقوم
طعنوا في روايته وقلة حفظه وضبطه. وقوم طعنوا لقوله الرأي فيما يخالف
الأحاديث الصحاح. فأما القسم الأول: فأخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز
قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل قال:
أخبرنا محمد بن عمرو البختري الرزاز قال: حدثنا حسن بن إسحاق قال:
حدثنا الحميدي قال: حدثنا حمزة بن الحارث بن عمير، عن أبيه قال: سمعت
رجلاً يسأل أبا حنيفة في المسجد عن رجل قال: أشهد أن الكعبة حقٌ، ولكن
لا أدري هي هذه التي بمكة أم لا؟ فقال: مؤمن حقاً. وسأله عن رجل قال:
أشهد أن محمداً عبد الله نبي، ولكن لا أدري هو هذا الذي قبره بالمدينة
أم لا؟ قال: مؤمن حقاً. قال الحميدي: ومن قال هذا فقد كفر. أخبرنا
القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن
الفضل قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه قال: حدثنا يعقوب بن
سفيان قال: حدثني علي بن عثمان بن نفيل قال: حدثنا أبو مسهر قال: حدثنا
يحيى بن حمزة: أن أبا حنيفة قال: لو أن رجلاً عبد هذا البغل يتقرب به
إلى الله لم أر بذلك بأساً. أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي
قال: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله السراج قال: حدثنا أحمد بن
محمد بن عبدوس قال: أخبرنا أحمد بن سعيد الدارمي قال: حدثنا محبوب بن
موسى الأنطاكي قال: سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: سمعت أبا حنيفة يقول:
إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد، قال إبليس: يا رب . وقال أبو
بكر: يا رب. قال أبو إسحاق: ومن كان من المرجئة ثم لم يقل هذا أنكر
عليه قوله. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال:
أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سليمان المؤدب قال: أخبرنا أبو بكر بن
المقرىء قال: حدثنا سلامة بن محمود قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عمر
قال: سمعت أبا مسهر يقول: كان أبو حنيفة رأس المرجئة. أخبرنا عبد
الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: المشهور
عن أبي حنيفة أنه كان يقول بخلق القرآن ثم استتيب منه. وأخبرنا الخلال
قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا عمر بن الحسن القاضي قال: حدثنا
العباس بن عبد العظيم قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: كان أبو حنيفة في
مجلس عيسى بن موسى فقال: القرآن مخلوق. فقال: أخرجوه، فإن تاب، وإلا
فاضربوا عنقه. قال أبو بكر الحافظ: وأخبرني الحسن بن محمد أخو الخلال
قال: أخبرنا جبريل بن محمد العدل قال: أخبرنا محمد بن حيوية قال: حدثنا
محمود بن غيلان. قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: سمعت شريكاً يقول: استتيب
أبو حنيفة مرتين. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر
الحافظ قال: أخبرنا ابن رزق قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن سلمة قال:
حدثنا أحمد بن علي قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد قال: حدثنا محبوب بن
موسى قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: قال أبو حنيفة: لو أدركني رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قولي. القسم الثاني:
أنهم ضعفوه لعلة حفظه وضبطه، وكثرة خطأه فيما روى: أخبرنا أبو منصور
القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله
الأنماطي قال: أخبرنا محمد بن المظفر قال: أخبرنا علي بن أحمد بن
سليمان الصرفي قال: أخبرنا أحمد بن سعيد بن أبي مريم قال: سألت يحيى بن
معين عن أبي حنيفة قال: لا تكتب حديثه. أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد
بن علي قال: اخبرني علي بن محمد المالكي قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان
الصفار قال: أخبرنا
محمد بن
عثمان الصيرفي قال: حدثنا عبد الله بن علي بن عبد الله المديني قال:
سألت عن أبي حنيفة فضعفه جداً. وقال: روى خمسين حديثاً أخطأ فيها.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا ابن الفضل قال:
حدثنا محمد بن عثمان بن أحمد الدقاق قال: حدثنا سهل بن أحمد الواسطي
قال: حدثنا أبو حفص عمرو بن علي قال: أبو حنيفة ليس بالحافظ، مضطرب
الحديث، واهي الحديث. وقال أبو بكر ابن أبي داود: جميع ما روى أبو
حنيفة من الحديث مائة وخمسون حديثاً أخطأ أو قال: غلط في نصفها. القسم
الثالث: قوم طعنوا فيه لميله إلى الرأي المخالف للحديث الصحيح، وقد كان
بعض الناس يقيم عذره ويقول: ما بلغه الحديث، وذلك ليس بشيء لوجهين:
أحدهما: أنه لا يجوز أن يفتي من يخفى عليه أكثر الأحاديث الصحيحة.
والثاني: أنه كان إذا أخبر بالأحاديث المخالفة لقوله لم يرجع عن قوله.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا
أبو سعيد بن محمد بن حيوية الأصفهاني قال: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد
بن عيسى الخشاب قال: حدثنا أحمد بن مهدي قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم
قال: حدثنا عبد السلام بن عبد الرحمن قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى بن
علي الهاشمي قال: حدثني أبو إسحاق الفزاري قال: سألت أبا حنيفة عن
مسألة فأجاب فيها فقلت: إنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه كذا
وكذا فقال: حك هذا بذنب الخنزير. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال:
أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرنا محمد بن أبي نصر النرسي قال:
أخبرنا محمد بن عمر بن بهتة البزاز قال: أخبرنا أحمد بن سعيد الكوفي
قال: حدثنا موسى بن هارون بن إسحاق قال: حدثنا العباس بن عبد العظيم
قال: حدثني أبو بكر بن أبي الأسود، عن بشر بن مفضل قال: قلت لأبي
حنيفة: روى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "
البائعان بالخيار ما لم يتفرقا " قال: هذا زجر. قلت: قتادة عن أنس: أن
يهودياً رضخ رأس جارية بين حجرين فرضح النبي صلى الله عليه وسلم رأسه
بين حجرين. وقال: هذيان. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد
بن علي الحافظ قال: أخبرنا البرقاني قال: قرأت على محمد المحمودي:
حدثكم محمد بن علي الحافظ قال: حدثنا إسحاق بن منصور قال: أخبرنا عبد
الصمد، عن أبيه قال: ذكر لأبي حنيفة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "
أفطر الحاجم والمحجوم " فقال: هذا سجع. وذكر له قولٌ قاله عمر فقال:
هذا قول شيطان. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي
قال: أخبرنا الخلال قال: حدثنا عبد الله بن عثمان الصفار قال: حدثنا
محمد بن مخلد قال: حدثنا العباس بن محمد قال: حدثنا إبراهيم بن شماس
قال: سمعت وكيعاً يقول: سأل ابن المبارك أبا حنيفة عن رفع اليدين في
الركوع فقال أبو حنيفة: يريد أن يطير فيرفع يديه؟ فقال له ابن المبارك:
إن كان طار في الأولى فإنه يطير في الثانية. فسكت أبو حنيفة. أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن
الحسين بن محمد المتوثي قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: أخبرنا
أحمد بن بشر المرثدي قال: أخبرنا رجاء بن السندي قال: سمعت بشر بن
السري يقول: سمعت أبا عوانة يقول: كنت جالساً عند أبي حنيفة فأتاه رسول
من قبل السلطان فقال: يقول الأمير رجل سرق وديا، فما ترى؟ فقال: غير
متتعتع إن كانت قيمته عشرة دراهم فاقطعوه. فذهب الرجل، فقلت لأبي
حنيفة: ألا تتقي الله؟ حدثني يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حيان،
عن رافع بن خديج: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا قطع في
ثمر ولا كثر " أدرك الرجل فإنه يقطع. فقال: " غير متعتع ذاك حكم قد مضى
فانتهى، وقد قطع الرجل. أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي
قال: حدثنا ابن دوما قال: أخبرنا ابن أسلم قال: حدثنا الأبار قال:
حدثنا محمد بن عجلان، عن مؤمل قال: سمعت حماد بن سلمة يقول: أبو حنيفة
يستقبل السنة يردها برأيه. أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو
بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا البرقاني قال: قرأت على أبي حفص بن الزيات
قال: حدثكم عمر بن محمد الكاغدي قال: حدثنا أبو السائب قال: سمعت
وكيعاً يقول: وجدنا أبا حنيفة خالف مائتي حديث. أخبرنا القزاز قال:
أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا القاضي أبو القاسم عبد
الواحد بن
محمد بن عثمان البجلي قال: حدثنا عمر بن محمد بن عمر بن الفياض قال:
أخبرنا أبو طلحة أحمد بن عبد الكريم قال: حدثنا عبد الله بن حسن قال:
حدثنا أبو صالح الفراء قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة حديث أو أكثر. فقلت له: يا أبا
محمد، تعرفها؟ قال: نعم. قلت: أخبرني بشيء. فقال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " للفرس سهمان وللراجل سهم " قال أبو حنيفة: أنا لا
أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن. وأشعر رسول الله صلى الله علي وسلم
وأصحابه البدن، وقال أبو حنيفة: الإشعار مثلة. وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا " وقال أبو حنيفة: إذا
وجب البيع فلا خيار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه
إذا أراد أن يخرج في سفره وأقرع أصحابه. وقال أبو حنيفة: القرعة قمار.
وقال أبو حنيفة: لو أدركني النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ بكثير من
قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن. قال بعض العلماء: العجب من أبي
حنيفة، كيف يقول وهل الدين إلا الرأي، وهل يعلم أن كثيراً من التكاليف
لا يهتدي إليها القياس، ولهذا يأخذ هو بالحديث الضعيف ويترك القياس.
محمد بن عثمان البجلي قال: حدثنا عمر بن محمد بن عمر بن الفياض قال:
أخبرنا أبو طلحة أحمد بن عبد الكريم قال: حدثنا عبد الله بن حسن قال:
حدثنا أبو صالح الفراء قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة حديث أو أكثر. فقلت له: يا أبا
محمد، تعرفها؟ قال: نعم. قلت: أخبرني بشيء. فقال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " للفرس سهمان وللراجل سهم " قال أبو حنيفة: أنا لا
أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن. وأشعر رسول الله صلى الله علي وسلم
وأصحابه البدن، وقال أبو حنيفة: الإشعار مثلة. وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا " وقال أبو حنيفة: إذا
وجب البيع فلا خيار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه
إذا أراد أن يخرج في سفره وأقرع أصحابه. وقال أبو حنيفة: القرعة قمار.
وقال أبو حنيفة: لو أدركني النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ بكثير من
قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن. قال بعض العلماء: العجب من أبي
حنيفة، كيف يقول وهل الدين إلا الرأي، وهل يعلم أن كثيراً من التكاليف
لا يهتدي إليها القياس، ولهذا يأخذ هو بالحديث الضعيف ويترك القياس.
فأما المسائل التي خالف فيها الحديث فكثيرة، إلا أن من مشهورها الذي
خالف فيه الصحاح:
مسألة بول الغلام الذي لم يأكل الطعام يرش
وقال أبو حنيفة: يغسل وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتي بصبي لم يأكل الطعام فبال، فدعا بماء فرشه عليه.
مسألة لا يجوز تخليل الخمر، وإذا خللت لم
تطهر
وقال أبو حنيفة: يجوز وتطهر. وفي صحيح مسلم: من حديث أنس: أن أبا طلحة
سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً فقال:أهرقها. قال:
أفلا أجعلها خلاً؟ قال: لا.
مسألة يجوز الآذان للفجر قبل طلوعه
وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وفي الصحيحين: عن النبي صلى الله عليه وسلم:
أنه قال: " إن بلال يؤذن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم "
.
مسألة إذا لم تقدر على الركوع والسجود
لم يسقط عنه القيام وقال أبو حنيفة: يسقط وفي صحيح البخاري: عن عمران،
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " صل قائماً، فإن لم تستطع
فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب " .
مسألة يسن رفع اليدين عند الركوع وعند
الرفع منه
وقال أبو حنيفة: لا يسن. وفي الصحيحين: من حديث ابن عمر: أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى تحاذي منكبيه، وإذا
أراد أن يركع، وبعد رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين. وفي
الصحيحين: من حديث مالك بن الحويرث مثله. وقد رواه عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نحو عشرين صحابي.
مسألة إذا طلعت الشمس وهو في صلاة الصبح
أتم
وقال أبو
حنيفة تبطل صلاته. وفي الصحيحين: من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: " من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد
أدركها، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة " .
مسألة يجوز الوتر بركعة
وقال أبو حنيفة: بثلاث. وفي الصحيحين: من حديث ابن عمر: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يوتر بركعة.
مسألة تسن الصلاة للاستسقاء
وقال أبو حنيفة: لا تسن. وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم صلى صلاة الاستسقاء.
مسألة ويجوز تحويل الرداء في صلاة
الاستسقاء وقلبه
وقال أبو حنيفة: لا يسن. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل
ذلك.
مسألة يستحب في غسل الميت شيء من كافور
في الغسلة الأخيرة
وقال أبو حنيفة: لا يستحب وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال للواتي غسلن ابنته: " اجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً " .
مسألة يسن استلام الركن اليماني في الطواف
وقال أبو حنيفة لا يسن. وفي صحيح مسلم: من حديث ابن عمر: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني.
مسألةإشعار البدن، وتقليدها سنة
و قال أبو حنيفة: يكره الإشعار؛ فإنه مثلة. وقد صح أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أشعر بدنته وقلدها.
مسألة يجوز بيع العرايا
وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وفي الصحيحين: من حديث زيد بن ثابت: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا.
مسألة إذا اشترى مصراة ثبتت له خيار الفسخ
وقال أبو حنيفة: لا يثبت. وفي الصحيحين: من حديث أبي هريرة: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير
النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمرٍ
" .
مسألة لا يجوز بيع الكلب وإن كان معلماً
وقال أبو حنيفة: يجوز. وفي الصحيحين: من حديث ابن مسعود أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب.
مسألة إذا أراق على ذمي خمراً أو قتل له خنزيراً لم يضمن
وقال أبو حنيفة: يضمن. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: إن الله حرم الخمر وثمنها.
مسألة لا يقتل المسلم بالكافر
وقال أبو حنيفة: يقتل بالذمي. وفي صحيح البخاري من حديث علي رضي الله
عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقتل مسلم بكافر " .
مسألة يجب القصاص في القتل بالمثل
وقال أبو حنيفة: لا يجب إلا فيما له حدٌ. وفي الصحيحين: من حديث أنس:
أن يهودياً رضخ رأس امرأة بين حجرين فقتلها، فرضخ رسول الله صلى الله
عليه وسلم رأسه بين حجرين.
مسألة إذا ضربت حامل فماتت
ثم انفصل عنها جنين ميت وجبت فيه الغرة
وقال أبو حنيفة لا شيء في الجنين، وفي الصحيحين: عن المغيرة أنه قال:
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغرة عبداً أو أمة.
مسألة الإسلام ليس بشرطٍ في الإحصان
وقال أبو حنيفة: هو شرط. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
رجم يهودياً ويهودية.
مسألة النصاب في السرقة ربع دينار أو ثلاثة
دراهم
وقال أبو حنيفة: دينار أو عشرة دراهم. وفي الصحيحين: من حديث عائشة: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار فصاعداً.
مسألة إذا اطلع في بيت إنسان على أهله
فله أن يرمي عينه، فإن فقأها فلا ضمان عليه
وقال أبو حنيفة: لزمه الضمان. وفي الصحيحين: من حديث سهل بن سعد قال:
اطلع رجل في حجرة من حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه مدرى يحك
به رأسه، فقال: " لو أعلمك تنظر لطعنت به في عينيك " . وفي الصحيحين:
من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اطلع
على قوم في بيتهم بغير إذنهم فقد حل له أن يفقأوا عينه " .
مسألة الإمام مخير في الأسرى
بين القتل والاسترقاق والمن الفداء
قال أبو حنيفة لا يجوز المن والفداء. وقد صح عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه من على ثمامة بن أثال، وفدى الأسرى يوم بدر.
مسألة هدايا الأمراء كبقية أموال الفيء
لا يختصون بها
وقال أبو
حنيفة: يختصون بها. وفي الصحيحين: من حديث أبي حميد: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم استعمل رجلاً فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بال العامل نبعثه فيقول هذا لكم
وهذا أهدي لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا،
والذي نفسي بيده لا يأتي أحدٌ منكم بشيء إلا جاء به يوم القيامة على
رقبته " .
مسألة لا يجوز الزكاة بالسن والظفر
وقال أبو حنيفة: بها إذا كانا منفصلين. وفي الصحيحين : منحديث رافع بن
خديج قال: قلت: يا رسول الله، إن ملاقو العدو غداً وليست معنا مدي.
فقال: " ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر " .
مسألة يحل أكل الضب
وقال أبو حنيفة: لا تحل. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
لم يحرم الضب، وإنما قذره، فإن خالد بن الوليد قال له وقد قدم إليه:
أحرام هو؟ قال: " لا، ولكنه لا يكون بأرض قومي فأجدني أعافه " فأكل
خالد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.
مسألة يحل أكل لحوم الخيل
وقال أبو حنيفة: لا تحل. وفي الصحيحين: من حديث جابر: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر، وأن في لحوم الخيل.
مسألة النبيذ حرام
وقال أبو حنيفة: إنما يحرم المسكر منه. وقد صح أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: " كل مسكر حرام " . وفي حديث عائشة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: " ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام " .
مسألة حكم الحاكم لا يحيل الشيء عن صفته
وقال أبو حنيفة: يحيله في العقود والفسوخ. وفي الصحيحين: من حديث أم
سلمة: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج
إليهم فقال: " إنما أنا بشر مثلكم، وإنه يأتيني الحكم فلعل بعضهم أن
يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه قد صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق
مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو فليتركها " .
مسألة يجوز الحكم بشاهد ويمين
في المال وما يقصد به المال
وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وقد روى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد. ورواه عمر، وعلي بن أبي طالب،
وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وزيد بن ثابت، وأبو حزم، وأنس، وبلال
بن الحارث، والمغيرة بن شعبة، وسلمة بن قيس في آخرين. فهذا من مشهور
المسائل والمتروك أضعافه، ولكونه خالف مثل هذه الأحاديث الصحاح سعوا
بالألسن في حقه، فلم يبق معتبر من الأئمة إلا تكلم فيه، ولا يؤثر أن
يذكر ما قالوا، والعجب منه إذا رأى حديثاً لا أصل له هجر القياس ومال
إليه؛ كحديث: نقض الوضوء بالضحك. فإنه شيء لا يثبت، وقد ترك القياس
لأجله. وكان ابن هيبرة قد أمر أبا حنيفة أن يلي قضاء الكوفة فلم يفعل،
فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة، فلما رآه لا يفعل تركه. ثم
إن المنصور أراده على القضاء فأبى، فحلف ليفعلن، فحلف أبو حنيفة أن لا
يفعل فقال الربيع: ألا أمير المؤمنين يحلف؟ فقال: هو أقدر مني على
الكفارة فسجنه. وقيل: بل دخل في القضاء يومين، ثم مرض ومات. وقيل: إنما
حبس لأنه تكلم في أيام خروج إبراهيم على المنصور، فحبس، وتوفي بسوق
يحيى سنة خمسين ومائة، وهو ابن سبعين سنة. وقرأت بخط أبي الوفاء بن
عقيل: كان قبر أبي حنيفة عليه خربشة رأيته وأنا صبي قبل دخول الغز
بغداد، ثم عمل عليه بعض أمراء التركمان سقفاً، ثم قدم شرف الملك في سنة
ثلاث وخمسين وأربعمائة فأحدث هذه القبة، وكان قد وضع أساس مسجد بين يدي
ضريح أبي حنيفة، فهدم شرف الملك أبنيته وما يحيط بالقبر وحفروا أساسات
وكانوا يطلبون الأرض الصلبة فأخرجوا أربعمائة صن من عظام الموتى. قال
ابن عقيل: فقلت: ما يدريكم لعله قد خرجت عظامه في هذه العظام، وبقيت
القبة فارغة من مقصود بانيها. وأنبأنا علي بن عبيد الله، عن أبي الحسين
المهتدي قال: لا يصح أن قبر أبو حنيفة في هذا الموضع الذي بنوا عليه
القبة، وكان الحاج يردون فيطوفون حول المقبرة يزورون أبا حنيفة لا
يعينون موضعاً.
ثم دخلت
سنة إحدى وخمسين ومائة
فمن
الحوادث فيها: إغارة الكرك على جدة في البحر. وفيها: ولي عمر بن حفص بن
عثمان بن أبي صفرة إفريقية، وعزل عن السند، وولي مكانه هشام بن عروة
الثعلبي. وسبب عزل عمر: أنه لما خرج محمد وإبراهيم بعث إليه محمد بولده
عبد الله في جماعة من أصحابه إلى السند بحجة خيل حملوها، فلما عرضت
عليه قال له بعضهم: أدنني منك. فلما أدناه قال له: إنما جئناك بما هو
خير من الخيل فأعطنا أماناً على خلتين: إما قبلت ما آتيناك به، وإما
سترت حتى نخرج من أرضك. فأعطاهم الأمان فقالوا: ما للخيل أتيناك به،
ولكن هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن محمد بن عبد
الله بن حسن بن حسن أرسله أبوه إليك، وقد خرج بالمدينة، ودعا لنفسه
بالخلافة، وخرج أخوه إبراهيم بالبصرة، وغلب عليها له. قال له: بالرحب
والسعة، ثم بايعهم وأمر به فتوارى عنده، ودعا أهل بيته وقواده، وكبراء
أهل البلد إلى البيعة فأجابوه، وقطع أعلاماً بيضاء، وملابس بيضاً، وهيأ
لبسته من البياض يصعد فيها إلى المنبر، وتهيأ لذلك يوم الخميس، فجاءه
الخبر بقتل محمد، فدخل على ابنه فأخبره الخبر وعزاه، فقال له: إن مكاني
قد عرف، ودمي في عنقك، فقال: ها هنا ملك من ملوك السند كثير التبع ،
وهو على شركه أشد الناس تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو
رجل وفي، فأرسل إليه، فاعقد بينك وبينه عقداً، قال: أفعل فأرسل إليه،
فأظهر كرامةً وبراً، فخرج في أربعمائة من أصحابه يتصيد ويتنزه، وبلغ
الخبر المنصور فعزل عمر، وولى هشاماً، وقال له: إن أسلم ذلك الملك عبد
الله بن محمد وإلا حاربه، وكتب إلى عمر بولاية إفريقية، فكان هشام يدفع
عن عبد الله ويتمادى في أمره، فخرجت خارجة ببلاد الشام فبعث إليهم
أخاه، فبينا هو يسير إذ هو برهج، فظنهم مقدمات العدو الذي يقصده، فوجه
طلائعه فقالوا: ليس بعدوك، ولكن عبد الله بن محمد ركب متنزهاً، فمضى
يريده، فقال له نصاحه: هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علمت
أن أخاك قد تركه مخافة أن يبوء بدمه ولم يقصدك. فأعرض عنه، فقال: لا
أدع حظي من التقرب من المنصور بأخذه أو قتله، فقصده، وكان في عشرة
آلاف، فقاتله فقتل عبد الله وأصحابه كلهم، فكتب بذلك إلى المنصور
فشكره، وأمره بمحاربة الملك الذي آواه فحاربه وظفر به وقتله. وكان عبد
الله قد اتخذ بحضرة ذلك الملك جواري فأولد منهن جارية فحملها وابنها
إلى المنصور، فأمر أن يسلم إلى أقربائه. وفي هذه السنة قدم المهدي من
خراسان في شوال على المنصور، فوفد إليه عامة أهل بيته من كل بلد
يهنئونه فأجازهم وكساهم وحملهم، وفعل بهم المنصور مثل ذلك، واجرى على
كل رجل منهم خمس مائة درهم. وفي هذه السنة: ابتدأ المنصور ببناء
الرصافة في الجانب الشرقي من مدينة السلام لابنه المهدي. وكان السبب في
ذلك: أن الراوندية لما حاربوا المنصور على باب الذهب دخل عليهم قثم بن
العباس بن عبد الله بن العباس، وهو يومئذٍ شيخ كبير ومقدم عند القوم،
فقال له أبو حعفر: أما ترى ما نحن فيه من التياث العسكر علينا، قد خفت
أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فما ترى؟ فقال: يا أمير
المؤمنين، عندي في هذا رأي، وإن تركتني أمضيه صلحت لك خلافتك وهابك
جندك ،فقال : أفتمضي في خلافتي بشيء لا تعلمني ما هو ؟ فقال له : إن
كنت عندك متهماً على دولتك فلا تشاورني ، وإن كنت مأموناً عليها فدعني
أمضي رأيي قال: فقال له المنصور: أمضه، قال فانصرف قثم إلى منزله فدعى
غلاماً له فقال له: إذا كان غداً فتقدمني فاجلس في دار أمير المؤمنين،
فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب، فخذ بعنان بغلتي واستوقفني
واستحلفني بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحق العباس، وبحق أمير
المؤمنين لما وقفت لك وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، فإني سأنتهرك وأغلظ لك
فلا يهولنك ذلك مني، وعاودني بالقول والمسألة، فإني سأضربك بالسوط، فلا
يشق عليك ذلك، وقل: أي الحيين أشرف؟ أهل اليمن أو مضر؟ فإذا أجبتك فخل
عنان بغلتي وأنت حر، فغدا الغلام فجلس حيث أمره، فلما جاء فعل ما أمره
به إلى أن قال: أي الحيين أشرف أهل اليمن أو مضر؟ فقال له قثم: مضر،
منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها كتاب الله عز وجل، وفيها بيت
الله، ومنها خلبفة الله. قال: فامتعضت أهل اليمن إذ لم يذكر لها شيئاً
من شرفها فقال
قائل من
قواد أهل اليمن لغلامه: قم فخذ بعنان بغلتي الشيخ فكبحها كبحاً عنيفاً
تطأ من به، ففعل الغلام حتى كاد يقيعها على عراقيبها، فامتعضت من ذلك
مضر وقالت: أيفعل هذا بشيخنا وأمر رجل منهم غلامه فقال: اقطع يد العبد،
فقام ذلك إلى غلام اليماني فقطع يده، فتفرق الحيان، وصرف قثم بغلته،
فدخل على أبي جعفر وافترق الجند، وصارت مضر فرقة، واليمن فرقة، وربيعة
فرقة، والخراسانية فرقة، فقال قثم لأبي جعفر: قد فرقت بين جندك وجعلتهم
أحزاباً، كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثاً، فتضربه بالحزب الأخر،
وقد بقي عليك في التدبير بقية، قال: وما هي؟ قال: اعبر بابنك، فابن له
من ذلك الجانب قصراً وحول معه من جيشك قوماً فيصير ذلك بلداً وهذا
بلداً، فإن فسد عليك أهل هذا الجانب ضربتهم بأهل ذلك الجانب، فإن فسدت
عليك مضر ضربتها باليمن وربيعة وخراسانية، وإن فسدت عليك اليمن ضربتها
بمن أطاعك من مضر وغيرها. فقبل رأيه وأمرهم فاستوى له ملكه، وكان سبب
البناء في الجانب الشرقي، فبنى الرصافة للمهدي، وعمل لها سوراً وخندقاً
وميداناً وبستاناً، وأجرى له الماء، وأقطع القواد هناك قطائع، و تولى
صالح صاحب المصلى القطائع في الجانب الشرقي، وفعل كفعل أبي العباس
الطوسي في فصول القطائع في الجانب الغربي. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد
قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن علي بن مخلد الوراق قال:
حدثنا محمد بن جعفر التميمي قال: حدثنا الحسن بن محمد السكوني قال:
حدثنا محمد بن خلف قال: حدثنا أحمد بن محمد الشروي، عن أبيه قال: قدم
المهدي من المحمدية بالري سنة إحدى وخمسين ومائة، في شوال، ووفدت إليه
الوفود، وبنى له المنصور الرصافة، وعمل لها سوراً وخندقاً وميداناً
وبستاناً، وأجرى لها الماء. قال ابن خلف: وقال يحيى بن حسن: كان بناء
المهدي بالرهوص إلا ما كان يسكنه. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال:
أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي
الصيرمي، قال: أنبأنا محمد بن عمران المرزباني، قال: أخبرني محمد بن
يحيى، قال: أخبرني محمد بن موسى المنجم أن المعتصم وابن أبي دؤاد
اختلفا في مدينة أبي حعفر والرصافة أيهما أعلى؟ قال: فأمر بي المعتصم
فوزنتهما فوجدت المدينة أعلى من الرصافة بذراعين وثلثي الذراع. أخبرنا
القزاز قال: أخبرنا الخطيب قال: وقيل إن الدروب والسكك أحصيت ببغداد،
فكانت ستة آلاف درب وسكة بالجانب الغربي، وأربعة آلاف درب وسكة بالجانب
الشرقي. وفي هذه السنة: جدد المنصور البيعة لنفسه ولابنه المهدي من
بعده، ولعيسى بن موسى من بعد المهدي على أهل بيته في مجلسه في يوم
جمعة، قد عمهم الإذن فيه، فكان كل من بايعه منهم يقبل يده ويد المهدي،
ثم يمسح على يد عيسى بن موسى، ولا يقبل يده. وفي هذه السنة: غزا
الصائفة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد. وفيها: شخص عقبة بن سلم من
البصرة واستخلف عليها ابنه نافع بن عقبة على البحرين، فقتل سليمان بن
حكيم العبدي وسبى أهل البحرين، وبعث ببعض من سبى منهم إلى أبي جعفر،
فقتل منهم عدة، ووهب بقيتهم للمهدي، فمن عليهم وأعتقهم، وكسا كل إنسان
منهم ثوبين مروريين، ثم عزل عقبة عن البصرة. وفيها: ولى أبو حعفر معن
بن زائدة سجستان، وحميد بن قحطبة خراسان، وقد كان المنصور طلب معناً
ليهلكه ثم أمنه وولاه. أنبأنا محمد بن أبي طاهر البزاز قال: أنبأنا علي
بن أبي علي البصري، عن أبيه قال: أخبرنا أبو الفرج بن علي بن الحسين
القرشي قال: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي
سعد قال: حدثنا محمد بن نعيم البلخي قال: حدث مروان بن أبي حفصة قال:
كان المنصور قد طلب معن بن زائدة الشيباني طلباً شديداً، وجعل فيه
مالاً، فحدثني معن باليمن أنه اضطر لشدة الطلب حتى قام في الشمس حتى
لوحت وجهه، وخفف عارضه ولحيته، ولبس جبة صوف غليظة، وركب حملاً من حمال
النقالة، وخرج ليمضي إلى البادية، وقد كان أبلى في حرب بين يدي عمر بن
هيبرة بلاءً عظيماً، فغاظ المنصور في طلبه قال معن: فلما خرجت من باب
حرب تبعني أسود متقلد سيفاً حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل
فأناخه، وقبض علي، فقلت: مالك؟ فقال: أنت طلبة أمير المؤمنين، فقلت:
ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين، فقال: أنت معن بن زائدة، فقلت: يا
هذا اتق الله، و أين أنا
من معن بن
زائدة، فقال: دع ذا عنك فأنا والله أعرف بك من نفسك، فقلت له: إن كان
كما تقول فهذا جوهر حملته معي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاء بي، فخذه
ولا تسفك دمي، قال: هاته، فأخرجته إليه فنظر إليه ساعة وقال: صدقت في
قيمته ولست نائله حتى أسألك عن شيء فإن صدقتني أطلقتك، قلت: قل، قال:
فإن الناس قد وصوفك بالجود، فأخبرني هل وهبت قط مالك كله، قلت: لا،
قال: فنصفه، قلت: لا، قال: فثلثه، قلت: لا، حتى بلغ العشر فاستحييت،
فقلت: أظن إني قد فعلت ذلك، قال: ما أراك فعلته أنا والله رجل راجل
رزقي مع أبي جعفر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته آلاف الدنانير، وقد
وهبته لك ووهبتك نفسك لجودك المأثور بين الناس، ولتحتقر بعد هذا كل شيء
تفعله ولا تتوقف في مكرمة، ثم رمى بالعقد في حجري وخلى خطام البعير
وانصرف، فقلت: يا هذا، قد والله فضحتني، ولسفك دمي أهون علي مما فعلته،
فخذ ما دفعته إليك فإني غني عنه، فضحك وقال: أردت أن تكذبني في مقامي
هذا، والله لا آخذه لا أتخذ لمعروف ثمناً أبداً، ومضى، فو الله لقد
طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن جائني به ما شاء، فما عرفت له خبراً.
وفيها: حج بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس
وكان هو العامل على مكة والطائف، وكان على المدينة الحسن بن زيد، وعلى
الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة جابر بن توبة الكلابي، وعلى قضائها
سوار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم.معن بن زائدة، فقال: دع ذا
عنك فأنا والله أعرف بك من نفسك، فقلت له: إن كان كما تقول فهذا جوهر
حملته معي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاء بي، فخذه ولا تسفك دمي، قال:
هاته، فأخرجته إليه فنظر إليه ساعة وقال: صدقت في قيمته ولست نائله حتى
أسألك عن شيء فإن صدقتني أطلقتك، قلت: قل، قال: فإن الناس قد وصوفك
بالجود، فأخبرني هل وهبت قط مالك كله، قلت: لا، قال: فنصفه، قلت: لا،
قال: فثلثه، قلت: لا، حتى بلغ العشر فاستحييت، فقلت: أظن إني قد فعلت
ذلك، قال: ما أراك فعلته أنا والله رجل راجل رزقي مع أبي جعفر عشرون
درهماً، وهذا الجوهر قيمته آلاف الدنانير، وقد وهبته لك ووهبتك نفسك
لجودك المأثور بين الناس، ولتحتقر بعد هذا كل شيء تفعله ولا تتوقف في
مكرمة، ثم رمى بالعقد في حجري وخلى خطام البعير وانصرف، فقلت: يا هذا،
قد والله فضحتني، ولسفك دمي أهون علي مما فعلته، فخذ ما دفعته إليك
فإني غني عنه، فضحك وقال: أردت أن تكذبني في مقامي هذا، والله لا آخذه
لا أتخذ لمعروف ثمناً أبداً، ومضى، فو الله لقد طلبته بعد أن أمنت
وبذلت لمن جائني به ما شاء، فما عرفت له خبراً. وفيها: حج بالناس محمد
بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وكان هو العامل على مكة
والطائف، وكان على المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان،
وعلى البصرة جابر بن توبة الكلابي، وعلى قضائها سوار بن عبد الله، وعلى
مصر يزيد بن حاتم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
أشعث الحداني أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الحسين بن
عبد الجبار، قال: أخبرنا علي بن أحمد الملطي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد
بن يوسف، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد، قال:
حدثني محمد بن عمر بن علي، قال: حدثنا سعيد بن عامر، قال: حدثنا حزم،
قال: لنا أشعث الحداني: انطلقوا إلى حبيب أبي محمد نسلم عليه قال: وذاك
عند ارتفاع النهار فانطلقنا معه نسلم، فخرج حبيب فأخذوا في البكاء، فما
زالوا يبكون حتى حضرت الظهر، فصلينا ثم أخذوا في البكاء فما زالوا
يبكون حتى حضرت العصر.قال: فصلينا العصر، فما زالوا يبكون حتى حضرت
المغرب، ثم أدنينا حماره فركب فقال لنا: إن ناساً ينهون عن هذا
أفأطيعهم؟ قلنا: أنت أعلم، قال: إذاً والله لا أطيعهم.
جعفر الأكبر ابن المنصور: كان يتولى إمارة الموصل ومات في حياة أبيه.
حميد بن جابر الشامي، الأمير:
أخبرنا
محمد بن ناصر، والمبارك بن علي، قالا: أخبرنا علي بن محمد بن العلاف،
قال: أخبرنا علي بن أحمد الحمامي، قال: أخبرنا جعفر بن محمد الخواص،
قال: حدثنا إبراهيم بن نصر مولى منصور بن المهدي، قال: حدثني إبراهيم
بن يسار، قال: كنت يوماً من الأيام ماراً مع إبراهيم بن أدهم في صحراء،
إذ أتينا على قبر مسنم، فوجم عليه وبكى، فقلت: من هذا؟ قال: قبر حميد
بن جابر أمير هذه المدائن كلها، كان غرقاً في بحر الدنيا أخرجه الله
منها واستنقذه، لقد بلغني أنه سر ذات يوم بشيء من ملاهي ملكه ودنياه
وغروره، ثم نام في مجلسه ذلك مع من يخصه من أهله، فرأى رجلاً واقفاً
على رأسه بيده كتاب، فناوله إياه ففتحه وقرأه فإذا فيه مكتوب بالذهب:
لا تؤثرون فانياً على باق، ولا تغتر بنلكك وسلطانك وعبيدك ولذاتك، فإن
الذي أنت فيه جسيم لولا أنه عديم، وهو ملك لولا أن بعده هلك، وهو فرح
وسرور لولا أنه لهو وغرور، وهو يوم لو كان يوثق فيه بغدٍ، فسارع إلى
أمر الله عز وجل، فإن الله قال: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنةٍ
عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين " ، فانتبه فزعاً وقال: هذا تنبيه
من الله عز وجل وموعظة.
فخرج من ملكه إذ لا يعلم به، وقصد هذا الجبل، فتعبد فيه، فلما بلغني
قصته وحدثت بأمره قصدته فسألته فحدثني ببدء أمره، فما زلت أقصده حتى
مات ودفن ها هنا، فهذا قبره.
حسان بن أبي سنان: روى عن الحسن البصري، وأنس، وثابت.
أنبأنا أبو القاسم الجريري، قال: أخبرنا أبو طالب العشاري، قال: أخبرنا
أحمد بن محمد بن يوسف، قال: أخبرنا الحسين بن صفوان، قال: حدثنا أبو
بكر القرشي، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: حدثنا غسان بن
الفضل، قال: حدثنا شيخ لنا يقال له أبو حكيم، قال: خرج حسان بن سنان
يوم العيد، فلما رجع قالت له امرأته: كم امرأة قد حسنة رأيت اليوم؟
فلما أكثرت قال: ويحك ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى رجعت
إليك. قال أبو بكر القرشي: وحدثنا أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا علي بن
الحسن بن شقيق، قال: أخبرنا عبد الله، قال: كتب غلام لحسان بن أبي سنان
إليه من الأهواز: إن قصب السكر أصابته آفة فاشتر السكر فيما قبلك.
فاشترى من رجل فلم يأت عليه إلا قليل، فإذا فيما اشترى ربح ثلاثين
ألفاً. قال: فأتى صاحب السكر فقال: يا هذا، إن غلامي كان كتب إلي ولم
أعلمك فأقلني فيما اشتريت منك، قال الآخر: قد أعلمتني الآن وطيبة لك.
فرجع فلم يحتمل قلبه، فأتاه فقال: يا هذا، إني لم آت الأمر من وجهه
فأحب أن تسترد هذا البيع، فما زال به حتى رده عليه. وقال عاصم بن فرقد:
دخلنا على حسان بن أبي سنان وقد حضره الموت، فقال له - بعض - إخوانه:
كيف تجدك؟ قال: أجدني بحال الموت، قال: أفتجد يا أبا عبد الله كرباً
شديداً؟ قال: فبكى ثم قال: - إن ذلك، ثم قال: إن ذلك، ثم قال: - ينبغي
للمؤمن أن يسلو عن كرب الموت وألمه لما يرجو من السرور في لقاء الله -
عز وجل - عبد الله بن عون بن أرطبان يكنى أبا عون مولى عبد الله بن درة
المزني:
كان ثقة
ورعاً. أنبأنا محمد بن أبي طاهر، قال: أخبرنا الحسن بن علي، قال:
أخبرنا بن عمرو بن حيوية، قال: اخبرنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا
الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا بكار، قال: ما
رأيت ابن عون يمازح أحداً ولا يماري أحداً - ولا ينشد شعراً - ، وكان
مشغولاً بنفسه، وكان إذا صلى صلاة الغداة مكث مستقبل القبلة في مجلسه
يذكر الله، فإذا طلعت عليه الشمس صلى، ثم أقبل على أصحابه، وما رأيته
شاتماً أحداً قط عبداً ولا أمة ولا دجاجة ولا شاة، ولا رأيت أحداً أملك
للسانه منه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً حتى مات، وما رأيت بيده
ديناراً ولا درهماً قط، وما رأيته يزن شيئاً قط، وكان إذا توضأ لا
يعينه عليه أحد، وكان يمسح وجهه إذا توضأ بالمنديل أو بخرقة، وكان طيب
الريح لين الكسوة، وكان إذا خلا في منزله صمت ولا يزيد على الحمد لله
ربنا، وما رأيته دخل حماماً قط، وكان إذا وصل إنساناً بشيء وصله سراً،
وإن صنع شيئاً صنعه سراً يكره أن يطلع عليه أحد، وكان له سبع يقرأه كل
ليلة فإذا لم يقرأه بالليل أتمه بالنهار، وكان يحفي شاربه، وكان يأخذه
أخذاً وسطاً، وكان في مرضه اصبر من رأيت، ما رأيته يشكو شيئاً من علته
حتى مات في رجب هذه السنة.
وروى حماد بن زيد، عن ابن عون، قال: كانت له حوانيت يكريها، وكان لا
يكريها من المسلمين، فقيل له في ذلك، فقال: إن لهذا إذا جاء رأس الشهر
روعه، وأنا أكره أن أروع المسلم.
عثمان بن عطاء الخراساني: يروي عن عبد الله بن وهب، سكن فلسطين، وتوفي
في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة اثنتين وخمسين ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة حميد بن قحطبة كابل، وغزوة محمد بن إبراهيم
الصائفة. وفيها: عزل المنصور جابر بن توبة عن البصرة وولاها يزيد بن
منصور.وفيها قتل أبو جعفر هاشم بن الأشتاخنج، وكان قد عصى وخالف
بإفريقية، فحمل إليه فقتله بالقادسية وهو متوجه إلى مكة. وفيها: عزل
يزيد بن حاتم عن مصر، وولاها محمد بن سعيد. وفيها: حج بالناس المنصور،
واستعدى عليه الحمالون، وحضر معهم عند الحاكم محمد بن عمران الطلحي،
فحكم لهم عليه، وسنذكر القصة في حديث ابن عمران بعد ثلاث سنين. وكان
العمال على الأمصار في هذه السنة العمال في السنة الماضية إلا البصرة
ومصر فإن عامل البصرة كان يزيد بن منصور، وعامل مصر كان محمد بن سعيد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن أبي عبلة واسم أبي عبلة شمر بن يقطان، أبو إسماعيل القيسي
ثم العقيلي: من أهل فلسطين، سمع من ابن عمر وغيره، وسمع منه ابن
المبارك، والليث بن سعد، وتوفي في هذه السنة.أخبرنا محمد بن ناصر
الحافظ، قال: اخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو يعلى أحمد
بن عبد الواحد، قال: أخبرنا أبو طاهر المخلص، قال: أخبرنا أبو بكر بن
دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، قال: حدثنا الأصمعي، قال: أخبرني رجل، عن
إبراهيم بن أبي عبلة، قال: بعث إلي هشام بن عبد الملك، فقال: يا
إبراهيم، إنا قد عرفناك صغيراً وخبرناك كبيراً، ورضينا بسيرتك وحالك،
وقد رأيت أن أخلطك بنفسي وبخاصتي، وأشركك في عملي، وقد وليتك خراج مصر،
فقال: أما الذي عليه رأيك يا أمير المؤمنين فالله يجزيك ويثيبك وكفى به
جازياً ومثيباً، وأما الذي - أنا - عليه فمالي بالخراج تصرف، ومالي
عليه قوة. فغضب حتى اختلج وجهه، ثم قال: ليلين طائعاً أو ليلين كارهاً،
فأمسكت عن الكلام حتى رأيت غضبه قد انكسر وثورته قد طفئت، فقلت: يا
أمير المؤمنين، أأتكلم؟ فقال: نعم، فقلت: إن الله سبحانه قال في كتابه
" إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها -
وأشفقن منها - " الآية. والله يا أمير المؤمنين ما غضب عليهن إذ أبين،
ولا أكرههن إذ كرهن، وما أنا بحقيق أن تغضب علي إذ أبيت ولا تكرهني إذ
كرهت، فضحك وقال: يا إبراهيم أبيت إلا رفقاً فقد أعفيناك ورضينا عنك.
خويل بن محمد الأزدي:
أخبرنا
محمد بن أبي منصور، وعلي بن عمر، قالا: أخبرنا رزق الله، وطراد قالا:
أخبرنا علي بن محمد بن بشران، قال: اخبرنا ابن صفوان، قال: حدثنا أبو
بكر بن عبيد، قال: حدثني محمد بن سهيل الأزدي، عن الهيثم بن عبيد، قال:
سمعت خويل بن محمد - وكان عابداً - يقول: كأن خويلاً قد وقف للحساب،
فقيل: يا خويل، قد عمرناك ستين سنة، فما صنعت فيها؟ فجمع نوم ستين سنة
مع قائلة النهار فإذا قطعة من عمري قد ذهبت في نوم وجمعت ساعات أكلي
فإذا قطعة من عمري قد ذهبت في الأكل، ثم جمعت ساعات وضوئي فإذا قطعة من
عمري ذهبت فيه، ثم نظرت في صلاتي فإذا صلاة منقوصة وصوم مخرق، فما هو
إلا عفو الله أو الهلكة.
محمد بن إسحاق بن يسار بن حبان وقيل: ابن يسار بن كوثان المديني، مولى
قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف: وقال مصعب بن عبد الله: يسار مولى
عبد الله بن قيس بن مخرمة، جد محمد بن إسحاق من سبي عين التمر، وهو أول
سبي دخل المدينة من العراق، يكنى أبا بكر، وقيل: أبا عبد الله. رأى أنس
بن مالك، وسعيد بن المسيب، وسمع القاسم بن محمد بن أبي بكر - الصديق -
، وأبان بن عثمان بن عفان، ومحمد بن علي بن الحسين، وأبا سلمة بن عبد
الرحمن، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ونافعاً مولى ابن عمر، والزهري،
وغيرهم. وكان عالماً بالسير والمغازي وأيام الناس والمبتدأ وقصص
الأنبياء. وحدث عنه كبار الأئمة كيحيى بن سعيد - الأنصاري، وسفيان
الثوري، وابن جريج، وشعبة، والحمادان، وإبراهيم بن سعد، وسفيان بن
عيينة، وشريك - بن عبد الله وغيرهم.
قال الزهري: لا يزال بالمدينة علم جم ما كان فيهم ابن إسحاق.
وقال يحيى بن معين: كان محمد بن إسحاق ثقة، وضعفه في روايته.
ولما روى ابن إسحاق عم فاطمة بنت المنذر حديثاً قال زوجها هشام بن
عروة: كذب، لقد دخلت بها وهي بنت تسع سنين، وما رآها مخلوق حتى لحقت
بالله عز وجل.
وكان أحمد بن حنبل يقول: لعله دخل عليها وزوجها لا يعلم. وكان مالك بن
أنس كذبه أيضاً لذلك.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا الخطيب، قال: قد أمسك عن الاحتجاج بروايات
ابن إسحاق غير واحد من العلماء لأسباب منها أنه قد يتشيع، وينسب إلى
القدر، ويدلس في حديثه، فأما الصدق فليس بندفوع عنه.
وقد قال أبو زرعة: محمد بن إسحاق رجل قد أجمع الكبراء من أهل العلم على
الأخذ منه، وقد اختبره أهل الحديث فرأوه صدقاً وخيراً، مع مدح ابن شهاب
له، وقد ذاكرت دحيماً في قول مالك فيه، فرأى أن ذلك ليس للحديث إنما هو
لأنه اتهمه بالقدر. وقد قال محمد بن عبد الله بن نمير: كان ابن إسحاق
يرمي بالقدر وكان أبعد الناس منه، وكان إذا حدث عمن سمع من المعروفين
فهو حسن الحديث صدوق، وإنما أتي من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث
باطلة.
وقال سفيان بن عيينة: ما رأيت أحداً يتهم ابن إسحاق. وقال ابن المديني:
حديثه عندي صحيح، قيل له: فكلام مالك فيه، فقال: مالك لم يجالسه ولم
يعرفه، قيل: فهشام بن عروة، فقال: الذي قال هشام ليس بحجة لعله دخل على
امرأته وهو غلام فسمع منها. وقال أحمد بن حنبل: ابن إسحاق كان يشتهي
الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه. وكان أحمد يكتب حديثه ولا يحتج
به في السنن. وقال ابن المديني، ويحيى بن معين، والساجي: توفي سنة
اثنتين وخمسين ومائة. وقال الهيثم بن عدي، والفلاس، وابن عرفة: سنة
خمسين ومائة. وقال أحمد بن خالد الوهبي: سنة إحدى وخمسين. وكذلك قال
البخاري.
مسعر بن كدام بن ظهير، أبو سلمة: سمع أبا إسحاق الهمذاني. روى عنه
الثوري، وشعبة. وكان عالماً عابداً كثير البكاء.
قال سفيان الثوري: لم يكن في زمانه مثله.
وقال سفيان بن عيينة: ما لقيت أحداً أفضله على مسعر.
- أخبرنا
بن ناصر، قال: - أخبرنا المبارك بن عبد الجبار: قال: أخبرنا شجاع بن
فارس، قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن
يوسف، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثنا
محمد بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن كناسة، قال: سمعت مسعراً يقول: من
أهمته نفسه تبين ذلك عليه. أخبرنا زاهر بن طاهر، قال: أخبرنا أبو بكر
بن الحسين البيهقي، قال: حدثنا أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله
الحاكم، قال: حدثنا محمد بن يعقوب، قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب،
قال: سمعت الحسين بن منصور، قال: سمعت جعفر بن عبد الرحمن، يقول: أتيت
مسعراً بن كدام لأسمع منه، فكأنه رجل - قد - أقيم على شفير جهنم ليلقى
فيها.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: حدثنا أبو
نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا أبو محمد بن حيان، قال: حدثنا أبو الطيب
أحمد بن روح، قال: حدثني الحسين بن مسلم، قال: حدثنا أحمد بن داود
الحراني، قال سمعت مسعر بن كدام يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم
في المنام وسفيان الثوري آخذ بيده وهما يطوفان، فقال: يا رسول الله،
مات مسعر بن كدام؟ قال: نعم واستبشر به أهل السماء. توفي مسعر بالكوفة
في هذه السنة، وقيل: في سنة خمس وخمسين ومائة.
معن بن زائدة بن عبد الله بن مطر بن شريك، أبو الوليد الشيباني كان من
صحابة المنصور ببغداد لما بنيت، ثم ولاه اليمن وغيرها، وكان جواداً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد - القزاز - ، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن
ثابت، قال: أخبرني الأزهري، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران، قال:
حدثنا عبد الله بن جعفر النحوي، قال: حدثنا القاسم بن المغيرة، قال:
حدثنا المدائني، عن غياث بن إبراهيم: أن معن بن زائدة دخل على أبي جعفر
المنصور أمير المؤمنين فقارب في خطوه، فقال أبو جعفر: كبرت سنك يا معن،
قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: إنك لجلد، قال: على أعدائك يا
أمير المؤمنين، قال: وإن فيك لبقية، قال: هي لك.
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا أحمد بن عمر
بن روح النهرواني، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا، قال: حدثنا عمر بن
الحسين بن علي الشيباني، قال: حدثنا محمد بن يزيد النحوي، قال: حدثنا
قعنب، قال: قال سعيد بن سلم: لما ولى المنصور معن بن زائدة أذربيجان
قصده قوم من أهل الكوفة، فلما صاروا ببابه واستأذنوا عليه فدخل الآذن،
فقال: أصلح الله الأمير، بالباب وفد من أهل العراق، قال: من أي العراق؟
قال: من الكوفة، قال إئذن لهم، فدخلوا عليه، فنظر إليهم معن في هيئة
زرية، فوثب على أريكته وأنشأ يقول:
إذا نوبة نابت صديقك فاغتنم ... مردتها فالدهر بالناس قلب
فأحسن ثوبيك الذي هو لابس ... وأفره مهريك الذي هو يركب
وبادر بنعروف إذا كنت قادراً ... زوال اقتدار أو غنى عنك يعقب
قال: فوثب إليه رجل من القوم، فقال: أصلح الله الأمير، ألا أنشدك أحسن
من هذا؟ قال: لمن؟ قال: لابن عمك ابن هرمة، قال: هات، فأنشأ وجعل يقول:
وللنفس تارات تحل بها العرى ... وتسخو عن المال النفوس الشحائح
إذا المرء لم ينفعك حياً فنفعه ... أقل إذا ضمت عليك الصفائح
لأية حال يمنع المرء ماله ... غداً فغدا والموت غاد ورائح
فقال معن: أحسنت والله وإن كان الشعر لغيرك، يا غلام أعطهم أربعة آلاف
يستعينوا بها على أمورهم إلى أن يتهيأ لنا فيهم ما نريد، فقال الغلام:
يا سيدي أجعلها دنانير أم دراهم؟ فقال معن: والله لا تكون همتك أرفع من
همتي، صفرها لهم. قال المعافى: وحدثنا يزداد بن عبد الرحمن الكاتب،
قال: حدثنا أبو موسى عيسى بن إسماعيل البصري، قال: حدثني العتبي، قال:
قدم معن بن زائدة بغداد فأتاه الناس وأتاه ابن أبي حفصة، فإذا المجلس
غاص بأهله، فأخذ بعضادتي الباب فقال:
وما أحجم الأعداء عنك بقية ... عليك ولكن لم يروا فيك مطمعاً
له راحتان الجود والحتف فيهما ... أبى الله إلا أن تضر وتنفعا
فقال معن:
احتكم يا أبا السمط، فقال: عشرة آلاف، فقال معن: ربحت والله - عليك -
تسعين ألفاً. أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن
ثابت، قال: أخبرني الأزهري، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم، قال: -
أخبرنا ابن دريد، قال: - أخبرنا أبو عثمان الأشنانداني، عن الثوري، عن
أبي عبيدة، قال: وقف شاعر بباب معن بن زائدة حولاً لا يصل إليه، وكان
معن شديد الحجاب، فلما طال مقامه سأل الحاجب أن يوصل له رقعة، فأوصلها
فإذا فيها مكتوب:
إذا كان الجواد له حجاب ... فما فضل الجواد على البخيل
فألقى معن الرقعة إلى كتابه وقال: أجيبوه عن بيته: فخلطوا وأكثروا ولم
يأتوا بنعنى، فأخذ الرقعة وكتب فيها:
إذا كان الجواد قليل مال ... ولم يعذر تعلل بالحجاب
فقال الشاعر: إنا لله أيؤيسني من معروفه، ثم ارتحل منصرفاً، فسأل معن
عنه فأخبر بانصرافه، فأتبعه بعشرة آلاف وقال: هي عندنا في كل زورة.
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرني الحسين
بن محمد بن عثمان النصيبي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدل، قال:
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو معاذ خلف بن أحمد
المؤدب، قال: حدثنا أبو عثمان المازني، قال: حدثنا صاحب شرطة معن، قال:
بينا أنا على رأس معن إذا هو براكب يوضع، فقال معن: ما أحسب هذا الرجل
يريد إلا إياي، ثم قال لحاجبه: لا تحجبه، فجاء حتى مثل بين يديه، فقال:
أصلحك الله قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
ألح دهر رمى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا
فقال معن وأخذته أريحية: لا جرم والله لأعجلن أوبتك، ثم قال: يا غلام،
ناقتي الفلانية وألف دينار، فدفعها إليه وهو لا يعرفه. أخبرنا القزاز،
قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرني الأزهري، قال: حدثنا أبو القاسم
عبيد الله بن أحمد المقري، قال: حدثنا أبو طالب الكاتب، قال: حدثنا أبو
عكرمة الضبي، قال: حدثنا سليمان، قال: خرج المهدي يوماً يتصيد، فلقيه
الحسين بن مطير فأنشده يقول:
أضحت يمينك من جود مصورة ... لكن يمينك منها صور الجود
من حسن وجهك تضحي الأرض مشرقة ... ومن بنانك يجري الماء في العود
فقال المهدي: كذبت يا فاسق، وهل تركت في شعرك موضعاً لأحد مع قولك في
معن بن زائدة:
ألما بنعن ثم قولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعاً
فيا قبر معن كنت أول حفرة ... من الأرض حطت للمكارم مضجعاً
أيا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعاً
ولكن حويت الجود والجود ميت ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعاً
وما كان إلا الجود صورة وجهه ... فعاش ربيعاً ثم ولى فودعا
فلما مضى معن مضى الجود والندى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
فأطرق الحسين ثم قال: يا أمير المؤمنين، وهل معن إلا حسنة من حسناتك.
فرضي عنه وأمر له بألفي دينار.
بلغنا أن بعض فصحاء العرب دخل على معن، فقال: أصلح الله الأمير، لو شئت
أن أتوسل إليك ببعض من يثقل عليك لوجدت ذلك سهلاً ممكناً ولكني استشفعت
إليك بقدرك، واستعنت عليك بفضلك، فإن رأيت أن تضعني من كرمك حيث وضعت
نفسي من رجائك، فإني لم أكرم نفسي عن مسألتك فأكرم وجهك عن ردي، قال:
سل حاجتك، قال: ألف درهم، قال: ربحت عليك ربحاً بيناً، قال: مثلك لا
يربح على سائله، قال: أضعفوا له ما سأل.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا ابن الفضل
القطان، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن
سفيان، قال: قتل معن بن زائدة بأرض خراسان سنة اثنتين وخمسين ومائة.
قال الخطيب: بلغني أن المنصور ولاه سجستان فنزل بست فأساء السيرة في
أهلها فقتلوه. وقال غيره: قتلته الخوارج بسجستان.
يونس بن يوسف أبو عمر بن حماس، وقيل: يوسف:
وكان
عابداً مجتهداً يصوم الدهر ويقوم الليل، وكان مستجاب الدعوة. أخبرنا
عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي، قال: أخبرنا أبو عبد الله بن علي
العميري، قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن محمد القاضي، قال: أخبرنا محمد
بن أحمد بن يوسف المرواني، قال: حدثني أبو عبد الرحمن محمد بن المنذر،
قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج المهدي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن
عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا أبو ضمرة عاصم بن أبي بكر الزهري،
قال: سمعت مالك بن أنس يقول: كان يونس بن يوسف من العباد - أو - قال -
: من خيار الناس - فأقبل ذات يوم وهو رائح من المسجد، فلقيته امرأة،
فوقع في نفسه منها، فقال: اللهم إنك جعلت لي بصري نعمة وقد خشيت أن
تكون علي نقمة فاقبضه إليك. قال: فعمي، وكان يروح إلى المسجد يقوده ابن
أخ له، فإذا استقبل به الأسطوانة اشتغل الصبي بلعب مع الصبيان فإن أتته
حاجة حصبه فأقبل إليه، فبينا هو ذات ضحوة في المسجد إذ حس في بطنه بشيء
فحصب الصبي فاشيغل عنه مع الصبيان حتى خاف الشيخ على نفسه، فقال: اللهم
إنك كنت جعلت لي بصري نعمة وخشيت أن يكون نقمة فسألتك فقبضته إليك، وقد
خشيت الفضيحة فرده - علي - . فانصرف إلى منزله صحيحاً يمشي. قال مالك:
فرأيته أعمى ورأيته صحيحاً.
ثم دخلت
سنة ثلاث وخمسين ومائة
فمن الحوادث فيها قدوم المنصور من مكة إلى البصرة، فجهز جيشاً إلى
البحر لحرب الكرك، وكانوا أغاروا على جده، وهذه قدمته الأخيرة إلى
البصرة. وقيل: إنما كانت قدمته الأخيرة في سنة خمس وخمسين ومائة، وكانت
الأولى في سنة خمس وأربعين، وأقام بها أربعين يوماً، وبنى بها قصراً،
ثم انصرف منها إلى مدينة السلام. وفيها: غضب المنصور على أبي أيوب
المرزباني فحبسه وحبس أخاه وبني أخيه سعيداً ومسعوداً ومخلداً ومحمداً
فطالبهم، وكان سبب ذلك أن أبان بن صدقة كاتب أبي أيوب سعى به إليه.
وفيها: قتل عمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة بإفريقية، قتله أبو حاتم
الإباضي ومن كان معه من البربر، وكانوا ثلاثمائة ألف وخمسين ألفاً،
الخيل منها خمسة وثمانون ألفاً، ومعهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفاً،
وكان يسلم عليه بالخلافة. وفيها: حمل عباد مولى المنصور، وهرثمة بن
أعين، ويوسف بن علوان من خراسان في سلاسل لتعصبهم لعيسى بن موسى.
وفيها: أخذ المنصور الناس بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول، فقال أبو
دلامة:
وكنا نرجي من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهودٍ جللت بالبرانس
وفيها: غزا الصائفة معيوف بن يحيى الهمداني، فصار إلى حصن من حصون
الروم ليلاً وأهله نيام، فسبى وأسر من كان فيه، ثم سار إلى اللاذقية
وفتحها، وأخرج منها ستة آلاف امرأة سوى الرجال البالغين. وفيها: ولى
المنصور بكار بن مسلم العقيلي - أرمينية - . وفيها: حج بالناس المهدي،
وكان على مكة يومئذ محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد بن حسن
وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة يزيد بن منصور، وعلى قضائها
سوار، وعلى مصر محمد بن سعيد. وذكر الواقدي أن يزيد بن منصور كان والي
اليمن في هذه السنة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
إبراهيم بن نشيط بن يوسف، ويكنى أبا بكر: كان فقيهاً عابداً رأى عبد
الله بن الحارث، وسمع منه، وغزا القسطنطينية في خلافة الوليد بن عبد
الملك في سنة ثمان وتسعين مع مسلمة بن عبد الملك.
وروى عنه الليث بن سعد، وابن المبارك، ورشد بن سعد، وابن وهب. توفي هذه
السنة.
حيوة بن شريح بن صفوان بن مالك، أبو زرعة التجيبي: روى عن عقبة بن
مسلم، وكان فقيهاً عابداً مجاب الدعوة. روى عنه الليث، وابن المبارك،
وابن لهيعة، وابن وهب.
قال ابن
المبارك: ما وصف لي أحد فرأيته إلا كان دون ما وصف إلا حيوة بن شريح،
فإن رؤيته كانت أكثر من صفته. أخبرنا عبد الله بن علي المقري، ومحمد بن
ناصر، قالا: أخبرنا طراد، علي بن محمد بن بشران، قال: أخبرنا ابن
صفوان، قال حدثنا أبو بكر القرشي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال:
حدثني أحمد بن سهل الأزدي، قال: حدثني خالد بن الفرز، قال: كان حيوة بن
شريح دعاء من البكائين، وكان ضيق الحال جداً، فجلست إليه ذات يوم وهو
مختلٍ وحده يدعو، فقلت: رحمك الله، لو دعوت الله يوسع عليك في معيشتك؟
قال: فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً، فأخذ حصاة من الأرض فقال:
اللهم اجعلها ذهباً، قال: فإذا هي والله قبرة في كفه، ما رأيت أحسن
منها، قال: فرمى بها إلي وقال: لا خير في الدنيا إلا الآخرة، ثم التفت
إلي فقال: هو أعلم بنا يصلح عباده، فقلت: ما أصنع بها، قال: استنفقها،
فهبته والله أن أراده. أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا محمد بن علي
السري، عن أبي عبد الله بن بطة، قال: حدثني أبو بكر الآجري، قال: حدثنا
أبو نصر بن كردي، قال: حدثنا أبو بكر المروزي، قال: سمعت أبا بكر بن
أبي عون، يقول: حدثنا أبو عبد الله البصري، قال: حدثنا محمد بن بشار
اليشكري، قال: لما قدم أبو عون مصر وقتل بها من قتل واستولى على البلد
أرسل إلى حيوة بن شريح: ائتني، قال: فجاء فدخل عليه فقال: إنا معشر
الملوك لا نعصى، فمن عصانا قتلناه، قد وليتك القضاء، - قال - : أو آمر
أهلي، قال: اذهب، قال: فجاء إلى أهله، فغسل رأسه ولحيته ونال شيئاً من
الطيب، ولبس أنظف ما قدر عليه من الثياب قال: ثم جاء فدخل عليه فقال:
من جعل السحرة أولى بنا قالوا منا، اقض ما أنت قاض لست أتولى لك شيئاً.
قال: فأذن له فرجع.
توفي حيوة بن شريح في هذه السنة.
الحسن بن عمارة بن المضرب، أبو محمد الكوفي مولى بجيلة: حدث عن الزهري،
وأبي إسحاق السبيعي، وأبي زهير المكي، وعمرو بن دينار، وغيرهم، روى عنه
أبو يوسف القاضي، وشبابة. وولي القضاء ببغداد في خلافة المنصور، ثم بعث
المنصور إلى عبيد الله بن محمد بن صفوان إلى مكة من يقدم به عليه، فلما
قدم ولاه القضاء وضم الحسن بن عمارة إلى المهدي. أخبرنا أبو منصور
القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا محمد بن عمر بن بكير
النجار، قال: أخبرنا محمد بن إبراهيم الربيعي، قال: حدثنا أبو عبد الله
اليزيدي، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثني جبلة بن سليمان،
قال: جاء رجل إلى الحسن بن عمارة، فقال: إن لي على مسعر بن كدام
سبعمائة درهم من ثمن دقيق وغير ذلك، وقد مطلني، ويقول: ليس عندي اليوم،
فدفعها إليه الحسن بن عمارة، وقال: أعط مسعراً كلما أراد، وإذا اجتمع
لك عليه شيء فتعال إلي حتى أعطيك. وقد قدحوا في الحسن بن عمارة، وكان
شعبة يشهد أنه كذاب. وقال ابن المديني: أمره أبين من ذلك، قيل له: كان
يغلط، قال: وأي شيء كان يغلط، وذهب إلى أنه كان يضع الحديث. وقال يحيى:
لا يكتب حديثه.
وقال أحمد، ومسلم بن الحجاج: هو متروك الحديث. وقال الفلاس: هو رجل
صدوق صالح كثير الوهم متروك الحديث. وقال الساجي: أجمع عليه أهل الحديث
على ترك حديثه. وقال سفيان بن عيينة: كنت إذا سمعت الحسن بن عمارة يروي
عن الزهري، وعمرو بن دينار جعلت إصبعي في أذني. توفي الحسن بن عمارة في
هذه السنة.
شقيق بن إبراهيم، أبو علي البلخي:
كان ذا
ثروة عظيمة، فخرج منها وتزهد، وصحب إبراهيم بن أدهم. أخبرنا المحمدان
ابن ناصر وابن عبد الباقي، قالا: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو
نعيم أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد البغدادي،
قال: حدثنا عباس بن أحمد الشاشي، قال: حدثنا أبو عقيل الرصافي، قال:
حدثنا أحمد بن عبد الله الزاهد، قال: قال علي بن محمد بن شقيق: كان
لجدي ثلاثمائة قرية ولم يكن له كفن يكفن فيه، قدم ذلك كله بين يديه،
وثيابه وسيفه إلى الساعة معلق يتبركون به، وكان قد دخل إلى بلاد الترك
لتجارة وهو حدث، فدخل إلى أصنامهم فقال لعاملهم: إن هذا الذي أنت فيه
باطل، ولهذا الخلق خالق ليس كمثله شيء، رازق كل شيء، فقال له: ليس
يوافق قولك فعلك، فقال: كيف؟ قال: زعمت أن لك خالقاً قادراً وقد تعنيت
إلى ها هنا لطلب الرزق، قال شفيق: فكان سبب زهدي كلام التركي، فرجع
فتصدق بجميع ماله وطلب العلم. أخبرنا بن ناصر، قال: أخبرنا حمد بن
أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن
جعفر، قال: حدثنا عمر بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن أبي عمران، قال:
سمعت حاتماً الأصم يقول: كنا مع شقيق البلخي ونحن مصافو الترك في يوم
لا أرى فيه إلا رؤوساً تبدر وسيوفاً تقطع، فقال لي شقيق ونحن بين
الصفين: يا حاتم، كيف ترى نفسك في هذا اليوم؟ تراها مثلها في الليلة
التي زفت إليك امرأتك، فقلت: لا والله، فقال: لكني والله أرى نفسي في
هذا اليوم مثلها في الليلة التي زفت فيها امرأتي. قال: ثم نام بين
الصفين ودرقته تحت رأسه حتى سمعت غطيطه.
عبيد الله بن أبي ليلى القاضي: توفي هذه السنة، فاستقضي مكانه شريك بن
عبد الله النخعي.
عميرة بن أبي ناحية، أبو يحيى: كان عابداً ناسكاً دائم البكاء، وكان
أبوه رومياً. - وتوفي عميرة في هذه السنة - .
معمر بن راشد، أبو عروة البصري: سكن اليمن وقال: طلبت العلم يوم مات
الحسن البصري، وسمعت من قتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة، فما من شيء
سمعته في تلك السنين إلا ومكتوب في صدري. وسمع من الزهري وغيره. وروى
عنه الثوري، وابن عيينة، وابن المبارك.
وتوفي في هذه السنة وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
موسى بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس: كان من وجوه بني هاشم
وأفاضلهم، وهو أخو محمد، وجعفر. وقدم بغداد في خلافة المنصور، فتوفي
بها في هذه السنة.
هشام بن العلاء بن ربيعة، أبو العباس وقيل: أبو عبد الله الجرشي
الشامي: سمع عطاء بن أبي رباح، ونافعاً ومكحولاً. روى عنه ابن المبارك،
ووكيع، وشبابة، نزل بغداد وحدث بها، وولاه المنصور بيت المال، وكان ثقة
من خيار الناس. وتوفي في هذه السنة.
هشام بن أبي عبد الله واسمه سنبر، الدستوائي، مولى لبني سدوس: كان شديد
الخوف - من الله - ، كثير البكاء. أخبرنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو
الحسين بن عبد الجبار، قال: أخبرنا علي بن أحمد الملطي، قال: أخبرنا
أحمد بن محمد بن يوسف، قال: أخبرنا الحسين بن صفوان، قال: حدثنا عبد
الله بن محمد القرشي، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا سعيد بن
عامر، قال: كان هشام بن أبي عبد الله قد أظلم بصره من طول البكاء، فكنت
تراه يبصر إليك ولا يعرفك حتى تكلمه. توفي في هذه السنة، وقيل: سنة
اثنتين وخمسين ومائة.
وهيب بن الورد بن أبي الورد مولى بني مخزوم، يكنى أبا أمية، وقيل: أبا
عثمان: وكان اسمه عبد الوهاب، فصغر فقيل وهيب. أدرك عطاء، ومنصور بن
زادان، وكان شديد الورع كثير التعبد، وكان سفيان الثوري إذا فرغ من
حديثه يقول: قوموا بنا إلى الطبيب، يعني وهيباً. أخبرنا محمد بن ناصر
الحافظ، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن
علي الخياط، قال: أخبرنا ابن أبي الفوارس، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن
عبد الخالق، قال: حدثنا أبو بكر المروزي، قال: قال قادم الديلمي: قيل
لوهيب بن الورد: ألا تشرب من زمزم، قال: بأي دلو. قال المروزي: وسمعت
عبد الوهاب الوراق يقول: قال شعيب بن حرب:
ما
احتملوا لأحد ما احتملوا لوهيب، كان يشرب بدلوه. قال المروزي: وحدثنا
أحمد بن الخليل، قال حدثنا ابن عيسى، قال: سمعت ابن المبارك يقول: ما
جلست إلى أحد كان أنفع لي مجالسة من وهيب، وكان لا يأكل من الفواكه،
وكان إذا انقضت السنة وذهبت الفواكه يكشف عن بطنه وينظر إليه ويقول: يا
وهيب ما أرى بك بأساً، ما أرى تركك الفواكه ضرك شيئاً. أخبرنا يحيى بن
ثابت بن بندار، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا الحسين بن علي الطناجيري،
قال: أخبرنا أحمد بن المنصور البوشري، قال: حدثنا محمد بن مخلد، قال:
حدثنا موسى بن هارون الطوسي، قال: حدثنا محمد بن نعيم بن الهيضم، قال:
سمعت بشر بن الحارث يقول: كان وهيب بن الورد تئن خضرة البقل من بطنه من
الهزال. قال ابن مخلد: وحدثنا أحمد بن الفتح، قال: سمعت بشراً يقول:
بلغني أن وهيباً كان إذا أتي بقرصيه بكى حتى يبلهما. قال أبو بكر بن
عبيد: حدثني محمد بن يزيد بن خنيس، قال: حلف وهيب بن الورد ألا يراه
الله ضاحكاً ولا أحد من خلقه حتى يعلم ما يأتي به رسل الله. قال:
فسمعوه يقول عند الموت: وفيت لي ولم أفِ لك. توفي وهيب في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة أربع وخمسين ومائة
فمن الحوادث فيها خروج المنصور إلى الشام. ومضيه إلى بيت المقدس،
وتوجيهه يزيد بن حاتم إلى إفريقية في خمسين ألفاً لحرب الخوارج الذين
قتلوا عامله عمر بن حفص، وأنفق المنصور على ذلك الجيش ثلاثة وستين ألف
ألف درهم. وفيها: غزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي. وفيها: عزم المنصور
على بناء مدينة الرافقة، فلما أراد بناءها امتنع أهل الرقة وأرادوا
محاربته، وقالوا: يعطل علينا أسواقنا ويذهب معايشنا ويضيق منازلنا. فهم
بنحاربتهم. والرافقة على شط الفرات، كانت الرقة إلى جانبها، فخربت
الرقة. والرافقة تعرف اليوم بالرقة. وفيها: وقعت صاعقة في المسجد
الحرام فقتلت ستة نفر.
وفيها: أمر المنصور موسى بن دينار حاجب أبي العباس بقطع أيدي بني أخي -
أبي - أيوب المورياني، وأرجلهم، وضرب أعناقهم. وكتب بذلك إلى المهدي،
ففعل موسى فيهم ما أمره به. وفيها: حج بالناس محمد بن إبراهيم، وهو كان
العامل على مكة والطائف. وكان على المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة
محمد بن سليمان، وعلى البصرة عبد الملك بن أيوب، وعلى قضائها سوار،
وعلى السند هشام بن عمرو، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن
سعيد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن يزيد بن شراحيل، أبو خزيمة: دخل على عبد الله بن الحارث بن
جزء، وروى عن يزيد بن أبي حبيب. وروى عنه المفضل بن فضالة، وجرير بن
حازم، ورشدين بن سعد. وولي القضاء بنصر بعد أن عرضه الأمير عبد الملك
بن يزيد أبو عون على السيف. توفي في هذه السنة.
أشعب الطامع ويقال أن اسمه شعيب، واسم أبيه جبير: ولد أشعب سنة تسع من
الهجرة، وكان أشعب خال الأصمعي، وقيل: خال الواقدي. وفي كنيته قولان،
أحدهما: أبو العلاء، والثاني: أبو إسحاق. وفي اسم أمه ثلاثة أقوال،
أحدها: جعدة مولاة أسماء بنت أبي بكر، والثاني: أم حميدة، والثالث: أم
حميدة بفتح الحاء. واتفقوا أنه مولى، واختلفوا في مولاه على أربعة
أقوال: أحدها: عثمان بن عفان، الثاني: سعيد بن العاص، والثالث: عبد
الله بن الزبير، والرابع: فاطمة بنت الحسين. وعمر دهراً طويلاً، وكان
قد أدرك زمن عثمان بن عفان، قرأ القرآن وتنسك. وروى عن عبد الله بن
جعفر، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعكرمة. وتوفي في هذه
السنة، وله أخبار طريفة. أخبرنا عبد الرحمن القزاز، قال: أخبرنا أحمد
بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا محمد بن الحسين القطان، قال: أخبرنا أبو
بكر الشافعي، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن سماعة، قال: حدثني عبد الله
بن سوادة، قال: حدثنا أحمد بن شجاع، قال: حدثنا أبو العباس نسيم
الكاتب، قال: قيل لأشعب: طلبت العلم، وجالست الناس، ثم تركت، فلو جلست
لنا فسمعنا منك، قال: نعم فجلس لهم فقالوا: حدثنا، فقال: سمعت عكرمة
يقول: سمعت ابن العباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" خلتان لا تجتمعان في مؤمن.. " ثم سكت، فقالوا: ما الخلتان؟ فقال: نسي
عكرمة واحدة ونسيت أنا الأخرى.
أخبرنا
عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني أبو الحسن
محمد بن عبد الواحد، قال: حدثنا محمد بن بن عبد الرحيم المازني، قال:
حدثنا أبو الحسن بن مسلم، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: قال
الواقدي: لقيت أشعب يوماً فقال لي: يا ابن واقد قد وجدت ديناراً، فكيف
أصنع به؟ قلت: تعرفه؟ قال: سبحان الله، قلت: فما الرأي؟ قال: أشتري به
قميصاً وأعرفه، قلت: إذاً لا يعرفه أحد، قال: فذاك أريد. - قال المصنف
- : وقد نقلت عن أشعب كلمات مضحكات ونوادر.
قال الهيثم بن عدي: أسلمته فاطمة بنت الحسين إلى البزازين، فقيل له:
أين بلغت من معرفة البز؟ قال: أحسن أنشر ولا أحسن أطوي، وأرجو أن أتعلم
الطي. ومر برجل يتخذ طبقاً، فقال: اجعله واسعاً لعلهم أن يهدون إلينا
فيه.
وقال أبو عبد الرحمن المقري: قال أشعب: ماخرجت في جنازة قط فرأيت اثنين
يتشاوران إلا ظننت أن الميت قد أوصى لي بشيء. قال سليمان الشاذكوني:
كان لي بني في المكتب فانصرف إلي يوماً فقال: يا أبت، ألا أحدثك بطريف؟
فقلت: هات، فقال: كنت أقرأ على المعلم أن أبي يدعوك وأشعب الطامع عنده
جالس، فلبس نعليه وقال: امش بين يدي، فقلت: إنما أقرأ عشري، فقال: عجبت
أن تفلح أو يفلح أبوك.
سعيد بن يزيد، أبو شجاع القتباني: روى عنه الليث بن سعد، وابن المبارك،
وكان ثقة من العباد المجتهدين. كان إذا أصبح عصب ساقه من طول القيام.
توفي بالإسكندرية - في هذه السنة - .
سليمان بن أبي سليمان المورياني مولى بني سليم: كان قديماً مع ابن
هيبرة، ثم استكتبه المنصور، ثم أخبر المنصور أن خالداً أخا أبي أيوب،
وكان بالأهواز قد جمع مالاً عظيماً، فغضب عليه المنصور فحبسه وحبس أخاه
خالداً وبني خيه، وقطع أيدي بني أخيه وقتلهم على ما سبق ذكره. وكان أبو
أيوب - سليمان - كريماً جواداً.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الحافظ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد
الجبار، قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا،
قال: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا محمد بن المرزبان،
قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن إسماعيل بن هيثم، قال: ابن
شبرمة: زوجت ابني على ألفي درهم فلم أقدر عليها، ففكرت فيمن أقصد، فوقع
في قلبي أبو أيوب المورياني، فدخلت عليه فقال: لك ألفان، فلما نهضت
لأقوم، قال: والمهر ألفان فأين الجهاز، ثم قال: ألفان للجهاز فذهبت
لأقوم فقال: المهر والجهاز فأين الخادم؟ ولك ألفان للخادم، فذهبت لأقوم
فقال: والشيخ لا يصيب شيئاً؟ ولك ألفان، فلم أزل أقوم ويقعدني حتى
انصرفت من عنده بخمسين ألفاً.
وقال أبو بكر الصولي: حدثنا محمد بن سعيد الأصم، قال: حدثنا عبد الله
بن أحمد أبو هفان، قال: حدثنا العباس بن إبراهيم، قال: كان أبو أيوب
إذا دعاه المنصور يصفر ويرعد، فإذا خرج من عنده تراجع لونه، فقيل له:
إنا نراك مع كثرة دخولك إلى أمير المؤمنين وأنسه بك إذا دخلت إليه
ترعد، فقال: مثلي ومثلكم في هذا كمثل بازي وديك تناظرا، فقال البازي
للديك: ما أعرف أقل وفاء منك، فقال: وكيف ذلك؟ فقال: تؤخذ بيضة ويحضنك
أهلك وتخرج على أيديهم فيطعمونك بأكفهم حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك
أحد إلا طرت هاهنا وهاهنا وصحت، فإذا علوت حائط دار كنت فيها سنين طرت
منها وتركتها وصرت إلى غيرها. وأنا أؤخذ من الحبال وقد كبرت فأطعم
الشيء اليسير وأؤنس يوماً أو يومين ثم أطلق على الصيد فأطير وحدي وآخذه
وأجيء به إلى صاحبي. فقال له الديك: - ذهبت عنك الحجة - أما لو رأيت
بازياً في سفود ما عدت إليهم أبداً، وأنا في كل وقت أرى السفافيد
مملوءة ديوكاً وأبيت معهم، فأنا أكثر وفاء منك، ولو عرفتم من المنصور
ما أعرف لكنتم أسوأ حالاً مني عند طلبه إياكم. توفي أبو أيوب في هذه
السنة.
عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المديني:
وكان من
أحسن الناس صورة. أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن
ثابت، قال: أخبرنا علي بن أبي الزبير بن بكار، قال: حدثني عبد الرحمن
بن عبد الله بن عبد العزيز الزهري، عن أبي هريرة بن جعفر المخزومي: أن
الديباج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وعبد العزيز بن
عبد الله بن عمر بن الخطاب خطبا امرأة من قريش، فاختلف عليها في
جمالها، فجعلت تسأل وتبحث إلى أن خرجت تريد صلاة العتمة في المسجد،
فرأتهما قائمين في القمر يتعاتبان في أمرها، فنظرت إلى بياض عبد العزيز
وطوله، فتزوجته، فجمع الناس وأولم لدخولها، فبعث إلى محمد بن عبد الله
بن عمرو فدعاه فيمن دعاه، فأكرمه وأجلسه في مجلس شريف، فلما فرغ الناس
برك له محمد بن عبد الله بن عمرو وخرج وهو يقول:
وبينا أرجي أن أكون وليها ... رميت بعرق من وليمتها سخن
قال الزبير: وحدثني مصعب بن عثمان، ومحمد بن الضحاك الخزامي، ومحمد بن
الحسن المخزومي وغيرهم: أن عبد العزيز بن عبد الله كان فيمن أسر مع
محمد بن عبد الله بن حسن، فلما قتل محمد حمل عبد العزيز إلى المنصور في
حديد، فلما دخل عليه قال له: ما رضيت أن خرجت علي حتى خرجت معك بثلاثة
أسياف من ولدك، فقال له عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، صل رحمي واعف
عني واحفظ في عمر بن الخطاب، فقال: أفعل، فعفى عنه، فقال له عبد الله
بن الربيع: يا أمير المؤمنين، اضرب عنقه لا يطمع فيك فتيان قريش، فقال
له المنصور: إذا قتلت هذا فعلى من تحب أن أتأمر.
علي بن صالح بن حي ولد هو وأخوه الحسن توأماً في بطن، وكان علي قد تقدم
بساعة، وكان الحسن يعظمه ويقول: قال أبو محمد. وكان علي كثير العبادة،
وأسند عن جماعة من التابعين، وتوفي في هذه السنة. أخبرنا محمد بن عبد
الملك، قال: أخبرنا أحمد بن الحسن بن خيرون، قال: قرئ على أبي علي بن
شاذان أن أحمد بن كامل القاضي أخبرهم، قال: حدثنا عيسى بن إسحاق
الأنصاري، قال: حدثنا أحمد بن عمران البغدادي، قال: حدثنا يحيى بن آدم،
قال: حدثنا الحسن بن حي قال: قال لي أخي علي في الليلة التي توفي فيها:
اسقني ماء، وكنت قائماً أصلي، فلما قضيت الصلاة أتيته بناء فقلت يا
أخي، فقال: لبيك، فقلت: هذا ماء، فقال: قد شربت الساعة، فقلت من سقاك
وليس في الغرفة غيري وغيرك؟ قال: أتاني جبريل الساعة بناء فسقاني وقال
لي: أ،ت وأخوك وأبوك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وخرجت
روحه رحمة الله عليه.
الفضل بن عطية الخراساني المروزي مولى بني عبس: روى عن سالم بن عبد
الله. أخبرنا هبة الله بن محمد بن الحصين، قال: أخبرنا أبو طالب محمد
بن غيلان، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي، قال: حدثنا
إبراهيم بن إسحاق الحربي، قال: حدثنا محمد بن علي السرخسي، قال: حدثنا
عبد الوهاب، قال: حدثنا الحسن بن سهل، عن سلام بن سالم، قال: زاملت
الفضل بن عطية إلى مكة فلما رحلنا من فيد أنبهني في جوف الليل، فقلت:
ما تشاء؟ قال: أريد أن أوصي إليك، قلت: غفر الله لك وأنت صحيح، فجزعت
من قوله، فقال: لتقبلن ما أقول لك، قلت: نعم فأخبرني ما الذي حملك
عليها هذه الساعة؟ قال: أريت في منامي ملكين فقالا: إنا قد أمرنا بقبض
روحك، فقلت لهم: لو أخرتماني إلى أن أقضي نسكي، فقال: إن الله عز وجل
قد تقبل منك نسكك، ثم قال أحدهما للآخر: إفتح إصبعيك، ففتح السبابة
والوسطى فخرج من بينهما ثوبان ملأت خضرتهما ما بين السماء والأرض،
فقالا: هذا كفنك من الجنة، ثم طواه وجعله بين إصبعيه، فما وردنا المنزل
حتى قبض، فإذا امرأة قد استقبلتنا وهي تسأل الرفاق: هل فيكم الفضل بن
عطية؟ فلما انتهت إلينا قلت: ما حاجتك إلى الفضل؟ هذا الفضل زميلي،
فقالت: رأيت في المنام أنه يصبحنا اليوم رجل ميت يسمى الفضل بن عطية من
أهل الجنة، فأحببت - أن أشهد - الصلاة عليه.
محمد بن عمران بن إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني، أبو
سليمان
ولي
القضاء بالمدينة لبني أمية، ثم ولاه ذلك المنصور، وكان مهيباً قليل
الحديث، و مات بالمدينة في هذه السنة وهو على القضاء، فبلغ موته
المنصور، فقال: اليوم استوت قريش. أخبرنا محمد بن ناصر، قال: حدثنا
محمد بن علي بن ميمون، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي العلوي،
وأبو الفرج محمد بن أحمد بن غيلان، - قالا: أخبرنا القاضي أبو عبد الله
محمد بن عبد الله الفزاري، قال: حدثني أبو القاسم الحسن بن محمد
السكوني، قال: - حدثنا أبو الحسن أحمد بن سعيد الدمشقي، قال: حدثني
الزبير بن بكار، قال: حدثني عمر بن أبي بكر، عن نمير المدني، قال: قدم
علينا أمير المؤمنين المنصور المدينة، ومحمد بن عمران الطلحي على قضائه
وأنا كاتبه، فاستعدى الحمالون على أمير المؤمنين في شيء ذكروه، فأمرني
أن أكتب إليه كتاباً بالحضور معهم وإنصافهم، فقلت: اعفني من هذا فإنه
يعرف خطي، فقال: اكتب، فكتبت ثم ختمه وقال: لا يمضي به والله غيرك،
فمضيت به إلى الربيع وجعلت أعتذر إليه، فقال: لا تفعل، فدخل عليه
بالكتاب ثم خرج الربيع فقال للناس وقد حضر وجوه أهل المدينة والأشراف
وغيرهم: إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: إني قد دعيت
إلى مجلس الحكم فلا أعلمن أحداً قام إلي إذا خرجت أو بدأني بالسلام.
قال: ثم خرج المسيب بين يديه والربيع وأنا خلفه في إزار ورداء، فسلم
على الناس فما قام إليه أحد، ثم مضى حى بدأ بالقبر فسلم على الرسول صلى
الله عليه وسلم، ثم التفت إلى الربيع، فقال: يا ربيع، ويحك أخشى إن
رآني محمد بن عمران أن يدخل قلبه هيبة فيتحول عن مجلسه، وتالله لئن فعل
لا ولي لي ولاية أبداً.
قال: قلما رآه - وكان متكئاً - أطلق رداءه على عاتقه ثم اجتبى به ودعى
بالخصوم وبالحمالين، ثم دعا بأمير المؤمنين ثم ادعوا وحكم عليه لهم،
فلما دخل الدار قال: للربيع: اذهب فإذا قام وخرج من عنده من الخصوم
فادعه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما دعا بك حتى تفرغ من أمر الناس
جميعاً، فدعاه فلما دخل عليه سلم، فقال: جزاك الله عن دينك وعن بنيك
وعن حسبك وعن حليفتك أحسن الجزاء، قال: قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار
فاقبضها، فكانت عامة أموال محمد بن عمران الطلحي من تلك الصلة.
ابن عمار أبو عمرو بن العلاء القاري وقيل: اسمه زبان، وقيل: سفيان،
والصحيح أن اسمه كنيته، وكان أبوه على طراز الحجاج. وجده عمار حمل رية
علي - بن أبي طالب - عليه السلام يوم صفين. ولد أبو عمرو بن العلاء في
سنة سبعين في أيام عبد الملك بن مروان. ونشأ بالبصرة وقرأ على مجاهد،
وسعيد بن جبير، والحسن، وشيبة بن نصاح،ويحيى بن يعمر، وابن كثير. وكان
مقدماً في دهره، عالماً بالقراءة، عارفاً بوجوهها، أعلم الناس بأمور
العرب مع صدق وصحة سماع. وكان قد كتب عن العرب الفصحاء ما ملأ به بيتاً
إلى قريب من السقف، ثم أنه تقرى فأحرقها كلها، فلما رجع من بعد إلى
علمه لم يكن عنده إلا ما قد حفظه، وكانت عامة أخباره عن أعراب قد
أدركوا الجاهلية. توفي بالكوفة في هذه السنة وهو ابن أربع وثمانين سنة.
ثم دخلت
سنة خمس وخمسين ومائة
فمن الحوادث فيها افتتاح يزيد بن حاتم إفريقية، وقتله أبا غازي، وأبا
حاتم ومن كان معهما، واستقامة بلاد المغرب، ودخول يزيد القيروان.
وفيها: غزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي.
وفيها: وجه المنصور ابنه المهدي لبناء مدينة الرافقة، فشخص إليها
فبناها على بناء مدينته ببغداد، في أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها
سوى سورها وخندقها، ثم انصرف إلى مدينة السلام. وفيها: خندق أبو جعفر
على الكوفة والبصرة، وضرب عليهما سوراً وجعل ما أنفق في ذلك من أموال
أهل المكان. وفيها: عزل عبد الملك بن أيوب عن البصرة واستعمل عليها
القاسم بن معاوية العكي، وضم إليه سعيد بن دعلج وأمره ببناء سور لها
يطيف بها، وخندق عليها من دون السور. قال ابن جرير: وقد ذكرنا أن
المنصور لما أراد الأمر ببناء سور الكوفة وبحفر خندق لها أمر بقسمة
خمسة دراهم على أهل الكوفة، وأراد بذلك علم عددهم، فلما علم عددهم أمر
بجبايتهم اربعين درهماً من كل إنسان، فجبوا، ثم أمر بإنفاق ذلك على سور
الكوفة وحفر الخندق، فقال شاعرهم:
يا لقومي ما لقينا ... من أمير المؤمنينا
قسم
الخمسة فينا ... وجبانا أربعينا
وفي هذه السنة: طلب ملك الروم الصلح من المنصور على أن يؤدي إليه
الجزية. وفيها: عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة وأغرمه
مالاً، وغضب عليه وحبسه ثم رضي عنه، واستعمل على حرب الجزيرة وخراجها
موسى بن كعب. وفيها: عزل المنصور محمد بن سليمان بن علي عن الكوفة،
واستعمل مكانه عمرو بن زهير أخا المسيب بن زهير. وقال عمر بن شبة: إنما
كان هذا في سنة ثلاث وخمسين. وعمرو هو الذي حفر الخندق بالكوفة.
واختلفوا في سبب عزله لمحمد بن سليمان. فقال بعضهم: إنما عزله لأمور
قبيحة بلغته عنه اتهمه فيها. وقال آخرون: بل كان السبب أنه أتى في عمله
على الكوفة بعبد الكريم بن أبي العوجاء، وكان خال معن بن زائدة، فكثر
شفعاؤه إلى أبي جعفر، ولم يشفع فيه إلا ظنين، فأمر بالكتاب إلى محمد بن
سليمان بالكف عنه إلى أن يأتيه رأيه فيه. فكلم ابن أبي العوجاء أبا
الجبار، فقال له: إن أخرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف درهم ولك
كذا وكذا، فأعلم أبو الجبار محمداً، فقال: أذكرتنيه، والله كنت قد
نسيته، فإذا انصرفت من الجمعة فاذكرنيه. فلما انصرف أذكره إياه فأمر
بضرب عنقه، فلما أيقن أنه مقتول قال: أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت
فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام، ولقد
فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم، فضربت عنقه. وورد محمد على
رسول أبي جعفر بكتابه: إياك أن تحدث في ابن أبي العوجاء شيئاً، فإنك إن
فعلت فعلت بك وفعلت، بتهدده. فقال للرسول: هذا رأس ابن أبي العوجاء
وهذا بدنه مصلوباً بالكناسة، فأخبر أمير المؤمنين.
فلما بلغ الرسول أبا جعفر رسالته تغيظ عليه وأمر بعزله، ثم قال: والله
لقد هممت أن أقيده به، ثم أرسل إلى عيسى بن علي فأتاه، فقال: هذا عملك،
أنت أشرت بتولية هذا الغلام فوليته غلاماً جاهلاً لا علم له بنا يأتي،
يقدم على رجل فيقتله من غير أن رأى ولا ينتظر أمري، وقد كتبت بعزله
وبالله لأفعلن، يتهدده فسكت عنه عيسى حتى سكن غضبه ثم قال: يا أمير
المؤمنين، إن محمداً إنما قتل هذا الرجل على الزندقة فإن كان قتله
صواباً فهو لك، وإن كان خطأ فعلى محمد، والله يا أمير المؤمنين لئن
عزلته على تفية ما صنع لترجعن القالة من العامة عليك. فأمر بالكتب
فمزقت وأقره على عمله. وفيها: عزل الحسن بن زيد عن المدينة، واستعمل
عليها عبد الله بن علي، وجعل معه فليح بن سليمان مشرفاً عليه. وكان على
مكة والطائف محمد بن إبراهيم، وعلى الكوفة عمرو بن زهير، وعلى البصرة
الهيثم بن معاوية، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
زبان بن فائد، أبو جوين الحمراوي كان على المظالم بنصر، وهو آخر من ولي
لبني أمية، وكان فاضلاً من أعدل ولاتهم. روى عنه الليث، وابن لهيعة،
ورشدين بن سعد. وتوفي في هذه السنة.
أبو هاشم الزاهد من قدماء زهاد بغداد ومن أقران أبي عبد الله البراثي.
كان سفيان الثوري يقول: ما زلت أرائي وأنا لا أشعر حتى جالست أبا هاشم
الزاهد، فأخذت من ترك الرياء.
وكان أبو هاشم يقول: أخذ المرء نفسه بحسن الأدب تأديب أهله.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا أبو نعيم الحافظ، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب الوراق،
قال: حدثنا أبو مسروق، قال: حدثنا محمد بن الحسن، قال: حدثني بعض
أصحابنا، قال: قال أبو هاشم الزاهد: إن الله تعالى وسم الدنيا بالوحشة
ليكون أنس المريدين به دونها ليقبل المطيعون له بالإعراض عنها، فأهل
المعرفة بالله مستوحشون وإلى الآخرة مشتاقون. قال ابن مسروق: وحدثنا
محمد بن الحسين، قال: حدثنا حكيم بن جعفر، قال: نظر هاشم إلى شريك
القاضي يخرج من دار يحيى بن خالد فبكى وقال: أعوذ بالله من علم لا
ينفع.
ثم دخلت
سنة ست وخمسين ومائة
فمن
الحوادث فيها غزوة زفر بن عاصم الهلالي الصائفة، وأن الهيثم بن معاوية
عامل أبي جعفر على البصرة ظفر بعمرو بن شداد عامل إبراهيم بن عبد الله
على فارس، فقتل بالبصرة وصلب. وفيها: عزل أبو جعفر الهيثم بن معاوية عن
البصرة وأعمالها، فاستعمل سوار بن عبد الله على البصرة وجمع له القضاء
والصلاة، وولى سعيد بن دعلج شرطها وأحداثها.
وفيها: حج بالناس العباس بن محمد بن علي أخو المنصور، وكان العامل فيها
على مكة محمد بن إبراهيم وهو ابن أخي المنصور، وكان مقيماً بمدينة
السلام وابنه إبراهيم خليفته بنكة، وكان إليه مع مكة الطائف، وكان على
الكوفة عمرو بن زهير، وعلى الأحداث والجوالي والشرطة وصدقات أرض العرب
بالبصرة سعيد بن دعلج، وعلى الصلاة والقضاء بها سوار، وعلى كور دجلة
والأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو، وعلى
إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
رباح بن أبي يزيد اللخمي: كان من أهل إفريقية، وكان عالماً زاهداً يضرب
بعبادته المثل، وهو أخو قحذم بن يزيد الذي كان عابداً بالإسكندرية.
رؤبة بن العجاج واسم العجاج عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر، ويكنى
أبا الجحاف وأبا العجاج: روى عن أبي الشعشاء، عن أبي هريرة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهو من رجاز الإسلام وفصحائهم المقدمين منهم،
وهو بدوي سكن البصرة ومدح بني أمية وبني العباس، وتوفي في أيام
المنصور، وقد أخذ عنه وجوه أهل اللغة واحتجوا بشعره. والرؤبة اسم يقع
على أشياء منها اللبن الخاثر، وماء الفحل، والحاجة والساعة تمضي من
الليل وغير ذلك.
وكان يونس النحوي يقول: ما رأيت عربياً قط أفصح من رؤبة، ما كان معد بن
عدنان أفصح منه، وكان رؤبة يأكل الفأر فعوتب على ذلك، فقال: هي أنظف من
دواجنكم ودجاجكم اللاتي تأكلن العذرة، وهل يأكل الفأر إلا نقي البر
ولباب الطعام. ولما توفي قال الخليل بن أحمد: دفنا الشعر واللغة
والفصاحة اليوم.
حمزة بن حبيب الزيات ويكنى أبا عمارة، مولى لآل عكرمة بن ربعي التيمي:
كان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان، ويجلب من حلوان الجبن والجوز إلى
الكوفة. وكان صاحب قرآن وفرائض، صدوقاً صاحب سنة. وقد أسند عن الأعمش.
أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا أبو سهل بن سعدويه، قال: أخبرنا
محمد بن الفضل القرشي، قال: أخبرنا أبو بكر من مردويه، قال: حدثنا عبد
الرحمن بن محمد بن أحمد، قال: حدثنا جعفر بن أحمد بن فارس، قال: سمعت
عبد الرحمن بن عمر يقول: سمعت جرير بن عبد الحميد يقول:
مر بنا
حمزة بن حبيب فاستسقى فأتيته بناء، فقال: أنت ممن يحضرنا في القراءة؟
قلت: نعم، قال: لا حاجة لي في مائك. أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا
أبو الحسن بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو الوليد بن عتبة بن عبد الملك
العثماني، قال: حدثنا أبو الطيب عبد المنعم بن عبد الله بن غلبون
المقرئ، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن نصر بن هارون السامري، قال: أخبرنا
سليمان بن جبلة، قال: أخبرنا إدريس بن عبد الكريم الحداد، قال: أخبرنا
خلف بن هشام البزاز، قال: قال لي سليم بن عيسى: دخلت على حمزة بن حبيب
الزيات فوجدته يمرغ خديه في الأرض ويبكي، فقلت: أعيذك بالله، فقال:
رأيت البارحة في منامي كأن القيامة قد قامت، وقد دعي بقراء القرآن،
فكنت فيمن حضر، فسمعت قائلاً يقول بكلام عذب: لا يدخل علي إلا من عمل
بالقرآن، فرجعت القهقرى، فهتف باسمي: أين حمزة بن حبيب الزيات؟ فقلت:
لبيك داعي الله، فبدرني ملك فقال قل: لبيك اللهم لبيك، فقلت كما قال
لي، فأدخلني داراً فيها ضجيج القرآن، فوقفت أرعد، فسمعت قائلاً يقول:
لا بأس عليك اقرأ وأرق، فأدرت وجهي فإذا أنا بننبر من در أبيض دفتاه من
ياقوت أصفر، مراقيه من زبرجد أخضر، فقال لي: اقرأ سورة الأنعام. فقرأت
وأنا لا أدري على من أقرأ حتى بلغت الستين آية، فلما بلغت: " وهو
القاهر فوق عباده " قال لي: يا حمزة، ألست القاهر فوق عبادي؟ فقلت:
بلى، قال: صدقت،اقرأ، فقرأت حتى أتممتها، فقال لي: اقرأ، فقرأت الأعراف
حتى بلغت آخرها وأومأت إلى الأرض بالسجود فقال لي: حسبك ما مضى، لا
تسجد يا حمزة، من أقرأك هذه القراءة؟ فقلت: سليمان، فقال: صدقت، من
أقرأ سليمان؟ قلت: يحيى، قال: صدق يحيى، على من قرأ يحيى؟ فقلت: على
أبي عبد الرحمن السلمي، قال: صدق أبو عبد الرحمن السلمي، من أقرأ أبا
عبد الرحمن؟ فقلت: ابن عم نبيك علي، فقال: صدق علي، فمن أقرأ علياً؟
قلت: نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، قال: ومن أقرأ نبيي؟ قال: قلت
جبريل عليه السلام، قال: ومن أقرأ جبريل؟ فسكت، فقال لي: يا حمزة، قل
أنت، فقلت: ما أجسر أن أقول أنت، فقال: قل أنت، فقلت: أنت، فقال: صدقت
يا حمزة، وحق القرآن لأكرمن أهل القرآن لا سيما إذا عملوا بالقرآن، يا
حمزة القرآن كلامي وما أحب أحداً كحبي أهل القرآن، ادن يا حمزة، فدنوت
فضمخني بالغالية وقال: ليس أفعل بك وحدك، قد فعلت ذلك بنظرائك بنن فوقك
ومن دونك، ومن أقرأ القرآن كما أقرأته، لم يزد بذلك غيري، وما خبأت لك
يا حمزة عندي أكثر، فأعلم أصحابك مكاني من حبي لأهل القرآن وفعلي بهم،
فهم المصطفون الأخيار، يا حمزة وعزتي وجلالي لا أعذب لساناً تلى القرآن
بالنار، ولا قلباً وعاه، ولا أذناً سمعته، ولا عيناً نظرته، فقلت:
سبحانك سبحانك أي رب، فقال: يا حمزة أين نظار المصاحف؟ فقلت: يا رب
أفحفاظ هم؟ قال: لا، ولكني أحفظه لهم حتى يوم القيامة، فإذا لقوني رفعت
لهم بكل آية درجة. أفتلومني أن أبكي وأتمرغ في التراب.
توفي حمزة بحلوان في هذه السنة.
سعيد بن أبي عروبة، أبو النضر البصري واسم أبي عروبة مهران مولى لبني
عدي بن يشكر: سمع النضر بن أنس وغيره، وكان كثير الحديث إلا أنه اختلط
في آخر عمره، وتوفي في هذه السنة.
عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، أبو خالد الأفريقي: سمع أبا عبد الرحمن
الحبلي وغيره. روى عنه سفيان الثوري، وابن لهيعة. وكان أول مولود ولد
بإفريقية في الإسلام.
وولي القضاء بها لمروان بن محمد، ووفد إلى المنصور في بيعة أهل إفريقية
وشكى إليه جور العمال.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثاب، قال: أخبرنا
البرقاني، قال: حدثني محمد بن أحمد بن محمد الأدمي، قال: حدثنا محمد بن
علي الأيادي، قال: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، قال: حدثني أحمد بن
محمد، قال: حدثني الهيثم بن خارجة، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، قال:
ظهر بإفريقية جور من السلطان، فلما قام ولد العباس قدم عبد الرحمن بن
زياد على أبي جعفر، فشكى إليه العمال ببلده، فأقام ببابه أشهراً، ثم
دخل عليه، فقال: ما أقدمك؟ قال: ظهر الجور ببلدنا فجئت لأعلمك فإذا
الجور يخرج من دارك، فغضب أبو جعفر وهم به ثم أمر بإخراجه. أخبرنا عبد
الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني الأزهري، قال:
أخبرنا أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، قال:
أخبرني أبو العباس المنصوري، قال: حدثنا محمد بن يوسف، قال: أخبرنا
محمد بن يزيد، عن ابن إدريس، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، قال: أرسل
أبو جعفر إلي: فقدمت عليه فدخلت والربيع قائم على رأسه، فاستدناني ثم
قال: يا عبد الرحمن، كيف ما مررت به من أعمالنا إلى أن وصلت إلينا؟
قلت: يا أمير المؤمنين، رأيت أعمالاً سيئة، وظلماً فاشياً ظننته أبعد
البلاد منك، فجعلت كلما دنوت منك كان أعظم للأمر. فنكس رأسه طويلاً ثم
رفعه إلي، فقال: كيف لي بالرجال؟ قلت: أفليس عمر بن عبد العزيز كان
يقول: الوالي بننزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان براً أتوه
ببرهم، وإن كان فاجراً أتوه بفجورهم. قال: فأطرق طويلاً، فقال: لي
الربيع وأومأ إلي أن أخرج، فخرجت ولم أعد إليه. قال مؤلف الكتاب رحمه
الله: وقد قيل لأحمد بن صالح الحافظ: تحتج بحديث الإفريقي؟ قال: نعم،
هو ثقة، وأنكر على من تكلم عليه. وقال يحيى بن معين: إنما أنكر عليه
الأحاديث. قال مؤلف الكتاب: وفي هذه السنة توفي وقد جاز المائة.
عامر بن إسماعيل المسلي: توفي بندينة السلام، وصلى عليه المنصور، ودفن
في مقابر قريش.
قباث بن رزين بن حميد بن صالح، أبو هاشم: روى عن علي بن رباح، وعكرمة.
وروى عنه الليث بن سعد، وابن لهيعة، وابن المبارك، وابن وهب. وكان إمام
مسجد مصر، يقرئ القرآن في جامعها. توفي في هذه السنة.
الهيثم بن معاوية: ولي للمنصور البصرة وغيرها. وتوفي في هذه السنة فجأه
وهو علي بطن جارية له، وصلى عليه المنصور، ودفن في مقابر قريش.
ثم دخلت
سنة سبع وخمسين ومائة
فمن الحوادث فيها أن المنصور حول الأسواق من مدينة السلام إلى باب
الكرخ وغيره من المواضع. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد
بن علي الخطيب، قال: أخبرنا محمد بن الحسين القطان، قال: أخبرنا عبد
الله بن جعفر بن درستويه، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: سنة سبع
وخمسين ومائة نقل أبو جعفر الأسواق من المدينة الشرقية إلى باب الكرخ
وباب الشعير والمحول، وفي السوق التي تعرف بالكرخ، وأمر ببنائها من
ماله على يدي الربيع مولاه.
وفيها: وسع طرق المدينة وأرباضها، ووضعها على مقدار أربعين ذراعاً،
وأمر بهدم ما شخص من الدور غير ذلك القدر.أخبرنا عبد الرحمن: قال:
أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني أبو القاسم الأزهري، قال:
حدثنا أحمد بن إبراهيم بن الحسن، قال: أخبرنا ابن عرفة، قال: لما دخلت
سنة سبع وخمسين وكان أبو جعفر قد ولى الحسبة يحيى بن زكريا فاستغوى
العامة وزين لهم الجموع، فقتله أبو جعفر بباب الذهب، وحول أسواق
المدينة إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحول، وأمر ببناء الأسواق
على يد الربيع. أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال:
أخبرنا محمد بن علي الوراق، وأحمد بن علي المحتسب، قالا: أخبرنا محمد
بن جعفر النحوي، قال: حدثنا الحسن بن محمد السكوني، قال: قال محمد بن
خلف: قال الخوارزمي، يعني محمد بن موسى:
وحول أبو
جعفر الأسواق إلى الكرخ وبناها من ماله بعد مائة سنة وست وخمسين، وخمسة
أشهر وعشرين يوماً، ثم بدأ بعد ذلك في بناء قصر الخلد على شاطئ دجلة
بعد شهر وأحد عشر يوماً. قال محمد بن خلف: وأخبرني الحارث بن أبي
أسامة، قال: لما فرغ المنصور من مدينة السلام، وصير الأسواق في طاقات
مدينته من كل جانب، قدم عليه وفد ملك الروم، فأمر أن يطاف بهم في
المدينة، ثم دعاهم فقال للبطريق: كيف رأيت هذه المدينة؟ قال: رأيت
أمرها كاملاً إلا في خلة واحدة، قال: وما هي؟ قال: عدوك يخترقها متى
شاء وأنت لا تعلم، وأخبارك مبثوثة في الآفاق، لا يمكنك سترها، قال:
كيف؟ قال: الأسواق فيها، والأسواق غير ممنوع منها أحد، فيدخل العدو
كأنه يريد أن يتسوق، وأما التجار فإنها ترد الآفاق فيتحدثون بأخبارك،
قال: فزعموا أن المنصور حينئذ أمر بإخراج الأسواق من المدينة إلى
الكرخ، وأن يبني ما بين الصراة إلى نهر عيسى، وولى ذلك محمد بن حبيش
الكاتب، ودعا المنصور بثوب واسع فحد فيه الأسواق، ورتب كل صنف منها في
موضعه، وقال: اجعلوا سوق القصابين في آخر الأسواق، فإنهم سفهاء وفي
أيديهم الحديد القاطع، ثم أمر أن يبنى لأهل الأسواق مسجد يجتمعون فيه
يوم الجمعة لا يدخلون المدينة، ويفرد لهم ذلك وقلد ذلك رجلاً يقال له:
الوضاح - بن شبا - . فبنى القصر الذي يقال له قصر الوضاح والمسجد فيه،
وسميت الشرقية لأنها في شرقي الصراة، ولم يضع المنصور على الأسواق غلة
حتى مات، فلما استخلف المهدي أشار عليه أبو عبيد الله بذلك، وأمر فوضع
على الحوانيت الخراج، وولى ذلك سعيد الحرسي سنة سبع وستين ومائة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا - أبو بكر أحمد بن علي -
الخطيب، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، قال: حدثنا أبو العباس محمد
بن إبراهيم بن محمد المروزي، قال: حدثنا أبو إسحاق محمد بن هارون
الهاشمي، قال: حدثنا حميد بن الصباح، مولى المنصور، قال: حدثني أبي،
قال: أراد المنصور أن يذرع الكرخ، فقال لي: احمل الذراع معك، فخرج
وخرجت معه ونسيت أن أحمل الذراع، فلما صرنا بباب الشرقية قال لي: أين
الذراع؟ فدهشت وقلت: نسيته يا أمير المؤمنين، فضربني بالمقرعة فشجني
وسال الدم على وجهي، فلما رآني قال: أنت حر لوجه الله.
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " من ضرب عبده في غير حد حتى يسيل دمه فكفارته عتقه " . وفيها:
ولى المنصور جعفر بن سليمان على البحرين فلم تتم ولايته، ووجه مكانه
سعيد بن دعلج أميراً، فبعث سعيد ابنه تميماً. وفيها: عرض المنصور جنده
في السلاح والخيل في مجلس اتخذه على شط دجلة دون قطربل، وأمر أهل بيته
وصحايته يومئذ بلبس السلاح، وخرج هو وهو لابس درعاٍ وقلنسوة تحت البيضة
سوداء لاطئة مضربة. وفيها: عقد المنصور الجسر بباب الشعير. - وفيها - :
عزل محمد بن سليمان الكاتب عن مصر، واستعمل عليها مولى للمنصور.
وفيها: ولى معبد بن الخليل السند وعزل عنها هشام بن عمرو، ومعبد يومئذ
بخراسان كتب إليه. وغزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي في هذه السنة.
وقيل: إنما غزاها زفر بن عاصم، والله أعلم. وفيها: حج بالناس - إبراهيم
- بن يحيى بن محمد وهو كان على المدينة، وقيل: إنما كان على المدينة
عبد الصمد، وكان على مكة والطائف قثم، وعلى الأهواز وفارس عمارة بن
حمزة، وعلى كرمان والسند معبد بن الخليل، وعلى مصر مطر مولى المنصور
رحمه الله.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمرو الأوزاعي:
والأوزاع
بطن من همذان، كذلك ذكر محمد بن سعد. وقال البخاري: الأوزاع قرية بدمشق
إذا خرجت من - باب - الفراديس. ولد سنة ثمان وثمانين، وسكن بيروت، وبها
مات. أخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: أخبرنا حمد، قال: أخبرنا
إبراهيم، قال: أخبرنا أبو محمد بن حيان، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن
الحسين، قال: حدثنا عباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت
الأوزاعي يقول: ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم
القيامة يوماً فيوماً وساعة فساعة فلا تمر به ساعة لم يذكر الله فيها
إلا تقطعت نفسه عليها حسرات، فكيف إذا مرت به ساعة مع ساعة ويوم مع
يوم. قال أبو نعيم: وحدثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سالم الفامي،
قال: حدثنا محمد بن منصور الهروي، قال: حدثنا عبد الله بن عروة، قال:
سمعت يوسف بن موسى القطان يحدث أن الأوزاعي قال: رأيت رب العزة في
المنام فقال لي: يا عبد الرحمن، أنت الذي تأمر بالمعروف تنهى عن
المنكر؟ قلت: بفضلك يا رب، فقلت: يا رب أمتني على الإسلام، فقال: وعلى
السنة. أنبأنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد السمرقندي،
قال: أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الكناني، قال: أخبرنا عبد الوهاب بن
جعفر بن علي الميداني، قال: أخبرنا أبو عمرو بن فضالة، قال: حدثنا أحمد
بن أنس، قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد، قال: حدثنا عبد الحميد
بن بكار، عن محمد بن شعيب، قال: جلست إلى شيخ في المسجد - يعني مسجد
دمشق - فقال: أنا ميت يوم كذا وكذا، فلما كان ذلك اليوم إذا به يقول:
ما أخذتم السرير خذوه قبل - أن تسبقوا إليه - ، فقلت: رحمك الله، قال:
هو ما أقول لك، إني رأيت في المنام كأن طائراً وقع على ركن من أركان
هذه القبة، فسمعته يقول: فلان قدري، وفلان كذا، وأبو حفص عثمان بن أبي
عاتكة نعم الرجل، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي خير من يمشي على وجه
الأرض، وأنا ميت يوم كذا وكذا، قال: فما حان الظهر حتى مات وأخرجت
جنازته. أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن
ثابت، قال: أخبرنا أبو الحسين علي بن الحسن بن محمد بن جميع الغساني
بصيدا، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا أبو كريمة عبد
العزيز بن محمد بن عبد العزيز الصيدلاوي، قال: حدثنا أبو هشام إسماعيل
بن عبد الله بن مهرجان البغدادي، قال: حدثنا محمد بن أحمد المصري، قال:
حدثنا - محمد - بن مصعب القرقساني، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي،
قال: أردت بيت المقدس فرافقت يهودياً فلما صرنا إلى طبرية نزل، فاستخرج
ضفدعاً فشد في عنقه خيطاً فصار خنزيراً، فقال: حتى أذهب فأبيعه من
هؤلاء النصارى، فذهب فباعه وجاء بطعام ثم ركبنا، فما سرنا غير بعيد حتى
جاء القوم في الطلب، فقال لي: أحسبه صار في أيديهم ضفدعاً. قال: فحانت
مني التفاتة فإذا بدنه بناحية ورأسه بناحية، فوقفت وجاء القوم، فلما
نظروا إليه فزعوا من السلطان ورجعوا عنه. قال: فقال لي الرأس: رجعوا؟
قلت: نعم قال: فالتأم الرأس إلى البدن وركب وركبنا، فقلت: لا أرافقك
أبداً، - اذهب عني - . وقد روى هذه الحكاية الوليد بن مسلم، عن عبد
الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عطية بن قيس، قال: خرجت أريد بيت المقدس،
فذكر نحوه.
محمد بن طارق المكي: روى عن طاووس، وروى عنه الثوري. وكان زاهداً في
الدنيا كثير التعبد والطواف. أخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد
الباقي، قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، قال: أخبرنا أبو نعيم
الأصفهاني، قال: حدثنا أبو بكر بن مالك، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد
بن حنبل، قال: حدثني شريح بن يونس، قال: حدثنا محمد بن فضيل، قال: رأيت
ابن طارق في الطواف وقد انفرج له أهل الطواف، عليه نعلان مطرفتان
فحرزنا طوافه في ذلك الزمان فإذا هو يطوف في اليوم والليلة عشر فراسخ.
قال أبو نعيم: وحدثنا أبي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، قال:
حدثنا علي بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن فضيل، قال: سمعت ابن شبرمة
يقول:
لو شئت كنت ككرز في تعبده ... أو كابن طارق حول البيت في الحرم
قد حال دون لذيذ العيش خوفهما ... وسارعا في طلاب الفوز والكرم
قال: وكان طارق يطوف في كل يوم وليلة سبعين أسبوعاً. وكان كرز يختم
القرآن في كل يوم وليلة ثلاث ختمات.
ثم دخلت
سنة ثمان وخمسين ومائة
فمن الحوادث فيها غزوة يزيد بن أسيد السلمي الصائفة، وفتحت الطالقان
وطبرستان ونهاوند على يدي عمر بن العلاء.
ومن الحوادث: توجيه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة، وأمره إياه بعزل
موسى بن كعب عن الموصل، وتولية - يحيى بن - خالد بن برمك عليها. وسبب
ذلك أن المنصور كان ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم. ونذر دمه
فيها، وأجله بها ثلاثة أيام، فقال خالد لابنه يحيى، يا بني، قد أوذيت
وطولبت بنا ليس عندي وإنما يراد بذلك دمي، فانصرف - إلى حرمتك وأهلك
فما كنت فاعلاً بهم بعد موتي فافعله، ثم قال: يا بني - ، لا يمنعك ذلك
- من - أن تلقى إخواننا، وأن تمر بعمارة بن حمزة وصالح صاحب المصلى
ومبارك التركي، فتعلمهم حالنا.
فأتاهم فأخبرهم فمنهم من تجهمه وبعث المال سراً، ومنهم من لم يأذن له
وبعث بالمال في أثره، واستأذن على عمارة فدخل عليه وهو في صحن داره
مقابل بوجهه الحائط، فلما انصرف إليه بوجهه وسلم عليه فرد عليه رداً
ضعيفاً وقال: يا بني، كيف أبوك؟ قال: بخير، يقرأ عليك السلام ويعلمك
بنا قد لزمه من الغرم، ويستسلفك مائة ألف درهم، فما رد عليه قليلاً ولا
كثيراً، وقال: إن أمكنني شيء فسيأتيك، فانصرف وهو يقول: لعن الله كل
شيء يأتي من تيهك وكبرك. ورجع إلى أبيه وأعلمه بالخبر، فإذا رسول عمارة
قد طلع بالمائة ألف، فجمعوا في يومين ألفي ألف وسبع مائة ألف، فورد على
المنصور: انتقاض الموصل وانتشار الأكراد، فقال المنصور: من لها؟ فقال
له المسيب: ما رميتها بنثل خالد، قال: ويحك، فيصلح لنا بعد ما أتينا
إليه ما أتينا؟ قال: إنما كان ذلك تقويماً له يا أمير المؤمنين وأنا
ضامن عليه، قال: فليحضر غداً، فأحضر فصفح له عن الثلاثمائة ألف وعقد
له. فلم يزل خالد على - الموصل إلى - أن توفي المنصور، ويحيى على
أذربيجان، وكان المنصور معجباً بيحيى، وكان يقول: ولد الناس أبناء وولد
خالد آباء.
وروى الجاحظ عن ثمامة قال: كان أصحابنا يقولون: لم يكن يرى لجليس خالد
بن برمك دار إلا وخالد قد بناها، ولا ضيعة إلا وهو اشتراها، ولا ولداً
إلا وهو اشترى أمه إن كانت أمة، أو أمهرها إن كانت حرة، ولا دابة إلا
وهي من حملانه. وكان خالد أول من سمى أهل الاستماحة والاسترفاد الزوار،
فقال بعض من قصده:
حذا خالد في جوده حذو برمك ... فمجد له مستطرف وثليل
وكان بنو الإعدام يدعون قبله ... بنبر على الإعدام فيه دليل
يسمون بالسؤال في كل موطن ... وإن كان فيهم نابه وجليل
فسماهم الزوار ستراً عليهم ... واستاره في المحتدين سدول
وفي هذه السنة: نزل المنصور قصره الذي يعرف بالخلد على دجلة، وإنما
سماه الخلد تشبيهاً له بجنة الخلد، وقال: إنما ابتنيته لأنظر إلى الماء
فإنه يجلو البصر. وكان موضعه وراء باب خراسان، وقد اندرس فلا عين - له
- ولا أثر.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي - بن ثابت -
، قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل، قال: أخبرنا ابن صفوان، قال: أخبرنا
أبو بكر القرشي، قال: حدثني ابن جهور، قال: مررت مع علي بن - أبي -
هاشم الكوفي بالخلد، فنظر إلى الآثار فوقف متأملاً وقال:
بنوا وقالوا لا نموت ... وللخراب بنى المبني
ما عاقل فيما رأيت ... إلى الحياة بنطمئن
أخبرنا أبو منصور، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا ابن رزق، قال:
أخبرنا عثمان بن أحمد، قال: حدثنا ابن البراء، قال: حدثنا علي بن ابي
مريم، قال: مررت بسويقة عبد الوهاب وقد خربت منازلها وعلى جدار منها
مكتوب:
هذه منازل أقوام عهدتهم ... في رغد عيش رغيب مااله خطر
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا ... إلى القبور فلا عين ولا أثر
وفي هذه
السنة: سخط المنصور على المسيب بن زهير، وعزله عن الشرطة وأمر بحبسه
وتقييده. وذلك أنه قتل أبان بن بشير الكاتب بالسياط لأمر وجد عليه فيه،
ثم كلمه فيه المهدي فأعاده. وفيها: وجه المنصور نصر بن حرب التميمي
والياً على ثغر فارس. وفيها: سقط المنصور عن دابته بجر جرايا فانشج ما
بين حاجبيه. وكان قد خرج مشيعاً ولده المهدي لما مضى إلى الرقة. وفيها:
عاد المهدي من الرقة إلى بغداد فدخلها في شهر رمضان.
وفيها: أمر المنصور بنرمة القصر الأبيض الذي كان كسرى بناه، وأمر أن
يغرم كل من وجد في داره شيء من الأجر الخسرواني، قال: هذا فيء
المسلمين، فلم يتم ذلك ولا ما أمر به مرمة القصر. وفيها: غزا الصائفة
معيوف بن يحيى، فلقي العدو فاقتتلوا وتحاجزوا. وفيها: حبس محمد بن
إبراهيم بن محمد بن علي وهو أمير مكة - بأمر المنصور - ابن جريج، وعباد
بن كثير، والثوري، ثم أطلقهم من الحبس بغير أمر أبي جعفر، فغضب أبو
جعفر عليه.
وروى عمر
بن شبة أن محمد بن عمران مولى محمد بن إبراهيم حدثه عن أبيه، قال: كتب
المنصور إلى محمد بن إبراهيم بن محمد وهو أمير على مكة يأمره بحبس رجل
من آل علي بن أبي طالب بمكة، ويحبس ابن جريج وعباد بن كثير والثوري.
فحبسهم، وكان له سمار يسامرونه بالليل، فلما كان وقت سمره جلس وأكب على
الأرض ينظر إليها ولم ينطق بحرف حتى تفرقوا، فدنوت منه فقلت: ما لك؟
فقال: عمدت إلى ذي رحم فحبسته وإلى عيون من عيون الناس فحبستهم وما
أدري ما يكون، لعله يأمر بهم فيقتلون فيشتد سلطانه ويهلك ديني. قال:
قلت: فتصنع ماذا؟ قال: أؤثر الله وأطلق القوم، اذهب إلى إبلي فخذ راحلة
وخذ خمسين ديناراً فأت بها الطالبي وأقرئه السلام وقل له إن ابن عمك
يسألك أن تحله من ترويعه إياك، وتركب هذه الراحلة وتأخذ هذه النفقة،
قال: فلما أحس بي جعل يتعوذ بالله من شري، فلما بلغته قال: هو في حل،
ولا حاجة لي إلى الراحلة والنفقة، قال: فقلت: فإن أطيب لنفسه أن تأخذ.
قال: ففعل. قال: ثم جئت ابن جريج وإلى سفيان وعباد بن كثير، فأبلغتهم
ما قال، فقالوا: هو في حل، فقلت: يقول لكم: لا يظهرن أحد منكم ما دام
المنصور بمكة مقيماً. قال: فلما قرب المنصور وجهني بن إبراهيم بألطاف،
فلما أخبر المنصور أن رسول محمد ابن إبراهيم قدم، أمر بالإبل فضربت
وجوهها، فلما صار إلى بئر ميمون لقيه محمد بن إبراهيم فأمر بدوابه
فضربت وجوهها، فكان يسير ناحية وعدل بأبي جعفر عن الطريق في الشق
الأيسر فأنيخ به ومحمد واقف قبالته ومعه طبيب له، فلما ركب أبو جعفر
وسار وعديله، الربيع، أمر محمد الطبيب فمضى إلى موضع مناخ أبي جعفر
فرأى نجوه، فقال لمحمد: رأيت نجو رجل لاتطول به الحياة، فلما دخل مكة
لم يلبث أن مات وسلم محمد. وفي هذه السنة: شخص أبو جعفر من مدينة
السلام متوجهاً إلى مكة وذلك في شوال، فنزل قصر عبدويه، فانقض في مقامه
هناك كوكب لثلاث بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، فبقي أثره بينا إلى
طلوع الشمس، وكان المهدي معه وهو يوصيه بالمال، والسلطان يفعل ذلك كل
يوم من أيام مقامه لا يفتر، وقال له: إني سائر وإني غير راجع، فإنا لله
وإنا إليه راجعون، فاسأل الله بركة ما أقدم عليه، وهذا كتاب وصيتي
مختوماً، فإذا بلغك أني قد مت فانظر فيه. وعلي دين فأحب أن تقضيه وهو
ثلاثمائة ألف ونيف، فلست أستحلها من بيت مال المسلمين، فاضمنها عني،
وإني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة وقد هجس في نفسي أني أموت في
ذي الحجة من هذه السنة، وهذا الذي حداني على الحج، فاتق الله، وإياك
والدم الحرام، وافتتح عملك بصلة الأرحام، وإياك والتبذير. فلما كان في
اليوم الذي أراد أن يرتحل فيه دعى المهدي فقال له: إني لم أدع شيئاً
إلا تقدمت إليك فيه، سأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها، وكان
له سفط فيه دفاتر، فكان لا يأمن على فتحه أحداً، فقال: انظر هذا السفط
فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك، وانظر هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها
فإنها مدينتك وعزك، وقد جمعت ذلك فيها من الأموال ما لم يجمعه حليفة
قبلي، فإن حبس عنك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند
والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور، فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزاً
ما دام بيت مالك عامر، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر
كرامتهم، والإحسان إليهم، وتوليهم المنابر، وتعطي الناس أعقابهم، فإن
عزهم عزك وذلهم ذلك، وانظر مواليك فأحسن إليهم وقربهم، واستكثر منهم،
وإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك. وأوصيك بأهل خراسان خيراً فإنهم أنصارك
وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودمائهم دون أن تحسن إليهم، وتتجاوز عن
مسيئتهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وإياك أن تبني مدينة شرقية
فإنك لا تتم بناءها، وإياك أن تدخل النساء في مشورتك وأمرك. ثم مضى
المنصور إلى الكوفة فنزل الرصافة، ثم خرج منها فأهل بالحج والعمرة،
وساق معه الهدي وأشعره وقلده لأيام خلت من ذي القعدة، فلما سار منازل
من الكوفة عرض له وجعه الذي توفي فيه. ثم أخبرنا عبد الرحمن بن محمد
القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا ابن
رزق، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي، قال: أخبرنا أبو العباس محمد
بن إسحاق السراج، قال: سمعت محمد بن سهل بن عسكر يقول: بعث أبو جعفر
الخشابين حين خرج إلى
مكة،
فقال: إن رأيتم سفيان الثوري فاصلبوه، قال: فجاء النجارون ونصبوا الخشب
ونودي سفيان، وإذا رأسه في حجر الفضيل ورجلاه في حجر ابن عيينة. قال:
فقالوا له: يا عبد الله، اتق الله ولا تشمت بنا الأعداء. قال: فتقدم
إلى الأستار فأخذها ثم قال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر. قال: فمات قبل
أن يدخلها - يعني مكة - فأخبر بذلك سفيان فلم يقل شيئا. وفي هذه السنة
توفي المنصور، وبويع لولده المهدي. فقال: إن رأيتم سفيان الثوري
فاصلبوه، قال: فجاء النجارون ونصبوا الخشب ونودي سفيان، وإذا رأسه في
حجر الفضيل ورجلاه في حجر ابن عيينة. قال: فقالوا له: يا عبد الله، اتق
الله ولا تشمت بنا الأعداء. قال: فتقدم إلى الأستار فأخذها ثم قال:
برئت منه إن دخلها أبو جعفر. قال: فمات قبل أن يدخلها - يعني مكة -
فأخبر بذلك سفيان فلم يقل شيئا. وفي هذه السنة توفي المنصور، وبويع
لولده المهدي.
باب ذكر خلافة المهدي
واسمه محمد بن عبد الله، ويكنى أبا عبد الله، ولد بأيذج سنة سبع وعشرين
ومائة، وأمه أم موسى بنت منصور الحميرية، وكان أبيض - قيل: أسمر -
طويلاً جعداً، وبعينه اليمنى نكتة بياض. قيل: كان ذلك باليسرى.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرني علي بن أحمد الرزاز، قال: أخبرنا أحمد بن سلمان النجاد، قال:
حدثنا محمد بن عثمان العبسي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا وكيع، قال:
حدثنا فضيل بن مرزوق، عن ميسرة - يعني ابن حبيب - عن المنهال - يعني
ابن عمر - عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: منا المنصور ومنا السفاح
ومنا المهدي.
وقد روينا هذا الحديث من حديث الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله
عليه وسلم مرفوعاً. والموقوف أصح.
حدثنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا أبو نعيم
الحافظ، قال: حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني، قال: حدثنا أبو زيد عبد
الرحمن بن حاتم المرادي، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا يحيى بن
يمان، قال: حدثنا سفيان وزائدة، عن عاصم ابن أبي وائل، - عن زر - عن
عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المهدي يواطئ اسمه اسمي،
واسم أبيه اسم أبي " . وكان للمهدي من الولد: موسى، وهارون، والياقوتة،
وأمهم الخيزران أم ولده. وعلي، وعبيد الله، وأمهما ريطة بنت أبي العباس
السفاح وعباسة وإبراهيم لأم ولد. وكان المنصور أراد أن يولي ابنه صالح
بعد المهدي، فقال له المهدي: يا أمير المؤمنين، لا تحملني على قطيعة
الرحم فإن كان لابد من إدخال آخر في هذا الأمر فوله قبلي، فإن الأمر
إذا صار إلي أحببت ألا يخرج عن ولدي.
ذكر صفة العقد الذي عقد للمهدي بالخلافة:
روى علي
بن محمد النوفلي، عن أبيه، قال:خرجت في السنة التي مات فيها أبو جعفر
من طريق البصرة، وكان أبو جعفر قد خرج على طريق الكوفة، فلقيته بذات
عرق، فسرت معه، فلما صار ببئر ميمون نزل بها ودخلنا مكة، فقضيت عمرتي
ثم كنت أختلف إلى مضربه فأقيم فيه إلى قرب الزوال ثم أنصرف. وأقبلت
علته تزداد، فلما كانت الليلة التي مات فيها ولم نعلم صليت الصبح في
المسجد الحرام مع طلوع الفجر، ثم ركبت وأنا أساير محمد بن عون الحارثي،
فلقينا العباس بن محمد، ومحمد بن سليمان في خيل ورجال يدخلان مكة فقال
لي محمد بن عون: ما ترى هذين ودخولهما مكة، قلت: أحسب الرجل قد مات،
فأرادا أن يحصنا مكة، فكان ذلك كذلك، فبينا نحن نسير إذا رجل يخفي صوته
في طريق ونحن بعد في غلس قد جاء، فدخل بين أعناق دابتينا، ثم أقبل
علينا فقال: والله مات الرجل ثم خفي عنا، فمضينا حتى دخلنا العسكر،
فدخلنا إلى السرادق فسمعنا همساً. من بكاء فقال لي الحسن بن زائدة
أتراه قد مات فقلت: لعله ثقل أو أصابته غشية، فما راعنا إلا بأبي
العنبر الخادم الأسود خادم المنصور قد خرج علينا مشقوق الأقبية، من بين
يديه ومن خلفه وعلى رأسه التراب، فصاح: وا أمير المؤمنيناه. ثم خرج
الربيع وفي يده قرطاس فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله
المنصور أمير المؤمنين إلى من يخلف بعده من بني هاشم وشيعته من أهل
خراسان وعامة المسلمين ثم ألقى القرطاس من يده وبكى وبكى الناس. فأخذ
القرطاس وقال: قد أمكنكم البكاء ولكن هذا عهد أمير لا بد من أن أقرأه
عليكم فأنصتوا رحمكم الله، فسكت الناس ثم رجع إلى القراءة أما بعد،
فإني كتبت كتابي هذا: وأنا في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام
الآخرة، وأنا أقرأ عليكم السلام، وأسأل الله ألا يفتنكم ولا يلبسكم
شيعاً ، ولا يذيق بعضكم بأس بعض، يا بني هاشم ويا أهل خراسان، ثم أخذ
في وصيتهم بالمهدي وإذكارهم البيعة له وحضهم على القيام بدولته والوفاء
بعهده إلى آخر الكتاب.
وكان ذلك شيء قد وضعه الربيع ثم نظر في وجوه الهاشميين، وتناول الحسن
بن زيد، فقال: يا أبا محمد، قم فبايع، فقام الحسن وانتهى به الربيع إلى
- موسى بن المهدي فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن - يد موسى فبايعه
للمهدي، ثم جاء الربيع إلى محمد بن عون، فأنهضه فبايع وبايع الناس، ثم
قال للهاشميين: انهضوا، فنهضوا فدخلوا فإذا بالمنصور على سريره في
أكفانه مكشوف الوجه، فحملناه حتى أتينا بن مكة ثلاثة أميال، فكأني أنظر
إليه حين أدنو من قائمة سريره حتى أحمله والريح تطير شعر صدغيه، وكان
قد وفر شعره للحلاق، وقد نصل خضابه حتى أتينا به حفرته فدليناه فيها.
وبعث موسى بن المهدي والربيع مولى المنصور منارة البربري مولى المنصور
بخبر وفاة المنصور وبالبيعة للمهدي، وبعثا بعده بقضيب رسول الله صلى
الله عليه وسلم وبردته التي يتوارثها الخلفاء مع الحسن السروي، وبعث
أبو العباس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة أيضاً.
وفي رواية عن الربيع، أنه قال: رأى المنصور في طريق الحج رؤيا ففزع
منها وقال: يا ربيع ما أحسبني إلا ميتاً في وجهي هذا - وأنك تؤكد
البيعة للمهدي - . وثقل وهو يقول: بادر بي إلى حرم الله وأمنه - يأمن
ذنوبي وإسرافي على نفسي - ، فلما وصل إلى بئر ميمون قلت: قد دخلت
الحرم، فقال: الحمد لله وقضى من يومه.
وقال
الربيع: وأمرت بالخيم فضربت، وبالفساطيط فهيئت، وعمدت إلى أمير
المؤمنين فألبسته الطويلة والدراعة وأسندته وألقيت على وجهه كله -
رقيقة - يرى منها شخصه ولا يفهم أمره، ثم دخلت فوقفت بالموضع الذي
أوهمهم أنه يخاطبني ثم خرجت، فقلت: إن أمير المؤمنين مفيق بمن الله،
وهو يقرأ عليكم السلام ويقول: إني أحب أن يؤكد الله أمركم، ويكبت عدوكم
ويسر وليكم وقد أحببت أن تجددوا البيعة لأبي عبد الله المهدي كيلا يطمع
فيكم عدو ولا باغ، فقال القوم كلهم: وفق الله أمير المؤمنين، نحن إلى
ذلك أسرع، فدخل فوقف ثم رجع إليهم، فقال: هلم للبيعة، فبايع القوم كلهم
ثم دخل، وخرج باكياُ مشقوق الجيب لاطماً على رأسه، فقال بعض من حضر:
ويلي عليك يا ابن الشاة - يريد الربيع - كانت أمه ماتت وهو رضيع فأرضع
على شاة. وحفر للمنصور مائة قبر لئلا يعرف موضع قبره، ودفن في غيرها
للخوف عليه، وبويع للمهدي بنكة صبيحة الليلة التي توفي فيها المنصور.
قال أبو بكر الصولي: وكان الربيع بن أنس وزير المنصور، فلما توفي أخذ
البيعة للمهدي، فشكر له المهدي ذلك إلا أنه لم يوله الوزارة لغلبة أبي
عبيدة معاوية بن عبد الله عليه، فولى أبا عبيدة الوزارة، والربيع
الحجبة، ثم وزر له يعقوب بن داود، ثم الفيض بن أبي صالح. وبعثوا منارة
فوصل يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فكتم الخبر يومين، ثم خطب المهدي
يوم الخميس ونعي إليهم المنصور، وقال: إن أمير المؤمنين عبد الله دعي
فأجاب، واغرورقت عيناه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عند
فراق الأحبة، ولقد فارقت عظيماً وقلدت جسيماً، وعند الله أحتسب أمير
المؤمنين، وبه عز وجل أستعين على خلافة المسلمين، ثم بايعه الناس. وحكى
أبو بكر الصولي أنه لما جلس المهدي للتعزية والتهنئة دخل عليه أبو
دلامة فأنشده:
عينان واحدة ترى مسرورة ... بإمامها جذلى وأخرى تذرف
تبكي وتضحك مرة ويسوءها ... ما أنكرت ويسرها ما تعرف
فيسوءها موت الخليفة محرماً ... ويسرها أن قام هذا الأرأف
فكان أول من وصله.
وفي هذه السنة: حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي، وكان
المنصور أوصى بذلك، وكان هو العامل على مكة والطائف، وعلى المدينة عبد
الصمد بن علي، وعلى الكوفة عمرو بن زهير الضبي، وقيل: كان العامل عليها
إسماعيل بن أبي إسماعيل الثقفي، وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخعي
وضمت إليه بغداد.وقيل: كان القاضي على بغداد يوم مات المنصور عبد الله
بن محمد بن صفوان الجمحي، وكان على خراج الكوفة ثابت بن موسى، وعلى
خراسان حميد ين قحطبة، وكان على ديوان الخراج بالبصرة وأرضها عمارة بن
حمزة، وعلى قضائها والصلاة عبد الله بن الحسن العنبري، وعلى أحداثها
سعيد بن دعلج، وعلى الشرط ببغداد عمر بن عبد الرحمن أخو عبد الجبار،
وقيل: موسى بن كعب. وفيها: أصاب الناس وباء شديد. وفيها: هلك طاغية
الروم.
ذكر طرف من أخبار المهدي وسيرته أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال:
أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا عبد الله الظاهري، قال:
أخبرنا علي بن عبيد الله بن المغيرة الجوهري، قال: حدثنا أحمد بن سعيد
الدمشقي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: أخبرني يونس بن عبد الله
الخياط قال: دخل ابن الخياط المكي على المهدي وقد مدحه، فأمر له بخمسين
ألف درهم، فلما قبضها فرقها على الناس وقال:
أخذت بكفي كفه أبتغي الغنا ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذو الغنى ... أفدت وأعداني فبددت ما عندي
فنمي إلى المهدي فأعطاه بكل درهم ديناراً.
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا سلامة بن
الحسين المقرئ، قال: أخبرنا علي بن عمر الخياط، قال: حدثنا الحسين بن
إسماعيل، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثنا هارون بن ميمون
الخزاعي، قال: حدثنا أبو حزمة الباذغيسي، قال: قال المهدي: ما توسل أحد
بوسيلة ولا تذرع بذريعة هي أقرب إلي وأحب من أن يذكرني يداً سلفت مني
إليه أتبعها أختها وأحسن ربها؛ لأن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا
محمد بن عبد الواحد بن محمد، قال: أخبرنا محمد بن العباس، قال: أخبرنا
محمد بن خلف المرزبان، قال: أخبرني محمد بن الفضل، قال: أخبرني بعض أهل
الأدب عن حسن الوصيف، قال: قعد المهدي قعوداً عاماً للناس، فدخل رجل في
يده نعل في منديل، فقال يا أمير المؤمنين، هذه نعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقد أهديتها لك، فقال: هاتها، فدفعها إليه، فقلب باطنها
ووضعها على عينيه وأمر للرجل بعشرة آلاف درهمٍ، فلما أخذها وانصرف قال
لجلسائه: أترون أني لم أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها
فضلاً على أن يكون لبسها، ولو كذبناه لقال لناس: أتيت أمير المؤمنين
بنعل رسول صلى الله عليه وسلم فردها علي وكان منن يصدقه أكثر ممن يدفع
خبره، إذ كان من شأن العامة الميل إلى أشكالها، والنصرة للضعيف على
القوي، فاشترينا لسانه وقبلنا هديته وصدقنا قوله، ورأينا الذي فعلناه
أنجح وأرجح.
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرني الحسن بن
محمد الخلال، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عمران، قال: حدثنا محمد بن
القاسم الأنباري، قال: حدثنا الحسن بن علي العنبري، قال: حدثنا العباس
بن عبد الله بن جعفر بن سليمان بن علي، قال: حدثتني جدتي فائقة بنت عبد
الله، قالت: بينا أنا يوماً عند المهدي وكان قد خرج متنزهاً إلى
الأنبار إذ دخل عليه الربيع ومعه قطعة من جراب فيه كتاب برماد وخاتم من
طين قد عجن بالرماد، وهو مطبوع بخاتم الخلافة، فقال: يا أمير المؤمنين،
ما رأيت أعجب من هذه الرقعة، جاءني بها رجل أعرابي وهو ينادي: هذا كتاب
أمير المؤمنين المهدي، دلوني على هذا الرجل الذي يسمى الربيع فقد أمرني
أن أدفعها إليه أعني هذه الرقعة. فأخذها المهدي وضحك وقال: صدق هذا خطي
وهذا خاتمي، أفلا أخبركم بالقصة؟ قلنا: يا أمير المؤمنين، رأيك أعلى
عيناً في ذلك.
قال: خرجت
أمس إلى الصيد في غب سماء، فلما أصبحت هاج علينا ضباب شديد وفقدت
أصحابي حتى ما رأيت منهم أحداً، وأصابني من البرد والجوع والعطش ما
الله به أعلم، وتحيرت عند ذلك فذكرت دعاء سمعته من أبي، عن أبيه، عن
جده، عن ابن عباس، قال: " من قال إذا أصبح وإذا أمسى: بسم الله الرحمن
الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله اعتصمت بالله وتوكلت على الله لا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وفي وكفي وشفي من الحرق والغرق والهدم
وميتة السوء " . فلما قلتها دفع لي ضوء نار فقصدتها، فإذا بهذا
الأعرابي في خيمة له، وإذا هو يوقد ناراً بين يديه، فقلت: أيها
الأعرابي هل من ضيافة؟ قال: انزل، فنزلت، فقال لزوجته: هاتي ذاك
الشعير، فأتته به، فقال: اطحنيه، فابتدأت بطحنه، فقلت له: اسقني ماء،
فجاء بسقاء فيه مذقة من لبن أكثره ماء، فشربت منها شربة ما شربت قط
شيئاً إلا وهو أطيب منه، قال: فأعطاني حلساً له فوضعت رأسي عليه، فنمت
نومة ما نمت نومة أطيب منها وألذ، ثم انتبهت فإذا هو قد وثب إلى شوية
فذبحها، وإذا امرأته تقول له: ويحك قتلت نفسك وصبيتك إنما كان معاشكم
من هذه الشاة فذبحتها فبأي شيء نعيش؟ قال: فقلت: لا عليك هات الشاة،
فشققت جوفها واستخرجت كبدها بسكين في خفي فشرحتها ثم طرحتها على النار
فأكلتها، ثم قلت: هل عندك شيء أكتب لك فيه؟ فجاءني بهذه القطعة وأخذت
عوداً من الرماد الذي كان بين يديه، فكتبت له هذا الكتاب وختمته بهذا
الخاتم وأمرته أن يجيء ويسأل عن الربيع فيدفعها إليه فإذا في الرقعة
خمسمائة ألف درهم، فقال: لا والله ما أردت إلا خمسين ألف درهم، ولكن
جرت بخمسمائة الف درهم، لا أنقض والله منها درهماً واحداً ولو لم يكن
في بيت المال غيرها احملوها معه. فما كان إلا قليلاً حتى تكثرت إبله
وشاؤه، وصار منزلاً من المنازل تنزله الناس من أراد الحج من الأنبار
إلى مكة، وسمي مضيف أمير المؤمنين المهدي. أخبرنا عبد الرحمن، قال:
أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرني أبو القاسم الأزهري، قال: أخبرنا أحمد
بن إبراهيم، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، قال: وخرج المهدي
يوماً إلى الصيد فانقطع عن خاصته، فدفع إلى أعرابي وهو يريد البول،
فقال: يا أعرابي، احفظ علي فرسي حتى أبول، فسعى نحوه وأخذ بركابه، فنزل
المهدي ودفع الفرس إليه فأقبل الأعرابي على السرج يقتلع حليته، ففطن
المهدي وقد أخذ حاجته فقدم إليه فرسه، وجاءت الخيل نحوه فأحاطت به ونذر
الأعرابي فولى هارباً فأمر برده وخاف أن يكون فطن به، فقال: خذوا ما
أخذنا منكم ودعونا نذهب إلى حرق الله وناره، فقال المهدي: لا بأس عليك،
فقال: ما تشاء جعلني الله فداء فرسك، فضحك من حضره وقالوا: ويلك هل
رأيت إنساناً قد قال هذا؟ قال: فما أقول؟ قالوا: قل جعلني الله فداك يا
أمير المؤمنين، قال: أو هذا أمير المؤمنين؟ قالوا: نعم، قال: والله لئن
أرضاه هذا مني فما يرضيني ذاك فيه، ولكن جعل الله جبريل وميكائيل
فداءه، وجعلني فداءهما. فضحك المهدي واستطابه وأمر له بعشرة آلاف درهم.
قال ابن عرفة: وبلغني أن المهدي لما فرغ من بناء عيسى باذ ركب في جماعة
يسيرة لينظر فدخله مفاجأة وأخرج من كان هناك من الناس، وبقي رجلان خفيا
عن أبصار الأعوان، فرأى المهدي أحدهما وهو دهش ما يعقل، فقال: من أنت؟
فقال: أنا أنا أنا، قال: ويحك من أنت؟ قال: لا أدري، قال: ألك حاجة؟
قال: لا لا، قال: أخرجوه أخرج الله نفسه، فدفع في قفاه. فلما خرج قال
لغلام له اتبعه من حيث لا يعلم فسل عن أمره ومهنته فإني أخاله حائكاً،
فخرج الغلام يقفوه. ثم رأى الآخر فستنطقه فأجابه بقلب جريء ولسان بسيط،
قال: فما جاء بك إلى ها هنا؟ قال: جئت لأنظر إلى هذا البناء الحسن
فأتمتع بالنظر إليه وأكثر الدعاء لأمير المؤمنين بطول المدة وتمام
النعمة ونماء العز والسلامة، قال: أفلك حاجة؟ قال: نعم، خطبت ابنة عمي
فردني أبوها وقال: لا مال لك والناس يرغبون في الأموال، وأنا بها مشغوف
ولها وامق. قال: قد أمرت لك بخمسين ألف درهم، قال: جعلني الله فداك يا
أمير المؤمنين قد وصلت فأجزلت الصلة، ومننت فأعظمت المنة فجعل الله
باقي عمرك أكثر من ماضيه، وآخر أيامك خيراً من أولها، وأمتعك بنا أنعم
به عليك وأمتع رعيتك بك، فأمر أن تعجل صلته، ووجه بعض خاصته وقال: سل
عن مهنته فإني
أخاله
كاتباً، فرجع الرسولان معاً، فقال الأول: وجدت الأول حائكاً، وقال
الآخر: وجدت الرجل كاتباً، فقال المهدي: لم تخف علي مخاطبة الكاتب
والحائك. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب،
قال: أخبرنا محمد بن علي بن مخلد الوراق، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن
عمران، قال: حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: قال عمرو بن أبي عمرو
الأعجمي:اله كاتباً، فرجع الرسولان معاً، فقال الأول: وجدت الأول
حائكاً، وقال الآخر: وجدت الرجل كاتباً، فقال المهدي: لم تخف علي
مخاطبة الكاتب والحائك. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد
بن علي الخطيب، قال: أخبرنا محمد بن علي بن مخلد الوراق، قال: أخبرنا
أحمد بن محمد بن عمران، قال: حدثنا محمد بن يحيى الصولي، قال: قال عمرو
بن أبي عمرو الأعجمي: اعترضت امرأة للمهدي فقالت: يا عصبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم انظر في حاجتي، فقال المهدي: ما سمعتها من أحد
قبلها، اقضوا حاجتها وأعطوها عشرة آلاف درهم . أخبرنا عبد الرحمن، قال:
أخبرنا أحمد بن علي، قال: حدثنا القاضي أبو العلاء الواسطي، قال: حدثنا
سهل بن أحمد الديباجي، قال: حدثنا أبو خليفة، قال: حدثنا رفيع بن سلمة،
عن أبي عبيدة، قال: كان المهدي يصلي بنا الصلوات في المسجد الجامع
بالبصرة لما قدمها، فأقيمت الصلاة يوماً، فقال أعرابي: يا أمير
المؤمنين، لست على طهر وقد رغبت إلى الله في الصلاة خلفك فأمر هؤلاء
ينتظروني، فقال: انتظروه رحمكم الله، ودخل المحراب ووقف إلى أن قيل له:
قد جاء الرجل، فكبر فتعجب الناس من سماحة أخلاقه. أخبرنا عبد الرحمن
قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا القاضي أبو الحسن علي بن عبد
الله بن إبراهيم الهاشمي، قال: حدثنا محمد بن عمرو بن البختري، قال:
حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، قال: حدثني عبيد الله بن فرقد مولى
المهدي، قال: هاجت ريح زمن المهدي، فدخل المهدي بيتاً في جوف بيت وألزق
خده بالتراب ثم قال: اللهم إني بريء من هذه الجناية، كل هذا الخلق غيري
فإن كنت المطلوب من بين خلقك فها أنا ذا بين يديك، اللهم لا تشمت بي
أهل الأديان، فلم يزل مكانه حتى انجلت الريح. أخبرنا عبد الرحمن، قال:
أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا القاضي أبو الطيب الطبري، قال: أخبرنا
المعافى بن زكريا، قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن منصور، قال: حدثني أبو
قلابة، قال: حدثني نصر بن قديد، قال: حدثني أبو عمرو الشعافي، قال:
صلينا مع المهدي المغرب ومعنا العوفي، وكان من مظالم المهدي، فلما
انصرف المهدي من المغرب جاء العوفي حتى قعد في قبلته، فقام يتنفل، فجذب
ثوبه فقال: ما شأنك؟ قال: شيء أولى بك من النافلة، قال: وما ذاك؟ قال:
سلام مولاك، قال وهو قائم على رأسه: أوطأ قوماً الخيل وغصبهم على
ضيعتهم وقد صح ذلك عندي تأمر بردها وتبعث من يخرجهم، فقال المهدي: حتى
نصبح إن شاء الله، فقال العوفي: لا إلا الساعة، فقال المهدي: يا فلان
القائد، اذهب الساعة إلى موضع كذا وكذا فأخرج من فيها وسلم الضيعة إلى
فلان. قال: فما أصبحوا حتى ردت الضيعة على صاحبها.
أخبرنا
محمد بن ناصر الحافظ، قال: أخبرنا محمد بن أحمد الفقيه، قال: أخبرنا
محمد بن الحسين الجارزي، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا، قال: حدثني
محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو العباس محمد
بن إسحاق بن أبي العنبس، عن إسحاق بن يحيى بن معاذ، قال: حدثني سوار،
قال: انصرفت يوماً من دار المهدي، فلما دخلت منزلي دعوت بالغداء، فجاشت
نفسي فأمرت به فرد، ثم دعوت جارية لي ألاعبها فلم تطب نفسي بذلك، فدخلت
القائلة فلم يأخذني النوم، فنهضت وأمرت ببغلة لي فأسرحت، فركبتها، فلما
خرجت استقبلني وكيل لي ومعه مال، فقلت: ما هذا؟ فقال: ألفا درهم جبيتها
من مستغلك الجديد، قلت أمسكها معك واتبعني، قال: وخليت رأس البغلة حتى
عبرت الجسر، ثم مضيت في شارع دار الرقيق حتى انتهيت إلى الصحراء، ثم
رجعت إلى باب الأنبار، وطوفت فلما صرت في شارع دار الأنبار انتهيت إلى
باب دار نظيف وعليه شجرة وعلى الباب خادم، فوقفت وقد عطشت، فقلت
للخادم: عندك ماء تسقيني؟فقال: نعم. وقام فأخرج قلة نظيفة طيبة الرائحة
عليها منديل، فناولني فشربت، وحضر وقت العصر، فدخلت مسجداً على الباب،
فصليت فلما قضيت صلاتي إذا أنا بأعمى يتلمس، فقلت: ما تريد يا هذا؟
قال: إياك أريد، قلت: وما حاجتك؟ فجاء حتى قعد فقال: شممت منك ريح
الطيب فظننت أنك من أهل النعيم فأردت أن ألقي عليك شيئاً، فقلت: قل،
قال: اترى هذا القصر؟ قلت: نعم، قال: هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى
خراسان وخرجت معه فزالت عنا النعم التي كنا فيها، فقدمت فأتيت صاحب
الدار لأسأله شيئاً يصلني به وأصير إلى سوار فإن كان صديقاً لأبي، قلت:
ومن أبوك؟ قال: فلان بن فلان، فإذا هو أصدق الناس إلي، فقلت له: يا
هذا، فإن الله قد أتاك بسوار، منعه الطعام والنوم حتى جاء به فأقعده
بين يديك، ثم دعوت الوكيل فأخذت الدراهم منه فدفعتها إليه وقلت له: إذا
كان الغد فصر إلى المنزل. ثم مضيت فقلت: ما أحدث أمير المؤمنين بشيء
أطرف من هذا. فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت وحدثته بالحديث،
فأمر لي بألفي دينار فنهضت، فقال: اجلس، عليك دين؟ قلت: نعم، قال: كم؟
قلت: خمسون ألف دينار، فأمسك وجعل يحدثني ساعة، ثم قال: امض إلى منزلك،
فصرت إلى منزلي، فإذا خادم معه خمسون ألف دينار قال: يقول لك أمير
المؤمنين اقض بها دينك، فقبضتها، فلما كان من الغد فأبطأ على المكفوف،
وأتاني رسول المهدي يدعوني، فجئته فقال: فكرت في أمرك فقلت: يقضي دينه
ويحتاج إلى الحيلة والقرض وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار، فقبضتها
وانصرفت. فأتاني المكفوف فدفعت إليه الألفي دينار وقلت: قد رزق الله
كلاً بكرمه خيراً كثيراً، وأعطيته من مالي ألفي دينار.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ،
قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع فيما أذن له
أن نرويه عنه، قال: أخبرنا علي بن محمد بن السري، قال: أخبرنا أبو بكر
محمد بن خلف، قال: أخبرنا إسحاق بن محمد بن إسحاق، قال: أنبئت أن يعقوب
بن المهدي سأل الفضل بن الربيع عن أرحاء البطريق، فقال: من هذا البطريق
الذي نسبت إليه هذه الأرحاء؟ فقال الفضل: إن أباك رضي الله عنه لما
أفضت إليه الخلافة وقدم عليه وافد من الروم فاستأذنه ثم كلمه بترجمان
يعبر عنه، قال الرومي: إني لم أقدم على أمير المؤمنين لمال ولا عرض،
وإنما قدمت شوقاً إليه وإلى النظر إلى وجهه لأنا نجد في كتبنا أن
الثالث من أهل نبي هذه الأمة يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، فقال
المهدي: قد سرني ما قلت ولك عندنا كل ما تحب، ثم أمر الربيع بإنزاله
وإكرامه، فأقام مدة ثم خرج يتنزه، فمر بموضع الأرحاء فنظر إليه فقال
للربيع: أقرضني خمسمائة ألف درهم ابني بها مستغلاً يؤدي إليه في السنة
خمسمائة ألف درهم ، قال: أفعل، ثم أخبر المهدي بنا ذكر، فقال: أعطه
خمسمائة ألف دينار وخمسمائة ألف درهم وما أغلت فادفعه إليه فإذا خرج
إلى بلاده فابعث به إليه في كل سنة، قال: ففعل، فبنى الأرحاء ثم خرج
إلى بلاده، فكانوا يبعثون بغلتها إليه حتى مات الرومي، فأمر المهدي أن
يضم إلى مستغله. قال: واسم البطريق طاراث بن الليث بن العيزار بن طريف،
وكان أبوه ملكاً من ملوك الروم أيام معاوية.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرني الأزهري:
قال: أخبرنا أحمد إبراهيم، قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال:
حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني خالد بن وضاح، قال: حدثني عبد الأعلى
بن محمد بن صفوان الجمحي، قال: حملت ديناً بعسكر المهدي، فركب المهدي
يوماً بين أبي عبيد الله وعمر بن بزيغ، وأنا وراءه في موكبه على برذون
قطوف. فقال: ما أنسب بيت قالته العرب؟ قال أبو عبيد الله: قول امرئ
القيس، إذ يقول:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
قال: هذا أعرابي قح، فقال عمر بن بزيغ قول كثير بن أبي جمعة:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
قال: وما هذا بشيء، وما له يريد أن ينسى ذكرها حتى تمثل له، فقلت: يا
أمير المؤمنين، عندي حاجتك جعلني الله فداك قال: الحق، قلت: لا لحاق
لي، ليس ذلك في دابتي، قال: احملوه على دابة، فقلت: هذا أول الفتح،
فحملت عليها فلحقته، فقال: ما عندك؟ قلت: قول الأحوص:
إذا قلت إني مشتفٍ بلقائها ... فحم التلاقي بيننا زادنا سقما
قال: أحسن والله، اقضوا عنه دينه. فقضى عني ديني.
وكان المهدي إذا جلس للمظالم قال: أدخلوا علي القضاة، فلو لم يكن ردي
للمظالم إلا للحياء منهم.
وأتي المهدي برجل قد تنبأ،فلما رأه قال: أنت نبي؟ قال: نعم، قال: وإلى
من بعثت؟ قال: أتركتموني أذهب إلى من بعثت إليه، وجهن بالغداة
فأخذتموني بالعشي ووضعتموني في الحبس، فضحك المهدي منه، وخلى سبيله.
قال الربيع: رأيت المهدي في ليلة يصلي فقرأ: " فهل عسيتم إن توليتم أن
تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " . قال: فلما فرغ من صلاته التفت إلي
فقال: يا ربيع، قلت لبيك يا أمير المؤمنين، قال موسى: وقام إلى صلاته،
فقلت من موسى؟ ابنه موسى أم موسى بن جعفر، وكان محبوساً عندي، فجعلت
أفكر فقلت: ما هو إلا موسى بن جعفر، فأحضرته فقال: يا موسى إني قرأت
هذه الآية: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم
" ، فخشيت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج، فقال: نعم، فوثق
له فخلاه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
شيبان الرعي حج معه سفيان الثوري، فلقيا سبعاً، فعرك شيبان أذنه وقال:
لولا مكان الشهرة ما وضعت زادي إلا على ظهره.
أخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي قالا: أخبرنا حمد بن أحمد
قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله قال: حدثنا عبد الله بن أحمد
قال: حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد بن سليمان الهروي قال: حدثنا
إبراهيم بن يعقوب قال: حدثنا أحمد بن نصر، عن محمد بن يزيد، عن محمد بن
حمزة الربضي، قال: كان شيبان الراعي إذا أجنب وليس عنده ماء دعا ربه،
فجاءت سحابة فأظلته فاغتسل منها، وكان يذهب إلى الجمعة فيخط على غنمه
فيجيء فيجدها لم تتحرك.
عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وهو أبو جعفر المنصور
روى علي
بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبيه قال: مكان المنصور لا يستمرئ طعامه
ويشكو إلى المتطببين ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشنات، وكانوا يكرهون
ذلك ويأمرونه أن يقل من الطعام، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم، ولكنها
تحدث من العلل ما هو أشد عليه. فقال كثير وكان من قطيبي العراق لا يموت
أو جعفر إلا بالبطن، فقلت له: وما علمك؟ فقال: هو يأخذ الجوارشن فيهضم
طعامه ويحلق من رأس معدته كل يوم شيئاً وشحم مصارينه فيموت ببطنه،
وقال: أضرب لذلك مثلاً أرأيت لو أنك وضعت جرة في موضع وضعت تحتها آجرة
جديدة إنما كان قطرها يثقب الآجرة على طول الدهر، فمات بالبطن. وقال
بعضهم: كان بدو وجعه الذي مات فيه من حر أصابه من ركوبه في الهواجر،
وكان رجلاً محروراً. أخبرنا محمد بن أبي منصور قال: أخبرنا المبارك بن
عبد الجبار قال: أخبرنا أبو بكر المنكدري قال: أخبرنا ابن الصلت قال:
أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال: حدثنا محمد بن أحمد المقدمي، قال:
حدثنا أبو محمد التميمي قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم قال: حدثنا أبو
سهل الحاسب قال: حدثني طيفور قال: كان سبب إحرام المنصور من مدينة
السلام أنه نام ليلة فانتبه فزعاً، ثم عاود النوم فانتبه فزعاً، ثم
راجع النوم فانتبه فزعاً فقال: يا ربيع، قال: لبيك يا أمير المؤمنين،
قال: لقد رأيت في منامي عجباً قال: ما رأيت جعلني الله فداك؟ قال: رأيت
كأن آتياً أتاني فهيم بشيء لم أفهمه، فانتبهت فزعاً، ثم عاودت النوم
فعاودني يقول ذلك الشيء، ثم عاودني بقوله، حتى فهمته وحفظته وهو:
كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وعرى منه أهله ومنازله
وصار رئيس القوم من بعد بهجة ... إلى جدث يبنى عليه جنادله
وما أحسبني يا ربيع إلا وقد حانت وفاتي ، وحضر أجلي، ومالي غير ربي، قم
فاجعل لي غسلاً، ففعلت فقام فاغتسل وصلى ركعتين وقال: أنا عازم على
الحج. فهيأنا آلة الحج، فخرج وخرجنا حتى إذا انتهى إلى الكوفة نزل
النجف، فأقام أياماً، ثم أمر بالرحيل فتقدمت نوابه وجنده، وبقيت أنا
وهو في القصر وشاكريته بالباب، فقال لي: يا ربيع جئني بفحمة من المطبخ،
وقال لي: أخرج فكن مع دابتي إلى أن أخرج، فلما خرج وركب، رجعت إلى
المكان كأني أطلب شيئاً، وإذا قد كتب على الحائط بالفحمة شعراً:
المرء يهوى أن يعيش وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتصرف الأيام حتى ما يرى شيئاً يسره
كم بي إن هلكت وقائل لله دره أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن
عبد الجبار قال: أخبرنا الشريف أبو بكر المنكدري قال: أخبرنا أبو الحسن
بن الصلت، قال: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال: حدثني أبي قال: حدثنا
أبو عبد الله المطبخي قال: حدثنا أبو إسحاق الجيلي قال: لما حج المنصور
في آخر عمره دخل على بعض المنازل بطريق مكة، فرأى كتابةً على الحائط
فقرأها، فإذا هي:
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا بد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم عن حر المنية دافع
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا محمد
بن أحمد بن رزق قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: حدثنا محمد بن
أحمد البراء قال: حدثني أحمد بن هشام قال: قال الربيع: بينا أنا مع أبي
جعفر المنصور في طريق مكة تبرز ونزل يقضي حاجته، فإذا الريح قد ألقت
إليه رقعة فيها مكتوب:
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا بد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم عن حر المنية دافع
قال:
فناداني: يا ربيع تنعي إلي نفسي في رقعة؟ قلت: لا والله ما أعرف رقعة،
ولا أدري ما هي؟ قال: فما رجع من وجهه حتى مات. قال ابن البراء: ومات
ببئر ميمون، وهو محرم، فدفن مكشوف الوجه لست خلون من ذي الحجة سنة ثمان
وخمسين ومائة، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، وخلافته إحدى وعشرين سنة
وأحد عشر شهراً وثمانية أيام. قال مؤلف الكتاب رحمه الله تعالى: وقد
اختلفوا في مقدار عمره على خمسة أقوال: أحدها: ثلاث وستون سنة كما
ذكرنا، والثاني: ثلاث وستون وشهور، الثالث: أربع وستون، والرابع: خمس
وستون. والخامس: ثمان وستون. واتفقوا أن مدة خلافته اثنان وعشرون سنة
تنقص أياماً. وفي ذلك المقدار الناقص خمسة أقوال: أحدها: اثنان وعشرون
يوماً. والثاني: أربعة وعشرون يوماً، والثالث: ثلاثة أيام، والرابع:
سبعة أيام، والخامس: يومان. قالوا: ودفن في المقبرة التي عند بلبة
المدينتين التي تسمى كدا، وتسمى المعلاة؛ لأنها بأعلى مكة.
عبد الله بن عياش بن عبد الله أبو الجراح الهمذاني الكوفي ويعرف
بالمنتوف. أخبرنا القزاز قال: أخبرنا الخطيب قال: حدث ابن عياش، عن
الشعبي، وروى عنه الهيثم بن عدي، وكان رواية للأخبار والآداب. وكان من
صحابة أبي جعفر المنصور، ونزل بغداد في دور الصحابة ناحية شط الصراة،
قال: ويقال: إن دجلة مدت وأحاط الماء بداره، فركب المنصور ينظر إلى
الماء، وابن عياش معه، فرأى داره وسط الماء، فقال: لمن هذه الدار قال:
لوليك يا أمير المؤمنين، فقال المنصور: " وحال بينها الموج فكان من
المغرقين " ، فقال له ابن عياش وكان جريئاً عليه: ما أظن أمير المؤمنين
يحفظ من القرآن آية غيرها، فضحك منه وأمر له بصلة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
الجوهري قال: حدثنا محمد بن العباس قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم
الحكيمي قال: حدثنا ميمون بن هارون قال: حدثني الوضاح بن حبيب بن يزيد
التميمي، عن أبيه قال: كنت يوماً عند المنصور وعبد الله بن عياش
المنتوف وعبد الله بن الربيع الحارثي، وإسماعيل بن خالد بن عبد الله
القسري، وكان المنصور ولى بن قتيبة البصرة، وولى مولى له كور البصرة
والأبلة، فورد الكتاب من مولى أبي جعفر يخبر أن سلماً ضربه بالسياط،
فاستشاط أبو جعفر، وضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: علي يجترئ سلم،
والله لأجعلنه نكالاً وعظة، وجعل يقرأ كتباً بين يديه، قال: فرفع ابن
عياش رأسه وكان من أجرئنا عليه فقال: يا أمير المؤمنين، لم يضرب سلم
مولاك بقوته ولا قوة ابنه ولكنك قلدته سيفك، وأصعدته منبرك، وأراد
مولاك أن يطأطئ من سلم ما رفعت، ويفسد ما صنعت، فلم يحتمل له ذلك، يا
أمير المؤمنين إن غضب العربي في رأسه، فإذا غضب لم يهدأ حتى يخرجه
بلسانه أو يده، وإن غضب النبطي في استه، فإذا خري ذهب غضبه، فضحك أبو
جعفر، وقال: قبحك الله يا منتوف. وكف عن سلم. توفي المنتوف في هذه
السنة.
الأسود المكي
أخبرنا
محمد بن ناصر قال: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج قال: أخبرنا عبد العزيز
بن الحسن بن إسماعيل الضراب، قال: أخبرني أبي قال: حدثنا أحمد بن مروان
بن المالكي قال: حدثنا سليمان بن الحسن قال: حدثني أبي قال: قال ابن
المبارك: قدمت مكة فإذا الناس قد قحطوا من المطر وهم يستسقون في المسجد
الحرام، وكنت في الناس مما يلي باب بني شيبة، إذ أقبل غلام أسود عليه
قطعتا خيش، قد ائترز بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقه، فصار في موضع
خفي إلى جانبي، فسمعته يقول: إلهي أخلقت الوجوه كثرة الذنوب ومساوئ
الأعمال، وقد منعتنا غيث السماء لتؤدب الخليقة بذلك، فأسألك يا حليماً
ذا أناة، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل، اسقهم الساعة الساعة.
قال ابن المبارك: فلم يزل يقول الساعة الساعة حتى استوت بالغمام، وأقبل
المطر من كل مكان، وجلس مكانه يسبح، وأخذت أبكي، فلما قام تبعته حتى
عرفت موضعه، فجئت إلى فضيل بن عياض فقال لي: مالي أراك كئيباً؟ فقلت:
سبقنا إلى الله غيرنا، فتولاه دوننا، قال: وما ذاك؟ فقصصت عليه القصة،
فصاح وسقط وقال: ويحك يا ابن المبارك خذني إليه، قلت: قد ضاق الوقت،
وسأبحث عن شأنه. فلما كان من الغد صليت الغداة، وخرجت إلى الموضع فإذا
شيخ على الباب قد بسط له وهو جالس، فلما رآني عرفني وقال: مرحباً بك يا
عبد الرحمن، حاجتك. فقلت له: احتجت إلى غلام أسود. فقال: نعم عندي عدة،
فاختر أيهم شئت؟ فصاح يا غلام، فخرج غلام جلد، فقال: هذا محمود
العاقبة، أرضاه لك، فقلت: ليس هذا حاجتي، فما زال يخرج إلي واحداً
واحداً حتى أخرج إلي الغلام، فلما أبصرت به بدرت عيناي، فقال: هذا هو؟
قلت: نعم، فقال ليس إلى بيعه سبيل، قلت : ولم؟ قال: قد تبركت لموضعه في
هذه الدار وذاك أنه لا يزرأني شيئاً ، قلت: ومن أين طعامه؟ قال: يكسب
من قبل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر فهو قوته، فإن باعه في يومه
وإلا طوى ذلك اليوم. وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام هذا الليل
الطويل، ولا يختلط بأحد منهم مشغول بنفسه، وقد احبه قلبي، فقلت له:
انصرف إلى سفيان الثوري وإلى الفضيل بن عياض بغير قضاء حاجة؟ فقال: إن
ممشاك عندي كبير، خذه بنا شئت. قال: فاشتريته وأخذت نحو دار فضيل،
فمشيت ساعة، فقال لي: يا مولاي، قلت: لبيك، قال: لا تقل لي لبيك، فإن
العبد أولى أن يلبي المولى، قلت حاجتك يا حبيبي. قال: أنا ضعيف البدن،
لا أطيق الخدمة، وقد كان لك في غيري سعة، قد أخرج إليك من هو أجلد مني،
فقلت: لا يراني الله وأنا أستخدمك، ولكني أشتري لك منزلاً وأزوجك
وأخدمك أنا بنفسي، قال: فبكى، فقلت: ما يبكيك؟ قال: أنت لم تفعل في هذا
إلا وقد رأيت بعض متصلاتي بالله تعالى، وإلا فلم اخترتني من بين
الغلمان؟ فقلت له: ليس بك حاجة إلى هذا، فقال لي: سألتك بالله إلا
أخبرتني، فقلت: بإجابة دعوتك، فقال لي: إني أحسبك إن شاء الله رجلاً
صالحاً، إن لله عز وجل خيرة من خلقه لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من
عباده ولا يظهر عليهم إلا من ارتضى، ثم قال لي: ترى أن تقف علي قليلاً،
فإنه بقيت على ركعات من البارحة. قلت: هذا منزل فضيل قريب. قال: لا. ها
هنا أحب إلي أمر الله عز وجل لا يؤخر فدخل من باب الباعة إلى المسجد
فما زال يصلي حتى إذا أتى على ما أراد التفت إلي فقال: يا أبا عبد
الرحمن، هل من حاجة؟ قلت: ولم؟ قال: لأني أريد الانصراف، قلت: إلى أين؟
قال: إلى الآخرة. قلت: لا تفعل، دعني أسر بك. فقال لي: كانت تطيب
الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبينه تعالى فأما إذا اطلعت عليها أنت
فسيطلع عليها غيرك فلا حاجة لي في ذلك، ثم خر لوجهه، فجعل يقول: إلهي
إقبضني إليك السعة الساعة. فدنوت منه فإذا هو قد مات. فوالله ما ذكرته
قط إلا طال حزني وصغرت الدنيا في عيني.
ثم دخلت
سنة تسع وخمسين ومائة
فمن الحوادث فيها: غزوة العباس بن محمد الصائفة حتى بلغ أنقرة وانصرفوا
سالمين.
وفيها:
ولي حمزة بن مالك سجستان، وولي جبرئيل بن يحيى سمرقند. وعزل عبد الصمد
عن المدينة عن موجدة، واستعمل مكانه عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن
صفوان الجمحي. وفيها: بني المهدي مسجد الرصافة وبنى حائطها وحفر
خندقها. أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي
قال: أخبرنا الأزهري قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال: أخبرني
أبو العباس المنصوري قال: لما حصلت في يد المهدي الخزائن والأموال
ودخائر المنصور أخذ في رد المظالم، وأخرج ما في الزائن ففرقه وبر أهله
وأقرباءه ومواليه، وأخرج لأهل بيته أرزاقاً لكل واحد منهم في كل شهر
خمسمائة درهم، وأخرج لهم في الإقسام لكل واحد عشرة آلاف درهم.
وزاد
بعضهم: وأمر ببناء مسجد الرصافة وحاط حائطها، وخندق خندقها .أخبرنا
القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا الجوهري
قال: أخبرنا محمد بن عياش قال: حدثنا عبيد الله بن أحمد المروزي قال:
حدثني أبي قال: حكي لنا أن الربيع قال: مات المنصور وفي بيت المال شيء
لم يجمعه خليقة قط مائة ألف ألف درهم، وستون ألف ألف درهم، فلما صارت
الخلافة إلى المهدي قسم ذلك وأنفقه. قال: الربيع: ونظرنا في نفقة
المنصور فإذا هو ينفق في كل سنة ألفي درهم. قال: وفتح المنصور يوماً
خزائن مروان بن محمد فأحصى ما فيها اثني عشر ألف عدل خزفاً. فأخرج منها
ثوباً وقال: يا ربيع، اقطع من هذا الثوب جبتين، لي واحدة ولمحمد واحدة.
قلت: لا يجيء منه هذا. قال: فاقطع لي منه جبة وقلنسوة، وبخل بثوب آخر
يخرجه للمهدي. فلما أفضت الخلافة إلى المهدي أمر بتلك الخزانة بعينها
ففرقت على الموالي والغلمان والخدم. وفيها: وجه المهدي عبد الملك بن
شهاب المسمعي في البحر إلى بلاد الهند في خلق كثير فوصلوا إلى الهند في
سنة ستين. وفيها: أمر المهدي بإطلاق من كان في سجون المنصور إلا من كان
قبله دم أو كان معروفاً بالسعي في الأرض بالفساد، أو كان لأحد قبله
مظلمة.و كان ممن أطلق يعقوب ابن داود مولى بني سليم، وكان معه في الحبس
الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب،
فحوله المهدي إلى نصير الوصيف فحبس عنده. وكان سبب تحويله: أنه كان هو
ويعقوب في مكان واحد فأطلق يعقوب ولم يطلق الحسن، فساء ظنه وخاف على
نفسه، فالتمس مخرجاً لنفسه فدس إلى بعض ثقاته فحفر له سرباً في موضع
مسامتٍ للموضع الذي هو فيه محبوس، وكان يعقوب بعد أن أطلق يطيف بابن
علاثة وهو قاضي المهدي ويلزمه حتى أنس به، وبلغ يعقوب ما عزم عليه
الحسن من الهرب، فأتى ابن علاثة فأخبره أن عنده نصيحة للمهدي، فسأله
إيصاله إلى أبي عبيد الله، فدخل به إليه، فسأله إيصاله إلى المهدي
ليعلمه النصيحة، فأدخله عليه فساره بذلك، فأمر بتحويل الحسن إلى نصير،
فلم يزل حتى احتيل له فخرج، فطلب فلم يقدر عليه، فدعا المهدي يعقوب
فأخبره خبر الحسن فقال: لا علم لي بنكانه، ولكن إن أعطيتني له أماناً
يثق به ضمنت أن آتيك به. فأعطاه ذلك، فقال له : فاله عن ذكره يا أمير
المؤمنين، ودع طلبه، فإن ذلك يوحشه، ودعني وإياه حتى أحتال له، وقال
يعقوب: يا أمير المؤمنين قد بسطت عدلك، وعممت بخيرك، وقد بقيت أشياء لو
ذكرتها لم تدع النظر فيها بنثل ما فعلت في غيرها، وإن جعلت لي سبيلاً
إلى الدخول عليك، وأذنت لي في رفعها إليك فعلت فأعطاه المهدي ذلك، وكان
يدخل على المهدي ليلاً ويرفع إليه النصائح الحسنة من أمر الثغور، وبناء
الحصون، وفكاك الأسارى، والقضاء على الغارمين، والصدقة على المتعففين،
فحظي بذلك عنده واتخذ أخاً في الله تعالى، وأخرج بذلك توقيعاً أثبت في
الدواوين، ثم تغير عليه وأمر بحبسه. وفيها: عزل المهدي إسماعيل بن أبي
إسماعيل عن الكوفة وأحداثها، وولاها إسحاق بن الصباح الكندي، وقيل: بل
ولاها عيسى بن لقمان، وقيل: كان شريك على الصلاة والقضاء، وعيسى على
الأحداث. وعزل عن أحداث البصرة سعيد بن دعلج، وعزل عن الصلاة والقضاء
عبيد الله بن الحسين، وولى مكانها عبد الملك بن أيوب بن ظبيان، وكتب
إليه يأمره بإنصاف من تظلم من سعيد بن دعلج، ثم صرفت الأحداث في هذه
السنة عن عبد الملك بن أيوب إلى عمارة بن حمزة، فولاها عمارة رجلاً
يقال له: المسور بن عبد الله وأمر عبد الملك على الصلاة. وفيها: عزل
قثم بن العباس عن اليمامة عن سخط فوصل كتاب عزله إلى اليمامة وقد توفي،
فاستعمل مكانه بشر بن المنذر البجلي. وعزل يزيد بن منصور عن اليمن
فاستعمل مكانه رجاء بن روح، وعزل الهيثم بن سعيد عن الجزيرة واستعمل
عليها الفضل بن صالح، وعزل مطر مولى المنصور عن مصر واستعمل مكانه أبو
ضمرة بن سليمان. وفيها: أعتق المهدي الخيزران أم ولده وتزوجها. وفيها:
تزوج المهدي أيضاً أم عبيد الله بنت صالح بن علي. وفيها: وقع حريق في
ذي الحجة في السفن ببغداد، عند قصر عيسى بن علي، فاحترقت السفن ،
واحترق ناس كثير. وفيها: كانت حركة من تحرك من بني هاشم وشيعتهم من أهل
خراسان في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، وتصيير ذلك لموسى بن
المهدي،
فلما تبين ذلك المهدي كتب إلى عيسى وهو بالكوفة ليقدم عليه، فأحس عيسى
بذلك، فامتنع من القدوم، وكان المهدي قد سأل عيسى أن يخرج من الأمر،
فامتنع عليه، فأراد الإضرار به، فولى الكوفة روح بن حاتم، وكان المهدي
يحب أن يحمل روح على عيسى بعض الحمل، فلم يجد إلى ذلك سبيلاً، وكان
عيسى قد خرج إلى ضيعته بالرحبة فلا يدخل إلى الكوفة إلا في رمضان،
فيشهد الجمع والعيد، ثم يرجع إلى ضيعته، ثم إن المهدي ألح على عيسى
وقال له: إن لم تحبني إلى أن تنخلع منها حتى أبايع لموسى وهارون،
استحللت منك بنعصيتك ما يستحل من العاصي، وإن أجبتني عوضتك عنها ما هو
أجدى عليك إنعاماً. فأجابه فبايع لهما وخلع عيسى وأمر له بعشرة آلاف
ألف وقيل بعشرين ألف الف، وقطائع كثيرة. وفي هذه السنة: حج بالناس يزيد
بن المنصور خال المهدي عند قدومه من اليمن، وكان المهدي قد أمره
باانصراف إليه وولاه الموسم. وكان أمير المدينة في هذه السنة عبد الله
بن صفوان الجمحي، وكان على صلاة الكوفة وأحدثها إسحاق بن الصباح
الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك بن عبد الله، وعلى
صلاة البصرة عبد الملك بن أيوب، وعلى أحداثها عمارة بن حمزة وخليفته
على ذلك المسور بن عبد الله بن مسلم الباهلي، وعلى قضائها عبيد الله بن
الحسن وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس عمارة بن حمزة، وعلى السند
البسطام بن عمرو، وعلى اليمن رجاء اليمن رجاء بن روح، وعلى اليمامة بشر
بن المنذر، وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بن يزيد، على الجزيرة الفضل
بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم. وعلى مصر أبو ضمرة محمد بن
سليمان.مهدي، فلما تبين ذلك المهدي كتب إلى عيسى وهو بالكوفة ليقدم
عليه، فأحس عيسى بذلك، فامتنع من القدوم، وكان المهدي قد سأل عيسى أن
يخرج من الأمر، فامتنع عليه، فأراد الإضرار به، فولى الكوفة روح بن
حاتم، وكان المهدي يحب أن يحمل روح على عيسى بعض الحمل، فلم يجد إلى
ذلك سبيلاً، وكان عيسى قد خرج إلى ضيعته بالرحبة فلا يدخل إلى الكوفة
إلا في رمضان، فيشهد الجمع والعيد، ثم يرجع إلى ضيعته، ثم إن المهدي
ألح على عيسى وقال له: إن لم تحبني إلى أن تنخلع منها حتى أبايع لموسى
وهارون، استحللت منك بنعصيتك ما يستحل من العاصي، وإن أجبتني عوضتك
عنها ما هو أجدى عليك إنعاماً. فأجابه فبايع لهما وخلع عيسى وأمر له
بعشرة آلاف ألف وقيل بعشرين ألف الف، وقطائع كثيرة. وفي هذه السنة: حج
بالناس يزيد بن المنصور خال المهدي عند قدومه من اليمن، وكان المهدي قد
أمره باانصراف إليه وولاه الموسم. وكان أمير المدينة في هذه السنة عبد
الله بن صفوان الجمحي، وكان على صلاة الكوفة وأحدثها إسحاق بن الصباح
الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك بن عبد الله، وعلى
صلاة البصرة عبد الملك بن أيوب، وعلى أحداثها عمارة بن حمزة وخليفته
على ذلك المسور بن عبد الله بن مسلم الباهلي، وعلى قضائها عبيد الله بن
الحسن وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس عمارة بن حمزة، وعلى السند
البسطام بن عمرو، وعلى اليمن رجاء اليمن رجاء بن روح، وعلى اليمامة بشر
بن المنذر، وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بن يزيد، على الجزيرة الفضل
بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم. وعلى مصر أبو ضمرة محمد بن
سليمان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حميد بن قحطبة: عامل المهدي على خراسان. توفي في هذه السنة، فولى
المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد.
سلمى بن عبد الله بن سلمى، أبو بكر الهذلي البصري. حدث عن الحسن، وابن
سيرين، وعكرمة، والشعبي والزهري. روى عنه: أبو معاوية وابن المبارك،
وشبابة، وكان من العلماء بأخبار الناس وأيامهم. وقال السفاح: ما رأيت
أحداً أغزر علماً من أبي بكر الهذلي، لم يعد علي حديثاً قط، إلا أن
المحدثين ضعفوه وتركوا حديثه.
عبد العزيز بن أبي رواد مولى المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة. روى عن
جماعة من التابعين كعطاء، وعكرمة، ونافع، وكان من العباد، وذهب بصره
فلم يعلم به أهله عشرين سنة.
أخبرنا
عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني عبد
الله بن يحيى اليشكري قال: أخبرنا أبو بكر الشافعي قال: أخبرنا جعفر بن
محمد الأزهري قال: حدثنا ابن العلائي قال: حدثنا أبو سهل المدائني، عن
شعيب بن حرب قال: جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد خمسمائة مجلس فما
أحسب أن صاحب الشمال كتب شيئاً. أخبرنا محمد بن أبي القاسم قال: أخبرنا
حمد بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثنا محمد بن
حيان قال: حدثنا أبو أحمد بن روح قال: حدثنا عبد الله بن الحبيق قال:
سمعت يوسف بن أسباط يقول: مكث عبد العزيز بن أبي رواد أربعين سنة لم
يرفع طرفه إلى السماء، فبينا هو يطوف حول الكعبة إذ طعنه المنصور أبو
جعفر بإصبعه في خاصرته فالتفت إليه فقال: قد علمت أنها إصبع جبار، توفي
عبد العزيز في هذه السنة بنكة.
معبد بن الخليل. عامل المهدي. توفي بالسند وهو عامله عليها فاستعمل
مكانه روح بن حاتم.
محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، أبو الحارث
القرشي المدني. ولد سنة ثمانين، سمع عكرمة، والزهري وخلقاً كثيراً،
وكان فقيهاً ورعاً صالحاً ثقة، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أقدمه
المهدي بغداد، فحدث بها، ثم رجع يريد المدينة، فمات بالكوفة في هذه
السنة، وهو ابن تسع وسبعين سنة.
روى عنه: الثوري ووكيع، ويزيد بن هارون، وابن المبارك، وغيرهم. أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا البرقاني
قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن حيوية قال: أخبرنا الحسين بن إدريس
الأنصاري قال: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال: سمعت أحمد بن حنبل
يقول: كان ابن أبي ذئب يشبه سعيد بن المسيب. قيل لأحمد: خلف مثله
ببلاده؟ قال: لا، ولا بغيرها. وقال أبو داود سمعت أحمد يقول: كان ابن
أبي ذئب ثقة صدوقاً أفضل من مالك بن أنس، إلا أن مالك أشد تنقية للرجال
من أبي ذئب لا يبالي عمن يحدث.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الجوهري قال:
أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن
عيسى المكي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد قال: ابن أبي ذئب
للمنصور: يا أمير المؤمنين، قد هلك الناس، فلو أعنتهم بما في يديك من
الفيء؟ قال: ويلك لولا ما سددت من الثغور وبعثت من الجيوش لكنت تؤتى في
منزلك وتذبح. فقال ابن أبي ذئب: فقد سد الثغور وجيش الجيوش، وفتح
الفتوح وأعطى الناس أعطياتهم من هو خير منك. قال: ومن هو ويلك؟ قال:
عمر بن الخطاب، فنكس المنصور رأسه والسيف بيد المسيب والعمود بيد مالك
بن الهيثم ولم يعرض له والتفت إلى محمد بن إبراهيم الإمام، فقال: هذا
الشيخ خير أهل الحجاز.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثني عبيد الله بن
أحمد بن عثمان الصيرفي قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز قال: حدثنا
عبد الله بن محمد البغوي قال: حدثنا يحيى بن أيوب العابد قال: حدثني
أبو عمر
عبد الله
بن كثير قال: حدثني حسن بن زيد قال: كان قد ولي عبد الصمد على المدينة
فعاقب بعض القرشيين وحبسهم، قال: فكتب بعض قرابته إلى أبي جعفر، فكتب
أبو جعفر إلى المدينة، وأرسل رسولاً وقال: اذهب فانظر قوماً من العلماء
فأدخلهم عليه حتى يروا حاله ويكتبوا إلي بها، فأدخلوا عليه في حبسه
مالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وابن أبي سبرة وغيرهم من العلماء، فقالوا:
اكتبوا بنا ترون إلى أمير المؤمنين. قال: وكان عبد الصمد لما بلغه
الخبر حل عنه الوثاق وألبسه ثياباً، وكنس البيت الذي كان فيه ورشه، ثم
أدخلهم عليه. فقال لهم الرسول: اكتبوا بنا رأيتم، فأخذوا يكتبون شهد
فلان وفلان. فقال ابن أبي ذئب: لا تكتبوا شهادتي أنا أكتبها بيدي إذا
فرغت فارم إلي بالقرطاس قال: فكتبوا رأينا محبساً ليناً ورأينا هيئة
حسنة، وذكروا ما يشبه هذا من الكلام. قال: ثم دفع القرطاس إلى ابن أبي
ذئب، فلما نظر في الكتاب فرأى هذا الموضع نادى: يا مالك داهنت وفعلت
وفعلت وملت إلى الهوى، لكن اكتب: رأيت مجلساً ضيقاً وأمراً شديداً.
قال: وجعل يذكر شدة الحبس وضيقه. قال: وبعث الكتاب إلى أبي جعفر، فقدم
أبو جعفر حاجاً، فمر بالمدينة فدعاهم، فلما دخلوا عليه جعلوا يذكرون
وجعل ابن أبي ذئب يذكر شدة الحبس وضيقه، وشدة عبد الصمد، وما يكون منه.
قالوا: وجعل أبو جعفر يتغير وجهه، وينظر إلى عبد الصمد، قال الحسن بن
زيد: فلما رأيت ذلك أردت أن ألينه، فخشيت على عبد الصمد بن أبي جعفر أن
يعجل عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ويرضى هذا أحد قال ابن أبي ذئب:
أما والله إن يسألني عنك لأخبرته، فقال أبو جعفر: فإني أسألك، فقال: يا
أمير المؤمنين ولي علينا ففعل بنا وفعل. فأطنب في. فلما ملأني غيظاً
قلت:أفيرضي هذا أحد يا أمير المؤمنين؟ سله عن نفسك، فقال أبو جعفر:
فإني أسألك عن نفسي فقال: لا تسألني، فقال: أنشدك الله فكيف تراني؟
قال: اللهم ما أعلمك إلا ظالماً جائراً، قال: فقام إليه وفي يده عمود،
قال الحسن فجمعت إلي ثيابي مخافة أن يصيبني من دمه وقلت: الآن يضربه
بالعمود فجعل يقول له: يا مجوسي أتقول هذا لخليفة الله في أرضه؟ وجعل
يرددها عليه وابن أبي ذئب يقول: إنك تنشدني بالله يا عبد الله. قال:
ولم ينله بسوء قال : وتفرقوا على ذلك.
عن محمد بن خلاد قال: لما حج المهدي دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فلم يبق أحد إلا قام، إلا ابن أبي ذئب فقال له المسيب بن زهير: من
هذا أمير المؤمنين؟ فقال ابن أبي ذئب: إنما يقوم الناس لرب العالمين،
فقال المهدي: لقد قامت كل شعرة في رأسي.
ثم دخلت
سنة ستين ومائة
فمن
الحوادث فيها خروج يوسف بن إبراهيم من خراسان منكراً هو ومن معه على
رأيه على المهدي الحال التي هو بها وسيرته التي يسير بها، واجتمع معه
بشر كثير من الناس، فتوجه إلى يزيد بن مزيد فاقتتلا حتى صارا إلى
المعانقة، فأسره يزيد وبعث به إلى المهدي، وبعث معه من وجوه أصحابه
بعده فلما انتهى بهم إلى النهروان حمل يوسف على بعير قد حول وجهه إلى
ذنب البعير وأصحابه على بعير، فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال، فأدخلوا
على المهدي، فأمر هرثمة بن أعين بقطع يدي يوسف ورجليه، وضرب عنقه
وأعناق أصحابه وصلبهم على جسر دجلة الأعلى مما يلي عسكر المهدي، وإنما
أمر هرثمة بقتله لأنه كان قتل أخاً لهرثمة بخراسان. وفيها: خلع عيسى بن
موسى مما كان له من البيعة بعد المهدي وذلك أنه أحضر وجوه رؤساء الشيعة
وألح عليه المهدي، فرضي بالخلع والتسليم، فخلع يوم الأربعاء لأربع بقين
من المحرم بعد صلاة العصر وبايع للمهدي ولموسى من بعده يوم الخميس
لثلاث بقين من المحرم وقت ارتفاع النهار، ثم أذن المهدي لأهل بيته فأخذ
بيعتهم لنفسه ولموسى بن المهدي من بعده، ثم خرج إلى مسجد الجماعة
بالرصافة، فصعد المنبر وصعد موسى، فقام دونه، وقام عيسى على أول عتبة
من المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه أعني المهدي وصلى على النبي صلى الله
عليه وسلم، وأخبر بنا أجمع عليه أهل بيته وشيعته وقواده وأنصاره من خلع
عيسى وتصيير الأمر الذي كان عقد له في أعناق المسلمين لموسى ابن أمير
المؤمنين لاختيارهم له ورضاهم به وأن عيسى قد خلع نفسه، وحللهم مما كان
له من البيعة في أعناقهم، وأن ما كان له من ذلك فقد صار لموسى عامل
فيهم بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بأحسن السيرة،
وأعدلها، وقرأ على عيسى كتاب ذكر الخلع، فأمر بذلك وتتابع أهل بيت
المهدي و القواد يبايعون للمهدي ثم لموسى، ويمسحون على أيديهما، ثم نزل
المهدي ووكل ببيعته من بقي من الخاصة والعامة لخالد بن يزيد بن منصور،
وكتب على عيسى بخلعه كتاب ليكون حجة عليه، وفيه: أنه قد نزل عما كان
حقاً له لموسى بن المهدي وأنه إن لم يف بذلك فكل زوجة هي عنده من يوم
كتب هذا الكتاب أو يتزوجها طالق ثلاثاً البتة إلى ثلاثين سنة، وكل
مملوك له عنده اليوم أو يملكه إلى ثلاثين سنة أحراراً لوجه الله، وكل
مال له من نقد أو عرض أو أرض أو قليل أو كثير ويستفيد إلى ثلاثين سنة
صدقة على المساكين، وعليه من مدينة السلام المشي حافياً إلى بيت الله
العتيق نذراً واجباً ثلاثين سنة، وأشهد على نفسه بإقراره هذا مائة
وثلاثين رجلاً من بني هاشم والموالي والوزراء والقضاة، وكتب في صفر سنة
ستين وختم عليه عيسى بن موسى.
- وفي هذه السنة : وصل عبد الملك بن شهاب المسمعي في خلق كثير من
المطوعة وغيرهم إلى بلد الكفار فنصبوا عليها المجانيق وفتحوها عنوة،
وقتلوا أهلها واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون رجلاً، وهاج البحر فلم
يقدروا على ركوبه، وأقاموا إلى أن سكن فأصابهم في أفواههم داء فمات
منهم نحو من ألف رجل، فيهم الربيع بن صبيح، ثم انصرفوا وسبي منهم ابنة
الملك. وفيها : جعل أبان بن صدقة كاتباً للمهدي ووزيراً له . وفيها :
عزل أبو عون عن خراسان وولي مكانه معاذ بن مسلم. وفيها : غزا ثمامة بن
الوليد الصائفة، وغزا الغمر بن العباس الخثعمي بحر الشام. وفيها: رد
المهدي إلى أبي بكرة من نسبهم في ثقيف إلى ولاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم وألحقهم به، وأخرج آل زياد من قريش والعرب، وكان يقول ابن
سمية الزانية، ويقبح استلحاق معاوية زياداً.
وفيها: ولى المدينة أعني قضاءها عبد الله بن محمد بن عمران الطلحي.
وفيها: خرج عبد السلام بن هاشم اليشكري الخارجي، وسيأتي خبر مقتله.
وفيها: عزل بسطام بن عمرو عن السند واستعمل عليها روح بن حاتم.
وفيها: حج
المهدي بالناس واستخلف على مدينة السلام ابنه موسى، وترك معه يزيد بن
المنصور بأمر المهدي وزيراً له ومدبراً لأموره، وخرج مع المهدي ابنه
هارون وجماعة من أهل بيته، فكان ممن شخص معه، يعقوب بن داود على منزلته
التي كانت عنده فأتاه حين وافى مكة بالحسن بن إبراهيم بن عبد الله الذي
أستأمن له يعقوب فأحسن المهدي صلته وجائزته، وأقطعه مالاً من الصوافي
بالحجاز. وفي هذه السنة: نزع المهدي كسوة الكعبة التي كانت عليها،
وكساها كسوة جديدة، وذلك أن حجبة الكعبة رفعوا إليه أنهم يخافون على
الكعبة لكثرة ما عليها من الكسوة، فأمر أن يكشف عنها فكشف ما عليها حتى
بقيت مجردة، ثم طلي البيت كله بالخلوق، ولما بلغوا إلى كسوة هشام
وجدوها ديباجاً ثخيناً ووجدوا كسوة من كان قبله عامتها من متاع اليمن.
وقسم المهدي في هذه السنة في أهل مكة والمدينة مالاً كثيراً، فذكر أنه
قسم في تلك السفرة ثلاثين ألف ألف درهم حملت معه، ووصل إليه من مصر
ثلاثة ماية ألف دينار ومن اليمن مائتا ألف دينار قسم كل ذلك كله، وفرق
من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع في مسجد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأمر بنزع المقصورة التي في مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم فنزعت، وأراد أن ينقض منبر مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيعيده إلى ما كان عليه، ويلقي ما كان معاوية زاده فيه، فشاور في
ذلك، فقيل له: إن المسامير الذي أحدثه معاوية في الخشب الأول وهو عتيق
لا نأمن إن خرجت المسامير التي فيه وزعزعت أن ينكسر، فتركه على حاله،
وأمر المهدي أيام مقامه بالمدينة بإثبات خمسمائة رجل من الأنصار
ليكونوا معه حرساً له بالعراق وأنصاراً ، وأجرى عليهم أرزاقاً سوى
أعطياتهم، وأقطعهم عند قدومهم معه بندينة السلام قطيعة تعرف بهم، ودخل
عليه عثمان بن طلحة فاستعفاه من القضاء.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن ثابت قال:
أخبرنا عبد الصمد بن محمد بن نصر بن مكرم قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد
المعدل قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا أبو الفضل
الربعي قال: حدثني أبي قال: استقصى بعض أمراء المدينة عثمان بن طلحة بن
عمر بن عبيد الله بن معمر، فامتنع عليه، فأشرف عليه بضرب السياط، فلما
رأى ذلك قضى بين الناس حتى استوجب رزق عشرة أشهر، وقدم المهدي المدينة
حاجاً، فدخل عليه عثمان بن طلحة، فسأل أن يعزله عن القضاء، فقال: ليس
إلى ذلك سبيل، قال له عثمان: والله يا أمير المؤمنين لو علمت أن بلد
الروم تجيرني ولا تمنعني من الصلاة لاستجرت به، قال المهدي: وإنك على
ما قلت. قال: فإني والله لعلى ما قلت، قال: فإني قد عزلتك فاقبض ما لك
عندنا من الرزق. قال: والله ما في عنه غنى، ولكن كان لي نظر وأشباه ذلك
يكرهون من هذا العمل ما أكره، ثم أكرهوا عليه، فدخلوا فيه، فلما عزلوا
كرهوا العزل، فلم أجد معناهم في كراهتهم العزل إلا هذا الرزق، فلذلك
كرهت أخذه. وتزوج المهدي في أيام مقامه بالمدينة رقية بنت عمرو
العثمانية. وفيها: رد المهدي على أهل بيته وغيرهم قطائعهم التي كانت
مقبوضة عنهم.
وفيها: حمل محمد بن سليمان الثلج للمهدي، حتى وافى مكة، فكان المهدي
أول من حمل له الثلج من الخلفاء إلى مكة. وفيها: تزوج الهادي لبابة بنت
جعفر بن المنصور، وهي أخت زبيدة. وكان في هذه السنة على صلاة الكوفة
وأحداثها إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى قضائها شريك بن عبد الله
النخغي، وعلى صلاة البصرة وأحداثها وأعمالها، وعلى كور دجلة، والبحرين،
وعمان وكور الأهواز، وفارس محمد بن سليمان، وكان على قضاء البصرة عبيد
الله بن الحسن، وعلى خراسان معاذ بن سالم، وعلى الجزيرة الفضل بن صالح،
وعلى السند رواح بن حاتم. وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر سليمان
بن علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر العجلي ويقال: التميمي. أصله
من بلخ وكان من أولاد الملوك، وروى عن جماعة من التابعين كأبي إسحاق
السبيعي، وأبي حازم، وقتادة، ومالك بن دينار، وأبان، والأعمش، واشتغل
بالتزهد عن الرواية، وكان بالكوفة ثم بالشام.
أخبرنا
أبو سعيد أحمد بن محمد البغدادي قال: أخبرنا عبد الوهاب بن أبي عبد
الله بن منده قال: أخبرنا أبي قال: سمعت عبد الله بن محمد بن الحارث
قال: سمعت إسماعيل بن بشر البلخي قال: سمعت عبد الله بن محمد العابد
يقول: سمعت يونس بن سليمان البلخي يقول: كان إبراهيم بن أدهم من
الأشراف، وكان أبوه كثير المال والخدم، فخرج إبراهيم يوماً إلى الصيد
مع الغلمان والخدم والجنائب والبزاة فبينا إبراهيم في ذلك وهو على فرسه
يركضه، إذا هو بصوت من فوقه: يا إبراهيم، ما هذا العبث " أفحسبتم أنما
خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون " اتق الله، وعليك بالزاد ليوم
الفاقة، قال: فنزل عن دابته و رفض الدنيا وأخذ في عمل الآخرة. أخبرنا
محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم
الحافظ قال: حدثنا الغطريفي قال: حدثنا إسحاق بن ديمهر قال: حدثنا
إبراهيم بن سعيد قال: حدثنا بشر بن المنذر قال: كنت إذا رأيت إبراهيم
بن أدهم كأنه ليس فيه روح لو نفخته الريح لوقع، قد اسود متدرعاً
بعباءة.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بإسناده، عن شقيق بن إبراهيم يقول: قلت:
لإبراهيم بن أدهم: تركت خراسان، قال: ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد
الشام أفر بديني من شاهق إلى شاهق، ومن جبل إلى جبل، فمن يراني يقول:
موسوس، ومن يراني يقول: حمال. عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أحمد
بن داود يقول: مر يزيد بإبراهيم بن أدهم وهو ينظر كرماً، فقال: ناولني
من هذا العنب، فقال: ما أذن لي صاحبه، فقلت: السوط، وجعل يقنع رأسه
فطأطأ إبراهيم رأسه، وقال: اضرب رأساً طال ما عصى الله. قال: فأعجز
الرجل عنه. أخبرنا محمد قال: أخبرنا حمد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله
قال: حدثنا أبو الحسين بن محمد بن محمد الجرجاني قال: حدثنا الحسن بن
علي الطوسي قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي قال: حدثنا محبوب بن موسى
قال: أخبرني علي بن بكار قال: كنا جلوساً بالمصيصة وفينا إبراهيم بن
أدهم، فقدم رجل من خراسان فقال: أيكم إبراهيم بن أدهم فقال القوم: هذا.
قال: إن أخوتك بعثوني إليك، فلما سمع بذكر أخوته قام بيده فنحاه، فقال:
ما جاء بك؟ فقال: أنا مملوك معي فرس وبغلة وعشرة آلاف درهم، بعث بها
إليك إخوتك، قال: إن كنت صادقاً فأنت حر، وما معك لك، اذهب فلا تخبر
أحداً. فذهب.
عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا علي الجرجاني يحدث أبا سليمان
الداراني قال: صلى إبراهيم بن أدهم خمس عشرة صلاة بوضوء واحد. قال مؤلف
الكتاب رحمه الله: اقتصرت ها هنا على ما ذكرت من أخباره؛ لأني قد جمعت
أخباره في مجلد فكرهت الإعادة في التواليف. توفي إبراهيم بالجزيرة،
وحمل إلى صور فدفن هناك.
الحسن بن أبي جعفر، أبو سعيد الجفري واسم جعفر: عجلان. أسند عن أبي
الزبير، وثابت البناني، وغيرهما. أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا حمد بن
أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن
جعفر قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس قال: حدثنا سلمة بن شبيب
قال: حدثنا إبراهيم بن الجنيد قال: حدثنا القواريري قال: حدثني أبو
عمران التمار قال: غدوت يوماً قبل الفجر إلى مسجد الجفري، فإذا باب
المسجد مغلق، وإذا حسن جالس يدعو، وإذا ضجة في المسجد وجماعة يؤمنون
على دعائه فقام فأذن وفتح باب المسجد، فدخلت، فلم أر في المسجد أحداً،
فلما أصبح وتفرق عنه الناس، قلت له: يا أبا سعيد، إني والله رأيت
عجباً، قال: وما رأيت؟ فأخبرته بالذي رأيت وسمعت، قال: أولئك جن من أهل
نصيبين يجيئون فيشهدون معي ختم القرآن كل ليلة جمعة.
زمعة بن صالح المكي
روى عن
سلمة بن وهرام، وابن طاووس. وروى عنه: وكيع. أخبرنا عبد الوهاب بن
المبارك قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الجبار قال: أخبرنا محمد بن علي
بن الفتح قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الدقاق قال: أخبرنا أبو الحسين
بن صفوان قال: أخبرنا أبو بكر القرشي قال: حدثنا الفضل بن غسان، عن
مؤمل بن إسماعيل قال: حدثنا القاسم بن راشد الشيباني قال: كان زمعة
نازلاً عندنا وكان له أهل وبنات، وكان يقوم فيصلي ليلاً طويلاً، فإذا
كان السحر نادى بأعلى صوته. أيها الركب المعرسون، أكل هذا الليل
ترقدون، ألا تقومون، فترحلون، فيسمع من ها هنا باكٍ، ومن ها هنا داعٍ،
ومن ها هنا قارئ، ومن ها هنا متوضئ. فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته:
عند الصباح يحمد القوم السرى.
سليمان الخواص كان من المتعبدين الفطناء. أخبرنا أبو بكر العامري قال:
أخبرنا عبد الغفار بن محمد الشيروي قال: حدثنا ابن باكويه قال: حدثنا
محمد بن علي بن سعيد الأموي قال: حدثنا محمد بن سهل الكرماني قال:
حدثنا يوسف بن موسى المروزي قال: حدثنا محمد بن سلام قال: سمعت يزيد بن
سعيد يقول: دخل سعيد بن عبد العزيز على سليمان الخواص فقال له: أراك في
ظلمة، قال: ظلمة القبر أشد من هذا. قال: أراك وحدك. قال: إن للصاحب على
الصاحب حقاً فخفت أن لا أقوم بحق صاحبي، قال: فأخرج سعيد صرة فيها شيء،
فقال له: تنفق هذا، وأنا أحلها لك من بين يدي الله تعالى، إنه حلال.
قال: لا حاجة لي فيها، فقال له: رحمك الله ما ترى ما الناس فيه دعوة.
قال: فصرخ سليمان صرخة، ثم قال: ما لك يا سعيد فتنتني بالدنيا وتفتني
بالدين، مالي وللدعاء من أنا، فخرج سعيد، فأخبر بنا كان الأوزاعي، فقال
الأوزاعي: دعوا سليمان، لو كان سليمان من الصحابة كان مثلاً.
شعبة بن الحجاج بن الورد أبو بسطام العتكي مولاهم، واسطي الأصل بصري
الدار.
ولد بواسط سنة ثلاث ومائتين، ونشأ بها، وانتقل إلى البصرة، ورأى الحسن،
وابن سيرين، وسمع قتادة، ويونس بن عبيد، وأيوب السجستاني، وخالد
الحذاء، وعبد الملك بن عمير، وأبا إسحاق السبيعي، وطلحة بن المصرف،
ومنصور بن المعتمر، والأعمش وغيرهم. وقد روى عنه: أيوب، والأعمش، وابن
عيينة، وابن المهدي، وكان أكبر من سفيان الثوري بعشر سنين، وكان عالماً
حافظاً للحديث صدوقاً زاهداً متعبداً، عارفاً بالشعر. قال الأصمعي: لم
نر أحداً أعلم بالشعر من شعبة.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو القاسم عبد
الرحمن بن محمد السراج قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن القاسم الضبعي
قال: أخبرنا أبو عمرو الخفاف قال: حدثنا الدوري قال: حدثنا قرار أبو
نوح قال: رأى علي شعبة قميصاً فقال: بكم أخذت هذا؟ قال: بثمانية دراهم.
قال: ويحك، أما تتق الله تلبس قميصاً بثمانية دراهم؟ ألا اشتريت قميصاً
بأربعة دراهم، وتصدقت بأربعة. قال الضبعي: وحدثنا أبو عمرو أحمد بن
محمد الحيري قال: حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن معاوية وسليمان بن حرب
إلى جنبه يقول: خرج الليث ابن سعد يوماً فقوموا ثيابه ودابته وخاتمه
وما كان عليه ثمانية عشر ألف درهم إلى عشرين ألفاً، فقال سليمان بن
حرب: خرج شعبة يوماً فقوموا حماره وسرجه ولجامه بثمانية عشر درهماً إلى
عشرين درهماً. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال:
أخبرنا الأزهري قال: حدثنا محمد بن العباس قال: حدثنا أبو عبد الله بن
مغلس قال: حدثنا عمرو بن علي الفلاس قال: سمعت أبا بحر البكراوي يقول:
ما رأيت أعبد لله من شعبة، لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه ليس
بينهما لحم. قال مؤلف الكتاب: كان شعبة متشاغلاً بالعلم، لا يكسب شيئاً
من الدنيا، وكان له إخوة يقومون بأموره، فاشترى أحد أخوته طعاماً من
السلطان فخسر فيه، فقدم شعبة على المهدي في ذلك فعابه بالدخول عليهم
سفيان الثوري، فقال شعبة: هو لم يحبس أخوه. أخبرنا أبو منصور القزاز
قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا محمد بن علي بن مخلد قال:
أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران قال: أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال:
حدثنا المبرد قال: حدثنا العباس بن الفرج الرياشي قال: حدثنا أبو عاصم
قال: اشترى أخ لشعبة من طعام السلطان فخسر هو وشركاؤه، فحبس على ستة
آلاف دينار تخصه، فخرج شعبة إلى المهدي ليكلمه فيه فلما دخل عليه قال
له: يا أمير المؤمنين أنشدني قتادة وسماك بن حرب لأمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الكريم ولا مساء
فأرضك أرض مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لهم سماء
فقال: لا يا أبا بسطام، لا تذكرها، قد عرفناها وقضيناها لك، ادفعوا
إليه أخاه، ولا تلزموه شيئاً.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ
قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله المعدل قال: حدثنا محمد بن إسحاق
السراج قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: وهب المهدي لشعبة ثلاثين ألف درهم
فقسمها، وأقطعه ألف جريب بالبصرة، فقدم البصرة فلم يجد شيئاً يطيب له
فتركها ولم يرجع.
توفي شعبة بالبصرة في هذه السنة وهو ابن سبع وسبعين سنة.
عبد الله بن صفوان الجمحي والي المدينة. توفي فولي مكانه زفر بن عاصم.
عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الهذلي المسعودي.
سمع القاسم بن عبد الرحمن، وسلمة بن كهيل وعاصم بن بهدلة وغيرهم. روى
عنه: الثوري، وشعبة، وابن عتبة، ووكيع ويزيد بن هارون وغيرهم. قال
الأثرم: سئل أبو عبد الله أحمد بن حنبل عن أبي عمير وعبد الرحمن
المسعودي: أيهما أحب إليك؟ قال: كلاهما ثقة؛ المسعودي عبد الرحمن
أكثرهما حديثاً، قيل: له إخوة؟ قال: نعم. قيل له: هما من ولد عبد الله
بن مسعود أو من ولد عتبة؟ فقال: هما من ولد عبيد الله بن عتبة بن
مسعود، وابن عتبة بن عبد الله بن مسعود، فقال: ابن عتبة بن عبد الله بن
مسعود. قال: وقال رجل للمسعودي: إنك من ولد عتبة بن مسعود فغضب، وقال:
أنا من ولد عبد الله بن مسعود. وقد اتفقوا على أن عبد الرحمن ثقة،
وإنما ذكروا أنه اختلط فيه آخر عمره.
توفي سنة ستين، وقيل: سنة خمس وستين، والأول أصح.
ثم دخلت
سنة إحدى وستين ومائة
فمن
الحوادث فيها خروج حكيم المقنع بخراسان من قرية من قرى مرو، وكان فيما
ذكر يقول بتناسخ الأرواح، فاستغوى بشراً كثيراً، وسار إلى ما وراء
النهر، فوجه المهدي لقتاله عدة من قواده، فيهم معاذ بن سالم وهو يومئذ
على خراسان، ومعه عقبة بن سالم، وجبرئيل بن يحيى، وليث مولى المهدي، ثم
أفرد المهدي، لمحاربته سعيد الحرشي، وضم إليه هؤلاء القواد، فابتدأ
المقنع يجمع الطعام في قلعة بكش عدة للحصار. وفيها: ظفر بشر بن محمد بن
الأشعث الخزاعي بعبد الله بن مروان بالشام، فقدم به على المهدي ولم
يعرض له. وفيها: غزا الصائفة ثمامة بن الوليد، وخرج إلى الروم، وأصيب
من المسلمين عدة. وفيها: أمر المهدي ببناء القصور بطريق مكة أوسع من
القصور التي كان أبو العباس بناها من القادسية إلى زبالة، وأمر
بالزيادة في قصور أبي العباس، وترك منازل أبي جعفر التي كان بناها على
حالها، وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل، وبتجديد الأميال والبرد، وحفر
الركايا مع المصانع، وولى ذلك يقطين بن موسى، فلم يزل ذلك إليه إلى سنة
إحدى وسبعين ومائة، وكان خليفة يقطين في ذلك أخوه أبو موسى. وفيها: أمر
المهدي بالزيادة في المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد الجامع بالبصرة،
فزيد في مقدمته مما يلي القبلة، وعن يمينه مما يلي رحبة بني سليم، وولى
ذلك محمد بن سليمان، وهو يومئذ والي البصرة. وفيها: أمر المهدي بنزع
المقاصير، وتقصير المنابر وتصييرها إلى المقدار الذي مر عليه منبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم اليوم ، وكتب بذلك إلى الآفاق فعمل به. وفيها:
أمر المهدي يعقوب بن داود بتوجيه الأمناء في جميع الآفاق، ففعل وكان لا
ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل فيجوز حتى يكتب يعقوب إلى ثقة وأمينه بإنفاذ
ذلك. وفيها: اتضعت منزلة أبي عبيد الله وزير المهدي، وسبب ذلك أن
الموالي كانوا يشنعون عليه عند المهدي ويحرضونه عليه، ولما رأى أبو
عبيد الله غلبة الموالي على المهدي، وخلوتهم به، ضم إلى المهدي رجالاً
من قبائل شتى من أهل الأدب والعلم وكانوا في صحابته، ولم يكونوا ليدعوا
الموالي يخلون به، ولما تولى الربيع أمر البيعة للمهدي وقدم على أبي
عبيدة، فلم يتحرك له ولم يكرمه ولم يسأله كيف كان أمر البيعة، فابتدأ
الربيع يحدثه، فقال: قد بلغنا نبأكم، فخرج الربيع مجتهداً في أذى أبي
عبيد الله، فاتهم ابنه محمد ببعض حرم المهدي، حتى استحكمت الظنة عند
المهدي بن حمد بن أبي عبيد الله، فأمر فأحضر، فقال: يا محمد، اقرأ؛
فاستعجمت عليه القراءة، فقال: يا معاوية، ألم تعلمني أن ابنك جامع
للقرآن، فقال: بلى، ولكن فارقني منذ سنين فنسي، فقال: قم فتقرب إلى
الله تعالى بدمه. فذهب يقوم فوقع، فقال العباس بن محمد: إن رأيت يا
أمير المؤمنين أن تعفي الشيخ، ففعل وأمر به فضربت عنقه، ثم اتهم المهدي
أبا عبيد الله في نفسه فقال له الربيع، قتلت ابنه وليس ينبغي أن يوثق
به فأوحش المهدي منه واشتفى الربيع. وروى القاسم بن الربيع قال: دخل
الربيع على المهدي وأبو عبيد الله يعرض عليه كتباً، فقال أبو عبيد
الله: مر هذا أن يتنحى يعني الربيع فقال له: تنح، قال: لا افعل قال:
كأنك تراني بالعين الأولى، قال: لا بل أراك بالعين التي أنت بها، قال:
فلم لا تتنحى إذ أمرتك، قال: أنت ركن الإسلام، وقد قتلت ابن هذا، فلا
آمن أن يكون معه حديدة يغتالك بها، فقام المهدي مذعوراً وأمر بتفتيشه
فوجد بين جوربه وخفه سكيناً، فردت الأمور كلها إلى الربيع، وعزل أبو
عبيد الله، وولي يعقوب بن داود مكانه، وكان بلغ المهدي من قبل الربيع
أن ابن أبي عبيد الله زنديق، فأتي به، فأقر بذلك، فاستتيب فلم يتب،
فقتله وصلبه على باب أبي عبيد الله. أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد
الباقي، عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه قال: حدثني أبو
الحسين علي بن هشام قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد الكاتب المعروف
بابن أبي عمر قال: حدثنا محمد بن محمد العتابي قال: حدثنا خالي أبو
محمد قال: سمعت إبراهيم بن العباسي الصوفي يقول: حدثت عن المأمون، عن
الرشيد أنه سمع المهدي يقول: بعد زوال أبي عبيد الله عن الوزارة،
وتفويض الأمر إلى يعقوب بن داود، ما رأيت أحزم ولا أفهم ولا أعف ولا
أكفأ من أبي عبيد الله، ولقد كنت أحبه وأجريه مجرى الوالد، ومنذ خدمني
اجتهدت أن يدعوني إلى
داره
فيمتنع ويزعم أنه لا تتسع همته ولا نعمته لذلك فاعتل، فكتب إلي
باستعلاله، وأنه على الركوب إلي عازم بعد يوم أو يومين، فسابقته فركبت
إليه وقلت: قد كنت أجتهد بك أن تدعوني فتأبى، وقد جئتك جامعاً للعيادة
والتهئنة بالعافية والدعوة، فقال: والله يا أمير المؤمنين: مالي طعام
ولا غلمان ولا زبي يصلح لدعوتك، فقلت: قد فرغت لك من ذلك وتقدمت إلى
غلماني بحمل الآلات والطعام، وإنما أردت تشريفك والأنس بك، وجاء
الغلمان بالآلات وجلسنا فأكلنا وجعل يتحفني بالفاخر من الفرش والآنية
والآلات التي في بيته هدية لي، فأخذت أحسنها فازداد ابتهاجاً، فلما
الانصراف قال لي: أريد أن أبكي وأنا أتطير أن أبكي بعد انصراف أمير
المؤمنين، وأنا أستأذن في البكاء بحضرته، وانحدرت دموعه، بعد عقيب
الكلام، وبكى بكاء شديداً، فقلت: يا هذا، أنا أعلم فيك سخاء نسميه حسن
تدبير، فإن كان بك ما أهديته فهو مرده عليك. فحلف بأيمان عظيمة أنه ما
بكى لذلك، وقال: كيف أبكي على ما أسر به، حيث جعلتني أهلاً لقبوله،
قلت: فلم؟ قال: لم يبق مرتبة تنال إلا وقد نلتها وبلغتها بفضل أمير
المؤمنين حتى انتهت بي الحال إلى أن يعودني أمير المؤمنين أو يهنئني
بحال تورده أو يصير إلى دعوتي، فلما كان اليوم جمع لي أمير المؤمنين
ذلك، فعلمت أني قد بلغت النهاية وأنه ليس بعدها إلا الانحطاط، فبكيت
لذلك فرققت له، وعلمت فضله، وقلت له: أما في أيامي فأنت آمن من ذاك،
واعتقدت أن لا أنكبه، فلما رأى الربيع منزلته حسده، فجد في السعاية إلي
به، والفساد بيننا، والحيلة عليه، إلى أن في أمر جرى ابنه وإقراره
بالزندقة ما لم يسع معه إلا أن يقتل فقتله، وخفت أن يكون قد استوحش
لذلك، فلم آمنه على نفسي، فاحتجت إلى صرفه فصرفته وكان الأمر على ظنه
من النقصان بعد التناهي.ه فيمتنع ويزعم أنه لا تتسع همته ولا نعمته
لذلك فاعتل، فكتب إلي باستعلاله، وأنه على الركوب إلي عازم بعد يوم أو
يومين، فسابقته فركبت إليه وقلت: قد كنت أجتهد بك أن تدعوني فتأبى، وقد
جئتك جامعاً للعيادة والتهئنة بالعافية والدعوة، فقال: والله يا أمير
المؤمنين: مالي طعام ولا غلمان ولا زبي يصلح لدعوتك، فقلت: قد فرغت لك
من ذلك وتقدمت إلى غلماني بحمل الآلات والطعام، وإنما أردت تشريفك
والأنس بك، وجاء الغلمان بالآلات وجلسنا فأكلنا وجعل يتحفني بالفاخر من
الفرش والآنية والآلات التي في بيته هدية لي، فأخذت أحسنها فازداد
ابتهاجاً، فلما الانصراف قال لي: أريد أن أبكي وأنا أتطير أن أبكي بعد
انصراف أمير المؤمنين، وأنا أستأذن في البكاء بحضرته، وانحدرت دموعه،
بعد عقيب الكلام، وبكى بكاء شديداً، فقلت: يا هذا، أنا أعلم فيك سخاء
نسميه حسن تدبير، فإن كان بك ما أهديته فهو مرده عليك. فحلف بأيمان
عظيمة أنه ما بكى لذلك، وقال: كيف أبكي على ما أسر به، حيث جعلتني
أهلاً لقبوله، قلت: فلم؟ قال: لم يبق مرتبة تنال إلا وقد نلتها وبلغتها
بفضل أمير المؤمنين حتى انتهت بي الحال إلى أن يعودني أمير المؤمنين أو
يهنئني بحال تورده أو يصير إلى دعوتي، فلما كان اليوم جمع لي أمير
المؤمنين ذلك، فعلمت أني قد بلغت النهاية وأنه ليس بعدها إلا الانحطاط،
فبكيت لذلك فرققت له، وعلمت فضله، وقلت له: أما في أيامي فأنت آمن من
ذاك، واعتقدت أن لا أنكبه، فلما رأى الربيع منزلته حسده، فجد في
السعاية إلي به، والفساد بيننا، والحيلة عليه، إلى أن في أمر جرى ابنه
وإقراره بالزندقة ما لم يسع معه إلا أن يقتل فقتله، وخفت أن يكون قد
استوحش لذلك، فلم آمنه على نفسي، فاحتجت إلى صرفه فصرفته وكان الأمر
على ظنه من النقصان بعد التناهي.
وفيها: غزا الغمر بن العباس الخثعمي في البحر.
وفيها:
ولي نصر بن محمد الأشعث السند مكان روح بن حاتم، وشخص إليها، ثم عزل
وولي مكانه محمد بن سليمان، فوجه إليها عبد الملك بن شهاب المسمعي،
وأبا نصر بن محمد على السند، فرجع إلى عمله، وإنما أقام بها عبد الملك
ثمانية عشر يوماً ورجع إلى البصرة. وفيها استقصى المهدي عافية بن يزيد
الأزدي، فكان هو وابن غلاثة يقضيان في عسكر المهدي بالرصافة، وكان
القاضي بالمدينة الشرقية عمر بن حبيب العدوي. وفيها: عزل الفضل بن صالح
عن الجزيرة واستعمل عليها عبد الصمد بن علي، وولي يزيد بن منصور سواد
الكوفة، وحسان الشروري الموصل، وبسطام بن عمر أذربيجان. وفيها: صرف
أبان بن صدقة عن هارون بن المهدي إلى موسى بن المهدي، وجعل كاتباً له
ووزيراً، وجعل مكانه يحيى بن خالد بن برمك. وفيها: عزل محمد بن سليمان
عن مصر في ذي الحجة، ووليها سلمة بن رجاء. وفيها: حج بالناس موسى بن
المهدي وهو في عهد أبيه، وكان عامل مكة والطائف والمدينة جعفر بن
سليمان، وعامل اليمن علي بن سليمان، وكان على صلاة الكوفة وأحداثها
إسحاق بن الصباح الكندي. وعلى سوادها يزيد بن منصور.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
زند بن الجون، أبو دلامة الشاعر. قال المؤلف: ومن قال: زيد فقد صحف،
وكان كوفياً أسود، مولى لبني أسد، وكان أبوه عبداً لرجل منهم يقال له:
قصاقص فأعتقه، أدرك آخر بني أمية، أعني أبو دلامة، لكن لم يكن له نباهة
في أيامهم ونبغ في أيام بني العباس، فانقطع إلى السفاح والمنصور
والمهدي، وكانوا يقدمونه ويفضلونه ويستطيبون نوادره، ومدح المنصور،
وذكر قتل أبا مسلم فقال فيها:
أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى ... عليك بنا خوفتني الأسد الورد
أبا مسلم ما غير الله نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد
وأنشدها
المنصور في محفل من الناس فقال: له عشرة آلاف درهم، فأمر له بها، فلما
خلا به قال له: أما والله لو تعديتها لقتلتك. وقد قيل إ،المهدي بقي إلى
خلافةٍ الرشيد ولا يثبت. وكان مطبوعاً كثير النوادر. أخبرنا عبد الرحمن
بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال:
أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن زياد قال: سمعت ثعلباً يقول: لما ماتت
حمادة بنت عيسى امرأة المنصور، وقف المنصور والناس معه على حفرتها
ينتظرون مجيء الجنازة وأبو دلامة، فأقبل عليه المنصور فقال: يا أبا
دلامة ما أعددت لهذا المصرع؟ قال: حمادة بنت عيسى يا أمير المؤمنين،
فأضحك القوم. أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا
أحمد بن محمد العتيقي قال: حدثنا محمد بن العباس قال: حدثنا ابن دريد
قال: حدثنا ابن أخي الأصمعي قال: سمعت الأصمعي يقول: أمر المنصور أبا
دلامة بالخروج نحو عبد الله بن علي فقال له أبو دلامة: نشدتك الله يا
أمير المؤمنين أن تحضرني شيئاً من عساكرك، فإني شهدت تسعة عساكر انهزمت
كلها، وأخاف أن يكون عسكرك العاشر. فضحك منه وأعفاه. أخبرنا عبد الرحمن
قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا محمد بن علي بن مخلد قال:
أخبرنا محمد بن محمد بن عمران قال: حدثنا تمام بن المنتصر قال: حدثنا
أبو العيناء قال: أخبرني العتابي قال: دخل أبو دلامة على المهدي فطلب
كلباً فأعطاه، ثم قائده فأعطاه، ثم دابة، ثم جارية تطبخ الصيد، فأعطاه
قال: من يعولها، أقطعني ضيعة أعيش فيها وعيالي. قال: قد أقطعك أمير
المؤمنين مائة جريب من العامر، ومائة من الغامر قال: وما الغامر؟ قال:
الخراب الذي لا ينبت، قال أبو دلامة: قد اقطعت أمير المؤمنين خمسمائة
جريب من الغامر أرض بني أسد، قال: فهل بقيت لك من حاجة، قال: نعم قال:
تأذن لي أن أقبل يدك، قال: ما إلى ذلك سبيل قال: والله ما رددتني عن
حاجة أهون علي فقداً منها. أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين الحاجي
وحدثنا عنه محمد بن ناصر قال: أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن أحمد بن
سليمان الواسطي قال: أخبرنا أبو أحمد عبيد الله بن محمد الفرضي قال:
أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الواحد النحوي قال: حدثنا ثعلب، عن محمد
بن سلام قال: لقي روح بن حاتم بعض الحروب فقال لأبي دلامة وقد دعاه رجل
منهم إلى البراز تقدم إليه، قال: لست بصاحب قتال، قال: لتفعلن، قال:
إني جائع فأطعمني، فدفع إليه خبزاً ولحماً، وتقدم فهم به الرجل فقال له
أبو دلامة: اصبر يا هذا أي محارب تراني؟ ثم قال: أتعرفني؟ قال: لا،
قال: فهل أعرفك؟ قال: لا، قال: فما في الدنيا أحمق منا ودعاه للغداء
فتغديا جمعياً وافترقا، فسأل روح عما فعل، فحدث فضحك، ودعا به، وسأله
عن القصة فقال:
إني أعوذ بروح أن تقدمني ... إلى القتال فيخزي بي بني أسد
إن المهلب حب الموت ورثكم ... ولا ورثت لحب الموت من أحد
سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله الثوري.
من أهل
الكوفة، ولد في خلافة سليمان بن عبد الملك وسمع خلقاً كثيراً وكان من
كبار أئمة المسلمين، لا يختلف في إمامته وأمانته وحفظه وعلمه وزهده.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال: حدثنا عثمان بن أحمد قال: حدثنا سهل
بن علي الدوري قال: حدثني الحسين بن علي بن يزيد الصدائي قال: حدثنا
البراء بن رستم قال: سمعت يونس بن عبيد يقول: ما رأيت أفضل من سفيان
الثوري، فقال له: يا أبا عبد الله رأيت سعيد بن جبير، وإبراهيم، وعطاء،
ومجاهداً وتقول هذا؟ قال: هو ما أقول، ما رأيت أفضل من سفيان الثوري.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسين
بن عمر بن برهان قال: حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى
قال: حدثنا عمرو بن علي قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما عاشرت
في الناس رجلاً أرق من سفيان الثوري، وكنت أرمقه في الليلة بعد الليلة
ينهض مرعوباً ينادي: النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو عبد الله
محمد بن عبد الواحد قال: أخبرنا الوليد بن بكر الأندلسي قال: حدثنا علي
بن أحمد بن زكريا الهاشمي قال: حدثنا صالح بن أحمد العجلي قال: حدثني
أبي قال: دخل سفيان الثوري على المهدي فقال السلام عليكم، كيف أنتم. ثم
جلس فقال: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأنفق في حجته ستة عشر
ديناراً، وأنت حججت، فأنفقت في حجتك بيوت الأموال قال: فأي شيء تريد،
أكون مثلك؟ قال: فوق ما أنا فيه ودون ما أنت فيه. فقال وزيره أبو عبيد
الله: يا أبا عبد الله، قد كانت كتبك تأتينا فننفذها. قال: من هذا؟
قال: أبو عبيد الله وزيري. قال: احذره، فإنه كذاب، أنا كتبت إليك. ثم
قام فقال له المهدي: إلى أين يا أبا عبد الله؟ قال: أعود، وكان قد ترك
نعله حين قام، فعاد فأخذها ثم مضى، فانتظره المهدي فلم يعد، قال: وعدنا
أن يعود فلم يعد، قيل: إنه عاد لأخذ نعله فغضب. وقال: قد آمن الناس إلا
سفيان الثوري، ويونس بن فروة الزنديق، فإنه ليطلب وإنه لفي المسجد
الحرام، فذهب فألقى نفسه بين النساء فجللنه، قيل له: لم فعلت؟ قال:
إنهن أرحم ثم خرج إلى البصرة، فلم يزل بها حتى مات. فلما احتضر قال: ما
أشد الغربة انظروا إلي هاهنا أحداً من أهل بلادي؟ فنظروا فإذا أفضل
رجلين من أهل الكوفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر، والحسن بن عياش
أخو أبي بكر، فأوصى إلى الحسن في تركته، وأوصى إلى عبد الرحمن بالصلاة
عليه. توفي بالبصرة في هذه السنة. قال مؤلف الكتاب وقد أوردت أخبار
سفيان الثوري في كتاب كبير، فلهذا اقتصرت هاهنا على هذا المقدار.
المؤمل بن أميل المحاربي الشاعر. مدح المهدي وله أشعار. أخبرنا أبو
منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: قرأت على الجوهري، عن
أبي عبد الله المرزباني قال: أخبرني محمد بن العباس قال: ذكر المؤمل
بين يدي المبرد، فقال: كانوا يقولون المؤمل البارد. فقال أبو العباس في
شعره ذلك ولكنه شاعر، قال: أنشدني له عبد الصمد بن المعدل:
لا تغضبن علي قوم تحبهم ... فليس ينجيك من أحبابك الغضب
ولا تخاصمهم يوماً وإن ظلموا ... إن القضاة إذا ما خوصموا غلبوا
يا جائرين علينا في حكومتكم ... والجور أعظم ما يؤتى ويرتكب
لسنا إلى غيركم منكم نفر إذا ... جرتم ولكن إليكم منكم الهرب
قال المرزباني: وأخبرني الصولي قال: يقال إن المؤمل لما قال:
شفى المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له بصر
عمي فرأى في منامه إنساناً يقول له: هذا ما تمنيت في شعرك.
نصر بن مالك صاحب الشركة. توفي من فالج أصابه، ودفن في مقابر بني هاشم،
وصلى عليه المهدي، وولي الشرطة بعده حمزة بن مالك.
ثم دخلت
سنة اثنتين وستين ومائة
فمن الحوادث فيها: مقتل عبد السلام الخارجي بقنسرين، وكان قد خرج
بالجزيرة وكثر بها اتباعه، واشتدت شوكته، فلقيه من قواد المهدي عدة
فهزمهم، إلى أن بعث المهدي إليه جنوداً كثيرة، فهرب منهم إلي قنسرين
فلحقوه فقتلوه بها.
وفيها:
وضع المهدي دواوين الأزمة، وولى عليها عمر بن بزيع مولاه، فولى عمر ابن
بزيغ النعمان بن عثمان زمام خراج العراق. وفيها: أمر المهدي أن يجري
على المجرمين وأهل السجون في جميع الآفاق. وفيها: خرجت الروم إلى الحدث
فهدموا سورها. وفيها: غزا الحسن بن قحطبة الصائفة في ثمانين ألف مرتزق
سوى المطوعة، فأكثر التخريب والتحريق في بلاد الروم من غير أن يلقى
جمعاً أو يفتح حصناً، ثم قفل بالناس سالمين، وكان على قضاء عسكره وما
تجمع من الفيء جعفر بن عمر بن عامر السلمي. وفيها: غزا يزيد بن أبي
أسيد السلمي باب قاليقلا فغنم، وافتتح ثلاثة حصون وأصابوا شيئاً كثيراً
وأسرى. وفيها: عزل علي بن سليمان عن اليمن، وولي مكانه عبد الله بن
سليمان، وعزل سلمة بن رجاء عن مصر ووليها عيسى بن لقمان في المحرم، ثم
عزل في جمادى الآخرة ووليها واضح مولى المهدي، ثم عزل في ذي القعدة
ووليها يحيى الحرشي. وفيها: ظهرت المحمرة بحرجان، وعليهم رجل يقال له:
عبد القهار، فغلب على جرجان وقتل خلقاً كثيراً، فغزاه عمر بن العلاء من
طبرستان، فقتل عبد القهار وأصحابه. وفيها: حبس المهدي موسى بن جعفر:
فرأى في المنام علي بن أبي طالب وهو يقول له: " فهل عسيتم إن توليتم أن
تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " فأرسل إليه فأطلقه. وفيها: حج
بالناس إبراهيم بن جعفر بن المنصور، وكان العباس بن محمد استأذن المهدي
في الحج بعد ذلك، فعاتبه أن لا يكون استأذنه قبل أن يولي الموسم أحداً
فيوليه إياه، فقال: يا أمير المؤمنين، عمداً أخرت ذلك لأني لم أرد
الولاية. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها،
غير أن الجزيرة كانت في هذه السنة إلى عبد الصمد بن علي وطبرستان
والرويان إلى سعيد بن دعلج وجرجان إلى المهلهل بن صفوان. ومصر في آخر
السنة إلى يحيى الحرشي كما تقدم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن أدهم العجلي كوفي. ليس بالزاهد المشهور، قدم مصر زائر
لرشدين ين بن سعد حفظ عنه. توفي في هذه السنة، وقيل سنة ثلاث.
إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي واسم أبي إسحاق: عمر بن عبد الله
الهمذاني وسبيع الذي نسب إليه هو صعب بن معاوية بن كثير بن مالك،
وإسرائيل: يكنى أبا يوسف، وهو كوفي. سمع جده أبا إسحاق، وسماك بن حرب،
ومنصور بن المعتمر، والأعمش. روى عنه: وكيع، وابن مهدي وأبو نعيم. قال:
يحيى ثقة، وقال علي: هو ضعيف. توفي في هذه السنة. وقيل: سنة إحدى
وستين. وقيل سنة ستين.
سفيان بن حسين بن حسن مولى بني سليم. وقيل: مولى عبد الرحمن بن سمرة،
ويكنى أبا محمد، ويقال: أبا الحسن.
حدث عن الحسن البصري، وابن سيرين، والزهري، وكان ثقة. روى عن شعبة،
وهشيم، ويزيد بن هارون، وكان من أهل واسط، فقدم إلى بغداد فضمه المنصور
إلى المهدي، فعلمه وخرج معه إلى الري. وتوفي بالري في خلافة المهدي.
عباد بن عباد أبو عتبة الخواص. قال المؤلف: كذلك ذكره البخاري وغيره،
وقد اشتهر بأبي عبيدة الخواص، كان من أهل الوجد والشوق، وأسند الحديث
عن الأوزاعي وغيره. أخبرنا أبو بكر العامري قال: حدثنا علي بن أبي صادق
قال: أخبرنا ابن باكويه قال: حدثنا أحمد بن محمد قال: حدثنا أبو زكريا
قال: حدثنا محمد بن ماهان الجويني قال: حدثنا محمد بن يحيى الأزدي قال:
حدثنا عبد الأعلى بن سليمان قال: رأيت ابا عبيدة الخواص على سرته خرقة،
وعلى رقبته خرقة، وهو يمشي ويقول: واشوقاه إلى من يراني ولا أراه.
أخبرنا سليمان بن مسعود قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا
أبو طالب محمد بن علي البيضاوي قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا عمر
بن سعد قال: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا عبيد الله بن محمد قال:
حدثنا عقبة بن فضالة قال: سمعت أبا عبيدة الخواص بعدما كبر وهو آخذ
بلحيته يبكي ويقول: قد كبرت فأعتقني.
عيسى بن أبي عيسى
واسمه:
ماهان، وكنيته: أبو جعفر التميمي. أصله من مرو، وسكن الري، ومات بها
فنسب إليها، سمع عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وقتادة، ومنصور بن
المعتمر، وغيرهم. حدث عنه شعبة، وجرير، ووكيع، وكان ثقة صدوقاً. لكن
كان سيئ الحفظ، يهم كثيراً، وكان صديق سفيان فابتلي بأن صحبهم ولبس
السواد، وزامل المهدي إلى مكة فهجره سفيان. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد
قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا البرقاني قال: أخبرنا
محمد بن العباس قال: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد الصندلي قال: حدثنا
أبو حفص عمر بن ياسر العطار، عن بشر بن الحارث قال: كان أبو جعفر
الرازي صديقاً لسفيان الثوري، وكانت له نعه بضاعة، وكان يكثر الحج،
فكان إذا قدم الكوفة تلقاه سفيان من القنطرة، فإذا خرج إلى مكة شيعه
إلى النجف، فقدم سنة من السنين مدينة السلام، فاجتمع إليه الأضراء،
فقالوا: يا أبا جعفر، تكلم لنا أمير المؤمنين فإنه قد ولى علينا رجلاً
يقطع أرزاقنا، ويشيء فيما بيننا وبينه، فلم يجبهم إلى شيء فبلغ ذلك
سفيان، فتلقاه على القنطرة وشيعه حتى جاوز النجف، وزاده في البر، فلما
كان العام المقبل قدم أبو جعفر وهو يريد الحج، فاجتمع إليه الأضراء
وكلموه بنا كلموه به في العام الماضي، فرق لهم، فأتى باب الذهب فقال
للحاجب استأذن لي على أمير المؤمنين فأخبره أن بالباب أبا جعفر الرازي،
فأسرع الرسول أن أدخل، فدخل على المنصور، فأكرمه بغاية الكرامة، وجعل
يسأله عن أحواله ويسأله هل له حاجة، فقال: نعم، فقص عليه قصة الأضراء،
فقال: يعزل عنهم كاتبهم، وولي عليهم من أحبوا، ونأمر لأبي جعفر بعشرة
آلاف درهم لسؤاله إيانا هذه الحاجة، فلما صارت الدراهم بيده سقط في
يديه، وعلم أنه قد أخطأ، فجلس بسور القصر، ثم دعا بخرق وجعلها صرراً،
وفرقها على قوم، فنفض ثوبه وليس معه منها شيء، فبلغ ذلك سفيان الثوري،
فلما دخل أبو جعفر الرازي الكوفة توارى سفيان فطلبه، فلم يقدر عليه،
وسأل عنه، فلم يدل عليه فانتقض عليه لذلك بعض إخوان سفيان فقال له: ألك
إليه حاجة؟ فقال: نعم، فقال: اكتب كتاباً وادفعه إلي أوصله لك إليه،
فكتب كتاباً ودفعه إليه. قال: فصرت بالكتاب إلى سفيان، فإذا أنا به في
غرفة وإذا هو مستلق على قفاه مستقبل القبلة، فسلمت عليه، وأظهرت
الكتاب، وقلت: كتاب أبي جعفر الرازي، فقال: اقرأه، فقرأته، فقال لي:
اكتب جوابه في ظهره. فكتبت: بسم الله الرحمن الرحيم: وقلت: ماذا أكتب؟
قال: اكتب " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود " إلى آخر
الآية..، اردد إلينا بضاعتنا لا حاجة لنا في أرباحها. قال: فأتيته
بالكتاب والناس إذ ذاك متوافرون بالكوفة، فنظر في الكتاب فأجمع رأيهم
على أنهم يوجهون بكتابين إلى ابن أبي ليلى، ولا يعلمونه ممن الكتاب ولا
من صاحب الجواب ليعرفوا ما عنده من الرأي، فوجهوا بالكتابين، فنظر
فيهما، فقال: أما الأول: فكتاب رجل مداهن، وأما الجواب فجواب رجل يريد
الله بفعله.
محمد بن جعفر بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب. كان فاضلاً ديناً
لبيباً مشهوراً بالجود والمروءة، وكان له اختصاص بالمنصور.
أخبرنا
عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا عبيد الله بن
أبي الفتح قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم البزاز قال: حدثنا إبراهيم بن
محمد بن عرفة قال: أخبرني أبو العباس المنصوري، عن يحيى بن زكريا مولى
علي بن عبيد الله عن أبيه قال: كان المنصور يعجب بنحمد بن جعفر بن عبيد
الله بن العباس بؤانسته ومفاوضته ومداعبته ويلتذ لمحادثته، وكان أديباً
لبيباً لسناً، وكان لحسن منزلته عند المنصور، وعظيم قدره عنده تفزع
إليه الناس في حوائجهم فيكلمه فيها فيقضيها حتى أكثر عليه من الحوائج
وأفرط فيها، فأمر الربيع أن يحجبه، فلما حجبه قعد في منزله أياماً فظمئ
المنصور إلى رؤيته، وشوق إلى محادثته فقال: يا ربيع، إن جميع لذات
مولاك قد اخلقن عنده ورثثن في عينه سوى لذته من محادثة محمد بن جعفر،
فإنها تتجدد عنده في كل يوم وقد كدرها علي ما يحملني عليه من حوائج
الناس، فاحتل لمولاك فيما كدر عليه من لذته، فقال الربيع: أفعل يا أمير
المؤمنين، وخرج من عنده، فأتى محمد بن جعفر فعاتبه على ما يحمل المنصور
عليه من حوائج الناس ويسأله إعفاءه عن ذلك فنضح عن نفسه فيما عاتبه
وأجابه أن لا يسأله حاجة لأحد وأمره بالغدو على المنصور، ورجع إلى
المنصور فأعلمه بذلك، وبلغ قوماً من قريش قدموا العراق بحوائجهم ما كان
من أمر محمد بن جعفر ومن الربيع، وأنه عازم على الغدو على المنصور
فكتبوا حوائجهم في رقاع ووقفوا بها على طريق محمد بن جعفر . فلما غدا
يريد المنصور له عليه بها ومتوا إليه بقراباتهم، وتوسلوا بأرحامهم .
وسألوه إيصال رقاعهم إليه فاعتذر إليهم وسألهم أن يعفوه من ذلك فأبوا
وألحوا عليه، فقال: لست أكلم المنصور في حاجة لأحد، فإن أحببتم أن
تودعوا رقاعكم كمي فافعلوا فقدموا رقاعهم في كمه، ومضى حتى دخل على
المنصور وهو في القبة الخضراء مشرف على مدينة السلام ودجلة والصراة وما
حولها من البساتين والمزارع فعاتبه، فنفح عن نفسه، ثم حادثه ساع، فقال
له المنصور: أما ترى حسن مستشرفنا هذا؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين
فبارك الله لك فيما آتاك وهنأك بإتمام النعمة عليك فيما أعطاك، فما بنت
العرب في دولة الإسلام والعجم في مدة الكفر مدينة أحصن ولا أحسن ولا
أجمع للخصال المحمودة منها، وقد سمجتها في عيني يا أمير المؤمنين خصلة،
قال: وما هي؟ قال: ليس لي فيها ضيعة. فتبسم، ثم قال: فإني أحسنها في
عينك بثلاث ضياع أقطعك في أكنافها فاغد على أمير المؤمنين يسجل لك بها،
فقال: أنت والله يا أمير المؤمنين سهل الموارد، كريم المصالح، فجعل
الله باقي عمرك أكثر من ماضيه، فلقد بررت فأفضلت، ووصلت فأجزلت، وأنعمت
فأسبغت فبدت الرقاع من كمه وهو يتشكر له، فأقبل يردهن في كمه ويقول:
لترجعن خاسئات، فضحك يعني الخليفة وقال: بحق أمير المؤمنين عليك لما
أخبرت خبر هذه الرقاع، فأعلمه. فقال: أبيت يا ابن معلم الخير إلا
كرماً، فف للقوم بضمانك وألقها عن كمك لننظر في حوائجهم، فطرحها بين
يديه فتصفحها ثم دفعها إلى الربيع، ثم التفت إليه، فتمثل بقول امرئ
القيس:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وقال: قد قضى أمير المؤمنين حوائجهم، فأمرهم بلقاء الربيع، قال محمد:
فخرجت من عنده وقد ربحت وأربحت.
ثم دخلت
سنة ثلاث وستين ومائة
فمن الحوادث فيها:
هلاك
المقنع، وذلك أن سعيداً الحرشي حصره بكش فاشتد عليه الحصار، فلما أحس
بالهلكة شري سماً وسقاه نساءه. فمات ومتن، فدخل المسلمون قلعته فاجتروا
رأسه ووجهوا به إلى المهدي. وفيها: قطع المهدي البعوث للصائفة على جميع
الأجناد من أهل خراسان وغيرهم، وخرج فعسكر بالبردان فأقام بها نحواً من
شهرين ويعطي الجنود، وأخرج بها صلات لأهل بيته الذين خرجوا معه. وتوفي
عيسى بن علي في آخر جمادى الآخر. وخرج المهدي من الغد من البردان
متوجهاً إلى الصائفة، واستخلف بمدينة السلام ابنه موسى، وكاتبه يومئذٍ
أبان بن صدقة، وعلى خاتمه عبد الله بن علاثة، وعلى حرسه علي بن عيسى،
وعلى شرطته عبد الله بن خازم، وإنما خرج مشيعاً لولده هارون، وضم إليه
الربيع، والحسن بن قحطبة، وخالد بن برمك، والحسن وسليمان ابني برمك.
ووجه معه على أمر العسكر ونفقاته والقيام مع ابنه هارون بإمرة يحيى بن
خالد، وكان أمر هارون كله إليه، ففتح الله عليهم فتوحاً كثيرة.
وفي مسيرة المهدي مع ابنه هارون عزل عبد الصمد بن علي عن الجزيرة وولى
مكانه زفر بن عاصم الهلالي. وكان السبب أن المهدي سلك في سفرته هذه
طريق الموصل وعلى الجزيرة عبد الصمد، فلما بلغ أرض الجزيرة ولم يتلقه
عبد الصمد ولا هيأ له، ولا أصلح القناطر، فاضطعن ذلك عليه، فلما لقيه
تجهمه وأظهر له جفاء فبعث إليه عبد الصمد بألطاف لم يرضها، فردها
وأزداد عليه سخطاً، وأغلظ له، فرد عليه عبد الصمد، فأمر بحبسه وعزله عن
الجزيرة، ولم يزل في حبسه إلى أن رضي عنه. وأتي المهدي وهو بحلب
بزنادقة فقتلهم وصلبهم وقطع كتباً كانت معهم، ثم عرض بها جنده، وأمر
بالرحلة وأشخص جماعة ومن وافاه من أهل بيته مع ابنه هارون إلى الروم
وشيع المهدي ابنه هارون حتى قطع الدروب، وبلغ جيحان وارتاد بها المدينة
التي تسمى المهدية، وددع هارون على نهر جيحان، فسار هارون حتى نزل
رستاقاً من رساتيق أرض الروم، فيه قلعة، فأقام عليها ثمانياً وثلاثين
ليلة، ونصب عليها المجانيق، ففتحها الله تعالى بعد أن أصاب الناس يعني
أهلها عطش وجوع، وأصاب المسلمون قتل وجراح، وقفل هارون بالمسلمين. وفي
هذه السفرة صار المهدي إلى بيت المقدس فصلى فيه.
وفيها: ولى المهدي ابنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية وجعل
كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها: عزل زفر بن عاصم، عن الجزيرة، وولى مكانه عبد الله بن صالح بن
علي. وعزل معاذ بن مسلم عن خراسان، ووليها المسيب بن زهير، وعزل يحيى
الحرشي عن أصبهان، وولي الحكم بن معبد مكانه.
وعزل سعيد بن دعلج عن طبرستان والرويان، ووليها عمر بن العلاء. وعزل
مهلهل بن صفوان عن جرجان، ووليها هشام بن سعيد. وفيها: حج بالناس علي
بن المهدي. وكان على مكة والمدينة والطائف واليمامة جعفر بن سليمان
وعلى الصلاة والأحداث بالكوفة إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى قضائها
شريك، وعلى البصرة وأعمالها، وكور دجلة والبحرين، وعمان، وكور الأهواز،
وكور فارس: محمد بن سليمان، وعلى خراسان المسيب بن زهير، وعلى السند
نصر بن محمد بن الأشعث.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن طهمان، أبو سعيد الخراساني. ولد بهراة، ونشأ بنيسابور، ورحل
في طلب العلم، فلقي جماعة من التابعين مثل: عبد الله بن دينار مولى ابن
عمر، وأبي الزبير محمد بن مسلم، وعمرو بن دينار، وأبي حازم الأعرج،
وأبي إسحاق الشيباني. وورد بغداد وحدث بها، ثم انتقل إلى مكة فسكنها
إلى آخر عمره. وكان ثقة صالحاً ديناً جواداً، وكان يميل إلى الإرجاء.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا محمد بن عمر بن بكير قال: أخبرنا الحسين بن أحمد قال: حدثنا
أحمد بن ياسين قال: سمعت إسحاق بن محمد يقول: قال مالك بن سليمان كان
لإبراهيم بن طهمان جراية من بيت المال فاخرة، وكان يسخو بذلك، فسئل
يوماً مسألة في مجلس الخليفة فقال: لا أدري. فقالوا له: تأخذ في كل شهر
كذا وكذا ولا تحسن مسألة؟ قال: إنما آخذه على ما أحسن، ولو أخذت على ما
لا أحسن لفني بيت المال ولا يفنى ما لا أحسن. فأعجب أمير المؤمنين
جوابه، وأمر له بجائزة فاخرة وزاد في جرايته.
أخبرنا
القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب
قال: أخبرنا محمد بن نعيم قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن محمد الفقيه
قال: حدثنا محمد بن صالح الصيمري قال: حدثنا أبو زرعة قال: سمعت أحمد
بن حنبل وذكر عنده إبراهيم بن طهمان، وكان متكئاً من علة فاستوى جالساً
وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون متكئ، ثم قال أحمد: حدثني رجل من
أصحاب ابن المبارك، قال: رأيت ابن المبارك في المنام ومعه شيخ مهيب،
فقلت: من هذا معك؟ قال: أما تعرف؟ هذا سفيان الثوري. قلت: من أين
أقبلتم؟ قال: نحن نزور كل يوم إبراهيم بن طهمان. قلت: وأين تزورونه؟
قال: في دار الصديقين، دار يحيى بن زكريا. توفي إبراهيم بن طهمان بمكة
في هذه السنة.
جرير بن عثمان بن عفان بن خبير بن أحمد بن أسعد بن عثمان وقيل: أبو عون
الرحبي الحمصي. سمع عبد الله بن بشير صاحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم وخلقاً كثيراً من التابعين. روى عنه: إسماعيل بن عياش، وبقية،
ويزيد بن هارون، واتفق العلماء على أنه ثقة ثبت لكنه اتهموه بأنه كان
يننتقض لعلي بن أبي طالب عليه السلام. أخبرنا أبو منصور القزاز قال:
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا أحمد بن أبي جعفر قال: أخبرنا
يوسف بن أحمد الصيدلاني قال: حدثنا محمد بن عمرو العقيلي قال: حدثنا
محمد بن إسماعيل قال: حدثنا الحسن بن علي الخولاني قال: حدثنا عثمان بن
أبان قال: سمعت جرير بن عثمان يقول لأخيه: قتل إياي يعني علياً عليه
السلام . أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال:
حدثنا محمد بن عبد الله بن أبان الهيتي قال: أخبرنا الحسين بن عبد الله
بن روح الجواليقي قال: حدثني هارون بن رضى مولى محمد بن عبد الرحمن بن
إسحاق القاضي قال: حدثنا أحمد بن سنان قال: سمعت يزيد بن هارون يقول:
رأيت رب العزة تعالى في المنام، فقال لي: يا أبا يزيد لا تكتب عن جرير
بن عثمان، فقلت: يا رب ما علمت منه إلا خيراً، فقال لي: يا أبا يزيد لا
تكتب عنه فإنه يسب علياً.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن
الحسين بن محمد الأزرق قال: حدثنا محمد بن الحسين النقاش قال: مسيح بن
حاتم قال: حدثنا سعيد بن شادي الواسطي قال: كنت في مجلس أحمد بن حنبل
فقال له رجل: يا أبا عبد الله رأيت يزيد بن هارون في المنام، فقلت له:
ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني وعاتبني، فقلت: غفر لك ورحمك
وعاتبك، فقال: نعم، قال لي: يا يزيد بن هارون كتبت عن جرير بن عثمان؟
قلت: يا رب العزة ما علمت إلا خيراً، قال: إنه كان يبغض أبا الحسن علي
بن أبي طالب. قال المؤلف : وقد روينا من طريق آخر قال: والله ما سببته
قط وإني أترحم عليه. توفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ست وستين.
سليمان بن القاسم بن عبد الرحمن مولى قريش، ثم مولى لبني سهم. روى عنه:
عبد الله بن وهب وغيره، وكان من العابدين الزهاد. توفي في هذه السنة.
عثمان بن الحكم الجذامي. روى عن موسى بن عقبة وغيره، وكان فقيهاً
متديناً، عرض عليه القضاء بنصر فلم يقبل. وكان الليث أشار بولايته فهجر
الليث لذلك. توفي في هذه السنة.
عبد الحميد بن سالم مولى مهرة. روى عنه ابن وهب مقطعات، وكان كاتباً في
ديوان مصر في خلافة بني أمية. قال المؤلف : وليس بعبد الحميد الذي يضرب
به المصل في الكتابة ذلك كما ذكرنا توفي قبل هذا. وهذا توفي في هذه
السنة.
عبد الرحمن بن خالد بن يزيد أبو الحسن مولى بني جمح روى عنه: الليث،
وابن وهب، ورشدين بن سعد، وكان فقيهاً وهو أول من قدم بمسائل مالك إلى
مصر. وتوفي بالإسكندرية في هذه السنة.
عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح المنصور حدث عن أبيه، وروى
عنه: شيبان بن عبد الرحمن التميمي، وإليه ينسب ببغداد قصر عيسى ونهر
عيسى.
قال يحيى بن معين: كان له مذهب جميل، وكان معتزلاً للسلطان.
أخبرنا
القزاز: قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أنبأنا إبراهيم بن مخلد قال:
أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي قال: توفي عيسى بن علي في سنة ثلاث وستين
ومائة، وصلى عليه موسى بن المهدي، ومشى في جنازته من قصر عيسى إلى
مقابر قريش، وكان سنه ثمانياً وسبعين سنة رحمه الله. وفي رواية: أن
المهدي عسكر بالبردان في سنة أربع وستين يريد لاشام، وتوفي عيسى، فرجع
من عسكره فصلى عليه في مقابر قريش، وعاد إلى عسكره.
عبيد بنت أبي كلاب. بكت من خشية الله عز وجل أربعين سنة حتى ذهب بصرها.
أخبرنا عبيد الله بن علي المقرئ قال: أخبرنا الحسين بن أحمد بن طلحة
قال: أخبرنا محمد بن عبيد الله الحنائي قال: حدثنا عثمان بن أحمد
الدقاق قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الختلي قال: حدثنا عبد الله بن
معلى الكوفي، عن يحيى بن بسطام قال: حدثني سلمة الأفقم قال: قلت لعبيدة
بنت أبي كلاب ما تشتهي؟ قالت: الموت، قلت: ولم؟ قالت: لأني والله في كل
يوم أصبح أخشى أن أجني على نفسي جناية يكون فيها عطبي أيام الآخرة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن هبة الله قال: أخبرنا ابن
بشران قال: أخبرنا ابن صفوان قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثني
محمد بن الحسين قال: حدثني عيسى بن مرحوم قال: حدثني عبيدة بنت أبي
كلاب قالت: رأيت رابعة في المنام، قلت: ما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب؟
قالت: هيهات سبقتنا والله إلى الدرجات العلى. قلت: وبن وقد كنت عند
الناس أكبر منها. قلت: إنها لم تكن تبالي على ما أصبحت من الدنيا
وأمست.
محمد بن النضر الحارثي، ويكنى أبا عبد الرحمن. كان كثير التعبد مؤثراً
للعزلة. أخبرنا أبو بكر العامري قال: حدثنا ابن أبي صادق قال: أخبرنا
ابن باكويه قال: حدثنا محمد بن يوسف بن إبراهيم قال: حدثنا سعيد بن عمر
قال: حدثنا عبد الله بن محمد الكرماني، عن أبي أسامة قال: قلت: لمحمد
بن النضر كأنك تكره أن تزار قال: أجل، قلت: أما تستوحش؟ قال: كيف
استوحش وهو يقول: " أنا جليس من ذكرني " !؟ موسى بن علي بن رباح قيصر
بن القشب أبو عبد الرحمن اللخمي أمير مصر لأبي جعفر المنصور. ولد
بأفريقية سنة تسعين، قدم وافداً على هشام بن عبد الملك سنة عشرة ومائة.
وكان يخضب بالسواد. روى عنه: الليث بن سعد، وابن المبارك، وابن وهب.
توفي بالإسكندرية في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة أربع وستين ومائة
فمن الحوادث فيها: غزوة عبد الكريم بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد
بن الخطاب، فأقبل إليه بطريق في تسعين ألفاً، فعجز عبد الكريم فانهزم،
فأراد المهدي ضرب عنقه فكلم فيه فحبسه. وفيها: بنى المهدي بعيساباذ
الكبرى قصرأً من لبن إلى أن أسس قصره الذي بالآجر، وكان تأسيسه إياه
يوم الأربعاء في شهر ذي القعدة. وفيها: عزل المهدي محمد بن سليمان عن
أعماله ووجه صالح بن داود على ما كان إلى محمد بن سليمان. أنبأنا محمد
بن عبد الملك قال: أنبأنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا محمد بن
عمران المرزباني قال: أخبرنا الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن سعيد
قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني مصعب قال: لما بنى المهدي
عيساباذ نزل منزله بها، فأمر أن يكتب له أبناء المهاجرين وأبناء
الأنصار، فكتبوا ودعا نقباءهم وجلس مجلساً عاماً لهم، ففرق فيهم ثلاثة
آلاف ألف درهم، فأغنى كل عائل، وجبر كل كسير، وفرج عن كل مكروب، ثم
قامت الخطباء فخطبت، ودخل الشعراء فأنشدوا ففرق فيهم خمسمائة ألف درهم،
ثم دعا بغدائه، وحضر خاصته وبطانته، وأهل المراتب من قوداه فطعموا فلم
ينصرف واحد منهم إلا بحباء وكرامة، فكثر الدعاء له في الطرقات
والبوادي، وقال الناس: هذا مفتاح الخير، هذا مهدي هذه الأمة الذي بشر
به النبي صلى الله عليه وسلم. وقام في هذا اليوم مروان بن أبي حفصة
فأنشده:
ما يلمع البرق إلا حسن مغترب ... كأنه من دواعي شوقه وصب
مجالس الأنس غيثاً طل وابله ... علي من راحة المهدي ينسكب
شمساً فما اختطفتنا من مخايله ... سحابة صوبها الأوراق والذهب
صدقت يا خير مأمول ومعتمد ... ظني بأضعاف ما قد كنت أحتسب
أعطيت سبعين الفاً غير متبعها ... مناً ولست بننانٍ بنا تهب
قد لاح
للناس بالمهدي نور هدىً ... يضيء والصبح في الظلماء محتجب
خليفة طاهر الأثواب معتصم ... بالحق ليس له في غيره أدب
وفيها: شخص المهدي حين أسس هذا القصر إلى الكوفة حاجاً فأقام برصافة
الكوفة أياماً ثم خرج متوجهاً إلى الحج حتى انتهى إلى العقبة، فعرف قلة
الماء، وأخذته حمى، فرجع من العقبة، وعطش الناس فغضب على يقطين لأنه
كان صاحب المصانع، فرجع المهدي وبعث أخاه صالح بن المنصور فحج بالناس.
وفيها: عزل عبد الله بن سليمان عن اليمن عن سخطة، ووجه من يستقبله
ويفتش متاعه ويحصي ما معه، ثم حبسه عند الربيع حين قدم حتى أقر من
المال والجوهر والعنبر، بنا أقربه، واستعمل مكانه بن يزيد. وكان العامل
على مكة والمدينة والطائف واليمامة جعفر بن سليمان، وعلى اليمن منصور
بن يزيد، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها وكور دجلة والبحرين وعمان وكور
الأهواز وفارس صالح بن داود بن علي. وعلى خراسان المسيب بن زهير، وعلى
الموصل محمد بن الفضل، وعلى قضاء البصرة عبيد الله بن الحسن، وعلى مصر
إبراهيم بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن خالد، وعلى طبرستان والرويان
وجرجان يحيى الحرشي، وعلى الري خلف بن عبد الله.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حماد الراوية: وهو حماد بن ميسرة مولى بني شيبان، وقيل: هو حماد بن
سابور. وكان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها.
وكانت بنو أمية تقدمه وتسني عطاءه، ودخل على المنصور والمهدي. وروى
المدائني أن الوليد بن يزيد قال لحماد: لم سميت الراوية، وما بلغ من
حفظك حتى استحقيت هذا الاسم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن كلام العرب
تجري على ثمانية وعشرين حرفاً، أنا أنشدك على كل حرف منها مائة قصيدة.
فقال: هات، فأنشد حتى مل الوليد، ثم استخلف من يسمع منه حتى وفاه ما
قال فأجزل صلته.
وفي رواية أنه أنشده ألفين وسبعمائة قصيدة للجاهلية، فأمر له بنائة ألف
درهم، وقال الطرماح: أنشدت حماد الرواية قصيدة لي ستين بيتاً فسكت ساعة
ثم قال: أهذه لك؟ قلت: نعم. قال: ليس الأمر كذلك، ثم ردها علي كلها
وزيادة عشرين بيتاً زادها في وقته. قال: إسحاق بن إبراهيم الموصلي: دخل
مطيع بن إياس، ويحيى بن زياد على حماد الراوية، فإذا سراجه على ثلاث
قصبات قد جمع أعلاهن وأسفلهن بطين فقال يحيى: يا حماد إنك لمسرف متبذل،
تحر المتاع، فقال له مطيع: ألا تبيع هذه المنارة وتشتري أقل منها ثمناً
منها وتنفق علينا وعلى نفسك الباقي وتتسع فقال له يحيى: ما أحسن ظنك به
ومن أين له هذه المنارة؟ هذه وديعة، أو عارية، فقال مطيع: إنه لعظيم
الأمانة عند الناس. قال لا يحيى: وعلى عظم أمانته فما أجمل من يخرج هذه
من داره ويأمن عليها غيره. قال مطيع، ما أظنها عارية ولا وديعة، ولكني
أظنها مرهونة عنده على مال، وإلا فمن يخرج هذه من بيته؟ فقال حماد: شر
منكما من يدخلكما إلى بيته. وقال الجاحظ: كان حماد الراوية وحماد بن
الزبرقان وحماد عجرد ووالبه بن الحباب وبشار بن برد اللاحقي كلهم كان
متهماً في دينه.
شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية التميمي المؤدب البصري وذكر أبو أحمد
العسكري أن شيبان النحوي ينسب إلى بطن يقال لهم بنو نحو بن شمس، بضم
الشين من بطن من الأزد. وقال أبو الحسين بن المنادي: المنسوب إلى
القبيلة التي يقال لها نحو هو يزيد النحوي لا شيبان. أخبرنا أبو منصور
القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت أخبرني عبد الله بن يحيى السكري
قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي قال: حدثنا جعفر بن محمد الأزهر
قال: حدثنا ابن الغلابي، عن يحيى بن معين قال: كان شيبان بن عبد الرحمن
ثقة، وكان مؤدباً لسليمان بن داود الهاشمي وكان أصله من البصرة فانتقل
إلى الكوفة.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: حدث شيبان عن الحسن البصري، وقتادة، ويحيى
بن أبي كثير.
وتوفي ببغداد في هذه السنة، ودفن في مقابر قريش بباب التبن، كذلك قال
ابن سعد. وقال يحيى بن معين: دفن في مقابر الخيزران.
شبيب بن شيبة، أبو معمر الخطيب المنقري البصري.
حدث عن
الحسن، وعطاء بن أبي رباح، وهشام بن عروة. روى عن عيسى بن يونس،
والأصمعي، وغيرهما. وقدم بغداد في أيام المنصور. فاتصل به ثم بالمهدي
من بعده وكان مقدماً عندهما. وقال له المنصور عظني وأوجز فقال: يا أمير
المؤمنين إن لله لم يرض من نفسه بأن يجعل فوقك أحداً من خلقه، فلا ترضى
له من نفسك بأن يكون عبداً له أشكر منك، فقال: والله لقد أوجزت. وخرج
من دار المهدي فقيل له: كيف تركت الناس فقال: تركت الداخل راجياً
والخارج راضياً. أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت
قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا محمد بن عمران بن موسى قال: أخبرنا
أحمد بن محمد بن عيسى قال: حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد، عن موسى بن
إبراهيم قال: كان شبيب بن شيبة يصلي بنا الصبح يوماً وقرأ السجدة " وهل
أتى " ، ولما قضى الصلاة قام رجل فقال: لا جزاك الله عني خيراً، فإني
كنت غدوت لحاجة فلما أقمت الصلاة دخلت اصلي فأطلت الصلاة حتى فاتتني
حاجتي. قال: وما حاجتك؟ قال: قدمت من الثغر في شيء فيه مصلحته، وكنت
وعدت البكور إلى الخليفة لأتنجز ذلك قال: فأنا أركب معك، فركب معه،
ودخل على المهدي فأخبره الخبر وقص عليه القصة، قال: فيريد ماذا؟ قال:
يقضي حاجته، فقضى حاجته وأمر له بثلاثين ألف درهم فدفعها إلى رجل، ودفع
إليه شبيب من ماله أربعة آلاف درهم، وقال له: لم تضرك السورتان. قال
مؤلف الكتاب رحمه الله: كان شبيب بن شيبة فصيحاً ذا لسان، لكنه كان
يخطئ في العربية أحياناً. أخبرنا محمد بن الحسين المرزباني بإسناده عن
الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري قال: أخبرنا أبي قال: أخبرنا عبيد
بن ذكوان، عن الرياشي قال: توفي ابن لبعض المهالبة فأتاه شبيب بن شيبة
المنقري يعزيه وعنده بكر بن حبيب السهمي، فقال شبيب: بلغنا أن الطفل لا
يزال محتبطاً على باب الجنة يشفع لأبويه فقال بكر: إنما هو محتبطاً
بالطاء غير المعجمة. فقال شبيل القول لي هذا وما بين لابتيها أفصح مني،
فقال بكر: وهذا خطأ، تأتي ماء البصرة واللوب أهلك، غيرك قولهم: ما بين
لابتي المدينة يريدون الحرة، قال أبو أحمد: الحرة أرض تركبها حجارة
سود، وهي اللابة والجمع لابات، فإذا أكثرت فهي اللوب، وللمدينة لابتان
من جانبيها، وليس للبصرة لابة ولا حرة. قال: وقال أبو عبيد: المحتبطي
بغير همز: المتعصب المستبطئ للشيء والمحتبطىء بالهمز: العظيم البطن
المنتفخ. وقد تكلم أصحاب الحديث في شبيب. سئل ابن المبارك أنأخذ عن
شبيب؟ فقال: خذوا عنه، فإنه أشرف من أن يكذب. وقال الساجي: هو صدوق
يهم. وقال أبو علي صالح بن محمد. هو صالح الحديث. فأما ابن معين فقال:
ليس بثقة. وقال أبو داود: ليس بشيء.
عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون واسم أبي سلمة: ميمون
مولى آل الهدير التيمي، وكنيته عبد العزيز أبو عبد الله. وقيل: أبو
الأصبغ. سمع الزهري، وابن المنكدر، وأبا حازم وغيرهم. روى عنه: وكيع،
وابن مهدي، ويزيد بن هارون، وكان عالماً فقيهاً صدوقاً ثقة ثبتاً.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا أحمد
بن محمد العتيقي قال: حدثنا محمد بن العباس قال: أخبرنا أبو أيوب
سليمان بن إسحاق الجلاب قال: سمعت الحربي يقول: الماجشون فارسي وإنما
سمي الماجشون لأن وجنتيه كانتا حمراوين. أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو
بكر بن ثابت قال: أخبرنا العتيقي قال: حدثنا علي بن محمد العطار قال:
حدثنا عبد الله بن أبي داود قال: حدثنا أبو طاهر قال: حدثنا ابن وهب
قال: حججت سنة ثمان وأربعين وصائح يصيح. لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس
وعبد العزيز بن أبي سلمة. أخبرنا عبد الرحمن قال: حدثنا أحمد بن علي
قال: أخبرني الحسين بن أبي طالب قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عمران قال:
حدثنا يحيى بن عبد الله العطار قال: حدثني أبو إبراهيم أحمد بن سعيد
الزهري قال: سمعت عمرو بن خالد الحراني يقول: حج أبو جعفر المنصور
فشيعه المهدي، فلما أراد الوداع قال: يا بني استهدني قال: استهدتك
رجلاً عاقلاً، فأهدى له عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون. توفي عبد
العزيز ببغداد في هذه السنة. وجاء المهدي حتى صلى عليه في خلافته ودفن
في مقابر قريش.
المبارك بن فضالة بن أمية، أبو فضالة مولى زيد بن الخطاب
حدث عن
الحسن بن أبي الحسن البصري، وثابت، وحميد الطويل، وخلق كثير. روى عنه:
يزيد بن هارون وعفان وعلي بن أبي الجعد. أخبرنا أبو منصور القزاز قال:
أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبيد الله الحربي
قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي قال: حدثنا معاذ بن
المثنى قال: حدثنا سوار قال: حدثنا أبو أمية قال: حدثنا مبارك بن فضالة
قال: إني يوماً لعند أبي جعفر إذ أتي برجل فأمر بقتله، فقلت في نفسي:
يقتل رجل من المسلمين وأنا حاضر، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا أحدثك
حديثاً سمعته من الحسن قال: وماهو؟ قلت: سمعته يقول: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة جمع الله الناس في صعيد حيث
يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر فيقوم مناد من عند الله تعالى فيقول:
ليقومن من له على الله يد فلا يقوم إلا من عفا " .
فأقبل علي فقال: آلله سمعته من الحسن؟ فقلت: آلله سمعته من الحسن،
فقال: خليا عنه.
قال المؤلف اختلف كلام يحيى بن معين في المبارك فقال مرة: صالح. وقال
مرة: ثقة، وقال مرة: ضعيف.
توفي المبارك في هذه السنة. وقيل في سنة ست وستين.
ثم دخلت
سنة خمس وستين ومائة
فمن الحوادث فيها: غزوة هارون بن المهدي الصائفة من أرض الروم، وجهه
أبوه في يوم السب لإحدى عشر ليلة بقيت من جمادى الآخرة غازياً إلى بلاد
الروم، وضم إليه الربيع مولاه فأوغل هارون في بلاد الروم فلقيته خيول
فقاتلها فانهزمت، وسار هارون في خمسة وسبعين ألفاً وسبعمائة وثلاثة
وتسعين، وحمل من الفيء مائة ألف دينار وثلاثة وسبعين ألفاً وأربع مائة
وخمسين ديناراً، ومن الورق أحد وعشرون ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة
عشر ألف وثمانمائة درهم، وسار هارون حتى بلغ خليج البحر الذي على
القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ امرأة أليون، وذلك أن زوجها هلك وابنها
صغير، فكان في حجرها فجرت بينها وبين هارون رسل وسفراء في طلب الصلح
والموادعة وإعطاء الفدية، فقبل ذلك منها هارون، وشرط عليها الوفاء بنا
أعطت، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه، وذلك أنه دخل مدخلاً
ضيقاً مخوفاً على المسلمين، فأجابته إلى ما سأل، والذي وقع عليه الصلح
بينه وبينها سبعون ألف دينار تؤديها في نيسان في أول سنة، وفي كل سنة
في حزيران، فقبل ذلك منها، وكتبوا كتاب الهدنة إلى ثلاث سنين، وسلمت
الأسارى، فكان الذي أفاء الله على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية
خمسة آلاف رأس وستمائة وثلاثة وأربعين رأساً، وقتل من الأسارى ألفان
وسبعون أسيراً صبراً ، وأفاء الله عليه من الدواب الذلل بأدواتها عشرين
ألفاً، وذبح من البقر والغنم مائة ألف، وكانت المرتزقة سوى المطوعة
وأهل الأسواق مائة ألف. وفيها: عزل خلف بن عبد الله عن الري ووليها
عيسى مولى جعفر. وفي هذه السنة: تزوج الرشيد زبيدة بنت جعفر بن المنصور
وبنى بها، وسقط ببغداد ثلج قام في الأرض نحو ذراعين. وفيها: حج بالناس
صالح بن أبي جعفر المنصور، وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في
السنة الماضية، غير أن العامل على أحداث البصرة والصلاة بأهلها كان روح
بن حاتم، وعلى كور دجلة، والبحرين، وعمان، وكسكر، وكور الأهواز، وفارس،
وكرمان المعلى مولى أمير المؤمنين، وعلى السند الليث مولى المهدي أمير
المؤمنين.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الياقوتة بنت المهدي: توفيت فجزع عليه جزعاً شديداً، فدخل عليه شبيب بن
شيبة فأنشده يقول:
فحسبي بقاء الله من كل ميت ... وحسبي ثواب الله من كل هالك
إذا كان رب العرش عني راضياً ... فإن شفاء النفس فيما هنالك
فدعا بالطعام ثم أكل.
داود بن نصير الطائي الكوفي.
سمع عبد
الملك بن عمير، والأعمش، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم. روى
عنه: ابن علية، وأبو نعيم، وغيرهما، وكان قد اشتغل بالعلم والفقه، ثم
انقطع إلى العبادة ولازم المجاهدة، وقدم بغداد في أيام المهدي، ثم عاد
إلى الكوفة وبها كانت وفاته. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا
أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو علي عبد الرحمن بن محمد بن فضالة
قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن الفضل السلمي، قال: حدثنا أبو عمران
موسى بن العباس الجويني قال: حدثنا جعفر بن الحجاج الرقي قال: حدثنا
عبيد بن جناد قال: سمعت عطاء يقول: كان لداود الطائي ثلاثمائة درهم
فعاش بها عشرين سنة ينفقها على نفسه، وكنا ندخل على داود فلك يكن في
بيته إلا بارية، ولبنة يضع عليها رأسه وإجانة فيها خبز، ومطهرة يتوضأ
منها ومنها يشرب.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا علي بن
محمد بن عبد الله المعدل قال: حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: حدثنا
إسحاق بن إبراهيم بن أبي حسان الأنماطي قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري
قال: قال أبو سليمان الداراني. ورث داود الطائي من أمه داراً، فكان
ينتقل في بيوت الدار كلما خرب بيت من الدار انتقل منه إلى آخر ولم
يعمره، حتى أتى على عامة بيوت الدار.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا ابن رزق قال:
أخبرنا جعفر الخالدي قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال: حدثنا
علي بن حرب قال: حدثنا إسماعيل بن زبان قال: قالت داية لداود: يا أبا
سليمان أما تشتهي الخبز؟ قال: يا داية، بين مضغ الخبز وشرب الفتيت
قراءة خمسين آية.
توفي في هذه السنة. وقيل في سنة ستين.
عبد الله بن العلاء بن زبر بن عطاء أبو زبر العجلي الدمشقي ولد سنة خمس
وسبعين، وحدث عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم والزهري، ومكحول.
روى عنه: ابن الوليد بن مسلم وشبابة، وكان ثقة. توفي في هذه السنة.
رواد العجلي. عاهد الله سبحانه أن لا يضحك حتى يراه. أخبرنا عبد الوهاب
بن المبارك قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال: أخبرنا علي بن
أحمد الملطي قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال: حدثنا ابن صفوان
قال: حدثنا أبو بكر القرشي قال: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا عمر
بن حفص قال: حدثنا سكين بن مسكين قال: كانت بيننا وبين رواد قرابة،
فسألت أختاً له كانت أصغر منه؟ كيف كان ليله؟ قالت: يبكي عامة الليل
ويصرخ. قلت: فما كان طعامه؟ قالت: قرصاً من أول الليل وقرصاً في آخره
عند السحر، قلت: فتحفظين من دعائه شيئاً. قالت: نعم، كان إذا كان السحر
أو قريب من طلوع الفجر سجد، ثم بكى، ثم قال: مولاي عبدك يحب الاتصال
بطاعتك فأعنه عليها بتوفيقك. مولاي عبدك يحب اجتناب خطيئتك فأعنه على
ذلك بننك. مولاي عبدك عظيم الرجاء لخيرك فلا تقطع رجاءه يوم يفرح بخيرك
الفائزون. قالت: فلا يزال على هذا ونحوه حتى يصبح، قالت: وكان قد كل من
الاجتهاد جداً وتغير لونه. قال سكين: فلما مات رواد وحمل إلى حفرته
نزلوا ليدلوه في حفرته فإذا اللحد مفروش بالريحان، وأخذ بعض القوم من
ذلك الريحان شيئاً فمكث سبعين يوماً طرياً لا يتغير، يغدوا الناس
ويرحون وينظرون إليه قال فكثر الناس في ذلك حتى خاف الأمير أن يفتتن
الناس فأرسل إلى الرجل، فأخذ ذلك الريحان وفرق الناس، وفقده الأمير من
منزله لا يدري كيف ذهب.
ثم دخلت
سنة ست وستين ومائة
فمن
الحوادث فيها: قدوم هارون ومن معه من خليج القسطنطينة في المحرم لثلاث
عشرة ليلة بقيت فيه. وقدمت الروم بالجزية معهم، وجاءوا مع المال
بثلاثين ألف رطل من المرعزي. وفيها: أخذ المهدي البيعة لهارون على
قواده بعد موسى بن المهدي، وسماه الرشيد. وفيها: اعتمر المهدي عمرة في
شهر رمضان، وأفطر بالمدينة، وصلى بهم في الفطر، و استقضى أبا سفيان.
وفيها: عزل عبيد بن الحسن عن قضاء البصرة، وولى مكانه خالد بن طليق بن
عمران بن حصين، فلم تحمد ولايته، واستعفى أهل البصرة منه. وفيها: عزل
جعفر بن سليمان عن مكة والمدينة وما كان إليه من العمل. وفيها: سخط
المهدي على يعقوب بن داود. وكان سبب سخطه: أن داود بن طهمان وهو أبو
يعقوب كان كاتباً لنصر بن سيار، وقد كتب قبله لبعض ولاة خراسان، فلما
كانت أيام يحيى بن زيد أتاه طهمان مطمئناً لما بينه وبينه، فآمنه أبو
مسلم فلم يعرض نفسه، وأخذ أمواله التي استفادها أيام نصر، ونزل منازله
بمرو وضيعة كانت له ميراثاً، فلما مات داود خرج ولده أهل أدب وعلم
بأيام الناس وسيرهم وأشعارهم، ونظروا فإذا ليس لهم عند بني العباس
منزلة فلم يطمعوا في خدمتهم لأجل أن أباهم كان كاتباً لنصر، فلما رأوا
ذلك أظهروا مقالة الزيدية ودنوا من آل الحسين وطمعوا أن يكون لهم دولة
فيعيشوا فيها. وكان يعقوب يجوب البلاد منفرداً بنفسه ومعه إبراهيم بن
عبد الله أحياناً في طلب البيعة لمحمد بن عبد الله، فلما ظهر محمد
وإبراهيم كتب علي بن داود وكان أسن من يعقوب لإبراهيم بن عبد الله وخرج
يعقوب مع عدة من إخوته مع إبراهيم، فلما قتل محمد وإبراهيم تواروا من
المنصور، فجد في طلبهم، فأخذ يعقوب وعلياً فحبسهما أيام حياته، فلما
توفي المنصور من عليهما المهدي فيمن من عليه بتخلية سبيله، وكان معهما
في السجن إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن، وكانا لا يفارقانه ولا يفارقان
إخوته المحبوسين معهم، فجرت بينهم بذلك صداقة، فلما خلى المهدي سبيل
يعقوب مكث مدة يطلب عيسى بن زيد والحسن بن إبراهيم بن عبد الله، هرب
الحسن من حبسه، فقال المهدي يوماً: لو وجدت رجلاً من الزيدية له معرفة
بآل الحسن وبعيسى بن زيد، وله فقه، فأجتلبته إلى طريق الفقه، ويدخل
بيني وبين أهل حسن وعيسى، فدل على يعقوب فأتى به فدخل عليه ذو عمامة
كرابيسي وكساء أبيض غليظ فكلمه فوجده رجلاً كاملاً، فسأله عن عيسى بن
زيد فوعد الدخول بينه وبينه وارتفع أمره عند المهدي وممن أرفع به
استأمنه للحسن بن إبراهيم فجمع بينهما بمكة وما زال يعلو أمره عنده حتى
استوزره، وفوض إليه الخلافة، فأرسل إلى الزيدية فأتى بهم من كل أوب،
وولاهم من أمر الخلافة في الشرق والغرب كل عمل نفيس. ومال يعقوب إلى
إسحاق بن الفضل فقيل للمهدي لو أراد أخذ له الدنيا في يوم. فملأ ذلك
قلب المهدي عليه. ودخل عليه يوماً فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرفت
اضطراب مصر فأمرتني أن ألتمس لها رجلاً يجمع أمرها وقد أصبته، قال: من
هو؟ قال: ابن عمك إسحاق بن الفضل، فرأى في وجه المهدي التغير، فنهض و
أتبعه المهدي طرفه، وقال: قتلتني والله إن لم أقتلك. ولم يزل موالي
المهدي يحرضونه عليه، ودخل عليه يوماً وهو في مجلس متناهي الحسن، وعنده
جارية في غاية الكمال، فقال له: يا يعقوب كيف ترى مجلسنا؟ قال: على
غاية الحسن فمتع الله أمير المؤمنين به، فقال: هو لك احمله بما فيه،
وهذه الجارية ليتم سرورك به، فدعا له فقال: ولي إليك حاجة فأحب أن تضمن
لي قضاءها، فقال: الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمع والطاعة، فقال:
والله، ثلاث مرات، فقال: وحياة رأسي، فقال: فحياة رأسك قال: فضع يدك
عليه فاحلف، ففعل لتقضين حاجته فقال: هذا فلان بن فلان من ولد علي، أحب
أن تكفيني مؤنته وتريحني منه، وتعجل ذلك، فقال: أفعل، قال: فخذه إليك
فحوله وحول الجارية وجميع ما كان في البيت، و أمر بمائة ألف درهم، فلما
مضى إلى منزله لم يصبر عن الجارية فضرب بينه وبينها ستراً، ودعا
بالعلوي، فإذا أعقل الناس، فسأله عن حاله فأخبره، فقال: يا يعقوب تلقى
الله بدمي، وأنا من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال
له: لا والله، فهل فيك أنت خير؟ قال: إن فعلت خيراً شكرت، فقال له: أي
الطريق أحب إليك؟ فقال: طريق كذا وكذا. قال: فمن ها هنا تأنس به وتثق
بموضعه؟ قال: فلان وفلان
فقال:
فابعث إليهما وخذ هذا المال وامض معهما مصاحباً في ستر الله، موعدك في
خروجك من داري وقت كذا وكذا من الليل، فسمعت الجارية ذلك، فبعثت به مع
خادم لها إلى المهدي وقالت: هذا جزاؤك من الذي آثرته على نفسك، فبعث
المهدي من وقته فشحن تلك الطرق والمواضع برجال، فلم يلبث أن جاؤوه
بالعلوي وصاحبيه والمال، وأصبح يعقوب من غد ذلك اليوم، فإذا رسول
المهدي يستحضره، فدخل عليه، فقال: يا يعقوب ما فعل الرجل؟ فقال: يا
أمير المؤمنين، قد أراحك الله منه، قال: مات؟ قال: نعم، قال: والله،
قال: والله، قال: فقم فضع يدك على رأسي واحلف، ففعل، فقال: يا غلام
أخرج إلينا ما في هذا البيت، ففتح بابه عن العلوي وصاحبيه والمال بعينه
فأبلس يعقوب، فقال المهدي: لقد حل لي دمك لة آثرت إراقته، ولكن احبسوه،
ولا أذكر به، فحبسوه في مطمورة ثم أصيب فيها بصره، وطال شعره إلى أن
ولي الرشيد، فدعا به، فأدخل عليه، فقيل له: سلم على أمير المؤمنين
فسلم، فقال له: أي أمير المؤمنين أنا؟ فقال: المهدي، فقال: رحم الله
المهدي، فقال: فالهادي، فقال: رحم الله الهادي. قال: الرشيد. قال: نعم،
فما حاجتك؟ قال: المقام بمكة، فخرج إلى مكة فبقي قليلاً ثم مات. ولما
عزل المهدي يعقوب أمر بعزل أصحابه عن الولايات في الشرق والغرب، وأن
يأخذ أهل بيته وأن يحبسوا ففعل بهم ذلك. وفي هذه السنة: خرج موسى
الهادي إلى جرجان، وجعل على قضائه أبو يوسف بن يعقوب بن إبراهيم.
وفيها: تحول المهدي إلى عيساباذ فنزلها ونزل معه الناس، وضرب بها
الدنانير والدراهم. وفيها: أمر المهدي بإقامة إبل وبغال تكون بريداً
بين المدينة ومكة واليمن. وفيها: أخذ داود بن روح بن حاتم، وإسماعيل بن
سليمان بن مجالد، ومحمد بن أبي أيوب المكي، ومحمد بن طيفور في الزندقة،
فأقروا فاستتابهم المهدي وخلى سبيلهم وبعث بداود بن روح إلى أبيه، وكان
عاملاً على البصرة، فمن عليه وأمره بتأديبه. وفيها: أخرج المهدي عبد
الصمد بن علي من حبسه، وعزل منصور بن يزيد بن منصور عن اليمن، واستعمل
مكانه عبد الله بن سليمان الربيعي. وفيها: أجدبت الأرض فخرجوا
للإستسقاء. أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي قال: أخبرنا علي بن المحسن
التنوخي، عن أبي عبيد الله محمد بن عمران قال: أخبرنا أبو بكر الجرجاني
قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري
قال: حدثنا الفضل بن الربيع قال: قحط الناس على المهدي سنة ست وستين
ومائة، فنادى في الناس أن تصوموا ثلاثة أيام وأخرجوا للإستسقاء في
اليوم الرابع، فخرجوا فسقوا، فقال لقيط بن بكر المحاربي:فقال: فابعث
إليهما وخذ هذا المال وامض معهما مصاحباً في ستر الله، موعدك في خروجك
من داري وقت كذا وكذا من الليل، فسمعت الجارية ذلك، فبعثت به مع خادم
لها إلى المهدي وقالت: هذا جزاؤك من الذي آثرته على نفسك، فبعث المهدي
من وقته فشحن تلك الطرق والمواضع برجال، فلم يلبث أن جاؤوه بالعلوي
وصاحبيه والمال، وأصبح يعقوب من غد ذلك اليوم، فإذا رسول المهدي
يستحضره، فدخل عليه، فقال: يا يعقوب ما فعل الرجل؟ فقال: يا أمير
المؤمنين، قد أراحك الله منه، قال: مات؟ قال: نعم، قال: والله، قال:
والله، قال: فقم فضع يدك على رأسي واحلف، ففعل، فقال: يا غلام أخرج
إلينا ما في هذا البيت، ففتح بابه عن العلوي وصاحبيه والمال بعينه
فأبلس يعقوب، فقال المهدي: لقد حل لي دمك لة آثرت إراقته، ولكن احبسوه،
ولا أذكر به، فحبسوه في مطمورة ثم أصيب فيها بصره، وطال شعره إلى أن
ولي الرشيد، فدعا به، فأدخل عليه، فقيل له: سلم على أمير المؤمنين
فسلم، فقال له: أي أمير المؤمنين أنا؟ فقال: المهدي، فقال: رحم الله
المهدي، فقال: فالهادي، فقال: رحم الله الهادي. قال: الرشيد. قال: نعم،
فما حاجتك؟ قال: المقام بمكة، فخرج إلى مكة فبقي قليلاً ثم مات. ولما
عزل المهدي يعقوب أمر بعزل أصحابه عن الولايات في الشرق والغرب، وأن
يأخذ أهل بيته وأن يحبسوا ففعل بهم ذلك. وفي هذه السنة: خرج موسى
الهادي إلى جرجان، وجعل على قضائه أبو يوسف بن يعقوب بن إبراهيم.
وفيها: تحول المهدي إلى عيساباذ فنزلها ونزل معه الناس، وضرب بها
الدنانير والدراهم. وفيها: أمر المهدي بإقامة إبل وبغال تكون بريداً
بين المدينة ومكة واليمن. وفيها: أخذ داود بن روح بن حاتم، وإسماعيل بن
سليمان بن مجالد، ومحمد بن أبي أيوب المكي، ومحمد بن طيفور في الزندقة،
فأقروا فاستتابهم المهدي وخلى سبيلهم وبعث بداود بن روح إلى أبيه، وكان
عاملاً على البصرة، فمن عليه وأمره بتأديبه. وفيها: أخرج المهدي عبد
الصمد بن علي من حبسه، وعزل منصور بن يزيد بن منصور عن اليمن، واستعمل
مكانه عبد الله بن سليمان الربيعي. وفيها: أجدبت الأرض فخرجوا
للإستسقاء. أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي قال: أخبرنا علي بن المحسن
التنوخي، عن أبي عبيد الله محمد بن عمران قال: أخبرنا أبو بكر الجرجاني
قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري
قال: حدثنا الفضل بن الربيع قال: قحط الناس على المهدي سنة ست وستين
ومائة، فنادى في الناس أن تصوموا ثلاثة أيام وأخرجوا للإستسقاء في
اليوم الرابع، فخرجوا فسقوا، فقال لقيط بن بكر المحاربي:
يا إمام
الهدى سقينا بك الغيث ... وزالت عنا بك اللأواء
أحسب الأرض إذ عزمت لتستسقي ... وجادت بالغيث منها السماء
بت تعني بالناس والناس نوام ... عليهم من الظلام غطاء
فسقينا وقد قحطنا وقلنا ... سنة قد تنكرت حمراء
بدعاء أخلصته في سواد الليل ... لله فاستجب الدعاء
بغيوث تحيا بها الأرض ... حتى أصبحت وهي زهرة خضراء
وفيها: حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد، وكان عامل الكوفة على
الصلاة و الأحداث روح بن حاتم، وعلى قضائها خالد بن طليق، وعلى كور
دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى
مولى أمير المؤمنين. وعلى خراسان وسجستان الفضل بن سليمان الطوسي، وعلى
مصر إبراهيم بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى طبرستان
والرويان وجرجان يحيى الحرشي، وعلى دنباوند وقومس مولى المهدي، وعلى
الري سعد مولاه أيضاً. وعزل المنصور يزيد بن منصور عن اليمن، واستعمل
مكانه عبيد الله بن سليمان. ولم يكن في هذه السنة صائفة لأجل الهدنة.
وما عرفنا أحداً من الأكابر توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة سبع وستين ومائة
فمن الحوادث فيها: توجيه المهدي ابنه موسى في جند كثيف إلى جرجان
للحرب. وفيها: جد المهدي في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق
وقتلهم، وولى أمرهم عمر الكلواذي، فأخذ يزيد بن الفيض كاتب المنصور،
فأقر فحبس فهرب من الحبس. أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر
أحمد بن علي بن ثابت قال: إتهم المهدي صالح بن عبد القدوس البصري
بالزندقة، فأمر بحمله إليه فأحضر، فلما خاطبه أعجب بغزارة علمه وأدبه
وحسن ثيابه فأمر بتخلية سبيله، فما ولي رده فقال: ألست القائل:
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يواري في ثري رمسه
إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذا الضنى عاد إلى نكسه
قال: بلى، قال: وأنت لا تترك أخلاقك، ونحن نحكم فيك بحكمك. ثم أمر به
فقتل وصلب على الجسر. قال ابن ثابت: وقيل إنه بلغه عنه أبيات يعرض فيها
بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: ويقال إنه كان مشهوراً بالزندقة وله
الهذيل العلاف مناظرات. وفيها: عزل المهدي أبا عبيد الله عن ديوان
الرسائل، وولاه الربيع الحاجب، واستخلف سعيد بن واقد عليه، وكان أبو
عبيد الله يدخل على مرتبته. وفيها: أمر المهدي بالزيادة في المسجد
الحرام، فدخلت فيه دور كثيرة، وولى بناء ما زيد فيه يقطين بن موسى، فلم
يزل في بنائه حتى توفي المهدي. وفيها: عزل يحيى الحرشي عن طبرستان
والرويان، وما كان إليه من تلك الناحية وولاها عمر بن العلاء، وولى
جرجان فراشة مولى المهدي. وفيها: أظلمت الدنيا ظلمة شديد لليالٍ بقين
من ذي الحجة حتى تعالى النهار فكشف الله تعالى ذلك. وأصاب الناس غير
مرة تراب أحمر يجدونه في فرشهم، وعلى وجوههم، وظهر سعال شديد، وفشا
الموت والوباء ببغداد والبصرة. وفيها: حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن
محمد وهو على المدينة، ثم توفي بعد فراغه من الحج، وقدومه المدينة
بأيام، وولي مكانه إسحاق بن عيسى بن علي، وكان العامل على مكة والطائف
عبيد الله بن قثم، وعلى اليمن سليمان ين يزيد الحارثي، وعلى اليمامة
عبيد الله بن مصعب الزبيري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها محمد بن سليمان.
وعلى قضائها عمر بن عثمان التيمي، وعلى كور دجلة وأعمال البصرة
والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى المهدي، وعلى
خراسان وسجستان الفضل بن سليمان الطوسي، وعلى مصر موسى بن مصعب، وعلى
إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى طبرستان والرويان عمرو بن العلاء، وعلى
جرجان ودنباوند وقومس فراشة، وعلى الري سعيد مولى المهدي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بشار بن برد، أبو معاذ الشاعر مولى عقيل. ولد أعمى، وكان يشبه الأشياء
في شعره، فيأتي بما لا يقدر البصراء عليه، فقيل له يوماً وقد قال:
كأن مثار النقع فوق رؤسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ما قال
أحد أحسن من هذا التشبيه، فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط؟ فقال: إن
عدم النظر يقوي ذكاء القلب، ويقطع عنه الشغل بما تنظر إليه من الأشياء،
فيتوفر حسه وتذكو قريحته. وكان الأصمعي يقول: بشار خاتمة الشعراء،
والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم. قال الجاحظ: كان بشار
شاعراً خطيباً صاحب منثور ومرواج وسجع ورسائل، وهو المقدم من الشعراء
المحدثين وهو بصري قدم بغداد. وقال أبو تمام الطائي: أشعر الناس
وأشبههم في الشعر كلاماً بعد الطبقة الأولى بشار، والسيد و أبو نواس،
ومسلم بن الوليد بعدهم. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قال بشار الشعر
ولم يبلغ عشر سنين، وقال ثلاثة عشر ألف بيت جيد، ولا يكون عدد شعر
الجاهلية والإسلام هذا العدد. قال: وكان بشار يهوى امرأة من أهل البصرة
يقال لها عبيدة، وخرجت عن البصرة مع زوجها إلى عمان فقال بشار:
هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت ... وأشهى لقلبي أن تهب جنوب
وما ذاك إلا أنها حين تنتهي ... تجيء وفيها من عبيدة طيب
عذيري من العذال يعذلونني ... شفاهاً وما في العاذلين لبي
يقولون لو عزيت قلبك لا رعوى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب
إذا انطلق القوم الجلوس فإنني ... مكبٌ كأني في الجميع غريب
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا علي بن أيوب القمي قال: أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال:
أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا محمد بن الحسن اليشكري قال: قيل لأبي
حاتم من أشعر الناس؟ قال: يقول:
ولها مبسم كثغر الأقاحي ... وحديث كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبة القلب ... وزادت زيادة المستزيد
عندها الصبر عن لقائي وعندي ... زفرات يأكلن صبر الجليد
يعني: بشاراً وكان يقدمه على جميع الناس. فبلغ المهدي أن بشاراً قد
هجاه، وشهد أنه زنديق، فأمر المهدي بضربه، فضرب ضرب التلف، فمات في هذه
السنة. وقيل: في سنة ثمان، وقد بلغ نيفاً وتسعين سنة.
جعفر بن زياد، أبو عبد الله وقيل: أبو عبد الرحمن الأحمر الكوفي: حدث
عن بيان بن بشر، ومنصور بن المعتمر، وأبي إسحاق الشيباني: روى عنه:
سفيان بن عبيدة، ووكيع وغيرهما. وكان قد خرج إلى خراسان فبلغ المنصور
عنه أمر يتعلق بالإمامة، وأنه ممن يرى رأي الرافضة، فوجه إليه من قبض
عليه، وحمله إلى بغداد وأودعه السجن دهراً طويلاً، ثم أطلقه. قال يحيى
بن معين: هو ثقة، وكان من الشيعة. توفي في هذه السنة، وقيل: في سنة خمس
وستين.
صالح بن عبد القدوس البصري له شعر حسن في الزهد. صلبه المهدي في
الزندقة. قال المؤلف: وقد ذكرنا حاله في الحوداث.
عبد الرحمن بن شريح بن عبيد الله أبو شريح المعافري روى عنه: ابن
المبارك، وابن وهب، وزيد بن الجباب، وكانت له عبادة وفضل. توفي في هذه
السنة بالإسكندرية.
عيسى بن موسى بن محمد علي بن عبد الله بن عباس كان أبو العباس السفاح
قد عهد عند موته إلى أخيه المنصور، ومن بعده إلى عيسى بن موسى، ومولد
عيسى سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة، فشرع المنصور بعد قتل محمد
وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن وكان قتلهما جميعاً على يد عيسى
بن موسى في تأخير عيسى، وتقديم المهدي في ولاية العهد، وذلك في سنة سبع
وأربعين ومائة، وجرت بينهما خطوب و مكاتبات وامتناع من عيسى، ثم أجابه
إلى ذلك، فأقر به وأشهد على نفسه، وخطب المنصور الناس وأعلمهم ما جرى
من تقديم المهدي
ورضي عيسى
بذلك وتكلم عيسى وسلم الأمر للمهدي، فبايع الناس للمهدي، ثم لعيسى من
بعده، فلما ولي المهدي طالب عيسى بخلع نفسه من ولاية العهد ألبتة
وتسليمه لموسى بن المهدي، وألح عليه إلحاحاً شديداً، وبذل له مالاً
عظيماً، وجرت في ذلك خطوب، إلى أن أقدمه من الكوفة إلى بغداد وتقرر
الأمر على أن يخلع نفسه ،ويسلم نفسه ،ويسلم الأمر لموسى ،ويدفع المهدي
إليه عشرة آلاف ألف ،وقيل: عشرين ألف ألف.وقد كان عيسى ذكر أن عليه
أيمانا " في أهله و ماله ،فأحضر المهدي من القضاة والفقهاء من أفتاه في
ذلك وعوضه المهدي وأرضاه فيما يلزمه من الحنث في ماله ورقيقه، فقبل
ذلك، ورضي به، وخلع نفسه في محرم سنة ستين ومائة، وبايع المهدي، ثم
لموسى بعده، وأقر بذلك على المنبر، ورجع إلى الكوفة، فتوفي بها لثلاث
بقين من ذي الحجة في هذه السنة، وصلى عليه ابنه العباس، وكان المهدي
واجداً عليه، ووالي على الكوفة يومئذٍ روح بن حاتم، فأشهد روح على
وفاته القاضي وجماعة من الوجوه، ثم دفن وله خمس وستون سنة، وولد له
واحد وثلاثون ذكراً وعشرون أنثى وورثه من الرجال ثلاثون رجلاً، ومن
النساء أربع عشرة امرأة.
عتبة بن أبان بن ضمعة وهو الذي يقال له: عتبة الغلام: وإنما سمي
بالغلام لجده واجتهاده لا لصغر سنه، وكان كثير التعبد والبكاء، خشن
العيش، وكان يشق الخوص، ويصوم الدهر، ويفطر على الخبز والملح. أخبرنا
عبد الوهاب الأنماطي قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: حدثنا علي
بن أحمد الملطي قالب: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال: أخبرنا ابن
صفوان قال: أخبرنا أبو بكر القرشي قال: حدثني محمد بن الحسين قال:
حدثنا عمار بن عثمان الحلبي قال: حدثنا سوار أبو عبيدة قال: بكى عتبة
الغلام في مجلس عبد الواحد بن زيد تسع سنين لا يفتر يبكي من حين يبدأ
عبد الواحد في الموعظة إلى أن يقوم، لا يكاد يفتر عنه، فقيل لعبد
الواحد: إن لا نفهم كلامك من بكاء عتبة الغلام، قال: وأصنع ماذا؟ يبكي
عتبة على نفسه وأنهاه أنا، لبئس واعظ قوم أنا. أخبرنا محمد بن أبي
القاسم قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم الأصبهاني قال:
حدثنا محمد بن حيان قال: حدثنا أحمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن
إبراهيم الدورقي قال: حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن قال: حدثني عبد
الخالق المعبدي قال: كان لعتبة بيت يتعبد فيه فلما خرج من الشام أقفله
وقال: لا تفتحوه إلا أن يبلغكم موتي، فلما بلغهم قتله، فتحوه فأصابوا
فيه قبراً محفوراً وغلاً من حديد.
ثم دخلت
سنة ثمان وستين ومائة
فمن الحوادث فيها: نقض الروم الصلح الذي جرى بينهم وبين هارون وقد تقدم
ذكره، وكان بين أول الصلح وبين أول الغدر اثنان وثلاثون شهراً، فوجه
علي بن سليمان وهو يومئذٍ على الجزيرة وقيس بن زيد بن المنذر بن البطال
سرية في خيل إلى الروم فظفروا وغنموا. وفيها: وجه المهدي سعيد الحرشي
إلى طبرستان في أربعين ألفاً. وفيها: قتل المهدي جماعة من الزنادقة
ببغداد. وفيها: ولى المهدي علي بن يقطين زمام الأزمة على عمر وابن
بزيع، وكان عمر أول من عمل ديوان الزمام في خلافة المهدي، وذلك: أنه
جمعت له الدواوين، ففكر فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون له على كل
ديوان فاتخذ دواوين الأزمة وولى كل ديوان رجلاً وكان واليه على ديوان
الخرج إسماعيل بن صبيح، ولم يكن لبني أمية دواوين أزمة. وفيها: حج
بالناس علي بن المهدي الذي يقال له ابن ريطة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أبو محمد
الهاشمي المدني
حدث عن
أبيه، وعن عكرمة، روى عنه: ابن إسحاق، ومالك وابن أبي ذئب وابن أبي
الزناد. وكان أحد الأجواد، وولاه المنصور خمس سنين، ثم غضب عليه فعزله
واستصفى كل شيء له وحبسه ببغداد فلم يزل محبوساً حتى مات المنصور،
فأخرجه المهدي عليه ما أخذ منه ولم يزل معه. أخبرنا أبو منصور القزاز
قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن زكريا
قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن يحيى العلوي قال: حدثنا جدي قال: حدثني
علي بن إبراهيم بن الحسن قال: حدثني عمي عبيد الله بن حسن وعبد الله بن
العباس بن محمد قلا: كان أول ما عرف به شرف الحسن بن زيد أن أباه توفي
وهو غلام وخلف ديناً أربعة آلاف دينار فحلف الحسن بن زيد أن لا يظل
رأسه سقف بيت إلا سقف مسجد أو سقف بيت رجل يكلمه في حاجة يقضي دين
أبيه، فلم يظل رأسه بيت حتى قضي دين أبيه. توفي الحسن بالحاجز على خمسة
أميال من المدينة وهو يريد مكة من العراق في هذه السنة وهو ابن خمس
وثمانين و صلى عليه المهدي. قال الناقل: وهذا الحسن هو أبو السيدة
نفيسة رضي الله عنها المدفونة في الديار المصرية.
حماد بن سلمة، أبو سلمة مولى لبني تميم، وهو ابن أخت حميد الطويل: كان
عالماً عابداً محاسباً لنفسه لا يضيع لحظة في غير طاعة. قال عبد الرحمن
بن محمد: لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل
شيئاً. وكان يبيع الثياب، فإذا ربح حبة أو حبتين نهض. أخبرنا المبارك
بن أحمد الأنصاري قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد السمرقندي قال: أخبرنا
أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا علي بن عبد الملك بن شبابة قال:
أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الرازي قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن
مهدي قال: حدثنا الحسن بن عمرو المروزي قال: حدثنا مقاتل بن صالح
الخرساني قال: دخلت على حماد بن سلمة فإذا ليس في بيته إلا حصير وهو
جالس عليه، ومصحف يقرأ فيه وجراب فيه علمه، ومطهرة يتوضأ فيها، فبينا
أنا عنده جالس دق داق الباب، فقال: يا صبية أخرجي فانظري من هذا؟
فقالت: رسول محمد بن سليمان، قال: قولي له يدخل وحده، فدخل فناوله
كتاباً فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن سليمان إلى حماد
بن سلمة أما بعد، فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، وقعت
مسألة، فإننا نسألك عنها والسلام. فقال: يا صبية هلمي الدواة، ثم قال
لي: اقلب الكتاب واكتب: أما بعد: وأنت فصبحك الله بما صبح به أولياءه
وأهل طاعته إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً، فإن كانت وقعت
مسألة فأتنا وسلنا على ما بدا لك، فإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك، ولا
تأتني بخيلك ورجلك، فلا أنصحك ولا أنصح نفسي والسلام. فبينا أنا عنده
دق الباب، فقال: يا صبية، أخرجي فانظري من هذا؟ فقالت: محمد بن سليمان،
قال: قولي له ليدخل وحده، فدخل فسلم ثم جلس بين يديه، فقال: ما لي إذا
نظرت إليك امتلأت رعباً، فقال حماد: سمعت ثابت البناني يقول: سمعت أنس
بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن العالم
إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكتنز به الكنوز
هاب من كل شيء " . فقال: أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت
علي. فقال: أرددها على من ظلمته بها، فقال: والله ما أعطيك إلا ما
ورثته، قال: لا حاجة لي فيها أزوها عني زوى الله عنك أوزارك، قال:
فنقسمها، قال: فلعلي إن عدلت في قسمتها أن يقول بعض من لم يرزق منها لم
يعدل، أزرها عني زوى الله عنك أوزارك. قال مؤلف الكتاب: أسند حماد بن
سلمة عن خلق كثير من التابعين. وتوفي في هذه السنة في المسجد وهو يصلي.
أخبرنا ابن ناصر، وعلي بن أبي عمر قالا: أخبرنا رزق الله وطراد قال:
أخبرنا علي بن محمد بن بشران قال: أخبرنا الحسين بن صفوان قال: أخبرنا
أبو بكر بن عبيد قال: حدثني أبو عبد الله التميمي، عن أبيه قال: رأيت
حماد بن سلمة في النوم، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: خيراً. قلت: فماذا؟
قال: قيل لي طال ما كدرت نفسك فاليوم أطيل راحتك وراحة المتعوبين في
الدنيا، بخ بخ ماذا أعددت لهم.
حماد عجرد
أخبرنا
القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: هو حماد بن عمر بن يونس بن
كليب، مولى لبني سوأة بن عامر بن صعصعة، يكنى أبا عمرو، وهو كوفي.
ويقال: واسطي، ويقال: إن أعرابياً، مر به وهو غلام، يلعب مع الصبيان في
يوم شديد البرد وهو عريان، فقال له: تعجردت يا غلام، فسمي عجرد،
والمتعجرد المتعري، وكان خليعاً ماجناً ظريفاً، ونادم الوليد بن يزيد
وهاجى بشار بن برد هو فحل الشعراء المجدين فانتصف منه، وكان بشار يضج
منه، وقدم بغداد في أيام المهدي. أخبرنا القزاز قال: اخبرنا الخطيب
قال: قرأت على الحسن بن علي الجوهري، عن محمد بن عمران المرزباني قال:
وجدت بخط محمد بن القاسم بن مهروية قال: أخبرنا أحمد بن إسماعيل
اليزيدي قال: حدثني علي بن الجعد قال: قدم علينا في أيام المهدي حماد
عجرد ومطيع بن إياس الكناني، ويحيى بن زياد، فنزلوا بالقرب منا، وكانوا
لا يطاقون خبثاً ومجانة. قال المرزباني: وأخبرني علي بن أبي عبد الله
الفارسي قال: أخبرني أبي قال: حدثني العنزي قال: حدثني عمر بن شبة قال:
كان مطيع بن إياس، وحماد عجرد، ويحيى بن زياد يقولون بالزندقة. زذكر
ابم قتيبة في " طبقات الشعراء " قال: كان بالكوفة ثلاثة يقال لهم
الحمادون: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد بن الزبرقان النحوي، وكانوا
يتعاشرون وكانوا كلهم يرمون بالزندقة، وحماد عجرد هو القائل:
إن الكريم لتخفى عنك عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
إذا تكرمت أن تعطي القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود
بيت النوال فلا يمنعك قلته ... فكل ما سد فقراً فهو محمود
روى حماد بن إسحاق عن أبيه قال: اجتمع حفص بن أبي بردة، وحماد عجرد،
وكان حفص أعمش أفطس، أغصف، مقبح الوجه، فإخذ حفص يطعن على مرقش ويعيب
شعره فقال حماد:
لقد كان في عينيك يا حفص شاغل ... وأنف كمثل العود عما تتبعه
تتبع لحناً في كلام مرقش ... وجهك مبني على اللحن أجمع
فأذناك إقواء وأنفك ؟؟ ... وعيناك إيطاء فأنت مرقع
عمر الكلوذاني الذي ولي على قتل الزنادقة. قتل في هذه السنة، فولي
مكانه حمدويه، وهو محمد بن عيسى من أهل ميسان.
عبيد الله بن الحسن بن الحصين بن أبي الحر العنبري
قاضي
البصرة، سمع داود بن أبي هند، وخالد الحذاء، وسعيد الجريري، روى عنه:
ابن مهدي، وكان فقيهاً ثقة، وولي القضاء سنة ست وخمسين بعد سوار بن عبد
الله العنبري. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن
ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال:
حدثنا عبد الواحد بن محمد الخصيبي قال: حدثني أبو عيسى بن حمدون قال:
حدثني أبو سهل الرازي قال: لم يشرك في القضاء بين أحد قط إلا بين عبيد
الله بن الحسن وبين عمر بن عامر على قضاء البصرة، فكانا يجتمعان في
المجلس وينظران جميعاً بين الناس. قال: فقدم إليهما قوم في جارية لا
تنبت، فقال فيها عمر بن عامر: هذه فضيلة في الجسم، وقال عبيد الله بن
الحسن: كل ما خالف ما عليه الخلقة فهو عيب. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد
قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا العتيقي قال: حدثنا محمد
بن العباس قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال: حدثنا الحسين بن الحسن
المروزي قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: كنا في جنازة فيها عبيد
الله بن الحسن وهو على القضاء، فلما وضع السرير جلس وجلس الناس حوله،
فسأله عن مسألة فغلط فيها، فقلت: أصلحك الله القول في هذه المسألة كذا
وكذا، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه فقال: إذن أرجع وأنا صاغر، إذن ارجع
وأنا صاغر، لأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في
الباطل. أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثني
الخلال قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدثنا الحسن بن محمد
بن سعدان قال: حدثني سليمان بن يزيد قال: حدثني أبو علي إسماعيل بن
إبراهيم القرشي قال: حدثنا أصحابنا أن المهدي كتب إلى عبيد الله بن
الحسن وهو قاضي البصرة كتاباً فقرأه عبيد الله بن الحسن فرده، فحمل
عبيد الله إلى المهدي فعاتبه، فكان فيما عاتبه فيه أن قال له: رددت
كتابي. فقال له: عبيد الله: يا أمير المؤمنين إني لم أرد كتابك، ولكنه
كان ملحوناً. فصدق المهدي مقالته وأجازه، ورده إلى عمله. توفي عبيد
الله في ذي القعدة في هذه السنة وقيل توفي سنة ثمان وسبعين.
غوث بن سليمان بن زياد بن ربيعة بن نعيم أبو يحيى الحضرمي
ولد سنة
أربع وتسعين، وولي القضاء بمصر ثلاث مرات في أيام المنصور و المهدي.
روى عنه: ابن وهب، والواقدي، وآخر من حدث عنه بالعراق أبو الوليد
الطيالسي. أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا أبو القاسم وأبو
عمرو قالا: أخبرنا أبو عبيد الله بن منده وهو والداهما قال: حدثنا أبو
سعيد بن يونس الحافظ قال: حدثني عاصم بن زارح قال: حدثنا بشير بن عبد
الواحد قال: سمعت أبي يقول: سمعت غوث بن سليمان يقول: بعث إلي أمير
المؤمنين أبو جعفر المنصور، فحملت إليه، فقال: لي: يا غوث، إن صاحبتكم
الحميرية خاصمتني إليك في شروطها، قلت: أفيرضى أمير المؤمنين أن يحكمني
عليه قال: نعم، قلت: فالحكم له شروط فيحملها أمير المؤمنين قال: نعم،
قلت: يأمرها أمير المؤمنين أن توكل وكيلاً ويشهد على وكالته خادمين
خيرين يعدلهما أمير المؤمنين على نفسه ففعل، فوكلت خادماً، وبعثت معه
بكتاب صدقها وشهد الخادمان على توكيلها، فقلت له: تمت الوكالة، فإن رأى
أمير المؤمنين أن يساوي الخصم في مجلسه فليفعل، فانحط عن فرشه وجلس مع
الخصم، فدفع إلى الوكيل كتاب الصداق فقرأته عليه، فقلت: أيقرأ أمير
المؤمنين بما فيه؟ قال: نعم، قلت: أرى في الكتاب شروطاً مؤكدة بها تم
النكاح بينكما أرأيت يا أمير المؤمنين لو إنك خطبت إليها ولم تشرط لها
هذا الشرط أكانت تزوجتك؟ قال: لا، قلت: فبهذا الشرط تم النكاح، وأنت
أحق من وفى لها بشروطها قال: قد علمت إذ أجلستني هذا المجلس انك ستحكم
علي. قلت: أعظم جائزتي وأطلق سبيلي يا أمير المؤمنين. قال: بل جائزتك
على من قضيت له، وأمر لي بجائزة وخلعة، وأمرني أن أحكم بين أهل الكوفة
فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس البلد بلدي، ولا معرفة لي بأهله. قال: لا
بد من ذلك. قلت: يا أمير المؤمنين، فأنا أحكم بينهم فإذا أنا ناديت من
له حاجة بخصومة ولم يأت أحد تأذن لي بالرجوع إلى بلدي؟ قال: نعم. قال:
فجلست فحكمت بينهم، ثم انقطع الخصوم فناديت الخصوم، فلم يأت أحد، فرحلت
من وقتي إلى مصر. قال أبو سعيد: وحدثنا علي بن الحسن بن فرقد قال:
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم قال: حدثنا حماد بن الميسور أبو
رجاء قال: قدمت امرأة من الريف في محفة وغوث قاضي مصر إذ ذاك، فوافت
غوث بن سليمان عند السراجين رائحاً إلى المسجد، فشكت إليه أمرها
وأخبرته بحاجتها، فنزل عن دابته في بعض حوانيت السرجين، ولم يبلغ
المسجد، فكتب لها بحاجتها وركب إلى المسجد، فانصرفت المرأة وهي تقول:
أصابت والله أمك حين سمتك غوثاً أنت والله غوث توفي في جمادى الآخرة من
هذه السنة.
قيس بن الربيع، أبو محمد الأسدي من ولد الحارث بن قيس: الذي أسلم وعنده
تسع نسوة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره النبي صلى الله
عليه وسلم أن يمسك منهن أربعة ويفارق سائرهن. سمع قيس بم عمرو، وابن
مرة، ومحارب بم دثار، وهشام بن عروة في آخرين. روى عن سفيان الثوري،
وشعبة، وابن المبارك، وأبو معاوية، وعفان وغيرهم. قال عفان: كان قيس
ثقة. وقال شريك: ما خلف بعده مثله. توفي في هذه السنة، وقيل: سنة خمس،
وقيل: سنة ست.
محمد بن عبد الله بن علاثة بن علقمة بن مالك أبو اليسير العقيلي حدث عن
هشام بن حسان، والأوزاعي، وغيرهما، وروى عنه ابن المبارك، ووكيع،
وغيرهم. وكان قاضياً بالجانب الشرقي ببغداد زمن المهدي. أخبرنا عبد
الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: قرأت في كتاب أبي الحسن بن الفرات
بخطه: أخبرني أخي أبو القاسم عبد الله بن العباس بن الفرات قال: أخبرني
علي بن سراج قال: محمد بن عبد الله بن علاثة يقال له: قاضي الجن وذلك
أن بئراً كانت بين حران وحصن مسلمة، فكان من شرب منها خبطته الجن، قال:
فوقف عليها، فقال: أيها الجن إنا قد قضينا بينكم وبين الإنس، فلهم
النهار، ولكم الليل. قال: فكان الرجل إذا استقى منها بالنهار لم يصبه
شيء. أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثنا أبو سعيد
محمد بن موسى الصيرفي قال: سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم يقول:
سمعت العباس بن محمد الدوري يقول سمعت يحيى بن معين يقول: محمد بن
علاثة ثقة. قال المصنف وقد روينا عن أبي الفتح الأزدي الحافظ أنه طعن
في ابن علاثة ولا يحفظ هذا عن غيره؛ إلا أن البخاري قال: في حفظه نظر.
توفي في هذه السنة.
محمد بن
ميمون، أبو حمزة السكري المروزي سمع أبا إسحاق السبيعي، وعبد الملك بن
عمير، ورقبة بن مصقلة، ومنصور بن المعتمر، والأعمش، وغيرهم. وكان من
أهل الفضل والفهم.
حدث عنة ابن المبارك وغيره.أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد
بن علي بن ثابت الخطيب قال: أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي قال: حدثنا
محمد بن العباس قال: أخبرنا أبو أيوب سليمان بن إسحاق الجلاب قال: سمعت
إبراهيم الحربي يقول: قال محمد بن علي بن الحسن: أراد جار لأبي حمزة
السكري أن يبيع داره،قال: فقيل له: بكم تبيعها؟ قال: بألفين ثمن الدار،
وألفين حق جوار أبي حمزة. قال: فبلغ ذلك أبا حمزة،فوجه إليه بأربعة
آلاف،وقال خذها ولا تبع دارك.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد علي قال: أخبرنا أبو حازم
العبدي قال: حدثنا أبو حامد الدهان قال: حدثنا خالي أحمد بن محمد بن
يحيى قال: أخبر نا أبو أيوب قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن حكيم قال:
حدثنا معاذ بن خالد قال: سمعت أبا حمزة السكري يقول: ما شبعت منذ
ثلاثين سنة إلا أن يكون لي ضيف. قال يحيى بن معين: كان أبو حمزة السكري
من ثقات الناس وكان إذا مرض عنده من قد رحل إليه ينظر إلى ما يحتاج
إليه من الكفاية فيأمر بالقيام به، واسمه محمد بن ميمون، ولم يكن يبيع
السكر، وإنما سمي السكري لحلاوة كلامه . روى الغلابي عن يحيى بن معين:
أن أبا حمزة كان إذا مرض الرجل من جيرانه تصدق بمثل نفقة لمريض بما صرف
عنه من العلة. قال البخاري: محمد بن ميمون مات سنة ثمان وستين حدثنيه
بشر بن محمد. قال مؤلف الكتاب: وقال غيره سنة تسع وستين.
مندل بن علي، أبو عبد الله العنزي حدث عن أبي إسحاق الشيناني، وعاصم،
والأعمش، وغيرهم، وقيل: إن اسمه عمرو، ولقبه مندل، إلا أنه غلب عليه.
قال يحيى: مندل لا بأس به، وقال مرة: ضعيف. وقال يعقوب بن شيبة: كان
رجلاً فاضلاً صدوقاً، وهو ضعيف الحديث. توفي في رمضان هذه السنة وقيل:
في سنة سبع.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال حدثنا الدسكري
قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن المقرئ قال حدثنا محمد بن علي بن مخلد
قال: حدثنا إسماعيل بن عمروا قال: قال معاذ بن معاذ: دخلت الكوفة فلم
أر أحداً أروع من مندل بن علي.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو القاسم الأزهري
قال: حدثنا محمد بن الحسين بن العباس قال: حدثنا محمد بن القاسم
الأنباري قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الله بن عمرو الرزاق قال:
حدثنا أبو هشام قال: مرت جارية معها سلة فيها رطب بمندل بن علي ،
وأصحاب الحديث حوله،فوقفت تنظر وتسمع، فنظر إليها مندل، ففطن أن السلة
قد أهديت له، فقال: قدميها، فقدمتها، فقال لمن حوله: كلوا ما فيها
وانصرفت الجارية إلى سيدها وقد احتبست، فقال: ما أسرع ما جئت، فقالت:
وقفت أسمع من هذا الشيخ، فقال: قدمي السلة، ففعلت، فأكل الذين حوله ما
فيها. وكان سيدها رجلاً من العرب فقال لها: أنت حرة لوجه الله عز وجل .
ثم دخلت
سنة تسع وستين ومائة
فمن الحوادث فيها خروج المهدي في المحرم إلى ما سبذان. وكان سبب خروجه:
أنه قد عزم في آخر عمره أن يقدم هارون على موسى، فبعث إلى موسى وهو
بجرجان بعض أهل بيته ليقطع أمر البيعة ويقدم الرشيد، فلم يفعل، فبعث
إليه المهدي بعض الموالي فامتنع موسى من القدوم عليه، وضرب الرسول،
فخرج المهدي يريده بجرجان فأصابه ما أصابه وولي الهادي. وفيها: توفي
المهدي باالله.
باب ذكر خلافة موسى الهادي
وهو موسى بن محمد المهدي بن المنصور، ويكنى أبا محمد، أمه: الخيرزان أم
ولد، وكان طويلاً جسيماً أبيض مشرباً حمرة، وفي شفته العليا تقلص، ولد
بالري، وكان يثب على الدابة وعليه درعان، وكان المهدي يسميه: ريحانتي.
ذكر بيعته
بويع
لموسى الهادي يوم توفي المهدي، وكان الهادي إذ ذاك بجرجان يحارب أهل
طبرستان، فاجتمع الموالي والقواد على هارون، وقالوا: إن علم الجند
بوفاته لم نأمن الشغب، والرأي أن تنادي في الجند بالقفول حتى نواريه
ببغداد، فقال هارون: ادعوا إلي أبي يحيى بن خالد، وكان المهدي قد ولى
هارون المغرب كله من الأنبار إلى إفريقية، فأمر يحيى بن خالد أن يتولى
ذلك، وكان بأعماله ودواوينه إلى أن توفي، فلما جاء يحيى قال له هارون:
يا أبت، ما تقول فيما يقول عمرو بن بزيغ ونصير والمفضل؟ قال: وما
قالوا؟ فأخبره،قال: ما أرى ذلك، قال: ولم؟ قال: لأن هذا لا يخفى، ولا
آمن إذا علم الجند أن يتعلقوا بمحمله ويقولون: لا نخليه حتى نعطى لثلاث
سنين وأكثر، ويتحكموا ويشتطوا، ولكن أرى أن يوارى هاهنا، وتوجه نصيراً
إلى أمير المؤمنين الهادي بالخاتم والقضيب والتعزية والتهنئة، فإن
البريد لا ينكر أحدً خروجه، وأن تأمر لمن معك من الجند بجوائز مائتين
مائتين، وتنادي فيهم بالقفول، فإنهم إذا قبضوا الدراهم لم يكن لهم همة
سوى أهاليهم وأوطانهم، فلما قبض الجند الدراهم قالوا: بغداد بغداد،
فلما وصلوا إلى بغداد وعلموا خبر الخليفة ساروا إلى منزل الربيع
فأخرجوه، وطالبوا بالأرزاق وضجوا، وقدم هارون بغداد، وأعطى الجند
لسنتين، فسكتوا. ووجه هارون الجنود إلى الأمصار ونعى لهم المهدي، وأخذ
بيعتهم للهادي، وله بولاية العهد، ولما بلغ الهادي وفاة المهدي نادى من
فوره بالرحيل، فلما وصل إلى مدينة السلام استقبله الناس، فوصل لعشر
بقين من صفر، فسار من جرجان إلى بغداد في عشرين يوما، فلما قدمها نزل
القصر الذي يسمى الخلد، وكان له جاريه حظية تحبه، فكتبت إليه وهو
بجرجان.
يا بعيد المحل أمسى بجرجان نازلاً في أبيات أخرى فلما دخل بغداد لم يكن
له هم سواها، فدخل فأقام عندها يومه وليلته قبل أن يظهر للناس. ثم ولى
الربيع الوزارة مكان عبيد الله بن زياد بن أبي ليلى، وضم إليه ما كان
عمر بن بزيع يتولاه من الزمام، وولى الفضل بن الربيع الحجابة، وولى
محمد بن جميل ديوان خراج العراق ، وولى ابن زياد خراج الشام وما يليه،
وأقر على حرسه علي بن عيسى بن ماهان، وضم إليه ديوان الجند، وولى شرطه
عبد الله بن مالك مكان عبد الله بن حازم، وأقر الخاتم بيد علي بن
يقطين، وولى أبا يوسف القضاء.
ذكر أولاده كان له جعفر وهو الذي يرشحه للخلافة، والعباس، وعبد الله،
وإسحاق، وإسماعيل، وسليمان، وموسى، ولد بعد موت أبيه، وكلهم لأمهات
أولاد، وكان له ابنتان: أم عيسى وكانت عند المأمون، وأم العباس.
طرف من سيرته وأخباره أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن
علي بن ثابت قال: حدثنا الأزهري قال: حدثنا سهل بن الديباجي قال: حدثنا
الصولي قال: حدثنا الغلابي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن التيمي قال:
حدثني المطلب بن عكاشة المزني قال: قدمنا على أمير المؤمنين شهوداً على
رجل منا شتم قريشاً، وتخطى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس لنا
مجلساً أحضر فيه فقهاء أهل زمانه، ومن كان بالحضرة على بابه، واحضر
الرجل وأحضرنا، فشهدنا عليه بم سمعنا منه، فتغير وجه الهادي ثم رفعه
فقال : إني سمعت أبي المهدي يحدث:عن أبيه المنصور، عن أبيه محمد بن
علي، عن أبيه علي بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عباس قال: من أراد
هوان قريش أهانه الله.وأنت ياعدو الله لم ترض بأن أردت ذلك من قريش حتى
تخطيت إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، اضربوا عنقه، فما برحنا
حتى قتل.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسين
بن الحسن النغالي قال: حدثنا العباس بن الفضل ، عن أبيه قال: غضب موسى
الهادي على رجل، فكلم فيه فرضي عنه، فذهب يعتذر، فقال له موسى: إن
الرضى قد كفاك مؤونة الاعتذار. أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن
علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن محمد بن عبد الواحد بن علي البزاز
قال: أخبرنا أبو سعيد السيرافي قال: حدثنا محمد بن أبي الأزهر النحوي
قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، عن جدي
عبد الله بن مصعب قال: دحل مروان بن أبي حفصة على الهادي فأنشده مديحاً
له، حتى إذا بلغ قوله:
تشابه يوماً بأسه ونواله ... فما أحد يدري لأيهما الفضل
فقال له
الهادي: أيما أحب إليك ثلاثون ألفاً معجلة أو مائة ألف تدور في
الدواوين؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنت تحسن ما هو أحسن من هذا، ولكنك
أنسيته، أفتأذن لي أن أذكرك؟ قال: نعم، قال: تعجل الثلاثون الألف،
وتدور المائة ألف. قال: بل تعجلان لك جميعاً، فحمل ذلك إليه. قال سعيد
بن سلم: سرنا مع الهادي بين أبيات جرجان، فسمع صوتاً من بعض تلك
البساتين من رجل يتغنى فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الساعة. فقلت: يا
أمير المؤمنين، ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بن عبد الملك، فإنه
كان في متنزه له ومعه حرمه، فسمع من بستان آخر صوت رجل يتغنى، فدعا
صاحب شرطته فقال: علي بصاحب هذا الصوت، فلما مثل بين يديه قال: ما حملك
على الغناء وأنت إلى جنبي ومعي حرمي! أما علمت أن الرماك إذا سمعت صوت
الفحل حنت؟ قال: فجب الرجل، فلما كان في العام المقبل ذهب سليمان إلى
ذلك المتنزه فجلس وذكر الرجل، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الذي
جببناه، فلما مثل بين يديه قال له: إما بعت فوفيناك، وإما وهبت
فكافأناك قال: فو الله ما دعاه بالخلافة، ولكنه قال: يا سليمان إنك
قطعت نسلي وذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت وإما بعت؟
لا والله حتى أقف بين يدي الله. قال: فقال موسى: يا غلام، رد صاحب
الشرطة، فرده، قال: لا تعرض للرجل.
قال علي بنى صالح: ركب الهادي يوماً يريد عيادة أمه الخيرزان من علة
كانت بها، فاعترضه عمر بن بزيع فقال: يا أمير المؤمنين ألا أدلك على
وجه هو أعود عليك من هذا؟ قال: وما هو يا عمر؟ قال: المظالم، لم تنظر
فيها منذ ثلاثة أيام، فأومأ إلى المطرقة أن يميلوا إلى دار المظالم،
وبعث إلى الخيرزان بخادم يعتذر من تخلفه ويقول: إن عمر أخبرنا من حق
الله عز وجل بما هو أوجب علينا من حقك، فملنا إليه ونحن عائدون إليك في
غد إن شاء الله تعالى.
وفيها: اشتدى طلب موسى للزنادقة، فقتل منهم جماعة، فكان فيمن قتل منهم
كاتب يقطين وابنه علي بن يقطين وكان علي قد حج فنظر إلى الناس في
الطواف يهرولون فقال: ما أشبههم ببقر يدوس في البيدر. فقال شاعر:
قل لأمين الله في خلقه ... ووارث الكعبة والمنبر
ماذا ترى في رجل كافر ... يشبه الكعبة بالبيدر
ويجعل الناس إذا ما سعوا ... حمراً يدوس البر والدوسر
فقتله موسى ثم صلبه، فسقطت خشبته على رجل من الحاج فقتلته وقتلت حماره،
وقتل من بني هاشم يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن
الحارث بن عبد المطلب، وكان المهدي أتي به وبابن لداود بن علي فحبسهما
لما أقرا له بالزندقة، وقال ليعقوب: لولا محمد رسول الله صلى الله عليه
وسلم من كنت! أما والله لولا إني كنت جعلت على الله عهداً إن ولاني أن
لا أقتل هاشمياً لما ناظرتك، ثم التفت إلى الهادي فقال: يا موسى، أقسمت
عليك بحقي إن وليت هذا الأمر من بعدي أن لا تناظرهما ساعة واحدة. فمات
ابن داود بن علي في الحبس قبل وفاة المهدي، فلما قدم الهادي من جرجان
ذكر وصية المهدي، فأرسل إلى يعقوب فألقى عليه فراشاً، وأقعدت عليه
الرجال حتى مات، ولها عنه، وكان الحر شديداً فقيل له: قد انتفخ، فقال:
ابعثوا به إلى أخيه إسحاق بن الفضل فأخبروه أنه مات في الحبس، فبعث
إليه، فإذا ليس فيه موضع للغسل، فدفن من ساعته.وكان ليعقوب ابنة تسمى
فاطمة، فوجدت حبلى منه، وأقرت بذلك، فأدخلت وامرأة يعقوب بن داود يقال
لها خديجة على الهادي أم على المهدي فأقرتا بالزندقة وأقرت فاطمة أنها
حبلى من أبيها، فأرسل بهما إلى ريطة بنت أبي العباس فرأتهما مكحاتين
مخضوبتين، فعذلتهما، خصوصاً البنت، فقالت: أكرهني فقالت لها: فما بال
الخضاب والكحل ولعنتهما، ففزعتا فماتتا.
وفي هذه
السنة: خرج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي
الله عنهم. وسبب ذلك: أن إسحاق بن عيسى بن علي كان على المدينة، فلما
استخلف الهادي وفد إليه واستخلف على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبد
الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي عنهم، فخرج الحسين بالمدينة،
وصعد المنبر وعليه قميص أبيض وعمامة بيضاء، فخطب وقال: أيها الناس أنا
ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرم الله وفي مسجد رسول الله صلى
الله عليه وسلم أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فإن لم أف لكم فلا
بيعة لي في أعناقكم. وجرت الحرب بينه وبين الولاة، ثم خرج إلى مكة،
فبعث الهادي محمد بن سليمان للحرب، فقتل الحسين وأصحابه، وجيء برأسه
إلى الهادي، وكان مبارك التركي قد كره حرب الحسين، وبعث إليه: والله
لئن أسقط من السماء أحب إلي من أن أشوكك بشوكة ولا بد من الاعتذار،
فخرج إليه في نفر يسير فانهزم، فغضب عليه الهادي، وأمر بقبض أمواله
وتصيره في ساسة الدواب، فلم يزل كذلك حتى مات الهادي. وجرت في هذه
السنة حادثة عجيبة: أخبرنا أحمد بن علي بن المحلى قال: أخبرنا أخي أبو
نصر هبة الله بن علي قال: أخبرنا أبو سعد محمد بن أحمد بن الحسن الحاسب
قال: حدثنا عبد العزيز أبو الحسن قلب: حدثنا أبو محمد بن علي بن عبد
الله الجوهري قال: حدثنا أبو الحسن الدمشقي قال: حدثنا الزبير قلب:
حدثني الحسن بن هانئ أبو نواس قال: حدثني أبو عمرو الأعجمي صاحب خبر
السند أيام المنصور ثم ولاه ما استخلف قال: فكتب في خبره أن رجلاً من
أشراف أهل السند من آل المهلب بن أبي صفرة اشترى غلاماً أسود وهو صغير،
فرباه وتبناه، فلما اشتد الغلام هوي مولاته، وراودها عن نفسها فأجابته،
فدخل مولاه يوماً على غرة منه فإذا هو على بطن امرأته فعمد إليه فجب
ذكره، وتركه يتشحط في دمه، ثم أنه أدركته عليه رقة وتخوف من فعله به،
فعالجه إلى أن أبل من علته، فأقام بعد هذه الحادثة حيناً يطلب غرة
مولاه ليثأر منه ويدبر عليه أمراً يكون فته شفاء قلبه وكان لمولاه
ابنان، أحدهما طفل والآخر يافع، فغاب الرجل عن منزله في بعض أموره،
فأخذ الأسود الصبيين فصعد بهما ذروة سطح عال فنصبهما هناك وجعل يعللهما
بالمطعم وباللعب، إلى أن دخل مولاه فرفع رأسه، فإذا بابنيه في شاهق
والغلام، فقال: ويلك يا فلان عرضت ابني للموت، قال: أجل قد ترى
موضعهما، فوالله الذي تحلف به لأن لم تجب نفسك كما جببتني لأرمين بهما.
فقال: ويلك الله الله في وفي بني، قال: دع عنك هذا، فوالله ما هي إلا
نفسي وإني لأسمح بها من شربة ماء أسقاها، فجعل يكرر ذلك عليه ويأبى،
فذهب ليروم الصعود إليه فأهوى بهما ليرديهما من ذروة ذلك الشاهق، فقال
أبوهما: ويلك اصبر حتى أخرج مدية، قال: افعل ما أردت، فأخذ مدية
واستقبله ليرى ما يصنع فرمى ذكره وهو يراه، فلما علم أنه قد فعل رمى
بالصبيين فتقطع الصبيان، وقال: هذا الذي فعلت ثأري، وهذا زيادة فيه،
فأخذ الأسود وكتب بخبره، فكتب موسى إلى صاحب السند بقتل الغلام، وقال:
ما سمعت بأعجب من هذا، وأمر أن يخرج من ملكه وملك نسائه كل أسود.
وفيها: حج بالناس في هذه السنة سليمان بن المنصور. وكان على المدينة
عمر بن عبد العزيز العمري، وكان على مكة والطائف عبيد الله بن قثم،
وعلى اليمن إبراهيم بن سلم بن قتيبة، وعلى اليمامة والبحرين سويد بن
أبي سويد الخراساني، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها موسى بن عيسى، وعلى
صلاة البصرة وأحداثها محمد بن سليمان، وعلى قضائها عمر بن عثمان، وعلى
جرجان الحجاج مولى الهادي، وعلى قومس زياد بن حسان، وعلى طبرستان
والرويان صالح بن شيخ ابن أبي عميرة الأسدي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن الخليل بن مرة
كان كثير
التعبد طويل البكاء. أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد قال:
أخبرنا أبو الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم قال: حدثنا أبو بكر أحمد
بن إبراهيم بن شاذان قال: حدثنا أبو أيوب سليمان بن أحمد بن يحيى
البصري قال: حدثنا الحسين بن محمد بن بادا قال: حدثنا عبد الله بن صالح
قال: ما رأيت بمصر من أفضله على الحسن بن الخليل في زهده وورعه، ولقد
رأيته يحمل دقيقاً في جراب للناس بأجرة، يتقوت في كل جمعة بحمل يوم، ثم
زاد أمره فلم يكن يدخر لوقت ثاني، وعليه مدرعة قيمتها أقل من درهم،
وأجمع أهل مصر أنه مستجاب الدعوة. أخبرنا إسماعيل بن محمد الأنصاري
قال: أخبرنا علي بن أيوب قال: أخبرنا الحسن بن محمد الخلال قال: حدثنا
محمد بن إبراهيم قال: حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا الحسين بن محمد
بن بادا قال: أخبرنا عبد الله بن صالح قال حدثني موسى بن هارون قال:
رأيت الحسن بن الخليل مرة بعرفات فكلمته ثم رأيته يطوف بالبيت، فقلت:
ادع الله لي أن يتقبل حجي، فبكى ودعا لي، ثم أتيت مصر، فقلت: إن الحسن
بن الخليل كان معنا بمكة، فقالوا: ما حج العام، وقد كان يبلغني أنه يمر
إلى مكة في ليلة فما كنت أصدق حتى رأيته فعاتبني وقال: شهرتني، ما كنت
أحب أن تحدث بهذا، فلا تعد بحقي عليك.
الحسن بن صالح بن حي ولد هو وأخوه علي توأم سنة مائة، فكانا وأمهما
يقومون الليل كله على الثلث ويقرأ ثلث القرآن، ثم ينام ويقوم الحسن
الثلث، فماتت أمهما فحزبا الليل بينهما، ثم مات علي فقام الحسن به كله،
وكان يختم كل ليلة. وباع الحسن جارية فقال: أخبروهم أنها تنخمت عندنا
مرة دماً. أخبرنا عبد الخالق بن أحمد قال: أخبرنا المبارك بن عبد
الجبار قال: أخبرنا محمد ابن علي بن الفتح قال: أخبرنا أبو الحسين ابن
أخي ميمي قال: حدثنا ابن صفوان قال: حدثنا أبو بكر القرشي قال: حدثنا
أبي قال: أخبرني سليمان بن إدريس المنقري قال: اشتهى الحسن أخي سمكاً،
فلما أتي به ضرب بيده إلى سرة السمكة فاضطربت يده، فأمر به فرفع، ولم
يأكل شيئاً، فقيل له في ذلك، فقال: إني ذكرت لما ضربت بيدي إلى بطنها
أن أول ماينتن من الإنسان بطنه، فلم أقدر أن أذوقه. أخبرنا إسماعيل بن
أحمد قال: اخبرنا محمد بن هبة الله الطبري قال: أخبرنا علي بن محمد بن
بشران قال: أخبرنا ابن صفوان قال: حدثنا أبو بكر بن عبيد قال: حدثني
محمد ابن الحسين قال: حدثني عبد الله بن صالح قال حدثني خلف بن تميم أن
حسن بن صالح كان يصلي إلى السحر، ثم يجلس يبكي في مصلأ، ويجلس علي
فيبكي في حجرته، قال: وكانت أمهم تبكي الليل و النهار، قال: فماتت ثم
مات علي، ثم مات حسن، فرأيت حسناً في منامي، فقلت: ما فعلت الوالدة؟
قال: بدلت بطول ذلك البكاء سرور الأبد، قلت: وعلي؟ قال: وعلي على خير.
قلت: فأنت فمضى وهو يقول: وهل يتكل إلا على عفوه. توفي الحسن في هذه
السنة.
خالد بن حميد بن خالد، أبو حميد النهري. روى عن قيس بن الحجاج،وحميد بن
هاني، حدث عنه ابن وهب وغيره،وآخر من حدث عنه بمصر روح بن صلاح
المرادي.وتوفي بالإسكندرية في هذه السنة.
عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر أبو أويس المديني
الأصبحي كان زوج أخت مالك بن أنس، وابن بن عمه لحاً، قدم بغداد وحدث
بها عن الزهري، ومحمد بن المنكدر، وأبي الزناد، وهشام بن عروة. روى عنه
ابناه أبو بكر،وإسماعيل، وشبابة، والقعبني. وثقه يحيى، في رواية وضعفه
في أخرى، وقال أحمد: هو صالح. وقال النسائي: ليس بالقوي. قال أبو نعيم:
قدم علينا وإذا معه جوار يضربن يعني القيان قال: فقلت لا والله لا أسمع
منه شيئاً.
عثمان بن طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي. من أهل مدينة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولاه بعض أمراء المدينة القضاء على إكراه،
فلم يأخذ عليه رزقاً. وكان محمود السيرة جميل الذكر. روى عن محمد بن
المنكدر، فلما قدم المهدي المدنية استعفاه من القضاء، وجرت له في ذلك
قصة قد ذكرناها في سنة ستين فأعفاه.
عقبة بن أبي الصهباء، أبو خريم مولى باهلة البصري، سمع سالم بن عبد
الله، وبكر المزني، والحسن، وابن سيرين، وروى عنه يزيد بن هارون، وكن
ثقة، انتقل عن البصرة فنزل المدائن، ثم دخل إلى مدينة السلام بغداد.
وتوفي في هذه السنة ببغداد.
محمد
المهدي بن عبد الله المنصور رأى مناماً قبل وفاته يدل عليها. أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو
الحسين بن علي بن محمد بن المعدل قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق
قال: حدثنا محمد بن أحمد بن البراء قال: قال لي علي بن يقطين: خرجنا مع
المهدي فقال لنا يوماً: إني داخل البهو فنائم فيه فلا يوقظني أحد حتى
أستيقظ، قال: فنام ونمنا، فما أنبهنا إلا بكاؤه، فقمنا فزعين، فقلنا:
ما شأنك يا أمير المؤمنين، فقال: أتاني الساعة آت في منامي، شيخ والله
لو كان في مائة ألف شيخ لعرفته، فأخذ بعضادتي الباب وهو يقول:
كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ركنه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله
ولم يبق إلا ذكره وحديثه ... تنادي عليه بالعويل حلائله
واختلفوا في سبب وفاته على قولين: أحدهما: رواه واضح قهرمان المهدي
قال: خرج المهدي يتصيد بقرية من قرى ماسبذان فلم أزل معه إلى بعد العصر
وانصرفت إلى مضربي، وكان بعيداً من مضربه، فلما كان وقت السحر ركبت
لإقامة وظائف ولقيني أسود عريان، فدنى مني، ثم قال: أبا سهل، أعظم الله
أجرك في مولاك أمير المؤمنين. فدخلت فإذا به مسجى في قبة. فقلت:
فارقتكم بعد صلاة العصر وهو أسر ما كان حالاً وأصحه بدناً، فما كان
الخبر؟ فقالوا اطردت الكلاب ظبياً فما زال يتبعها فاقتحم الظبي باب
خربة فاقتحمت الكلاب خلفه واقتحم الفرس خلف الكلاب، فدق ظهره باب
الخربة فمات من ساعته.
القول الثاني: ذكره أبو نعيم المروزي قال: بعثت جارية من جواري المهدي
إلى ضرة لها لبناً فيه سم وهو قاعد في البستان بعد خروجه من عيساباد،
فدعا به فأكل، ففرقت الجارية أن تقول إنه مسموم. وروى أحمد بن محمد
الرازي: أن المهدي كان جالساً في علية القصر بما سبذان، وكانت جاريته
حسنة قد عمدت إلى كمثرى فجعلته في صينية وسمت واحدة هي أحسنه وأنضجه،
وردت القمع عليها ووضعتها في أعلى الصينية، وأرسلت بذلك مع وصيفة لها
إلى جارية المهدي وكانت حظية عنده تريد قتلها، فمرت الوصيفة بالصينية،
فرآها المهدي، فدعاها فمد يده فأخذ الكمثرية التي في أعلى الصينية وهي
المسمومة فأكلها فصرخ: جوفي. فأخبرت حسنة الخبر، فجاءت تلطم وجهها
وتبكي وتقول: أردت أن أنفرد بك فقتلك، فهلك من يومه فجعلت حسنة على
قبتها المسوح فقال أبو العتاهية في ذلك:
رحنا في الوشي وأص ... بنا عليهن المسوح
كل نطاح من الده ... ر له يوم نطوح
لست بالباقي ولو ... عمرت ما عمر النوح
فعلى نفسك نح إن ... كنت لابد تنوح
توفي المهدي بقرية يقال لها الرذ من ماسبذان في ليلة الخميس لثمان بقين
من المحرم، سنة تسع وستين، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، ولم توجد له
جنازة يحمل عليها، فحمل على باب، وصلى عليه ابنه هارون، ودفن تحت جوزة
كان يجلس تحتها في المكان الذي قبض فيه وكانت خلافته عشر سنين وشهر
ونصف شهر، وقيل: عشر سنين وتسعة وأربعين يوماً.
نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ المديني ويكنى أبا نعيم. وقيل:
أبا رويم، وقيل: أبا عبد الرحمن، وقيل: أبا الحسن وهو مولى جعونة بن
شعوب الليثي حليف حمزة بن عبد المطلب وأصله من أصبهان. سمع من نافع
مولى عمر، وعامر بن عبد الله بن الزبير. قال الليث بن سعد: قدمت
المدينة سنة عشر ومائة فوجدت نافعاً إمام الناس في القراءة لا ينازع.
توفي في هذه السنة، وقيل: سنة تسع وخمسين وأقرأ من مائة سنة.
ثم دخلت
سنة سبعين ومائة
فمن الحوادث فيها وفاة الهادي واستخلاف أخيه الرشيد.
باب ذكر خلافة الرشيد
واسمه
هارون بن محمد المهدي، ويكنى أبا جعفر، وأمه الخيرزان، ولد بالري لثلاث
بقين من ذي الحجة سنة تسع وأربعين في خلافة المنصور. وقيل: ولد في يوم
من المحرم سنة خمسين ومائة . وكان الفضل بن يحيى البرمكي ولد قبله
بسبعة أيام، فجعلت أم الفضل ظئراً له، وهي زينب بنت منير، فأرضعت
الرشيد بلبان الفضل وأرضعت الخيرزان الفضل بلبان الرشيد. وكان الرشيد
أبيض طويلاً سميناً جميلاً وسيماً جعداً ولم يمت وخطه الشيب. قال
الصولي: وكان به حول في فرد عين، لا يتبين إلا لمن تأمله. وسمع الحديث
من مالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد الزهري، وأكثر حديثه عن آبائه. روى
عنه: أبو يوسف القاضي، والشافعي، وكان يحب الحديث وأهله.
ذكر أزواجه تزوج زبيدة وهي أم جعفر بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور وأعرس
بها في سنة خمس وستين في خلافة المهدي ببغداد فولدت الأمين. وتزوج أمة
العزيز أم ولد موسى بعد موسى. وتزوج العباسة بنت سليمان بن المنصور
وأعرس بها في ذي الحجة سنة سبع وثمانين. وتزوج أم محمد بنت صالح، وأعرس
بها في الرقة في ذي الحجة أيضاً، وكانت أملكت من إبراهيم بن المهدي، ثم
خلعت منه فتزوجها الرشيد فحملتا جميعاً إليه. وتزوج عزيزة بنت الغطريف
وكانت قبله عند سليمان بن أبي جعفر فطلقها، فخلف عليها الرشيد. وتزوج
الجرشية العثمانية من أولاد عثمان بن عفان، وسميت الجرشية لأنها ولدت
بجرش باليمن. فمات الرشيد عن أربع مهائر، أم جعفر، وأم محمد، وعباسة،
والعثمانية.
ذكر أولاده محمد الأكبر وهو الأمين،أمه زبيدة، وعبد الله المأمون وأمه
أم ولد يقال لها مراجل، والقاسم وأمه أم ولد يقال لها قصف، ومحمد
المعتصم وأمه أم ولد يقال لها ماردة وعلي أمه أمة العزيز، وصالح أمه أم
ولد يقال لها رئم، ومحمد أبو عيسى أمه أم ولد يقال لها عرابة، ومحمد
أبو يعقوب أمه أم ولد يقال لها شذرة، ومحمد أبو العباس أمه أم ولد يقال
لها خبث، ومحمد أبو سليمان أمه أم ولد يقال لها رواح، ومحمد أبو علي
أمه أم ولد يقال لها دواج، وأبو محمد وهو اسمه ولقبه كريب،أمه أم ولد
يقال لها شجر، ومحمد أبو أحمد أمه أم ولد يقال لها كتمان أخبرنا عبد
الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو العلاء
الواصطي قال: قرأنا على الحسين بن هارون الضبي، عن أبي العباس بن سعيد
قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن أبي عرابة قال: أخبرنا محمد بن حبيب، عن
هشام بن محمد وغيره من أصحابه قال: أبو العباس، وأبو أحمد، وأبو إسحاق،
وأبو عيسى، وأبو يعقوب، وأبو أيوب بنو هارون الرشيد، وكل اسمه محمد،
وكان للرشيد من الإناث: سكينة وهي أخت القاسم من أمه، وأم حبيب وهي أخت
المعتصم لأمه. وأم الحسن وهي أخت أبي عيسى لأمه، وخديجة وهي أخت كريب
لأمه، وأم محمد وهي حمدونة، وفاطمة وأمها غصص، وأم سلمة وأمها رحيق،
وأم القاسم وأمها حزق، ورملة أم جعفر وأمها حلي، وأم علي وأمها أنيق،
والغالية وأمها سمندل، وريطة وأمها زينة.
ذكر بيعة الرشيد
بويع
للرشيد بالخلافة في الليلة التي توفي فيها أخوه الهادي أخرجه هرثمة بن
أعين ليلاً فأقعده للمبايعة، وكانت تلك الليلة ليلة السبت لأربع عشر
بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبعين. وفيها مات الهادي واستخلف الرشيد
وولد المأمون، فلما جلس للخلافة سلم عليه بالخلافة عمه سليمان بن
المنصور، وعم أبيه العباس بن محمد، وعم جده المنصور بن عبد الصمد بن
علي، واستدعى الرشيد يحيى بن خالد بن برمك وكان قد حبسه الهادي لميله
إلى هارون، وعزم على قتله وقتل هارون فحضر يحيى فقلده الوزارة، وكانت
الخيزران هي الناظرة في الأمور، فكان يحيى يعرض عليها ويصدر عن رأيها،
وكان الرشيد يقول ليحيى: يا أبي. وذكر الصولي: إنه كان يحيى يساير
الرشيد يوماً فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، عطبت دابتي، فقال: يعطى
خمسمائة درهم، فغمزه يحيى، فلما نزل قال: يا أبة، أومأت إلي بشيء وقت
ما أمرت بالدراهم فما هو؟ فقال: مثلك لا يجرى هذا المقدار على لسانه،
إنما يذكر مثلك خمسة آلاف ألف، عشرة آلاف ألف، قال:فإذا سئلت مثل هذا
كيف أقول، قال: تقول: نشتري له دابة يفعل به فعل نظرائه. ولما بويع
للرشيد خرج فوصل إلى كرسي الجسر فدعا الغواصين، فقال لهم: كان المهدي
وهب لي خاتماً شراؤه مائة ألف دينار، فدخلت على أخي وهو في يدي، فلما
انصرفت لحقني سليمان الأسود فقال: يأمرك أمير المؤمنين أن تعطيني
الخاتم، فرميت به في هذا الموضع. فغاصوا فأخرجوه، فسر به غاية السرور.
وكان الهادي قد خلع الرشيد وبايع لابنه جعفر، وكان خزيمة بن حازم في
خمسة آلاف من الموالي عليهم السلاح تلك الليلة، فهجم، فأخذ جعفر من
فراشه، فقال: والله لأضربن عنقك أو تخلعها، فلما كان من غد ركب الناس
إلى باب جعفر، فأتى به خزيمة فأقامه على باب الدار في العلو، والأبواب
مغلقة، فنادى جعفر: يا معشر الناس، من كان لي في عنقه بيعة فقد أحللته
منها والخلافة لعمي هارون، لا حق لي فيها. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد
قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الأزهري قال: أخبرنا أحمد بن
إبراهيم قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال: أخبرني أبو العباس
المنصوري، عن عمرو بن بحر قال: أجمع الرشيد ما لم يجمع لأحد من جد
وهزل: وزراؤه البرامكة لم ير مثلهم سخاء وسروراً، وقاضيه أبو يوسف،
وشاعره مروان بن أبي حفصة كان في عصره كجرير في عصره، ونديمه عم أبيه
العباس بن محمد صاحب العباسية، وحاجبه الفضل بن الربيع أتيه الناس
وأشدهم تعاظماً، ومغنيه إبراهيم الموصلي أوحد عصره، وضاربه زلزل،
وزامره برصوما،وزوجته أم جعفر أراغب الناس في خير، وأسرعهم إلى كل بر
ومعروف، ومن كبار قواده المعلى ولي البصرة وفارس والأهواز واليمامة
والبحرين وغير ذلك، وإليه ينسب نهر معلى.
ذكر طرف من وأخباره وسيرته كان الرشيد يحب العلم ويؤثره ويستفيده، فنال
علماً كثيراً، وكانت له فطنة قوية. أخبرنا أبو منصور القزاز قال:
أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال:أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري
قال: حدثنا المعافى قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن
الأصمعي قال:دخلت على هارون الرشيد ومجلسه حافل، فقال: يا أصمعي ما
أغفلك عنا، وأجفاك لحضرتنا؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما ألاقتني
بلاد بعدك حتى أتيتك. فأمرني بالجلوس فجلست، فلما تفرق الناس إلا أقلهم
نهضت للقيام، فأشار إلي أن اجلس، فجلست حتى خلى المجلس، فلم يبق غيري
وغيره ومن بين يديه من الغلمان، فقال لي: يا أبا سعيد : ما ألاقتني؟
قلت: ما امسكتني، وأنشدته:
كفاك كف لا تليق درهماً جوداً ... وأخرى تعط بالسيف الدما
فقال لي: أحسنت، وهكذا فكن وقرنا في الملأ، وعلمنا في الخلاء، فأمر لي
بخمسة آلاف درهم. وفي رواية دينار.
قال الأصمعي: وتأخرت عن الرشيد ثم جئته، فقال: كيف كنت يا أصمعي؟ قلت:
بت والله بليلة النابغة فقال: إنا لله هو والله قوله:
فعجبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
فعجبت من ذكائه وفطنته لما قصدت.
وقال أبو سعيد بن مسلم: كان فهم الرشيد فوق فهم العلماء. أنشده العماني
في وصفة فرس بيت:
كأن أذنيه إذا تشرفا ... قادمة أو قلما محرفا
فقال الرشيد: دع كأن، وقل: تخال أذنيه.
وكان الرشيد يتواضع لأهل العلم والدين.
أنبأنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو العلاء
الواسطي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد المزني قال: أخبرنا أبو طاهر عبد
الله بن محمد بن مرة قال: حدثنا حسن الأزدي قال: سمعت علي المديني
يقول: سمعت أيا معاوية يقول: أكلت مع الرشيد طعاماً يوماً من الأيام
فسب على يدي رجل لا اعرفه، فقال هارون: يا أبا معاوية تدري من يصب
عليك؟ قلت: لا، قال: أنا قلت: أنت يا أمير المؤمنين، قال: نعم إجلالاً
للعلم.
أخبرنا يحيى بن علي المدبر قال: أخبرنا أبو جعفر بن ابن المسلمة قال:
أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم
الكوكبي قال: حدثنا إبراهيم بن الجنيد قال: سمعت علي بن عبد الله يعني
ابن المديني قال: قال أبو معاوية الضرير: حدثت الرشيد بهذا الحديث يعني
قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ودتت إني أقتل في سبيل الله ثم أحيا
ثم أقتل " فبكى هارون حتى انتحب، ثم قال: يا أبا معاوية ترى لي أن
أغزو؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، مكانك في الإسلام أكبر، ومقامك أعظم،
ولكن ترسل الجيوش، قال أبو معاوية: وما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم
على سيدي.
وكان الرشيد معظماً للسنة شديد النفور من البدع.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل العطار قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر
درستويه قال: حدثنا يعقوب بن سفيان قال: سمعت علي بن المديني يقول: قال
محمد بن حازم: كنت أقرأ حديث الأعمش عن أبي صالح على أمير المؤمنين
هارون، فكلما قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلى الله على
سيدي ومولاي، حتى ذكرت التقاء آدم وموسى فقال عمه: يا محمد، أين
التقيا؟ فغضب هارون الرشيد وقال: من طرح إليك هذا؟ وأمر به فحبس، فدخلت
إليه في حبسه فقال: يا محمد، والله ما هو إلا شيئاً خطر ببالي، وحلف لي
بالعتق وصدقة المال، وغير ذلك من معضلات الأيمان ما سمعته من أحد ولا
يجري ولا جرى بيني وبين أحد فيه كلام. قال: فكلمته فيه فأمر به فأطلق
من الحبس، وقال لي: يا محمد، ويحك، إنما توهمت أنه طرح إليه بعض
الملحدين بهذا الكلام فأردت أن يدلني عليهم فأستفتحهم وإلا فأنا على
يقين أن القرشي لا يتزندق.
وكان الرشيد إذا عرف الصواب رجع إليه سريعاً.
أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو عمر الحسن بن عثمان الواعظ قال:
حدثنا جعفر بن محمد بن أحمد الواسطي قال: حدثنا أبو الطيب النعمان بن
أحمد القاضي قال: حدثنا أحمد بن زكريا بن سفيان قال سمعت أصحابنا
يقولون: قال أبو معاوية: دخلت على هارون الرشيد فقال لي: يا أبا
معاوية، لهممت أنه من تثبت خلافته علي فعلت به وفعلت به . فسكت، فقال
لي: تكلم تكلم . فقلت: إن أذنت لي تكلمت. فقال: تكلم، قلت: يا أمير
المؤمنين، قالت تيم منا خليفة رسول الله، وقالت عدي: منا خليفة رسول
الله، وقالت بنو أمية، منا خليفة الخلفاء، فأين حظكم يا بني هاشم من
الخلافة؟ والله ما حظكم فيها إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال:
والله يا أب معاوية لا يبلغني أن أحداً لم يثبت خلافة علي إلا فعلت به
كذا وكذا.
وكان الرشيد يستقبح المدح بالكذب ويذم المادح به. قال يوماً لبعض
ولاته: كيف تركت الناس؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أحسنت فيهم السيرة
وأنسيتهم سيرة العمرين. فغضب الرشيد واستشاط وقال: ويلك يا ابن
الفاعلة، العمرين العمرين، وأخذ سفرجلة فرماه بها فكادت تهلكه، وأخرج
من بين يديه.
وكان الرشيد يكثر الحج والغزو واتخذ قلنسوة مكتوب عليها: غازٍ حاجٍ.
قال ابن البراء: كان يحج سنة وغزو سنة، حج بالناس ست مرات، فقال داود
بن رزين :
بهارون لاح البدر في كل بلدة ... وقام به عدل سيرته النهج
إمام بذات الله أصبح شغله ... وأكثر ما يعنى به الغزو والحج
تضيق عيون الناس عن نور وجهه ... إذا ما بدا للناس منظره البلج
وإن أمين الله هارون بالندى ... ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو.
وقال أبو المعلى الكلابي:
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدو علي طمر ... وفي أرض البنية فوق كور
وألح عليه
في بعض غزواته الثلج، فقال بعض أصحابه: أما ترى يا أمير المؤمنين ما
نحن فيه من الجهد والرعية وادعة فقال له: أسكت، على الرعية المنام،
وعلينا القيام، ولا بد للراعي من حراسته رعيته. فقال بعض الشعراء في
ذلك:
غضبت لغضبتك القواطع والقنا ... لما نهضت لنصرة الإسلام
ناموا إلى كنف بعدلك واسع ... وسهرت تحرس غفلة النوام
وكان الرشيد إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج
ثلاثماية رجل بالنفقة التامة والكسوة الطاهرة، وكان يصلي كل يوم مائة
ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله
في كل يوم ألف درهم بعد زكاتها، وكان يقتفي أخلاق المنصور ويطلب العمل
بها، إلا في بذل المال، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك،
وكان يميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، ويحب الشعر
والشعراء، والمدح ولا سيما من شاعر فصيح، فدخل عليه يوماً مروان بن أبي
حفصة فأنشده من قصيدة له:
وسدت بهارون الثغور فأحكمت ... به من أمور المسلمين المرائر
وما انفك معقوداً بنصرٍ لواؤه ... له عسكر عنه تشظى العساكر
فكل ملوك الروم أعطاه جزيةً ... على الرغم قسراً عن يد وهو صاغر
إلى وجهه تسمو العيون وما سمت ... إلى مثل هارون العيون النواظر
ترى حوله الأملاك من آل هاشمٍ ... كما حفت البدر النجوم الزواهر
إذا فقد الناس الغمام تتابعت عليهم ... بكفيك الغيوث المواطر
على ثقة ألقت إليك أمورها ... قريش كما ألقي عصاه المسافر
فطوراً يهزون القواطع والقنا ... وطوراً بأيديهم تهز المخاصر
ليهنكم الملك الذي أصبحت بكم ... أسرته مختالة والمنابر
أبوك ولي المصطفى دون هاشمٍ ... وإذا رغمت من حاسديك المناخر
فأعطاه عشرة آلاف دينار وكساه، وأمر له بعشرة من رقيق الروم وحمله على
برذون.
وللرشيدأشعار حسان، منها: ما أخبرنا به عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا
أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ قال: أخبرنا سليمان بن أحمد
للطبراني قال: أخبرنا محمد بن موسى بن حسان قال: حدثنا يعقوب بن
إبراهيم بن صالح قال: حدثنا عمي علي بن صالح قال: قال الرشيد في ثلاث
جوارٍ:
مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني؟
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني
وكان الرشيد طيب النفس، فكهاً يحب المزح.
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله
الخبرية قالت: أخبرنا علي بن الحسين بن الفضل قال: أخبرنا أحمد بن محمد
بن خالد الكاتب قال: أخبرنا علي بن عبد الله بن المغيرة الجوهري قال:
حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال: حدثني الزبير بن بكار قال: حدثني علي
بن صالح قال: كان معاوية الرشيد ابن أبي مريم المديني، وكان مضاحكاً
محدثاً فكهاً، وكان الرشيد لا يصبر عن محادثته، وكان قد جمع إلى ذلك
المعرفة بأخبار العرب من أهل الحجاز ومكائد المجان، فبلغ من خصوصيته به
أنه أنزله في قصره وخلطه ببطانته وغلمانه، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد
طلع الفجر، فكشف اللحاف عن ظهره، ثم قال له: كيف أصبحت؟ فقال: يا هذا،
ما أصبحت بعد، مر إلى عملك، قال: ويلك، قم إلى الصلاة قال: هذا وقت
صلاةٍ أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي، فقام ومضى وتركه
نائماً، وقام الرشيد إلى الصلاة، فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين، قد
قام إلى الصلاة، فألقى عليه ثيابه ومضى نحوه، فإذا هو يقرأ في صلاة
الصبح " ومالي لا أعبد الذي فطرني " فقال له ابن أبي مريم: لا أدري
والله فما تمالك أن ضحك في صلاته، ثم التفت كالمغضب فقال: يا ابن أبي
مريم، في الصلاة أيضاً؟ قال: يا هذا، ما صنعت؟ قال: قطعت علي الصلاة.
قال: والله ما فعلت، إنماسمعت منك كلاماً غمني حين قلت " وما لي لا
أعبد الذي فطرني " فقلت: لا أدري . فضحك، وقال: إياك والقرآن والدين
ولك ما شئت بعدها.
وكان
الرشيد معاوية حبه اللهو كثير البكاء من خشية الله، محباً للمواعظ، وقد
وعظه الفضيل بن عياض ، وابن السماك، والعمري والبهلول، وغيرهم، وكان
يتقبل الموعظة ويكثر البكاء.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد
بن أبي علي الأصبهاني قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق الشاهد قال:
حدثنا ابن منيع فقال حدثنا يحيى بن أيوب الواعظ أو قال: العابد قال:
سمعت منصور بن عمار يقول: ما رأيت أغزر دمعاً عند الذكر من ثلاثة: فضيل
بن عياض، وأبي عبد الرحمن الزاهد، وهارون الرشيد، وأتاه يوماً رجل من
الزهاد، فقال: يا هارون، اتق الله، فأخذه فخلا به، وقال: يا هذا
أنصفني، أنا شر أم فرعون؟ قال: بل فرعون، قال: فأنت خير أم موسى؟ قال:
بل موسى، قال: أفما تعلم أن الله تعالى لما بعثه وأخاه إليه قال: "
فقولا له قولاً لينا " وقد جبهتني بأغلظ الألفاظ، فلا بأدب الله تأدبت،
ولا بأخلاق الصالحين أخذت. قال: أخطأت وأنا استغفر الله، فقال: غفر
الله لك، وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها. فهذه الأخلاق
الطيبة.
وفي هذه السنة: ولد المأمون في ربيع الأول، وولد الأمين في شوال.
وفيها: عزل الرشيد عمر بن عبد العزيز العمري عن مدينة الرسول عليه
السلام ، وولاها إسحاق بن سليمان بن علي.
وفيها: أمر الرشيد بسهم ذوي القربى قسم في بني هاشم بالسوية.
وفيها: عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين، وجعل لها حيزاً
واحداً، وسميت العواصم.
وفيها: عمرت طرسوس على يدي أبي سليم، فخرج الخادم التركي ونزلها الناس.
أخبرنا
محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا
إبراهيم بن عمر البرمكي قال: أنبأنا أبو الحسين بن عبد الله بن إبراهيم
الزينبي قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أحمد بن زهير
قال: حدثني علي بن البربري قال: حدثني أبي وكان أول من سكن طرسوس حين
بناها أبو سليم، وكان شيخاً قديماً قال: كان يغازينا من الشام ثلاثة
أخوة فرسان شجعان، وكانوا لا يخالطون العسكر، وكانوا يسيرون وحدهم،
وينزلون كذلك، فإذا رأوا العدو لم يقاتلوا ما كفوا، فغزوا مرة، فلقيهم
الطاغية في جمع كثير، فقاتلوا المسلمين فقتلوا وأسروا، فقال بعضهم
لبعض: قد ترون ما نزل بالمسلمين، وقد وجب علينا أن نبذل أنفسنا ونقاتل
فتقدموا، وقالوا لمن بقي من المسلمين: كونوا وراء ظهورنا وخلوا بيننا
وبين القتال نكفيكم إن شاء الله تعالى. فقاتلوا فقهروا الروم، فقال ملك
الروم لمن معه من البطارقة: من جاءني برجل من هؤلاء قدمته وبطرقته.
فألقت الروم أنفسها عليهم فأخذوهم أسرى، لم يصب رجل منهم كلم، فقال ملك
الروم: لا غنيمة ولا فتح أعظم من أخذ هؤلاء. فرحل بهم حتى نزل بهم
القسطنطينية، فعرض عليهم النصرانية وقال: إني أجعل فيكم الملك وأزواجكم
بناتي. فأبوا عليه ونادوا: يا محمداه، فقال الملك: ما يقولون؟ قالوا:
يدعون نبيهم، فقال لهم: إن أنتم أجبتموني وإلا أغليت قدوراً ثلاثة فيها
الزيت، حتى إذا بلغت أناها ألقيت كل واحد منهم في قدر. فابوا، فأمر
بثلاث قدور فنصبت، ثم صب فيها الزيت، ثم أمر أن يوقد تحتها ثلاثة أيام
يعرضون في كل يوم على تلك القدور، ويدعوهم إلى النصرانية، وغلى أن
يزوجهم بناته، ويجعل الملك فيهم، فيأبون أن يجيبوه، وأقاموا على
الإسلام، فنادى الأكبر، ودعاه إلى دينه فأبى، فناشده وقال: إني ملقيك
في هذه القدر. فأبى فألقاه في قدر منها، فما هو إلا أن سقط فيها،
فارتفعت عظامه تلوح، ثم فعل بالثاني مثل ذلك، فلما رأى صبرهم على ما
فعل بهم، وحفظهم لدينهم، ندم الملك وقال: فعلت هذا بقوم لم أر أشجع
منهم، فأمر بالصغير فأدني منه فجعل يفتنه عن دينه بكل أمر فيأبى، فقام
إليه علج من أعلاجه فقال: أيها الملك ما تجعل لي إن فتنته؟ قال:
أبطرقك، قال: قد رضيت، قال: فبماذا تفتنه؟ قال: قد علم الملك أن العرب
أسرع شيء إلى النساء، وقد علمت الروم أنه ليس فيهم امرأة أجمل من ابنتي
فلانة، فادفعه إلى حتى أخليه معها، فإنها ستفتنه، قال: فضرب الملك بينه
وبين العلج أجلاً أربعين يوماً، ودفعه إليه، فجاء به فأدخله معاوية
ابنته، وأخبرها بالذي ضمن للملك، وبالأجل الذي ضربه بينه وبينه، فقالت
له: دعه، فقد كفيتك أمره، فأقام معها نهاره صائماً، وليله قائماً، لا
يفتر من العمل، حتى مضى أكبر الأجل، فسأل الملك العلج: ما حال الرجل؟
فرجع إلى ابنته فقال لها: ما صنعت؟ قالت: ما صنعت شيئاً هذا رجل فقد
إخوته في هذه البلدة، فأخاف أن يكون امتناعه من أجل أخويه، كلما رأى
آثارهما، ولكن استزد الملك في الأجل، وانقلني وإياه إلى بلد غير هذا
البلد الذي قتل فيه أخواه، فسأل العلج الملك فزاده في الأجل، أياماً،
وأذن له في خروجهما، فاخرجهما إلى قرية أخرى، فمكث على ذلك أياماً صائم
النهار، قائم بالليل، حتى إذا بقي من الأجل قالت له الجارية ليلة من
الليالي: يا هذا، إني أراك تقدس رباً عظيماً، وإني قد دخلت معك في
دينك، وتركت دين آبائي فلم يثق بذلك منها، حتى أعادت عليه مراراً، فقال
لها: فكيف الحيلة في الهرب والنجاة مما نحن فيه؟ فقالت له: أنا أحتال
لك وجاءته بدواب وقالت له قم: بنا تهرب إلى بلادك، فركبا، فكانا يسيران
الليل ويكمنان النهار، وطلباً فخفيا، فبينما هما يسيران ذات ليلة سمع
وقع حوافر خيل، فقالت له الجارية: أيها الرجل، ادع ربك الذي صدقته
وآمنت به أن يخلصنا من عدونا، فإذا هو بأخويه ومعهما ملائكة رسل إليه،
فسلم عليهما وسألهما عن حالهما، فقالا له: ما كانت إلا لاغطسة التي
رأيت حتى خرجنا في الفردوس، وإن الله أرسلنا إليك لنشهد تزويجك بهذه
الفتاة. فزوجوه إياها ورجعوا، وخرج إلى بلاد الشام، فأقام معها، وكانا
مشهورين بذلك، معروفين بالشام في الزمن الأول. وقد قيل فيهما من الشعر
محمد أنسيته غير هذا البيت:
ستعطي
الصادقين بفضل صدق ... نجاة في الحياة وفي الممات
وفي هذه السنة: حج بالناس الرشيد من مدينة السلام، فأعطى أهل الحرمين
عطاء كثيراً وقسم مالاً جزيلاً.
وغزا الصائفة سليمان بن عبد الله الركابي.
وكان العامل على مكة والطائف عبد الله بن قثم، وعلى المدينة يقول: بن
سليمان الهاشمي، وعلى الكوفة موسى بن عيسى وخليفته عليها ابنه العباس
بن موسى، وعلى البصرة والبحرين وعمان واليمامة وكور الأهواز وفارس محمد
بن سليمان بن علي بن محمد بن عبد الله بن عباس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جوهرة العابدة البرائية نزلت معاوية زوجها أبي عبد الله البرائي، وكانت
جارية لبعض الملوك فعتقت وتركت الدنيا، وتزوجت أبا عبد الله، وتعبدت
معه، وكانت تحرضه على العبادة، وتوقظه من الليل وتقول: يا أبا عبد الله
كروان برفت، معناه: قد سارت القافلة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو
نعيم أحمد بن عبد الله قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب الوراق قال:
حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال: حدثنا مر بن الحسين البرجلاني قال:
حدثنا حكيم بن جعفر قال: كنانأتي ابا عبد الله بن أبي جعفر الزاهد،
وكان يسكن براثاً، وكانت له امرأة متعبدة يقال لها جوهرة، وكان يجلس
على جلة خوص بحرانية، وجوهرة جالسة حذاءه على جلة أخرى، فأتيناه يوماً
وهو جالس على الأرض ليست الجلة تحته، فقلنا له يا أبا عبد الله، ما
فعلت الجلة التي كنت تقعد عليها؟ قال: ارى جوهرة أيقظتني البارحة،
فقالت: أليس يقال في الحديث " إن الأرض تقول لابن آدم تجعل بيني وبينك
ستراً وأنت غداً في بطني " ؟ قال: قلت: نعم، قالت: هذه الجلال لا حاجة
لنا فيها. فقمت والله فأخرجتها.
وقد روينا عن أبي شعيب الزاهد البرائي أن جارية من بنات الكبار من
أبناء الدنيا نظرت إلى زهده، فتزوجت به وتركت الدنيا وجرت لها معه مثل
هذه القصة في فرش من خوص.
الربيع بن يونس بن محمد يونس بن أبي فروة واسم أبي فروة: كيسان. مولى
أبي جعفر المنصور وحاجبه، ووزر له بعد أبي أيوب المرزباني. أنبأنا أبو
بكر بن محمد بن الحسين الحاجي قال: أخبرنا أحمد بن أحمد بن سليمان
الواسطي قال: أخبرنا أبو أحمد الفرضي قال: أخبرنا أبو عمر الزاهد قال:
أخبرنا ثعلب، عن ابن شبيب، عن الزبير قال: حدثني عمرو بن عثمان قال:
دخل المنصور أمير المؤمنين قصراً فرأى في جداره مكتوباً:
ومالي لا أبكي بعين حزينة ... وقد قربت للظاعنين حمول
وتحته مكتوب: إيه إيهٍ. قال أبو عمر: ويروى آه آه. فقال المنصور: أي
شيء آه آه؟ فقال له الربيع وهو إذ ذاك تحت يدي أبي الخطيب الحاجب: يا
أمير المؤمنين إنه لما كتب البيت أحب أن يخبر أنه يبكي، فقال قائله:
الله، ما كان أظرفه، فكان هذا أول ما ارتفع به الربيع.
وقد روى أبو الفرج الأصبهاني: أن الربيع قال: كنت في خمسين وصيفاً
أهدوا للمنصور، ففرقنا في خدمته، فصرت غلىياسر صاحب وضوئه، فكنت أراه
يعطيه الإبريق في المستراح، ويقف مكانه لا يبرح. فقال لي يوماً كن في
مكاني في هذا، فكنت أعطيه الإبريق، وأخرج مبادراً، فإذا سمعت حركته
بادرت إليه فقال لي: ما أخفك على قلبي يا غلام، ثم دخل قصراً فرأى
حيطانه مملوءة من الشعر وإذا بخط منفرد فقرأه فإذا هو:
ومالي لا أبكي وأندب ناقتي ... إذا صدرت الرعيان نحو المناهل
وكنت إذا ما اشتد شوقي رحلتها ... فسارت لمحزون طويل البلابل
وتحته مكتوب: آه آه، فلم يدر ما هو، وفطنت له، فقلت: يا أمير المؤمنين
قال: الشعر، ثم تأوه فكتب تأوهه بنفسه فقال لي: مالك قاتلك الله، قد
أعتقتك ووليتك مكان ياسر.
قال أبو بكر الصولي: لم يزل الربيع وزير المنصور حتى توفي المنصور
بمكة، فأخذ الربيع للمهدي البيعة، فشكر المهدي له ذلك وجعله حاجبه، ولم
يستوزره.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
الحسين بن علي الصيمري قال: حدثنا أحمد بن محمد بن علي الصيرفي قال:
حدثنا محمد بن عمر بن سالم الحافظ قال: ذكروا أنه لم ير في الحجابة
أعرق من الربيع، حاجب أبي جعفر ومولاه، ثم صار وزيره، ثم حجب للمهدي،
ومن ولده الفضل بن الربيع حجب هارون، ومحمد الأمين، وابنه عباس بن
الفثضل حجب الأمين، فعباس حاجب ابن حاجب.
وقد مدحهم أبو نواس في قوله:
سار الملوك ثلاثة ما منهم ... إن حصلوا إلا أعز قريع
عباس عباس إذا اخترم الورى ... والفضل فضل والربيع ربيع
توفي الربيع في هذه السنة .
فتح بن محمد بن وشاح، أبو محمد الأزدي الموصلي. ذكر المعافى بن عمران
أنه لم يكن أعقل منه.
قال مؤلف الكتاب : وليس هذا بفتح الموصلي المكني بأبي نصر، فإن أبا نصر
مات في سنة عشرين ومائتين وابن وشاح مات في سنة سبعين ومائة وأكثر
الحكايات عن أبي نصر لا عن أبي محمد.
موسى الهادي، أمير المؤمنين ابن المهدي. اختلفوا في سبب موته قال
بعضهم: كان في جوفه قرحة، وكانت سبب منيته.
وحكى أبو جعفر ابن جرير الطبري عن جماعة أنهم قالوا: إن الخيزران أمه
أمرت بقتله، فأنا أستبعد ذلك.
قالوا: وكانت في أول خلافته تفتات عليه في أمور، وتسلك به مسلك أبيه في
الاستبداد بالأمر والنهي، وكانت إذا سألته حاجة قضاها فانثال الناس
إليها، فأرسل إليها: لا تخرجي من خفر الكفاية إلى بذاذة التبذل، فإنه
ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك، وعليك بصلاتك وسبحتك، ولك
بعد هذا طاعة مثلك، فكلمته يوماً في أمر فاعتل بعلة، فقالت: لا بد من
إجابتي، فقال: لا أفعل، قالت: فإني قد ضمنت قضاء هذه الحاجة، قال:
والله لا أقضيها لك، فقالت: إذاً والله لا أسألك حاجة أبداً. قال: إذن
والله لا أبالي، وغضب، فقامت وغضبة، فقال: مكانك حتى تستوعبي كلامي
والله، وإلا فأنا نفي من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن
بلغني أنه وقف ببابك أحد لأقبضن ماله، ولأضربن عنقه، ما هذه المواكب
التي تغدو وتورح إلى بابك؟! أمالك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك أو
يصونك!؟ إياك ثم إياكأن تفتحي بابك لملي أو ذمي. فانصرفت ما تعقل.
قال ابن جرير: وذكر قوم أن سبب موت الهادي: أنه لما أخذ في خلع هارون
والبيعة لابنه جعفر خافت الخيزران على هارون منه، فدست من جواريها لما
مرض من غمه وجلس على وجهه، ووجهت إلى يحيى بن خالد: إن الرجل قد توفي،
فاجدد في أمرك.
وكان الهادي قد امر أن لا يسار قدام الرشيد بحربة، فاجتنبه الناس
وتركوه، وطابت نفس هارون بالخلع لشدة خوفه على نفسه، فخلعته جماعة من
القواد وبايعوا لجعفر بن موسى، ودخل هارون على موسى فقال له: يا هارون،
كأني بك تحدث نفسك بتمام الؤيا، فقال: إني لأرجو أن يفضي الأمر إلي،
فأنصف وأصل، فقال له: ذلك الظن بك، فأجلسه معه وأمر له بألف ألف دينار،
وكانت الرؤيا أن المهدي قال: رأيت في منامي كأني دفعت إلى قضيباً وإلى
هارون قضيباً فأورق قضيب موسى من أعلاه قليلاً، وأورق في قضيب هارون من
أوله إلى آخره، فدعا المهدي الحكم بن موسى فقال له: أعبر هذه الرؤيا،
فقال: يملكان جميعاً فتقل أيام موسى، ويبلغ هارون آخر مدى ما عاش
خليفة، وتكون أيامه أحسن أيام. فلم يلبث الهادي إلا يسيراً حتى اعتل
ثلاثة أيام ومات.
وحكى أبو بكر الصولي: أنه خرج على ظهر قدمه بثرة، فصارت كاللوزة،
وافتصد ومات بعد ثلاث، وجاءت أمه الخيزران وبه رمق، فأخذت خاتمه من يده
وقالت: أخوك أحق بهذا الأمر منك. وهو يرى ذلك ولا يقدر على حيلة.
توفي الهادي بعيساباذ للنصف من ربيع الأول من هذه السنة، وقيل: لثلاث
عشرة بقيت من ربيع وهو ابن ست وعشرين سنة، وقيل ثلاث وعشرين، وصلى عليه
أخوه هارون ودفن في بستانه بعيساباذ، وكانت خلافته سنة وشهراً وثلاثة
عشر يوماً، وقيل: سنة وثلاثة اشهر، وقيل وشهرين وأحد عشر يوماً.
معاوية بن عبيد الله بن يسار أبو عبيد الله الأشعري مولاهم من أهل
طبرية
ولد سنة
مائة، وكتب الحديث، وسمع أبا إسحاق السبيعي، ومنصور بن المعتمر
ونحوهما، وكان خيراً فاضلاُ عالماً، وكان يكتب للمهدي قبل الخلافة رسمه
له المنصور، وكان جميع أمر المهدي إليه، فلا يخالفه في شيء، ثم وزر له.
أنبأنا المحمدان ابن عبد الباقي وابن عبد الملك قالا: أنبأنا أبو محمد
الحسن بن علي الجوهري قال: أنبأنا أبو الحسن الداقطني قال: حدثني
القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد بن عبيد الله بن نصر قال: أخبرني أبو
بكر محمد بن عبد الملك السراج قال: حدثني عيسى بن أبي عباد قال: حدثني
عبيد الله بن سليمان بن أبي عبيد الله قال: أبلى أبو عبيد الله مصليين،
وأسرع في الثالث أو ثلاثة وأسرع في الرابع موضع الركبتين والوجه
واليدين لكثرة صلاته، قال: وكان له في كل يوم كر دقيق يتصدق به على
المساكين، وكان يلي ذلك مولى له، فلما اشتد الغلاء أتاه فقال: قد غلا
السعر، فلو نقصنا من هذا؟ فقال: أنت شيطان، أو رسول الشيطان، صيره
كرين. فكان له في كل يوم بعد ذلك كران يخبزان للمساكين قال: وأخبرت أن
الجسور يوم مات امتلأت فلم يعبر عليها إلا من تبع جنازته من مواليه
واليتامى والأرامل والمساكين، ودفن في مقابر قريش ببغداد وصلى عليه علي
بن المهدي.
توفي في هذه السنة، وقيل: في السنة التي قبلها.
ثم دخلت
سنة إحدى وسبعين ومائة
فمن الحوادث فيها: قدوم أبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي مدينة
السلام منصرفاً عن خراسان، وكان خاتم الخلافة مع جعفر بن محمد الأشعث،
فلما تقدم أبو العباس أخذه الرشيد منه ودفعه إلى أبي العباس، ثم لم
يلبث أبو العباس غلا يسيراً حتى توفي، فدفع الخاتم إلى يحيى بن خالد.
وفيها: أمر الرشيد بإخرج من كان بمدينة السلام من الطالبين إلى مدينة
رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا العباس بن الحسن بن عبد الله بن
العباس بن علي بن أبي طالب، وكان أبو الحسن فيمن شخص.
وفيها: خرج الفضل بن سعيد الحروري فقتله أبو خالد المروروذي.
وفيها: خرجت الخيزران في شهر رمضان إلى مكة فأقامت بها إلى وقت الحج
وحجت.
وفيها: حج بالناس عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد
المطلب.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حيان بن علي الكوفي، أبو علي أخو مندل. حدث عن الأعمش، وسهيل بن أبي
صالح، روى عنه حجر بن المثنى وخلف بن هشام، وكان صالحاً ديناً فقيهاً.
قال يحيى: هو صدوق، وفي رواية عنه يضعفه.
توفي هذه السنة. وقيل: في السنة التي تليها.
سعيد بن السائب الطائفي. روى عنه سفيان ووكيع.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار
قال: أخبرنا علي بن أحمد الملطي قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال:
أخبرنا الحسين بن صفوان قال: أخبرنا أبو بكر بن عبيد قال: حدثني محمد
بن الحسين قال: حدثنا الحميدي، عن سفيان قال: كان سعيد بن السائب
الطائفي لا يطاد تجف له دمعة، إنما دموعه جارية دهره، إن صلى فهو يبكي،
وإن جلس فهو يقرأ في المصحف فهو يبكي. قال سفيان: فحدثوني أن رجلاً
عاتبه على ذلك فبكى، ثم قال: إنما ينبغي أن تعذلني وتعاتبني على
التقصير والتفريط، وأنهما قد استوليا على. أخبرنا عبد الله بن علي
المقرئ، ومحمد بن ناصر الحافظ، وعلي بن عمر قالوا: أنبأنا طراد قال:
أخبرنا علي بن محمد بن بشران قال: حدثنا ابن صفوان قال: حدثنا أبو بكر
بن عبيد قال: حدثني الحسن بن الصباح قال: حدثنا محمد بن يزيد بن حسن
قال: سمعت الثوري يقول: جلست ذات يوم أحدث ومعنا سعيد بن السائب
الطائفي، فجعل يبكي حتى رحمته، فقلت: يا سعيد، ما يبكيك وأنت تسمعني
أذكر أهل الخير وفعالهم، قال: يقول: يا سفيان، وما يمنعني من البكاء،
وإذا ذكرت مناقب أهل الخير كنت منهم بمعزل، قال: يقول سفيان: وحق له أن
يبكي.
توفي عبد الله في هذه السنة.
عمر بن ميمون بن الرماح، أبو علي. قاضي بلخ، تولى القضاء بها أكثر من
عشرين سنة، وكان محموداً في ولايته، مذكوراً بالعلم والحلم والصلاح
والفهم، حدث عن سهيل بن أبي صالح، والضحاك، روى عنه: سريج بن النعمان،
وكان ثقة، وعمي في آخر عمره، وتوفي ببلخ في رمضان هذه السنة.
عيسى بن يزيد بن بكر بن داب، أبو الوليد.
أحد بني
الليث بن بكر المديني، قدم بغداد وأقام بها، وحدث عن صالح بن كيسان،
وهشام بن عروة، وكان رواية عن العرب، وافر الأدب، عالماً بالنسب،
حافظاً للسير عارفاً بأيام الناس، إلا أنهم قدحوا فيه، فقالوا: يزيد في
الأحاديث ما ليس فيها، ونسبه خلف الأحمر إلى الكذب، ووضع الحديث.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا الأزهري
قال: أخبرنا حمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عرفة قال: لم يتول
الخلافة قبل الهادي سنه أحد، لأنه كان حدثاً وكان يحب الأدب وأهله
ويعطي عليه.
وكان عيسى بن داب يجالسه، وكان أكثر أهل الحجاز أدباً، وأعذبهم
ألفاظاً، وكان قد حظي عند الهادي، وكان يقول له: ما استطلت بك يوماً
ولا ليلة قط، ولا غبت عن عيني إلا تمنيت ألا أرى غيرك. وأمر له بثلاثين
ألف دينار، فلما أصبح ابن داب، وجه قهرمانه فطالب بالمال، فلقي الحاجب
فأبلغه رسالته فأعلمه أن ذلك ليس إليه، وأنه يحتاج إلى توقيع، فأمسك
ابن داب، فبينا الهادي في نستشرف له نظر إلى ابن داب قد أقبل وليس معه
غلام، فقال لإبرهيم الحداني: أما ترى ابن داب، ما غير حاله؟ ولا تزيي
لنا، وقد برزناه بالأمس لنرى أثرنا عليه، فقال له إبراهيم: إن أمرنيام
عرضت له بشيء من هذا، قال: لا هو أعلم بأمره. ودخل ابن داب، فأخذ في
حديثه إلى أن عرض له الهادي شيئاً من أمره، فقال: أرى ثوبك غسيلاً،
وهذا شتاء يحتاج إلى لبس الجديد واللين، فقال: يا أمير المؤمنين باعي
قصير عما أحتاج إليه، فقال: كيف ذاك وقد صرفنا إليك من برنا ما فيه
صلاح شأنك؟ قال: ما وصل إلي، فدعا بصاحب بيت مال الخاصة، فقال: عجل
الساعة له بثلاثين ألف دينار، فحملت بين يديه.
المفضل بن محمد بن يعلى الضبي. سمع سماك بن حرب، وأبا إسحاق السبيعي،
والأعمش وغيرهم.
وروى القراءات عن عاصم بن أبي النجود، روى عنه: الكسائي، والفراء،
وغيرهما، وكان راوية للآداب وأيام الأعراب، علامة موثقاً في روايته.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرنا
الحسين بن محمد بن جعفر الخالع فيما أذن أن نرويه عنه قال: أخبرنا علي
بن محمد بن السري قال: قال لنا جحظة: قال الرشيد للمفضل الضبي: ما أحسن
ما قيل في الذئب ولك هذا الخاتم الذي في يدي وشراؤه ألف وستمائة دينار؟
فقال: قول الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
فقال: ما ألقي هذا على لسانك إلا لذهاب الخاتم. ورماه إليه، فاشترته أم
جعفر بألف وستمائة دينار وبعثت به إليه، وقالت: قد كنت أراك تعجب به
فالتقطه الضبي وقال: خذه وخذ الدنانير، فما كنا نهب شيئاً فنرجع فيه.
أبو عبد الله الحربي الزاهد.
أخبرنا
محمد بن ناصر قال: أخبرنا أبو علي حسن بن أحمد قال: حدثنا عبد الغفار
بن محمد المؤدب قال: حدثنا عمر بن أحمد الواعظ قال: حدثني علي بن الحسن
بن دليل قال: حدثنا محمد بن أحمد المقدمي قال: حدثنا علي بن عبد العزيز
قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الجروي قال: حدثنا إبراهيم بن شبيب بن
شيبة قال: كنا نتجالس في الجمعة فأتى رجل عليه ثوب واحد ملتحف به، فجلس
إلينا، فألقى مسألة، فما زلنا نتكلم في الفقه حتى انصرفنا، ثم جاءنا في
الجمعة المقبلة، فأجبناه وسألناه عن منزله، قال: أنزل الخريبة، فسألنا
عن كنيته، فقال أبو عبد الله، فرغبنا في مجالسته وراينا مجلسنا مجلس
فقه، فمكثنا بذلك زماناً، ثم انقطع عنا، فقال بعضنا لبعض، ما حالنا وقد
كان مجلسنا عامراً بأبي عبد الله، وقد صار يوحشنا فوعد بعضنا بعضاً إذا
أصبحنا أن نأتي الخريبة فنسأل عنه، فأتيناه الخريبة وكنا عدداً، فجعلنا
نستحي أن نسأل عن أبي عبد الله، فنظرنا إلى صبيان قد انصرفوا من الكتاب
فقلنا: أبو عبد الله، فقالوا: لعلهم يعنون الصياد، قلنا: نعم، قالوا،
هذا وقته الآن يجيء، فقعدنا ننتظره، فإذا هو قد اقبل مؤتزراً بخرقة،
على كتفه خرقة ومعه أطيار مذبحة وأطيار أحياء، فلما رآنا تبسم إلينا
وقال: ما جاء بكم؟ فقلنا فقدناك، وقد كنت عمرت مجلسنا، فما غيبك عنا؟
قال: أصدقكم، كان لنا جار كنت أستعير منه كل يوم ذلك الثوب الذي كنت
آتيكم فيه، وكان غريباً، فخرج إلى وطنه، فلم يكن لي ثوب آتيكم فيه، هل
لكم أن تدخلوا المنزل فتأكلوا مما رزق الله عز وجل؟ فقال بعضنا لبعض:
ادخلوا منزله، فجاء إلى الباب فسلم ثم صلى قليلاً ثم دخل، فأذن لنا
فدخلنا، فإذا هو قد أتى بقطع من البواري فبسطها لنا فقعدنا، فدخل إلى
المرأة، فسلم إليها الأطيار المذبحة، وأخذ الأطيار الأحياء ثم قال: أنا
آتيكم إن شاء الله عن قريب، فأتى السوق فباعها واشترى لنا خبزاً، فجاء
وقد صنعت المرأة ذلك الطير وهيئته، فقدم إلينا خبزاً ولحم الطير،
فأكلنا، فجعل يقوم فيأتينا بالملح والماء، فكلما قام قال بعضنا لبعض:
رأيتم مثل هذا؟ ألا تغيرون وأنتم سادة أهل البصرة؟! فقال أحدهم: علي
خمسمائة، وقال الآخر: علي ثلاثمائة، وقال هذا وقال هذا، ضمن بعضهم أن
يأخذ له من غيره، فبلغ الذي جمع له في الحساب خمسة آلاف درهم، فقالوا:
قوموا بنا نذهب فنأتيه بهذا المال ونسأله أن يغير ما هو فيه، فقمنا
فانصرفنا على حالنا ركباناً، فمررنا بالمربد، وإذا بمحمد بن سليمان
أمير البصرة قاعد في منظره له، فقال: يا غلام، آتيني بإبراهيم بن شبيب
بن شيبة من بين القوم، فجئت فدخلت عليه، فسألني عن قصتنا ومن أين
أقبلنا، فصدقته الحديث، فقال: أنا أسبقكم إلى بره، يا غلام، آتيني
ببدرة دراهم، فجاء فقال: احمل هذه البدرة مع هذا الرجل حتى يدفعها إلى
من أمرناه، ففرحت، ثم قمت مسرعاً، فلما أتيت الباب سلمت فأجابني أبو
عبد الله، ثم خرج إلي، فلما رأى الفراش والبدرة على عنقه كأني سفيت في
وجهه الرماد، فأقبل علي بغير الوجه الأول وقال: ما لي ولك، تريد أن
تفتنني؟ فقلت: يا أبا عبد الله أقعد حتى أخبرك، إنه من القصة كذا وكذا،
وهو الذي تعلم أحد الجبارين يعني محمد بن سليمان ولو كان أمرني أن
أضعها حيث ارى لرجعت إليه فخبرته إني قد وضعتها، فالله الله في نفسك،
فازداد علي غيظاً، وقام فدخل منزله وصفق الباب في وجهي فجعلت أقدم
وأؤخر، ما أدري ما أقول للأمير، ثم لم أجد بداً من الصدق، فجئت فأخبرته
الخبر فقال: حروري والله يا غلام، علي بالسيف، فجاء بالسيف فقال: خذ بي
هذا حتى يذهب بك إلى هذا الرجل، فإذا خرج إليك فاضرب عنقه وآتيني
برأٍسه، قال إبراهيم: فقلت: أصلح الله الأمير، الله الله، فوالله لقد
رأينا رجلاً ما هو من الخوارج، ولكني أذهب فآتيك به، وما أريد بذلك إلا
افتداء منه، قال: فضمنيه، فمضيت حتى أتيت الباب فسلمت، فإذا المرأة تحن
وتبكي، ثم فتحت الباب وتوارت وأذنت فدخلت، فقالت: ما شأنكم وشأن أبي
عبد الله؟ قلت: وما حاله؟ قالت: دخل فمال إلى الركي فنزع منها ماء
فتوضأ ثم صلى ثم سمعته يقول: اللهم اقبضني إليك ولا تفتني. ثم تمدد وهو
يقول ذلك، فلحقته وقد مضى، فهو ذاك ميت، فقلت: يا هذه إن لنا قصة
عجيبة، فلا تحدثوا فيه شيئاً، فجئت محمد بن سليمان فأخبرته الخبر،
فقال: أنا
أركب
فأصلي على هذا، قال: وشاع خبره بالبصرة، فشهد الأمير وعامة البصرة،
رحمه الله.كب فأصلي على هذا، قال: وشاع خبره بالبصرة، فشهد الأمير
وعامة البصرة، رحمه الله.
ثم دخلت
سنة اثنين وسبعين ومائة
فمن الحوادث فيها: شخوص الرشيد إلى مرج القلعة، ثم مرتاداً بها منزلاً
ينزله، وكان قد استثقل مدينة السلام وكان يسميها البخار، فخرج على مرج
القلعة فاعتل بها، وانصرف، وسميت تلك السفرة بسفرة المرتاد.
وفيها: عزل الرشيد يزيد بن مزيد عن أرمينية وولاها عبيد الله بن محمد
المهدي.
وفيها: غزا الصائفة إسحاق بن سليمان بن علي.
وفيها: وضع الرشيد عن أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف.
وفيها: تزوج محمد بن سليمان بن علي العباسة بنت المهدي، وهي أول بنت
خليفة من بني هاشم نقلت من بلد إلى بلد، نقلها إلى البصرة، وأول بنت
خليفة نقلت من خلفاء بني أمية بنت معاوية، نقلت إلى البصرة إلى محمد بن
زياد ذكره الصولي.
وفيها: ولي معاذ بن معاذ القضاء.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرني
الأزهري قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن
عرفة قال: ولي معاذ بن معاذ قضاء البصرة سنة اثنين وسبعين، وكان له محل
ومنزلة، فلم يحمد أهل البصرة أمره وكتبوا وكثر الكارهون له والوقائع
عليه، فلما انصرف عن القضاء أظهر أهل البصرة السرور، ونحروا النحور
وتصدقوا بلحمها، واستتر في بيته خوف الوثوب عليه، ثم شخص بعد ذلك إلى
الرشيد فاعتذر، فقبل عذره ووهب له ألف دينار، وكان من الأثبات في
الحديث.
وفيها: حج بالناس يعقوب بن أبي جعفر المنصور.
وعمال السنة ما قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن عياش بن سالم مولى بني أسد وهو أخو أبي بكر بن عياش القارئ.
من أهل الكوفة، وكان وصي سفيان الثوري، وسمع أبا إسحاق الشيباني،
وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وغيرهم، وكان ثقة.
توفي في هذه السنة.
عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل
الأنصاري المديني رأى سهل بن سعد وأنس بن مالك، وسمع عكرمة، وروى عنه
أبو نعيم الفضل بن دكين، وكان ثقة.
توفي في هذه السنة. وقيل: السنة التي قبلها.
ثم دخلت
سنة ثلاث وسبعين ومائة
فمن الحوادث فيها: أن الرشيد أقدم جعفر بن محمد بن الأشعث من خراسان
وولاها ابنه العباس بن جعفر.
قال الصولي: وخرج بالناس الرشيد محرماً من بغداد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن زكريا بن مرة، أبو زياد الخلقاني مولى أسد بن خزيمة يلقب
شقوصاً. كوفي الأصل، سمع إسماعيل بن أبي خالد، وأبا إسحاق والأعمش
وغيرهم وكان ثقة. أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو بكر ابن ثابت قال:
أخبرني الأزهري قال: حدثنا محمد بن عباس قال: أخبرنا أحمد بن معروف
قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال: حدثنا محمد بن سعد قال إسماعيل بن
زكريا: كان تاجراً في الطعام وغيره، وهو من أهل الكوفة، نزل بغداد في
ربض حميد بن قحطبة ومات بها في أول سنة ثلاث وسبعين ومائة، وهو ابن خمس
وستين سنة.
الخيزران جارية المهدي. اشتراها فأعتقها وتزوجها، فولدت له الهادي
والرشيد، ولم تلد امرأة خليفتين غير ثلاث نسوة هي إحداهن، والثانية
ولادة العنسية بنت العباس زوجة عبد الملك بن مروان أم الوليد وسليمان،
والثالثة: شاهقير يذ بنت فيروز بن يزدجرد ولدت للوليد عبد الملك
إبراهيم ويزيد فوليا الخلافة.
وقد أسندت الحديث، عن المهدي، عن أبيه، عن جده عن ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من اتقى الله وقاه الله كل شيء " .
أخبرنا أحمد بن علي المحلي قال: أخبرنا أبو محمد الصريفيني قال: أخبرنا
أبو القاسم الصيدلاني قال: حدثنا علي بن محمود الكاتب قال: حدثنا أبو
الحسن علي بن الحسين الطويل قال: حدثني هارون بن عبيد الله بن المأمون
قال: لما عرضت الخيزران على المهدي قال لها: والله يا جارية إنك لعلى
غاية التمني، ولكنك خمشة الساقين، فقالت يا مولانا، إنك أحوج ما تكون
إليهما لا تراهما، فقال اشتروها فحظيت عنده، فأولدها موسى وهارون.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني
الأزهري والحسن بن أبي طالب وأنبأنا أحمد بن علي بن المقرئ قال: أخبرنا
أبو محمد الصريفيني قالوا حدثنا عبيد الله بن أحمد بن علي المقرئ قال:
حدثنا علي بن محمد بن أبي الجهم قال: حدثني علي بن الطويل قال: حدثني
سليمان بن محمد، عن الوقدي قال: دخلت يوماً إلى المهدي فدعا بمحبرته
ودفتره، وكتب عني أشياء حدثته بها، ثم نهض وقال: كن بمكانك حتى أعود
إليك، ودخل إلى دار المحرم ثم خرج متنكراً ممتلئاً غيظاً، فلما جلس:
قلت يا أمير المؤمنين خرجت على خلاف الحال التي دخلت عليها؟ قال: نعم
دخلت على الخيزران فوثبت إلي ومدت يدها إلى وخرقت ثوبي، وقالت: يا
قشاش، وأي خير رأيت منك؟ وإنما اشتريتها من نخاس ورأت من يقول: ما رأت
وعقدت لابنيها ولاية العهد ويحك وأنا قشاش؟ قال: فقلت: يا أمير
المؤمنين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنهن يغلبن الكرام
ويغلبهن اللئام " وقال: " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " .
وقال: " خلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته " .
وحدثته في هذا الباب بكل ما حضرني، فسكن غضبه، وأسفر وجهه، وأمر لي
بألفي دينار، وقال: أصلح بهذه من حالك، وانصرفت، فلما وصلت إلى منزلي
وافاني رسول الخيزران، فقال: تقرأ عليك ستي السلام، وتقول لك: يا عم قد
سمعت جميع ما كلمت به أمير المؤمنين، فأحسن الله جزاك، وهذه ألفا دينار
إلا عشرة دنانير بعثت بها إليك لأني لم احب أن أساوي صلة أمير المؤمنين
ووجهت إلي بأثواب.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا أحمد بن علي البسري، عن أبي عبد الله بن
بطة قال: حدثنا أبو علي بن الحسين بن القاسم قال: حدثنا أبو الفضل بن
الربعي قال: حدثني أبي قال: سأل رجل الخيزران حاجة ثم أرسل إليه بهدية
فأجابته: إن كان ما وجهت به من هديتك ثمناً لرأيي فيك فلقد بخستني
القيمة، وإن كان استزادة فقد استغششتني في المودة وردتها عليه.
وقد حكى نحوه أبو بكر الصولي فقال: لما ولي محمد بن سليمان البصرة أهدى
إلى الخيزران مائة وصيف بيد كل وصيف جام من ذهب مملوء مسكاَ. فقبلت
ذلك، وكتبت إليه: عافاك الله إن كان ما وصل إلينا منك ثمن رأينا فيك،
فقدبخستنا في القيمة، وإن كان وزن مثلك إلينا فظننا بك فوقه.
قال ابن الأعرابي: كتب المهدي إلى الخيزران وهي بمكة:
نحن في أفضل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه من أهل ودي ... أنكم غيب ونحن حضور
فأجدوا في السير بل إن قدرتم ... أن تطيروا مع الرياح فطيروا
فأجابته، أو قالت لمن أجابه:
قد أتانا الذي وصفت من الشوق ... فكدنا وما فعلنا نطير
ليت إن الرياح كن تودين ... إليكم ما قد يجن الضمير
لم أزل صبة فإن كنت بعدي ... في سرور فدام ذاك السرور
توفيتالخيزران ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة،
ودفنت بمقابر قريش.
وروى يحيى بن الحسن أن أخاه حدثه قال: رأيت الرشيد يوم ماتت الخيزران
وعليه طيلسان أزرق قد شد به وسطه وهو آخذ بقائمة السرير حافياً يعدو في
الطين حتى أتى مقابر قريش فغسل رجليه ودعا بخف، فصلى عليها، ودخل
قبرها، فلما خرج من المقبرة وضع له كرسي فجلس عليه، ودعا الفضل بن
الربيع وقال له: وحق المهدي وكان لا يحلف بها إلا إذا اجتهد إني لأهم
بالشيء لك من التولية وغيرها فتمنعني أمي فأطيع أمرها، فخذ الخاتم من
جعفر وولي الفضل نفقات العامة والخاصة وبادرويا والكوفة، فتمت حاله،
وانصرف الرشيد من جنازتها يتمثل بقول متمم بن نويرة:
كنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن تتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً
وكانت غلة الخيزران ألف ألف وستين ألف درهم، فاتسع الرشيد بغلتها وأقطع
الناس من ضياعها.
سعد بن عبد الله بن سعد، أبو عمر المعافري. روى عنه عبد الله بن وهب،
ويقال هو الذي أعان ابن وهب على تصنيف كتبه، وكانت له عبادة وفضل. توفي
بالإسكندرية في هذه السنة.
عبد الرحمن بن أبي الموالي
ويقال:
ابن زيد ابن أبي الموالي، أبو محمد المدني، مولى علي بن أبي طالب،
وقيل: مولى أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدث عن محمد أبو بكر كعب القرظي، وابن المنكدر، روى عنه: الثوري، وابن
المبارك، وأبو عامر العقدي، والقعنبي، وقتيبة، وكان ثقة.
وتوفي في هذه السنة.
غادر جارية الهادي. حكى جعفر بن قدامة قال: كان لموسى الهادي جارية
يقال لها: غادر، وكانت من أحسن النساء وجهاً وغناءً، وكان يحبها حباً
شديداً، فبينا هي تغنيه يوماً عرض له فكر وسهو تغير له لونه، فسأله من
حضر عن ذلك، فقال: وقع في فكري أني أمو، وأن أخي هارون يلي الخلافة
ويتزوج جاريتي هذه. فقيل له: نعيذك بالله، ونقدم الكل قبلك، فأمر
بإحضار أخيه وعرفه بما خطر له فأجابه بما يوجب زوال هذا الخاطر، فقال:
لا أرضى حتى تحلف لي إني أن متى مت لم تتزوجها. فأحلفه واستوفى عليه
الأيمان من الحج راجلاً، وطلاق نسائه، وعتق المماليك، وتسبيل ما يملكه،
ثم نهض إليها فأحلفها بمثل ذلك فما لبث إلا نحو شهر حتى توفي، وولي
الرشيد فبعث يخطب الجاري، فقالت: كيف يميني ويمينك؟ فقال: أكفر عن الكل
وأحج راجلاً، فتزوجها وزاد في شغفه بها على شغف أخيه حتى إنها كانت تضع
رأسها على حجره وتنام ولا يتحرك حتى تنتبه، فبينا هي ذات يوم على ذلك
انتبهت فزعة تبكي، فسألها عن ذلك، فقالت: رأيت أخاك الساعة وهو يقول:
أخلفت وعدي بعد ما جاورت سكان المقابر
ونسيتني وحنثت في أيمانك الكذب الفواجر
ونكحت غادرة أخي صدق الذي سماك غادر
أمسيت في أهل البلاد وغدوت في حور الغرائر
لا يهنك الألف الجديد ولا تدر عنك الدوائر
ولحقت بي قبل الصباح فصرت حيث غدوت صائر
والله يا أمير المؤمنين فكأني لما سمعتها كتبها قلبي فما أنسيت منها
كلمة، فقال لها الرشيد: أضغاث أحلام، فقالت: كلا. ثم لم تزل تضطرب
وترتعد حتى ماتت بين يديه.
محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي. أمه أم حسن بنت
جعفر بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم .
كان من رجال بني هاشم وشجعانهم، وكان قد ولاه المنصور البصرة والكوفة،
وزوجه المهدي بابنته العباسة، ونقلها إليه في البصرة، وكان له خاتم من
ياقوت أحمر لم ير مثله، فسقط ليلة من يده ليلة بنائه بالعباسة فجعلوا
يطلبونه فلم يجدوه، فقال: اطفئوا الشمع ففعلوا فرأوه، وكان له خمسون
ألف مولى منهم عشرون ألف عتاقة، وكانت به رطوبة فكان يتداوى بالمسك
يستعمل منه كل يوم عشرين مثقالاً ويتركه في عكن بطنه، وأقره على ولايته
الهادي والرشيد، وكانت غلته كل يوم ألف درهم.
وروي عنه حديث مسند لا يعرف له غيره.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا أبو الحسن الحسين بن عبد الواحد قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل
المستلمي قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال: حدثنا العباس بن أبي
طالب قال: حدثنا سلمة بن حيان العتكي قال: حدثنا صالح الناجي، عن محمد
بن سليمان قال: حدثني أبي، عن جدي الأكبر يعني ابن عباس عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: " امسح على رأس اليتيم هكذا إلى مقدام رأسه
ومن له أب هكذا إلى مؤخر رأسه " .
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني القاسم الأزهري
قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال:
لما بويع الرشيد بالخلافة قدم عليه محمد بن سليمان وافداً، فأكرمه
وعظمه وبره وصنع به ما لم يصنع بأحد، وزاده فيما كان يتولى من أعمال
البصرة وكور دجلة والأعمال المفردة والبحرين وعمان واليمامة، وكور
الأهواز وكور فارس، ولم تجمع هذه لأحد غيره، فلما أراد الخروج شيعه
الرشيد إلى كلواذى.
وتوفي في جمادى الآخر من هذه السنة، وسنه إحدى وخمسون سنة وخمسة أشهر،
وأمر الرشيد بقبض أمواله.
وذكر ابن جرير: أن الرشيد بعث رجلاً يصطفي ما خلفه من الصامت، ورجلاً
إلى الكسوةو ولى الفرش والرقيق والدواب والطيب والجواهر، فجعل لكل آلة
رجلاً يصطفيها، فأصابوا له ستين ألف ألف، وأخرج من خزانته ثيابه التي
كان يلبسها كل سنة في زمن الصغر وأخرجوا ما كان يهدى إليه من البلاد
حتى الدهن والسمك، فوجدوا أكثر ذلك فاسداً، فألقي في الطريق فأنتنت
الطريق.
وحكى الصولي: أن الرشيد قبض ما خلفه محمد بن سليمان من المال فكان
ثلاثة آلاف ألف دينار، ولم يتعرض للضياع ولا الدور ولا المستغلات ولا
الجواهر ولا الفرش ولا العطر ولا الكسوة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الطبري قال:
أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: أخبرنا أبو صفوان قال: حدثنا أبو بكر
بن عبيد قال: حدثني أبو محمد العتكي قال: حدثني الحسين بن سلام مولى آل
سليمان بن علي قال: لما احتضر محمد بن سليمان بن علي كان رأسه في حجر
أخيه جعفر بن سليمان، فقال جعفر: وانقطاع ظهراه، فقال محمد: وانقطاع
ظهر من يلقى الجبار غداً والله ليت أمك لم تلدني، ليتني كنت حمالاُ،
وإني لم أكن فيما كنت فيه، وولى الرشيد مكانه عمه سليمان بن أبي جعفر.
وحكى ابن جرير أن قوماً قالوا: كانت وفاة محمد بن سليمان والخيزران في
يوم واحد.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال:
أخبرنا محمد بن عبد الواحد قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم المازني قال:
أخبرنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا محمد بن يزيد قال:
بلغني ان جارية من جواري محمد بن سليمان وقفت على قبره فقالت:
أمسى التراب لمن هويت مبيتا ... ألق التراب فقل له حييتا
إنا نحبك يا تراب وما بنا ... غلا كرامة من عليه حثيتا
هيلانة جارية الرشيد. أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي
بن ثابت الخطيب قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا محمد بن
عمران المرزباني قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى المكي قال: حدثنا
محمد بن القاسم بن خلاد قال: حدثنا الأصمعي قال: كان الرشيد شديد الحب
لهيلانة، وكانت قبله ليحيى بن خالد بن برمك، فدخل يوماً إلى يحيى قبل
الخلافة فلقيته في ممر فأخذت بكمه فقالت: نحن لا يصيبنا منك يوم، فقال
لها فكيف السيل إلى ذلك، فقالت: تأخذني من هذا الشيخ، فقال ليحيى أحب
أن تهب لي فلانة فوهبها له حتى غلبت عليه، وكانت تكثر أن تقول هي إلا
أنه، فسماها هيلانة، فأقامت عنده ثلاث سنين ثم ماتت، فوجد عليها وجداً
شديداً وأنشد:
قد قلت لما ضمنك الثرى ... وجالت الحسرة في صدري
اذهب فلا والله لا سرني ... بعدك شيء آخر الدهر
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: أخبرنا
الأصبهاني قال: أخبرنا العسكري عن أبي بكر الصولي قال: أخبرنا الغلابي
قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن قال: لما توفيت هيلانة جارية الرشيد أمر
العباس بن الأحنف أن يرثيها فقال:
يا من تباشرت القبور بموتها ... قصد الزمان مساءتي فرماك
أبغي الأنس فلا ارى لي مؤنساً ... إلا التردد حيث كنت أراك
ملك بكاك وطال بعدك حزنه ... لو يستطيع بملكه لفداك
يحمي الفؤاد عن النساء حفيظة ... كيلا يحل حمى الفؤاد سواك
فأمر له بأربعين ألف درهم لكل بيت عشرة آلاف وقال: لو زدت لزدناك. |